محمد عبد الرحمن خليفة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الداعية المجاهد والقائد الجريء المحامي محمد عبدالرحمن خليفة (1338 -1427هـ / 1919 - 2006م)


بقلم/ المستشار عبدالله العقيل

المولد والنشأة

ولد محمد عبدالرحمن خليفة في مدينة «السلط» عام 1919م، وهو ينتمي إلى عشيرة النسور، تلقَّى تعليمه في كُتَّاب الشيخ «عفيف زيد»، ودرس في مدرسة «السلط» الثانوية.

وبعد أن أنهى الصف العاشر، أُرسل في بعثة إلى كلية «خضوري» في «طولكرم»، لدراسة الزراعة، وحصل على دبلوم زراعة منها، وانتسب بعدها إلى معهد المعلمين في القدس، ليحصل على دبلوم تربية، ليعمل مدرسًا ومديرًا في العديد من مدارس المملكة الأردنية، ولكنه عاد إلى القدس لدراسة الحقوق، ليلتحق بعدها بالسلك القضائي عام 1946م، ليعمل قاضيًا ومدعيًا عامًا.

معرفتي به

الشيخ محمد عبدالرحمن خليفة

عرفت الأستاذ محمد عبدالرحمن خليفة بعد توليه منصب المراقب العام للإخوان المسلمين في الأردن بسنوات قليلة، حيث التقيت به في الأردن، واستضافني في منزله أكثر من مرة وبدار الإخوان المسلمين ب«عمان»، حيث اللقاء به وبإخوانه.

كما التقيت به في «القدس» بمقر المؤتمر الإسلامي، وفي مدينة الخليل بدار الإخوان، وبضيافة عائلة «عيسى عبد رب النبي»، ثم تكررت لقاءاتنا في «الكويت»، و«السعودية»، و«سورية»، و«الباكستان»، و«تركيا»، و«أوروبا» وغيرها، من خلال المؤتمرات الإسلامية واللقاءات الإخوانية وغيرها.

وكان غيورًا على الإسلام ودعوته، محبًا لجماعة الإخوان وقيادتها، ملتزمًا ببرامجها ومناهجها، باذلاً كل الجهد لنصرة الدعوة وإعلاء كلمة الإسلام، والوقوف إلى جانب المسلمين في كل مكان، والتصدي لطواغيت العصر من المفسدين والظالمين، تعيش القضية الفلسطينية في كل جوانب نفسه وهي همّه بالليل والنهار، لا يكل ولا يمل من العمل الدؤوب للتصدي لأعداء الإسلام من اليهود وأعوانهم في الداخل والخارج على حد سواء، وكان صاحب المواقف الجريئة، والآراء الصريحة، والالتزام العقدي الذي لا يعرف المهادنة، ولا يرضى بالدنية، ولا يتراجع أمام كيد الطغاة ولا ألاعيب السياسة، ومداهنة المنافقين.

وكان في المقدمة من رجال الحركة الإسلامية المعاصرة الذين يتصدون لمؤامرات الخصوم من المستعمرين وعملائهم، ويكشف عوارهم، ويفضح مؤامراتهم ومخططاتهم، ويبطل مكائدهم كما كان له دور كبير مع الأخ كامل الشريف، في احتضان الدعاة المهاجرين بدينهم من كيد الظالمين، وبذل كل الجهود لاستقرارهم، وتهيئة ظروف العمل المناسب لهم، والعيش الكريم لهم ولأسرهم، وهذا ما يشهد به القريب والبعيد، ويسجل بمداد من نور لهذين الرجلين الكريمين.

أما جهده وجهاده فكان في رفد العمل الجهادي ضد الصهاينة، وتهيئة كل الأسباب لإقامة معسكر الشيوخ في الأردن سنة 1968م، الذي ضم خيرة شباب الحركة الإسلامية من مصر، والسودان، والأردن، وفلسطين، وسوريا، واليمن، وغيرها، حيث قدموا النماذج الصادقة من المجاهدين الذين رووا بدمائهم الزكية ثرى الأردن وفلسطين، وكان منهم الشهداء الأبرار.

