محمد الخضر حسين

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٢:٠٧، ١٠ أكتوبر ٢٠١٢ بواسطة Attea mostafa (نقاش | مساهمات) (←‏الخضر حسين .. منافح عن الإسلام والعروبة)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
العلامة الشيخ محمد الخضر حسين .. المصلح الثائر ، المصحح الموسوعي


موقع ويكيبيديا الإخوان المسلمين (إخوان ويكي)

إعداد: محمد الصياد

المولد والنشأة

العلامة محمد الخضر حسين واحدٌ من العلماء القلائل الذين جمعوا بين الأصالة والمعاصرة ..

تمرد علي الكلاسيكية الأزهرية ، والعقم المنهجي الفاضح في جنبات الأزهر الشريف ..

فالشيخ الخضر حسين رحمه الله من المصلحين الكبار الثائرين المتمردين علي الأوضاع القائمة في البيئة الدينية والسياسية في عهده ..

الشيخ الخضر حسن مكنه ليتبوأ مكانة الإصلاح قوته العلمية وموسوعيته الثقافية ، فيحلو لكثير من النقاد أن يصنفوا المؤلفين طبقتين : طبقة العلماء وهم أرباب البحوث العلمية في الفقه والتشريع والعلوم اللسانية من نحو وبلاغة وتصريف .

وطبقة الأدباء ، وهم أصحاب الآثار الفنية من نثر بارع الصوغ ، صادق العاطفة ، وشعر رائع المعنى دقيق التصوير . فإذا نظم العالم شعرا أو ألف الأديب مصنفا علميا فقد سلك مسلك التكلف والافتعال .

وربما دعم هذا التقسيم لديهم ما يشاهدونه كثيرا من ركاكة أشعار العلماء وضحالة إنتاج الأدباء !.

يقول ابن بسام: إن شعر العلماء ليس فيه بارقةٌ تسام ، وجعل الشهاب أن أحسن بعض أشعارهم من قبيل دعوة البخيل وحملة الجبان .

وقال الأمين في نفحته: وعلة ذلك أنهم يشغلون أفكارهم بمعنى يعني . والشعر وإن سموه ترويح الخاطر ، لكنه مما لا يثمر فائدة ولا يغني .

وشتان بين من تعاطاه في الشهر مرة ، وبين من أنفق في تعاطيه عمره ؛ اه . .."انظر : سلك الدرر للمرادي 1/298"

وهذا حق في أكثر أحواله ، ولكنه لا يمنع أن يوجد من الموهوبين الأفذاذ من يبرز في الناحيتين علي نحو يدهش ويروع !.

ولقد كان السيد محمد الخضر حسين أحد هؤلاء دون جدال !.

ولد -رحمه الله تعالى- في مدينة نَفْطة بتونس في 26 رجب سنة 1293هـ/ 16 أغسطس 1876م، وأصل أسرته من الجزائر، من عائلة العمري، من قرية طولقة، وهي واحة من واحات الجنوب الجزائري، وأصل أمه من وادي سوف بالجزائر أيضًا وأبوها هو الشيخ المشهور مصطفى بن عزوز وخاله الشيخ المشهور محمد المكي بن عزوز .

واسم الشيخ هو محمد الأخضر بن الحسين بن علي بن عمر، فلما جاء إلى الشرق حذف "بن" من اسمه على الطريقة المشرقية، وغلب عليه الخضر عوضًا عن الأخضر، ونشأ الشيخ في أسرة علم وأدب من جهتي الأب والأم، وكانت بلدة نَفْطة التي ولد فيها موطن العلم والعلماء، حتى إنها كانت تلقب بالكوفة الصغرى، وبها جوامع ومساجد كثيرة، وهي واحة بها زرع وفيها فلاحون .

يقول الدكتور محمد موسي الشريف: ونشأ الشيخ في هذه البيئة طالبًا للعلم فحفظ القرآن، ودرس العلوم الدينية واللغوية على يد عدد من العلماء منهم خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز الذي كان يرعاه ويهتم به، وحاول الشيخ منذ سن الثانية عشرة أن يقرض الشعر، ثم برع فيه بعد ذلك .

ولما بلغ الشيخ سن الثالثة عشرة انتقل إلى تونس مع أسرته ودرس في جامع الزيتونة -فك الله أسره وأعاد مجده- وهناك درس على خاله محمد المكي بن عزوز الذي كان له شهرة كبيرة بالجامع ويدرس فيه مجانًا، ودرس على يد مشايخ آخرين أبرزهم الشيخ سالم بوحاجب الذي كان من أعمدة الإصلاح في تونس، درس على يديه صحيح البخاري، وقد تخرج الشيخ في الزيتونة سنة 1316هـ/1898م، وألقى دروسًا في الجامع في فنون مختلفة متطوعًا، وبقي كذلك مع حضور مجالس العلم والأدب المختلفة.

وفي شهر محرم سنة 1322م/ أبريل 1904م أنشأ مجلة "السعادة العظمى"، وهي أول مجلة عربية ظهرت في تونس، وكانت تصدر كل نصف شهر، ولم يصدر منها سوى 21 عددًا ثم انقطع صدورها، وقد كان الشيخ يكتب أغلب مقالاتها.

وقد وُجهت بنقد من قبل بعض الجامدين؛ لأن الشيخ أيّد فيها بقاء باب الاجتهاد مفتوحًا، وكانت المجلة تتسم بالنقد الهادف واحترام التفكير الجيد.

زواج الشيخ محمد الخضر

تزوج الشيخ أربع مرات، مرة بتونس وقد ترك زوجه عند خروجه من تونس لرفض أهلها أن يصحبها معه، وتزوج في سوريا ثم طلق، ثم تزوج في مصر امرأة عاشت معه ثلاثين سنة ثم ماتت، فتزوج من امرأة من أهل زوجته المصرية.

ولم يرزق الشيخ بأولاد من أي من زوجاته.

