غزة الفاضحة.. معركة المعاني

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث


غزة الفاضحة.. معركة المعاني

غزة الفاضحة.. معركة المعاني.jpg

تتأرجح الكتابة بين لغة الفؤاد النازف ولغة العقل الناقد، بين ابتزازين: ابتزاز خطاب عقلاني زائف يحرّم علينا الغضب الجارف في وجه أبشع صور الظلم والإبادة، مثلما يحرّم علينا بكاء ضحايانا بصوت مجروح يليق بالجنازة الجمعية، وكل ذلك تحت طائلة الاتهام بالانجراف وراء العواطف والانفعالات المعطّلة للعقل والتدبير، وبين ابتزاز عواطف متفجرة متدفقة كالنهر الهادر تصرخ تحت وطأة الكابوس بصوت لا يُسمع: إذا كان العقل يحرّم غضب القلب والضمير فليذهب إلى الجحيم، وإن لم يكن في الوسع أن نتكافأ مع جلادينا في الحياة فلنتكافأ بالموت.. ولتكن القيامة الآن!

ولكن من اخترع ابتداءً هذه الثنائية المصطنعة بين العقل والقلب؟! أي عقلانية هذه التي تريد أن تقنعنا بأن الصراع في فلسطين لم يعد صراعا بين دولة الاغتصاب والاحتلال والشعب المنكوب بالاحتلال والحصار والتجويع والتركيع والذبح والقتل الجماعي، وإنما هو صراع بين محور التشدد وعلى رأسه إيران، ومحور "الاعتدال".

وعليه، فإن صواريخ حماس هي الفعل المحرّض الذي أوجب ردة الفعل الإسرائيلية، وإن هذه الصواريخ لم تنطلق ردا على الخروقات الإسرائيلية المتكررة لاتفاق الهدنة والتي شملت أكثر من مائة وخمسة وعشرين خرقا عسكريا، فضلا عن الحصار القاتل الذي امتد سنة ونصف السنة، وإنما انطلقت بأوامر إيرانية لتحقيق أجندة إيرانية ضد دول "الاعتدال" العربي؟!

إذن، فحرب غزة هي حرب بالوكالة لا شأن لها بالمقاومة والاحتلال! لا بأس إذن، ولكن أفيدوني: إذا كانت المقاومة الفلسطينية في غزة هي الوكيل الإيراني في هذه الحرب، فمن وكيل دول الاعتدال المستهدفة فيها؟ إذ لا نعلم أن صواريخ حماس قد سقطت في أرض عربية.

هل نفهم إذن من هذا المنطلق العقلاني أن "الكيان الصهيونى" هي وكيل أطراف "الاعتدال"، وأن استهدافها بصواريخ حماس كان في باطن الأمر استهدافا لتلك الأطراف؟! هل بلغ الأمر بهذا المنطق "العقلاني" أن يماهي بين الكيان الصهيونى ودول الاعتدال؟ فأي دعاية أفضل من هذه لإيران ولأطراف الممانعة؟ وأي دعاية أقبح من هذه لدول "الاعتدال"؟! ما لكم كيف تحكمون؟!!

المقاومة = إيران وأطراف الممانعة.

الكيان الصهيونى = محور الاعتدال العربي.

أهذا ما ترغبون في تأكيده لنا؟ مرحى إذن! قد وصلت الرسالة! فمن حيث أردتم الطعن في المقاومة الفلسطينية في غزة بإحالتها إلى إيران وأجندتها لا إلى دواعي المقاومة المشروعة للاحتلال الغاشم، عظمتم الموقف الإيراني حين أحلتموه إلى المقاومة، وأحلتم أنفسكم إلى العدو الإسرائيلي الأميركي.

نعم، اغتصاب الوطن واحتلاله والتجويع والتركيع والإبادة الجماعية والتشريد واستهداف الأطفال والنساء والمدنيين على مدى ستين سنة ونيف، ليست أسبابا كافية للمقاومة. ولكن المقاومة اختراع إيراني خالص لا يواجه إسرائيل إلا بقدر ما يواجه محور الاعتدال!

إلى هذا الحد ينحط خطاب العقلانية والاعتدال ليرتد على نفسه، وهو يحاول أن يُجهز على نظام المعاني التحررية، ليكرس خطاب الإذعان والاستسلام.

نعم، لم يدخر الخطاب السياسي الإسرائيلي الصهيوني أثناء عدوانه النازي على غزة جهدا في التماهي مع خطاب الاعتدال العربي، ليتخذ منه ستارا أخلاقيا يسوغ العدوان. فيتوالى المسؤولون الإسرائيليون من بيريز إلى أولمرت إلى باراك فليفني، على التأكيد أن حربهم على غزة والمقاومة إنما تستهدف المشروع الإيراني في المنطقة وأنها لا تتجاوز موقف الاعتدال العربي المهدد بالمشروع نفسه، ولا تتعدى موقف الشرعية الفلسطينية ممثلا بعباس والسلطة.

ثم إذا سكت صوت المدافع لم يتوانَ أولمرت على الإعلان أن الحملة الإسرائيلية (على أطفال غزة ونسائها) قد أضعفت قبضة حماس لصالح تقدم السلطة الفلسطينية فيها! وفي أثناء ذلك كله لم نسمع من عباس ومن حوله عبارة واحدة تعترض على هذه المسوغات الإسرائيلية التي تحتمي أخلاقيا بظهورهم.

ألا يصح القول إذن: إن الكيان الصهيونى أراد القضاء على حماس، فلم تصب من حماس والمقاومة بعض ما أصابت من عباس والسلطة التي تعمدت أن تتماهى معها دون اعتراض!


ما لكم كيف تحكمون!

لا بأس إذن. المقاومة التي أمرت بها السماء وأقرتها الشرعة الدولية الأرضية للشعوب التي تتعرض للاحتلال، هذه المقاومة عبثية في الحالة الفلسطينية، وهي تقضي على فرص البديل الممكن: السلام والعملية السياسية! وهذا يفترض ضمنا أن العملية السياسية كانت، والحمد لله، تجري على قدم وساق وتتقدم نحو غايتها المنشودة: انسحاب المحتل من الأراضي التي احتلتها الكيان الصهيونى عام 1967، وقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، وضمان حق العودة، وتفكيك المستوطنات، وسيادة الدولة الفلسطينية على كامل أراضيها ومعابرها. وكل ذلك وفق قرارات الشرعية الدولية التي أسهمت فيها نفس القوى التي صنعت إسرائيل ابتداءً ثم جعلت انحيازها المطلق لها إستراتيجية ثابتة.


هل كان هذا هو الحال حقا قبل أن تنطلق صواريخ حماس "العبثية" بأمر إيراني؟ إن لم يكن قد أصاب الخلل ذاكرتنا فإن العملية السياسية قد بدأت منذ التسعينيات، وترجل الفرسان عن خيولهم فوضعوا السلاح وجنحوا للسلم بعد أن تنزلت عليهم لحظة التنوير الأميركي وانقشع الوهم السوفياتي، وذهبوا إلى أوسلو، مرة بعذر المضطر، ومرة بعذر العمل المرحلي، ومرة بعذر تأمين موطئ قدم في الوطن المحتل للانطلاق منه إلى إنجاز آخر، في زمن آخر تعتدل فيه الموازين، ومرة بعذر العجز العربي المؤبد وإسقاط خيارات الحرب، ومرة بعذر الواقعية السياسية التي تسترشد بالعبارة المأثورة "السياسة فن الممكن" ومعناها الحقيقي "ليس في الإمكان أبدع مما كان" (مع تجاهل أن السياسة أيضا هي فن صنع الإمكان، بل مع تجاهل أن أصل الداء وأس البلاء هو غياب الإرادة العربية السياسية لاستخدام الممكن فعلا)، ومرة بدعوى أن المقاومة لا تنحصر في الجانب العسكري، وأن لها أشكالا أخرى كالعمل السياسي، أو "الاشتباك السياسي" كما يُفضل المتنورون الواقعيون الجدد، ليوهمونا بأنهم قد انتقلوا من شكل من أشكال المقاومة إلى شكل آخر!