سيرته العملية

عمل محمد عبدالرحمن خليفة في المحاماة لمدة سنتين، ثم اختاره المجلس القضائي في عمان قاضيًا، شغل وظائف عدة، منها أنه عمل مدعيًا عامًا وقاضيًا، كما عمل في المحاماة منذ استقالته من القضاء عام 1953م، ثم عضوًا في مجلس النواب الأردني في الفترة من عام 1956 إلى 1961م، وأخيرًا عمل رئيسًا لجمعية المركز الإسلامي الخيرية منذ عام 1963 حتى 2000م.

ومن القدس التي كانت لها مكانة خاصة في نفسه يبدأ العمل السياسي الإسلامي هناك، فعندما وصلت إليه أخبار حركة الإخوان المسلمين في مصر وفكرها ومسارها، بدأ مراسلاته مع مؤسس الجماعة الإمام حسن البنا، كما أنه حرص على لقاء الحاج «محمد أمين الحسيني»، لكي يؤكد له وقوف الناس معه، من أجل الدفاع عن «فلسطين» و«القدس»، وكان يترأس تحرير صحيفة «الكفاح الإسلامي»، منذ صدور عددها الأول في التاسع من أغسطس 1954م، وذلك قبل أن يتولى رئاسة تحريرها الأستاذ يوسف العظم.

قيادة الجماعة

في عام 1953م، تم انتخاب خليفة مراقبًا عامًا للجماعة، بناءً على طلب مجلس الشورى في جماعة الإخوان المسلمين، لتبدأ الحركة الإسلامية مرحلة جديدة، سواء على صعيد بناء المؤسسات، أو الانتشار الحركي والجماهيري.

حيث تعرف فضيلته على دعوة الإخوان المسلمين مبكرًا عندما كان تلميذًا في «كلية خضوري» بفلسطين، ومن الذين كانوا يزورون الأردن من الإخوان المصريين وغيرهم، ومن النشرات الإسلامية التي كانت تصل إلى فلسطين، حيث عرفت دعوة الإخوان هناك قبل غيرها من بلاد الشام، ويقول فضيلة الأستاذ: «وللعلاقة الطيبة والأخوة المتينة التي كانت تجمعنا بالحاج «عبداللطيف أبي قورة»، والتي كان لها أثرها الكبير في إقبال عدد كبير من الشباب المسلم المثقف على دعوة الإخوان، فقد كان - رحمه الله - يدعوني وبعض الإخوة لاستقبال الدعاة والعلماء الذين كان يرسلهم الإمام الشهيد حسن البنا - رحمه الله - إلى الأردن، لنشر الدعوة وأفكارها، وشرح خصائصها وسماتها.

ومن أبرز هؤلاء الدعاة الأستاذ سعيد رمضان، والشيخ عبد المعز عبد الستار، والأستاذ عبد الحكيم عابدين، وكان لمحاضراتهم القيمة في المساجد وفي شعب الإخوان أثرها البالغ في إقبال الكثيرين من أبناء الأردن - خاصة المتعلمين والموظفين - على هذه الدعوة المباركة، فكنت أحد هؤلاء الذين ملأت الدعوة عقولهم وقلوبهم ووجدانهم».

مرحلة السجن والنفي

يروي الكثير من قيادات الحركة الإسلامية أن المراقب العام نُفِيَ إلى دمشق في عام 1955م بقرار من «كلوب باشا»، وأنه مُنع من دخول الأردن ما يقارب ستة أشهر، ولكنه عاد إلى الأردن ليكمل معارضته لأي وجود بريطاني في الأردن أو في المنطقة، كما أنه سُجن أكثر من مرة في الخمسينيات وبداية الستينيات، وكان قرار سجنه يأتي من رؤساء الحكومات، ولكن ما يلبث أن يتم الإفراج عنه، حتى قال له أحد رؤساء الوزارات الذي سجنه في الجفر وبعض إخوانه: «والله، لن تخرج وأنا حي».