رحلتاه إلى الجزائر

وفي سنة 1321هـ/1903م ارتحل إلى الجزائر، وفي السنة التي تليها ارتحل إليها أيضًا، وزار معظم المدن الجزائرية، وقصد العاصمة الجزائر فزار المساجد والمكتبات، وحضر بعض الدروس الدينية واللغوية، كما شارك في بعض المجالس الأدبية وألقى بعض الدروس الشرعية.

مناصب الشيخ الخضر حسين في تونس

1- توليه منصب القضاء: تولى منصب القضاء في بلدة بنزرت، ولم يكن يريده لكن الشيخ الإمام العلامة محمد الطاهر بن عاشور أقنعه بالقبول واشتد عليه فيه، لكنه بقي أشهرًا قليلة ثم استقال، وعاد إلى تونس ليعاود التدريس في الزيتونة، وكان أثناء بقائه في بنزرت مباشرًا الخطابة والتدريس في جامعها الكبير، وكان له فيها دروس شرعية وأدبية.
2- عضوية الجمعية الزيتونية: كان عضوًا في الجمعية الزيتونية التي يرأسها الإمام العلامة محمد الطاهر بن عاشور، وهي خاصة بمشايخ جامع الزيتونة، فك الله أسره وأعاد مجده.
3- التدريس في جامع الزيتونة، والقيام على خزانة كتبه.
4- التدريس بمدرسة الصادقية، وكانت الثانوية الوحيدة في تونس .

رحلته إلى بلاد الشام

للشيخ ثلاثة إخوة أدباء فضلاء تركوا تونس واستقروا في الشام، وكان منهم زين العابدين أخوه العالم الذي كان يلقي الدروس في الجامع الأموي فأراد الشيخ زيارتهم، فغادر الشيخ تونس إلى الشام سنة 1330هـ/1912م عن طريق البحر، ومر بمالطة والإسكندرية ثم القاهرة وألقى درسًا في الأزهر، ثم ترك القاهرة إلى بورسعيد فيافا وحيفا، وفي كل مدينة من المدن كان يزور الأدباء والعلماء ويطلع على الكتب.

ثم دخل الشام فاستقبل استقبالاً حافلاً، وألقى دروسًا في الجامع الأموي في الحديث، واتصل بالعلماء والأدباء، وبقي شهرًا ونصفًا فيها ثم غادرها إلى بيروت في شوال سنة 1330هـ/1912م، ثم غادرها إلى إسطنبول ليزور خاله الشهير محمد المكي بن عزوز الذي اتخذها موطنًا له، ولم يلقه منذ خمس عشرة سنة، وبقي فيها شهرين ثم غادرها إلى تونس .

انتقاله إلى الشام

بقي في تونس أسابيع قليلة ثم خرج منها -إلى غير رجعة- لما ضيق الاستخراب الفرنسي عليه تاركًا زوجه التي رفض أهلها أن يأخذها معه، وكان ذلك في سنة 1331هـ/ ديسمبر 1912م، فوصل دمشق ثم غادرها إلى الحجاز بالسكة الحديد للحج، وزار ألبانيا ودار في البلقان، ثم ذهب إلى الأستانة (إسطنبول)، ثم وصل دمشق واستقر فيها بحي الميدان ببيت إخوته الذين سبقوه إلى هنالك.

ودرّس في دمشق بالمدرسة السلطانية، واستمر كذلك حتى سجنه جمال باشا السفّاح والي الشام العثماني سنة 1335هـ/1916م، متهمًا إياه بالتآمر على السلطة الحاكمة، وبقي في السجن ستة أشهر -وقيل أكثر من ذلك- فلما خرج منه عاد إلى التدريس بالمدرسة السلطانية والجامع الأموي.

ثم طلبته وزارة الحربية العثمانية -أثناء الحرب العالمية الأولى- للعمل فيها مُنشئًا للرسائل العربية، فغادر دمشق إلى إسطنبول، ومن هنالك أرسلته الدولة العثمانية إلى ألمانيا مع مجموعة من المشايخ في مهمة سياسية تتمثل في تحريض المغاربة هنالك ضد الوجود الفرنسي في شمال إفريقيا وضد الإيطاليين في ليبيا، فبقي 9 أشهر تعلم فيها اللغة الألمانية واطّلع على عادات المجتمع الألماني، ثم عاد إلى إسطنبول فبقي فيها قليلاً، ثم عاد إلى برلين ليقيم فيها سبعة أشهر أخرى إلى أن انتهت الحرب العالمية الأولى وسقطت إسطنبول بأيدي الحلفاء.

وقد شارك أثناء إقامته في ألمانيا بكتابة تقرير مفصل عن مطالب الشعب الجزائري والتونسي، وقد رُفع هذا التقرير إلى مؤتمر الصلح المنعقد في فرنسا.

وحضر سنة 1336هـ/1917م فتح مسجد للجنود المسلمين في برلين، وألقى فيه محاضرة عن الحرية. ولم يأكل أثناء إقامته في ألمانيا اللحم؛ لأن الألمان لا يذبحون بالطريقة الشرعية، وإنما يضربون الحيوان على رأسه حتى يموت أو يخنقونه. وقد أُعجب بحب الألمان للعمل، وإقبالهم عليه حتى عَجَزتُهم.

عودته إلى دمشق

لما سقطت إسطنبول بأيدي الحلفاء عاد من هامبورج بألمانيا إلى إسطنبول بباخرة أقلّته ومن معه من العثمانيين، ومنها عاد إلى دمشق التي كانت قد خضعت للحكم العربي -بعد زوال العثمانيين- بقيادة فيصل بن الشريف حسين. وفي دمشق انضم إلى المجمع العلمي العربي عضوًا عاملاً، ثم لما استقر بمصر بقي عضوًا مراسلاً.

الشيخ محمد الخضر حسين في مصر

لما سقطت الشام في أيدي الفرنسيين 1339هـ/1920م ما وسعه المقام فيها؛ وذلك لأن الفرنسيين كانوا قد حكموا عليه غيابيًا في تونس بالإعدام لاتهامه بالمشاركة في تحريض المغاربة بألمانيا وتركيا على الثورة ضد الفرنسيين في شمال إفريقيا، فهرب إلى مصر، وبقي فيها إلى نهاية حياته المباركة .

