محمد محسوب يكتب .. مجزرة رابعة: كيف تكسر وطناً؟!

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
محمد محسوب يكتب .. مجزرة رابعة: كيف تكسر وطناً؟!


(5 يونيو 2016)

ما نراه من كوارث ليس إلا توابع لمجزرة تُخفي وراءها كوارث أشد. مجزرة فريدة، سمحت لديكتاتور بوضع شعب كامل في دولاب التعذيب، ووطن كامل تحت مقصلة التنازلات، بينما لا تتجاوز ردود الفعل إلا آهات معذبين أو سخرية ممن يُعالجون الألم بالسخرية.

الشعب مجموعة بشر مترابطين بمشاعر شكّلتها جغرافيا، وصاغها تاريخ، وصقلتها تجارب حلوة ومرة، فإذا انهارت المشاعر نصبح أمام ركام من البشر أشبه بزحام "أوتوبيس العمرانية" لا يُعبر سوى عن فراغ محدود يشغله متشاكسون مضطرون أن يكونوا معاً لفترة ويتمنى كل منهم لو غادر أحدهم ليأخذ مكانه.

لكن مشاعر الشعب أصلب من أن يكسرها زحام "أوتوبيس" أو أزمات الحروب، أو الاقتصاد، فقط يمكن للخوف أن يجْفِلَها أو للدم أن يكسرها لو ارتبطا معاً: فالخوف يعيد تصنيف فئات الشعب بين موالين لمصدر الخوف ورافضين له، فإذا تبع ذلك إراقة دم الرافضين، فإن الخائفين ينقسمون من جديد لرافضين للدم بصوت خافت، أو مرحبين به، مفتتحين عصراً يختلف فيه معنى الشعب، يُمكن أن يُستغل لإعادة صياغة الجغرافيا، وتزييف التاريخ، وتشكيل البشر.

نحن أمام تجربة فريدة تحكي هذا المسار جرت في فترة وجيزة نَدُر أن تحدث في التاريخ، ولربما ساهم تطور وسائل الاتصال في إتاحة الصورة وبث الأحداث حيّةً للجميع بوقت قياسي. رتّب الجنرال للقيام بمجزرة منذ أول يوم لتنحي مبارك، وسعى مع أدواته وشركائه لتجهيز الأرض للوصول إليها، فالعباسية وأحداث محمد محمود ومجلس الوزراء وماسبيرو وبورسعيد لم تكن سوى مجازر متناثرة لجس النبض وتعويد الآذان والأعين على أن دماء المصريين ليست محرمة على المصريين، بل يمكن إهدارها.

لم يكن في مصر مؤسسة متماسكة يُمكن أن تُدبر أو تنفذ أو تكشف الفاعلين، إن أرادت أو تسترهم إن شاءت، إلا مؤسسة واحدة. كان يجري الإعداد للمجازر الكبرى على مهل لإغلاق -من وجهة نظر المدبرين- كتاب الثورة وإسقاط مطالب المحتجين وإسكات صوت الشعب الذي فاجأهم أنه يملك لساناً يهتف به وآمالاً يحلم بها وإرادة يفرضها على من يحكمه.

لم يكن اعتصام رابعة رفضاً لاحتجاج جزء من الشعب على رئيسهم، فهذا من جوهر الديمقراطية التي سعى لها كل مصري، وإن ظن بعض المعتصمين ذلك فهو شأنهم الذي لا يتجاوز مشاعرهم الشخصية، لكنه جاء رفضاً لعودة النظام القديم الذي بدت أصابعه خلف كل الأحداث، وتأكدت عودته بإعلان 3 يوليو /تموز 2013 بصوت جنرال وأدواته المنتشرة التي تُحاصر المؤسسات، وتُطارد أنصار الديمقراطية باعتبارهم إرهاباً مُحتملاً.

طرحت القوى التي رفضت الانقلاب باكراً في منتصف يوليو 2013 حلاً سياسياً يستند للتوافق على رئيس وزراء وفقاً لأحكام الدستور، تجري تحت إدارته انتخابات مُبكرة، وفي لقاء صحفي بعد مقابلة السيدة أشتون أعلنتُ بعض الخطوط الرئيسية للحل بصحبة الوزيرين محمد علي بشر وعمرو دراج، مع إدراكي أن زعيم الانقلاب لن يقبله؛ لأنه انقلب فقط ليحكم.

فهمت لاحقاً أن الأطراف السياسية التي اعتبرت الانقلاب -للوهلة الأولى- ثورة قبلت ما طرحناه، فجاء المؤتمر الصحفي للسيدة أشتون والدكتور البرادعي ليُعلنا البشرى بقرب انتهاء ما كان يعتقده كثيرون أنها "أزمة" يُمكن التغلب عليها بقدر من الحكمة.

تراجع الدكتور البرادعي عن إعلان البشرى مستجيباً -فيما يبدو- لطلب الجنرال تأجيلاً لإقناع الضباط الرافضين لأي تسوية كما زعم!! حجة استخدمها الجنرال حتى مع الرئيس مرسي ليبرر مواقفه المثيرة للجدل كدعوته القوى السياسية للحوار في محاولة منه لركوب احتجاجات الاتحادية في نهاية 2012.

