محمد محسوب يكتب: الخيار ترامب

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
محمد محسوب يكتب: الخيار ترامب


محمد محسوب.jpg

( 15 مارس 2017)


حُمى شخصنة السلطة وصعود الفوضويين والمتلاعبين على مشاعر خوف الشعوب من الإرهاب ومن الأزمات الاقتصادية تجتاح العالم.

ويظلم شعبنا من يلوم الملايين منه التي لم تنهض لمجابهة انقلاب عسكري وعدها باستقرار اقتصادي سريع، ورفاهية على الأبواب واستقرار أمني يهنأ به أهل الريف والحضر، ومحاربة إرهاب يقنص جنودنا بسيناء.

فملايين مضاعفة ذهبت لصناديق انتخابات واختارت بملء إرادتها شخصاً لا يختلف كثيراً عن شخوص حكامنا، لا في تلاعبهم على تلك المشاعر ولا في محدودية قدراتهم واندفاعهم للمغامرة بقضايا شعوبهم.

قبلت شعوبنا في لحظة ما خيار ترامب المنقلب انتظاراً للمعجزات التي وعدوا بها في انقلاباتهم، وقبل الشعب الأميركي - وقد تقبل شعوب أوروبية أخرى - خيار ترامب المنتخب أملاً في أن يحقق لهم مزيداً من الرفاهية، وقطعاً لدابر الإرهاب، ووقفاً لمنافسة المهاجرين لهم في الأشغال والمعونات الاجتماعية والخدمات الاقتصادية.

الشعوب تحتاج التجربة لإدراك تبعات اختياراتها، وهي تعدل من اختياراتها غالباً بمجرد أن تكتشف زيف الشعارات التي يرفعها مجنونو السلطة الجدد الذين تقف معارفهم عند حدود أن السلطة تملك آليات مطلقة قادرة على تحقيق أي شيء، وأن القوة هي التي تحسم خيارات المستقبل، وتميز بين الخبيث والجيد، وتفرض وجهة النظر الصحيحة، باعتبار أن من يملك القوة هو من يملك الحق.

تكتشف الشعوب سريعاً أن الحق لا يختلط على الدوام مع القوة أو وسائلها، وأن محاربة الإرهاب لا تكون بشن الحروب أو اصطناعها، وأن الازدهار الاقتصادي لا يأتي ثمرة الانغلاق وبناء الأسوار على الحدود، أو تركيز كامل الأنشطة الاقتصادية في مؤسسة، خصوصاً لو كانت مؤسسة عسكرية لا تعلم الفارق بين تعويم العملة وتدمير النظام النقدي.

وهنا يكمن الفارق بين ما يحدث هناك على الشاطئ الآخر للمتوسط أو عبر المحيط الأطلسي، وما يحدث هنا.

فعندما تكتشف الشعوب خيبة الأمل التي يحملها الفوضويون، فإنها تقوم بعملية تطهير واسعة في أول انتخابات، سواء تعلقت برأس السلطة أو بأجنحتها، وبالتالي فإن تغيير معادلة السلطة متوقع في أول انتخابات قادمة بالولايات المتحدة، وستكون عبر تغيير المعادلة داخل الكونغرس.

وإذا كان تدخل الشعوب في الدول الحرة يتأخر بسبب احترامها لمواعيد الاستحقاقات الانتخابية، فإنها تملك أدوات أخرى تحاصر بها جنون الفوضويين، عندما ينكشف عجزهم وخطرهم على المجتمع وعلى الدولة.

فاعتلاء مجنون كرسي السلطة في نظام ديمقراطي لا يتبعه استيلاء على مؤسسات الدولة وتحولها عن الولاء للشعب إلى الولاء لشخصه، بالطبع هو يرغب في ذلك، فترامب أميركا يسعى تماماً مثل ترامبات العالم الثالث إلى وضع يده على المؤسسات، لكنه في النهاية لن ينجح، بل استطاع قاضٍ مجهول في ولاية بعيدة أن يعطل أول قراراته الفوضوية التي مست إحدى القيم الديمقراطية التي تنبني عليها المجتمعات الحرة.

الخلاصة أن مؤسسات الدولة الديمقراطية تمثل ضمانات للحفاظ على قيمها، ومكابحاً لمحاصرة مغامرات ذوي الميول النرجسية والاستبدادية.

لا يجادل أحد بأن ذلك لم يوقف مثلاً حروباً اصطنعها بوش الابن في مطلع القرن؛ لأن تلك الحرب تمثل جزءاً من إعادة بناء الاستراتيجية الأميركية للمائة سنة القادمة، وهي لا تمس مقومات الديمقراطية ولا أساس الدولة الأميركية، وإن أضرت بشعوب أخرى، فالديمقراطية الغربية بطبيعتها أنانية، تضمن كل الحقوق لشعوبها لكنها تضنّ بها عندما يتعلق الأمر بشعوب أخرى، بل ربما فضلت أو بررت دعم الديكتاتوريات فيها لتسهيل الحصول على المنافع واستغلال مقدرات دولها.

في عالم آخر يعيش خارج كون الديمقراطيات ويحلق في أفق العصور الوسطى كما عرفتها أوروبا الغربية لا كما عاشه العالم العربي والإسلامي، يصل الترامبيون للحكم عبر انقلابات يستخدمون فيها الشعوب لمجرد بناء غطاء سياسي لعمل سفلي.