وعمل في مصر مصححًا بدار الكتب المصرية بشفاعة أحمد تيمور باشا الذي عرف قدره، وكان يلقي المحاضرات والدروس في مساجدها، ويكتب المقالات المتنوعة الكثيرة.

وفي القاهرة أنشأ "جمعية تعاون جاليات إفريقيا الشمالية" التي تهتم بالمغاربة من الناحيتين الثقافية والاجتماعية، وذلك سنة 1342هـ/1924م، وبعد عشرين سنة ألف جمعية "جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية".

وفي تلك المدة أسقط الهالك أتاتورك الخلافة الإسلامية، ومن ثم تطلع الناس إلى بلد آخر ليكون مهدًا للخلافة، فاتجهت الأنظار إلى مصر، وآنذاك كتب الشيخ علي عبد الرازق كتابه المشئوم "الإسلام وأصول الحكم"، أنكر فيه أن يكون للإسلام سلطة ودولة إنما هو سلطة روحية فقط، فقامت عليه قيامة العلماء والمفكرين بمصر، وفصل من هيئة كبار العلماء في محرم سنة 1344هـ/1925م، واتهم بالزندقة والإلحاد، وحينئذ ألف الشيخ محمد الخضر حسين كتابه الشهير الذائع الصيت "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، ونال به حظوة عند الملك فؤاد -الذي كان يطمع بالخلافة- وجَمْعٍ من العلماء والأدباء والمفكرين والمثقفين، وعظمت به شهرته، وطار به صيته، وقد أهدى الكتاب لخزانة الملك فؤاد.

وفي مصر اختلف مع طه حسين عندما ألف كتابه "في الشعر الجاهلي"، وكان في الكتاب انحراف خطير واتباع لأقوال المستشرق الإنجليزي مرجليوث وطعن في القرآن، فاشتد غضب علماء الأزهر حين صدر هذا الكتاب، وحاكموا صاحبه إلى محاكم مصر التي كانت تحت التأثير الإنجليزي فبرأته، وهنا ألف الشيخ محمد الخضر كتابه "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، الذي كان باعتراف طه حسين من أهم الردود عليه وأشدها حجة.

وفي سنة 1346هـ/1928م شارك في تأسيس "جمعية الشبان المسلمين"، ووضع لائحتها مع صديقه محب الدين الخطيب.

وفي مصر أنشأ "جمعية الهداية الإسلامية" مع بعض المشايخ منهم شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي، وذلك في سنة 1346هـ/1928م لمّا رأى التفسخ الخلقي آخذًا في الانتشار بين كثير من شباب مصر آنذاك، وكان من أهداف الجمعية محاربة الفساد والإلحاد، والتعريف بالإسلام، والسعي لتمتين الصلات بين الشعوب الإسلامية والسعي؛ لإصلاح شأن اللغة العربية وإحياء آدابها، وأصدر مجلة "الهداية الإسلامية" لتكون لسان حال الجمعية، وأُلقيت المحاضرات في المساجد والنوادي خاصة التي تتبع هذه الجمعية، وقد رَأَس الجمعية الشيخ محمد الخضر حسين، وفيها بعض الأعضاء البارزين مثل الشيخ علي محفوظ، والشيخ عبد الوهاب النجار، وفتحت الجمعية فروعًا في مصر وسوريا والعراق.

وقد توقف صدور المجلة بعد ذلك أثناء الحرب العالمية الثانية.

مناصب الشيخ محمد الخضر في مصر

  • التدريس في الأزهر: اختير الشيخ محمد الخضر حسين للتدريس في قسم التخصص بالأزهر، وهذا دال على مدى علمه؛ إذ لا يدرس في الأزهر آنذاك إلا كبار العلماء.
  • رئاسة تحرير مجلة الأزهر: اختير الشيخ محمد الخضر لتولي رئاسة تحرير مجلة الأزهر التي صدرت في بداياتها باسم "نور الإسلام" وذلك سنة 1349هـ/1931م، ثم تحولت إلى مجلة الأزهر، وما زالت تصدر إلى يومنا هذا، وبقي الشيخ فيها إلى أن عزل عنها بعد أربع سنوات.
  • وفي القاهرة اختير عضوًا بـ"مجمع اللغة العربية الملكي" عند إنشائه سنة 1351هـ/1932م.
  • واختير عضوًا لهيئة كبار العلماء سنة 1370هـ/1950م.
  • ثم اختير شيخًا للأزهر بعد ثورة يوليو في سنة 1371هـ/1952م، وفي عهده أرسل وعاظًا أزهريين إلى السودان، *ثم استقال منه بعد أقل من سنتين، وفي ولايته للأزهر دلالة على رفعة شأنه عند العلماء والساسة، فقد كان الأزهر أعظم مؤسسة إسلامية في العالم الإسلامي، وقد قال الشيخ العلامة الأستاذ محمد الفاضل بن عاشور التونسي عند اختيار الشيخ محمد الخضر شيخًا للأزهر:

"ليحق لهذه الحقبة من التاريخ التي تُظِلُّنا أن تفخر بأنها بلغت فيها الصلات بين الأزهر والزيتونة أوْجها؛ فقد احتضن الأزهر إمامًا من أئمة الأعلام، كان أحد شيوخ الزيتونة العظام".

  • وقد أحسنت مصر وفادته منذ نزل إليها سنة 1339هـ/1920م، وتجنس بجنسيتها وبقي فيها إلى وفاته، ودفن فيها.

الشيخ الخضر حسين وعلاقته بالسياسة

كان للشيخ -رحمه الله تعالى- بعض الأفكار في باب السياسة، وخاض في شيء منها فقد كان مهتمًّا بالاتحاد الإسلامي، حريصًا على تفقد أحوال المسلمين، متألمًا مما نزل بهم، وكان -رحمه الله تعالى- حسن الصلة بوطنه تونس، حريصًا على تتبع أحواله، وإعانة أبنائه في كل الميادين، وكان بيته قبلة للتونسيين القادمين إلى القاهرة، وسخر مكانته العلمية والدينية من أجل مساعدة المدافعين عن قضية تونس خصوصًا، والمغرب العربي الكبير عمومًا، فعرف بهم السلطات والهيئات والمسئولين في مصر، وأنشأ جمعيتين لهذا الغرض كما ذكرت آنفًا.