ومهما تكن الدواعي والتعّلات، فأين انتهت أوسلو؟ أفيدونا أيها الناس! وكيف انتهى ياسر عرفات –رحمه الله–؟ ألم ينته بأن ألزمه شريكه في أوسلو وفي العملية السياسية وفي نوبل غرفة واحدة في مقره محاصرا بالدبابات والجرافات الإسرائيلية؟ ألم ينفض شريكه يَده من يده معلنا أنه لم يعد شريكا مقبولا في العملية السلمية؟ ألم يضغط لنقل جزء من سلطاته بوصفه رئيس السلطة إلى رئيس وزرائه عباس باعتباره الشريك البديل المقبول، ثم إذا يأس من ذلك أرسله إلى حتفه على الأرجح؟ وفي كل هذه الأثناء ألم تتوسع المستوطنات وتتضخم لاغتيال آخر وعود أوسلو مع اغتيال الشريك الفلسطيني الأول فيها؟


لا بأس. ربما كان الحق على ياسر عرفات –رحمه الله- لأنه لم يستفد من الفرص المتاحة، ولم يقبل أن ينزل عن الحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية (حسب تعريفات قرارات الشرعية الدولية) وظن أنه قادر على التشاطر على الشريك الإسرائيلي في العملية السياسية. هكذا قال لنا منظرو الواقعية السياسية الجديدة، وبعضهم من رجال السلطة الأكثر استنارةً وعقلانيةً وواقعيةً.

ذهب ياسر عرفات. وجلس مكانه من أعلن "الكيان الصهيونى" والولايات المتحدة أنه الشريك المعقول لولا تعطيل عرفات له، وأنه البديل الأكثر زكاةً وأقرب رُحْما. فماذا أعطته إسرائيل وقد صار رئيس السلطة الشرعي، لتحرج دُعاة المقاومة وتسقط دعاواهم وخطابهم "المتطرف"؟

أفيدونا أيها الناس! ماذا أعطته إسرائيل، قبل أن تحمل العملية الديمقراطية والانتخابات الحرة النزيهة "حماس" إلى المجلس التشريعي والحكومة الفلسطينية؟ إذا لم يكن ثمة خلل في الذاكرة فإننا نتذكر أن "إسرائيل" قد أعلنت في وقت ما أن من كانت تراه في الأمس رجل السلام المعقول وشريكه الصادق، ليس حقا كما كانت تتوهم، وأن أملها قد خاب فيه طالما أنه لم يقدم استحقاق الشراكة وشهادة حسن السلوك بالقضاء على المقاومة المسلحة والعمليات الاستشهادية: رأس "يحيى" المقاوم عند أقدام سالومي مقدمة شرطيّة لشهادة حسن السلوك من "إسرائيل".


أين هي إذن تلك العملية السياسية التي كانت تتقدم نحو غايتها كي تتحمل المقاومة تهمة الإطاحة بها؟

أليس الأصح أن المقاومة قد اكتسبت المزيد من المسوغات والدعم الشعبي نتيجة لإخفاق العملية السياسية، الأمر الذي يحمل الكيان الصهيونى تراجع نهج السلطة السياسي أمام نهج المقاومة، ومهّد من ثمَ لفوز حماس بالانتخابات التشريعية إضافة إلى أسباب أخرى كثيرة، وهي الانتخابات التي شهدَ لها العالم بأنها كانت الأكثر حرية ونزاهةً في أقطار الوطن العربي، وعبر الشعب الفلسطيني عن إرادته عبر صناديق الاقتراع التي ما فتئت أميركا تضفي عليها معنى مقدسا في سياق حربها على التطرف والإرهاب.

وكان ما هو معلوم، ووصلت حماس إلى الحكومة. وعلى الفور أغلقت الولايات المتحدة كتاب الديمقراطية المقدس، وتنكرت لخيار الشعب الذي ذهب إلى صناديق الاقتراع وهو يعلم من هي حماس ومن أين جاءت وما هو برنامجها وخطابها ومرجعيتها المبدئية. وبدأ التواطؤ فورا بين الولايات المتحدة وإسرائيل وأوروبا وأطراف فلسطينية، مع الأسف، لإسقاط نتائج العملية الديمقراطية ومعاقبة الشعب الذي لم يعرف كيف يختار ومن يختار!

إسرائيل تعتقل جملة من أعضاء المجلس التشريعي المنتخب عن حماس ومن بينهم رئيس المجلس، والمساعدات تتوقف، ويبدأ الضغط الإسرائيلي والدولي لانتزاع جزء من مسؤوليات الحكومة وثقلها إلى مؤسسة الرئاسة (السلطة).

أي مفارقة أو مفارقات! في أثناء رئاسة ياسر عرفات، ينشأ ضغط لتوسيع سلطات رئيس الوزراء "عباس" من حساب الرئيس. حتى إذا ذهب أبو عمار –رحمه الله– وصار عباس رئيسا، يكتشف الكيان الصهيونى أنه ليس الشريك الذي كانت تؤيده، ثم إذا صعدت حماس إلى الحكومة، صار لا بد من توسيع سلطات الرئيس ولا سيما في المجال الأمني من حساب رئيس الحكومة وحكومته! وبين هذا وذاك، لا شيء للعملية السياسية سواءً أكان عباس رئيس حكومة أم رئيس سلطة، والعصا الغليظة لغيره سواءً أكان رئيسا للسلطة (أبو عمار) أم رئيسا للحكومة (هنية).

الخيار إذن بين أن يكتفي الكيان الصهيونى بألا يعطيك شيئا في خط العملية السياسية (إذا كنت ملتزما بها) وبين أن تهدم السقوف على رأسك ورؤوس شعبك إذا تمسكت بنهج المقاومة في ظل إخفاق العملية السياسية! فأين تذهبون؟

وفي الوقت نفسه، بدأت عملية انقلاب غير منظورة ضد حكومة حماس المنتخبة! نعم، كن متعاطفا مع حماس أو خصما لها، كن مع مبدأ حق المقاومة ضد الاحتلال أو كن ضده، ولكن كن منسجما على الأقل مع المنطق العقلاني الذي تحاصر به خصومك، ومبدأ الديمقراطية الذي تتعبد به، واعترف بالواقع الذي يشهد لنفسه.

نعم، بدأت على الفور عملية انقلابية من داخل أجهزة السلطة، ولا سيما الأمنية منها، ضد حكومة حماس المنتخبة. والعبارة الأخيرة تضمر هذه الحقيقة لمن ألقى السمع وهو شهيد، وتحلى بأقل قدر من الموضوعية والنزاهة والإخلاص.

