رحلتي مع عبد الناصر

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
رحلتي مع عبد الناصر

د. منصور فايز

دار الملتقى للطباعة والنشر

كلمة الناشر

لماذا عبد الناصر من جديد؟

سؤال ضمن عشرات الأسئلة العفوية والموضوعية التي واجهتنا ونحن نهم بإعادة نشر هذا الكتاب "الشهادة".

لماذا عبد الناصر مجددا؟

والراحل أشبع مدحا، وقدحا، وتكالبت في وصفه وفي تقويمه والتأريخ لمرحلته، ودوره، ومواقفه، ومعاركه، أقلام مؤمنة مؤيدة، وأخرى حاقدة، مارقة ، وثالثة بين هذه وتلك من الفئات عاشت على كل ما تقدم وغيره من فتات وإضافات.

لماذا عبد الناصر، مرة أخرى؟

وهو الذي، تعرض لكم هائل من الدراسات ، والاستقراءات ، والكتابات لم تترك جانبا ولا مرحلة، ولا موقفا أو معركة في نواحي حياته كافة، ونضاله من أجل هذا الوطن الواحد وضد أشكال ومحاولات السيطرة الأجنبية المباشرة غير المباشرة كافة التي عادة ما تأتي من خلال استخدام واستعمال رموز العمالة المحلية التي تدين بولائها وبعثها وحضورها وقوتها ونفوذها للدوائر الأجنبية.

لماذا عبد الناصر، مرة أخرى؟

ونحن نعترف بأنه فرد، والفرد يخطئ ويصيب. ونحن نقر بأنه حالة، والحالة لها كما عليها. ونحن نعتقد أنه رمز، وللرمز من الأصدقاء بقدر ما له من الأعداء.
ونحن نؤكد أنه سلطة، والسلطة لها سلبياتها كما لها من الإيجابيات ولهذه ، وتلك، ما يجعلنا نقبل أن يقال فيه كما يقال عليه. بيد أننا من خلال متابعتنا لهذا الكم الهائل من التناولات اكتشفنا – ويا للأسف - أن هناك دسا، وتلفيقا، وكذبا، وريا، وتدليسا، وحقدا تجاوز كل الأعراف وتخطى كافة الحدود.

وممن؟

من نفوس مريضة ودور نشر مشبوهة هاجمته باسم الدين، والإسلام من هذه النفوس براء، ومن أقلام مأجورة، حاولت طمس نضالاته كافة، خدمة لأغراض سادتها من إمبرياليين وعنصريين ورجعيين خونة متخاذلين نفعيين ساقطين. ومن حفنة من الدجالين ممن عملوا أو حاولوا تأليهه عندما كان حاضرا، وارتدوا عن ذلك قبل أن يواري جثمانه الطاهر التراب.

ولكل هذا، ولغيره من الأسباب والمبررات وجدنا أنفسنا أمام إعادة نشر "شهادة" قد لا يكون. بل هي بالتأكيد ليست ردا على هذا "الدجل" و "الإفك" ولكنها كلمة حق.

الناشر

مقدمة

شاءت الظروف، أن أكون الطبيب المعالج للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، منذ عام 1963م وحتى رحيله. وهي مهمة، لا يحسد عليها أحد. إذ مسؤوليتها ضخمة ضخامة الدور السياسي، الذي كانت تقوم به مصر، في المنطقة العربية وفي العالم الثالث في مرحلة الستينات. ومما زاد في ضخامة تلك المسئولية، الضراوة والتحديات التي كان يواجهها جمال عبد الناصر في إدارته لدور مصر التحرري.

كانت الأحداث الكبار كثيرة، لا تترك لجمال عبد الناصر فرصة للراحة. وهي التي كانت تتوالى مشحونة بالتوتر والانفعالات. ولا بد أن ذلك كان يترجم في النهاية إلى مسئولية جسيمة، على كاهل " طبيبه الخاص" المسئول عن صحته، وعن قدرته على مواجهة تلك الأحداث، وهو في قمة لياقته البدنية والذهنية.

ومن هذا الموقع، كان طبيعيا أن أعايش عن قرب، وأحداثا لها دلالاتها الكبيرة في تاريخ مصر المعاصر. خاصة وأنني كنت قبل ذلك، الطبيب المعالج للفريق محمد حيدر القائد العام للقوات المسلحة قبل الثورة، ولعلي ماهر الذي كلف بتشكيل أول وزارة بعد الثورة.

ولكنني وإن لم أفكر في تسجيل الأحداث كما رأيتها وكشاهد عليها، فإنني كنت " طبيبا" بطبيعتي وبتكويني وبحكم مهنتي- وأولى صفات الطبيب هي الكتمان لا الرواية- وربما لأنني لست سياسيا أسعى لمناصرة هذا الفريق أو ذاك بما يؤيد وجهة نظر ما أو ينفيها.. وربما لقناعتي بأن للتاريخ رجالا يتحملون مسئولية تسجيله بأمانة، بعد الاستيثاق، مما يذكرونه من وقائع، حتى وإن كانت الساحة من حولنا ملأ بمن يفيضون في رواية وشرح أحداث لم يعيشوها، أو يقحمون أنفسهم في وقائع التاريخ دون التيقن من ملابساتها.

إلا أنني تابعت خلال سنوات مضت، تفسيرات مغرضة لقرارات ومواقف اتخذها جمال عبد الناصر، حاول البعض أن يرجع أسبابها، إلى ادعاءات غير حقيقية تتصل بحالته الصحية، تشكيكا في هذه القرارات أو تقليلا من قيمة تلك المواقف. بل لقد وصل الأمر إلى حد الادعاء بنجاح مخابرات دولة عدوة في إقحام جاسوس لها بين المترددين على الرئيس عبد الناصر لعلاجه، وأنه كان طبيبه للعلاج الطبيعي.

وعند هذا الحد شعرت بأن تسجيل الحقائق المتصلة بصحة جمال عبد الناصر- بوصفي الطبيب المسئول عن علاجه- أصبحت ملحة.. ولكن طبيعة من كنت أعوده كزعيم بارز لمصر وفي العالم، وقرب موقعي منه وملازمتي له سنين عديدة، فرضت على قلمي ما لي به دراية من أحداث، فقصرت الحديث على ما جرى منها أمامي، وعلى ما رواه لي جمال عبد الناصر بنفسه، دون الرجوع إلى أي مصدر آخر، فلست ناقدا أتصيد أخطاء، ولا مؤرخا أتقصى الوقائع.

الدكتور منصور فايز

الفصل الأول:نهاية عهد وبداية ثورة

في أعقاب ما أسفرت عنه حرب فلسطين 1948م، كان المناخ السياسي في مصر مضطربا. وكان الكثيرون ممن يتابعون الأحداث بحكم اهتماماتهم العامة، يشعرون بقرب وقوع أحداث كبار، وإن لم يستطيعوا تحديد طبيعتها أو اتجاهها.كان الشعب قد ضاق باللعبة السياسية التقليدية وأركانها الثلاثة: الملك والأحزاب والسفارة البريطانية، فالآمال القومية لشعب مصر في الاستقلال والتحرر، بقيت بعيدة المنال برغم تصاعد الحركة الوطنية الشعبية، وتبلورها وتزايد إيجابيتها عبر المراحل المختلفة منذ ثورة 1919م.

وكانت الساحة السياسية، إزاء فشل أركان النظام السياسي القائم آنئذ، في تحقيق أهداف الشعب، قد شهدت مولد حركات ومنظمات سياسية غير معترف بها رسميا. ولكن نشاطها المؤثر من خارج إطار الشرعية، كان يوحي إلى أن الحركة الوطنية قد تجاوزت إمكانيات النظام القائم، خاصة خلال الحرب العالمية الثانية وفي أعقابها.

وقد اتجه الصراع السياسي للتركز في منطقة القناة، بين قيادة القوات البريطانية في الشرق الأوسط وحشود الجيش البريطاني فيها، التي كان مخططها وتحركاتها ينبئان بنوايا بعيدة عن منح مصر استقلالها، وبين حركة الفدائيين المصريين الذين كانوا يمارسون عمليات عسكرية انتحارية ضد القوات البريطانية ، ونشاطا سياسيا يدعو إلى المقاطعة الاقتصادية للبريطانيين، والامتناع عن العمل في معسكراتهم.

وفي العاصمة كان فشل النظام السياسي، ممثلا بالملك والأحزاب، في احتواء الحركة الوطنية المتصاعدة، وفي قيادتها وتوجيهها نحو تحقيق آمالها، قد جعل الصورة قاتمة إلى أقصى حد. فالأحزاب السياسية، تحولت لخدمة المصالح الحزبية الضيقة، والسعي إلى الحكم، مما صرفها عن حقيقة الأهداف الوطنية. حتى بات كل يوم يؤكد أن الحل لن يأتي من داخل النظام السياسي القائم.

وفي تلك المرحلة الحرجة، لم يقم القصر بأي دور بناء لتحقيق آمال الشعب. بل على العكس، سعى الملك للتقرب من الانجليز، بعد حادث 4 فبراير 1942م ففقد القصر الضباط الشباب الذين تعاطفوا معه منذ ذلك اليوم.

ففي يوم 4 فبراير 1942م، قدم السفير البريطاني إنذارا للملك، يطلب فيه تعيين مصطفى النحاس رئيس حزب الوفد، رئيسا للوزراء. واستسلم الملك بعد أن رأى الدبابات تمل ساحة قصر عابدين. حدث ذلك أثناء الحرب العالمية الثانية، إذ رأى الانجليز، أن وجود رئيس حزب الأغلبية في الحكم، هو من دواعي الاستقرار في المنطقة.

وازداد الأمر سوءا، حتى صار فساد القصر على كل لسان، وسهرات الملك في لعب الميسر في الأماكن العامة. والدور الذي لعبه المحيطون به من أمثال " بوللي" من فساد وإفساد، حتى بلغ الأمر أن صار شماشرجي الملك " محمد حسن" مسموع الكلمة لدى الحكومة، بل لقد وصل الأمر بالملك ، أن اشترى بواسطة عملائه أسلحة فاسدة للجيش أثناء حرب 1948م ولم تكن أخبار فضيحة أسلحة الفاسدة هذه خافية على أحد.

وفي هذا الجو الملبد، لا يمكن استبعاد أن يستمع الملك للإنجليز، حينما أقنعوه بضرورة افتعال حدث كبير يبرر إقالته لآخر وزارات الوفد التي كانت قائمة حينئذ، تحقيقا لمصالحهما المشتركة، وذلك بعد أن ألغى مصطفى النحاس معاهدة 1936م التي كانت تنص على بقاء الاحتلال البريطاني في منطقة قناة السويس بعد انسحابه من جميع المواقع التي كان يحتلها.

وكان أن قدرت بريطانيا أن يكون مسرح هذا " الحدث الكبير" هو منطقة القناة، التي تتركز فيها معركة الفدائيين والحركة الوطنية معهم. واستغلت بريطانيا إبعاد الحكومة للجيش المصري عن منطقة المواجهة، بين الحركة الوطنية وقوات الاحتلال، ملقية مسئولية مواجهة الجيش البريطاني في منطقة القناة، على عاتق قوات الشرطة غير المهيأة، أجهزة وسلاحا، لمثل هذه المواقف.

فحاصرت القوات البريطانية مبنى بلوكات النظام في الإسماعيلية، مطالبة بنزع سلاح قوات الشرطة. وذلك ردا على أعمال الفدائيين الذين كانوا يقومون بها ضد الإنجليز. ولما رفض رجال الشرطة ذلك، هاجمت القوات البريطانية المبنى بالدبابات والمدافع الثقيلة .

وأسفرت المذبحة عن استشهاد خمسين من جنود الشرطة المصريين، غير المسلحين إلا بالبنادق القديمة، والذين قاوموا ببسالة حتى نفدت ذخيرتهم. ومنذ ذلك الحين أصبح ذلك اليوم وهو يوم 25 يناير عيدا للشرطة.

وثبت إلى أي مدى أخفق الإنجليز والملك في تقدير أبعاد الموقف السياسي في مصر. فالحدث الذي أرادوا به تغيير حكومة، عجل بنسف النظام بأكمله. ففي اليوم التالي – 26 يناير 1952م قامت المظاهرات معبرة عن غضب الشعب.

واشترك فيها جنود بلوكات النظام وانتهت إلى حريق القاهرة المروع. وفي الشهر التالي سقط حسين سري عامر، مرشح القصر في انتخابات نادي الضباط أمام مرشح لضباط ، في دلالة لا تخطئها عين، لدخول الضباط الأحرار في قلب الصراع السياسي ضد القصر، وسيطرتهم على منهم دون كبار الضباط من قادة الجيش المصري.

وعلاوة على ما تقدم، لم تشهد الفترة ما بين حريق القاهرة وقيام الثورة، أي استقرار سياسي. فقد تعاقب تشكيل أربع وزارات خلال ستة أشهر وكان آخرها وزارة نجيب الهلالي لم تدم سوى 24 ساعة.

الفريق محمد حيدر ومقدمات الثورة

ومن بين التطورات ذات الأهمية داخل القصر حينئذ، تدهور العلاقات بين الملك والفريق محمد حيدر القائد العام للقوات المسلحة، الذي كان يتمتع بثقة الملك وتأييده لسنوات طويلة. وكان الملك قد أنشأ منصب القائد العام للقوات المسلحة خصيصا للفريق حيدر، حين أصر النحاس في إحدى الوزارات التي شكلها، على أن يكون جميع وزرائه من الوفديين، بمن فيهم وزير الحربية.

ولقد أحس حيدر في الفترة الأخيرة- وكنت طبيبه الخاص- بأنه لم يعد موضع ثقة الملك. بل بدأ يستشعر المهانة من تصرفات الملك معه. وكان الأخير يعمد فيها إلى السخرية منه أمام الآخرين. ومن ذلك أن تلقى حيدر من الملك هدية، وحين شرع في فتحها وجد أمامه صندوقا كبيرا فلما فتحه وجد في داخله آخر.. واستمر هكذا يفتح صندوقا بعد صندوق، حتى فتح الأخير فقفزت في وجهه ضفدعة كانت حبيسة فيه.

وشعر حيدر بأن أسهم حسين سري عامر - المعروف بالشدة والصرامة والذي كان يشغل منصب مدير سلاح الحدود- آخذة في الارتفاع عند الملك، وأنه سوف يخلفه في منصبه. وسيطر على حيدر شعور بأن الملك سوف يعمد إلى التخلص منه، ولو أدى ذلك غلى اغتياله - على حد ما فهمت من حيدر - ولا عجب في ذلك، فحيدر يعلم أن الملك قد كون فريقا من الضباط، أطلق عليهم اسم الحرس الحديدي، لاغتيال الشخصيات غير المرغوب فيها. وفعلا نجح الحرس الحديدي في ذلك، ولكنه فشل في اغتيال مصطفى النحاس رئيس حزب الوفد، رغم محاولته ذلك مرتين.

وكان مما ساعد الفريق حيدر على هذا الاعتقاد أمران:

الأمر الأول: أن شعبيته في الجيش كانت واسعة، بل إن شعبيته تجاوزت الجيش إلى الشعب. وفي هذا المجال ذكر لي واقعة ذات دلالة، حين ذهب إلى السينما يوما، ليحضر عرضا من الثالثة غلى السادسة مساء. وعند خروجه من دار السينما، التف حوله المدنيون في مظاهرة تهتف بحياته.
والأمر الثاني: أن الفريق حيدر كان مريضا بتليف بالكبد. وعادة ما يؤثر هذا المرض في سلامة التقدير، ويؤدي إلى تضخيم الأمور في كثير من الأحيان.

نتيجة لذلك كله، لم يكن الفريق حيدر في المرحلة التي سبقت الثورة مباشرة، متحمسا للملك . فقد حدث أن استدعى إبراهيم عبد الهادي، وكان رئيسا للوزراء، جمال عبد الناصر وسأله عن تنظيم الضباط الأحرار وعلاقته به، وذلك بحضور الفريق محمد حيدر. ولكن حيدر طمأن إبراهيم عبد الهادي، وأبعد أي شبهة عن جمال عبد الناصر. يضاف غلى ذلك أن الفريق حيدر لم يعط، لسقوط مرشح الملك في انتخابات نادي ضباط الجيش ، أية أهمية برغم دلالات هذا الحدث الكبير. وما كان يفترضه من إحكام السلطة للرقابة على الجيش والضباط.

وفي اليوم السابق ليوم الثورة، وبينما كان أحد الضباط الأحرار وهو حسن محمود صالح يودع عائلته قبل نزوله إلى موقعه المحدد في خطة تنفيذ الثورة، إذ به يفصح لهم- تحت ضغط انفعال الموقف - أنه في سبيله إلى الاشتراك في عملية كبرى، بغرض طرد الطاغية فاروق. وحين علم أخوه ذلك، وكان من كبار القادة في سلاح الطيران، بادر غلى الاتصال بالفريق حيدر في الإسكندرية، وأبلغه بما حدث. والغريب أن حيدر لم يول هذه المعلومات الخطرة أي أهمية. ولم يثبت بعد ذلك أنه أتى حيالها بإجراء فوري يتناسب مع درجة خطورتها.

ومجمل القول، إنه ربما كان لتراخي حيدر أثناء الفترة التي سبقت قيام الثورة، أثره في سرعة نجاحها، وعدم الكشف المسبق عن تنظيم الضباط الأحرار. وفي تلك المرحلة كان تنظيم الضباط الأحرار قد اكتمل، وأصبح قادرا على القيام بالثورة. وحين أحس جمال عبد الناصر، باحتمال تعيين حسين سري عامر وزيرا للحربية، عمد غلى تقديم موعد الثورة ، خشية منه على تنظيم الضباط الأحرار وتحسبا لكل الاحتمالات.

ولقد روى لي الفريق حيدر، بعد قيام الثورة، أنه كان يعرف جمال عبد الناصر وصلاح سالم جيدا وأنهما كانا من الضباط الأكفاء، وأن الأخير قد عمل بمكتبه لفترة ما قبل الثورة. بل لقد زاد على ذلك ، أنه كان يعلم بعضويتهما في تنظيم الضباط الأحرار.

وبعد قيام الثورة ، لم تحدد إقامة الفريق حيدر كما حدث بالنسبة لأقطاب النظام السابق. وقد أبلغني أنه يعامل معاملة طيبة من الرئيس جمال عبد الناصر شخصيا. وأدخل مستشفى الكاتب حين مرض. ولا تجد تلك المعاملة تفسيرها في كون الفريق حيدر هو خال المشير عبد الحكيم عامر. فذلك لم يكن موضع اعتبار كثير من رجال الثورة والمشير عامر في مقدمتهم.

ومن الشواهد على ذلك، أنه حين أخرج زوج ابنة الفريق حيدر من وزارة الخارجية، في حركة التطهير، طلب مقابلة المشير عامر الذي رفض لقاءه. فالتحق بخطوط الطيران السعودية في لندن وظل موظفا فيها إلى أن لقي ربه.وحين توفي الفريق حيدر بغيبوبة كبدية نتيجة تليف الكبد، شيع جثمانه إلى مثواه الأخير على عربة مدفع يحيط بها الجنود في جناز عسكري رسمي، بالرغم من أنه كان يعد من رجال الملك.

على ماهر وثورة يوليو

في صباح 23 يوليو م أعلن الضباط الأحرار قيام الثورة. وقد كانت أهم الأحداث التي عاشتها مصر في تاريخها الحديث. وقادت إلى أعمق التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها البلاد منذ عصر محمد على.

وقوبل النبأ بابتهاج شعبي عارم، وتفاءلت الجماهير ببرنامج الثورة ذي النقاط الست الآتية المعروفة وهي القضاء على الاستعمار أعوانه، والقضاء على الإقطاع، والقضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال، وإقامة عدالة اجتماعية، وإقامة جيش وطني قوي، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة. وكانت هذه المباديء، التي تضمنها بيان الثورة، أهدافا طالما رنت إليها الحركة الوطنية المصرية طوال عهود سابقة.

ولم يجد الثوار مقاومة تذكر. فقد كانت خطة الثورة، التي وضعها البكباشي عبد الناصر المدرس بكلية أركان الحرب في ذلك الوقت، نموذجا لقدراته على التخطيط والتنظيم وريادة التنفيذ. وتمكن الضباط الأحرار من المضي في تنفيذ الخطة بمفاجأة كاملة وبإتقان كبير، بل إن الملك، الذي أذهلته المفاجأة وسرعة التأييد الشعبي للثورة، لم يجد سبيلا للمقاومة. ولم يسمع في قصر رأس التين، سوى طلقات رصاص متناثرة بغير أثر، أطلقها بعض من حرسه الخاص. وكلف رجال الثورة على ماهر بتشكيل الوزارة.

تحمس على ماهر للثورة، بعد أن كان مستقبله السياسي مع الملك قد انتهى، واعتبر هذا التكليف بمنزلة عودة الروح السياسية إليه، فضلا عن كونه رد اعتبار. فلقد كان الملك قد سبق له تكليفه بتشكيل الوزارة عقب سقوط حكومة الوفد إثر حريق القاهرة. ولكن سرعان ما خرج منها، بعد أن ساءت العلاقات بينه وبين القصر. وهو ما كان على ماهر يعزو إلى الوقيعة بين الملك وبينه بفعل حافظ عفيفي رئيس الديوان الملكي حينذاك.