وقد ذكرت من قبل أن الدولة العثمانية ابتعثته إلى ألمانيا في مهمة سياسية، حكمت عليه فرنسا من أجلها بالإعدام.

لكن الشيخ لم يكن يحب الحديث في المجالات السياسية في مجلته "الهداية الإسلامية"، ولا في مجلة "نور الإسلام" التي أصبحت الأزهر فيما بعد، حتى إنه قد جرت أحداث مهمة في تونس والمغرب في ذلك الوقت لكن الشيخ لم يكن يذكرها، ولعل مرد ذلك إلى تخوفه من الدخول في غمار شيء لا يدري ما عواقبه في مصر.

وهذا السبب غير مقنع لي، والسبب الأقوى -عندي- هو أن الشيخ كان مهتمًّا بالإصلاح التربوي والاجتماعي والديني أكثر بكثير من اهتمامه بالسياسة التي أكد على البعد عنها في افتتاحية العدد الأول من مجلة "الهداية الإسلامية" ومجلة نور الإسلام" في عددها الأول أيضًا، وهي التي أصبحت مجلة "الأزهر" فيما بعد، وهذا مما أثار عليه حفيظة الشيخ محمد رشيد رضا فجرى بينهما ما لا أحب ذكره -عفا الله عنهما وغفر لهما- وعلى كل حال فلا يعني عدم تعرضه للسياسة في المجلتين أنه بعيد في حياته العملية عنها، بل قد كان بها ذا صلة كما بينت آنفًا، لكنه آثر لسبب لا أدريه -على وجه القطع واليقين- أن يبتعد عنها في المجلتين، والله أعلم .

صفات الشيخ محمد الخضر حسين

كان الشيخ -رحمه الله تعالى وإيانا- مؤثرًا للهدوء في النقاش والحديث، عَفّ اللسان، جريء الجنان، محبًّا للإصلاح، عاملاً على جمع الكلمة، ومن أبرز صفاته الزهد فقد كان ظاهرًا فيه طوال حياته، وكان يردد كثيرًا: "يكفيني كوب لبن وكسرة خبز، وعلى الدنيا بعدها العَفاء".

وهو -بلا شك ولا ريب- صاحب همة عالية، أهّلته للوصول إلى ما وصل إليه، رحمه الله وإيانا.

مواقف من حياة الشيخ الخضر حسين

عندما كان في ألمانيا حضر عند مدير الاستخبارات الألمانية وكان معه سكرتيره، وذلك أثناء سفرهم إلى قرية ألمانية، وفي نهاية الحديث سأله المدير: أليس كذلك يقرر ابن خلدون؟

فقال له: وماذا يقرر؟

قال: إن العرب لا يصلحون لملك، ولا يحسنون حكمًا للأمم.

فقال له: إنما خص ذلك بعهد الجاهلية، وقرر أنهم في الإسلام أحسنوا السياسة، وقاموا بأعباء الملك خير قيام، وقد بيّن ذلك غاية البيان في فصل عقده في مقدمته.

وهذا يدل على أن مدير الاستخبارات الألماني كان متابعًا لأحوال العرب، وأن الشيخ محمد الخضر كان قارئًا جيدًا واعيًا حاضر الذهن.

ومن مواقفه الجيدة أن السلطات الفرنسية في تونس دعته ليكون عضوًا في المحكمة المختلطة التي يكون فيها قضاة مسلمون وأجانب، فرفض؛ لأن المحكمة تحكم بغير ما أنزل الله، ولأن المحكمة قائمة في ظل الاحتلال وستخدم مصالحه.

ومن مواقفه الجريئة أنه حاضر في تونس عن الحرية في الإسلام أثناء وجود الاستعمار الفرنسي فيها، وذلك في نادي قدماء مدرسة الصادقية الثانوية، قال فيها: "إن الأمة التي بُليت بأفراد متوحشة تجوس خلالها، أو حكومة جائرة تسوقها بسوط الاستبداد هي الأمة التي نصفها بصفة الاستعباد، وننفي عنها لقب الحرية".

ثم بيّن الآثار السيئة للاستبداد في شجاعة وجرأة، وقد تناقل الناس مضمون المحاضرة ووصلت أخبارها إلى الشام وغيرها.

وفي مصر كان له موقف مشرف حين طلب أحد أعضاء مجلس الثورة مساواة الجنسين في الميراث، ولما علم الشيخ بذلك أنذرهم إن لم يتراجعوا عن هذا فسيلبس كفنه، ويدعو الشعب إلى زلزلة الحكومة والقيام عليها لاعتدائها على حكم من أحكام الله، فكف ذلك العضو عما نواه من تغيير حكم الله تعالى، فما أحوجنا اليوم لمثله.

وقد استقال من الأزهر عندما حدثت الحادثة العظمى بضم القضاء الشرعي إلى القضاء الأهلي الذي اخترعه الاستخراب الإنجليزي، وكان يرى -كما يرى كل مسلم- بوجوب حدوث العكس وهو إلغاء القضاء الأهلي وتثبيت الشرعي، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

وكان يقول عن وظيفته في الأزهر قولاً لا بد أن يسمعه شيخ الأزهر اليوم: "إن الأزهر أمانة في عنقي أسلمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذا لم يتأتّ أن يحصل للأزهر مزيد الازدهار على يدي، فلا أقل من ألا يحصل له نقص". وهي مقولة جليلة.