فحين نذكر أجهزة السلطة في مقابل حكومة حماس، فما الذي تعنيه هذه الثنائية الشاذة؟ إن تعبير "أجهزة السلطة" في هذا السياق لا يحيل حقّا إلى مؤسسات الدولة العامة التي يفترض أن تديرها الحكومة، أي حكومة شرعية، حتى حين تتناوب الأحزاب على تشكيل الحكومات وفقا للعملية الديمقراطية: في كل مكان في العالم تأتمر أجهزة الدولة ومؤسساتها الأمنية بأوامر الحكومة الشرعية والإدارة السياسية العليا، وقد تتغير الحكومات في الدولة الديمقراطية، وتختلف برامجها السياسية، ولكن أجهزة الدولة ومؤسساتها تبقى خاضعة للإدارة السياسية الحكومية حسب القانون. فلا ثنائية بين الحكومة القائمة الشرعية وتلك الأجهزة والمؤسسات التي يتوجب عليها أن تنفذ أوامر الوزارات المعنية وتتصرف وفق قراراتها. أما الحديث عن السلطة وأجهزتها ومؤسساتها من جهة، والحكومة المنتخبة من جهة أخرى في الحالة الفلسطينية، فلا يفيد إلا بأن أجهزة السلطة وإدارتها ومؤسساتها، ومنها المؤسسات الأمنية، تمثل طرفا سياسيا أو حزبا أو فصيلا في مقابل الحكومة التي تمثل فصيلا أو حزبا أو فريقا سياسيا آخر.

وفي هذه الحالة المختلّة لا تأتمر إدارات الدولة بأمر الحكومة ولكن بأمر قيادة حزبها، وليس للحكومة الشرعية ولاية عليها في واقع الأمر. وهذا ما لا يقرّ به قانون في العالم. فلم إذن نلجأ إلى الانتخابات الديمقراطية ونقر مبدأ التناوب السلمي على السلطة، إذا كان المطلوب أن تأتي الانتخابات بمن يمثلون نفس الفريق الذي ينتسب إلى إدارات الدولة، وإلاّ فلا طاعة للحكومة المنتخبة.

هذا هو الخلل البنيوي الذي تأسس مع قيام السلطة ابتداءً، حين اختصت الإدارات والأجهزة الأمنية بفريقها الفتحاوي بصورة أساسية، ما قطع الطريق مسبقا على جدوى عملية ديمقراطية يمكن أن تأتي بفريق حكومي ينتمي إلى منظمة سياسية أخرى.

والآن، ما الذي يعينه -في كل أقطار العالم- أن ترفض إدارات الدولة المدنية والأمنية ولاية الحكومة الشرعية، وتسستقل بإرادتها متوجهة فقط بأوامر المنظمة السياسية التي تنتسب إليها؟ ماذا تفعل حكومة عربية أو أجنبية تتمرد على ولايتها وقراراتها إدارات الدولة الأمنية مثلا؟ ألا يُعدّ ذلك بمثابة انقلاب وخروج على القانون؟ ألا تحشد الحكومة في هذه الحالة كل ما تستطيع حشده من مؤيديها في المؤسسة العسكرية لإخماد الانقلاب، فإذا أخفقت لجأت إلى المؤسسات الشرعية الدولية لإعانتها على المتمردين؟!

من المتوقع في هذه الحالة الفلسطينية الفريدة التي نشأت عقب تولّي حماس الحكومة أن تبدأ حماس في إنشاء أجهزتها الأمنية الموازية التي تطيع ولايتها، كي يزداد الوضع تأزما ويتجه نحو الصدام والتفاصل المدمّرين.

وإذن فقبل الحديث عن انقلاب حماس في غزة يجب أن يجري الحديث عن انقلاب أجهزة السلطة الأمنية على ولاية الحكومة المنتخبة. فكان لا بد أن يفضي ذلك إلى الصدام والتفاصل على نحو ما جرى في غزة. وكان هذا ما ترغب به الكيان الصهيوني والولايات المتحدة لشق الصف الفلسطيني وتسويغ الحصار المدمّر على غزة والتواطؤ الدولي والإقليمي على الحكومة المنتخبة والمقاومة بصفة عامة، بمعاذير جديدة تتستر بشرعيّة السلطة وشرعية الرئيس وتجتهد في أن تتماهى معها وتسوّغ ممارستها القمعية بها، وتتباكى عليها وتخفّ لدعمها.

وفي هذا السياق بالضبط يتم تغيير خطوط جبهات الصراع. فبدلا من أن تكون المفاصلة بين قوى الاحتلال والاغتصاب (الكيان الصهيونى) من جهة، والشعب الفلسطيني المقاوم للاحتلال بكل أطيافه وفصائله من جهة أخرى، تصبح القسمة بين تيارات المقاومة (الموسومة بالتطرف والتشدد والإرهاب) من جهة، وقوى السلام والاعتدال التي تجمع قسرا إسرائيل مع السلطة من جهة أخرى.

وربما لم تكن السلطة راغبة في هذا التماهي، ولكنها تركت لإسرائيل والولايات المتحدة والأطراف الإقليمية المتواطئة أن تجرها إلى هذا الوضع.

وإذ إن الخلاف الإقليمي العربي والإسلامي قائم أصلا، يصبح بالإمكان توسيع القسمة الجديدة لتصبح بين محور الممانعة الذي يضم إيران وسوريا وحزب الله والمقاومة الفلسطينية في جبهة واحدة، وبين محور "الاعتدال" المعروف الذي وجدت أطراف عربية نفسها تجتمع فيه مع السلطة وإسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا، من جهة أخرى.

لا أحسب أن العدو الصهيوني قد حقق اختراقا عربيا أعظم من هذا. خرج الكيان الصهيوين من وضعه بوصفه الجبهة المعادية لمجمل الجبهة الفلسطينية والعربية والإسلامية، لتصير جزءا من قسمة إقليمية أوسع تضعها في نفس الخندق مع أطراف عربية وفلسطينية.

الصراع لم يعد بين المشرع الصهيوني الإحلالي الاستيطاني (الموظف أصلاً ضد مجمل الأمة العربية ومصالحها، فضلا عن اغتصابه وطنا عربيا واحتلال أراضيه وتشريد شعبه وتجويعه وذبحه) وبين الشعب الفلسطيني المكافح من أجل حقوقه الشرعية –حتى في إطار تعريفات الشرعية الدولية– ومعه أمته العربية المستهدفة عامة بالمشروع الصهيوني الإمبريالي، وإنما الصراع الآن كما استدرجتنا إليه إسرائيل وأميركا هو بين محور التطرف الفلسطيني والإقليمي المعادي للسلام، ومحور "الاعتدال" العربي والفلسطيني العقلاني المحب للسلام والمعادي للإرهاب والتطرف: صراع إقليمي عام يختزل في ثنائية التطرف والاعتدال، بدلا من ثنائية الاحتلال ورفض الاحتلال، أو ثنائية المشروع الصهيوني المعادي لمجمل الأمة، ومشروع النهوض العربي والإسلامي المعادي لمشاريع الهيمنة الإمبريالية ووكيلها الصهيوني في المنطقة.

حرب-غزة.png

مع هذا التحول، يصبح بالإمكان إذا اصطدمت المقاومة وشعبها المظلوم بقوة الاحتلال الصهيوني، أن نغفل الحديث عن دور الاحتلال والتعنت الإسرائيلي باعتبارهما رأس الداء وأس البلاء في توفير أسباب المقاومة الشرعية، وأن يتحدث المعتدلون العقلانيون الواقعيون(!!) بدلا عن ذلك عن دور التطرف الذي تقوده إيران وسوريا في زعزعة أمن المنطقة خدمة لأجندتهما السياسية الموجهة، لا ضد إسرائيل، ولكن ضدّ أطراف "الاعتدال" العربي.

فإذا شنّت الكيان الصهيونى عدوانه النازيّ على غزة، رفعوا عقائرهم بالصياح: هذه إيران من جديد ومعها سوريا، ممثلتين في المقاومة وحماس التي افتعلت –حسب هذا المنطق– الصدام. ومن جديد، ضد من "افتعلته" حماس السورية الإيرانية إذا كان الطرف الآخر في الميدان هو إسرائيل"؟!

