لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

بقلم / أ. د. عبد الرحمن البر


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه.. وبعد؛ فقد قال ابن إسحاق: حدثني أبي إسحاق بن يسار عَن بَعْض رجال بَنِي النجار أَن أبا أيوب خَالِد بْن زَيْد رضي الله عنه قَالَتْ لَهُ امرأته أمُّ أيوب: يا أبا أيوب، ألا تسمع مَا يَقُول النَّاس فِي عَائِشَة؟ قَالَ: بلى وَذَلِكَ الكذب، أكنتِ يا أمَّ أيوب فاعلة ذَلِكَ؟ قَالَتْ: لا والله مَا كنت لأفعله، قَالَ: فعائشة والله خير منك (سيرة ابن هشام).


وعن بعض الأنصار: أن امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الإفك ما قالوا، فقال لها: يا أم أيوب أكنت تفعلين ذاك؟ فقالت: لا والله. فقال: فعائشة والله خيرٌ منكِ وأطيب، فأنزل الله عز وجل ﴿لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ (12)﴾ (النور)، يعني قول أبي أيوب لأم أيوب، وكان أبو أيوب قال لها: إن الذين قالوا لها هو إفك (مسند إسحاق بن راهويه).


لما كانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم هن أمهات المؤمنين فقد عرف الزوجان الكريمان أبو أيوب وأم أيوب رضي الله عنهما ما ينبغي أن يكون عليه يقين المؤمن نحو أمه، ونحو بيت النبوة الطاهر، وقد نُقل عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في معنى ﴿ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ قال: ظن المؤمنون أن المؤمن لا يفجر بأمه، وهذا الذي دلَّ الحديث على أنه كان يقينًا في نفس أبي أيوب وأم أيوب، والآية بذلك شاهدة على وصفهما رضي الله عنهما بالإيمان.


وقيل في تفسير الآية الكريمة: المعنى أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد فيهم فذلك في عائشة وصفوان رضي الله عنهما أبعد، وهذا النظر السديد هو الذي وقع من أبي أيوب الأنصاري وامرأته، وهذا هو الذي عاتب الله تعالى عليه المؤمنين إذْ لم يفعله جميعهم، فقال: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (13) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (14) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (15) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (16) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (17)﴾ (النور).


إن واجب المؤمن نفي شائعة الشر وقالة السوء عن المؤمنين، فقوله تعالى ﴿بِأَنفُسِهِم﴾ معناه بإخوانهم، فأوجب الله على المسلمين إذا سمعوا رجلاً يقذف أحدًا ويذكره بقبيحٍ لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه، مثلما فعل أبو أيوب وأم أيوب رضي الله عنهما، وتوعَّد سبحانه مَن ترك ذلك ومَن نقله.


وقد عدل سبحانه عن الخطاب ﴿لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ إلى الغيبة ﴿ظَنَّ المُؤْمِنُونَ﴾، وعن الضمير إلى الظاهر؛ ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات، وليصرح بلفظ الإيمان دلالةً على أن الاشتراك فيه مقتضٍ أن لا يصدِّقَ مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا طاعن، وتقديم الظرف وهو ﴿إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ على عامله وهو ﴿قُلْتُمْ﴾ للاهتمام بمدلول ذلك الظرف؛ تنبيهًا على أنه كان من واجبهم أن يطرق ظنُّ الخير قلوبهم بمجرد سماع الخبر، وأن يتبرءوا من الخوض فيه فور سماعه.


وفي هذا تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالةً في أخيه أن يبني الأمر فيها على الظنِّ الحسن لا على الشك، وأن يقول بملء فيه بناءً على ظنه بالمؤمن الخير: ﴿هذا إفك مبين﴾ هكذا بلفظ المصرح ببراءة ساحته، كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال، وهذا من الأدب الحسن الذي قلَّ القائم به والحافظ له، وليتك تجد مَن يسمع فيسكت ولا يشيع ما سمعه بإخوته وأخواته!.


حاجتنا إلى هذا الدرس

ما أحوجنا أيها الإخوان إلى هذا الدرس التربوي العظيم، ونحن نواجه هذه العواصف الإعلامية الهوجاء التي أخذت على عاتقها تشويه كل جميلٍ في هذه الدعوة الكريمة، وتصوير الإخوة الدعاة الكرام المربين أصحاب التاريخ الناصع المشرف على أنهم مجموعة من المتنافسين على الدنيا والمدبرين للمكائد ضد بعضهم البعض، فيمارس كثيرٌ من هؤلاء الإعلاميين ما يُعرف بالإسقاط النفسي؛ حيث لا يرى في المؤسسات التي يتعامل معها إلا الكيد والتآمر وتدبير المقالب ومحاولة الصعود على أكتاف الآخرين، ومن ثم لا يتصور وجود مجموعة بشرية تترفع عن هذه الأساليب الدنيئة، فيحاول استغلال أية فرصة لتشويه الصادقين، ورميهم بما تنطوي عليه نفسه، ويسكن ضميره من أسباب الفساد، على حدِّ قول العرب (رمتني بدائها وانسلتِ)، أو على حدِّ قول العامة (يحاولون الاصطياد في الماء العكر)، بل كما قال لي أحد الإخوان بحق: إنهم يحاولون تعكير الماء ليصطادوا فيه.