فقال له: الحياة بيد الله، وكان يحرص على أن يوصي قيادة الإخوان عندما يُسجن بألا تتغير سياسة الإخوان، ويذكرهم بأنهم ضد الصدام مع السلطة، ويرفض أي صدام، كما أن له مواقفه المميزة تحت قبة البرلمان، حيث أصبح نائبًا للأمة بعد فوزه في انتخابات 1956م.

نشاطاته وأعماله

عكف «خليفة» منذ تسلمه الموقع الأول على إنشاء مؤسسات خيرية تسهم في إعانة الناس، وتقديم الخير لهم عبر مساعدة الفقراء والمحتاجين، وكفالة الأيتام، وعلاج الفقراء، والاهتمام بالأرامل والعجزة.

واستمرارًا في العمل الخيري، شارك فضيلته عددًا من الإخوان وغيرهم في تأسيس جمعية المركز الإسلامي الخيرية، واختير رئيسًا لها للفترة من عام 1963 إلى عام 2000م، حيث تقدم الجمعية خدماتها الإغاثية والخيرية في المجالات التعليمية، والتثقيفية، والصحية، والاجتماعية، ورعاية الأسر الفقيرة وكفالة الأيتام، وقد انتشرت فروعها لتقدم الخدمات ذاتها في جميع محافظات المملكة الأردنية وقراها ومضارب البدو.

وفي سنة 1968م بعد نكبة يونيو بعام، شكّل أستاذنا لجنة «إنقاذ القدس» بمناسبة مرور سنة على الاحتلال اليهودي للمدينة المقدسة، وحيث إنه كان محبًا للجهاد ويحرص عليه، فقد شارك الإخوان في هذا العام في العمل الفدائي تحت مظلة «فتح»، ولكن في قواعد خاصة سميت «قواعد الشيوخ»، واستشهد ثلاثة عشر مجاهدًا منهم من جنسيات مختلفة من أنحاء العالم العربي.

لقد أصبح للجماعة في عهده الزاهر دور مهم في الحركة الإسلامية العالمية، وذلك عندما عزز دورها كجماعة منظمة ذات مؤسسية وأهداف ورؤية واضحة، وحركة تشكل دورًا مهمًا ورئيسًا في الواقع السياسي والاجتماعي والفكري والتربوي والاقتصادي.

وقد استقبلت الدعوة في عهده أعظم رموز الحركة الإسلامية في العصر الحديث، أمثال: أمجد الزهاوي، وأبي الأعلى المودودي، ونواب صفوي، وسيد قطب، وحسن الهضيبي، ومحيي الدين القليبي، وعلال الفاسي، ومحمد محمود الصواف، وكامل الشريف، وغيرهم، وبخاصة في «مؤتمر بيت المقدس» الذي أنشأته الجماعة عام 1953م، مع حركات إسلامية أخرى ليكون منطلقًا لتحرير فلسطين من اليهود الغاصبين.

وشارك في تشكيل وفد الحركات وقيادته عام 1990م على إثر دخول العراق الكويت، والحشد الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، لحرب الخليج الثانية، حيث زار الوفد كلاً من السعودية، وإيران، والعراق، وغيرها من البلدان العربية والإسلامية، لتفادي وقوع الحرب وحل الأزمة سلميًا.

ومن أعماله المشكورة والشاهدة على صدقه وأمانته في حمل هذه الدعوة أنه أرسل برسائل إلى أولي الأمر وحكام الدول العربية والإسلامية سنة 1993م، يدعوهم إلى نبذ الفرقة، وإزالة الخلافات من بينهم، واستنهاض الهمم لاستعادة الأقصى والمقدسات الإسلامية، ورفع الظلم عن الفلسطينيين القابعين تحت نيران الاحتلال اليهودي الغاشم، الذي فاق النازية في همجيته وعدوانه وإفساده.

