فن قيادة النفس البشرية (3)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
فن قيادة النفس البشرية (3)
أ. أبو جرة سلطاني.jpg

بقلم: الشيخ أبو جرة سلطاني *

الثراء لا يساوي السعادة، فمن كان "جيبه" مرفهًا ليس بالضرورة أن يسعد قلبه، تقول تقارير عالمية راصدة لمستويات المعيشة عند الناس: إنَّ هناك علاقةً طرديةً بين الغِنى والشقاء، كما أن هناك علاقةً عكسيةً بين الفقر والشقاء، بمعنى أن الأغنياء ليسوا سعداء بنسبة تتجاوز 90%، فعشرة فقط من أصل كل مائة ثري يعيشون حياةً سعيدةً، والبقية أشقياء بما يملكون، وكلما توفرت لهم أسباب الرخاء ازدادوا شقاءً وانخرطوا في أندية "مرض القلق"، وأنَّ الفقراء ليسو أشقياء بفقرهم إلا بنسبة 3%، في حين يعيش 97% من فقراء العالم "متكيفين مع فقرهم، ومنهم نسبة عالية ينجحون في صناعة عالم سعيد لأنفسهم بإمكانيات متواضعة".

وقد أشارت بعض هذه الإحصائيات إلى "حالات سعادة"- ليس لها تفسير منطقي- موجودة في الشق الجنوبي من الكرة الأرضية، بالمعنى السياسي لا بالمعنى الجغرافي، وهي المناطق الأكثر فقرًا وتخلفًا، وسكتوا عن تعليل ذلك كما سكتوا عن تقديم تعريف لمفهوم السعادة عندهم، ونسي الجميع أن السعادة معنويات لا ماديات، فما معنى أن تكون سعيدًا؟! وهل الثراء ممر إجباري لتحصيل السعادة؟! وهل الفقر والشقاء يتلازمان؟! وهل السعادة صناعةٌ خارجيةٌ نستوردها؟ أم هي مشاعر داخلية نزرعها في طريق حياتنا؟! وما علاقة السعادة والشقاء بالدعوة؟!

القرآن الكريم- وهو دليل تشغيل الإنسان- يتحدث عن النفس البشرية المجردة فيلصق بها الفجور والتقوى، ويجعلهما طينتين معجونتين في أصل تكوين الإنسان منذ لحظة التسوية والخلق.. ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ (الشمس:7-8)، فالبذرتان موجودتان في كل إنسان.

وسواء أخدنا نظرية "ابن طفيل" أو بنظرية "روسو" أو اعتمدنا على نظرية النشوء والارتقاء أو تشيعنا لفرويد، وهورني، وأدلر، أو انتصرنا لنظريات علماء الإجرام فإننا سوف نقف على حقيقة علمية واحدة، تتفرع عنها بعد ذلك كل النظريات والفلسفات، وهي أن الصبغيات البشرية تحمل في ذرَّاتها "شفرة" السلوك الإنساني أو النزوع البشري، القائم على ثنائية متنافرة لا حدودَ لها.. الخير والشر، الكرم والبخل، الشجاعة والجبن، الفرح والحزن، الرضا والغضب، الإخلاص والغدر، الأمانة والخيانة، الاستقامة والانحراف، القيام والقعود، الإيمان والكفر... إلخ،

وكلها من مشتقات الكلمتين القرآنيتين التقوى والفجور، وهي نتاج الصبغيات المحددة "لشفرة" الإنسان (2X23=46 ) لهندسة خارطة السلوكات البشرية، كحالة الماء مثلاً في تركيبه التقابلي المتنافر؛ حيث تتركب كل وحدة مائية من ثلاث ذرات: ذرتان هيدروجين وواحدة أوكسجين تعطي ماءً، فإذا انفصلت عن بعضها فقدت خصائص الماء، ودخلت في نقيضها أي خصائص النار لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ (التكوير:6): أي اشتعلت نارًا بعد عملية الانفصال: فالهيدروجين غاز مشتعل، والأكسيجين غاز مساعد على الاشتعال.

فإذا تراكبا حدث الإرواء والإطفاء والإسقاء والإحياء، أما إذا انفصلا حدث العكس تمامًا: الإحراق، والإشعال، والإلهاب، والتأجج، وهي نفس الظاهرة التي يعيشها الإنسان (بغير إرادة منه) إذا انفصلت ذرات الفجور فيه عن ذرات التقوى بنشاط تزكية أو التدسيس، ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ (الشمس: 9-10)، فالرباعيات المذكورة سابقًا تعطي مشتقات الفجور والتقوى.

فنشاط الإنسان مع نفسه يتحرك بسرعتين متناقضتين:

- نشاط (وهو جهد مبذول) يصب في رصيد التزكية لتحصيل التقوى والاستقامة.

- ونشاط (وهو جهد مبذول أيضًا) يصب في رصيد التدسية لتحصيل الفجور والانحراف.

وهناك صنف ثالث من الناس يتحرك بالسرعتين معًا، فنشاط النهار تزكية وتقوى واجتراح الليل تدسية وفجور، إذا ما اجتهد الإنسان بالصورة التي يريد، فإن الحصيلة النهائية هي "نمو" شجرة الشخصية فيه بحسب نوعية الغذاء الذي يقدمه للنفس لسقي بذرتَي التقوية أو التدسية على مدار كل مناشطه في السراء والضراء وحين البأس.. هنا أنت مسئول عن تصرفاتك 100%.