وفي هذا الإطار النفيس لرؤية على ماهر لتكليف رجال الثورة له بتشكيل الوزارة الأولى، وبحكم ميله للاستئثار بالسلطة، طرح على ماهر على الضباط الأحرار مبكرا، السؤال عما إذا كانوا سيعودون إلى ثكناتهم، فكان الرد- على نحو ما رواه لي- بالإيجاب.

وشعر على ماهر بأن الجو قد خلا له بخروج الملك من مصر. وبأن السلطة التي انتزعها العسكريون ستؤول إليه، وستدعم بين يديه، إلا أن هذا الإحساس لم يدم طويلا. وبدأ على ماهر يدرك، مع الوقت، أنه لا يملك يدا مطلقة في تصريف أمور البلاد.

وجاء أول الشواهد مبكرا وآماله لم تزل في مهدها. فلقد دعا على ماهر رجال الثورة إلى حفل شاي أقامه تكريما لهم في مساء 26 يوليو 1952م يوم مغادرة الملك للبلاد. ولكنه فوجئ بهم يعتذرون وتوجهوا إلى القاهرة مباشرة.

ولم استطع وقتها أن أحدد دلالات هذا الحدث، الذي رواه لي على ماهر، وقد كنت أتردد إليه كطبيب، قبل الثورة وبعدها، بحكم مرضه بقصور في الشريان التاجي للقلب. فهل كان موقف رجال الثورة، يومها، بحكم مشاغلهم الطاغية بعد 72 ساعة فقط من قيامهم بالثورة؟ أم كان درسا مبكرا، أرادوا به تحديد المواقف؟ وإن كان ثمة تكريم فهم مصدره لا موضعه.

ومضى الوقت، وتزايد تباين التفكير والمواقف وضوحا، بين رجال الثورة، ورجال السياسة من العهد السابق. سبب ذلك هو أن هؤلاء الشباب المتحمسين، كانوا يواجهون أخطر القضايا وثورتهم لما تزل وليدة. وكانوا يواجهون الوقت عنصرا ضاغطا، يفرض مناقشة الموضوعات واتخاذ القرارات الفورية بشأنها، وأن الالتفات إلى قواعد البروتوكول كان ثانويا في ذهن ضباط ثوار، لم يمارسوا الحكم وطقوسه وإنما تمرسوا في القيادة الميدانية لقواتهم.

لم يكن على ماهر مرتاحا لهذا الوضع، وكان يشكو لي من أن رجال الثورة يتعمدون إخراجه أحيانا من اجتماعات مجلس الوزراء، ليستأثروا به لفترات طويلة، وكان يرى في ذلك انتقاصا مقصودا من مكانته.

كما كان على ماهر حساسا من مقابلة رجال الثورة للوزراء في مكاتبهم، يسمعون منهم ويناقشون معهم. وكان يعتبر ذلك تقييدا لسلطاته وتعديا على اختصاصاته. ولم يستطع أن يستوعب محاولة رجال الثورة، نقل أفكارهم الشابة وطموحاتهم الكبيرة، إلى الوزراء المتخصصين. وما كان على استعداد لأن يتصور أن بعض رجال الثورة، كانوا مكلفين بمتابعة أعمال وزارات بعينها، بحكم المسؤوليات الملقاة على أكتافهم يوم عقد لثورتهم النجاح في صباح 23 يوليو 1952م.

ولكن وزراء آخرين، كانوا يتفهمون دوافع الشباب ومقتضيات المرحلة. وأذكر أنني سمعت من محمد على رشدي، وزير العدل في وزارة على ماهر، ثناء مطولا على أحد ضباط الثورة، جاء إلى مكتبه لمناقشة بعض المسائل التي تدخل في اختصاص وزارته. كان الضابط، كما روى وزير العدل، مستمعا ممتازا ومحدثا لبقا ذا قدرة كبيرة على الإقناع بهدوء.

وقال محمد على رشدي:

" لقد استطاع هذا الضابط بقوة منطقه، أن يقنعني بأمور عديدة، ولم أستشعر منه ضغطا لتنفيذها، وإنما رجاني أن أنفذ ما أستطيع مما أكون قد اقتنعت به".

وكان الضابط هو جمال عبد الناصر، الذي لم يكن الوزراء في بداية عهد وزارة على ماهر، قد أدركوا بعد أنه قائد الثورة. وتوالت الأحداث، واستقر الرأي على أن مهمة على ماهر بالنسبة للثورة قد انتهت ، ولم يعد هناك مبرر لبقائه في الحكم. وتقرر خروجه وتأليف وزارة برئاسة محمد نجيب.

وكان من الطبيعي أن يخص على ماهر الرئيس جمال عبد الناصر بكثير من الانتقادات في ما بعد، بحكم كل ما سلف، وبحكم موقع جمال عبد الناصر من الثورة. وأذكر من بين هذه الانتقادات ما كان يتعلق بموقف عبد الناصر من منطقة حلوان.

كان على ماهر - كما بين لي - مقتنعا بأن حلوان، بحكم موقعها وبمياهها المعدنية، يجب أن تكون قرية سياحية، في حين كان جمال عبد الناصر مقتنعا بأن حلوان هي المستقبل لمجمع صناعي ضخم. كان تعارض الأفكار جليا، وكان تناقض الانتماءات الاجتماعية واضحا. كان على ماهر يرى في حلوان مكانا هادئا يفد إليه القادرون أثناء فصل الشتاء طلبا للاستشفاء والراحة. وكان جمال عبد الناصر يرى فيها موقعا لصناعات جديدة وفرص عمل وحياة كريمة لمئات من العائلات المصرية.

وليس في نيتي الترجيح بين وجهتي النظر، فليس ذلك قصدي، وإنما أردت أن أوضح قدر الاختلاف أو التقارب في الرؤى، وفي التفكير، إزاء المشكلات. ولو كان على ماهر قد تأنى قليلا لأدرك الإجابة الحتمية على السؤال الذي وجهه في بداية الثورة إلى رجالها: على يعودون إلى ثكناتكم؟ ثم اشتد المرض على علي ماهر، وركز اهتمامه على حالته الصحية ، وخرج من المسرح السياسي إلى أن توفي إلى رحمة الله.

الفصل الثاني: بداية المشوار

قبيل منتصف الستينات، اتصل بي الدكتور أحمد ثروت، الطبيب المرافق للرئيس جمال عبد الناصر، وأبلغني أن الرئيس طلب منه، أن يعرض على الإشراف على علاجه. كان ذلك بعد ثلاثة أشهر من وفاة المرحوم الدكتور أنور المفتي، الذي كان يشرف على علاج الرئيس.

كان اختياري لهذه المهمة، من جانب جمال عبد الناصر، تقديرا كبيرا لي، حيث كانت سمعتي أساس هذا الاختيار والفيصل فيها، فلم يكن الرئيس يعرفني شخصيا، ولم أكن طبيبا في القوات المسلحة ليعرفني بحكم موقعي.

وما أتيح لي أن أدرى الرئيس جمال عبد الناصر قبل ذلك إلا مرة واحدة، وفي عجالة، في أوائل أيام الثورة، فقد حدث أن ذهب جمال عبد الناصر لزيارة المرحوم حنفي محمود أثناء مرضه، وبصحبته عبد الحكيم عامر، وكان حنفي محمود من رجال السياسة البارزين، ومن أعز أصدقاء حيدر باشا.

وتصادف وجودي هناك أثناء الزيارة، فسلمت على الزائرين لدى وصولهما وانصرفت. وأذكر أن المرحوم حنفي محمود كان ممتنا لسؤال عبد الناصر عنه، وقال لي بعدها: " تصور أن يحضر جمال عبد الناصر لزيارتي، حين علم بوعكتي، بمجرد رجوعه من برج العرب، بينما لم يكلف محمد نجيب نفسه عناء الحضور، وهو الذي كان في القاهرة".

كان أول لقاء لي بالرئيس جمال عبد الناصر، للإشراف على علاجه، بعد اتصال الدكتور أحمد ثروت بي، يوم انتقى الدكتور حسن صبري رئيس القسم الطبي بالقوات المسلحة، مجموعة من الأطباء الأجانب في مختلف التخصصات لإجراء فحص للرئيس. لم يكن هناك سبب محدد لهذا الفحص وإنما كان فحصا روتينيا شاملا، كان علي أن أقوم به وأن أكتب نتائجه في تقرير.

ودخلت منزل الرئيس جمال عبد الناصر لأول مرة، كان منزلا بسيطا، بل ومتواضعا بالقياس إلى منازل الرؤساء، عبرت الحديقة الأمامية، ودلفت من الباب الرئيسي في الدور الأرضي إلى صالة كبيرة، تتوسطها منضدة مستديرة من الرخام، عليها آنية من الزهور، هي أول ما يراه الداخل إلى الدار إلى اليسار، كان هناك باب يقود إلى حجرة مكتب الرئيس إلى الدور الأرضي.

وإلى اليمين كان بسب آخر يقود إلى الحجرة التي كان الرئيس يستقبل فيها ضيوفه، تتوسطها مدفأة تعلوها لوحة لطفل يقدم راكعا باقة من الزهور إلى طفلة، وتحت هذه الصورة كانت معظم صور الرئيس مع ضيوفه الرسميين.

ويعد هذا الباب وعلى الجانب الأيمن أيضا، كان باب آخر يقود إلى الصالون الرئيسي فحجرة الطعام الرئيسية، وهي حجرات كانت تستخدم في المناسبات حين يستقبل الرئيس وفودا كثيرة العدد، أو يقيم في منزله دعوات رسمية. وقطعت الصالة الرئيسية متجها إلى السلم الذي يقود إلى الدور العلوي، حيث كانت صالة المعيشة للرئيس والأسرة في مقابل السلم . وإلى يمينه في مساحة مفتوحة كانت غرفة طعام الأسرة.

ودخلت إلى جناح الرئيس، حجرة مكتب علوية تقود إلى حجرة نومه، كانت على المكتب أوراق كثيرة مرصوصة بنظام دقيق يعبر عن شخصية شاغله، وخلف المكتب توجد مكتبة، ملأى بالكتب والمراجع التي يستخدمها الرئيس، وأمام المكتب، في الناحية المقابلة للغرفة، وضعت كنبة، أمامها منضدة، عليها مجموعة من الصحف، وبجانبها كرسي، وبينهما منضدة صغيرة، عليها جهاز الراديو، وخلف الكرسي الجانبي، مكتبة أخرى أصغر حجما، تحوي أرواقا على بعض رفوفها، وكتبا على البعض الآخر، تفصل بينهما أطر لصور عائلية لأفراد أسرة الرئيس.

وعبرت حجرة المكتب العلوية إلى حجرة نوم الرئيس، كان سريره إلى يسار الباب، وبجانبه منضدة تعلوها مجموعة كبيرة من الأوراق المنظمة بدقة أيضا، وإلى يسار السرير، كان جهاز الهاتف ومذياع صغير، وفي الجانب المواجه لباب الدخول، كان الحائط عبارة عن مجموعة من البلاكارات (الدواليب الخشبية)، وفي وسطها مرآة تحتها (شيفونيرة) وكان في الحجرة كرسي هزاز أمام منضدة صغيرة، فوقها مجموعة من الأوراق كسابقاتها.

وخلفه موبيليا خشبية تحتضن أجهزة التليفزيون والراديو والمسجل وجهاز تشغيل الأسطوانات، وبداخلها كانت مجموعة كبيرة من أسطوانات الموسيقى الكلاسيكية وشرائط مسجلة لحفلات أم كلثوم، وفي الحجرة كان الرئيس جمال عبد الناصر في انتظاري.

كان انطباعي عن جمال عبد الناصر، قبل أن نلتقي، أنه زعيم ذو شخصية قوية، وأن السمتين الغالبتين عليه، هما الشدة والجدية طوال الوقت، وأعتقد أنني في هذا ا لانطباع العام كنت أشارك فيري من المواطنين الذين يتابعون الرئيس منذ 1952م بواسطة الصحف والإذاعة.

لكن هذا الانطباع تغير منذ اللحظة الأولى. ووقف الرئيس مرحبا بي، ببساطة شديدة، وعلت شفتيه وعينيه ابتسامة مرحبة من القلب أزالت مني على الفور توتر اللقاء الأول. وبعد حوار قصير، سأل فيه الرئيس عني وعن أسرتي ، دعاني إلى إجراء فحص له، وبعد انتهاء الفحص لم يفته أن يطلب مني بنفسه، أن أتولى الإشراف على علاجه، برغم أنه سبق لي أن أبلغت الدكتور ثروت أن ذلك يسعدني، وشعرت منذ اللقاء الأول بمدى دماثة الخلق ورقة المشاعر التي تميز جمال عبد الناصر.

فلم يكن ليترك مثل هذا الطلب يأتيني من طبيبه المرافق وكأنه تعليمات في صورة استفسار وقصد أن يشعرني بأنه يسألني ذلك بنفسه. ولم يكن هذا البعد الإنساني هو كل ما جد عن انطباعي المسبق عن شخصية جمال عبد الناصر، فلقد شعرت من أول لقاء، بما تأكد لي مع مرور الوقت، بأن جمال عبد الناصر أقوى شخصية مما كنت أتصور، فهو أقوى حتى ما كل الانطباعات التي تتركها خطبه وصوره، ويتمتع بشخصية آسرة عميقة التأثير فيمن تتاح له فرصة مقابلته.

وخرجت من عند جمال عبد الناصر لأكتب تقريري بنتائج الفحص، ومنذ لك الوقت توليت مهمة الإشراف على علاج الرئيس عبد الناصر. كنت أزوره بصفة دورية كل أسبوع، وإذا دعت الحاجة كانت زياراتي له تتكرر يوميا.

وكان من عادة الرئيس، أن يصحو مبكرا، ويطلب كوبا من الشاي، إلى حجرته، ويبدأ يومه بالاطلاع على جميع طيعات الصحف المصرية، والاستماع إلى نشرات الأخبار الصباحية في الإذاعات العالمية، ثم يبدأ في إجراء عدد من الاتصالات الهاتفية الصباحية بالمسئولين في الدولة. وبعد حوالي الساعتين، أي في حوالي التاسعة صباحا، كان الرئيس يطلب الطبيب المرافق الذي ينفذ العلاج، وفي هذا الوقت كنت أدخل إليه حين أحضر في زياراتي الدورية.

وخلال السنوات التي عرفت فيها جمال عبد الناصر عن قرب، وجدته إنسانا متواضعا حلو الاستقبال، وكان دائما سريع البديهة، قوي الملاحظة، مرح الروح مهما كانت التحديات التي تشغل باله، كان يتحدث معي قبل إجراء الفحص له حديثا عاما، فإما أن يحكي عن بعض مشاغله فأستمع لما يشاء روايته، أو يسأل عن بعض الأمور التي تهمه.

خلال السنوات الطوال، نشأت بين الرئيس جمال عبد الناصر وبيني ، تلك العلاقة الحميمة التي تميز دائما علاقة الإنسان بطبيبه، فالطبيب يرتبط دائما بالصحة، وهو الذي يعود الشخص إذا مرض وهو الذي – بعود الله - يشفيه ويعافيه.

فريق متكامل من الأطباء

كان الرئيس جمال عبد الناصر يعاني من مرض السكري منذ عام 1958م، ولم تظهر عليه أية مضاعفات لهذا المرض منذ ذلك التاريخ وحتى 1968م. وانحصرت المضاعفات حينذاك في آلام الساق التي بدأ يشعر بها على النحو الذي سيرد في حينه، وكان المرض السكري وراثيا في عائلته، فقد كان له أخ مريض بالسكري، وكذا كان عمه.

وكان الرئيس يتبع نظاما خاصا في الكل لعلاج السكري، ولم أجد متاعب في هذا المجال، فقد كان عبد الناصر بطبيعته، غير ميال للإكثار من الأكل. وكان طعام الرئيس وعائلته عامة أكلا مصريا عاديا وصحيا.

ففي لإفطار، كان طعام الرئيس يتكون عادة من الخبز والفول المدمس والجبن الأبيض، وفي العشاء كان يتناول بعض أنواع الفاكهة الطازجة لتحل محل الفول، أما طعام الغداء فكان يتكون من الخضروات والسلطة واللحوم والخبز، وكانت كمية النشويات في الوجبات الثلاث محدودة.

ولم يخل الأمر من الاستثناءات، فأحيانا كان الرئيس عبد الناصر يبلغني أنه قد أكل كمية أكثر من الخبز، كذلك كان يخرج على نظام أكله حين تطهو زوجته أحد الأصناف، مثل " المحشي" وهي التي عرفت بإجادة الطهي بامتياز. وكان علاج السكري عند الرئيس جمال عبد الناصر يعتمد على حقن " الأنسولين" حيث كانت العقاقير التي تعطى عن طريق الفم غير مجدية في علاجه، فكان عليه أن يأخذ حقنة أنسولين طويل المفعول يوميا قبل الإفطار.

وبعد فترة من إشرافي على علاج الرئيس، رأيت إشراك الأستاذ الدكتور على البدري- اختصاصي بمرض السكري المعروف- معي في العلاج. وكان الأستاذ الدكتور ناصح أمين يجري التحاليل اللازمة. كان الدكتور أحمد ثروت طبيبا مرافقا للرئيس عبد الناصر، يتولى تنفيذ العلاج، وحين مرض في أعقاب 1967م، ولم يتمكن من مباشرة عمله، حل محله الدكتور الصاوي محمود حبيب، إلا أن الرئيس كان حريصا على أن يزوره الدكتور أحمد ثروت دوريا حفاظا على مشاعره. وبقيت زيارات الدكتور ثروت مستمرة حتى توفي الرئيس إلى رحمة الله.

كان يشترك معنا في علاج الرئيس عبد الناصر، الدكتور " بولسون" من الدانمرك وهو من أكبر اختصاصي السكري في العالم، وكان يعود الرئيس مرة كل ستة أشهر، أو كلما دعت الحاجة، وكان الدكتور " بولسون" من أشد المعجبين بشخصية الرئيس جمال عبد الناصر، وكان دائم الإشادة به كزعيم عالمي، وكان يقوم بذلك متطوعا، رافضا أية أتعاب.ومن آن لآخر، كان يزور الرئيس أيضا، الدكتور " فيفر " من ألمانيا الغربية، وهو اختصاصي شهير في مرض السكري.

وكان الرئيس يشكو حساسية في الجيوب الأنفية، وكان يعالجه الأستاذ الدكتور على المفتي، الذي ظل يشرف على علاج الرئيس، في هذا المجال حتى رحيل الرئيس عبد الناصر عام 1970م، كما كان يشكو من تمدد في الشعب الهوائية في الرئة اليمنى، مما كان يسبب لي متاعب كثيرة، حيث إن أي التهاب في الجيوب الأنفية يمكن أن ينتقل بسرعة إلى الشعب الهوائية والرئة، مسببا له نزلات شعبية وأحيانا التهابا في الرئة، خاصة وأنه معروف، أن مرض السكري يقلل من مقاومة هذه النزلات.

كان هؤلاء يشكلون مجموعة الأطباء المعالجة لجمال عبد الناصر، وقد عملوا معي كفريق للمحافظة على أمل اللياقة الذهنية والبدنية للرئيس، حتى وافاه القدر يوم 28 سبتمبر 1970م. وعلاوة على هؤلاء الأطباء، فقد كنت أستشير بعض الاختصاصيين، من الداخل أو الخارج كلما استلزم الأمر ذلك.

وبعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، انتشرت شائعات مغرضة ومقصودة ، حول أطباء الرئيس، بعضها كان مجرد افتراء، استغل أن أطراف الإشاعات أصبحوا في ذمة الله، محاولة النيل من جمال عبد الناصر. وكان بعضها الآخر من نسيج الخيال كأشرطة الخيالة الجاسوسية في السينما العالمية.

كانت أولى هذه الشائعات، هي أن المرحوم الدكتور أنور المفتي قد مات مسموما عقب تناول كوب من عصير الجوافة في منزل جمال عبد الناصر، وأن ذلك كان من تدبير صلاح نصر مدير المخابرات العامة في ذلك الوقت، وقد ترددت هذه الشائعات مع بدايات حملة ضارية وظالمة ضد عهد جمال عبد الناصر كله، استمرت لسنوات طويلة، واستهدفت الرجل بقدر ما استهدفت مبادئه.

وكان من أكثر من آلمهم هذا الافتراء، الدكتور على المفتي- شقيق الدكتور أنور المفتي- وطبيب الأنف والأذن والحنجرة الذي كان يتولى علاج الرئيس عبد الناصر طوال حياة الأخير. وتذكرت كم من أكواب العصير وفناجين القهوة والشاي، شربت في بيت جمال عبد الناصر، وفي مكتب صلاح نصر بالمخابرات العامة.

وادعت ثانية هذه الإشاعات، أن " إسرائيل" نجحت في إقحام جاسوس لها بين فريق أطباء الرئيس، وأنه كان الطبيب الذي نجح في أن يتسبب بوفاة الرئيس عام 1970م، من خلال علاجه له، والواقع أن هذا الاسم الذي تردد لم يكن أبدا من بين المترددين لأي شأن من الشئون، على منزل الرئيس عبد الناصر - على فرض أن لهذا الاسم وجودا

كما أن الرئيس لم يخضع للعلاج الطبيعي إلا لفترة محددة، بدأت بعد عودته من " سخالطوبو" في نهايات 1968م، وانتهت لدى إصابته بالأزمة القلبية الأولى عام 1969م، حين أوقفت هذا العلاج لتعارضه مع علاج المصاب بالقلب، وكان طبيب العلاج الطبيعي هو الدكتور فودة الضبط بالقوات المسلحة ومسئول العلاج الطبيعي بمعهد التأهيل بالعجوزة.