كما جاب كثيرًا من بلدان العالم وهو ينافح ويدافع عن قضايا المسلمين، وتحمل مشاق الأسفار وسهر الليالي الطوال مع إخوانه يذودون عن مصالح الأمة وكرامتها، ولم يترك جبهة من الجبهات إلا وتقدم الصفوف لإعلاء شأن الدعوة الإسلامية.

قاد الأخ «أبو ماجد» الدعوة في ظروف بالغة الدقة، واجتاز بها مراحل عصيبة أثبتت عمق إيمانه، وأصالة تجربته، وبُعد بصيرته وقوة عزيمته، مما أسهم في تجنيب البلد (الأردن) الفتن التي كادت تعصف بها.

أول أعماله

كانت جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، تعمل بموجب قانون الجمعيات والأندية، ولذلك فإن جهد الأستاذ خليفة بعد أن أصبح المراقب العام للجماعة، انصبّ على وضع قانون أساس لجماعة الإخوان المسلمين، ليتمكن بعدها من أخذ موافقة رئيس الوزراء على اعتبار الجماعة هيئة إسلامية عامة شاملة، وفي ذلك يقول الأستاذ محمد خليفة:

«أول عمل فكرت في إخراجه هو إصدار قانون أساس لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن، وقد صدر أول قانون سنة 1953م، استعنتُ على إصداره بالقانون الأساس للجماعة الأم في مصر، لأنه يجب أن يكون منبع الدعوة لما وضعه مؤسسها الأول الأستاذ الإمام حسن البنا، ولذلك فقد أنشأنا الهيئة العامة لكل شعبة، وتم تنظيم جميع الإخوان المسلمين العاملين في تلك الشعبة.

والهيئة العامة تنتخب أعضاء مجلس أعضاء مجلس الشورى حسب القانون الأساس الذي يحدد عددهم، ومجلس الشورى هو القيادة العليا، ومن وظائفه انتخاب المراقب العام، وانتخاب المكتب العام «المكتب التنفيذي»، وقد وضعت ومعي لجنة هذا القانون مع النظام الداخلي، وجمعنا مجلس الشورى الذي دام اجتماعه يومين، قرأنا فيه القانون الأساس والنظام الداخلي، وقد تمت الموافقة عليهما من قبل مجلس الشورى بالإجماع، وقد تمت هذه الإجراءات بعد أخذ موافقة مجلس الوزراء، على اعتبار أن الإخوان المسلمين هيئة إسلامية عامة شاملة، وليست حزبًا سياسيًا.

وكنا نؤمن أن الدولة جزء من الإسلام، وليست جمعية خيرية، رغم أن عمل الخير من صميم دعوتنا، ولسنا ناديًا رياضيًا، وإن كنا نرى أن التربية الجسمية تسير جنبًا إلى جنب مع التربية الروحية والثقافة الفكرية، وبذلك خرجنا من أسر قانون الجمعيات والأندية، وقد سبق ذلك أن اجتمعت مع رئيس الوزراء في ذلك الحين، السيد توفيق أبو الهدى، وعرضت الأمر عليه بعد تمهيد سابق بالاتفاق مع أحد الوزراء، الذي كان أخًا لامعًا في دعوة الإخوان المسلمين، وهو الأستاذ أحمد الطراونة «أبو هشام»، وكان وزيرًا للزراعة في وزارة توفيق باشا «أبو الهدى».

وسبب حرصي على إخراج الجماعة من قانون الجمعيات والأندية، هو أن الدولة كانت ترسل - بحكم القانون، وبعد السماح من الحاكم الإداري وقائد الشرطة - مندوبًا للأمن ومندوبًا للإدارة، ولا يُعقد اجتماع عام مع الناس لمحاضرة أو غيرها إلا بموافقة الحاكم الإداري وقيادة الشرطة.

وهذا لا يتماشى مع طبيعة نشر الدعوة والتربية الإسلامية الصحيحة، فكان صدور قرار رئيس الوزراء بناءً على الإرادة السنية بالسماح للجماعة بنشر دعوتها في المساجد وفي الأماكن العامة، وفي دور الجماعة، وبفتح فروع لها في أنحاء الأردن كافة، وأن تُدار هذه الفروع من قبل هيئات عامة بحرية تامة ومن دون تدخل من السلطات الأمنية، إلا في حالة وقوع ما يسبب مخالفة للقانون».

