شهر رمضان.. حكم وأسرار

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لم تعد النسخة القابلة للطباعة مدعومة وقد تحتوي على أخطاء في العرض. يرجى تحديث علامات متصفحك المرجعية واستخدام وظيفة الطباعة الافتراضية في متصفحك بدلا منها.
شهر رمضان.. حكم وأسرار

بقلم:الإستاذ محمد مهدي عاكف

رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين

بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.. سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد!!

فلا ريبَ أنَّ في كل عبادةٍ شرعَها الله- تبارك وتعالى- حِكَمًا بالغةً وأسرارًا دقيقةً مَن أدركَها وتحقق بها- بجانب التزامه بالأحكام الظاهرة- ذاقَ حلاوةَ العبادة ولذةَ الطاعة، فتعلَّق قلبُه بها، واستزادت جوارحُه منها، وشعُر بالنعيم، فكأنه يعيش في الجنة وهو يمشي بين الناس، وهذا المجال- مجال الحكم والأسرار- يفتح الله تعالى فيه على كل عبدٍ بقدْرِ إقبالِه على ربه وتجرُّدِه له وشعورِه بجلالِه، ونحن في هذه الكلمة نحاول أن نُلقِيَ الضوءَ ونَلفتَ الأنظارَ إلى بعضِ هذه الحكم، راجين المولى- تبارك وتعالى- أن يفتح علينا وعليكم فتوحَ العارفين به من خزائن علمه وحكمته.

* أول ما يلفت أنظارنا في هذا الشهر أنه زاخرٌ بألوان العبادات والطاعات، وأنه مُضَاعَفُ الثواب والحسنات، فهو موسمٌ من مواسم الخيرات؛ ولذلك قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "ألا إن لربكم في أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها"، وهذا يدلنا على صفاتِ الله الرحيم الرحمن، الكريم المفضال، اللطيف الغفار، وربٌّ بهذه الصفات خليقٌ أن يُحَبَّ كلَّ الحب.. "أحبوا الله من كل قلوبكم" ﴿والَّذِيْنَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ﴾ (البقرة: 165) الحب الذي يدفع للطاعة والامتثال دفعًا، ويصرف عن الفسوق والمعصية صرفًا، فمن يحب صادقًا لا يعصي محبوبه أبدًا:

تعصي الإلهَ وأنت تزعم حبَّه

هذا لعمري في القياس بديع

إن كنت صادقًا في حبه لأطعته

إن المحبَّ لمَن يحب مطيع

* ومن حِكَم الصوم أنه يُعلي من شأن الروح وينتصر لها على حساب المادة؛ ليذكِّر الإنسانَ اللاهثَ طوال العام وراء مطالِب بدنه أنه ليس بالخُبز وحده يحيا الإنسان، ولكنه لا بد وأن يوازِن بين احتياجات كينونَتِه فيعطي لكل جانب منها زادَه: العقل يزوِّده بالعلم والمعرفة، والروح يزوِّدها بالعبادة والطاعة، والبدن يزوِّده باحتياجاته المادية، ومن ثمَّ تتوازن جوانب شخصيته فيعيش في سلام داخلي.

* والصوم مدرسةٌ للتربية والتهذيب، فإذا كان أساس التربية الإسلامية هو الإخلاص الكامل لله تعالى فإنَّ الصوم هو العبادة الوحيدة التي ليس لها مظهر خارجي، فهي كفٌّ وامتناعٌ، ومن ثمَّ كان مَن يؤديها لا يطلع عليه فيها غير الله سبحانه ولا يرجو أجرَها من غيره، وبالتالي يتعمق ركن الإخلاص لديه وتَقوَى ملكة مراقبة الله عنده وخشية الله في نفسه؛ ولذلك قال عز من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ﴾ (البقرة: 183)، ولذلك أيضًا نسب الله تعالى الصومَ لذاته الكريمة فقال "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".

* كما أنَّ الصوم من شأنه أن يقوِّيَ الإرادة والعزيمة، فالصائم الذي يمنع نفسه عن ضرورات حياته وشهواته بل يمنع جوارحه عمَّا يُغضب الله تعالى "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدَع طعامه وشرابه" بل يكظِم غيظَه ويكبت غضبَه ويحرِم نفسَه من الانتصار والثأر إذا جهل عليه جهولٌ ".. فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل، فإن سابَّه أحدٌ أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم" هذا الصائم هو الذي ملك زمامَ نفسه، وأفاد من منهج الصوم في تربية النفس، وكأنِّي بهذا المنهج يشبه تربية الرسول- صلى الله عليه وسلم- بمكةَ لأصحابه وهو يحضُّهم على الصبر على الأذى وكف اليد عن الانتصار للنفس.

* كما أنه شهر الصبر، فلا ريب أن حبس النفس عن ذلك كله إنما يحتاج إلى صبر جميل، وما أحوجَنا في أيامنا هذه إلى مدرسة الصبر هذه حتى نصبر فيها على ما لحِقَنا من أذًى وظلمٍ وحرمانٍ وافتراءٍ، ابتغاءَ وجه الله تعالى، متذكرين أجْرَ الصبر.. ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزمر: 10).. واثقين من نصر الله "وأن النصر مع الصبر".. راضين بقضاء الله.. متوكلين عليه ﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُوْنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُوْنَ﴾ (إبراهيم: 12).

