سبعون عاما في حضن اللغة العربية 7
أ.د/جابر قميحة
مقدمة
في المدرسة الثانوية
الحلقة السابعة
بعد أن انتهيت من المرحلة الابتدائية بدأتْ في حياتي مرحلة جديدة هي المرحلة الثانوية .
كان ذلك عام 1948 . مدينة المنزلة ( بلدي ومسقط رأسي ) لم يكن بها مدرسة ثانوية ، وإن كان البناءون يضعون اللمسات شبه الأخيرة في المبنى الذي سيكون مدرسة ثانوية في العام القادم .
لذلك بدأتُ المرحلة الثانوية بالصف الأول في " مدرسة أحمد ماهر الثانوية الأميرية " بالمطرية دقهلية التى تبعد عن المنزلة بقرابة سبعة أميال ، وهي تقع على بحيرة المنزلة مباشرة ، ولم يكن بين مبنى المدرسة وشاطئ البحيرة أكثر من عشرين مترا .
كنت أسافر يوميا من المنزلة إلى المطرية بالقطار أو بالباصات أو تكسيات الأجرة ، ثم اضطررت إلى استئجار سكن متواضع في فترة الشتاء ، لأن الأمطار الغزيرة كانت تقطع الطريق بين المنزلة والمطرية .
وفي هذا العام تعرفت على الإخوة أعضاء شعبة المطرية وكنت أحضر جلساتهم ومحاضراتهم ، وأعجبني بخاصة الأخ الطالب الأزهري " محمد سيد أحمد الأزهري " ؛ فقد كان خطيبا مفوها ، متدفق البيان ، حاضر البديهة ، متواضعا ، طيب الخلق .
والشخصية الثانية الحاج محمود الجميعي ، وهو تاجر . وكنا قرابة ثمانية من طلاب المنزلة نجتمع في دكانه يوم الخميس من كل أسبوع بعد انتهاء الدراسة، وبإيمان قوي وشعور فياض كان يوجهنا إلى القيم الإسلامية والخلقية ، بأسلوب هادئ عاقل رزين .
وأذكر من كلماته العبارات ألآتية :
يا إخوان نحن بالدعوة كل شيء ، ومن غير الدعوة لا شيء .
حتى نؤمن بقيمة جماعة الإخوان علينا ألا نبحث عما قدمه الإخوان
للمجتمع المصري، فهو يمكن حصره وعدّه ، ولكن علينا أن نتصور
مصر " بلا إخوان " ... في هذه الحال ستكون مصر " مكشوفة " من
غير حصن ، ستكون مرعى لجماعات التبشير ، والإلحاد ، والإباحية .
الذين يكرهوننا تجدهم في أعماقهم يقدروننا. وقد سعدت بالأمس عندما
سمعت واحدًا من عامة الناس يقول لصاحبه " لقد تعاملت مع فلان
وزملائه في الشركة، فوجدتهم متعاونين متحابين زي الإخوان
المسلمين " .
علينا أن نتعلم التواضع من الإمام حسن البنا : كان إذا زار شُعَبة من شعب البلاد النائية، عرض عليه كل واحد من أعيان البلد أن يبيت في منزله، فيرد الدعوة في أدب ، ويؤثر أن يبيت في الشعبة كأحد الإخوان
أما مدرسة أحمد ماهر فقد كانت مدرسة نموذجية في كل شيء ، ويرجع ذلك بصفة أساسية إلى ناظرها " الأستاذ إمام ناصف " فقد كان عملاقا في كل شيء : في قامته ... في شخصيته ... في امكاناته الإدارية .
وكذلك يرجع الفضل إلى مجموعة من الأساتذة المتميزين ، ومنهم من أهل المطرية ثلاثة أشقاء من آل النجدي : محمد أستاذ اللغة العربية ، وعلي أستاذ المواد الاجتماعية ، ورفعت أستاذ اللغة الإنجليزية .
وكان أقدرهم وأحظاهم بحب الطلاب الأستاذ محمد النجدي .
وأبادر وأعلن إعجابي بطالب اسمه " محمد غريب الديب " ... كان موهوبا ، ولا يتحدث إلا بالعربية الفصحى في كل تعاملاته داخل المدرسة وخارجها . وأذكر من زملائي في هذه المدرسة سيد حجاب ( شاعر العامية المعروف ) ، والسيد الريس ، وعزت الريس ، وإبراهيم الريس ، وسيد الجيار ، وصلاح عزام ، وعلى عزام .