وكان جمال عبد الناصر مريضا مطيعا، يؤمن بأهمية الالتزام بإرشادات الطبيب قدر ما يستطيع، ومن الطريف أنه كان لا يحب أن يرى منظر الدم، وكان يدير وجهه عند أخذ عينة دم منه. وكان يدخن بكثرة سجاير " كرافن" بدون فلتر، ثم سجاير " كنت". وقد حاولنا مرارا منعه عن التدخين، ولكن دون جدوى، وكان يقول: " لقد أصبحت السيجارة هوايتي الوحيدة المتبقية، فهل ستحرمونني منها أيضا؟".

ولكن في 1968م حين بدأ يشعر بآلام الساق، نتيجة لضعف في الدورة الدموية، طلبنا منه ضرورة التوقف عن التدخين، كما طلب منه الأطباء الروس ذلك، وامتدت يد جمال عبد الناصر بالسيجارة المشتعلة إلى المنفضة بجانبه لتكون آخر سيجارة يطفئها، ولم يعد إلى التدخين بعدها أبدا.

وكان من الاعتبارات التي يقدمها جمال عبد الناصر على صحته، ما يتصل بالمال العام، وأذكر أنه في أعقاب إصابته بالأزمة القلبية الأولى، وفي ليلة سفره إلى الإسكندرية، نصحناه بأن يكون سفره بالقطار لا بالسيارة، تجنبا لإرهاق لا لزوم له، ويومها أجابنا: " هل تعلمون كم تكلف الدولة رحلة القطار إلى الإسكندرية؟". وفي صباح اليوم التالي توجه إلى الإسكندرية بالسيارة.

وكان جمال عبد الناصر يعمل قرابة الثماني عشرة ساعة يوميا، يصحو مبكرا وينام متأخرا، وكان طوال يومه حبيس مكتبه، ما بين الأوراق والهاتف وجهاز المذياع، وكان بحكم موقعه ومسئولياته، يعيش كل سطر يقرأه وكل خبر يسمعه، كان عمله هو حياته بكل ما في هذه الكلمات من معان.

كانت المشكلات التي يتعامل معها جسيمة جسامة طموحاته، وبقدر دوره الرائد في وطننا العربي وفي العالم الثالث، وحين كنت أنصحه بالبعد عن الانفعالات والحد من الجهد الذي يبذله، كان رده يجيئني: " هذه طبيعتي لا أستطيع لها تغييرا، وهذا قدري لا مناص من مواجهته".

الفصل الثالث:حرب يونيو 1967م

حفلت الفترة ما بين أول لقاء لي بالرئيس جمال عبد الناصر حين توليت مسئولية الإشراف على علاجه وبين حرب يونيو 1967م بكثير من الأحداث، عاشتها مصر داخليا وخارجيا.

ففي الداخل شهدت مصر تطورا ملحوظا في قدرتها الاقتصادية والإنتاجية في مجال الإنتاج الصناعي، فقد أقيمت عشرات المصانع، مما ساعد على سد الاحتياجات الأساسية للغالبية الساحقة من الشعب والتقليل من اعتمادا على الاستيراد، وبدء الدخول في مرحلة التصدير، كما شهد الإنتاج الزراعي طفرة كبيرة، وحققت مشروعات استصلاح الأراضي وزيادة الرقعة الزراعية أرقاما قياسية.

وفي الوقت نفسه، كانت سياسة مصر الخارجية لا تقل نشاطا وحيوية، فكان دور مصر الرائد في تدعيم سياسة الحياد الإيجابي وتوسيع دائرة دول مجموعة عدم الانحياز، وهي السياسة التي كانت مصر أحد الأركان التي أنشأتها مع كل من الهند ويوغسلافيا في محاولة لإيجاد طريق ثالث للدول النامية، تحافظ به على استقلالها دون أن تضطر غلى الدوران في فلك أي من القوى الكبرى.

وكانت علاقات مصر بالولايات المتحدة الأمريكية متوترة بصفة عامة، منذ رفض أمريكا تمويل السد العالي، ثم بسبب مواقفها من التجربة الثورية في مصر عامة، سواء في مجال التنمية أم في مجال سياسة مصر الخارجية في المنطقة العربية، ابتداء بموقف مصر المعارض لمشروع ايزنهاور، والذي كانت مصر ترى فيه تكرارا متطورا لمشروع حلف بغداد، وهو المشروع الذي سبق أن رفضته مصر.

وكان أيزنهاور قد تقدم في عام 1957م بمشروع يقضي بعقد تحالف عسكري مع دول الشرق الأوسط، لملء الفراغ الذي نتج عن جلاء القوات الإنجليزية والفرنسية، وهو في حقيقة الأمر خطة لبسط النفوذ الأمريكي في المنطقة. كما أم موقف الولايات المتحدة من قضية فلسطين وممالآتها لإسرائيل، كان من العوامل الرئيسية في ترسيخ هذا التباعد، وحين سنحت أول فرصة للحوار على مستوى القمة حول هذه القضية، بين الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس جون كنيدي، سرعان ما انتهت باغتيال الأخير في مدينة دالاس الأمريكية.

وحين تولى ليندون جونسون رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، توقف الحوار الذي بدأه كنيدي مع عبد الناصر، وأصيبت العلاقات المصرية- الأمريكية بمزيد من التدهور، فلقد ازدادت السياسة الأمريكية المنحازة لإسرائيل والعادية للعرب سفورا.

وكان واضحا أن التناقض ينبع من الجذور، فأمريكا ضد النمط الاشتراكي في التنمية الذي اختارته ثورة يوليو في هذه المرحلة، وضد أهداف التنمية التي تسعى غلى بناء القدرات الاقتصادية الذاتية لمصر، وتطويرها من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي زراعي.

وأذكر أن عبد الناصر قال لي:

" إن أمريكا تعارض في أن تكون مصر بلدا صناعيا، وإنهم أعربوا عن استعدادهم لتمويل أية مشروعات زراعية تحت هذا الشرط"

ثم أردف قائلا:

" إن مطلبهم هذا غير معقول، فضلا عن كونه غير مقبول، فإن بناء القدرات الذاتية الحقيقية لأية دولة، لا تكون إلا بالتصنيع لتكسر الدائرة المفرغة للتبعية. بالإضافة إلى أن مشكلتنا في معدل التزايد السكاني، تفرض علينا هذا الاتجاه فرضا، حتى لا نواجه يوما ي بمعدل زيادة في عدد السكان يزيد على معدل التنمية، لذلك فإنه حتى بعد أن ننتهي من بناء السد العالي، لا يمكن أن نعتمد على الزراعة فقط، بالزيادة في الرقعة الزراعية لن تكون كافية على المدى البعيد، ويجب أن نستخدم الطاقة التي يولدها السد لعالي في التصنيع".

وأمريكا كانت أيضا ضد المساعدات المصرية لقضايا التحرر الوطني في العالم الثالث، ومناوئة للدعم المصري لتحرير الدول العربية من الاستعمارين البريطاني والفرنسي، ومن السيطرة الأجنبية عامة، والتي كانت هي السيطرة الأمريكية في ذلك الوقت.

وبلغ التناقض مداه حين تقدمت حكومة جونسون بشروطها لاستمرار توريد القمح لمصر، وفي مقدمتها توقف نشاط مصر الثوري في الوطن العربي، بالإضافة إلى شروط أخرى تعتبر تدخلا في شئوننا الداخلية، وهي الشروط التي رفضها جمال عبد الناصر، وأعلن أن مصر لن تقايض حرية إداراتها، كما أنها لن ترهن دورها العربي، وأنها ستدبر العملة الحرة اللازمة لشراء القمح من الأسواق العالمية، أيا كانت الأعباء الإضافية التي يعنيها ذلك على خطة التنمية الاقتصادية.

وكانت العلاقات المصرية - الأوربية لما تزل متأثرة في تلك الفترة، بتجربة العدوان الثلاثي الذي شاركت فيه بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ضد مصر، ثم المعونة الفرنسية لإسرائيل في النشاط الذري، والتعويضات الألمانية المتدفقة على إسرائيل، وهدايا وصفقات الطائرات والدبابات الألمانية لها.

أما العلاقات المصرية - السوفييتية، فكانت تشهد تطورا مستمرا، بعد موقف الاتحاد السوفييتي من المعاونة في بناء السد العالي، ومساعدته لمصر في تمويل احتياجات خطة التنمية بشروط ميسرة.

ولم يكن بعيدا عن إدراك جمال عبد الناصر، أن لكل من الدولتين الكبريين في العالم أهدافها الخاصة، ولكن القضية ببساطة كانت أمامه كالتالي دولة كبرى - الولايات المتحدة - تعادي أهداف نظامه، منبعا وجذورا ودولة كبرى أخرى- الاتحاد السوفيتي- من مصلحتها معاونة مصر على بناء قدرتها الذاتية في التنمية، ودعمها في المحافل الدولية

لأن دور مصر التحرري يهز مركز القوة الأمريكية التي هي المنافس الأول للاتحاد السوفيتي، فقد كان هناك إذن تقارب في الأهداف ولو مرحليا بين مصر والاتحاد السوفييتي، وكان الاختيار منطقيا أمام دولة نامية تسعى إلى بناء ذاتها.

ولكن جمال عبد الناصر كان واعيا، على عكس كل الدعايات المغرضة، لأن هناك حدودا لعلاقاته مع الاتحاد السوفييتي، فاستقلال الإرادة المصرية، كان بالنسبة له قضية لا مجال فيها لأنصاف الحلول، ومن هنا شهدت هذه الفترة صعودا وهبوطا في العلاقات المصرية - السوفييتية. ولعل تلك المساجلة العلنية، التي حدثت في حفل انطلاق الشرارة الأولى في مشروع السد العالي، هي أكبر دليل على رفض جمال عبد الناصر السماح بالتدخل في شئوننا الداخلية من أي دولة كبرى.

ففي تلك الأيام كانت مصر تحتفل احتفالا ضخما ببدء بناء السد العالي، وهو المشروع العظيم الذي يجسد معركتها الكبرى في الخمسينات من أجل حرية إرادتها السياسية، وكان ضيوف الشرف في الاحتفال رؤساء دول عربية في مقدمتهم الرئيس عبد السلام عارف من العراق، وكان نيكيتا خروشوف على رأس ضيوف مصر، تقديرا للدور الذي لعبه الاتحاد السوفييتي في حرب 1956م ومن بعدها في تقديم المعونة في بناء السد العالي، وبدأ الضيوف بإلقاء كلماتهم في الاحتفال بموقع السد في أسوان، وكان جمال عبد الناصر آخر المتحدثين باعتباره رئيس الدولة المضيفة.

وكان للرئيس خروشوف مواقفه الدولية التي كثيرا ما تتسم بالتلقائية وفي كلمته عمد إلى الحديث عن الشيوعية كمذهب وكنظام سياسي، وإنها النظام الكفيل بتحقيق أماني العمال. ووقف جمال عبد الناصر ليلقي خطابه، فنحى جانبا الكلمة التي أعدها وبدأ حديثه، وسرعان ما وصل إلى التعليق على كلام خروشوف - ضيف الشرف الأول والأمين العام للحزب في إحدى القوتين العظميين - أكد عبد الناصر على أن حرية الإرادة المصرية مطلب غال

كلف شعبنا نضالا طويلا عبر تاريخه ولم يتحقق إلا بالثورة في عام 1952م وإن شعب مصر الذي خاض حربا ضروسا في عام 1956م دفاعا عن إرادته الحرة، غير مستعد لأن يفرط بذرة واحدة من حريته في اختيار نظامه السياسي، الذي ينبع من تاريخه ومعتقداته، وركز على أن شعب مصر الذي يحترم علاقات الصداقة بالشعوب الأخرى يرفض أية محاولة لأن تتعدى هذه الصداقة حدودها.

تعمد عبد الناصر أن يرد على نيكيتا خروشوف فوريا وعلنيا، ليحدد بوضوح وحسم أساس علاقات دولة نامية بدولة كبرى. ولم يكن ما قاله جمال عبد الناصر في ذلك إلا تعبيرا عن إحساس كل مصري، وبالفعل فلقد انتهى بناء السد العالي بعد سنوات من العمل المضني الذي شارك فيه خبراء سوفييت مع العمال المصريين، ولم يتحول عامل مصري واحد إلى الشيوعية.

كانت الفترة ما بين أول لقاءاتي بالرئيس جمال عبد الناصر وحرب يونيو 1967م حافلة إذن بالأحداث الكبار، ولكنني آثرت أن أبدأ هذه المذكرات مع حرب 1967م وكان لي في ذلك دوافعي، وهي متعددة علاوة على ما أسفرت عنه هذه الحرب من احتلال إسرائيل لأراض عربية جديدة هي: سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية ومرتفعات الجولان.

ففي ظني أن هذه الحرب كانت تمثل قمة التصعيد في المواجهة بين ثورة 23 يوليو بقيادة جمال عبد الناصر ، وبين قوى دولية عديدة، كانت تناصب الثورة العداء، كان اختلاف المصالح الأساسية والحيوية ظاهرا للعيان بوضوح منذ السنوات الأولى للثورة، بعد أن تحددت باليقين اتجاهاتها التحررية خارجيا، وانحيازاتها المطلقة لصالح الغالبية الساحقة من المصريين داخليا.

ولم يتوقف هذا التناقض عن التعبير عن نفسه طوال الوقت:

بالوسائل العسكرية حينا، مثلما حدث في 195م وحرب التحرير الجزائرية وحرب اليمن، وبالصراع السياسي والاقتصادي طوال الوقت. ولم يكن الصراع حول المصالح ظاهرة اختصت بها ثورة 23 يوليو، فليس ذلك بالقطع ما قصدت ـ فعلاقات الدول كعلاقات الأفراد ، ما هي إلا صراع مستمر لتحقيق المصالح.

ولكن ما ميز ثورة 23 يوليو كان – أولا

أنها ثورة في مصر تحتل موقعا استراتيجيا فريدا وخطرا في العالم، حيث تقع في منطقة القلب منه، أي الشرق الأوسط، سواء بكل ما يمثله هذا الموقع من أهمية إستراتيجية عسكرية للقوى الكبرى التي تمتد مصالحها على خريطة العالم أجمع، ويرتبط ثقلها وسيطرتها على العالم بمدى سيطرتها على منطقة القلب منه أو ربما تخبئه هذه المنطقة في باطنها من ثروة نفطية هائلة هي بمنزلة الدم في جسد النظام الدولي ودوله الكبرى. وتدفق الدم في الجسم عن طريق القلب، شرط أساسي لاستمرار الحياة.

وكان مما يميز ثورة يوليو – ثانيا

أن مصر بالذات ، تمثل منطقة الاتصال بين المشرق والمغرب العربي، فإما أن تكون عنصر عزل لطرفي الوطن العربي، أو تكون عنصر وصل وتواصل بين جناحي أمة واحدة، وهو بالمنطق التاريخي والجغرافي معا وظيفتها الطبيعية.

وكان مما يميز ثورة يوليو – ثالثا

أن مصر وعت أهمية موقعها في الصراع العالمي، وفي منطقة الشرق الأوسط بالذات، وأدركت أنها طرف أصيل في ما يدور حولها من صراع، حدوده حدود خريطة العالم كله، شاءت ذلك أم أبت.

وإزاء هذا الوعي كان أمامها أن تختار:

  • إما أن تخضع لمصالح القوى الكبرى التي تسير العالم، وتدور بالتالي في فلكها.
  • أم أن تصبح طرفا بالمشاركة الإيجابية تحقيقا لمصالح شعبها المصري والشعب العربي في الاستقلال الحقيقي سياسيا واقتصاديا.

وكان هذا ما اختارته الثورة منذ بدايتها ، ونتيجة لذلك التفت الغالبية الساحقة من الملايين العربية حول جمال عبد الناصر تأييدا لسياسته التي اتبعها تنفيذا لهذا الاختيار المبكر. وكانت حرب 1967م هذه النتيجة الحتمية لتناقض لمصالح بين ثورة 23 يوليو والقوى المعادية لها، بعد اختيارها الرافض - أي الثورة- للتبعية إن شرقا أو غربا.

أما بالنسبة لإسرائيل، فقد أيقنت أن الدول العربية لن تقبل الوجود الإسرائيلي طواعية، وإنما يجب أن يفرض قسرا، وأنها إذا تمكنت من الحصول على السيادة في الصراع العربي - الإسرائيلي، فإنها ستتصرف من منطلق الشعور بالأمن الاستقرار، وتتمكن من تحقيق وجودها وأهدافها التوسعية في المنطقة.

وكان أول أساليبها هو أن تصل إلى ما يسمونه " بالحدود الآمنة" وهو تعبير فضفاض ولا يعني هذا التعبير سوى الرغبة في التوسع. وثاني أساليب تأمين هذا الوجود، هو ضمان عدم نمو قوة عربية في ما وراء تلك الحدود الآمنة، يمكن أن تعرقل أو تتحدى مطامع إسرائيل، وبهذا المفهوم فإن الدول العربية المحيطة بها هي " مجال حيوي" لها يجب أن لا تظهر فيه بوادر قوة تهدد سيادتها في الصراع مع العرب.

فخطوط الهدنة المصرية - الإسرائيلية لم تشهد اعتداءات إسرائيلية منذ 1949م وكان ذلك حين كان النظام الجديد في مصر يبدو وكأنه حركة جيش إصلاحية، وإن جلاء الاستعمار البريطاني منتهى أملها وليس بداية عملها الثوري، ولكن حين بدأت مصر تعلن رفضها للأحلاف الغربية، وقع أول عدوان إسرائيلي على غزة في فبراير 1955م، وراح ضحيته تسعة وثلاثون من المصريين، فشعرت مصر بقوة إسرائيل، وعزمت الانضمام إلى الأحلاف لتحتمي بها.

ثم بدأ وجه مصر الثوري يزداد وضوحا مع الوقت، ليتأكد مدى التناقض بين استمرار الثورة المصرية وبين الأهداف النهائية لإسرائيل، فلقد كانت مصر أول من كشف التقاء المصالح بين إسرائيل والاستعمار، في حين كانت الحكومات العربية، قبل 1952م تسعى إلى المندوب السامي أو السفير البريطاني لكي تشكو له اضطهاد اليهود للعرب في فلسطين أو خرقهم للهدنة بين العرب وإسرائيل.

وكانت مصر أول من نادى بعدم الانحياز، كسياسة تبعد العالم الثالث عن التبعية للقوى التي كانت تقف وراء إسرائيل، كما كانت مصر أول من سعى إلى تنفيذ خطة شاملة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، تبني بها قوتها الذاتية وتعطي بها النموذج لمن حولها، للسير على طريق النهضة العربية الشاملة. وبدأت مصر بعد 1952م تفكر عربيا، وتعمل عربيا. فربطت نضال الشعب العربي في مشرق الوطن العربي ومغربه. ووسعت العمق الإستراتيجي لمواجهة إسرائيل.

وفي هذا الإطار العام كان دعم الثورة الجزائرية وتحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي، وكان دعم ثورة العراق وتحريره من النفوذ البريطاني، وكانت الوحدة مع سوريا لا تسقط تحت سيطرة الضباط الشيوعيين، ثم دعم ثورة عبد السلام عارف ضد حكم عبد الكريم قاسم المتحالف مع الشيوعية.

وفي هذا الإطار أيضا كان دعوة الثورة اليمنية التي لم يقف أثرها عند حد نقل اليمن من القرون الوسطى إلى القرن العشرين، وإنما كان لدعم هذه الثورة أهداف إستراتيجية قومية كبرى بتحويل هذا البلد العربي إلى المشاركة الفاعلة في المواجهة العربية - الإسرائيلية، بمنع البحرية الإسرائيلية من الملاحة في البحر الأحمر جنوبا في اتجاه باب المندب.

وحين أعلنت إسرائيل عن خطتها لتحويل مجرى نهر الأردن، لكي تزرع صحراء النقب، لتستوعب ملايين المهاجرين الجدد الذين يمثلون طاقة بشرية تدعمها في صراع الوجود مع الدول العربية، دعا الرئيس جمال عبد الناصر إلى أول مؤتمر للقمة العربية في عام 1964م، وناشد الدول العربية أن تتناسى خلافاتها إزاء الخطر المحدق بها

وحين طالب ملوك ورؤساء عرب باتخاذ المشروعات المضادة لخطة إسرائيل لتحويل المياه، أوضح لهم أن ذلك يمكن أن يقود إلى الحرب ولابد للدول العربية، وخاصة دول المواجهة أن تسعى إلى دعم قدراها العسكرية لتكون في موقف يجنبها الهزيمة، ويمكنها من الدفاع عن نفسها، ومن ردع إسرائيل عن التوسع في أراض عربية جديدة.