خليفة وقضية فلسطين

الشيخ محمد عبدالرحمن خليفة

بعد أن تمكن الأستاذ محمد عبد الرحمن خليفة من إصدار القانون الأساس لجماعة الإخوان، ونظامها الداخلي، وإقناع الحكومة بالسماح للجماعة بممارسة نشاطاتها، على اعتبار أنها هيئة إسلامية عامة شاملة لا جمعية خيرية، ركّز عمله على نشر الدعوة في الأردن من أجل تحقيق غايتين:

أولاهما: التربية للمستقبل.

وثانيتهما: الاهتمام بقضايا الأمة المصيرية كقضية فلسطين.

وفي هذا يقول فضيلته: «ركزت على القضية الفلسطينية كقضية سياسية عاجلة، تنذر بأسوأ العواقب على الأمة الإسلامية كاملة، إذا لم تسد هذه الثغرة، لكن مع الأسف ما كان يصل إلى الحكم إلا من استرضى دائرة الاعتماد «المعتمد البريطاني»، وهؤلاء الذين يسترضون المعتمد البريطاني وعملاءه يجب ألا يعملوا أي عمل يغضب الإنجليز، وأهم شيء أنهم كانوا يرضون هؤلاء الإنجليز من خلال حصر الإسلام في الصلاة والصوم والحج، وغير ذلك من الأمور التعبدية، وهذا المعنى شب وأثّر في نفسي منذ صغري عندما كنت في الصف الرابع الابتدائي، فقد دخل علينا الأستاذ «عبد الرازق أدهم» - وهو خريج مدرسة الزراعة في «سلمية» بسوريا - وأخذ يتكلم معنا بلهجة أبوية متعاطفة، في ثلاثين دقيقة، وقال: فإذا وعيتم هذا الدرس فسأخصص لكم ما تبقى من الحصة لشيء يهمكم جدًا، وليس له علاقة بالزراعة، تشوقنا جدًا لما سيقوله لنا، فكنا آذانًا صاغية وامتحننا في دقائق، ثم قال بصوت منخفض: إني أريد أن أشرح لكم أهمية الإسلام كدين للدنيا والآخرة؛ لأن الإسلام هو الحياة، ثم قال: إن الدين عند الله الإسلام، ولا يقبل من أي إنسان إلا الإسلام، لذلك أطلب منكم أن تغلقوا الشبابيك، حتى لا يسمعنا من يتجسس على درسي، فإنهم إن عرفوا أني أشرح لكم عن الإسلام وأهميته في الحياة، فسوف يكون عقابي الفصل من عملي، قفزنا بسرعة إلى الشبابيك لنغلقها، ومن ثمَّ جلسنا وكلنا آذان صاغية نتلقف من فمه كل كلمة يقولها، فكان الأستاذ عبد الرازق أدهم أول معلم في حياتي زرع حب الإسلام بصورته النقية الواضحة في قلبي.

وتعلمت في حياتي الدعوية أن الجلوس مع عدد من التلاميذ، وإن كانوا قلة، فيه نفع وبركة، وخير للدعوة وللإسلام من إلقاء المحاضرات في حشود كبيرة من الناس، ولاحظت أن معلم الدين محارب في رزقه، فكان المختص في الشريعة يأخذ اختصاصه من الأزهر، بعد اثنتي عشرة سنة من الدراسة، بينما المختص في العلوم الأخرى لا تزيد دراسته في أغلب الأحيان على أربع سنوات، سواء في الجامعة الأمريكية في بيروت أو غيرها، فيعين معلم الدين في الدرجة العاشرة، ويبقى فيها حتى يحال على المعاش، بينما خريج الأمريكية، أو اليسوعية، أو غيرهما من أصحاب الاختصاص في الزراعة، أو العلوم، أو الرياضيات، أو الاجتماعيات... إلخ، يترقى في السلم الوظيفي حتى يصل إلى مدير مدرسة، أو مفتش، أو مدير دائرة.