والحمد لله كنت متفوقا في اللغة العربية بصفة خاصة ، ومحبا للغة الإنجليزية ، ولكني كنت أكره اللغة الفرنسية ؛ لأنها تحتاج إلى رقة لا تتوفر فيّ لذلك كنت أسميها " اللغة الحريمي " وكنت إذا قرأت صفحات من الكتاب المقرر وعنوانه " mon livre ´" أقرؤها كما أقرأ الإنجليزية . ومن أساتذة اللغة العربية العظام الذين تأثرت بهم " الأستاذ عبد الجواد جامع " الذي كان في الحصة من أولها إلى أخرها لا يتحدث إلا بالعربية الفصحى ، كأنما يقرأ من كتاب ، ويطلب منا أن نتحدث بالعربية الفصحى بقدر ما نستطيع ، وكان هادئا وقورا طيب الخلق ، لذلك كنا نحبه حبا جما .
وكان من أجمل الحصص عندي حصة الرسم مع أني غير متفوق فيه وذلك لأن أستاذ الرسم كان يوجهنا إلى شاطئ البحيرة ليرسم كل منا منظرا يراه : فمنا من يرسم سفينة شراعية ، ومنا من يرسم صيادين يلقون بشباكهم ، ومنا من يرسم جانبا من جوانب البحيرة الممتدة .
وانتهى هذا العام على أحسن ما كنت أتمنى ، وكانت مدرسة المنزلة قد فتحت أبوابها لتلاميذ الصف الأول والصف الثاني فقط ، فالتحقت بالصف الثاني ، وكان هذا مبعث استقرار مكنني من أن أستغل وقتي استغلالا طيبا . كان مدرس اللغة العربية " محمد جلال " وهو من المطرية يعمل بضمير حي ، وحماسة هادئة ، وكان يختارني دائما لكي أقرأ القراءة النموذجية في حصة النصوص وحصة القراءة ، وكان الرجل معجبا جدا بكتابتي في موضوعات التعبير ، وكان يشرح الموضوع في حصة التعبير الشفوي ، ويكلفنا بالكتابة فيه في منازلنا ، وأذكر أنه كلفنا بكتابة موضوع في " أملك في الحياة ، والوسائل التى تستطيع أن تحقق بها هذا الأمل " . وكنت مشبع النفس إلى حد كبير بكتابة الإمام الشهيد حسن البنا في موضوع مماثل ، فكتبت 26 صفحة ، وأعجب الأستاذ جلال بما كتبت فطلب مني أن أقرأ ما كتبت على الطلاب ، واستغرق ذلك حصة كاملة .
والإمام الشهيد كان قد كتب في " مذكرات الدعوة والداعية " عن موضوع الإنشاء (التعبير) الذي كلفهم بالكتابة فيه شيخهم أحمد يوسف نجاتي ، ونصه "اشرح أعظم آمالك بعد إتمام دراستك ، وبين الوسائل التي تعدها لتحقيقها " . كان ذلك سنة 1927 م والإمام في السنة النهائية من دار العلوم .
وكان الأستاذ "محمد جلال" يؤثرني دائما بالقراءة النموذجية ( أي القراءة الأولى في النصوص ) حتى يتمثل بها الطلاب .
وأذكر موقفا طريفا خلاصته أن "الطالب أمين منصور عميش " قال للأستاذ في بداية الحصة : لماذا تؤثر جابر بالقراءة الأولى ؟!، أنا أيضا ألقي الشعر إلقاء ممتازا ، وكان موضوع الحصة جزءا من قصيدة أبي العلاء المعري في رثاء فقيه حنفي . فاستجاب الأستاذ للطالب أمين وسمح له بأن يقرأ القراءة الأولى فقرأ في حماسة
غير مُجد في ملتي واعتقادي
- نوح باك ولا ترنم شادي
فنهره الأستاذ وقال غاضبا :" إجلس يا غبي "، والسبب أن الطالب نطق كلمة مُجدٍ بفتح الميم ( مَجدِي)، اعتقادا منه بأنها اسم علم .
وهناك طرفة أخرى تتميز بالابتكار والغرابة وتتلخص في أن زميلنا الطالب"زغلول" كان ضعيفا في اللغة العربية وخصوصا النصوص ، وكان لا يستطيع أن يحفظ بيتا واحدا فاستشارني قائلا " أعمل إيه يا جابر الأستاذ جلال سيختبر قدرتنا في الحفظ ، ويضع درجات الشهر، وكان قد طلب منا حفظ قصيدة أبي تمام ، وأنت تعلم أنني لا أستطيع أن أحفظ بيتا واحدا ، ومعنى هذا أن يكون الصفر من نصيبي ؟ " .