وبالفعل أنشئت القيادة العربية المشتركة لدراسة الاحتياجات الدفاعية للدول العربية، ووضعت خطط التنسيق بيت الجبهة المصرية والجبهة الشرقية (سوريا والأردن) في حالة بدء العمليات العسكرية ، ووضعت أسس خطة عسكرية عربية، صادقت عليها مصر، تقوم على دعم القدرات الدفاعية لدول المواجهة، ثم بناء قدراتها لردع مشروعات التوسع الإسرائيلي. ولكن الحكومات العربية سرعان ما شغلتها أمورها الداخلية وخلافاتها المشتركة عن الاستعداد الجاد لحرب قادمة مع إسرائيل. تلك هي الجذور الحقيقية للأزمة.

وفي عام 1956م وجدت إسرائيل في تصميم بريطانيا وفرنسا على إسقاط حكم عبد الناصر، فرصة لتحقيق هدف عزيز استشعرته مبكرا ولكنه لم يتحقق . وفي 1967م كانت إسرائيل قد وعت وحلفاؤها در الحرب السابقة، واستعدوا لجولة جديدة.

بداية الأزمة

بدأت أزمة حرب يونيو 1967م في مايو 1967م عقب ورود أنباء عن حشود إسرائيلية على الحدود السورية، وواكبتها تصريحات ليفي أشكول رئيس وزراء إسرائيل، وإسحق رابين رئيس الأركان، مفصحة في سفور عن نية إسرائيل في توجيه ضربة انتقامية - وقائية على حد تعبيرهم - ضد سوريا لتغيير نظام الحكم فيها، ولو أدى ذلك إلى احتلال دمشق، وذلك ردا على مساندة سوريا لنشاط الفدائيين الذي كان قد تزايد في الفترة الأخيرة.

وإزاء التهديدات الإسرائيلية على أعلى مستوى سياسي وعسكري بغزو سوريا، وإزاء الحشود الإسرائيلية على حدود سوريا التي أكدها وزير الدفاع السوري للمشير عبد الحكيم عامر، وبالنظر إلى الأبعاد الإستراتيجية الخطرة لمثل هذا الغزو على الأمن القومي لمصر، صدر قرار رفع درجة الاستعداد في القوات المصرية المسلحة إلى حالة الاستعداد القصوى، وأعلنت التعبئة العامة، وتم حشد قواتنا في سيناء. وهنا يتبادر السؤال الآتي: هل تم اتخاذ هذا الإجراء من باب التهديد لتخفيف الضغط عن سوريا؟ وأن عبد الناصر لم يكن يريد الحرب؟

ثم توالت الأحداث. ومع الحشد المصري للقوات على الحدود المصرية - الفلسطينية، كان لابد من أن تطلب مصر من أمين عام الأمم المتحدة أن يسحب قوات الطوارئ الدولية على امتداد هذه الحدود، تأمينا لسلامتها وتمكينا للقوات المصرية من مباشرة واجباتها إذا ما دعت الضرورة، وكان طلب مصر بسحب قوات الطوارئ الدولية، يعني تلك القوات المتمركزة على خط الحدود الشرقية مع استمرار بقائها في غزة وشرم الشيخ.

ولكن يوثانت أمين عام الأمم المتحدة في ذلك الوقت، لم يوافق على الانسحاب الجزئي، وأجاب على طلب وزير الخارجية المصري بسحب جميع قوات الطوارئ الدولية من سيناء بما فيها القوات المتمركزة في شرم الشيخ، وكذا تلك المتواجدة في غزة، وهما المنطقتان اللتان لم يشملهما طلب مصر إلى أمين عام الأمم المتحدة، ولا كان التخطيط العسكري ولا تعليمات الحشد وخطط انتشار القوات في سيناء، التي صدرت حتى ذلك التاريخ ، تقوم على دخول قواتنا إليهما.

وهكذا وجدت القيادة المصرية أمامها مشكلة بالغة الخطورة، نتجت عن قرار أمين عام الأمم المتحدة بسحب قوات الطوارئ الدولية من منطقة شرم الشيخ، فالنتيجة الحتمية لهذا القرار هي أن تقوم قواتنا المسلحة بالتمركز في هذه المنطقة واستعادة مواقعها فيها.

وبتقدم قواتنا المسلحة إلى شرم الشيخ، كان حتميا إغلاق مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية. فلم يكن من الممكن أن ترى قواتنا العلم الإسرائيلي يمر أمامها ، متحديا السيادة المصرية على مياهها الإقليمية في الخليج، ونحن في حالة حرب مع إسرائيل.

وكان جمال عبد الناصر قد دعا القيادات السياسية العليا (أعضاء مجلس الثورة ممن كانت لهم مناصب سياسية حينئذ ورئيس الوزراء صدقي سليمان) إلى اجتماع في منزله بمنشية البكري، وجرت مناقشة للتطورات السياسية والعسكرية منذ بدء الحشود المصرية في سيناء، وقدم المشير تقريرا عن تصوره لاحتلال شرم الشيخ.

وعرض الرئيس تقديره لاحتمالات المواجهة العسكرية مع إسرائيل، منذ بدأ التهديد الإسرائيلي والحشد العسكري المصري، موضحا أن هذه الاحتمالات تتزايد إلى درجتها القصوى، باحتلال قواتنا لمواقعها في شرم الشيخ، والإعلان عن غلق الملاحة الإسرائيلية في خليج العقبة، فأكد المشير استعداد قواتنا المسلحة لكل الاحتمالات.

وأبدى جميع الحاضرين رأيهم في أنه من غير المتصور أن تعود قواتنا إلى شرم الشيخ، في غيبة الإعلان عن غلق الملاحة في الخليج أمام دولة في حالة حرب مع مصر، تأكيدا للسيادة المصرية. وعلق رئيس الوزراء بأنه يرى أن تتمركز قواتنا في مواقعها بمنطقة شرم الشيخ دون إعلان عن إغلاق مصر للخليج أمام الملاحة الإسرائيلية.

وعاد الرئيس ليؤكد أن قرار غلق الخليج، بفتح المجال لحرب شاملة مع إسرائيل، ويدفع بهذا الاحتمال إلى مقدمة الاحتمالات المطروحة في المواجهة القائمة مع إسرائيل. فكرر المشير ثقته في قدرة القوات المسلحة على مواجهة هذا الموقف.

وقد اعتبر جمال عبد الناصر إغلاق مضيق تيران في وجه الملاحة الإسرائيلية، استعادة لحق سيادتنا على خليج العقبة، كما كان الحال قبل حرب 1956م. فقد حدث بعد حرب 1956م أن سمح لإسرائيل بحق الملاحة في مضيق تيران وخليج العقبة، واعتبارهما مياها دولية. ووضعت الأمم المتحدة قوات الطوارئ الدولية في منطقة شرم الشيخ بدلا من القوات المصرية، وبدأت السفن الإسرائيلية تستخدم مضيق تيران في غيبة القوات المصرية، ولم تذكر وسائل الإعلام شيئا عن ذلك، عقب انسحاب اليهود من سيناء إثر حرب 1956م .

وكانت حكومات عربية قد قامت بحملات مكثفة، حول وجود قوات الطوارئ الدولية في شرم الشيخ، متهمة جمال عبد الناصر باستخدامها ساترا حتى لا يغلق الملاحة في مضيق تيران أمام إسرائيل ومواجهة القوات الإسرائيلية.

وكان موقف عبد الناصر من هذه القضية ينبع من إدراكه لأولويات الصراعات في المنطقة، وتفادي الصدام المسلح مع إسرائيل، قبل بلوغ التخطيط الكامل لأهدافه، ولكن حجم الهجوم أثر في كثير من المسئولين حوله حتى إن المشير عبد الحكيم عامر بعث ببرقية من الباكستان، حيث كان يحضر جلسات المؤتمر الإسلامي عام 1966م يطالب فيها جمال عبد الناصر بسرعة الإعلان عن إغلاق الملاحة أمام إسرائيل في المضايق.

ولقد ذكر لي جمال عبد الناصر أن تصحيح الموقف، بعودة السيادة المصرية على مياهها الإقليمية في الخليج، لم يبارح ذهنه منذ1956م. وعلى مدى الأيام حتى 5 يونيو 1967م لم تحاول إسرائيل تحدي القرار المصري بالعبور في خليج العقبة، ولكنها اعتبرت أن إغلاق مضيق تيران في وجه الملاحة الإسرائيلية، موجبا لقيام حرب بينها وبين مصر

فلم يكن ممكنا أن تسكت على هذا الإجراء، وهي الدولة التي تقوم على فرض وجودها بالقوة على النحو الذي أوضحت، والخضوع للإرادة العربية مرة يعد، من وجهة نظرها، مقدمة لمخاطر بغير حدود، وفعلا تم تشكيل وزارة حرب، وأسند منصب وزير الدفاع فيها إلى موشي ديان.

وبرغم كل شيء فإنني اليوم، حين أعود بذاكرتي إلى الأحداث التي توالت منذ إعلان إسرائيل عن تهديداتها لسوريا حتى بدء القتال، لا أستطيع أن أمنع نفسي من التساؤل: هل لو لم يتم سحب قوات الطوارئ الدولية من شرم الشيخ، بما ترتب عليه من إحلال قواتنا مكانها، واستخدام مصر حقها القانوني بغلق الخليج أمام الملاحة الإسرائيلية، كانت ستتجنب الحرب مع إسرائيل؟

إن تقديري أن الحرب كانت واقعة لا محالة، فقد تنامت القوة المصرية داخليا، وعربيا، ودوليا، مما دفع الولايات المتحدة وإسرائيل إلى اتخاذ قرار بالعدوان، ووجدا في غلق الخليج فرصتهما الإعلامية المواتية.

وكان التقدير السياسي للرئيس جمال عبد الناصر هو أن الحرب واقعة لا محالة، وأذكر أنه أطلعني مرة على صورة لميناء إيلات، تم التقاطها وإرسالها إليه، وإن لم أفهم ما هو المقصود من ذلك. وفي الوقت نفسه، لم يكن جمال عبد الناصر يريد أن يكون هو البادئ بالحرب ليقلل بقدر الإمكان، من مدى التدخل الأمريكي دعما للمجهود الحربي الإسرائيلي، بحجة الدفاع عن دولة "وحيدة" في مواجهة محيط عربي "معاد" و"معتد".

وبعث الرئيس الأمريكي جونسون إلى الرئيس جمال عبد الناصر يدعوه إلى نسيان الماضي، وتجنيب الشرق الأوسط والعالم الأعمال العسكرية، وأنه يود إرسال نائبه هيوبرت همفري لزيارة مصر، لبحث الموقف، وبعث الرئيس عبد الناصر ردا يتفق فيه مع الرئيس الأمريكي في ما ذهب إليه من حيث تجنب الحرب، وشرح دوافع موقف مصر من حشد قواتها في مواجهة التهديد الإسرائيلي السافر لسوريا، ورحب باستقبال نائب الرئيس الأمريكي

كما اتفق على أن يسافر زكريا محيي الدين نائب رئيس الجمهورية إلى واشنطن للتفاوض مع الرئيس جونسون ، وقد تحدد يوم 5 يونيو موعدا لذلك، وفي الوقت نفسه أبدى السوفييت أملهم بأن لا تكون مصر هي البادئة بالعلميات العسكرية.

وعقد عبد الناصر مؤتمرا صحافيا يوم 28 مايو 1967م، وذلك قبل الحرب مباشرة. أجاب فيه على أسئلة الصحافيين بثقة، وشرح كيف بدأت الأزمة بالحشد الإسرائيلي ضد سوريا، وتهديدات رئيس وزراء إسرائيل باحتلال دمشق، وأن عودة القوات المصرية إلى شرم الشيخ تقود حتما إلى ممارسة مصر لحقوقها في مضيق تيران الذي لا يزيد عرضه عن ثلاثة أميال، كلها مياه إقليمية مصرية، وأن مصر لم ترتبط بأية معاهدات دولية بشأن الملاحة في مضيق تيران.

وأنه وفق اتفاقات الهدنة بين مصر وإسرائيل في عام 1949م لا يجوز لأي من الدولتين استخدام المياه الإقليمية للدولة الأخرى، وقد قابلت الرئيس عبد الناصر بعد المؤتمر الصحافي، فلاحظت عليه الانشغال العميق، ولا غرابة فالحرب واقعة لا محالة.

وكان تقدير الرئيس عبد الناصر، أن إسرائيل سوف تبادر إلى توجيه الضربة الأولى، وأنها ستوجه ضربتها غلى القوات الجوية. وذلك بالرغم من تأكيدات جونسون، بأن الولايات المتحدة تعارض أي عدوان في المنطقة، وأنها ستقف ضد من يبدأ بالعدوان.

وكان جمال عبد الناصر قد ذكر لي، أنه طلب الاجتماع بقادة الجيش في يوم الجمعة 2 يونيو 1967م وخلال الاجتماع عرض تقديره السياسي، بأن الحرب واقعة لا محالة، وبأن هدف الضربة الإسرائيلية الأولى سيكون القوات الجوية المصرية، لكشف الغطاء الجوي عن بقية القوات والأسلحة ، ليسهل على إسرائيل التعامل معها في ظل تفوق جوي.

وشدد عبد الناصر على ضرورة اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتأمين القوات المسلحة ضد الضربة الأولى هذه، والتي تضمن استيعاب القوات الجوية لهتا بأقل الخسائر قبل أن يتحولوا إلى الهجوم، ثم زاد عبد الناصر على ذلك، أنه وفقا لتقديراته ، فإن إسرائيل ستوجه ضربتها الأولى في موعد يبدأ يوم الأحد 4 يونيو، ويرجح أن يكون في صباح الاثنين 5 يونيو. ولم يجد هذا التحذير، من جانب جمال عبد الناصر، أي استجابة من قادة الجيش.

وعلى الجانب الشعبي، كان الحماس للحرب فوارا وامتلأت الشوارع باللافتات التي كتب عليها ما يؤكد انتصارنا على إسرائيل، وأننا سوف نتقابل في تل أبيب، ولا عجب في ذلك فقد سبق أن أعلن المشير عبد الحكيم عامر في إحدى خطبه، بمناسبة الاحتفالات بثورة 23 يوليو ، أن لدينا أكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط، وجدير بالذكر أن هذه اللافتات ، قد أزيلت في لمح البصر عقب الهزيمة.

وعلى الجانب الإسرائيلي كانت الدعاية مختلفة تماما، وكانت الإذاعات الإسرائيلية، تدعى أن العرب سوف يلقون باليهود في البحر، وعلى كل عائلة يهودية في أوربا، أن تهيئ مكانا عندها لأطفال اليهود.

وقائع في أيام الحرب

إسرائيل تبدأ الضربة الأولى

كنت على موعد مع الرئيس جمال عبد الناصر في صباح يوم الاثنين 5 يونيو 1967م، وكان عادة يطلبني للدخول إلى غرفته، في حوالي الساعة التاسعة والنصف صباحا، يرافقني الدكتور أحمد ثروت . وكنت عادة أذهب في حوالي الساعة التاسعة صباحا إلى مكتب السيد محمد أحمد السكرتير الخاص للرئيس، إلى أن يستدعيني جمال عبد الناصر.

ذهبت في ذلك اليوم في الثامنة والنصف صباحا، وفوجئت بالرئيس يستدعيني بمجرد وصولي، ولم يكن الدكتور ثروت قد وصل بعد، وحين صعدت إليه، أبلغني أنه لم ينم جيدا في الليلة الماضية، وأنه استيقظ مبكرا جدا، وكان يبدو مشغول البال. وفجأة وقبل توقيع نتيجة فحصه، سمعنا صوت صفارات الإنذار، وكان الوقت يشير غلى التاسعة صباحا.

استطلع عبد الناصر الأمر هاتفيا، فعلم أن إسرائيل بدأت الهجوم. وكان هذا أول علم له عن بدء قيام الحرب بين إسرائيل ومصر، ولاحظت على الفور الجدية والصرامة التي كست وجه عبد الناصر الذي اعتذر عن إتمام المقابلة وفحصه، وقام ليرتدي ملابسه على عجل شديد.

انصرفت وذهب هو إلى مكتب السيد محمد أحمد. وبدأت اتصالات جمال عبد الناصر بأن طلب الملك حسين، كما طلب الاتصال ببعض قيادات الجيش. ولم أدر بالطبع ما تم في هذه المكالمات.

بعد ذلك توجه جمال عبد الناصر إلى مركز قيادة الجيش، ليفاجأ بحجم الكارثة، فقد قامت إسرائيل بضرب المطارات المصرية، حوالي 85% من طائراتنا وهي مكشوفة على الأرض، ولكن كان موقف القوات البرية يبدو متماسكا، وكان الاتجاه العام السائد بين العسكريين في مبنى القيادة، هو ضرورة التمسك بالأرض والدفاع عنها.

وكان واضحا أنه بالرغم مما دار في اجتماع عبد الناصر بقيادة الجيش يوم الجمعة 2 يونيو 1967م وبالرغم من أن قيام الحرب بين إسرائيل وبيننا كان مؤكدا، ورغم أن مبادرة إسرائيل بالضربة الأولى كانت معروفة، فلقد كان هناك تراخ في الاستعدادات لتلقي هذه الضربة التي حصلت وكأنها مفاجأة للقادة العسكريين، مما أدى إلى تدمير سلاحنا الجوي، وإلى تحقيق إسرائيل نصرا كبيرا لم تتوقعه هي نفسها.

بل والأخطر منذ لك، أن المشير عبد الحكيم عامر الذي حضر اجتماع عبد الناصر بأعضاء مجلس قيادة الثورة في منشية البكري، واجتمع بقادة الجيش يوم 2 يونيو 1967م وسمع جمال عبد الناصر يحدد توقعاته لبدء العدوان في صباح الاثنين 5 يونيو، لم يكن يتصرف عن اقتناع بذلك كله.

فلقد اختار صباح 5 يونيو 1967م ليكون في طائرته فوق سيناء أثناء ضرب المطارات المصرية، ونتيجة لوجود طائرته في الجو في ظروف الطوارئ ، كانت هناك تعليمات عسكرية بتقييد المدفعية الأرضية، خلال رحلة المشير وحين عاد عبد الحكيم عامر إلى مكتبه، كانت الضربة الإسرائيلية قد أنجزت معظم أهدافها ضد قواتنا الجوية.

لم تشر وسائل الإعلام إلى أية أنباء عن تدمير سلاحنا الجوي، بل على العكس من ذلك، كانت القيادة العامة للقوات المسلحة، توالي إذاعة بيانات عسكرية معلنة عن انتصارات وهمية، وتدمير أعداد كبيرة من الطائرات الإسرائيلية. وكنا نتابع النشرات الإخبارية الخارجية، والبيانات العسكرية الإسرائيلية التي لم نكد نجد لها ذكرا في صحفنا وإذاعتنا.

وأذاع دايان أول بيان له، بأن إسرائيل قامت بتدمير سلاح الجو المصري، وأن هدف عدوانها، هو تخليص مصر من حكم جمال عبد الناصر ، ولكنها لا تضمر سوءا للشعب المصري.

قرار الانسحاب

في يوم 6 يونيو 1967م ذهبت لزيارة جمال عبد الناصر، فوجدته مهموما، وفي حالة حزن شديد، لم أره فيها من قبل، كانت مهمتي في ذلك اليوم صعبة. فقد طلبت منه أن يتناول إفطاره، أن يأخذ حقنة الأنسولين فأجابني وصوته يقطر ألما: " مش قادر أبلع اللي حصل"

في هذا اليوم أصدر عبد الحكيم عامر قراره بالانسحاب حتى لا تعزل وتباد قواتنا في سيناء، وأيا تكن مدى سلامة قرار المشير عامر بالانسحاب، بعد أن فقد الطيران دوره في القتال، وأصبحت قواتنا المسلحة مكشوفة أمام التفوق الجوي الإسرائيلي، فلقد تم اتخاذ القرار بسرعة، وفي حالة من الانفعال والتوتر، بغير دراسة هادئة بينه، - باعتباره القائد العام للجيش - وبين باقي القادة العسكريين لمعرفة المزايا والعيوب للانسحاب أو الصمود في المواقع في غياب الغطاء الجوي.

ونتيجة لسرعة الانسحاب بغير تخطيط سليم له، وما شابه من ارتباك وفوضى، كانت النتيجة أن تكدست الطرق بالمعدات والمركبات التي دمرها الطيران الإسرائيلي، الذي امتلك سماء المعركة دون مقاومة.

فخسرنا الجزء الأكبر من معداتنا التي حشدت في سيناء، دون أن تشترك فعليا في القتال، ثم أعقب ذلك قرار آخر بدفع الفرقة الرابعة المدرعة، إلى خط المضايق لاحتلالها ولتأمين عملية الانسحاب، ولكن هذه الفرقة عجزت، بدو غطاء جوي يحميها، عن إيقاف القوات الإسرائيلية، نتيجة تركيز الطيران الإسرائيلي عليها في الصحراء المكشوفة، واضطرت إلى الانسحاب بعد أن منيت بخسائر فادحة.

هواري بومدين يتصل بعبد الناصر

في صباح 7 يونيو ، قابلت الرئيس جمال عبد الناصر الذي قال لي بلهفة مصحوبة بالأمل، إن الرئيس هواري بومدين اتصل به من الجزائر، وطلب منه أن يؤجل الانسحاب، وأنه سوف يرسل إليه خمسين طائرة للمعاونة، ولكن الأمور سارت بأسرع مما كان متوقعا وتحطمت معداتنا في سيناء، قبل أن يصل هذا الدعم الجوي. ولا شك لدي في أن عبد الناصر ، لم يكن حتى ذلك الوقت، قد أبلغ بمدى الدمار الذي تعرضت له قواتنا البرية.