نعم.. ضدّ محور الاعتدال الذي قضت الظروف أن تمثله "الكيان الصهيونى" في ميدان المواجهة نيابة عن الأطراف العربية والفلسطينية المنسوبة إلى هذا المحور!!؟

ومن جديد: أهذا خير ما يصنعه ممثلو "الاعتدال" وأبواقهم الإعلامية في الترويج لأنفسهم والطعن في محور الممانعة أو "التطرف" حسب تعريفهم، وبخاصة إيران وسوريا؟ ألا يلحظ رئيس السلطة أن مدافع إسرائيل قد هدمت المباني في غزة، نعم، ولكنها هدمت معها –لا المقاومة- وإنما صورته ومصداقيته والمعاني التي يعرف نفسه بها؟


ما لكم كيف تحكمون!

وفجأة يكتشف إعلاميو العار العرب مدى انتمائهم الروحي العميق للعقيدة الإسلامية السنية وخشيتهم على مصير العالم السني من التمدّد الشيعي الإيراني.

دع عنك ما هم عاكفون عليه من كؤوس الخمر وكتب الحكمة الأميركية والصهيونية المقدسة، وخلواتهم التعبدية في الحانات والنوادي الليلية، وصيحاتهم المنكرة في كل حين ضد كل ما هو إسلامي يفضلون وصفه "بالإسلاموّية" تهزيئا وتبخيسا، وضد كل ما هو عروبي يفضلون وصفه "بالقومجية" تهزيئا وتبخيسا، وضد كل ما هو عدالة اجتماعية يفضلون وصفه بالاشتراكية الغاربة الملوثة بذاكرة القمع البوليسي والحكم الشمولي، وضدّ كل ما هو مقاومة للظلم والاحتلال، يفضلون جمعه في سلة واحدة مع الإرهاب والتطرف اللذين يحيلونهما إلى أسباب ثقافية عقدية، بدلا من السياسات الظالمة التي وظفوا أنفسهم لخدمتها وتسويقها.

ودع عنك تلويثهم المنهجي المتعمد لمعاني الجهاد –ذروة سنام الإسلام– حتى صارت كلمة "جهاديين" مرادفة باستعمالهم للإرهابيين.

دع عنك هذا كله، فإذا حمي الوطيس ووقع الاختبار ذكروا عقيدتهم السنية واستدعوا حميتهم الدينية السنية وصاحوا صيحتهم المنكرة: أصرفوا وجوهكم عن إسرائيل والولايات المتحدة إلى العدو الإيراني الشيعي، فهو الخطر الأعظم، وواجهوه بكل ما استطعتم، حتى لو كانت إسرائيل من وسائل الدفع والاستطاعة. واجهوه أينما ثقفتموه: في لبنان (حزب الله)، وفي فلسطين المغتصبة والمحتلة (حماس)، واقطعوا مع سوريا قطيعةً لا رجوع منها. وكل ذلك نصرة لدين الله!

ولا بأس في هذا السياق أن نضلل الناس بالقول إن حماس منظمة شيعية لمجرد أنها تتلّقى المعونة من إيران، بينما يعلم القاصي والداني أن حماس سنية خالصة لا تحيد عن سنيتها.

ولا أدري إذا كان يمكن تصنيف "شافيز" الفنزويلي المسيحي اليساري في خانة التشيع، طالما أنه ينحاز إلى محور الممانعة وإلى المقاومة الفلسطينية المحسوبة على إيران الشيعية!

ولكن أفيدونا أيها الإعلاميون العقلانيون الواقعيون المدرجون في قائمة العار الصهيونية، لماذا تطلقون صيحاتكم المنكرة ضد التمدد الإيراني الشيعي من خلال حزب الله والمقاومة الفلسطينية فضلا عن سوريا، ولا تطلقون مثلها ضد القوى العراقية الحاكمة الجديدة التي لا يخفى ارتباطها التاريخي والعقدي والسياسي بإيران!

لا، والذي بعث محمدا بالحق، ما أنتم بسنة ولا بشيعة، ولا بمسلمين ولا بعرب، ولا حتى بليبراليين مخلصين يؤمنون حقا بالديمقراطية والاحتكام إلى صناديق الاقتراع التي جاءت بحماس، فقد نجم نفاقكم في هذا الشأن حتى لا يخفى على أحد. بل أنتم صهاينة وحسب: نعم صهاينة عرب، ولا يوجه ردود فعلكم إلا ثلاثة عناوين:

-كره الإسلام والإسلاميين، حتى لو جاءت بهم صناديق الاقتراع. وإلا لماذا أعلنتم العداء ضد حماس منذ لحظة انتخابها، وقبل ما أطلق عليه "انقلابها في غزة"!؟

-بغض مفاهيم المقاومة والجهاد بإطلاق، حتى لو كان ذلك استجابة لتحدي الاحتلال والاغتصاب والقتل الجماعي.

-الولاء المطلق للبرنامج الأميركي في المنطقة حتى لو كان ضد حكوماتكم وأوطانكم.

وقد نضيف إلى بعض هؤلاء أو جلهم كراهة معلنة أو مضمرة ضد الشعب الفلسطيني المزعج الذي لا يرضى أن يموت بصمت، والذي تحرج ركلاته سياسات الإذعان والاستسلام، وتحرج قضيته العلاقات المقدسة مع الولايات المتحدة وتعرضها للاهتزاز. فمن يوالي سياسات الولايات المتحدة لا يمكن أن يحتفظ بالوقت نفسه بعقيدة العداء ضد المشروع الصهيوني والاحتلال، الذي هو ربيب الإمبريالية الأميركية ووكيلها المتقدم وحليفها الإستراتيجي.

لا نطلب من هؤلاء إلا أن تكون لهم الجرأة الأدبية فلا يموهون دواعي مواقفهم المعلنة لأنّها لا تنطلي على أحد، ليعلنوا بصوت واضح صريح: أنهم يميلون حيث تميل أميركا (وبالنتيجة إسرائيل) فيعادون من يعادونهما ويصادقون من يصادقهما. فهم معروفون بأعيانهم وعقائدهم السياسية الفعلية وبغضهم للإسلام على الجملة، سوءا أكان في إطار سني أم شيعي.

ومن قبيل النكتة السمجة أن يستدعي بعضهم فتاوى تحرم استعمال صفة الشهداء إلا على من شهد له الله ورسوله، وهم أشد الناس عداوة لله ورسوله ثم لمشايخهم، ولم يفتؤوا يعرضون بهم في كل آونة.

فمن يُصَدّق أنهم قد بلغوا من التقوى ما يرفضون معه أن يتألوا على الله بمنح صفة الشهيد لأحد؟ ولا أحسب أن ثمة جدوى في أن نذكرهم بحقيقة لسانيّة دلالية مفادها أن للكلام مقاصد غير المعنى الظاهر، وأن الألفاظ تكتسب دلالات مختلفة في سياقات مختلفة، وأن معنى الشهيد مثلا في الاستعمال السياسي العام غيره في المصطلح الشرعي الفقهي المحدد، وأن استعماله في الحالة الأولى لا يُقصَدُ به تخصيص مقاعد في جنة أو فردوس أعلى، ولكن إلى موقف متعاطف منحاز إلى جانب المظلوم.