كان مجال الدعوة الخطب والدروس في المساجد، وإلقاء المحاضرات القصيرة التي كنا نقيمها للطلاب في دور الإخوان، وننتخب المحاضر الشاب الذي يحسن مخاطبة أبناء جيله، فنحبب إليهم الإسلام حتى نجعله هدفًا يجب أن يعمل من أجل تحقيقه كضرورة لنجاته في الدنيا والآخرة، ولتخليص بلاده من الأحكام الفاسدة، التي تمهد لوقوعها فريسة سهلة للاستعمار بكل أشكاله، فكنا نحرص على كشف عيوب الحضارة الغربية الغازية لبلادنا عن طريق الجيل الجديد بلباسه، وعاداته، وتقاليده، وتفكيره، وآماله، فكانت الألبسة الأجنبية تفرضها المدرسة على طلابنا وطالباتنا، دون مراعاة لديننا وتقاليدنا الإسلامية، فصارت هذه الألبسة - وهي المظهر الدال على الجوهر - علامة الشاب المتعلم المتحضر المتقدم المقلد للغربي كما يظن نفسه، بينما بقية الألبسة التي تستخدمها الأمة من آباء وأمهات، التي عرفت لباسًا عربيًا إسلاميًا، هجرت على اعتبار أنها مؤشر على التخلف لارتباطها بالماضي، وهذا ما زرعه المستعمر في أذهان هؤلاء الشبيبة.

ضربت مثالاً على خطر غزو الحضارة الغربية لعقول شبابنا، بما تقذفه مصانعه من جميع أنواع «الموضة»، التي كان يتلقفها منها لا لشيء إلا لأنها جاءت من هناك، من لندن، أو باريس، أو واشنطن، لأقول: إن الذي كان «يقلد الغربي بلباسه، يقلده أيضًا في سلوكه وتصرفاته وعاداته وتقاليده، لذلك فإن جهود الإخوان المسلمين انصبت على إنقاذ هؤلاء الشباب بداية، ليتم بهم إنقاذ الأمة، فبهم تنتصر الشعوب والأمم».

خليفة ومغريات الحياة

يقول: «وأذكر أن محكمة عمَّان كانت في «سوق السكر»، بجانب الجامع الحسيني، فكنت كلما سمعت الأذان أذهب للصلاة، فكان وجود قاض بين المصلين - الذين أغلبهم من كبار السن - أمرًا مستغربًا ومستهجنًا، فكان الكل يرقبني بعينيه، وكأنه غير مصدق أن قاضيًا يأتي للصلاة، ومن هنا ندرك أن دور الإخوان كان كبيرًا وكبيرًا جدًا في هذه النقلة النوعية، حتى أصبحت مساجدنا - على كثرتها - لا تسع المصلين، وأي مصلين؛ الشباب المتحمس الغيور على دينه.

أذكر أن بعض أقاربي وبعض المحبين، من وجهاء «السلطة» جاءوا إلى والدي، عندما استقلت من القضاء لأتفرغ للدعوة، وقالوا له: يا أبا خليفة، كيف تسمح لابنك محمد بك أن يترك عمله كحاكم صالح له مستقبل كبير، من أجل خاطر بعض الأولاد يعلمهم الدين؟ وكأنه لم يبق في البلد مشايخ يعلمون الناس الصلاة والصوم، ولذلك فإننا ننصحك أن تحجب له عند الفتاحين.

إن هؤلاء «الأولاد» الذين عاتبوا والدي فيهم، هم الآن الدكتور عبد اللطيف عربيات، والدكتور إسحاق الفرحان، والدكتور فاروق بدران، وغيرهم كثير من دعاة الإسلام في هذا البلد المرابط، ومن ذوي الأماكن الحساسة التي تمكنهم من إتمام الدور وتبليغ الدعوة، ولم تكن تلك المعاتبات إلا عقبة بسيطة تجاوزناها أمام عقبات أقوى وأصلب من السخريات والإشاعات والاتهامات.