من شعر الشيخ الخضر حسين

للشيخ شعر جيد كثير ضمن بعضه في ديوان منشور، سماه "خواطر الحياة"، فمنه في ذم الكماليين الذين ألغوا الخلافة:

ما خَطْبُ قومٍ طالما وصـلوكِ

واعتز باسمكِ عرشُهم هجروكِ

حرسوك أحقابًا وحَلّق صيتهم

في الخافقيـن لأنهم حرسـوكِ

ومنه حين نصحه بعض أصحابه بالرجوع إلى الشام وترك مصر:

يقول: تقيم في مصر وحيدًا

وفقد الأُنس إحدى الموتتين

ألا تَحْدو المطية نحو أرض

تعيـد إليك أنس الأُسرتين

وعيشًا ناعمًا يدع البقـايا

من الأعمار بِيضًا كاللُجين

فقلت له: أيحلـو لي إياب

وتلك الأرض طافحة بغَيْن

وما غينُ البلاد سوى اعتساف

يدنسها به خُرْق اليدين

وقال يمدح الأمير محمد عبد الكريم الخطابي يوم جاءت السفينة به من منفاه، واستطاع بعض المخلصين تخليصه في السويس وهو في طريقه إلى سجنه بفرنسا، فقال على الباخرة مرحبًا به:

قلت للشـرق وقد قـام على

قـدم يَعِرض أرباب المزايـا

أرنـي طلعـة شهم ينتضـي

سيفه العَضْب ولا يخشى المنايا

أَرِنيـها إننـي مـن أمــة

تركب الهول ولا ترضى الدنايا

فأراني بطـل الريـف الـذي

دحـر الأعداء فارتدوا خزايا

أقوال في مدح الشيخ الخضر حسين

قال فيه العلامة عبد المجيد اللبان رئيس لجنة امتحان شهادة العالمية بالأزهر يوم تقدم إليها للاختبار: "هذا بحر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حِجاج".

وقال عنه الشيخ العلامة محمد علي النجار: "إن الشيخ اجتمع فيه من الفضائل ما لم يجتمع في غيره، إلا في النُّدْرَى؛ فقد كان عالمًا ضليعًا بأحوال المجتمع ومراميه، لا يشذ عنه مقاصد الناس ومعاقد شئونهم، حفيظًا على العروبة والدين، يردّ ما يوجه إليهما وما يصدر من الأفكار، منابذًا لهما، قوي الحجة، حسن الجدال، عف اللسان والقلم".

وقال عنه العلامة الضخم الجليل الأستاذ محمد الطاهر بن عاشور: "إنه من أفذاذ علماء الإسلام، وقد كان قليل النظير في مصر".

مؤلفات الشيخ محمد الخضر حسين

للشيخ عدة كتب؛ منها: "وسائل الإصلاح" ثلاثة أجزاء. وفي الكتاب نقد للأوضاع القائمة، وتقويم لها، وفيه ردٌّ على بعض الضلال الفكري الذي كان سمة من سمات ذلك العصر، وفيه تركيز على أثر العلماء والعناية بهم وحثهم على القيام بوظائفهم.

ومن كتبه أيضًا: بلاغة القرآن - أديان العرب قبل الإسلام - تونس وجامع الزيتونة - حياة ابن خلدون - دراسات في العربية وتاريخها - "تونس.. 67 عامًا تحت الاحتلال الفرنساوي" أصدره سنة 1948م - أدب الرحلات - الحرية في الإسلام - آداب الحرب في الإسلام – "تعليقات على كتاب الموافقات" للشاطبي - إضافة إلى مئات المقالات والمحاضرات.

مجمل دعوة الشيخ الإصلاحية

صنف الشيخ كتابا ماتعا في الرد علي طه حسين وكتابه في الشعر الجاهلي سماه "نقض الشعر الجاهلي" يقول في مقدمته وهو يبين مجمل دعوته : نهضت الأمم الشرقية فيما سلف نهضة اجتماعية ، ابتدأت بطلوع كوكب الإسلام ، واستوثقت حين سارت هدايته سيرها الحثيث ، وفتحت عيون هذه الأمم في طريقة الحياة المثلي ، سادت هذه النهضة وكان لها الأثر الأعلي في الأفكار والهمم والآداب .

ومن فروعها نهضة أدبية لغوية ، جعلت تأخذ مظاهرها العلمية لعهد بني أمية ، واستوت علي سوقها في أيام بني العباس .

تمتع الشرق بنهضته الاجتماعية والأدبية حقبا ، ثم وقف التعليم عند غاية ، وأخذ شأنا غير الشأن الذي تسمو به المدارك وتنمو به العقول ، فإذا غفوة تدب إلي جفون هذه الأمم ولم تكد تستفيق منها إلا ويد أجنبية تقبض علي زمامها .

التفت الشرق إلي ما كان في يده من حكمة ، وإلي ما شاد من مجد ، وإلي من شب في مهده من أعاظم الرجال ، أخذ ينظر إلي ماضيه ليميز أبناؤه بين ما هو تراث آبائهم وبين ما يقتبسونه من الغرب ، ويشعروا بما كان لهم من مجد شامخ ، فتأخذهم العزة إلي أن يضموا إلي التالد طريفا ، وليذكروا أنهم ذرية أولئك السراة ، فلا يرضوا أن يكونوا للمستبدين عبيدا .

يقول الدكتور البيومي رحمه الله: هذا هو المجال الذي انطلق فيه يراع الأستاذ طيلة حياته ، مجال التذكير بالأمجاد عن دراسة وتنقيب ، وكشف الخداع عن بهارج الغرب في استشفاف ونفاذ ، ووضع العلاج لأدواء الشرق في بصر وتشخيص !!.

وقد ألح في ذلك إلحاحا جعل فريقا من المؤرخين يفهمون رسالته الإصلاحية علي غير وجهها الصحيح .

فالأستاذ ولفريد كانتويل سميث أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة مونتريال ، يضع كتابا عن الإسلام في التاريخ الحديث ، يتعرض فيه إلي مجلة الأزهر موازنا بين رئيسي تحريرها السابقين محمد الخضر حسين ومحمد فريد وجدي فيجعل من الخضر حسين ممثلا للمدرسة السلفية فقط ومن فريد وجدي مجددا عصريا تسير طريقته في التجديد علي قواعد المعرفة الحديثة .