لا جدوى من هذه التذكرة. ففي أمثالنا الشعبية: "فالج لا تعالج". فهم يعلمون ما نعلم ولكنهم يخاتلون. وإن كانت العقلانية والاعتدال هما ما يدعون، حسب تعريفهم، فليذهبا إلى الجحيم. وإذ نعلم أن مصيرهما هناك مع قوى الإجرام والإجحاف والإبادة، فإننا على يقين أننا لا نتألّى على الله قيد أملة!

أما أنظمة الاعتدال فإننا نعتقد أنها مدينة لحماس بالشكر والامتنان. فقد أطاحت بوصولها إلى الحكم عبر الانتخابات الحرة النزيهة بأجندة التحول الديمقراطي بالمنطقة التي كانوا منها يفرقون، كلما لوحت بها الولايات المتحدة، قبل أن تكتشف هذه أن العملية الديمقراطية بالمنطقة هي أسوأ ما يمكن أن يحدث لها ولحلفائها فاطّرحتها وراء ظهرها، وكفى الله تلك الأنظمة الديمقراطية.

في محصلة الأمر، فإن العدوان الإسرائيلي على غزة قد كشف حقيقة الصراع الدائر منذ حين في الفضاء السياسي العربي: إنه صراع المعاني، أو الصراع على استملاك أنظمة المعاني التي تشكل الوعي العام، وتوجه فهمنا للواقع وتأويلاتنا لما يجري فيه، وتعريفاتنا لوقائعه، وهذه بدورها تحدد أنماط استجاباتنا لمؤثرات الواقع وتحدياته. بل هي حملة منهجية منظمة ما زالت تجري منذ كامب ديفد المصريّة وازدادت استعارا ووقاحة منذ أوائل التسعينيات، وهدفها اغتيال نظم المعاني التحرريّة وتلويث مفرداتها وتبخيسها وتدنيسها وازدراؤها وتحريف معانيها وتلبيسها بمعان مرذولة، وكل ذلك بدعوى العقلانية والواقعية السياسية.

فإن لم يؤدّ ذلك إلى تخلّي الناس عن تلك المعاني التحررية بإطلاق وتبني نظام المعاني البديل الذي يروّجون له، فعلى الأقل يدفعون بعض الناس إلى موقف دفاعي اعتذاريّ، يترددون معه في استعمال تلك المعاني التحررية أو يتحفظون في استعمالها، تخوّفا من التباساتها المفروضة قصدا، وخشية أن يتهموا بأنهم ما زالوا أسرى للخطاب القومي الانفعالي القديم أو الاشتراكي الغارب أو الإسلامي المتطرف، أو الإرهابي القائم.


حسب هذا الخطاب الذي يصف نفسه بالواقعية السياسية والعقلانية والاعتدال:

-لا تقل "العدوان الإسرائيلي" و"المشروع الصهيوني" الإحلالي الاستيطاني الاستعماري التوسعي، ولا تتحدث في المقابل عن اغتصاب الوطن الفلسطيني عام 1948، وعن حق الشعب الفلسطيني في كامل وطنه، ولو من الناحية المبدئية، لأن هذا كله يحيل إلى الخطاب العاطفي الانفعالي "القومجيّ" البائد الذي عفا عليه الزمن وتجاوزته الظروف، ولكن قل "إسرائيل" وحسب، ودون مزدوجتين.

-لا تقل "عرب" و"عروبة" و"وطن عربي"، وأقبح من ذلك أن تقول: قوميّة. فإن هذا كله يحيل إلى التجارب "القومجيّة" (لاحظوا الجيم المقحمة هنا للتبخيس والتدنيس)، الفاشلة، وخطابها العاطفي الغرائزي الفجّ، ونظمها البوليسية القمعية التي انتهت بنا إلى الهزائم والكوارث. ولكن قل منطقة الشرق الأوسط وحسب، التي تشمل أقطارا ناطقة بالعربية (ولكنها لا تشكل أمة) وأقطارا أخرى غير عربية، وفي مركزها إسرائيل.

-لا تقل "إسلاميّ"، إلا لتحيل إلى التطرف والإرهاب والتخلف، وتوظيف الدين لأغراض سياسية. والمفردة الأصوب: "إسلامويّ"، تبخيسا وازدراء. ولن يمنع هذا إعلاميي العار من أن يتناسوا هذا التوجيه الذي يدين توظيف الدين لأغراض سياسية، ليستدعوا بأنفسهم فتاوى تحرم الجهاد ضد الاحتلال بغير إذن ولي الأمر (!!)، وتحرم استعمال صفة الشهيد لضحايا الاحتلال، وتحرم صور الاحتجاج الشعبي بدعوى أنها تصرف عن ذكر الله وتفضي إلى الفتنة، وتحرم العمليات الاستشهادية بدعوى أنها عين الانتحار المحرّم. لا بأس في صحوة تقوى مفاجئة مؤقتة يوظف بها إعلاميو العار الدين لخدمة سياسات الاعتدال (الخنوع والتواطؤ). إنما المنهيّ عنه توظيف الدين لإذكاء روح المقاومة والجهاد ضد المحتل.

-وفي إطار تلويث معاني العروبة والإسلام، لا تقل: مقاومة وجهاد وعمليات استشهادية. فهذه مفاهيم ملوثة بالإرهاب والتطرف ومجافاة الواقعّية السياسية التي يفرضها الظرف. وهي ضد "الاعتدال".

(أما تعريف الاعتدال هنا فيوضحه السياق، إذ ليس أكثر من الانصياع للبرنامج الأميركي الصهيوني في المنطقة).

-لا تقل "إمبرياليّة" في وصف الولايات المتحدة فإن هذا يحيل إلى الخطاب اليساريّ الذي يفترض أنه انقضى مع انقضاء الاتحاد السوفياتي والثورة العالمية. (وكأنّ إمبريالية الولايات المتحدة مجرّد أسطورة متخيّلة صنعها الاتحاد السوفياتي في سياق الحرب الباردة. أما هذه الهيمنة الأميركية الدولية التي بدأت قبل نشوء الاتحاد السوفياتي، وأثناء وجوده وازدادت توحشا بعد انهياره، فلا تكفي لاستعمال صفة الإمبريالية).

-لا تقل عدالة اجتماعيّة ولا دولة رعاية اجتماعية، فإن هذا يحيل من جديد إلى "الاشتراكية" المدنّسة، في مقابل الاقتصاد الحرّ المقدّس (الذي يوشك الآن أن يودي بالاقتصاد العالمي إلى الهاوية).

-لا تفسّر ظاهرة الإرهاب والتطرّف تفسيرا يحيلها إلى المظالم الفاحشة التي اقترفتها وتقترفها الولايات المتحدة وإسرائيل والدول الكبرى، فإن هذا التفسير يعني التبرير. ولكن اكتف بالتفسير الذي يردّ هذه الظاهرة إلى عوامل ذاتية ثقافية تتعلق بالنظم التربوية الدينيّة والخطاب الإسلاميّ بعامة، وإلى غياب مفاهيم التعدديّة وقبول الآخر. ولذا فإن معالجة ظاهرة التطرف والإرهاب تتمثل فقط في إشاعة ثقافة التعددية. فالصراع ليس أكثر من صراع ثقافي حضاريّ خالص. وإذ هو كذلك، فإن الذي يتحمل مسؤوليته الكاملة، ليس الغرب الليبرالي الديمقراطي التعدّدي، وإنما هو الثقافة العربية الإسلامية السائدة التي تحتكر "صناعة الموت".