وعندما تصحو الشعوب على حقيقة الكارثة التي يقودها إليها الترامبيون لا تجد أدوات يُمكنها بها مواجهتهم غير الثورة، فكل ترامب في العالم الثالث مؤهل لابتلاع المؤسسات خلال عدة أشهر ليحولها إلى مؤسسات ترامبية، ولاؤها لشخصه لا للشعب ولا للوطن.

يمثل ضعف المؤسسات وهشاشة تركيبها وتراكم الفساد فيها أساساً يؤهلها لتفضيل الولاء للحاكم الترامب بديلاً عن الولاء للشعب، والسبب هو أن الديكتاتور يحتاج لهذه المؤسسات لتكون أذرعه وأصابعه التي يعيد بها تشكيل الوطن؛ ليصبح وطناً له وحده وينفي الشعب إلى مجاهل القهر والفقر والانزواء بعيداً عن البحث عن محاسبته أو الاحتجاج على عجزه أو الأمل في تغيير.

وفي المقابل، فإن تلك المؤسسات بعد أن ضربها الفساد وسمحت تركيبتها الهشة بأن تستقل عن الدولة وتصبح كياناً ذاتياً لا ينتمي إلا لنفسه، تحتاج إلى بناء علاقة مع حاكم ترامب توفر له احتياجاته من قمع الشعب، مقابل أن يوفر لها الغطاء في أن تبقى جزيرة منعزلة عن الشعب منفردة بميزاتها، لا تعاني ما يعانيه بقية أبناء نفس الوطن.

لم يكن مفاجئًا لي عندما كنت عميداً لكلية الحقوق أن أرى السعي الدؤوب لأساتذة كبار لإفساح الطريق أمام أبنائهم، وأن يفتشوا عن فرص زيادة الدخول الفردية. يُمكن الحديث عن عشرات الأسباب التي تُفسر ذلك من قلة دخول إلى بطالة ضاربة في نسيج الدولة، لكن ذلك لن يحوّل أبداً عملاً مخجلاً لعمل مشرف.

كذلك لم يكن مفاجئاً لي في الوزارة أن أعاين حقيقة تحول المؤسسات والمصالح لجزر عائلية وتحالفات قبلية، وأن الواجب الأول لمن يكون على رأسها أن يفتح الطريق أكثر أمام هذا "الزحف المقدس".

نعم.. زحف مقدس تحدث عنه رئيس لنادي القضاة دفاعاً عن توريث المهنة، هو نفسه الزحف الذي تمارسه المؤسسات والهيئات بعد أن تحولت لجزر نائية لا تعرف المجتمع ولا يعرفها.

في مثل هذه الظروف فإن الحاكم المنقلب مهما بلغ عجزه وفشله ومحدودية قدراته ومؤهلاته، يكون أفضل مليون مرة من حاكم منتخب يأتي بصوت الشعب ويذهب بصوته، مهما حمل من شهادات أو بلغ من مستوى فكري.

الأول سيكون أداة للمؤسسات وستكون هي أذرعه، والثاني سيكون موظفاً للشعب، وستصبح هي أدوات لنفس الشعب، والسيناريو الثاني يفرض استحقاقات وواجبات لا تستسيغها حكومات ومؤسسات العالم الثالث.

الحقيقة المرة، أنهم يعشقون أن يستمروا عالماً ثالثاً، ويكون أفضل لو نزل أكثر للمستوى العاشر؛ لأنهم ينعمون هم وترامبهم المنقلب بسلطات دون محاسبة وميزات دون قيود واستقرار لأوضاعهم مهما تقلب أمن البلاد.

أما في الدول الحية الديمقراطية، فإن البقاء في القمة يجعل الجميع يدافع عن الأسباب التي أوصلتها لها، الدفاع حتى عن حقوق الغرباء الذين يصلون لمدنهم وقراهم بطريق الهجرة غير المشروعة، تحمّل منافسة هؤلاء في الأعمال والخدمات أفضل ألف مرة من السماح لأي ترامب بأن يضع قيوداً على الغرباء، ربما سمحت له غداً بتمديدها لأهل البلاد.

فالقبول بإجراءات ترامبية بحق المهاجرين لأسباب أنانية، سيجعل القيم الترامبية تحل محل الديمقراطية، وهو ما لا تسمح به شعوب الدول الديمقراطية ولا مؤسساتها، لا حباً في الغرباء وإنما دفاعاً عن قيم أسست لديمقراطيتهم ورفاهم.

ولأننا لا نملك المؤسسات التي تكبح جماح الإجراءات والنزقات الترامبية، فإن قوى الشعب - سياسية ومدنية ونقابية - تتحمل واجب كشفه وتوعية الشعب بالكوارث التي يحملها بين ثنايا شعاراته الشعبوية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، بالإضافة لواجبها - إن أرادت النجاح - في أن تبني صفاً واسعاً يؤمن بأهمية قيم الحرية والديمقراطية وقبول الآخر لتحقيق التحول الحضاري الذي نحلم به والازدهار الاقتصادي الذي نملك مفاتيحه لكنها مختطفة من ترامب وجنوده.

المصدر