وأذكر أن الأستاذ «أنور الجندي» أخبرني يومًا أن بعض المغتابين جلسوا إليه، والدنيا لا تسعهم من الفرح، لأنهم أمسكوا بدليل قوي جدًا ضدي، فقالوا له: ألم يصلك يا أستاذ أنور، خبر بنات الشيخ محمد عبد الرحمن خليفة؟ قال: وما خبرهن؟

قالوا: إن هذا الذي يدعو إلى تطبيق الإسلام غير قادر على منع بناته من الخروج سافرات كاسيات عاريات، فقال لهم: اتقوا الله أيها الناس، إن أكبر بنات الأستاذ محمد تسمى «أميمة»، وهي طالبة عندي في الكلية «الكلية العلمية الإسلامية»، والأخرى في الصف الأول الابتدائي، وأخوها «ماجد» في الصف الثاني الابتدائي».

خليفة والقدس

كان للقدس مكانة كبيرة في نفس الأستاذ محمد عبد الرحمن خليفة، فقد درس وعاش فيها، ودائمًا كان يزورها قبل سقوطها، ويقول الدكتور ماجد خليفة «ابنه البكر»: إن أكثر شيء أحزن والدي في حياته هو سقوط القدس.

ويروى أن بابا الفاتيكان يوحنا السادس في عام 1964م عندما زار الأردن وفلسطين، كان يريد الطلب من الحكومة الأردنية السماح له بإقامة مقر له في قطعة أرض محددة في «أبو ديس»، فعلم أبو ماجد بالطلب، فقام بجمع العديد من الرجال من «عمان» والسلط، والكرك، وحملوا عبر سيارات النقل في ذلك الوقت أسمنتًا وحديدًا وأدوات البناء، وذهبوا إلى منزل كامل عريقات في القدس، وأخبروه بأنهم يريدون أن يبنوا مسجدًا في تلك القطعة، ليرفعوا الحرج عن القيادة السياسية، وفعلاً قاموا ببناء المسجد بسرعة، ولم يتركوا موقع البناء حتى فرغوا من بناء المسجد، وصلى الجميع صلاة الجمعة فيه قبل أن يعودوا إلى بيوتهم.

اشترك الأستاذ خليفة في بعض العمليات الفدائية الجهادية، مع بعض إخوانه من أبناء الجماعة، الذين كانوا يتخذون من القدس مقرًا لهم، وتعرض عدة مرات للاعتقال، وأودع السجن بسبب مواقفه، ومواقف الجماعة التي يرأسها.

روايات كثيرة عن «القدس» نسمعها من إخوان خليفة، ليس أولها المؤتمر الإسلامي في القدس، الذي كانت تعقده جماعة الإخوان سنويًا في الخمسينيات، ويحضره علماء الأمة الإسلامية ومفكروها من كافة أنحاء العالم، وليس آخر ما ذكر أنه كان يجمع المتطوعين من أجل الدفاع عن القدس عندما اندلعت الحرب.

وللأستاذ «خليفة» مواقفه المميزة تحت قبة البرلمان، فقد كان نائبًا للأمة فيه، بعد فوزه في انتخابات عام 1956م في الدائرة التي نافسه فيها «سليمان النابلسي»، الذي سقط أمامه في تلك الانتخابات، مع أنه كان يتمتع بمساندة كل القوى غير الإسلامية في تلك الدائرة، وفي عام 1968م، شكل الأستاذ خليفة «لجنة إنقاذ القدس»، بمناسبة مرور سنة على احتلال القدس.

قالوا عنه

وصفه الأستاذ حسين حجازي في كتابه «جماعة افتدت أمة» بقوله: «كان فضيلته شعلة من النشاط، وحركة لا تمل، كما أنه كان ساخطًا على الأوضاع العربية المتردية، ولم يكن يخفي ما يخالجه من شعور وإحساس، رغم مركزه الحساس الذي كان يشغله في الحكومة الأردنية».