قبول وقف إطلاق النار

في يوم 8 يونيو ذهبت إلى الرئيس جمال عبد الناصر . ودق جرس الهاتف خلال وجودي، ولم أكتشف من المتحدث ، ولكني عرفت معظم حديثه تقريبا، فقد كان عبد الناصر يكرر الكلام الذي يسمعه منه، وكأنه يكرر كلمات تقرير يتلى عليه، وهو في حالة تركيز شديد لما يسمع من كلمات.

ذكر المتحدث لجمال عبد الناصر ، أن كل شيء قد انتهى، وأن الإسرائيليين يعدون صوب قناة السويس. قالها المتحدث بالإنجليزية ورددها عبد الناصر من ورائه: They are galloping towards the Suez canal وذكر له المتحدث، أن هناك قوة عبرت الحدود المصرية ودخلت إسرائيل فرد عليه عبد الناصر، وذهنه مستغرق: " يبقى لازم يعتمدوا على أنفسهم.. ويتصرفوا".

حين أعود اليوم بذاكرتي إلى هذه الواقعة، أجدني بين أحد احتمالين بخصوص هذا الخبر الأخير، عن دخول قوة مصرية إلى صحراء النقب: فإما أن المتحدث كان يقرأ على عبد الناصر نصوص برقيات واردة من وكالات الأنباء الدولية، وبعضها يكون غير دقيق، كالذي يبعث به المراسلون، جريا وراء سبق صحفي، أو أن المتحدث نفسه تسرع في نقل الخبر إلى عبد الناصر لكي يخفف من الموقف.

كان عبد الناصر حزينا بعد سماع كل هذه الأخبار، وكانت حالته النفسية تعكس ألما عظيما ودفينا. ولكن سرعان ما سيطرت شخصيته القوية على مشاعره وقال: " لا يمكن أن أترك الأمور تسير هكذا.. لابد لي أن أواجه الشعب". وكانت المسئولية الملقاة على عاتقي، في ذلك الوقت جسيمة، فقد مرض الدكتور ثروت، مما اضطرني أن أتولى كل شيء بنفسي.

وكان عبد الناصر في بادئ الأمر، يزن قبول وقف إطلاق النار أو رفضه في ضوء ثلاثة اعتبارات:

  1. لم يكن مشروع قرار مجلس الأمن، بوقف إطلاق النار المعروض حتى ذلك الوقت، مشروطا بانسحاب إسرائيل إلى خطوط ما قبل حرب 1967م بخلاف قرار الانسحاب الذي أصدره المجلس عام 1956م.
  2. كان جمال عبد الناصر لا يثق في التزام إسرائيل بوقف إطلاق النار حتى لو قبلناه نحن.
  3. كان جمال عبد الناصر يريد أن يتعرف إلى رأي الشعب، في وقف إطلاق النار. كان يقول لي: " أنت بتقابل ناس كتير عايز أعرف رأيهم بخصوص قبولنا وقف إطلاق النار"

وبعد ورود أنباء الهزيمة العسكرية، لم يكن هناك مفر من قبول وقف إطلاق النار، ومما لا شك فيه أنه كان لهزيمة يونيو 1967م وانهيار الجيش بهذه السرعة، دون أن يشترك في القتال مع العدو، وقع أليم على الشعب المصري والعربي على السواء. وكان لا يمكن أن نستعيد ثقتنا بأنفسنا، دون إنزال هزيمة إسرائيل من خلال معركة حربية، وهذا ما حدث في أكتوبر 1973م وعلاوة على ذلك فقد أثرت الهزيمة في شعبية الاتحاد السوفييتي في المنطقة.

وعلى الجانب الآخر كانت نشوة النصر الكبير، وغير المتوقع، والتي جعلت الإسرائيليين، يرقصون طوال الليل في الشارع، قد صعدت إلى رأس قادتهم فأعلن موسي ديان أنه قد تم تحطيم الجيش المصري، والقضاء على روحه المعنوية تماما، ولن يقوم لمصر جيش قبل عشر سنوات قادمة.

وكان الجانب النفسي، من أكثر ما اهتم به الإسرائيليون ، لذلك نجد أنه في الوقت الذي كان يمكنهم فيه أسر عدد أكبر من الضباط والجنود المصريين، فضلوا أن يعود هؤلاء إلى أهلهم، وهم في حالة نفسية سيئة، ليؤثروا في الروح المعنوية للشعب المصري، لكي ييأس ويؤمن بأسطورة إسرائيل التي لا تهزم.

بعد لك وبتاريخ 22 نوفمبر 1967م صدر قرار مجلس الأمن رقم 242، الذي تقدمت به انجلترا. وقد تمت صياغته بشكل لم يتفق العرب وإسرائيل على تفسيره.

وقد تضمن القرار المبدأين التاليين:

أولا: جلاء القوات الإسرائيلية المسلحة عن الأراضي التي احتلت في الصراع الأخير.
ثانيا: الاعتراف بحق كل دولة في المنطقة في أن تعيش بسلام داخل حدود آمنة معترف بها، حرة من التهديدات أو أعمال القوة.

كما نص القرار على عدم جواز احتلال أراض بالقوة. وأكد على ضرورة حماية الملاحة عبر الممرات المائية الدولية في المنطقة. وتحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين. وكان هذا المشروع أقصى ما يمكن الحصول عليه، في ظل توازن القوى العسكرية في المنطقة بعد حرب 1967م وفي الوقت نفسه كان جمال عبد الناصر بحاجة إلى قرار الأمم المتحدة، ركيزة يبدأ منها العمل الوطني في المرحلة التالية.

قرار التنحي

في صباح يوم 9 يونيو، ذهبت إلى جمال عبد الناصر مبكرا، فوجدته يذرع حجرته ذهابا وإيابا، مستغرقا في تفكير عميق. حياني، ورجاني برقته البالغة، أن أتركه وحده، فخرجت بعد أن اطمأنيت إلى صحته. وفي مساء ذلك اليوم شاهدت على شاشة المرئية جمال عبد الناصر يوجه بيانه إلى الأمة ويعلن قراره بالتنحي.

بدأ عبد الناصر بيانه بتأثر، والحزب يسبق كلماته وهو يقول:

"لقد تعودنا معا في أوقات النصر، وفي أوقات المحنة، وفي الساعات الحلوة، وفي الساعات المرة، أن نجلس معا، وأن نتحدث بقلوب مفتوحة. وأن نتصارح بالحقائق مؤمنين أنه من هذا الطريق وحده، نستطيع دائما أن نجد اتجاهنا السليم مهما كانت الظروف عصيبة، ومهما كان الضوء خافت... ولا نستطيع أن نخفي على أنفسنا أننا واجهنا نكسة خطرة خلال الأيام الأخيرة...".

ومضى عبد الناصر يحلل الخطوات العامة للمعارك التي دارت على الجبهة المصرية والجبهتين الأردنية والسورية، موضحا أن اتجاه الضربة الأولى ينبئ بتسهيلات أعطيت للعدو تفوق مقدرته، وتتعدى المدى المحسوب لقوته. ومن الثابت أيضا، أن قطعا بحرية أمريكية كانت بقرب شواطئ العدو، تساعد مجهوده الحربي. فضلا عن قيام عدد من الطائرات الأمريكية بعمليات الاستطلاع فوق بعض مواقعنا.

وحدد عبد الناصر المهام العاجلة أمام مصر. وأولاها أن نزيل آثار العدوان، وأن نقف مع ألأمة العربية القادرة بكل طاقاتها وإمكانياتها أن تصر على هذا الهدف، وقال: إن علينا أن ندرك درس النكسة وحقائقه، فإن القضاء على الاستعمار في الوطن العربي، يترك إسرائيل بقواها الذاتية، ومهما كانت الظروف ومهما طال المدى فإن القوة الذاتية العربية أكبر وأقدر على الفعل، ثم إن الأمر يقتضي كلمة موحدة، تسمع من الأمة العربية كلها، فذلك ضمان لا بديل له في هذه الظروف.

وبين عبد الناصر فحوى رسالة الرئيس الأمريكي له في 26 مايو 1967م يطلب ألا نكون البادئين بإطلاق النار، حتى لا نواجه نتائج خطرة. كما أن السفير السوفييتي، في الليلة نفسها، طلب مقابلته، بصفة عاجلة في الثالثة والنصف من بعد منتصف الليل، ليبلغه بطلب ملح من الحكومة السوفيتية، أن لا نكون البادئين بإطلاق النار.

وعن المسئولية في تحمل تبعات هذه النكسة، قال عبد الناصر: إنه على استعداد لتحمل المسئولية كلها. وأضاف :

" لقد اتخذت قرارا أريدكم أن تساعدوني عليه، فلقد قررت أن أتنحى تماما ونهائيا، عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي. وأنه تطبيقا للدستور المؤقت لسنة 1964م ، فقد تم اختيار زكريا محيي الدين ليتولى منصب رئيس الجمهورية، ولأن يعمل بالنصوص الدستورية المقررة".

وما أن اختتم عبد الناصر بيانه إلى الشعب بأن :

" هذه ساعة للعمل وليست ساعة للحزن، إنه موقف للمثل العليا وليس لأية أنانيات أو مشاعر فردية.. وإن قلبي كله معكم، وأريد أن تكون قلوبكم كلها معي.. وليكن الله معنا جميعا أملا في قلوبنا وضياء وهدى"

حتى خرجت الألوف إلى الشوارع، وسارت إلى داره. وطوال الليل، وبرغم انطلاق صفارات الإنذار أكثر من مرة، استمر تدفق الجماهير إلى العاصمة، وما أن بزغ الصباح حتى كانت الملايين في شوارع القاهرة ومن حول بيته، رافضة قراره بالتنحي، ومطالبة ببقائه في موقع المسئولية.

وتردد أن خروج الجماهير بعد سماعها بيان التنحي، كان مدبرا ولكن لا يستطيع منصف، عاش أحداث هذه الليلة، أن يكرر هذا الادعاء، فما من تنظيم مهما كانت كفاءته، يقدر على تنظيم خروج هذه المئات من الألوف إلى الشوارع عقب سماع قرار التنحي مباشرة.

ولكن الناس جميعا، الذين كانوا مجتمعين حول أجهزة المذياع أثناء إلقاء جمال عبد الناصر بيانه إلى الأمة، حتى بدت الشوارع طرقات في مدينة مهجورة، هم الذين اندفعوا غلى الشوارع فور سماعهم خبر التنحي. وكانت أحداث تلك الليلة، أكبر استفتاء شعبي لجمال عبد الناصر.

رفض قرار التنحي

في صباح 10 يونيو، ذهبت والدكتور على البدري والدكتور ناصح أمين إلى منزل جمال عبد الناصر واضطررنا إلى أن نذهب من طريق صلاح سالم، وأن نسلك من خلال الثكنات العسكرية ، لنتمكن من الوصول، حيث كان الطريق الرئيسي إلى منزله، مسدودا بالآلاف الساهرة طوال الليل حول منزله.

قابلنا جمال عبد الناصر الذي قال إنه قرر أن يتنحى وأن يتحمل المسئولية الكاملة، حتى لا يتوه البلد في توزيع المسئوليات، ويتوه العمل الوطني عن هدفه الأول وهو تحرير الأرض، وقال إنه اختار زكريا محيي الدين لأن في استطاعته أن يحصل على شروط أفضل من أمريكا.

وفي اليوم نفسه، عقد مجلس الأمة جلسة طارئة، غلب عليها الانفعال الشديد، للنظر في قرار التنحي الذي رفضه الأعضاء جميعا، وطالبوا عبد الناصر بالرجوع عن قراره

وقال أنور السادات رئيس المجلس للأعضاء:

" لقد كان القرار الذي اتخذه الرئيس جمال عبد الناصر مفاجأة لي كما كان مفاجأة لجماهير أمتنا العظيمة الصابرة الصامدة. لأن الرئيس أراد ألا يطلع أحدا على قراره، رغبة منه في أن يتحمل كل المسئولية.. وفي ما يتعلق بي، فإني لا أقبل كما لا تقبل جماهير أمتنا قيادة غير قيادة جمال عبد الناصر".

وعند الظهر تلقى المجلس من جمال عبد الناصر رسالة، قال فيها إنه كان يتمنى لو ساعدته الأمة الآن على تنفيذ القرار الذي اتخذه بالتنحي. وأضاف قائلا:

" يعلم الله أنني لم أصدر في اتخاذ هذا القرار عن أي سبب غير تقديري للمسئولية، تجاوبا مع ضميري ومع ما أتصور أنه واجبي، فإني لأعطي هذا الوطن، راضيا وفخورا، كل ما لدي حتى الحياة إلى آخر نفس فيها".

وقال:

" إن الكلمات تضيع مني وسط زحام من المشاعر، يملك على كل جوارحي، وأقلو لكم بأمانة، وأرجوكم تبليغ مجلس الأمة، أنني مقتنع بالأسباب التي بنيت عليها قراري، وفي الوقت نفسه فإن صوت جماهير شعبنا، بالنسبة لي أمر لا يرد، ولذلك فقد استقر رأيي على أن أبقى في مكاني ، وفي الموضع الذي يريد الشعب مني أن أبقى فيه ، حتى تنتهي الفترة التي نتمكن فيها جميعا من أن نزيل آثار العدوان. على أن الأمر كله بعد هذه الفترة يجب أن يرجع فيه إلى الشعب في استفتاء عام".

واختتم عبد الناصر رسالته بقوله:

" والآن أيها الأخوة المواطنون في كل مكان أيديكم معي ولنبدأ مهمتنا العاجلة.. وليمنحنا الله جميعا تأييده وهداه.."؟ منذ هذه اللحظة، بدأت أروع مراحل نضال جمال عبد الناصر وبدأ مشواره نحو إزالة آثار العدوان، بعد أن رفض الشعب الهزيمة وقبول شروط المنتصر، التي حددها ديان بإنهاء حكم عبد الناصر، بكل ما يرمز إليه ذلك من إنهاء لمبادئ 23 يوليو 1952م.

وكان موشى ديان قد أدلى بتصريح قال فيه:

" إنني جالس اليوم أنتظر محادثة هاتفية من مصر في أي لحظة تعرض فيها الاستسلام لشروطنا". ولكن طال انتظار ديان لتلك المكالمة، ولم تستسلم مصر رغم الهزيمة العسكرية.

وابتداء من هذا التاريخ، بدأ جمال عبد الناصر يسعى إلى التغيير وإلى التطوير، للقضاء على الأسباب التي قادت إلى هزيمة 1967م، في الوقت نفسه الذي مضى فيه على طريق بناء القوة العسكرية، لتسليح إرادة الرفض المصري للهزيمة، بالقدرة على تحرير الأرض المحتلة في 1967م.

فبعد فترة وجيزة من هزيمة يونيو 1967م بدأت حرب الاستنزاف ومضت تتصاعد معلنة عن تطوير قدرات القوات المسلحة المصرية، حتى كانت هزيمة إسرائيل الساحقة في حرب أكتوبر المجيدة 1973م على غير ما توقعت إسرائيل.

وكان عنصر المفاجأة أهم ما تميزت به حرب أكتوبر 1973م وكان من أهم العوامل التي أدت إلى تحقيق النصر. وأذكر أن المشير أحمد إسماعيل، قال لي حينما كنت أزوره أثناء مرضه بعد الحرب، إنه كان يقوم بتضليل العدو بشتى الطرق، حتى إنه أرسل زوجته إلى لندن للعلاج قبل الحرب مباشرة .

وكان مشوار جمال عبد الناصر في هذه المرحلة، من 10 يونيو 1967م وحتى رحيله في 28 سبتمبر 1970م قصيرا بقياس السنين، عظيما بقياس الإنجاز، رهيبا بقياس الجهد الذي بذل والمسئولية التي تبعت ذلك على كاهل أطبائه.

الفصل الرابع: الصراع بين عبد الناصر وعبد الحكيم

في مجال الحديث عن حرب يونيو 1967م تجب الإشارة إلى الخلافات والصراع بين جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، فمما لا شك فيه أن هذه الخلافات، أفقدت عبد الناصر السيطرة على الجيش، وكانت ضمن أسباب الهزيمة في حرب حزيران 1967م.

قبل حرب يونيو 1967م ، كان المشير عبد الحكيم عامر نائبا لرئيس الجمهورية وقائدا عاما للقوات المسلحة، كما كان رئيسا للجان الحراسات وتصفية الإقطاع، وكانت المراكز الرئيسية في الدولة تشغل بواسطة أعوانه، وكان عبد الحكيم عامر وأعوانه يسيطرون سيطرة تامة على الجيش، مما جعل من المؤسسة العسكرية مركز قوة له شأنه.

وكان عبد الحكيم عامر أقرب الضباط الأحرار إلى قلب جمال عبد الناصر، وأوثقهم صداقة به، والعلاقة بينهما من المفاتيح الرئيسية لمن يتابع السياسة المصرية، منذ قيام الثورة وحتى عام 1967م وكانت هذه العلاقة تبدو صافية طوال تلك السنوات الخمس عشرة، ولكن القريبين من متابعة الأمور العامة كانوا يعلمون أو يشعرون ببعض الصراعات على مستوى الممارسة، ولكن بالقطع ظل الرجلان صديقين على المستوى الشخصي.

ولقد بدا الاختلاف السياسي- إذا جازت التسمية- بين الرئيس والمسير عقب عدوان 1956م نتيجة إدارة المعركة العسكرية، فلقد شعر الرئيس وقتها بحاجة الجيش إلى قائد محترف، ولكن المشير الذي كان ولاء الجيش قد انعقد له رفض الفكرة ووعد بالتطوير، وإزاء حجم التآمر الخارجي والداخلي على مصر في ذلك الوقت وما بعده، ظل الرئيس حريصا على ألا تقع البلاد فريسة لصراع على السلطة مع الجيش - وهو دوما أقوى المؤسسات في أية دولة في العالم الثالث- لأن ذلك كفيل بأن يتمكن منها أعداؤها.

ثم عاد الاختلاف إلى السطح مرة أخرى، بل وتحول إلى صراع سياسي عام 1961م بسبب ممارسات مجموعة الضباط المحيطة بالمشير، خلال سنوات الوحدة مع سوريا، والتي أدت إلى الانفصال الذي قاده ضباط سوريون يعملون في مكتب المشير في سوريا.

وأراد الرئيس في عام 1962م تشكيل مجلس للرئاسة، يمثل القيادة السياسية على مستوى مجلس وأن يفصل بينه وبين السلطة التنفيذية، متمثلة في الوزراء الذين تكون مسئوليتهم أمام المجلس المذكور، وكان من بين أهداف الرئيس من ذلك، أن يتولى أمور الجيش قائد محترف، وأن يترك أعضاء المجلس أي مناصب تنفيذية يتولونها

ولكن المشير الذي قبل الفكرة، عاد وتراجع عن قبوله لها ورفض التنازل عن اختصاصاته كقائد عام للقوات المسلحة، وذلك بتشجيع وتحريض من قادة المؤسسة العسكرية المحيطين به، وقدم استقالته في ديسمبر 1962م التي ذيلها بجملة تحمل التحذير الضمني ، وعمد ‘لي طباعتها ونشرها.

وتبع ذلك اجتماع كبار قادة الجيش في شبه مظاهرة عسكرية، يعلنون تمسكهم بعبد الحكيم عامر قائدا عاما، وكانت تلك من أخطر التطورات التي مرت بها مصر الثورة، حيث بات واضحا حجم الصراع للسيطرة على القوات المسلحة، التي كانت أداة تأمين الثورة وأداة التغيير الثوري حتى ذلك الوقت.

وعندما أحس جمال عبد الناصر بخطورة الموقف، طلب من عبد الحكيم عامر سحب استقالته وأن يحتفظ بجميع اختصاصاته، مما شجع أعوان عبد الحكيم عامر على التطلع لمزيد من السلطة.

وخلال العامين التاليين لتلك الأحداث الخطرة، تمكن المشير من تركيز العديد من السلطات في يده، واكتسب ولاء أعمى من كبار القادة والضباط المحيطين به، ممن استفادوا من المشير وسياساته، بل وتعدى نفوذه النطاق المباشر للجيش، ليشمل المؤسسات المسئولة عن الدفاع عن الدولة، ومنها المخابرات العامة برئاسة صلاح نصر، وفي العامين اللذين تليا هذه المرحلة، أي حتى 1967 م كان المشير حريصا على إبعاد القائد الأعلى للقوات المسلحة، رئيس الجمهورية ، عن كل ما يتصل بأمور الجيش خشية أن يتمكن الرئيس من عزله.

وقد ساعد المشير على توطيد سلطاته، الفراغ السياسي الناجم عن ضعف الدور السياسي للاتحاد الاشتراكي، التنظيم السياسي الوحيد في ذلك الوقت.وعلى ذلك النحو، كانت خطوط العلاقة بين الرئيس جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر: صداقة عميقة وقديمة على المستوى الشخصي، يشوبها الحرص والترقب السياسي الذي يمكن أن يكون لانفلاته آثاره المدمرة.