فأجبته قائلا " ولا يهمك هنكتب القصيدة بخط واضح ، وتقوم بتعليقها بدبوس في ظهر الطالب حجازي الذي يجلس أمامك مباشرة دون أن يشعر ، ولن يستطيع أحد أن يكشف الملعوب ؛ لأننا نجلس في الصفين الأخيرين من الفصل" .
وبدأت الحصة ، وجاء دور زغلول فطلب منه الأستاذ أن يسمعه قصيدة أبي تمام ، وبدأ زغلول بداية رائعة لا يصدقها أحد ، مما دفع حجازي الذي يجلس أمامه أن يلتفت إليه في استغراب ، وهذا يعني أن زغلول لن يكمل القصيدة ، فدفعه دفعة قوية ، وصرخ فيه " بص أدامك يابن الكلب " ، فما كان من حجازي إلا أن انتفض واقفا ، ووجهه لزغلول ، وأخذ يرغي ويزبد غاضبا هائجا ثائرا .
فاكتشف الأستاذ محمد جلال الملعوب ، وقال " كده يا زغلول .... تستعمل وسائل الغشاشين والحرامية ؟!!!" . فما كان من زغلول أن هوى بالبواني واللطمات على وجه حجازي ، وهو يصرخ فيه " كده خربت بيتي يابن .... ". وكانت النتيجة صفرا محترما ، وفصل زغلول من المدرسة لمدة أسبوع .
مكثت في مدرسة المنزلة الثانوية عامين : الصف الثاني والثالث ، وبدأنا نعيش الشعور الوطني الحقيقي في المناسبات الوطنية ، كانت المدرسة بلا سور، فكنا نتفق على الإضراب في اليوم التالي ، بمناسبة مصرية أو عربية ، وكنا نرتب للإضراب ليلا ، ونضع الخطة بتوزيع مجموعتنا في محطة المنزلة ومداخلها لمنع طلاب القرى المجاورة من الذهاب للدراسة وضرورة الاشتراك في المظاهرة ، وكنا نجعل لكل مناسبة يوما ... فهذا يوم مراكش ، وهذا يوم الجزائر، وهذا يوم للإشادة بجهاد الجزائر وهكذا . وأذكر أننا خرجنا بمظاهرة صاخبة كان من هتافاتها :
" صدقي بيفن يسقط صدقي بيفن " ، وهي مشروع معاهدة كانت ستعقد بين مصر وانجلترا ، أيام أن كان صدقي باشا رئيسا للوزراء ، أما بيفن فهو وزير الخارجية البريطاني .
وهناك صورة أخرى من صور الاحتجاجات من أجل الوطن والعروبة ، وهي أن أقف في مطلع المدرسة أمام الطلاب ، وألقي خطبة حماسية في المناسبة المصرية أو العربية ، ونردد الهتافات .
يكون ذلك في الفسحة الأولى ، ثم بعد ذلك نتجه إلى الفصول ، ولم يكن الناظر " أحمد السلكاوي" يعترض على ذلك ، ولكن كان اعتراضه على الإضراب عن الدراسة .
وازداد شغفي بالقراءة إلى حد بعيد ، وكنت أقرأ بنهم شديد ، وقد تصل مدة القراءة في بعض الأيام إلى عشر ساعات ، وكان الأستاذ عبد الرحمن جبر رئيس منطقة الإخوان في المنزلة يمدني من مكتبة مدرسته ( المدرسة الخديوية الابتدائية الخاصة ) بكثير من الكتب .
والمصدر الثاني كان مكتبة نادي فاروق الرياضي ، وكان بيننا وبين أعضاء هذا النادي محبة ومودة ، وكان مسئول المكتبة هو الطالب محمد شوقي منيسي ، الذي التحق بعد ذلك بكلية الشرطة وأصبح ضابطا كبيرا في الداخلية ، كان يشجعني على القراءة ، ويعطيني ما أشاء من الكتب على سبيل الإعارة .
والمصدر الثالث كان "الشيخ أحمد الليثي" رئيس شعبة الإخوان بقرية العزيزة التي تبعد عن المنزلة قرابة خمسة أميال . وهو تاجر منتجات ألبان ، ويقتني مكتبة تضم عددا من كتب الإسلاميات والأدب . وقد أعارني كل كتب مصطفى لطفي المنفلوطي : النظرات والعبرات والمساكين والشاعر وماجدولين.
أما المصدر الأساسي فهو مكتبتي الخاصة التى كنت أزودها بكثير من الكتب على قدر استطاعتي .