لهذه الأسباب وغيرها قال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه".

وإذا كانت العبادة هي غذاء الروح ووسيلة التربية الإيمانية، فلا غروَ أن يسنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- قيام رمضان ليستشعرَ المسلمُ حلاوةَ المناجاة وطعمَ الخشوع لله بين يديه في جوف الليل، ولا غرابةَ في ذلك فقد كان قيام الليل هو السبيل الذي ربَّى اللَّهُ سبحانه عليه رسولَه- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يوم أنزل عليه في بواكير البعثة ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيْلاً* نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيْلاً* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيْلاً﴾ (المزمل: 1-4)، واستمرَّ على ذلك حتى أنزل الله عليه ﴿طَهَ* مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ (طه: 1-2)، وهو يقول: "أفلا أكون عبدًا شكورًا"، ومن ثمَّ جاء في الحديث الشريف "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه".

لقد اختصَّ الله تعالى رمضان بنزول القرآن فيه ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيْهِ القُرْآنَ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ (البقرة: 158) وفي ليلة منه عظيمة القدر؛ لكونها ظرفًا لهذا الحدث العظيم ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِيْ لَيْلَة الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ (القدر: 1-4).

وهذا الحدث يُثير في العقل عددًا من الخواطر وفي النفس جملةً من المشاعر، يذكِّرنا بالنبي- صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة وهو يتحنَّث في غار حراء، عازفًا عن الدنيا وباطلها، باحثًا عن الحق والحقيقة، ويذكِّرنا بفضل الله وهو يصل السماء بالأرض عن طريق أمينِه جبريل عليه السلام، حاملاً وحيَه وهدايتَه للناس أجمعين، ويذكِّرنا باللقاء الأول بين الأمينَيْن أمين السماء وأمين الأرض عليهما السلام؛ حيث لقَّن الأمين الأول الأمين الثاني باكورةَ القرآن ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِيْ خَلَقَ* خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ* الَّذِيْ عَلَّمَ بِالقَلَمِ* عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق: 1-5).

ويذكِّرنا بقيمة القرآن ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُوْرٌ وَكِتَابٌ مُبِيْنٌ* يَهْدِيْ بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيْهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ﴾ (المائدة: 15، 16)؛ ولذلك وجب علينا أن نحتفيَ بهذه الليلة احتفاءً يليق بها ونحرص على قيامها، كيف لا وقد جعلها الله خيرًا من ألف شهر، كذلك يتوجَّب علينا العناية بالقرآن في شهر القرآن عنايةً تفوق عنايتَنا به في غيره من الشهور مراتٍ ومراتٍ، ولا أقصد بالعناية مجرد التلاوة فحسب، ولكن أقصد كذلك التدبر والعمل والدعوة والتخلق بأخلاقه والسعي لإقامة شريعته في الناس.

والعبادات في الإسلام ليست أعمالاً روحانيةً فقط، ولكنْ لها أبعادٌ اجتماعيةٌ وسياسيةٌ، فمن الأبعاد الاجتماعية توحُّد الشعور بين المسلمين في نهار رمضان، فكلهم جَوعى ظامئين، الأغنياء والفقراء سواءٌ، الأمر الذي من شأنه أن يدفع الأغنياء لدفع غائلة العَوَز والحاجة عن الفقراء في كل الأوقات، كما أن في فرض زكاة الفطر أيضًا توسعةً على الفقراء في هذا الشهر، إضافةً إلى أن مسلك النبي- صلى الله عليه وسلم- في هذا الشهر، الذي يدفع أتباعه ومحبيه إلى الاقتداء به كان عظيمَ السَّخَاء، فقد روي عنه "أنه كان أجودَ الناسِ، وكان أجود ما يكون في رمضان، حينما يأتيه جبريل فيدارسَه القرآن، فلرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة".

ومن الأبعاد السياسية أن الفرائض الكبرى في الإسلام تظل قائمةً تتحدى عمليات التمزيق والتفتيت التي تعرَّض لها العالم الإسلامي إلى دول ودويلات، وتُذكِّر المسلمين جميعًا أنهم أمةٌ واحدةٌ ﴿وَأنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوْنِ﴾ (الأنبياء: 92)، وتُشعرهم بواجبهم إلى العمل لاستعادة هذه الوحدة مرةً أخرى، وأن أخوَّة الإيمان تفرض عليهم نصرة المستضعفين منهم وتحرير الأرض وتطهير المقدسات، فيجب علينا أن نعاون إخواننا في فلسطين والعراق والشيشان وكشمير وأفغانستان بكل ما نستطيع، ماديًّا ومعنويًّا، وأن نخلص لهم في الدعاء؛ حتى يتخلصوا من الاحتلال الغاشم الجاثم على صدورهم.

ولا ننسى أن رمضان كان ظرفًا للجهاد في أسمى صوره، ففيه انتصر المسلمون في بدر، وفُتحت مكة، وانتصروا فى حطين وحرروا القدس من الصليبيين ، ولا عجب فلن ينتصر المسلمون على عدوهم إلا إذا انتصروا على أنفسهم، ورمضان هو خير طريق للانتصار على النفس ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11).

نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم، ويفتح علينا وعليكم، وينصرنا جميعًا على أنفسنا وأعدائنا، وكل عام وأنتم بخير، وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .