صامد رغم أنف الطغاة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث


صامد رغم أنف الطغاة

بقلم: د. إيهاب فؤاد

لو حدثني أحد عنه، لقلت إنه ضرب من الخيال، ولو قرأت عنه لقلت، لقد بالغ الكاتب حتى يعطي القصة طابعًا مشوقًا، أما أن اسمعه بأم رأسي من بطل هذه القصة، وأراه بأم عيني وهو يحكي بعد مرور أعوام زادت على عمري في الحياة، فهذا ما لا يحتمل التأويل أو المبالغة، لقد جمعني الله تعالى به، لأسمعه يروي قصة تجسدت فيها الهمة بكل معانيها، ومضاء العزم بكل صوره، ومن قبل هذا التوكل على الله تعالى في كل أمره، وحسن تصريف الأمور وترتيبها، وسرعة البديهة.

لقد حوى صاحبها قلبًا رقيقَ المشاعر، لكنه قلب أسد لا يخاف الأهوال ولا المصاعب، لن أكون مبالغًا حين أقول، رجل استهان بالموت وجعله أمنية يرجوها، بل وعمل لها طوال حياته، عاش جنديًّا للدعوة، وقائدًا فذًّا، لا يعرفه الكثيرون، وطريدًا لأعوام تعاقب فيها رئيسان وتغيرت فيها حكومات، جدت في طلبه، وشُغلت بغيابه ولقد أجمل هذا حين قال لي، لقد كان أو ما يطلبه عبد الناصر من كل وزير يعينه للداخلية أن يأتي بي، لكن الله لم يحقق له ما أراد.

يقول حفظه الله تعالى، لم أبك في حياتي كلها، رغم المحن والابتلاءات، حتى حين مات الإمام البنا، تحجرت الدموع في عيني، لكنني بكيت مرة واحدة وستجدونها في ثنايا الحوار، استأذنته أن أكتب وأن يوقع لي على ما يكتب، لكنه الرجل الذي تمرس الكتمان، أبى وقال لي بالحرف الواحد، اكتب وقل إنني كنت جالسًا معه وقال لي هذا، استدرجته في الحوار وأثرت ذكرياته المشوقة وحكاويه التي معها يطير النوم، يودع إلى غير رجعه، كيف عاش هذا الرجل وبهذه الهمة العالية التي لم يفت فيها غياب الأهل، وفقد الأب ولوعة الأم، وإيذاء بلدته بأكملها من أجله، ولم تغيرها السنوات على طولها ولا المحن وهو الذي كانت ترقبه كل العيون وتتطلع إلى أن تعرف عنه ولو بصيصًا أو وميضًا، حتى يدلها عليه، لم تذرف عينه وهو يقول، لم يرحموا والدي الذي بلغ من العمر تسعين عامًا، وكانوا يربطونه في سيارة ثم يجرونه في القرية على الأرض وهو الرجل المسن دون رحمة أو شفقة، لكنها دعوته التي وهبها حياته وحياة أجيال تعلقت بالله ثم به، إنه دينه، لحمه ودمه.

وكأني بمصعب رضي الله عنه وأمه تساومه على حياته وتقول "لقد أقسمت أن لا أذوق طعامًا أو شرابًا وأن لا أستظل من حر حتى تعود عن دينك"، فيجيبها رضي الله عنه "والله يا أم لو كان لك مائة نفس، تخرج الواحدة تلو الأخرى، ما ردني ذلك عن دين محمد أبدًا"، هكذا، هانت أمام دعوته كل الابتلاءات، ولم يضعف حين استولوا على أرضه وبيته، لقد باع النفس لله، وهو وحده المكافئ، يقول حفظه الله وحين عدت للحياة من جديد لم أطالب أحدًا ممن أخذوا أرضي وبيتي بشيء، فقد كفاهم ما لاقوه من أجلي. إنه الشيخ الجليل الحاج فرج النجار، المولود في عام 1923.

الهروب من البطش

في عام 1954 م صدر قرار من أمريكا بتهميش الإخوان، وكان هناك مؤتمر بجامعة القاهرة مدعو فيه نوب الصفوي، وهو شخصية بارزة في إيران على خلاف تام مع أمريكا، فبعث عبد الناصر بقواته لمنع حضور هذه الشخصية وعرقلة المؤتمر، وبالفعل تمت مشاجرة بين الطلاب والأمن وأصدر عبد الناصر قراره بالقبض على المرشد و مكتب الإرشاد و الإخوان والاستيلاء على شركات الإخوان، فانطلقت المظاهرات.

وكان الجميع متعاطفين مع الإخوان.. الأمر الذي جعل أمريكا تقترح على عبد الناصر خطةً لتلاشي تلك الأزمة مع القضاء على الإخوان، وهي أن يفرج عن المرشد وتفتح المكاتب ويتصل عبد الناصر بالأستاذ عبد الرحمن الساعاتي شقيق الإمام البنا، ويذهبوا إلى قبر الإمام ليقرءوا له الفاتحة ويكون معه بطبيعة الحال الصحفيون والإعلام ليبرزوا هذا الموقف، وليظهر عبد الناصر بالطيب البريء كما حدث من قبل، وكأن ما حدث من قبل هو خطأ أفراد لا صلة ل عبد الناصر بهم. أراد أن يوهم الجميع أن الثورة و الإخوان يد واحدة حتى يغطي مكره بنا، ثم يدبر حادث المنشية ليخدع الشعب وتتاح له الفرصة للتنكيل ب الإخوان، يدبَّر ضد الإخوان، وجاء الأمر لي بالاختفاء لأني كنت المسئول عن الجهاز الخاص في الجماعة والمسئول عن التسليح، وأن أول من سيتعرضون لهذا البطش هم العاملون في هذا الجهاز، ومن هنا بدأت رحلة اختفائي. وبالفعل حُكم عليَّ من قبل عبد الناصر بـ30 سنة سجنًا مع الأشغال الشاقة.

في بيت وزير الداخلية

لقد ذكر الأستاذ حفظه الله تعالى، أنه حين صدرت له الأوامر بالاختفاء، اختفى في بيت وزير الداخلية، وكان من المقربين إلى عبد الناصر ، اختفى في بيته دون أن يشعر هو بهذا الأمر، يقول اختفيت لمدة شهر في مدينة شبين الكوم، ثم أخذت أتنقل من مكان إلى آخر دون أن يشعروا لمدة تقاربت من الواحد وعشرين عامًا، ولقد امتنع الشيخ حفظه الله حين داومت في الإلحاح عليه لمعرفة أين كان يختفي ورفض أن يذكر المكان بالتحديد.

الأسد في عرينه

لم تكد تهدأ الأمور حتى بدأ الشيخ يفقد الرغبة في الطعام حتى نحل جسده، يقول لقد كنت رياضيًّا، أجري خمسة عشر كيلو يوميًّا، وحين اختفيت ضعف جسدي، حتى نزل وزني إلى ثلاثين كيلو، فأدركت أنني سأموت، وكان معي أخوان في نفس المكان، فقلت لهما إنني أشعر أنني سأموت وهذا لا يهمني، إنما ما يهمني هو كيف ستتخلصون مني بعد موتي، لا أريد أن أسبب لكما أي إيذاء، يقول وأخذت أفكر في الأمر طويلاً، ماذا يفعلون بي بعد موتي، وكان هناك أخ يمتلك مزرعة وعنده سيارة، فقمت بعمل صندوق خشبي، وقلت لهما بعد موتي، ضعوني في هذا الصندوق، وأغلقوا بالمسامير جيدًا، ثم اتفقنا على إشارة تكون بينهما وبين الأخ، يأتي بسيارته ليأخذ الصندوق وقلت له ضعني في مكان ما وأهِلْ عليَّ رملاً كثيرًا، وأوصيت أن لا يُعلِموا أحدًا بموتي أبدًا مهما كانت الظروف حتى لا يستريح عبد الناصر .

وذات مرة، كنت وحيدًا في المكان الذي أنا فيه، وإذا بي أرى ثعبانًا ضخمًا أمامي، أخذ ينظر إليّ وينظر إلى مكان داخل الشقة، وكان جسدي قد ضعف كثيرًا حتى أنني لم أقوى على أن أقتله، وفجأة انصرف الثعبان وحين أتى الأخوان لي، قمنا ونزلنا إلى المكان الذي نزل فيه الثعبان، فلم نجد شيئًا وشاء الله أن أجد مساحة ما يقارب المتر أو يزيد، مغطاة بالخشب، فحمدت الله تعالى، وقلت لهما هذا المكان جيد، نزلت في المكان فوجدته المكان مناسبًا لكي أدفن فيه، فقلت لهما، إذا مت فادفنوني في هذا المكان، وضعوا عليَّ مِلحًا كثيرًا حتى لا تخرج رائحة وقلت لأحدهما "إذا مِت، خليك راجل وافتح بطني واملأها ملحًا"، يقول "فبكى الأخ" وشاء الله أنني حين رتبت أمر التخلص من جسدي بعد موتي استراحت نفسي، وبدأت صحتي تعود لي.

لا نأكل حتى نجوع

حين كنت أسمع عن أناس جل همهم الطعام والشراب، فقد كان الأمر عاديًا، فطبيعة البشر، هي الاستغراق في الشهوات والملذات، سواء كانت شهوة البطن أو الفرج، أما حين أسمع عن التقشف، فليس من سمع كمن رأى، لقد رأيته متمثلاً في شخصية هذا الرجل، يحكي أنه كان معتادًا أن يأتيه أخ يتابعه، يقول الشيخ لقد كنت أطلب منه أن يذهب لقضاء المناسبات مع أهله، وذات مرة أحضر لي طعامًا يكفي ليومين، فطلبت منه أن يذهب إلى أهله، فذهب وشاء الله تعالى أن يمرض هذا الأخ، ويغيب عني ثمانية عشر يومًا، أصيب بحمى، وأفاق بعد ثمانية عشر يومًا، يقول كان عندنا بعض الطيور في المنزل وكان هناك بقايا من الذرة، يقول كيلتين ذرة، يقول فقمت بوضع بعض الماء على بعض الذرة وقمت بتسخينه وأخذت آكل منه، وظللت على هذا الحال، أسخن الذرة وآكله، لمدة ثمانية عشر يومًا، قلت له وهل تأثرت صحيًّا بهذا؟، قال لا، لقد تحسنت صحتي وحمدت الله على هذا.