-ويفضل كذلك ألاّ تكثر الحديث عن الاحتلال بوصفه أصل الداء وأسّ البلاء. (فهذا يستدعي في المقابل تسويغ المقاومة، ويصرف التهمة عن حماس ودورها في تنفيذ أجندة إيرانية سورية ضد محور الاعتدال العربي، لا ضد الاحتلال!). وفي المحصّلة يجب أن يصور الصراع، لا بكونه صراعا بين قوة الاحتلال والاغتصاب، والشعب المنكوب المقاوم، وإنما هو أقرب إلى أن يكون نزاعا سياسيا على حقوق مختلف عليها، بين شعبين اتفاقا على أنهما يعيشان على نفس الأرض!

-نعم هذه بعض عناوين المعجم السياسي الليبرالي الأميركي الصهيوني الجديد في قلب الفضاء السياسي العربي، توظف له منابر إعلامية معروفة لا تسيء إلى الأمة العربية بأكثر من إساءتها لحكوماتها. فإن كانت بعض تلك الحكومات تتبرأ من هذه المعاني حقا، فإن عليها أن تتبرأ من هذه المنابر الإعلامية الصهيونية الناطقة بلسان عربي!

ونعم.. لقد كشفت حرب غزة عن هذا الصراع الأخطر بين نظم المعاني التحرريّة ونظم المعاني الأميركية الصهيونية المتقنّعة بدعاوى الواقعية والاعتدال.

وإذا كانت حرب غزة -في أحد وجوهها الأساسية– تعبيرا عن هذا الصراع، فإن الخاسر فيها –لا ريب- هو نظام المعاني الصهيونية الذي لم يحقق إلا الفضيحة والعار ولعنات الشعوب العربية التي خرجت إلى الشوارع لتجسّد إحياء المعاني التحررية التي تعرّضت لحملات التلويث والتدنيس والتبخيس عبر عقود.

على أن سكوت المدافع الإسرائيلية –مؤقتا– لا يعني سكوت أبواق الإعلام الصهيوني الناطق بالعربية، ولا حسم معركة المعاني المستمرة.

ولذا يتوجب على قوى التحرر العربي بكل أطيافها السياسية الإسلامية والقومية واليساريّة أن تستثمر هذا الظرف التاريخي لمحاصرة نظام المعاني الصهيوني الإمبريالي في خانة الدفاع والتبرير والاعتذار والتصاغر والتخفي والتخاجل الذي يليق بخطاب العار والتخاذل.

وهذا يقتضي من قوى التحرر العربي أن تتجاوز اختلافاتها الأيديولوجية لتلتقي وتعمل في مساحة واحدة وجبهة واحدة حسب القسمة الجديدة التي تفرضها ضرورات الواقع: جبهة المعاني التحرريّة وخطاب المقاومة، في مقابل الخطاب الصهيوني والأميركي الناطق بالعربية. ذلك أن الخصم واحد، والتناقض الرئيسي معه أولا وآخرا. أما الاختلافات الأيديولوجية فينبغي أن تتحوّل إلى تدافع بناء في استباق الخبرات ومواجهة العدو الواحد. وفي الوقت نفسه، فإن العملية الديمقراطية وصناديق الاقتراع هي الأسلوب المنظم الوحيد لتنظيم التدافع السياسي بين الاتجاهات المختلفة على نحو بناء، يجعل كل اتجاه شريكا في الرقابة والعمل السياسي سواء أكان في الحكم أم المعارضة.

وهذا يقتضي من جانب آخر، أن يعمل الجميع على استعادة نظم المعاني التحررية النهضوية ممن خطفوها وأساؤوا إليها في التجارب الماضية العمليّة، فقدموا بذلك المادة التي يتذرع بها سدنة المعاني الصهيونية الأميركية لاغتيال نظم المعاني التحررية.

يجب أن تحرر المعاني القومية التحررية من إرث الممارسات القمعية والدكتاتورية (والفاشية أحيانا)، ويجب أن تحرر المعاني الإسلامية ومعاني الجهاد والمقاومة من ملابسات التطرف والإرهاب والعنف العشوائي ورفض معاني التعددية والاختلاف، ويجب أن نحرر معاني العدالة الإجتماعية من إرث النظم الشمولية القمعية والبيروقراطية.

بل يجب كذلك أن نحرر المعاني الليبرالية القويمة ممن اختطفوها ليجعلوها مرادفة للإذعان، ويوظفوها في خدمة الإملاءات الأميركية، ويضعوها في جبهة معادية لكل معاني الجهاد والمقاومة والعدالة والنهوض، ثم لم يلبثوا أن أثبتوا نفاقهم الفاضح فلم يخجلوا من التنكر لها كلما حملت خصومهم إلى مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني عبر صناديق الاقتراع، فإذا كانت الليبرالية تعني الاحتكام إلى الشعب عبر صناديق الاقتراع، فقد علموا أنهم الخاسر الأكبر، وأن الشعب الذي خرج إلى الشوارع كان يحتج على أمثالهم بقدر احتجاجه على العدو الصهيوني!

كما يجب على قوى التحرر العربي أن تحيي من جديد التعريف الحقيقي لطبيعة المشروع الصهيوني، من حيث هو مشروع استعماري إحلالي استيطاني ينتظم في المشروع الاستعماري الإمبريالي الموجه ضد الأمة العربية بجملتها ومشروع نهوضها وتحررها من التبعية. فإذا كان كذلك، فإن الاستجابة ينبغي أن تتحدّد وفقا لطبيعة التحدي، فينتظم مشروع التحرير في مشروع النهوض العربي الإسلامي، ولا تنفصل قضية فلسطين عن عمقها العربي، ولا ينعزل هدف التحرير عن هدف التغيير بالضرورة التي يفرضها التحدي. وإن أحد أهم الأسباب في التراجعات العربية والفلسطينية هو الإخفاق في تجسيد هذه العلاقة الشرطية المتبادلة في إستراتيجية فاعلة، لأسباب كثيرة خارجية وداخلية لا مجال لاستعراضها هنا.

وأخيرا فإن على قوى التحرر العربي أن تستفيد من هذا المفصل التاريخي الذي هبّ فيه أحرار العالم كله ضد الجرائم الصهيونية، لتمد أيديها إليهم في جبهة عالمية جديدة منحازة إلى الحق، بغض النظر عن عرق أصحابه أو دينهم.

فكما أن الشرق العربي والإسلامي ليس ماهيّة واحدة متجانسة، فإن الغرب كذلك. وأزمة الرأسمالية المتوحشة الحالية تدفع في اتجاهات جديدة، تبحث عن صيغة متوازنة تجمع بين الديمقراطية الليبرالية السياسية، والديمقراطية الاجتماعية (أو العدالة الاجتماعية) بحيث لا يجني أحدهما على الآخر.


كلمة إلى الرئيس عباس

محمود عباس

كيف رضيت أن يستدرجك العدو الإسرائيلي إلى موقع تبدو فيه وكأنك تقدم خصومتك مع حماس على عداوتك المفترضة مع العدو الذي اغتصب واحتل وطنك وشرّد شعبك وارتكب في حقه أبشع الجرائم؟

كيف رضيت أن تجرّ إلى قسمة جديدة مفتعلة, فبدلا من أن تكون بين الاحتلال والاغتصاب من جهة, والشعب المنكوب بالاحتلال ومقاومته المشروعة من جهة أخرى, تصيرُ قسمةً بين قوى الاعتدال والسلام التي تجمعك في مركب واحد مع عدو شعبك ومغتصب وطنك إضافة إلى ما يوصف بمحور الاعتدال العربي من جهة, وبين المقاومة وقوى التحرر العربي ومعها جماهير أمتك العربية من جهة أخرى؟

كيف رضيت أن يتخفى العدو الإسرائيلي والجهات الإقليمية المتواطئة معه والولايات المتحدة وراء ظهرك لتبرير العدوان, معلنين بشكل واضح مريح أنهم جميعا يقفون وراء شرعية السلطة التي أنت على رأسها وأنهم يتقاطعون معك في العدوان على غزة وشعبها, شعبِك؟

كيف رضيت أن يعلن أولمرت عقب العدوان أنه أضعف قبضة حماس في غزة لصالحك, ثم لم نسمع منك رفضا احتجاجا؟!