المثير للعجب أن الطرفين كانا يصدقانه أو على الأقل كان يظنان أنه يُمكنهما الاستفادة منه! جرى إصدار أوامر ضبط وإحضار ضدي بسبب مساهمتي في صياغة رؤية الحل، اختفيت لأشهر لا أسمع خلالها بما يجري، بعد خروجي من مصر شاهدتُ على شاشات التلفزيون لأول مجزرة رابعة، مصريين يُقتلون بيد أشباه آدميين!

تمكن الجنرال أن يجرّ الجميع للمجزرة، فراوغ الرئيس مرسي وأبدى له دعماً مزيفاً، وتلاعب بالقوى السياسية المعارضة وأظهر لها وداً كاذباً، وأجّل الوصول لأي حل سياسي يؤدي لانسحابه من المشهد، حتى توافرت الظروف التي جهّز لها لمدة عامين ونصف للقيام بأقذر مجزرة في تاريخنا الحديث.

عالج الجنرال توابع المجزرة بمزيد من القسوة والمجازر، وظل يلعب على وتر محاربة الإخوان وخطورتهم على الدولة، ونغمة الوطنية وعودة الدور الرائد لمصر، ثمّ فجأة تحولت الدفة لتُصبح حرباً ضد كافة القوى الوطنية التي عارضته أو رافقته، وتراجعت الوطنية إلى مؤخرة الانقلاب لنكتشف على يديه تنازلات عن مقومات الدولة وتفريطاً بمسلمات الوطنية.

لم يعد يخفى استعجال الانقلاب في جني مزايا ما زرعته المجزرة من خوف وما بذرته من انقسام مجتمعي قبل استفاقة الشعب المكلوم، فجرى على عجل تكبيل مصر باتفاقات دولية لم نكن مضطرين إليها. فلم تكن ثمة ضرورة لاتفاقية سدّ النهضة، بل ولم يتصور الجانب الإثيوبي أن تقبل مصر بمثلها، وإنما اقترحها الجنرال وحضر بنفسه لإبرامها واحتفل بها باعتبارها نصراً تاريخياً لمصر، فإذا بها تتكشف عن نصر تاريخي، لكن لمن طالب على الدوام بانتقاص حقوق مصر في مياه النيل.

تنازل الجنرال بمهارة وبراعة يُحسد عليها أي مفاوض ضد المصالح المصرية عن كل أساس قانوني كان يضمن لمصر عدم قيام أي من دول المنبع ببناء سد يؤثر على جريان مياه النيل إليها. وبنفس المهارة أعلن عن ترسيم الحدود البحرية في المتوسط، وتبعها زخات من قصف الإعلام باكتشاف أكبر حقول الدنيا للبترول لتغطية تنازلٍ عن حقوقنا بالمنطقة الاقتصادية لصالح الثلاثي: إسرائيل وقبرص واليونان.

ثم جاءت الصاعقة باتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع الشقيقة السعودية، الذي لم يتضمن إلا تنازلاً عن "جزيرتي صنافير وتيران" مقابل الدعم، وترك لإعلامه وأدواته اصطناع خلاف لم يكن موجوداً حول تبعية الجزر، مطمئناً لخوف الشعب من الحديث عن المحاسبة وميله للانشغال بالبحث عن مستندات ملكية لم يختلف عليها اثنان منذ ألف عام.

جاءت المرحلة التالية من أسيوط، بدعوة إسرائيل والفلسطينيين لاستكمال عملية السلام مع التشديد على ضمانات أمن إسرائيل، وهو التعبير ربما الأكثر وضوحاً في كل الهلاوس التي قيلت. لا يمكن إلا لغبي لدرجة الهطل أو لذكي لدرجة العمالة أن يدعو للتفاوض في ظل الضعف العام للنظام العربي وكافة دول الجوار الفلسطيني، فمثل هذه المفاوضات لن تؤدي إلا لما يعكس توزان القوى الحالي، الذي يختل تماماً لصالح الدولة العبرية.

وصاحب كل ذلك سياسة اقتصادية إما خرقاء أو عامدة؛ لإغراق مصر في ديون أسطورية تنتهي بفرض قيود على استقلالها وقدراتها لسنوات طويلة قادمة. ما زلنا أمام توابع مجزرة رابعة، وربما نُفاجأ غداً بتنازل أشد إذلالاً أو اتفاقيات أكثر إجحافاً أو بما لا نتصوره ولا نتوقعه.

لكن ستبقى ردود الفعل لا تزيد على الشعور بالمفاجأة والخجل أو الانشغال بتبرير أفعال لا تُبرر، أو بالبحث في كتب التاريخ عن تفسير أو مستند. سنمتلك القدرة على حماية حقوقنا ومحاسبة من ينتهكها عندما نتخلص من توابع المجزرة، فنؤمن أن المساس بحياة أو حرية أي مصري جريمة ضد كل المصريين، وأن التنازل عن شبر من أرضها تنازل عن كل الوطن.

وقتها لن يجد ديكتاتور مساحة يتلاعب فيها بحقوقنا أو فرصة يُفاجئنا فيه بكارثة جديدة، بل سيبحث عن ملاذ من غضبة شعب لا يُفرط في أي من أبنائه أو أي من حقوقه.

المصدر