وموضوع السعادة هنا ليس مرتبطًا بنوعية الغذاء (الروحي) المقدَّم للنفس البشرية، وإنما هو خاضع بالأساس للجهد المبذول في هذا الاتجاه أو ذاك، وفقًا للبرنامج الزمني المخصص لكل غذاء، فالتكيف حالة توازن جالب للسعادة، وأضرب مثالاً على ذلك:

مزارع يزرع بذرة قمح وبذرة "حشيش" يسقيهما بماء واحد، ولكنه يجتهد أكثر في "رعاية "وتعهد بذرة الحشيش ويهمل بذرة القمح، النتيجة معروفة، فنظام التدسية عنده قائم على قتل القمح وإنعاش برنامج "الأفيون"، فإذا سلك مسلكًا مغايرًا وأعطى رعايةً أكثر لبذور القمح كان برنامجه قائمًا على إنعاش مزارع الحبوب الجافة، فإذا تعهدهما معًا ترعرعا معًا، وإذا أهملهما جميعًا غزَت أراضيَه النباتات الطفيلية (الأشواك، الحسك، والدرياس..).

2 شين+ شين: أخطر ما تسقى به حقول النفس البشرية (شين) الشهوة و(شين) الشبهة، فمن وقع تحت نير هذين العنصرين لا تنفع معه موعظة ولا تردعه سجون ومعتقلات، إلا أن يتغمده الله برحمته فيريح ويستريح، والغريب أن الشهوة (ملكة) لا تجلس إلا على عرش القلوب، بينما الشبهة (أميرة) تتربع على عرش العقول، فمن وقع أسير الأميرتين ضاع قلبه في هوى الشهوات، وتاه عقله في ضلال الشبهات، والفرق بينهما دقيق، ولكنهما شريكتان في نخر رصيد الرجولة والفحولة في الرجال، وتدمير احتياطي الحياء والشهامة في النساء، والوقوع فيهما تدمير لبرنامج الحياة.

فالشهوة كماء البحر، من ذاقه ازداد عطشًا، كلما عبَّ منه زاد ظمأُه حتى تمتلئ البطن وتنتفخ ويظهر عيبها وعوارها بين الناس، فإذا قام مَن ينصح أو يوجه هذا "المبطون" أخدته العزة بالإثم؛ لأنه واقع تحت سلطان الشهوة.

والشبهة كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً، فلا ينتهي صاحب الشبهات من شبهة حتى يقع في غيرها، ولا يشفى من قرينة حتى تقرعه أخرى، وما زال كذلك حتى يخلد إلى الأرض وينتهي به مشوار الشبهات إلى قرار سحيق.

النفس البشرية ليست جهاز تليفزيون أو حاسوب يتحرك بممسَّات وأقفال وأزرار كما يعتقد البعض، إنما هي نسيج معقد بثنائية متناقضة تتحرك بجهاز تحكم عن قرب يُسمى (الكلمة الطيبة)، ويخطئ مَن يعتقد أن الناس نسيج واحد، وأنَّ مَن الناس من هو خيرٌ لا شرَّ فيه، أو من هو شرٌّ لا خيرَ فيه، فالخير مزروع في ثنايا الشر، والشر كامن في تلافيف الخير، وكلمة طيبة تطفئ نارًا متأججة لغضب قاصد، وكلمةٌ سوء تؤجج نار تلظى لرجل هادئ.. فاختر كلماتك بعناية.

إن الطريق إلى القلوب لا يعبَّر بالمال (وإن كانت الهدية طريقًا إلى القلب)، وإنما مفاتيح القلوب كلمات لا تصدم عادةً الشهوات عند أصحاب مذهب اللذة وأشياع (سبينوزا)، وألفاظ لا تستثير شبهات الذين يعتقدون أن (أربابهم) حجارةٌ وطينٌ. فالعابدون لهم "دينهم"، والمشتهون لهم ضعفهم وهوانهم على الناس.

والطريق إلى معالجة "شين" القلوب يحتاج إلى أن تستصحب معها جرعةً عاليةً من الإيمان، تتم عبره عملية استبدال لذة حسية بلذة معنوية، فالقلب وتدٌ في الأرض يشده إلى رعشة المادة، ومعراج في السماء يرفعه إلى مدارج الكمال، وبالمثل تمامًا تعالج (شين) العقول بخطاب حانٍٍٍ وفكر بأن لا يصدم مشاعر من آمن، ولا يستهزي بعقل من صرعه تقليد فانزوى أو غرَّه اجتهاد فدنا فتدلى، وكيف نعالج صريعَ شبهة هي له (دين) إذا كانت النفس تألف ما يُسعدها حتى ولو كان خرافةً، فالخرافات لذيدة عند من يألفها، بل هي (دين) لبعض العابدين.

النفس البشرية كالمصباح، بحاجة إلى مسح وصقل وتنظيف كل يوم، وكما يعلو المصباحَ غبارٌ وتغشاه رطوبةٌ، وترين على صفحته عواري الدهر.. كذلك يحدث للنفس البشرية، التي يغمرها الفرح فتنجلي، ويكدرها الحزن فتنطوي، وبالكلمة الطيبة تعالَج كلُّ أدوائها إذا تخلصت من ألدِّ عدوَّيْها: الشهوات والشبهات.. وهيهات.

المصدر

قالب:روابط أبو جرة سلطاني