وتنبه عباس العقاد إلي هذا الشطط البالغ فقال نقلا عن مجلة الأزهر رجب سنة 1381ه : ويقول صاحب الكتاب –ولفريد كانتويل سميث- في مقابلته بين منهج الشيخ الخضر ومنهج الأستاذ وجدي ، أن أولهما يعتبر الإسلام وحيا تاما ، قد تنزل علي صورته الكاملة عند عصر الرسالة الإسلامية ، فلا إضافة إليه ولا زيادة عليه ، ولا تحوير فيه ، وإنما الإيمان بالإسلام هو الذي يحتمل القوة والضعف ، كما يحتمل زيادة المعرفة أو النقص فيها ، أو يحتمل المراجعة من عصر إلي عصر لتفقد الآثار العصرية فيه ، وليس الأستاذ الخضر كما يري المؤلف من أنصار الحنين إلي الماضي ، بل هو من أنصار الدعوة التي لا زمان لها ، لأنها صالحة لكل زمان ، سومهما تتجدد مذاهب المعرفة ، فالمسلم يسلم أمره إلي إرادة الله كما هدته معارفه إلي فهم تلك الإرادة الإلهية بالدرس والإلهام ، وقد تساوي في نظر الشيخ الخضر كلا الطرفين من المسلمين في الحاجة إلي التصحيح والإصلاح ، وهما –علي تعبير المؤلف- اليسار من المتعلمين الذين جاوزوا حدود الإسلام ، وطرف اليمين من الجامدين وأتباع الطرق الصوفية الذين ضيقوا حدوده عليهم وإن لم يجاوزوه .

وفاة الشيخ محمد الخضر

توفي -رحمه الله تعالى وغفر لنا وله- في رجب مضر سنة 1377هـ/1958م عن أربع وثمانين سنة، ودفن في القاهرة في مقبرة أصدقائه آل تيمور، وأهدى مكتبته العلمية النادرة الضخمة لزوجه الأخيرة.

الخضر حسين .. منافح عن الإسلام والعروبة

بقلم: أحمد تمام


فتحت مصر أبوابها في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري لزعماء النهضة والإصلاح، واستقبلت قادة التحرير في العالم الإسلامي، فحلوا بها خير محل، ولقوا من الحفاوة والكرم ما جعلهم ينعمون بالإستقرار فيها.
وصارت القاهرة كعبة العلماء، ومهوى الأفئدة، اتخذها بعضهم موطنًا دائمًا له، واستقر بعضهم فيها حينًا من الدهر ثم عاد إلى بلاده.
واستقبلت مصر في هذه الفترة محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار، ومحب الدين الخطيب صاحب المكتبة السلفية المجاهد المعروف، والعلامة محمد صبري شيخ الإسلام في الدولة العثمانية ووكيله الشيخ محمد زاهد الكوثري، والشيخ محمد الخضر حسين وغيرهم.
ولم تكتف مصر بحسن استقبال هؤلاء الأعلام النابهين، بل منحت بعضهم جنسيتها، وبوأته أعلى المناصب الدينية، مثلما فعلت مع الشيخ محمد الخضر الحسين، حيث اختارته ضمن الرعيل الأول المؤسس لـ مجمع اللغة العربية، وعينته أستاذًا في كلية أصول الدين، وكافأته بتنصيبه شيخًا للجامع الأزهر.

المولد والنشأة:

ولد محمد الخضر حسين بمدينة نفطة التونسية في (26 رجب 1293هـ= 16 أغسطس 1876م)، ونشأ في أسرة كريمة تعتز بعراقة النسب وكرم الأصل، وتفخر بمن أنجبت من العلماء والأدباء، وفي هذا الجو المعبق بأريج العلم نشأ "الخضر حسين"؛ فحفظ القرآن الكريم، وتعلَّم مبادئ القراءة والكتابة، وشدا شيئًا من الأدب والعلوم الشرعية، ثم انتقل مع أسرته إلى تونس العاصمة سنة (1305هـ=1887م) وهو في الثانية عشرة من عمره، والتحق بجامع الزيتونة، وأكبّ على التحصيل والتلقِّي، وكانت الدراسة فيه صورة مصغرة من التعليم في الجامع الأزهر في ذلك الوقت، تُقرأ فيه علوم الدين من تفسير وحديث وفقه وعقيدة وعلوم اللغة من نحو وصرف وبيان، وكان من أبرز شيوخه الذين اتصل بهم وتتلمذ لهم: عمر بن الشيخ، ومحمد النجار وكانا يدرّسان تفسير القرآن الكريم، والشيخ سالم بوحاجب وكان يدرس صحيح البخاري، وقد تأثر به الخضر الحسين وبطريقته في التدريس.

بعد التخرج:

تخرج محمد الخضر الحسين في الزيتونة، غزير العلم، واسع الأفق، فصيح العبارة، محبًا للإصلاح، فأنشأ مجلة "السعادة العظمى" سنة (1321هـ= 1902م) لتنشر محاسن الإسلام، وترشد الناس إلى مبادئه وشرائعه، وتوقظ الغافلين من أبناء أمته، وتفضح أساليب الاستعمار، وقد لفت الأنظار إليه بحماسه المتقد ونظراته الصائبة، فعُهد إليه بقضاء "بنزرت"، والخطابة بجامعها الكبير سنة (1324هـ= 1905م)، لكنه لم يمكث في منصبه طويلاً، وعاد إلى التدريس بجامع الزيتونة وتولى تنظيم خزائن كتبه، ثم اختير للتدريس بالمدرسة الصادقية وكانت المدرسة الثانوية الوحيدة في تونس، وقام بنشاط واسع في إلقاء المحاضرات التي تستنهض الهمم، وتنير العقول وتثير الوجدان، وأحدثت هذه المحاضرات صدى واسعًا في تونس.
ولما قامت الحرب الطرابلسية بين الدولة العثمانية وإيطاليا، وقف الخضر حسين قلمه ولسانه إلى جانب دولة الخلافة، ودعا الناس إلى عونها ومساندتها، وحين حاولت الحكومة ضمه إلى العمل في محكمة فرنسية رفض الاشتراك فيها، وبدأ الاستعمار الفرنسي يضيّق عليه ويتهمه ببث روح العداء له؛ فاضطر الشيخ محمد الخضر الحسين إلى مغادرة البلاد سنة (1329هـ= 1910م) واتجه إلى إستانبول.