هذا وقد حللت في شقة أخي أحمد ( شقيقي الوحيد ) بعد وفاته بسبع سنين ، والشقة في الطابق الأعلى من منزل العائلة . وكانت أمي من شدة حزنها تصرُّ على أن تظل الشقة مغلقة ، ولولا رجاءات خالي وبعض كبار العائلة ما سمحت بفتح الشقة . ولا أنسى بكاءها المر ، ودموعها الغزيرة وأنا أفتح باب الشقة التي ظلت مغلقة مهجورة سبع سنين ،
لقد كنت أحب أحمد شقيقي الوحيد الذي مات شابا . وقد ازداد حبي له ، وتعلقي به ، ومعايشتي لذكراه حياة ومأساة . ولا أنسى أنني نظمت في رثائه قصيدة طويلة تعد من بواكير أعمالي ، وربما كانت تمثل لأول مرة نظمي بطريقة الشعر الحر وهي بعنوان على قبر أخي . وكانت بدايتها :
هاتف من أعمق الأعماق يهفو
- كيف تغفو ؟
إن هذا الفجرَ يحلو في الندَى
- في غفوة البشرْ
بعد السَّحرْ
- ينشر السحْر عجيبا
ينشر العطر بعيدا وقريبا
- في السكونْ
في السهول والحزونْ
- هذه الأرواح تهفو
إنها تدعوك
- أن تلبي صوت أحمدْ ...
روحَ أحمد
- حول هاتيك القبور
وختمتها بالسطور الآتية :
- فترحمتُ عليهِ
وبعثت الحنين شوقا إليهِ
- وتركت الساحة الكبرى وحيدا
وشريدا
- مثل فبر سائرِ
مثل دمع مائر
- مثل قلبي الحائر
بعد أن غادرتُ قلبي
- فوق قبر
بين هاتيك القبورْ
- راويا قصة أحمدْ
بين كل الناس
- قصة المأساة ْ...
قصة القلب الكبيرْ
- حطموه ...
ثم في القبر ثوَى
- بعد أن أضحى كسيرْ
بعد أن أضحى أسير
وكان يحلو لي أن أجلس في الحجرة الداخلية من الحجرتين وهي حجرة النوم فأشهد البحيرة في الليالي القمراء ، وأقرأ بصوت مسموع بعض شعر المتنبي، وخصوصا ميميته الملحمية في مدح سيف الدولة ، ومطلعها :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
- وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغار صغارها
- وتصغر في عين العظيم العظائم
ومن أبياتها :
أتـوك يـجـرون الـحـديد كأنهم
- إذا بـرقـوا لم تعرف البيض منهمو
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه
سـروا بـجـيـاد مـا لـهن iiقوائم
- ثـيـابـهـمـو مـن مثلها iiوالعمائم
وفـي أذن الـجـوزاء مـنه iiزمازم
وكنت أحب علي محمود طه في رومانسيته ، وجمال تصويره وموسيقاه ، ومازلت أذكر بعض الأبيات التى كنت أرددها في حجرتي بيني وبين نفسي ، كالأبيات التالية من ملحمته الشعرية " أغنية الرياح الأربع " :
أغــاص فـي iiالـبـحـر
- أم أبــحُــر iiالـشـعـر
فإن سمعتم في صدى الأمواجْ
- أغـنـية تهفو على iiالأثباج
أم قـدح iiالـخـمـر
- مــن حـيـث iiلايـدري؟
أو صــوت شــاديـكـمْ
- حــيْــرى تـغـاديـكـم
فهيْ لها ... وهْي تناديكم
وتأخذني كذلك حماسته المتوهجة ، وأنا أقرأ بصوت مسموع قصيدته "المدينة الباسلة" وهي مدينة ستالينجراد التي دار في رحاها قتال ضار بين الألمان والروس بلغ حد التلاحم المباشر . فمما قاله مخاطبا هذه المدينة :
طـلعوا جبابرة عليك iiوثاروا
- عصفوا ببابك فاستبيح فلم يكن
يـتصارعون بأذرع مخضوبة
- لو عاد " هوميرٌ " وسحرُ iiبيانِه
تـرك الذي غناه في iiطروادة
ووقـفتِ أنت وروحك iiالجبارُ
- إلا جـهـنـم هاجها iiالإعصار
والـسقف فوق رء وسهم ينهار
- ورأى مـلاحـمهم وكيف iiتثار
وشـدا بـهـم وتـرنم iiالقيثار
ولكني مازلت أومن بأن العربية لم ترزق بشاعر في قامة المتنبي حتى الآن .
ولنا لقاء آخر مع هذه المرحلة الثانوية في الحلقة القادمة إن شاء الله .
المصدر:رابطة أدباء الشام