كيف رضيت أن تساهم أنت وأعوانك في تقديم غطاء سياسي للعدو والعدوان من خلال التحريض المستمر على حماس بوصفها عصابات خارجة عن القانون, أو بالربط بينها وبين القاعدة, أو بوصفها بالإمارة الإسلامية الظلامية, أو بوصف المقاومة بأنها عبثية وانتحار ووصفة لإفناء الشعب, أو بتصوير المقاومة بأنها أداة إيرانية لأجندةٍ إيرانية تستهدفك وتستهدف محور الاعتدال العربي من خلال استهدافها لإسرائيل, أو بالإيهام بأن حماس وصواريخها هي التي افتعلت الحرب واستفز الكيان الصهيونى لردَة الفعل؟!

كيف رضيت -قبل ذلك- أن يشاهدك العالم عبر شاشات التلفاز مع أولمرت وهو يؤنبك لأنه لا يليق برجل السلام -الذي هو أنت- أن يلتقي سمير قنطار في لبنان, ثم لم يكن منك إلا هز الرأس مطأطئا نحو الأرض مع ابتسامة باهتة خجول؟! هل يليق هذا بكرامة شعبك وبكرامة الرئيس الذي يفترض أنه يمثّل شعبه؟!

وفي المحصلة: كيف رضيت أن تجهز إسرائيل على صورتك ومصداقية منهجك, حين كانت تهدم مباني غزة على رؤوس أهلها الأبرياء, وقبل ذلك حين أنكرت عليك استحقاقات العملية السلمية التي كان يمكن أن تدعم موقفك وموقعك؟!

نعم.. الكيان الصهيونى هو العدو الأوحد.. أيها الرئيس.. وإذْ أرادت أن تدمر المقاومة, فإنها لم تفعل أحسن من تدمير موقفك وموقعك.

ملاحظة: هذه الرسالة موجهة أيضا إلى قواعد فتح التي أطلقت شرارة النضال والكفاح المسلح, وقَدمت من التضحيات والشهداء ما ينبغي أن يكون إرثا هاديا مستمرا حتى تحرير فلسطين.


كلمة إلى حكومات الاعتدال

إن كنتم تخشون التمدد الإيراني في المنطقة حقا, فلماذا تحجمون عن التصريح الواضح بأن صديقتكم الولايات المتحدة هي التي مهدّت لإيران في العراق بغزوها واحتلالها له؟ ولماذا تقاعستم وتتقاعسون عن ملء الفراغات التي تبادر إيران إلى ملئها؟

إن كان التاريخ يعلمنا شيئا, فهو أن التصدي لعدو خارجي معتدٍ تجمعُ الأمة على عداوته, هو الذي يحسم موازين القوى في الجبهة الداخلية. فالطرف الذي يتخاذل أمام عدو الأمة يخسر معركته الداخلية أمام الفريق الذي يأخذ على عاتقه مهمة التصدي للعدو الخارجي ويحقق قدرا من الصمود والنجاح, حتى لو اختلطت عنده غايات المواجهة مع غايات السلطان والنفوذ.

فما كان بوسع عماد الدين زنكي وولده نور الدين أن يوحدا إمارات الشام تدريجا تحت سلطانهما, وأن يزيحا بذلك حكام الإمارات المحليين المتنازعين, لولا النجاح الذي حققاه في مواجهة الفرنج, بعد عصر طويل من الهزائم والتخاذل والتواطؤ والصراعات الداخلية المدمرة على الجانب الإسلامي, وذاك النجاح في المواجهة مع العدو الخارجي الغازي والمحتلّ هو الذي أدى إلى تحشّد الأمة حولهما شرطا لفوزهما في المعركة الداخلية.

وكذلك كان الحال مع صلاح الدين بعدهما. فما كان له أن يفلح في توحيد الشام ومصر إلاْ بالتعبئة المستمرة ضد العدو الخارجي. فكانت العلاقة بين التمكن في الجهة الداخليّة, والتمكن في الجبهة الخارجية علاقة شرطية متبادلة, بحيث يصبّ أحدهما في الآخر.

وفي المقابل كان سقوط الدولة الفاطمية وتفككها الداخلي نتيجة حتمية لعجزها عن صد الغزو الفرنجي إلى جانب عوامل داخلية أُخرى.

والآن ترون أن إيران تتوسّل دعم المقاومة والتصدي للمشروع الصهيوني الأميركي لتمكن لنفسها في الساحة الإقليمية على حسابكم.

لا بأس إذن. فلم لا تبادرون أنتم أولاّ إلى التصدي لعدو الأمة بما تملكون من أسباب القوة المتاحة, وهي موجودة وقائمة, لتقطعوا الطريق على إيران, وتملؤوا الفراغات التي تَرون أنها تتمدد فيها؟

وإن لم يكن في وسعكم أن تتصدّوا بالقوة العسكرية فلا أقل من الإرادة السياسية القوية الموحدة وأسباب القوة الاقتصادية والسياسية ودعم المقاومة, وفي أضعف الإيمان أن ترفضوا الانتظام في البرنامج الأميركي, وأن تقفوا على مسافات متساوية من الأطراف العربية الفلسطينية المحلية المتنازعة, لتتمكنوا من القيام بدوركم في رأب الصدع, وأن تحافظوا على خطاب سياسيّ يعتبر الكيان الصهيوني العدو الأول والنقيض الرئيس لمجمل أمتكم.

إذا كانت إيران تتمددّ في المنطقة, فإن مواقفكم السياسية هذه هي التي تمهد لها الطريق. ما زال الإعلام الموالي لكم يصيح في كل حين: إن حماس تتوجه بالأجندة السورية نظرا لوجود قيادتها في دمشق. وأي بأس في أن تكون في دمشق وهل رضيتم أن تحتضنوها في روحكم أولا إن كان وجودها في دمشق يزعجكم؟! ثم لا يفتأ الإعلام الموالي لكم أن يطعن في مصداقية حماس لأنها تتلقى المعونة من إيران, فهلا بادرتم الى المعونة, وأنتم أحق بها وأولى؟ أم أن الحال هو كما يقول المثل الشعبي: "لا أريد أن أرحمك, ولا أريد أن تأتيك الرحمة من غيري"! ولا يكون البديل المريح عن هذين الخيارين, إلا أن تزول حماس والمقاومة من المعادلة نهائيا!! ولكنها لا تزول. فأين تذهبون؟

وهنا نأتي إلى النصيحة الأخرى. فما زال الخطاب السياسي الإعلامي المعبّر عنكم, يتذرع بالواقعية السياسية. فليكن.. أليس من الواقعية أن تقروا بأن سوريا بلد عربي قائم وهام ولاعب رئيسي في المنطقة, وأنكم لن تستيقظوا في الصباح التالي لتجدوه مختفيا من الخريطة الجغراسياسية العربية وإلاقليمية.