بين إستانبول ودمشق:

بدأ الخضر حسين رحلته بزيارة مصر وهو في طريقه إلى دمشق، ثم سافر إلى إستانبول ولم يمكث بها طويلاً، فعاد إلى بلاده ظانًا أن الأمور قد هدأت بها، لكنه أصيب بخيبة أمل وقرَّر الهجرة مرة ثانية، واختار دمشق وطنًا له، وعُيِّن بها مدرسًا للغة العربية في المدرسة السلطانية سنة (1331هـ= 1912م)، ثم سافر إلى إستانبول، واتصل بأنور باشا وزير الحربية، فاختاره محررًا عربيًا بالوزارة، ثم بعثه إلى برلين في مهمة رسمية، فقضى بها تسعة أشهر، وعاد إلى العاصمة العثمانية، فاستقر بها فترة قصيرة لم ترقه الحياة فيها، فعاد إلى دمشق، وفي أثناء إقامته تعرَّض لنقمة الطاغية "أحمد جمال باشا" حاكم الشام، فاعتقل سنة (1334هـ= 1915م)، وبعد الإفراج عنه عاد إلى إستانبول، وما كاد يستقر بها حتى أوفده أنور باشا مرة أخرى إلى ألمانيا سنة (1335هـ= 1916م)، والتقى هناك بزعماء الحركات الإسلامية من أمثال: عبد العزيز جاويش، وعبد الحميد سعيد، وأحمد فؤاد، ثم عاد إلى إستانبول، ومنها إلى دمشق حيث عاد إلى التدريس بالمدرسة السلطانية، ودرّس لطلبته كتاب "مغنى اللبيب عن كتب الأعاريب" لابن هشام النحوي المعروف، حتى إذا تعرضت الشام للاحتلال الفرنسي، اضطر الخضر الحسين إلى مغادرة دمشق والتوجه صوب القاهرة.

الاستقرار في القاهرة:

نزل محمد الخضر الحسين القاهرة سنة (1339هـ= 1920م)، واشتغل بالبحث وكتابة المقالات، ثم عمل محررًا بالقسم الأدبي بدار الكتب المصرية، واتصل بأعلام النهضة الإسلامية في مصر وتوثقت علاقته بهم، ثم تجنَّس المصرية، وتقدَّم لامتحان شهادة العالمية بالأزهر، وعقدت له لجنة الامتحان برئاسة العلامة عبد المجيد اللبان مع نخبة من علماء الأزهر الأفذاذ، وأبدى الطالب الشيخ من رسوخ القدم ما أدهش الممتحنين، وكانت اللجنة كلما تعمَّقت في الأسئلة وجدت من الطالب عمقًا في الإجابة وغزارة في العلم، وقوة في الحجة، فمنحته اللجنة شهادة العالمية، وبلغ من إعجاب رئيس اللجنة بالطالب العالم أن قال: "هذا بحٌر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حِجاج".

معاركه الفكرية:

شاءت الأقدار أن تُمتحن الحياة الفكرية بفتنة ضارية أثارها كتابا: "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق و"في الشعر الجاهلي" لطه حسين، وكان الشيخ محمد الخضر حسين واحدًا ممن خاضوا هذه المعركة بالحجة القوية والاستدلال الواضح والعلم الغزير.
أما الكتاب الأول فقد ظهر في سنة (1344هـ= 1926م) وأثار ضجة كبيرة وانبرت الأقلام بين هجوم عليه ودفاع عنه، وقد صدم الكتاب الرأي العام المسلم حين زعم أن الإسلام ليس دين حكم، وأنكر وجوب قيام الخلافة الإسلامية، ونفى وجود دليل عليها من الكتاب والسنة، وكانت الصدمة الثانية أن يكون مؤلف هذا الكتاب عالمًا من علماء الأزهر.
وقد نهض الشيخ محمد الخضر حسين لتفنيد دعاوى الكتاب فأصدر كتابه: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" سنة (1344هـ= 1926م) تتبع فيه أبواب كتاب علي عبد الرازق، فكان يبدأ بتلخيص الباب، ثم يورد الفقرة التي تعبّر عن الفكرة موضوع النقد فيفندها، ونقد استخدام المؤلف للمصادر، وكشف أنه يقتطع الجمل من سياقها، فتؤدي المعنى الذي يقصده هو لا المعنى الذي يريده المؤلف.
وقد كشف الخضر الحسين في هذا الكتاب عن علم غزير وإحاطة متمكنة بأصول الفقه وقواعد الحجاج وبصيرة نافذة بالتشريع الإسلامي، ومعرفة واسعة بالتاريخ الإسلامي ورجاله وحوادثه.
وأمَّا الكتاب الآخر فقد ظهر سنة (1345هـ= 1927م)، وأحدث ضجة هائلة، حيث جاهر مؤلفه الدكتور طه حسين باحتقار والشك في كل قديم دُوِّن في صحف الأدب، وزعم أن كل ما يُعد شعرًا جاهليًا إنما هو مختلق ومنحول، ولم يكتف بهذه الفرية فجاهر بالهجوم على المقدسات الدينية حيث قال: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، ولكن هذا لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي…". وقد انبرت أقلام غيورة لتفنيد ما جاء في كتاب الشعر الجاهلي من أمثال الرافعي، والغمراوي، ومحمد فريد وجدي، ومحمد الخضر حسين الذي ألَّف كتابا شافيا في الرد على طه حسين وكتابه بعنوان: "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" فنَّد ما جاء فيه، وأقام الأدلة على أصالة الشعر الجاهلي وكشف عن مجافاة طه حسين للحق، واعتماده على ما كتبه المستشرق الإنجليزي مرجليوث دون أن يذكر ذلك.