نعم، إن بعضهم يفتري الأكاذيب من نسج خياله، ثم يأخذ في تقييم المواقف والأفراد بناءً على هذا الكذب، دون أن يجد حرجًا- ولو نفسيًّا- في اختراع مقالة السوء وترديدها.


وعلى كل حال، فليس أمر هؤلاء هو الذي يهمنا، وإنما يهمنا أمر إخواننا وأحبتنا الذين يعرفون إخوانهم عن قرب، ويدركون الأخلاق التي تحكم حركتهم، والآداب التي يتحلون بها حتى وإن اختلف بعضهم مع بعض، ولهؤلاء الأحبة أقول:

ما من أحدٍ اختار السير في هذا الطريق إلا وهو يضع عينيه على الجنة، ويستهدف أن يكون محل رضوان الله، ويوقن أنه لا معنى لأن يكسب الإنسان كل شيء إذا كان ذلك في مقابل أن يخسر نفسه عند الله ﴿إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِين﴾ (الزمر: من الآية 15)، وطلاب الآخرة لأجل هذا لا يعرفون غير سلامة الصدور لإخوانهم وغير التقدير لجهاد المجاهدين منهم، ولا يتصور أن يقع بينهم شيء من المكر أو الخداع.


العمل في هذه الجماعة هو عمل طوعي يتقرب به الأخ إلى الله تعالى، والمواقع الإدارية هي مجرد تنظيم للعمل، وكم من متأخرٍ في الترتيب الإداري أقرب وأحب إلى الله من متقدم، ولهذا لا تجد حرصًا من أحد على الاستئثار بشيءٍ من هذه المواقع، ولو كان الاعتذار عن شغل هذه المواقع مسموحًا به لرأى الناس عجبًا، إذ يود كل أخ لو أن إخوانه كفوه هذا العمل وأدوا عنه هذه الأمانة.. فهل في مثل هذه الأجواء يمكن القبول بالافتراءاتِ التي يرددها مَن لا يعرف طبيعة الإخوان المسلمين؟


حصول الخلافات في الرأي والتنوع في الرؤى- بل حتى وقوع الحزازات النفسية أحيانًا- هو سمة طبيعية في كل تجمع بشري، والتفاوت بين التجمعات المختلفة إنما هو في طريقة إدارة هذه الخلافات، ولا شيء أفضل من إدارتها عن طريق الشورى المشمولة بصدق الأخوة والمحبة، وهو ما يحرص عليه الإخوان دائمًا، ومع هذا فكثيرًا ما يبالغ الإعلام ويقدم هذا التنوع في صورة المعركة المحتدمة، بعيدًا عن الموضوعية والتجرد، والإخوان لا ينكرون حصول الاختلاف فيما بينهم على أي مستوى؛ ولكنهم يحرصون على إدارته بالأدب الإسلامي الراقي، وبالأسلوب الشرعي الشوري ما أمكنهم ذلك.


الإخوان يجتهدون في إصلاح بواطنهم وظواهرهم قدر المستطاع؛ لكنهم مع ذلك يدركون أنهم بشر خطاءون، ولا يحبون أن ينظر الناس إليهم على أنهم ملائكة لا يخطئون، بل يرون أنفسهم- كسائر الناس- عرضة للوقوع في الأخطاء، ولهذا لا يبررون الخطأ، ولا يجدون حرجًا من الاعتذار عن الخطأ، ويلتمسون للآخرين الأعذار، ويطلبون إليهم أن يعذروهم، وبخاصة فيما غابت حقائقه عنهم، وأن تكون القاعدة الحاكمة في تقييم بعض الوقائع التي لا تُعرف تفاصيلها الكاملة هي قاعدة حسن الظن والتماس العذر؛ وذلك هو أدب الإسلام العظيم.


الكلام كثير والشبهات التي تحتاج إلى توضيح أكثر من أن يحصرها مقال، لكني أسألك أيها الأخ الكريم ذات السؤال الذي سأله أبو أيوب لأم أيوب رضي الله عنهما، فأقول لك: لو كنت مكان إخوانك المفترى عليهم أكنت تفعل ذلك وتخسر دينك وأخلاقك ومروءتك وتضيع جهادك وتحبط عملك؟!


فواصل قصيرة

- أستاذي الدكتور محمد حبيب، لا أجد الكلمات التي يمكن أن أعبِّر بها عن هذا الجبل الأشم، وأصف بها هذه القمة السامقة والشجرة الباسقة التي تفيأنا ولا نزال نتفيأ ظلالها، وتناولنا ولا نزال نتناول ثمارها المباركة، ولا تزال قلوبنا تهفو إلى العبقريات التربوية التي تطل علينا أسبوعيًّا مبدوءة بهذا النداء الرقراق: "أخي الحبيب".


- أستاذنا الكريم المفضال الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح ، هذه المدرسة الإسلامية العربية الوطنية المفتوحة، والقيمة الفكرية والثقافية الرائعة: كنت- كعادتك- رائعًا في ندوة (الجزيرة) التي تناولت مستقبل الإخوان المسلمين، وقدمت- كعادتك- نموذجًا رائعًا لصاحب الرسالة الذي لا يغيب عنها ولا تغيب عنه أبدًا، ولا نزال في انتظار عطاءاتك التربوية والفكرية التي أثق أنها غير محدودة، وأكرر ما قلته لك عقب الندوة: أدام الله عليك نعمة التوفيق.


المصدر : نافذة مصر