وعليه, فبغض النظر عن خلافكم السياسي معه, أليس من الواقعية والمصلحة العربية المشتركة أن تفتحوا معه الخطوط وتنهوا هذه القطيعة ألتي أخرّت وما زالت تضر مصالح الأمة, وفيها مصالحكم؟

ألا يكمن جوهر السياسة الواقعية في تقدير المنافع والمفاسد وتقديم الأهم على المهّم ودفع الضرر الأكبر بالأصغر؟! كيف يدعونا الخطاب الإعلامي السياسي المحسوب عليكم إلى قبول إسرائيل باعتبارها أمرا واقعا, ثم يحض على القطيعة مع دولة عربية هامة كسوريا مهما تكن المعاذير والتعلات؟! وأين تقديم المصالح في المعيار الشرعي وفي معيار الواقعية السياسية معا؟!


كلمة إلى حماس

"اذكروا أيضا أنكم حركة مقاومة في المقام الأول, وأن المقاومة أهم من الحكم, ولا سيما في الوضع الفلسطيني الذي لا يمكن أن نتحدث فيه عن حكم حقيقي مستقل قبل إنجاز مشروع التحرير ودحر الاحتلال"

إذا كان العدوان الصهيوني الوحشي قد أصاب من خصوم المقاومة أكثر مما أصابكم, وأثار ردود فعل شعبية عربية وعالمية تصبُّ في صالح القضية الفلسطينية وتيار المقاومة، وحشد لكم المزيد من التعاون والتأييد, فإننا نتوجه إليكم بنصيحة خالصة صريحة, وملخصها ألا تفضي بكم هذه النتائج إلى حالة من الشعور بالرضا الذاتي والاغترار الفئوي والاستغناء بالذات عن الآخرين, والانفراد بالموقف والرأي, ومن ثم التشدد في التعامل مع الأطراف الأخرى الفلسطينية والعربية, حتى تلك التي خذلتكم ووقفت على الطرف النقيض!!

نعم, أعني السلطة الفلسطينية أيضا, على الرغم من كل ما قلناه في موقفها. ومن جديد نذكر بمبدأ تقديم المنافع على المفاسد, ودفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر, وتقدير المصلحة العليا للشعب الفلسطيني والأمة العربية. وهو مبدأ شرعي, فضلا عن كونه مبدأ هاما في العمل السياسي.

فكما أننا نطالب أطراف "الاعتدال" بالتعالي على خلافاتها الأيديولوجية والسياسية معكم, والتعامل معكم باعتباركم واقعا لا سبيل إلى تجاهله وتهميشه, فإننا نطالبكم بتجاوز جراحاتكم والتعالي على مراراتكم, والتعامل مع معطيات الواقع بما يخدم الغايات العظمى.

فمهما يكن من مواقف السلطة وسلوكها, فإن المصالحة الفلسطينية غاية لا يمكن التضحية بها بغض النظر عن توزيع المسؤوليات في أصل الخصومة والتدابر والقطيعة التي حاول العدو الإسرائيلي ومن وراءه أن ينفذوا من خلالها.

ولا يعقل إطلاقا أن تتأبّد القطيعة لتصل بنا إلى كيانين مستقلين: واحد في غزة وآخر في الضفة, فتلك غاية العدو الإسرائيلي, وهي بمثابة اغتيال للقضية, بل أذهب إلى القول إن الوصول إلى هذا الوضع يعني أن تحقق إسرائيل سياسيا ما عجزت عن تحقيقه بالعدوان الهمجي على غزة. فنكون بذلك قد أودينا بأي نتائج سياسية إيجابية خرجتم بها من هذا الاختبار الكبير.

وكما لا يمكن واقعا تجاهلكم, لا يمكنكم واقعا تجاهل السلطة. اتركوا للشعب والأمة أن تحاكم سلوكها. وإذا كانت قد قدمت خصومتها معكم على خصومتها مع الاحتلال, فلا تنجروا إلى موقف شبيه. إذ تبقى مواجهة العدو الإسرائيلي هي الفيصل الذي تتكيف وفقه أيّ مواقف أخرى, ويبقى الاحتلال هو الضرر الأعظم الذي تدفع به الأضرار الأخرى.

واذكروا أن السلطة تنتمي بصورة رئيسية إلى ما هو أوسع وأهم وأعظم منها, "حركة فتح". ومع ذلك فإن من الخطأ الفادح المطابقة بين السلطة وفتح, وتجاهل أهمية فتح وتاريخها ودورها الرئيسي ماضيا وحاضرا نكاية في السلطة التي تنتمي إليها. إذ نعلم أن الفئة المحدودة في السلطة لم تعمل فقط على تهميش دوركم وإنما عملت أيضا على تهميش شطر هام من قواعد فتح الوطنية المخلصة التي نعتقد أنها ما زالت تفور بروح المقاومة.

فلا تغربوا هذه القواعد بقطع الخطوط والتفرد وتكريس القطيعة والتدابر وتجاهل الضرورات القصوى للمصالحة الوطنية, التي تقتضي منكم المرونة والسعة وتجاوز الروح الفئوية.

وإذا كان هذا يصحّ مع الخصوم السياسيين بحكم الضرورة, فإنه أجدر بالفصائل والقوى السياسية الأخرى ألتي وقفت معكم في خندق واحد أو التي لم تتورط -على الأقل- في الانحياز ضدكم أو ضد مبدأ المقاومة. فحقيقة أنكم الحركة الأكبر يجب ألا تغريكم إطلاقا بالتفرد دون الآخرين, أو تجاهل شراكتهم ودورهم أو تهميشهم فيما يأتي من العمل والنشاط السياسيين, الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى انقسامات في جبهة المقاومة تطعن في مصداقية الجميع, وتعطي خصوم المقاومة الحجج التي يرغبون فيها.

واذكروا في هذا السياق أن حيّز المقاومة أوسع وأهم من أي فصيل عامل فيها مهما يكن حجمه وثقله, وأن الحركة وسيلة موظفة لفعل المقاومة وغاياتها، ولا يحسن توظيف فعل المقاومة وإنجازاتها لصالح تفرد فريق وتسلطه على القرار.

واذكروا كذلك أن معركة غزة لم تدر في غزة وحدها ولم تشترك فيها فصائل المقاومة المسلحة وحسب، بل دارت في مساحة الوطن العربي وامتدت إلى الساحة الشعبية العالمية. والجماهير العربية التي خرجت إلى الشوارع بمستوى غير مسبوق كانت شريكا رئيسيا في المعركة ونتائجها, وهي لم تقتصر على الإسلاميين وإنما شملت جميع أطياف القوى التحررية المستقلة وغير المستقلة التي التقت في ساحة المقاومة بغض النظر عن تقسيمات الدين والطائفة والأيديولوجيا والقطر.

وعليه ينبغي أن تتسع رؤيتكم على قدر هذه المساحة التي تسع أحرار الوطن العربي وأحرار العالم أيضا. واذكروا أيضا أنكم حركة مقاومة في المقام الأول, وأن المقاومة أهم من الحكم, ولا سيما في الوضع الفلسطيني, الذي لا يمكن أن نتحدث فيه عن حكم حقيقي مستقل قبل إنجاز مشروع التحرير ودحر الاحتلال. ترتيب الأولويات وموازنة المنافع والمفاسد, والاستهداء بالغايات والمآلات، هذه هي القواعد الهادية، كيلا تأسوا على ما فاتكم, ولا تفرحوا بما آتاكم.

وأخيرا, كما نطالب دول "الاعتدال" بأن تعيد النظر في مواقفها منكم, إن لم يكن بالاعتبارات المبدئية, فبالاعتبارات الواقعية, فإننا نطالبكم ألا تنجروا إلى معارك جانبية وألا تحرقوا المراكب مع أي قوة إقليمية عربية. فإن سامَكم أحد خطة فيها صلة الرحم والمصلحة, فأنتم أحق بها وأهلها. والسلام.


المصدر : الجزيرة.نت