الله يرحمك يا فرج

يقول أجبر رجال عبد الناصر أمي على أن تأخذ العزاء في ليوهموه أنني مت، فقاموا بنصب سرادق، لتلقي العزاء، فقلت سوف أخرج اليوم، يقول الشيخ حين تشتد المحن لا بد أن تخلق جوًّا من المرح، حتى لا تشعر بألم المحنة، يقول تسللت إلى المقابر ليلاً، وأخذت أستمع إلى قارئ القرآن وهو يقرأ في السرادق المقام لأخذ العزاء فيَّ، فرفعت يدي إلى السماء وأخذت أقول "الله يرحمك يا فرج"، يقول لقد مضى على اختفائي سنوات وظللت خمسة عشر عامًا لم أر أمي، فقررت أن أراها، طلبت أن يُعد لي جملاً، وقمت بارتداء ثياب رجل بدوي، وضعت في فمي ما يغير صوتي، وذهبت إلى بيتنا ولم أدخل وجلست أمام المنزل، ثم ناديت على أمي حين رأيتها داخل المنزل، وقلت لها، أعطني رغيف خبز يا حاجة، فأعطتني، ثم بعد قليل قلت لها، أعطني قطعة من الجبن، فأعطتني، بقيت قرابة الساعة، أمام المنزل ولم تستطع أمي التعرف علي ولم أشأ أن أصافحها، لأنها ربما لا تقوى على ذلك، وهي التي أخبروها أنني قد مت، أو ربما يفتضح أمري ولم أصافحها، ثم انصرفت...

عندما يبكي الرجال

قال لي الشيخ حفظه الله تعالى، لم أبك في حياتي قط، رغم ما مر بي من محن إلا مرة واحدة، وكانت في الخامس عشر من يوليو عام ألف وتسعمائة وخمس وسبعين، يوم خروجي، يوم قررت الظهور منذ أن اختفيت عام 1954، لأنني كنت أستشعر معية الله تعالى معي طوال محنتي وحين قررت الخروج شعرت أن هذه المعية، ستنزع مني فبكيت.

ورود لا أحجار

قبل خروجي بأسبوع، ذهبت متخفيًا إلى بيت أخي ليلاً، ثم طرقت الباب فعرفني، فسلمت عليه وقلت له أرسل إلى أمك وإخوتك لأسلم عليهم، فجاءوا واتفقت معهم على موعد بعدها بأسبوع، يعدوا فيه سرادقًا، لعودتي، لقد كنت متوقعًا أن يلقاني الناس بالحجارة، فبسببي أُوذي الكثيرون، ولم يخل بيت لم يسجن فيه أحد بسببي، لكن المفاجأة أن الناس قابلوني بالأفراح وظل السرادق مقامًا لمدة أسبوعين لتلقي التهاني من الجميع.

زواج رغم أنفه

يقول لقد وهبت نفسي للدعوة، وقررت بعد خروجي أن لا أتزوج، لأنه كيف لي وأنا ابن الرابعة والخمسين أن أتزوج، وكان معي ابنة أخت لي، ظلت ترافقني بعد عودتي، وقالت لي لن أتزوج حتى تتزوج، فاستدرجتها في الحديث وقلت لها من قال لك هذا؟ قالت أمي وجدتي، قالتا لي أن أقول لك إنني لن أتزوج حتى تتزوج، يقول فأدركت كيد النساء، فقررت أن أتزوج، ورزقني الله تعالى بخمسة أبناء ذكورًا وابنة وهي في الصف الثالث الإعدادي، ولقد رأيت أحفادي، يقول ويوم عقد قران ابني ألحوا علي أن أقول كلمة، فنظرت إلى من يجلسون في نهاية المسجد، يراقبونني وقلت للناس "اللي وراكم دول ماكنوش عايزين أتجوز، بيقولوا إحنا ماقدرناش عليه، هانقدر على أولاده"، وتزوج الشيخ الفارس، الآخذ بعنان فرسه وأصبح مثلاً يحتذى في الهمة والنشاط، بارك الله تعالى في عمره، قلت له لقد مات عبد الناصر ، قال نعم، عبد الناصر كان عايزني حي، أهو مات وأنا لسه مامتش.. حفظ الله تعالى الشيخ.


كنت أشعر أن كل كلام أكتبه أو كل قصة أسردها عن الهمة والعزيمة تخلو من سيرة هذا الرجل ستكون عبثًا، وأجمل ما فيها أنها ولله الحمد واقعًا، حكاه صاحبه كما عايشه وسمعناه رحيقًا مختومًا، وهي قصة مليئة بالتوكل والعزم وصدق النية، وما زال عطاؤه رغم سنه لا ينقطع، ربما يحاضر لأكثر من ست ساعات يوميًّا، فببركة الهمة والنية الصادقة والإخلاص، يكون الجهد والعمل...