ويصفه الدكتور إسحاق الفرحان الذي عرفه لأكثر من خمسين عامًا «بأنه شخصية متكاملة من حيث تكوينه»، دراسته للزراعة في البداية، ثم القانون كوَّنت لديه الصبر واحترام القانون، فكان فكره معتدلاً ووسطيًا.

ويخبرنا الدكتور الفرحان بأنه كان يشاور إخوانه، وكان يؤمن بالعمل المؤسسي، ولا يقبل أن يفرض إنسان رأيه على الجماعة.

ويروي الدكتور عبد اللطيف عربيات أنه عندما تم انتخابه مراقبًا عامًا في عام 1953م قدم خليفة استقالته من موقعه في القضاء، فاستغرب الكثير من الناس استقالته، بل إن البعض قال له: لماذا تستقيل ومن معك من رجالات الأردن حتى تضحي؟

ويقول عربيات: إن خليفة جاء لموقع المراقب العام الذي كان ذا شخصية قوية، وعزيمة قوية، ومحبًا للناس، ولديه حماس في جو سياسي مسيطر عليه الوهج والصراع الحزبي، ولم تكن جماعة الإخوان معروفة لدى كل الناس، ويشير عربيات إلى أن طموح المرحوم كان أكبر من الواقع المعيش في تلك الفترة، والحماس لديه كبير من أجل النهوض بالدعوة.

ويقول حمزة منصور: إن قضيتين كانتا تشغلان «أبو ماجد»، الأولى: الإسلام بمفهومه الشامل، والثانية: فلسطين وكيفية تعزيز صمود الشعب الفلسطيني.

وشهد له خصومه وأصدقاؤه في حياته وبعد مماته رحمه الله، استمعت إلى أحدهم قبل عدة سنوات في ندوة عامة مفتوحة من غير الإسلاميين يقول أمام الملأ: «حفظ الأردن - بعد الله - في مسيرته التاريخية في العصر الحديث رجلان، أولهما: جلالة الملك حسين بن طلال، ثم صمت وانتظر السامعون ليعرفوا من الرجل الثاني، فقطع صمتنا بقوله: والثاني هو محمد عبد الرحمن خليفة».

وفاته

ترك الأستاذ محمد عبد الرحمن خليفة موقع المسؤولية في الإخوان في عام 1994م، وبسبب المرض قرر «المراقب العام التاريخي» ترك الموقع الأول لغيره، فكان اجتماع مجلس الشورى للجماعة صاحب الولاية في اختيار المراقب العام، أعلن أبو ماجد أنه يرغب بإخلاء الموقع الأول بسبب المرض، ونتيجة لإصراره على ترك الموقع انتخب المجلس مراقبًا عامًا، فكان خليفة أول المبايعين له، فقام المراقب العام الجديد بتقبيله في جو من الحزن والبكاء، فبكى الحضور من شدة التأثر بالموقف.

ومع تركه للموقع الأول بقيت قيادات الإخوان في زيارته، والاستماع إلى مشورته ورأيه في قضايا مختلفة.

توفي رحمه الله تعالى يوم الخميس 2 من ذي القعدة 1427هـ - الموافق 200623/11/م، ودُفن في مدينة «السلط» مسقط رأسه، حيث شهدت جنازته المهيبة حشدًا من القيادات الرسمية، وقيادات الحركة الإسلامية، والشخصيات الوطنية، وحضورًا شعبيًا من مختلف مناطق الأردن.

إن الدارس لتاريخ العمل الإسلامي في الأردن سيرى وبوضوح تام بصمات الأستاذ خليفة ظاهرة على مسيرة جماعة الإخوان المسلمين، فقد قادها وعبر عدة عقود في أحلك الظروف وأصعبها، واجتاز معها أشد العقبات، إلى أن أصبحت الجماعة حركة يحسب حسابها ويطلب ودها.

رحم الله هذا المجاهد الكبير رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وحشرنا الله وإيّاه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

المراجع