في ميادين الإصلاح:

اتجه الشيخ إلى تأسيس الجمعيات الإسلامية، فاشترك مع جماعة من الغيورين على الإسلام سنة (1346هـ= 1928م) في إنشاء جمعية الشبان المسلمين، ووضع لائحتها الأولى مع صديقه محب الدين الخطيب، وقامت الجمعية بنشر مبادئ الإسلام والدفاع عن قيمه الخالصة، ومحاربة الإلحاد العلمي.

ولا تزال هذه الجمعية بفروعها المختلفة تؤدي بعضا من رسالتها القديمة. وأنشأ أيضا "جمعية الهداية الإسلامية" وكان نشاطها علميا أكثر منه اجتماعيا، وضمَّت عددا من شيوخ الأزهر وشبابه وطائفة من المثقفين، وكوَّن بها مكتبة كبيرة كانت مكتبته الخاصة نواة لها، وأصدر مجلة باسمها كانت تحمل الروائع من التفسير والتشريع واللغة والتاريخ.

وإلى جانب هذا النشاط الوافر تولى رياسة تحرير مجلة نور الإسلام – الأزهر الآن – التي أصدرها الأزهر في (المحرم 1349هـ= 1931م)، ودامت رئاسته لها ثلاثة أعوام، كما تولى رئاسة تحرير مجلة لواء الإسلام سنة (1366هـ= 1946م)، وتحمل إلى هذه الأعباء التدريس بكلية أصول الدين، فالتف حوله الطلاب، وأفادوا من علمه الغزير وثقافته الواسعة، وعندما أنشئ مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة (1350 هـ=1932م) كان من الرعيل الأول الذين اختيروا لعضويته، كما اختير عضوا بالمجمع العلمي العربي بدمشق، وأثرى مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة ببحوثه القيمة عن صحة الاستشهاد بالحديث النبوي، والمجاز والنقل وأثرهما في حياة اللغة العربية، وطرق وضع المصطلحات الطبية وتوحيدها في البلاد العربية.

مشيخة الأزهر:

نال الشيخ عضوية جماعة كبار العلماء برسالته القيمة "القياس في اللغة العربية" سنة (1370 هـ= 1950م)، ثم لم يلبث أن وقع عليه الاختيار شيخا للجامع الأزهر في (26 ذي الحجة 1371هـ= 16 سبتمبر 1952م)، وكان الاختيار مفاجئًا له فلم يكن يتوقعه أو ينتظره بعدما كبر في السن وضعفت صحته، لكن مشيئة الله أبت إلا أن تكرم أحد المناضلين في ميادين الإصلاح، حيث اعتلى أكبر منصب ديني في العالم الإسلامي.
وكان في ذهن الشيخ حين ولي المنصب الكبير وسائل لبعث النهضة في مؤسسة الأزهر، وبرامج للإصلاح، لكنه لم يتمكن من ذلك، ولم تساعده صحته على مغالبة العقبات، ثم لم يلبث أن قدم استقالته احتجاجًا على اندماج القضاء الشرعي في القضاء الأهلي، وكان من رأيه أن العكس هو الصحيح، فيجب اندماج القضاء الأهلي في القضاء الشرعي؛ لأن الشريعة الإسلامية ينبغي أن تكون المصدر الأساسي للتشريع، وكانت استقالته في (2 جمادى الأولى 1372هـ= 7 يناير 1954م)، ويذكر له في أثناء توليه مشيخة الأزهر قولته: "إن الأزهر أمانة قي عنقي أسلمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذا لم يتأت أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي، فلا أقل من أن لا يحصل له نقص" وكان كثيرا ما يردد: "يكفيني كوب لبن وكسرة خبز وعلى الدنيا بعدها العفاء".

مؤلفاته:

كان الشيخ عالما فقيها لغويا أديبا كاتبا من الرعيل الأول، أسهم في الحركة الفكرية بنصيب وافر وترك للمكتبة العربية زادا ثريا من مؤلفاته، منها:
  • رسائل الإصلاح، وهي في ثلاثة أجزاء، أبرز فيها منهجه في الدعوة الإسلامية ووسائل النهوض بالعالم الإسلامي.
  • الخيال في الشعر العربي.
  • آداب الحرب في الإسلام.
  • تعليقات على كتاب الموافقات للشاطبي.
  • ديوان شعر "خواطر الحياة".
  • بالإضافة إلى بحوث ومقالات نشرت في مجلة الأزهر (نور الإسلام) ولواء الإسلام والهداية الإسلامية.

وفاته:

وبعد استقالته من المشيخة تفرغ للبحث والمحاضرة حتى لبى نداء ربه في مساء الأحد (13 من رجب 1377هـ = 28 من فبراير 1958م)، ودفن بجوار صديقه أحمد تيمور باشا بوصية منه، ونعاه العلامة محمد علي النجار بقوله: "إن الشيخ اجتمع فيه من الفضائل ما لم يجتمع في غيره إلا في النّدْرَى، فقد كان عالما ضليعا بأحوال المجتمع ومراميه، لا يشذ عنه مقاصد الناس ومعاقد شئونهم، حفيظا على العروبة والدين، يردّ ما يوجه إليهما وما يصدر من الأفكار منابذًا لهما، قوي الحجة، حسن الجدال، عف اللسان والقلم …".

من مصادر الدراسة:

  • محمد علي النجار: كلمة في تأبين الشيخ محمد الخضر حسين – محاضر جلسات مجمع اللغة العربية - الجزء الحادي والعشرون.

المراجع

(1) سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر للعلامة المؤرخ محمد خليل المرادي المتوفى 1206ه ، 1/298 ، ط1/ دار صادر بيروت 2001م" .

(2) النهضة الإسلامية للبيومي ، ط/دمشق .

(3) دراسات في حضارة الإسلام ، هاملتون جب ، ط1/ الهيئة العامة .

(4) في الشعر الجاهلي ، طه حسين ، المعارف .

(5) نقض الشعر الجاهلي – الخضر حسين .


للمزيد عن الإخوان في تونس

روابط داخلية

كتب متعلقة

ملفات متعلقة

.

مقالات متعلقة

.

تابع مقالات متعلقة

أخبار متعلقة

أهم أعلام الإخوان في تونس

وصلات فيديو

.

تابع وصلات فيديو