ولكن في مواقف تتصف بأنها تاريخية، فإن الأمر يحتاج إلى قرارات من الصفة ذاتها، لذلك كان أول قرارات عبد الناصر ، إثر الموقف التاريخي للشعب في 9 و 10 يونيو، هو تعيين القادة الجدد للجيش، وعزل المشير ومجموعته، فلقد آن للصراع السياسي أن يحسم، ليقوم عبد الناصر بمباشرة مسئولياته، التي كلفه بها الشعب يوم تمسك به ليقود مرحلة التحرير.

وكان المشير قد غادر مقر القيادة العامة للجيش يوم 7 يونيو، واعتكف في منزله دون أن يقدم استقالته إلى الرئيس كتابة، ودون أن يوضح نواياه، مكتفيا بالقول لمن حوله بأنه رفض طلب ا لرئيس عبد الناصر، بأن يبتعد عن كل أمور الجيش، ولم يكن من السهل القطع، في ذلك الوقت بما يجول في فكر المشير، ولذلك حاول عبد الناصر ألا يدخل في صدام مباشر معه، أو يتخذ أي إجراء ضده، أملا في تقديره لضرورات المرحلة القادمة، وظل المشير في منزله بحراسته المعتادة، يتمتع بكل الحرية في الحركة وفي استقبال من يشاء.

إلا أن المحيطين بالمشير لم يكونوا على استعداد لأن يتركوا مناصبهم، خاصة وقد أقلقهم موقف الشعب في 9 و10 يونيو، الذي أعاد عبد الناصر وحده. وأصبحوا بالتالي يشعرون بأن يوم حسابهم قد قرب، وقد لعب هؤلاء الدور الأكبر في دفع المشير إلى تحدي السلطة الشرعية والتآمر عليها، مؤكدين له أنه سيواجه مسئولية الهزيمة العسكرية وهو بعيد عن الجيش ، فتسببوا بذلك في نهايته.

وبدأت مظاهر التحدي، في اليوم نفسه الذي اتخذ فيه الرئيس عبد الناصر قراره بتغيير قادة الجيش ، فلقد قام ضباط المشير بتظاهرة في مبنى القيادة، مطالبين بعودة المشير، وتبع ذلك اقتحام بعض القوات لمبنى لقيادة، للغرض ذاته، إلا أنهم تفرقوا تحت التهديد بالاعتقال ومحاكمتهم عسكريا.

وتدريجيا بدأ المشير في تجميع أعوانه، من قادة الجيش ووزير الحربية شمس بدران وعززوا الحراسات حول منزل المشير وأقاموا المتاريس، واستقدم المشير رجالا مسلحين من قريته " أسطال" ليحول منزله إلى حصن مسلح.

وبدأ المشير في تكثيف اتصالاته داخل الجيش، من خلال أعوان لشمس بدران، وكذلك بأعضاء في المؤسسات السياسية، كمجلس الأمة ومؤسسات الرأي في الصحافة، وأعاد المشير طبع الاستقالة التي كان قد تقدم بها عام 1962م وقام بتوزيعها على نطاق واسع، واتضح أن المشير يتحرك سياسيا وعسكريا مستغلا موقف جمال عبد الناصر الذي اتصف بالحلم حتى ذلك الوقت، كما وقعت عدة أحداث استفزازية من ضباط المشير.

وفي أحد الأيام وكان ذلك في النصف الثاني من أغسطس 1967م وقبل سفرنا إلى الخرطوم لحضور مؤتمر القمة العربي، كنت في زيارة للرئيس عبد الناصر للكشف الطبي المعتاد عليه، وجدته في ضيق ، وقال لي: " إن أحد الضباط كان مطاردا ودخل منزل المشير عبد الحكيم عامر بالجيزة واحتمى فيه، وتبادل إطلاق النيران مع القوة التي كانت تطارده، ولم ترغب القوة في اقتحام منزل عبد الحكيم عامر".

ثم أردف قائلا:

" أنا عارف أن عبد الحكيم راجل صعيدي وظننت أن حمايته لهذا الضابط كانت من باب الشهامة. ولكن اتضح لي أن ألأمر أكبر منذ لك بكثير، وأن هناك مؤامرة مدبرة ضدي يقودها المشير".

ثم قال لي الرئيس، بعد فترة صمت:

" أنا مش قادر اقطع بشيء بخصوص عبد الحكيم"

وفي اليوم التالي علمت من الرئيس، أنه كانت هناك بالفعل مؤامرة. وأخبرني أنه قد تقرر تحديد إقامة عبد الحكيم عامر. فقد اتضح أن المشير عبد الحكيم عامر وشمس بدران قد وضعا، بمعاونة عدد من الضباط المتقاعدين الموالين لهما، خطة عسكرية لتمكين المشير من الوصول إلى القيادة العسكرية الميدانية الوحيدة في ذلك الوقت في الإسماعيلية، باشتراك بعض قوات الصاعقة والطيران ، وعند وصوله إلى هناك يتولى قيادة الجيش، ويجبر الرئيس على التنازل عن الحكم في 27 أغسطس، قبل سفره إلى الخرطوم، ويتولى المشير مهام رئيس الدولة.

وفي 25 أغسطس، دعا جمال عبد الناصر عبد الحكيم عامر لحضور اجتماع في منزله بمنشية البكري، يحضره السادة زكريا محيي الدين وحسن الشافي وأنور السادات، وفي اليوم نفسه كلف الرئيس وزير الحربية الفريق أول محمد فوزي بأن يقوم بتطهير منزل المشير من جميع القوات الموجودة فيه، والقبض على كل العسكريين والمدنيين المرابطين فيهن مع عدم المساس بأي فرد من أسرة المشير.

كنت أنا والدكتور على البدوي والدكتور ناصح أمين في منزل الرئيس في ذلك اليوم، حيث لاحظنا أن الجو كان متوترا، وأنه كانت هناك حركة وإجراءات أمن غير عادية، وانصرفنا قبل أن يحضر المشير عبد الحكيم عامر.

وفي الموعد المحدد، وصل المشير إلى منزل الرئيس، ودخل إلى البهو. وفي الوقت نفسه، اتجه ضباط الحراسة الخاصة بالمشير، كعادتهم إلى مكتب أمانة الرئيس الخاصة، وما أن دخلوا حتى طلب منهم ضباط الحراسة الخاصة للرئيس عبد الناصر تسليم أسلحتهم الشخصية، ففعلوا دون مقاومة.

وبوصول المشير، نزل الرئيس إلى البهو، وواجه المشير أمام الحاضرين بتفاصيل ما يجري في منزله، والمقابلات التي تجري طوال اليوم بينه وبين شمس بدران ومجموعته، وواجهه بخطة الانقلاب المدبر تنفيذها بعد 48 ساعة، وطالبه الرئيس بالابتعاد عن الجيش تماما، وذكره بأنه منذ 1958م يطلب منه ذلك، لكي تتولى أمور الجيش قيادة متطورة محترفة ولكن دون جدوى. وحاول الحاضرون للاجتماع، طويلا أن يثنوا المشير عن أي تصرف متهور، وأن يقبل الابتعاد الكامل عن الجيش، وأن يقدر ظروف المرحلة القادمة.

وبعد عدة ساعات من هذه المناقشات التي كان المشير فيها رافضا أي تجاوب، مصرا على تمسكه بالقوات المسلحة، غادر الرئيس الاجتماع وصعد إلى حجرته يائسا من موقف المشير، تاركا معه السادة زكريا محيي الدين وحسين الشافعي وأنور السادات. وقام المشير إلى دورة المياه، وسرعان ما خرج منها، وارتمى على مقعد قائلا بصوت عال: " أنا انتحرت علشان يعجبكم" وألقى على الأرض بشريط دواء بعد أن ابتلع ما فيه، وكان في ظاهره شريط أقراص ريتالين وهو دواء منبه.

وعلى الفور تم استدعاء الدكتور الصاوي محمود حبيب فورا من مكتب الأمانة الخاصة المواجهة لمنزل الرئيس، وقام الدكتور الصاوي بإجراء الإسعافات اللازمة، حيث تم إفراغ ما في معدة عبد الحكيم عامر، وقد ذكر لي الدكتور الصاوي أن عبد الحكيم عامر كان محتقن الوجه وكان يتصبب عرقا.

وفي الساعات الأولى من صباح اليوم التالي 26 أغسطس 67م خرج المشير عبد الحكيم عامر، جالسا بين السيدين زكريا محيي الدين وحسين الشافعي في سيارته السوداء التي وصل به إلى منزل الرئيس في الليلة السابقة، بعد أن تم تغيير سائقها. وتوجه الجميع إلى منزل المشير بالجيزة، والذي كان قد تم تطهيره من أعوانه المسلحين، ووضع المنزل تحت حراسة من قوات الجيش، حيث حددت فيه إقامة المشير بين أولاده دون السماح له بالخروج، ودون السماح بالدخول أو الخروج لغير أولاده وأهله.

وفي صباح اليوم التالي، دق جرس الهاتف في منزلي وكان المتحدث هو جمال عبد الناصر يعتذر عن مقابلة الأطباء في ذلك اليوم، حيث كان المفروض أن أقابله مع الدكتور ناصح أمين لإجراء بعض التحليلات، وكان جمال عبد الناصر قد أمضى ليلة مشحونة بالانفعالات لم يذق فيها طعم النوم، ثم اتصلت هاتفيا بالدكتور الصاوي محمود حبيب فأبلغني ما جرى في تلك الليلة.

ولكن المشير عبد الحكيم عامر لم يتوقف عن التحرك السياسي، والاتصال بأعوانه سرا، مستخدما بعض أفراد أسرته في نقل الرسائل الشفهية والكتابية، مما اضطر الرئيس إلى اتخاذ قرار تحديد إقامته منفردا، في مكان منعزل في منتصف سبتمبر 1967م وحين دخل عليه رئيس الأركان الفريق عبد المنعم رياض ليبلغه قرار تحديد إقامته في منزل آخر، سارع المشير إلى تناول سيء ما، وأخذ يلوكه وسط صياح أبنائه بأنه قد تناول سما.

فنقل على الفور إلى مستشفى المعادي، حيث أجريت له كل الإسعافات اللازمة، ولم يغادر المستشفى إلا بعد تقرير أطبائها بسماح حالته بذلك، ولكن بعد ظهر اليوم التالي عاد المشير إلى تناول مادة سامة معبأة في شريط معدني لأقراص الريتالين كان يخبئها في أسفل البطن.

وحين أبلغ الرئيس نبأ انتحار المشير عبد الحكيم عامر في مساء اليوم ذاته، أمر باتخاذ جميع الإجراءات القضائية، وأن يتولى مهام التحقيق وزير العدل والنائب العام والاختصاصيون بالطب الشرعي، وتم تشريح الجثمان، وصدر قرار النائب العام بثبوت وفاة المشير منتحرا. ونقل جثمان المشير إلى بلدته " أسطال" ، ليدفن هناك دون احتفال رسمي.

الفراغ بعد عبد الحكيم عامر

لا شك أن موت عبد الحكيم عامر ترك فراغا كبيرا في نفس جمال عبد الناصر، فلقد كانا صديقين حميمين على ا لمستوى الشخصي، وإن فرضت السياسة عليهما قدرا من الحرص والترقب. ولعل تقسيم السلطة بينهما، قد فرض عليهما أن يكونا متلازمين، وأوجب استمرار الصداقة بينهما، فرغم أن الشعب كله كان خلف عبد الناصر الذي تمتع بتأييد المصريين تأييدا لم يتمتع به زعيم من قبله، إلا أن المشير كان يتمتع بالولاء المطلق من قادة الجيش الذين كانوا على استعداد للذهاب إلى أي مدى يطلبه منهم.

كما أن نهاية المشير بالطريقة التي تمت بها، وسط انفجار صراع على ا لسلطة، ومحاولته الانقلاب ضد صديقه عبد الناصر، ثم انتحاره، أثرت في نفس جمال عبد الناصر إلى أقصى مدى، فلقد عز عليه أن تفرض صراعات الحكم والسياسة تلك النهاية المأسوية لأقرب الأصدقاء. وبعد اختفاء عبد الحكيم عامر من حياة جمال عبد الناصر، لم يبق بجواره سوى أنور السادات وحسين الشافعي وعلي صبري ، وكان أنور السادات أقربهم إلى جمال عبد الناصر.

وكان أنور السادات شديد الاهتمام بجمال عبد الناصر، وبحالته الصحية، وكثيرا ما كان يطلعني على أدوية، أشار عليه أنور السادات باستعمالها.

وأذكر حينما كنا في طرابلس الغرب، أن جمال عبد الناصر قال لي : " شوف بقى اللي حيجرالك من أنور لما نرجع مصر" ولما سألته عن السبب، قال لي : " أن أنور لاحظ في الصورة، أنني لم أكن مرتديا " البالطو" وكان الجو باردا، فقال : " بس لما أشوف الدكتور منصور".

وفي الوقت نفسه كان جمال عبد الناصر يعتمد على أنور السادات في حضور اجتماعات الاتحاد الاشتراكي، وكان أنور السادات مرحبا بذلك. وبمرور الوقت ، بدأ أنور السادات يملأ الفراغ الذي تركه عبد الحكيم عامر. وقبل سفر جمال عبد الناصر إلى الرباط في ديسمبر 1969م، لحضور مؤتمر القمة العربي، أصدر قرارا بتعيين أنور السادات نائبا أول لرئيس الجمهورية.

وفي مجال الحديث عن المواجهة بين الرئيس والمشير، لا يمكن أن نغفل الإشارة إلى اثنين هما: شمس بدران وصلاح نصر.

شمس بدران

كان شمس بدران يتولى وزارة الحربية، حتى حرب 1967م وكنت قد قابلته مرة واحدة، حين دعاني لزيارة والده، الذي كان يعالج في مستشفى المعادي، ولم يترك لدي انطباعا إيجابيا، لما لاحظته فيه من تكلف وشدة اعتداد بنفسه.

كان لشمس بدران دور رئيسي إلى جانب عبد الحكيم عامر، قبل 1967م، وكذلك في ما وصلت إليه الأمور بين الرئيس والمشير، بعد إقصاء الأخير في 11 يونيو 1967م. فلقد كان شمس بدران يعتمد على تنظيم سري له من خريجي دفعته - دفعة 1948م في إدارة القوات المسلحة وعليهم كان اعتماده في وضع خطة الانقلاب الذي دبره المشير ضد الرئيس بعد 1967م.

ولقد استدعاه الرئيس لمقابلته ، قبل تحديد إقامة المشير، طالبا منه الإفصاح عن تنظيمه داخل الجيش، حتى لا يتسبب في إحالة ضباط من دفعة 1948م إلى التقاعد ، ممن ليسوا أعضاء في تنظيمه، ولكن شمس بدران رفض كليا الاعتراف بأسماء أعضاء تنظيمه، كما أنه حين قرر الرئيس التنحي، وطلب من المشير أن يعتزل بدوره، طلب المشير من الرئيس أن يعين شمس بدران رئيسا للجمهورية.

وحدث في ما بعد أن طلب شمس بدران أن أزوره في سجن طرة، وعندما دخلت عليه، لم أعرفه لأول وهلة، فقد تغير شكله، ونقص وزنه، وغابت مظاهر الاعتداد الشديد بالنفس وبشكل ملحوظ، فقلت في نفسي : سبحان نغير الأحوال.

صلاح نصر

أما بالنسبة لصلاح نصر، فقد بدأت معرفتي به من قبل أن يستدعيني الرئيس عبد الناصر لعلاجه، وكان صلاح نصر يشكو من ارتفاع بسيط في ضغط الدم، وكنت أذهب لأفحصه في منزله بمصر الجديدة، أو في مكتبه بالمخابرات العام .

كان صلاح نصر يبدو بسيطا، ويميل إلى المزاح، وكم تساءلت وأنا معه هل هذا هو حقيقة صلاح نصر الذي نسمع عنه؟ كان الاختلاف كبيرا بين ما أراد حين أعود وبين الصورة التي تتردد عنه. وكان صلاح نصر كثير القراءة، وضع بعض المؤلفات عن الحرب الاقتصادية والحرب النفسية، وطريقة تطبيقها في مصر بعد ثورة 23 يوليو 1952م وليس هنا مجال للحديث عن هذه المؤلفات.

وبعد حرب يونيو كنت أتردد على المخبرات العامة، لأفحص صلاح نصر، ولاحظت عليه عدم التفاؤل بعد الهزيمة، وكان يحاول في أحاديثه، إلقاء اللوم على الرئيس جمال عبد الناصر، وإيجاد الأعذار للمشير ورجاله، ثم قال: " مفيش فايدة من الروس ولازم نتصل بالأمريكان".

لم أعجب لمحاولة صلاح نصر إلقاء مسئولية الهزيمة على جمال عبد الناصر، فقد كان من أتباع المشير عبد الحكيم عامر ، ولكن ما أدهشني حقيقة، هو أن يفكر مدير المخابرات العامة في الاتصال بالأمريكيين، بعد أن ألحقت بنا إسرائيل هذه الهزيمة، وهو يعلم أن الاتصال بهم في هذه الظروف، التي كانت قدرة مصر العسكرية فيها صفرا، وتفوق إسرائيل العسكري كاسحا، لا يعني إلا الاستسلام.

وفي أحد الأيام، وجدت صلاح نصر في حالة توتر عصبي شديد، وقد اختفت الابتسامة، التي كثيرا ما كانت تبدو على وجهه، وعرفت أن سبب ذلك، كان حديثا صحافيا قرأه لموشي ديان، الذي سئل: لماذا لم تدخل القاهرة بعد هزيمة يونيو؟ أجاب بوقاحة وغطرسة: " كانت القاهرة تفتح لي ذراعيها، ولكني لم أدخلها حتى لا أضطر غلى إطعام ثلاثين مليون خنزير".

وفي صباح اليوم التالي ، وكنت في مستشفى القصر العيني، وصلت سيارة لرجال المخابرات العامة، وطلبوا مني الحضور فورا لزيارة صلاح نصر في مكتبه حيث أصيب بأزمة قلبية ، فذهبت في الحال، ووجدته راقدا في حجرة نوم صغيرة مجاورة لمكتبه، في جناح رئيس المخابرات العامة، مصابا بجلطة في الشريان حصلت له الأزمة

كما ذكر لي، نتيجة الانفعال الشديد طوال اليوم السابق، إثر قراءة ذلك الحديث الذي أدلى به ديان. وقمت بعلاجه أنا والدكتور رفاعي كامل، حتى أمكن السيطرة على الأزمة في المساء. وبعد أن انصرفت من عنده، عاد لاستدعائي، وقال لي:" أنا عايز أشوف جمال عبد الناصر لأني عايز أنصحه".

وتوقفت عند كلماته لحظة، وفكرت فيها طويلا ، فهل يكون طلب رؤية مدير المخابرات العام لرئيس الجمهورية عن طريقي المفروض أن مدير المخابرات لديه القدرة على الاتصال المباشر بالرئيس، وبينهما أكثر من خط هاتفي لذلك.

فهل كان الرئيس يؤجل رؤيته في هذه الفترة لسبب محدد، أو نتيجة انشغاله التام بتصفية نفوذ مجموعة المشير عامر، كخطوة في سبيل إعادة البناء العسكري؟ أم ترى كان هناك ما يقلق صلاح نصر على نفسه ومركزه، وجعله يطلب مني أن أنقل للرئيس رغبته في رؤيته ، لتردد صلاح نصر في المبادرة بالاتصال به مباشرة؟

ولم أفعل شيئا إزاء هذا الطلب، فقد كان السيد محمد أحمد السكرتير الخاص للرئيس، قد اتصل بي هاتفيا في المخابرات العامة، ليستفسر عن حالة صلاح نصر خلال علاجي له من أزمته القلبية، وأخبرني أن الرئيس سيزوره في الصباح، وبالفعل حضر جمال عبد الناصر في اليوم التالي لزيارته.

قابلت جمال عبد الناصر بعد ذلك، وكان بداية التأثر لحالة صلاح نصر. ولكني أخبرته أن صلاح نصر قد اجتاز المرحلة الحرجة. لم أعرف ماذا دار بين جمال عبد الناصر وصلاح نصر خلال الزيارة، ولا النصائح التي كان صلاح نصر يود أن يسديها له... وأغلب الظن أنه لم يقل له شيئا. وظل ترددي على صلاح نصر إلى أن تحسنت صحته، وطلبت منه بعد ذلك الراحة والابتعاد عن العمل لمدة شهرين.

وفي أواخر شهر أغسطس، وبعد سقوط مجموعة المشير، تبين لجمال عبد الناصر من أقوالهم، ومن مصادر أخرى، أن صلاح نصر كان مشاركا في المؤامرة التي كان يدبرها المشير ضده، فتم تحديد إقامة صلاح نصر.

وبدأت التحقيقات في المخابرات العامة، لمراجعة نشاط الجهاز والوصول إلى من عساه يكون أيضا من مجموعة المشير فيه. " وكشفت هذه التحقيقات جوانب خفية لنشاط الجهاز تحت قيادة صلاح نصر. ولم يتردد جمال عبد الناصر في اتخاذ عدة قرارات لتطهير الجهاز، كما اتخذ قراره بتقديم صلاح نصر للمحاكمة إزاء ما تبين من نتائج التحقيق".

وخلال التحقيقات طلبني صلاح نصر، إلى منزله حيث حددت إقامته، وبدأ يهاجم الرئيس ويكيل الشتائم لسامي شرف أمين سر الرئيس للمعلومات، وهو في حالة هيستيرية . ولما حاولت تهدئته، قال: " أنا عايزهم يسمعوني ويحبسوني فليس من المعقول أن يترك مدير المخابرات حرا ومعه كل أسرار جهاز المخابرات. فهو إما أن يقتل وإما ن يحبس وأنا لا أريد أن أقتل".

وبالفعل تم اعتقال صلاح نصر، ليس لأن لديه أسرار جهاز المخابرات العامة، فكم من رئيس لهذا الجهاز تركه إما إلى منزله أو إلى عمل آخر، وإنما كان اعتقاله إثر ما تبين في التحقيقات التي أمر بها الرئيس، ثم كانت محاكمته وسجنه تنفيذا لحكم قضائي.

أودع صلاح نصر سجن أبو زعبل بعد الحكم عليه، وكان يطلبني لزيارته وقد عاودته الأزمة القلبية كثيرا، وكانت الحراسة عليه مشددة بحيث يصعب أن يتصل بأحد لإسعافه، فقدمت تقريرا طلبت فيه وجوب نقله إلى المستشفى. وبالفعل وصل هذا التقرير إلى جمال عبد الناصر الذي وافق على ما جاء فيه.

وتقرر نقل صلاح نصر إلى مستشفى المعادي. وطلب تحويله إلى مستشفى القصر العيني، رغم علمه بأن الإقامة هناك غير مريحة، فاستجيب لطلبه. ونقل إلى مستشفى القصر العيني، وكنت أتردد عليه طوال مدة إقامته هناك.

وحدث بعد ذلك أن ثقلت عليه الأمراض، وأخذت صحته في التدهور. فتم الإفراج عنه، لسوء حالته الصحية، وظل يعاني من المرض، إلى أن انتقل إلى رحمة الله. وأسدل الستار على حياة صلاح نصر.

الفصل الخامس:عبد الناصر وإعادة البناء

كان ثاني دوافعي لأن تكون المرحلة التالية لحرب 1967م هي مجال التركيز في مذكراتي هذه ، هو يقيني بأن هذه الفترة كانت أروع مراحل نضال الرئيس جمال عبد الناصر على الإطلاق، فقد تبلورت فيها جميع مواهبه القيادية والفكرية، ونضجت فيها حنكته السياسية التي اكتسبها من تجارب السنين، وكانت هذه المرحلة في الوقت نفسه أكثر المراحل إرهاقا وأثرا في حالته الصحية، بتأثير الجهد الخارق الذي بذله فيها.

ففي هذه المرحلة من تاريخ ثورة يوليو، بلغ التحدي لأهداف الثورة وسياستها قمته، بلجوء أعدائها إلى المواجهة العسكرية، التي انتهت بهزيمة ثلاث دول عربية هي: مصر وسوريا والأردن، وبدأت هذه المرحلة بقضية كبرى واضحة وملحة، وهي أن جزءا غاليا من تراب الوطن محتل، ولابد من تحريره.

حقيقة، إن الثورة قد بدأت وأرض مصر محتلة بقواعد بريطانية، ولكن طبيعة الاحتلال صارت مختلفة في 1967م، فالوجود العسكري البريطاني في مصر، كان يقوم على اعتبارات تاريخية طويلة تتصل بقضية الاستعمار، وكان استمراره معتمدا على نظام سياسي داخلي متحالف معه، وبمعنى آخر كان الوجود البريطانية أمرا واقعا، وحقيقة مقبولة من النظام السياسي في مصر، وكان هذا القبول الفعلي هو الغطاء القانوني والشرعي لاستمرار قيادة القوات البريطانية في الشرق الأوسط، والقواعد البريطانية على أرض مصر.

وحين أسقطت الثورة النظام السابق، وأنهت الملكية ، وفرضت على بريطانيا بحث مطلب الجلاء، نزعت الغطاء القانوني والشرعي عن الاحتلال العسكري، وأجبرت بريطانيا على قبول مفاوضات الجلاء، التي انتهت بتحديد مواعيده. ولهذا فإن بريطانيا لم تجد غير العدوان المسلح الذي قامت به عام 1956م، بالاشتراك مع كل من فرنسا وإسرائيل، في محاولة يائسة للعودة بالأمور إلى سابق عهدها، وإسقاط حكم جمال عبد الناصر.

ولكن حرب 1956م انتهت بانتصار سياسي لثورة يوليو. فقد أمست نموذجا للعالم الثالث كله، وفرضت على دول العالم موقف التأييد للدولة الصغرى التي تقابل بإصرار جيوش دولتين كبيرتين. مما زاد في شعبية جمال عبد الناصر عالميا، حتى أصبح يلقب بمحرر الشعوب، وقاهر الاستعمار. وهذا ما لم تقبله إسرائيل وحلفاؤها. وبدأت منذ ذلك الحين التخطيط لحرب قادمة.

وفي هذا المجال، أذكر أنه حينما سافر الدكتور على البدري إلى إحدى دول أمريكا اللاتينية، لحضور مؤتمر طبي للسكري، كان منعقدا هناك.. وجد في الأسواق أربطة عنق كتب عليها: " ناصر.. محرر الشعوب" فاشترى واحدة منها وأهداها لجمال عبد الناصر الذي أسعده ذلك كثيرا.

أما في حرب 1967م، فلقد جاء الاحتلال لسيناء والضفة الغربية والمرتفعات السورية بعد استيعاب القوى المعادية للثورة لدروس حرب 1956م. فالعدوان قامت به دولة صغيرة من دول العالم الثالث، وإن كانت لها أطماعها الإقليمية المدعومة بتحالفات دولية وبدعم عسكري فير محدود، من قوى كبرى.

فضلا عن أنها تعتبر نفسها امتدادا للقوى السياسية في الغرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وتعبيرا عن مصالحها الاستعمارية في الشرق الأوسط، وحامية عسكرية لها. ومن هنا كانت مساندة هذه القوى لأطماع إسرائيل الإقليمية ومباركتها لهذا الاحتلال.

وفي حرب 1967م جاء الاحتلال من دولة تمارس ما هو أبشع من الاستعمار التقليدي، وهو الاحتلال الاستيطاني، الذي يقوم على احتلال أرض ثم تغيير واقعها، بطرد سكانها، وتغيير معالمها وهويتها. ولها في ذلك تاريخ طويل منذ بدء الهجرة اليهودية الجماعية إلى فلسطين، ومنذ قيام دولة إسرائيل فيها عام 1948م.

ومن ناحية أخرى، كانت قضية احتلال الأرض في عام 1967م وطبيعة الصراع الذي تجسده هذه القضية مختلفة تماما، عن قضية الاحتلال البريطاني لمصر. فالأخير كان ببساطة تواجدا عسكريا مباشرا من قوة كبرى على أرض دولة صغرى، بغرض خدمة أهداف الدولة الكبرى.

أما في 1967م فكان الاحتلال وهنا للأرض، بغرض كسر إرادة الثورة المصرية، كي تتخلى عن أهدافها الداخلية والخارجية، وبهدف إسقاط نظام هو نموذج للتقدم والتنمية، يقوم على علاقات اجتماعية واقتصادية محددة وعلاقات خارجية تخدم هذا النموذج وتؤيده. وكسر الإرادة الثورية المصرية، وفرض نموذج مختلف للسياسة والتنمية ، إنما يستهدف تأمين الوجود الصهيوني في النهاية، وتمهيد الطريق لأهداف الإستراتيجية الصهيونية.

ومن هنا، فإن قضية احتلال الأرض في عام 1967م – إذا ما قورنت بقضية الاحتلال البريطاني التي واجهتها الثورة في 1952م- كانت أكثر إلحاحا، وأشد خطورة على الوجود العربي كله، والمصري بخاصة. وكانت حتمية تحرير الأرض تمثل أهم ما يشغل جمال عبد الناصر في هذه المرحلة. وكان يقول: " لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" بعد الهزيمة، كان على المؤسسة مواجهة تحديات كثيرة وكبيرة.

كان أمامه تحدي إعادة البناء العسكري في ظل احتلال إسرائيل لأراضي ثلاث دول عربية. وكان أمامه تحدي إعادة البناء السياسي لكل مؤسسات الدولة، والقضاء على السلبيات في الحكم التي قادت إلى هزيمة 1967م. وكان أمامه العمل على دعم التضامن العربي، بما يخدم معركة التحرير، وإزالة آثار العدوان.

وكان أمامه دعم موقف مصر لدى العالم الخارجي، بحيث يضمن أقصى مساندة من إحدى القوتين العظميين، ويجبر الأخرى على أن ترى، أن انحيازها المطلق لإسرائيل المتغطرسة بعد 1967م يهدد مصالحها في كل المنطقة. ومن هنا فإنه خلال الفترة ما بين يونيو 1967م ورحيل جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970م (أي حوالي ثلاث سنوات)، شهدت مصر أحداثا كبارا على كل هذه الجبهات. وعاش جمال عبد الناصر أزهى فترات تاريخه السياسي والنضالي.

ولكن العبء على صحته كان رهيبا. فكانت الأزمة القلبية الأولى في سبتمبر 1969م. وتلتها بعد عام واحد الأزمة القلبية الثانية، التي أودت بحياته في سبتمبر 1970م. وكان جمال عبد الناصر يعلم يقينا مدى تأثير الإرهاق في العمل، وكثرة الانفعالات في حالته الصحية . إلا أنه كان يرى، أن مقتضيات عمله الوطني حتى التحرير الكامل، هي الاستثناء الوحيد الذي يبرر له الخروج على نصائح الأطباء.

إعادة البناء العسكري

كان خروج الملايين من أبناء الشعب، متمسكين بقيادة جمال عبد الناصر ، في يومي 9 و 10 يونيو، عاملا حاسما في تاريخ مصر المعاصر. فلقد كان جمال عبد الناصر يدرك الأسباب الجوهرية التي قادت إلى الهزيمة العسكرية.وكان يعلم أين هي بداية الطريق، ومتطلبات السير فيه من عرق وتضحيات لأمة بأسرها حتى تستعيد كرامتها وتحرر ترابها الوطني.

ومن هنا، فإن موقف الشعب في يومي 9 و10 يونيو، وتمسكه بعبد الناصر في المرحلة التالية، كان تكليفا لجمال عبد الناصر بأن يعمل على إزالة آثار العدوان، على أسس فكر ومبادئ ثورة الشعب عام 1952م. وما كان جمال عبد الناصر ليقبل بأية محاولة، لاسترداد الأرض، على غير هذا الأساس.

وكان أول الواجبات الذي استشعره جمال عبد الناصر، من حيث الأولوية، هو إعادة البناء العسكري، ليكون لمصر جيش قادر على خوض التحدي وتحرير الأراضي العربية المحتلة. ولم يكن ذلك ممكنا إلا بتغيير رأس وقمة القوات المسلحة، متمثلة في قائد الجيش وكبار القادة العسكريين، الذين قادوا إلى ما جرى في ميدان القتال، وليس فقط بأدائهم العسكري وإنما بمواقفهم السياسية طوال عشر سنوات مضت.

وفي يوم 11 يونيو 1967م أي بعد 24 ساعة من قرار الشعب القاضي بأن يتولى عبد الناصر مسئوليات رئيس الدولة في مرحلة إزالة آثار العدوان - أصدر الرئيس قراره بتعيين الفريق محمد فوزي قائدا عاما للقوات المسلحة. وتلته مجموعة من القرارات بتعيين القادة الجدد للجيش.

ومن اليوم الأول لممارسة مسئولياته الدستورية في تلك المرحلة، كان فكر عبد الناصر صافيا، وواضحا، من حيث الإطار الاستراتيجي لتحرك مصر نحو بلوغ هدفها في تحرير الأرض. ولكنه كان يعلم أيضا النتائج التي ستترتب على أول قراراته على هذا الطريق، وهي إبعاد المشير عبد الحكيم عامر ومجموعة القادة عن رأس القوات المسلحة.

كان عزل المشير عبد الحكيم عامر وإسقاط المجموعة المحيطة به والمنتفعة منه في داخل الجيش، وفي أجهزة الأمن، المدخلين الوحيدين للتغيير الجذري الذي أراده جمال عبد الناصر أن يشمل النظام السياسي، للدخول إلى مرحلة جديدة وشاقة وخطرة. وكانا الشرطين الأكيدين، لإمكان إعادة بناء القوات المسلحة. ولقد ذكر لي جمال عبد الناصر، أنه عرض على عبد الحكيم عامر أي منصب يريده في الدولة، بما في ذلك منصب نائب رئيس الجمهورية، ولكنه رفض وتمسك بالجيش.

وعلى الجانب الآخر، كان الإسرائيليون، عقب حرب يونيو 1967م، يحاولون التأثير في الشعب، بشتى الطرق، لإسقاط حكم جمال عبد الناصر . فكانوا على الضفة الشرقية من القناة، يتعمدون استفزاز الجنود والأهالي، بتوجيه الإهانات والشتائم إليهم، وغلى الرئيس جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر. وصدرت التعليمات بعدم الرد، إذ لم يكن في قدرتنا عمل شيء في ذلك الوقت.

كما كانت إذاعة إسرائيل توجه إهانات واستفزازات مماثلة. وكنا نقرأ ذلك في النشرات الإخبارية التي كانت تصل غلى رئاسة الجمهورية باستمرار. وكان عبد الناصر حريصا على قراءتها، ضمن متابعته لكل ما يكتب وينشر في إسرائيل والوطن العربي والعالم الخارجي.

وفي الوقت نفسه، بدأ الإسرائيليون حرب أعصاب ضد الرئيس. فقد قال لي أكثر من مرة: " إن الإسرائيليين يتحدثون عن إقامة رؤوس كباري لعبور القناة والزحف إلى القاهرة".وكان عبد الناصر خلال هذه الفترة يحث الشعب على الصمود وعدم الاستسلام كما كان يحاول رفع روحه المعنوية. وكان دائما يقول : " لئن هزمنا اليهود عسكريا فلن يستطيعوا أن يهزموا إرادتنا.وإن الحرب يوم لك ويوم عليك".

ومن ناحية أخرى، فإن الشعب المصري، الذي يعبر بالنكتة عما يعانيه كوسيلة للترويح تتفق وخفة الدم التي تميز بها، بدأ يردد النكات على الجيش بعد هزيمة 1967م. ومن قبل 1967م أطلقت عدة نكات سياسية. وكان الرئيس حريصا على أن يسمعها، ليشارك الناس أحاسيسهم وشكاواهم . وكان يضحك لها، ولكن لم يهتم بها كثيرا.

إلا أنه حين كثرت النكات على الجيش بعد الهزيمة، أثر ذلك في جمال عبد الناصر نفسيا. وكان يقول لي إن الجيش لا يستحق كل ذلك. فالضباط والجنود لم يتح لهم أن يحاربوا ضمن تشكيلاتهم كجيش محارب، ومن أتيحت لهم فرصة القتال، أثبتوا بطولات وفدائية لم تعرف، لأن ظلام الهزيمة حجبها.

وكان جمال عبد الناصر مؤمنا بقدرة قواتنا المسلحة إذا ما أتيحت لها الفرصة العادلة، من الإعداد والتدريب والقيادة. وكان يقول لي: " إن أولادنا لم يختبروا والغلطة في قياداتهم" وبلغ من تأثر عبد الناصر بحملات النكات على القوات المسلحة، أن أشار إليها في إحدى خطبه، طالبا من الشعب أن لا يردد النكات حرصا على معنويات أفراد الشعب في القوات المسلحة، في مرحلة البناء. وبالفعل انخفضت حدة الحملات بعد ذلك إلى حد بعيد.

إعادة تنظيم الجيش

كان أول أعمال إعادة تنظيم الجيش، من بعد صدور قرار تعيين الفريق أول محمد فوزي قائدا عاما - والذي أعقبه تصفية مجموعة المشير - هو اختيار القيادات العليا للجيش، على أساس الكفاءة العسكرية والسمعة الحسنة والقدوة.

وقد قام الرئيس بعدة اجتماعات مع القادة العسكريين، لينقل إليهم رؤيته لتحديات ومتطلبات مرحلة التحرير، ودور القوات المسلحة كجيش محترف يجب أن يبتعد تماما عن السياسة، وألا يكرر سلبيات الماضي التي قادت إلى إلهاء القادة بأطماع سياسية أو شخصية، فانصرفوا عن مهامهم الرئيسية ، وظهرت البيروقراطية العسكرية على حساب الكفاءة والاستعداد والتدريب، فكانت هزيمة 1967م.

وقد كانت اجتماعات الرئيس بالقادة العسكريين جزءا أساسيا من جدول أعماله، طوال الفترة من 67م حتى رحيله. فقد عقدت مئات الاجتماعات مع ضباط القيادة العامة، وضباط الفروع الرئيسية للجيش، وحتى مع قادة الكتائب في المراحل المهمة من حرب الاستنزاف. وكانت هذه الاجتماعات تستمر لساعات طوال. وقد أوضح عبد الناصر لقادة الجيش، وهذه المرحلة لم تزل في بدايتها، رؤيته الإستراتيجية للعمل الوطني حتى بلوغ تحرير الأراضي المحتلة.

وكانت الخطوط العامة لفكر عبد الناصر الاستراتيجي، كما طرحها على القادة العسكريين، ليكون عملهم في إطارها هي التالية:

  • ضرورة الصمود العسكري السريع في وجه العدو، وإقامة خط دفاع أول في وجهه، غرب القناة.
  • ضرورة الحرص الشديد على تلاحم الجيش والشعب والحكومة معا، وأن يعلو الجميع فوق آلام الهزيمة، وأن يتوحدوا في العمل المنسق، حسب متطلبات تحرير الأرض. ودعا للتنسيق على مستوى الإستراتيجية والسياسات العليا، قرر الرئيس أن يتولى رئاسة مجلس الوزراء والاتحاد الاشتراكي إلى جانب رئاسة الجمهورية.
  • إن تحرير الأرض التي احتلت في 1967م لن يتم بغير القوة المسلحة، لأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة. وكل محاولة لاسترداد الحق، بغير سند من القوة العسكرية وقوة الدولة وقوة الروح المعنوية القادرة على التحرير بالحرب في ميدان القتال، هي محاولة مصيرها الفشل، لأن العدو - وهو أمريكا وإسرائيل- يسعيان إلى فرض شروطهما التي نرفضها، وأن يفرضا علينا " السلام الإسرائيلي" الذي لا يختلف عن الخضوع والاستسلام.
  • نظرا لأننا نحتاج إلى فترة لإعادة بناء الجيش القوي القادر، ولإعداد الدولة للحرب، قدرها الرئيس في ذلك الوقت بثلاث سنوات، فلا بد أن نسير مع مشروعات الحلول السلمية التي ستقدم لنا، وليكون استعدادنا العسكري للحرب جاريا تحت غطاء ومظلة دبلوماسية. ولكن الحديث عن الحلول الدبلوماسية، لا يجب أن يشغل قادة الجيش عن مهمتهم الأصلية في بناء جيش محترف يخوض معركة التحري.
  • لابد من العمل عربيا، لتكون معركة التحرير معركة عربية- إسرائيلية، وليست مصرية – إسرائيلية ، ولابد من إشراك جميع الدول العربية في المعركة، وليس فقط دول المواجهة ، لأن الأراضي التي احتلت هي الأراضي العربية، والقدس ملك لكل العرب، فعلينا أن نسعى لمشاركة جميع الدول العربية في المعركة، وأن ننسق ونوحد القرارات معها، وفق التزام عربي قومي.
  • يجب توطيد الصداقة مع الاتحاد السوفييتي، ويجب أن نشعره بأنه شريكنا في الهزيمة، لأننا كنا نمسك بسلاحه، وهو يتحمل أعباء مدنا بالسلاح الحديث، المختلف عما قبل1967م، وبالخبراء والمدربين، لنكسب الوقت. وعلينا أن نثبت له جديتنا في إعادة البناء، وأنا الجندي المصري الجديد والذي سيحمل السلاح المتطور، جندي متعلم ومتطور وكفؤ. وفي النهاية، فإن الاتحاد السوفييتي هو الدولة العظمى الوحيدة التي هي اليوم على استعداد للوقوف إلى جانبنا، والتي ستطلب من حلفائها معاونتنا لأننا نقف ضد عدو مشترك.
  • الحرب ليست جيشا يواجه جيشا، وإنما شعب يواجه شعبا. لذلك فإننا نسعى في كل الاتجاهات، لتجهيز اقتصادنا ليتحمل أعباء حرب طويلة، ولشرح مقتضيات المرحلة القادمة للمواطنين. وإنني واثق من أن الشعب الذي خرج يومي 9 و10 يونيو، رافضا الهزيمة ومتمسكا بأرضه وحقه وكرامته، لن يبخل بجهده وعمله في مؤازرة جيشه، ما دام سيشعر بأنه جيش جديد جاد، مؤمن ومصمم.

دراسة أخطاء الماضي

طلب الرئيس دراسة وافية عن أسباب هزيمة 1967م، تشرح تفاصيل ما جرى على جبهات القتال، من حيث أسلوب التعبئة والحشد والتمركز، وما اتخذ من قرارات عسكرية وكيفية تنفيذها وما نتج عنها، وذلك على الجانبين المصري والإسرائيلي.

وقد أعد أحد أساتذة التاريخ العسكري هذه الدراسة الشاملة، مستعينا بأقوال العائدين من القادة والجنود، وقدم شرحا مطولا وافيا معززا بالخرائط العسكرية، في اجتماع حضره الرئيس وقادة الجيش، أعقبته مناقشات مطولة حول الأخطاء والدروس المستفادة. وقد استمر اجتماع الرئيس بالقادة يومها مدة ثماني عشرة ساعة.

ولم تكد حرب 1967م تضع أوزارها، حتى بدأت الجزائر ترسل دفعات من الطائرات المقاتلة. وصلت الأربعون طائرة معاونة في إعادة البناء العسكري . وكان وزير الخارجية الجزائري قد زار مصر يوم 7 يونيو، حيث ابلغ المسئولين بقرار الرئيس بومدين في هذا الشأن.

وفي 21 يونيو وصل رئيس الاتحاد السوفيتي ومعه وفد عسكري كبير . وعقد مباحثات بالغ الأهمية، وحصل على لوائح بالأسلحة المطلوبة على الفور، لتعويض خسائر مصر في السلاح. وبدأ الجسر الجوي والبحري بين الاتحاد السوفيتي ومصر في نقل السلاح والعتاد الذي قدمته موسكو. وكان جمال عبد الناصر قد قال لي بعد الهزيمة مباشرة، وكان يتكلم بلهجة مصحوبة بالأمل، إن الروس عرضوا عليه تعويض ما فقدناه من أسلحة أثناء الحرب، وبدون مقابل.

وفي يوليو 1967م سافر الرئيسان هواري بومدين وعبد السلام عارف إلى موسكو لإجراء مباحثات مع القادة السوفييت، بخصوص خطة تسليح القوات المسلحة المصرية. وفي الوقت نسفه، تمت إعادة تنظيم أجهزة القوات المسلحة. واستمر العمل ليلا ونهارا حتى تم إنشاء وتجهيز خط الدفاع الأول، غرب القناة في نوفمبر 1967م. وهو الشهر ذاته الذي صدر فيه قرار مجلس الأمن رقم 242.

وفي 22 يناير 1970 م عقب الغارة الإسرائيلية على أبو زعبل، سافر جمال عبد الناصر إلى موسكو. وتم الحصول على صواريخ سام، كما تمت الموافقة على إشراك الطيارين الروس في الدفاع عن العمق المصري. وهكذا ومن نقطة الصفر وفي بحر ثلاث سنوات فقط، تمت إعادة بناء الجيش الجاهز لمعركة التحرير.

تأثير الأحداث في صحة جمال عبد الناصر

خلال الفترة التالية لحرب 1967م، التي تعرض فيها جمال عبد الناصر للانفعالات العنيفة، بسبب الهزيمة، ثم بسبب الأحداث التي انتهت بالمشير إلى الانتحار، وتطهير المخابرات العامة وأجهزة الأمن، والتي شهدت كذلك جهدا ضخما، يتمثل في العمل اليومي المتواصل لمدة 18 ساعة متصلة، ازدادت نسبة السكري عند جمال عبد الناصر، ولكن كان البول خاليا من " الأسيتون".

وقد استدعينا الدكتور بولسون من الدانمارك لاستشارته. فلم يزد شيئا على العلاج. وقال إن ما حدث هو نتيجة للظروف الطارئة والمفاجئة التي واجهها، والتي لا يمكن التحكم فيها، وإن الحالة ستتحسن مع الوقت.

إعادة البناء السياسي

كانت ثانية دوائر اهتمام جمال عبد الناصر، بعد البدء في إعادة البناء العسكري، هو التوجه إلى البناء السياسي للدولة ومؤسساتها السياسية والتنفيذية . وقد كان أمام جمال عبد الناصر معادلة صعبة إذا أراد أن يقوم بمهمة إعادة البناء السياسي، وهو ممسك بحرص وتوازن بين طرفيها.

  • فمن جانب ، كانت هناك ضرورات التغيير التي تفرضها مراجعة أسباب الهزيمة، والإعداد لمرحلة التحرير.
  • كما كانت هناك موجبات الاستمرار، بمعنى أن التغيير المطلق لم يكن متاحا في مرحلة حرب واحتلال للأرض.
  • وكان طبيعيا أن يكون المعيار هو أثر كل تغيير في المعركة المرتقبة لتحرير الأراضي المحتلة.

وتولى جمال عبد الناصر رئاسة مجلس الوزراء ورئاسة اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، لكي يضمن وحدة الفكر الاستراتيجي على مستوى الدولة، وأقصى تنسيق بين المؤسسات السياسية والتنفيذية في إعادة الدولة للحرب.

وفي اجتماعات مجلس الوزراء ، وكذلك في اجتماعات اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، كان جمال عبد الناصر طوال الشهرين اللذين تليا الهزيمة يوجه المناقشات إلى هدف الوقوف على آراء المسئولين السياسيين والتنفيذيين في أسلوب التغيير واتجاهاته.

وكان النقطة المحورية في تفكير الرئيس هي كيفية تجنب تكرار تجربة مراكز القوى السياسية والعسكرية، التي ارتبطت بالمشير عبد الحكيم عامر وقادت إلى الكثير مما جرى. وبمعنى آخر، كيف يمكن ضمان عدم عودة القوات المسلحة إلى ممارسة دور سياسي من جديد، بعد أن تمت تصفيته في يونيو 1967م، وحتى لا يكون كل ما جرى تغييرا في القيادات وفي أسماء مراكز القوى ليس إلا.

وكان عبد الناصر هو أول من صاغ تعبير مراكز القوى، وقدم تحليله لما جرى، موضحا أنهم طبقة من العسكريين والسياسيين أدوا دورهم في الثورة، ولكن كان هدفهم الوحيد هو السلطة وليس الثورة، لأن الثورة بالنسبة لهم أصبحت مغانم فقط. ووصفهم بقوله إن هؤلاء السياسيين والعسكريين كان هدفهم الوصول للحكم، فاجتمعوا حول مصلحة واحدة، وفي منتصف الطريق ، وجدوا طريق الانحراف سهلا، فانحرفوا.

وكان الرئيس صريحا في توجيه النقد الذاتي لتجربة ما قبل 1967م، موضحا في الوقت ذاته، بأن الناس كانت تعتقد أن كل ما يريده جمال عبد الناصر يتحقق تلقائيا، لأنهم لا يعرفون خلفيات الأمور ودهاليز السياسة، وأنه كان هناك بالفعل مؤشرات لم يكن مرتاحا إليها في الممارسة، وما كان قبوله للحلول الوسط إلا حلولا دون إدخال البلاد في صراع على السلطة وحرب أهلية.

التنظيم السياسي

كان جمال عبد الناصر يرى أنه لابد من إقامة تنظيم سياسي يحمي الثورة وكان يرى أن صيغة الاتحاد الاشتراكي هي أكثر الصيغ ملائمة لذلك، فالاتحاد الاشتراكي يمثل تحالف قوى الشعب العاملة، صاحب المصلحة في الثورة، علاوة على أنه يعمل على تذويب الفوارق بين الطبقات، وتجنب دموية الصراع الطبقي.

ولإيمان عبد الناصر بأهمية وخطورة دور الاتحاد الاشتراكي، في الوصول بمبادئ الثورة إلى أصغر مواقع العمل الجماهيري، وبناء المواطن الثوري المؤمن بثورة يوليو فكرا وممارسة، وفي إيجاد الرقابة الشعبية على الأجهزة التنفيذية ، ضمانا لعدم انحرافها

فلقد فكر في منتصف الستينات أن يترك رئاسة الجمهورية، وأن يتفرغ لبناء الاتحاد الاشتراكي، ليقيم الكيان السياسي القادر على تأمين مستقبل الثورة، والوقوف في وجه مراكز القوى السياسي والعسكرية. إلا أن مجلس الأمة ، وهو الهيئة البرلمانية للتنظيم السياسي تمسك بعبد الناصر رئيسا للجمهورية.

وعلى عكس ما كان يأمل جمال عبد الناصر، فقد استغل أعضاء الاتحاد الاشتراكي نفوذهم لخدمة مصالحهم الشخصية، والتدخل في شئون الحكم، وأصبحوا هم مراكز القوى المسيطرة على الشعب. وكان جمال يعلم ذلك، ولكنه كان مؤمنا بأن المشكلات التي عاناها الاتحاد الاشتراكي لا ترجع إلى قصور أو عيوب في صيغته، لكن كانت أسباب القصور أو العيوب ترجع إلى التطبيق.

وكان عبد الناصر قد عانى من قصور الاتحاد الاشتراكي في الممارسة، بل خذله تنظيمه السياسي أكثر من مرة في المواجهة الصامتة مع المشير عبد الحكيم عامر ومجموعته. وكان من نتائج قصور التنظيم السياسي عن الوفاء بدوره الجماهيري، أن استمر الجيش هو المؤسسة الوحيدة القادرة على تأمين الثورة، وعلى إحداث التغيير الثوري.

ويذكرني الحديث عن ممارسات الاتحاد الاشتراكي، بموضوع يتصل بجامعة القاهرة، عشته عن قرب. فقد كان الرئيس يتحدث معي، من آن لآخر، حول شئون الجامعة بوصفي أستاذا بكلية الطب بجامعة القاهرة.

في أحد الأيام ذكر لي أنه علم من ابنته هدى، وكانت طالبة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن الأساتذة يصلون متأخرين عن ميعاد المحاضرة، وأحيانا لا يحضرون بتاتا دون اعتذار، أو إرسال من ينوب عنهم في إلقاء المحاضرة. وفي الوقت نفسه كانت ابنته مني الطالبة بالجامعة الأمريكية تقول إن الأساتذة مواظبون على دخول المحاضرات في مواعيدها تماما.

وأبدى الرئيس عدم رضاه عن الأسلوب الذي يجري به العمل في جامعة القاهرة. وقال لي إنه سيعين الدكتور عزت سلامة وزيرا للتعليم العالي، لتحقيق الانضباط في الجامعة، واحترام الأساتذة لمسئولياتهم. وكان الدكتور عزت سلامة معروفا في ذلك الوقت بالشدة والحزم.

وفي الواقع ولو أن اللوم يقع على بعض أعضاء هيئة التدريس لعدم مواظبتهم على الحضور ، إلا أن التوسع في التعليم الجامعي، وتزايد عدد الطلبة في الكليات ، دون ارتباط بين الأعداد واحتياجات الدولة من الخريجين، كان السبب الرئيسي في تدهور التعليم الجامعي حسب رأيي.

وقد سبق أن تحدثت مع الرئيس في ذلك، مبديا وجهة نظري هذه ، بمناسبة اجتماع لمدير الجامعة بأعضاء هيئة التدريس بكلية الطب، قال فيه مدير الجامعة إن شعار جامعات الأعداد الكبيرة غير قابل للمناقشة. ولكن عبد الناصر لم يقتنع بوجهة نظري وقال لي: " وإيه يعني لما يكون سواق التاكسي معاه ليسانس؟".

وتحدثت مع الرئيس في كيفية تدعيم ارتباط الأساتذة من الأطباء بالجامعة، وإبقائهم فيها أطول فترة ممكنة، بإيجاد الوسائل وتهيئة الظروف المناسبة لفحص مرضاهم فيها. وحكيت له عن بعض مشاهداتي أثناء زيارتي الأخيرة لباريس، وتجارب أساتذة الطب في هذا الخصوص، وأعطيت مثلا الأستاذ كارولي الذي كان له وقت محدد للكشف بأجر على مرضاه الخصوصيين داخل مستشفى الجامعة، وذلك كأسلوب يجعل الأستاذ داخل مبنى المستشفى لأطول عدد من الساعات، ولا يشتته بين المحاضرات والمستشفى والعيادة الخاصة.

وحين تحمس الرئيس لهذه الفكرة، قلت له إن هناك موقعا ممتازا يصلح لأن يكون مستشفى ملحقا بالقصر العيني فأبدى موافقته. ولكن حين طلبنا ذلك من الوزير المختص آنئذ اتضح أن المبنى مخصص لفندق، ومتبرع به على هذا الأساس ( موقع فندق المريديان حاليا).

بدأ الدكتور عزت سلامة، عقب توليه الوزارة مباشرة، المهمة التي أوكلت إليه. وركز على كلية الطب بصفتها أكبر كليات جامعة القاهرة . وحدث للأسف أن تدخل الاتحاد الاشتراكي ، وفرض آراءه على الوزير الذي قام بإصدار قرارات متتابعة، لا علاقة لها بالتكليف الصادر عن الرئيس عبد الناصر، ولا بصالح العمل. وإنما بدا وكأن الغرض منها إذلال أساتذة الكلية. وكان مندوبو الوزير، من شباب الاتحاد الاشتراكي يدخلون مكتب العميد، دون موعد سابق أو استئذان، ويبلغونه قرارات وزارية غير مدروسة للتنفيذ.

علاوة على ذلك، فقد أشيع من باب التهديد في ذلك الوقت، أن النية متجهة لوضع عدد غير قليل من الأساتذة تحت الحراسة. وباختصار خرج الدكتور عزت سلامة على الدور الذي رسمه له جمال عبد الناصر، وهو احترام الأساتذة لمواعيد الدروس والمحاضرات، وتحقيق الانضباط من قبل هيئات التدريس في أداء واجبهم، وانزلق وراء أعضاء الاتحاد الاشتراكي. وعندما تبين لي ذلك، شرحت الأمر للرئيس في إحدى المقابلات، وفي الوقت نفسه، حاولت أن أتحين الفرصة المناسبة لترتيب مقابلة بين الرئيس وعميد كلية الصب، ليسمع منه تفاصيل ما يجري.

وتصادف في ذلك اليوم، أن مرض الرئيس بنزلة شعبية. وطلبت منه أخذ رأي الدكتور عبد العزيز سامي، أستاذ أمراض الصدر وعميد كلية الطب، في مرضه. وبالفعل قام الدكتور عبد العزيز سامي بفحصه كما قام الدكتور جمال مسعود أستاذ الأشعة، ووكيل كلية طب الإسكندرية، الذي كان قد سبق له فحص الرئيس بالأشعة، بعمل أشعة للصدر.

وبعد الكشف، جلسنا في الصالون لبعض الوقت، وأثناء الحديث التفت الرئيس فجأة إلى الدكتور عبد العزيز سامي قائلا: " إيه رأيك في عزت سلامة؟ واعمل حسابك مفيش حد من الاتحاد الاشتراكي قاعد معانا". فلقد أحس الرئيس أن الغرض من هذا الاجتماع هو إثارة موضوع عزت سلامة. وفعلا شرح له العميد الموضوع وانتهت المقابلة.

وأثناء هذا الاجتماع حضر السيد زكريا محيي الدين، وكان يشغل منصب رئيس الوزراء في ذلك الوقت ، ولكنه لم يجلس وإنما اكتفى بمصافحة جمال عبد الناصر ثم انصرف. عقب ذلك، نشر في صحيفة الأهرام أن هناك أزمة ثقة بين وزير التعليم العالي وأساتذة الجامعة، وفتح باب المناقشة في هذا الموضوع. ومن المؤسف أني وجدت كثيرا من الأساتذة كتبوا مقالات في مدح الوزير لجهلهم بأن النشر كان تمهيدا لخروجه من الوزارة.

وعقب ذلك، خرج عزت سلامة من الوزارة. وأذكر من تعليقات جمال عبد الناصر على أسلوب الاتحاد الاشتراكي في الممارسة، حين كنا جالسين في شرفة استراحة القناطر الخيرية، وسمعنا شخصا يتحدث في مكبر الصوت بصوت عال ولما سألت من يكون هذا الشخص؟ رد جمال عبد الناصر بسرعة: " لازم واحد من بتوع الاتحاد الاشتراكي" . ساد الصمت ولم يعلق أي من الحاضرين.

كما أذكر أنني حكيت لجمال عبد الناصر مرة عن فيلم كوميدي شاهدته في التلفاز، قام ببطولته حسن مصطفى، وتضمن تهكما على الاتحاد الاشتراكي، فلم يغضب الرئيس من عرض الفيلم وإنما قال مبتسما بهدوئه المعتاد:" خسارة أنني لم أشاهد هذا الفيلم".

وحينما عرض فيلم ميرامار، وكان فيه نقد للاتحاد الاشتراكي أحيز استمرار عرضه. ودفعت ملاحظات الرئيس على الاتحاد الاشتراكي إلى التفكير في كيفية رفع مستوى أدائه السياسي، ليكون الضمانة لعدم تكرار ظهور مراكز القوى، وللحشد السياسي من وراء أهداف مرحلة التحرير.

وفي هذا المجال ، طرح الرئيس فكرة أن يقوم في داخل الاتحاد الاشتراكي حزبان، أو جناحان يتنافسان للوصول إلى السلطة. ويعمل كل منهما على إقناع الجماهير بأفضليته في هذا المجال، ويكشف أي قصور في أداء الحزب الآخر أو انحراف في ممارساته. وكانت فكرة الرئيس تقوم على أساس أن الحزبين ينتميان غلى الخطوط العريضة في فكر ثورة يوليو 1952م

وإن جاز اختلافهما في درجات التركيز على سياسات أو اتجاهات دون أخرى. ولكن السلطة العسكرية برئاسة المشير عبد الحكيم عامر حالت دون قيام ذلك قبل عام 1967م. وبعد 1967م، كان لأعضاء اللجنة التنفيذية العليا جميعا رأي مخالف، مفاده عدم مناسبة مرحلة الإعداد للتحرير لتلك التجربة، وإنه من الأوفق تأجيلها لما بعد إزالة آثار العدوان.

ومن ناحية أخرى، كان الرئيس قد قرر أن يرأس الوزارة للسباب التي سبقت الإشارة إليها . وكان اختياره للوزارة الجديدة من عناصر شابة، وكثير من الوزراء دخلوا الوزارة لأول مرة، للكفاءة المشهود لهم بها في مجالات تخصصهم، وذلك بعد أن تخلص من نفوذ المؤسسة العسكرية.

وكانت الوزارة هي التي أوكل إليها الرئيس عبد الناصر مهاما محددة على طريق التغيير. فلقد أدار معها الحوارات الطويلة حول التغيير، وعهد إلى لجنة منها صياغة بيان 30 مارس 1968م، وكلف أعضاءها بتطوير وتيسير إجراءات العمل واللوائح وخدمة الجماهير داخل وزاراتهم. وطلب من كل وزير أن يتصرف داخل وزارته بمنتهى الحرية والجرأة، وألا يعطي الفرصة للجهاز البيروقراطي داخل وزارته للسيطرة عليه وشل حركته.

وكان لدى جمال عبد الناصر مشكلة حث الوزراء على الإدلاء بآرائهم بصراحة، وخصوصا من دخل الوزارة لأور مرة، حيث كان البعض يميل غلى السكوت، أو أي محاولة لتعرف المسبق إلى اتجاهات الرئيس تجاه موضوع ما، لاعتقاده بأن جمال عبد الناصر لا يحب المناقشة.

وكثيرا ما كان عبد الناصر يطرح موضوعات للمناقشة، ويعند إلى عدم تحديد رأيه، ليعبر الجميع عن قناعاتهم الشخصية دون تأثر برأيه، حتى يستفيد من كل الآراء. وعلى الجانب الآخر، كان هناك أشخاص يكثرون من الكلام لمجرد الكلام، وليس لإبداء الرأي الصحيح.

وعلى العكس من ذلك، فلقد كان حسن الاستماع والرغبة في الوقوف على الرأي الصحيح، هو ما لاحظته أثناء مناقشاتي مع جمال عبد الناصر، في شتى المواضيع. وأذكر في هذا المقام، ما جرى معي في موضوع خطر، وهو مشروع تطهير الجامعة. وأود أن أستميح القاريء عذرا في سرده في هذا المقام، لنتبين إلى أي مدى كان جمال عبد الناصر لا يضيق صدرا بالمناقشات الجادة، برغم انفعاله الشخصي.

وتبدأ وقائع هذا الموضوع معي، في يوم كنت أوقع فيه الكشف على صحة الرئيس حين سألني فجأة: " مش شايف إن الوقت دلوقت مناسب لإجراء حركة تطهير في الجامعة؟" وكان من عادته إذا أراد ن يسألني سؤالا مهما أن يوجهه خلال انشغالي بفحصه وأن يفاجئني به. أجبته بقولي: "طبعا".

فاستطرد قائلا:

إنه كان هناك اجتماع في كلية الطب برئاسة العميد الدكتور على سرور. ونوقشت أثناء هذا الاجتماع أحداث يونيو 1967 وأسبابها. وانتقد بعض الأساتذة الرئيس وعلق أحدهم على ما حدث بعد الهزيمة

بأبيات شعر من قصيدة كليوباترا لشوقي:

أسمع الشعب ديون
كيف يوحون إليه

أثر البهتان فيه

وانطوى الزور عليه

وأكمل عبد الناصر الأبيات بهدوء، ثم قال بعد أن سكت لحظة، ورنة غضب عميق، تفصح عما يجول في صدره: " أنا يتقال على كل ده" ؟ واستطرد أن لديه تفاصيل المناقشات التي جرت، وأنه قرر إنهاء خدمة ثلاثة من الأساتذة الذين حضروا الاجتماع، وكذا العميد الذي لم يكن حازما معهم.

قلت له: " أنا لا أدافع عن هؤلاء الأساتذة ولكن ما بدر منهم يعتبر تصرفا جماعيا غير مدبر، تحت ضغط انفعال مؤقت. أما الذين يدبرون في الخفاء فهم لا يتكلمون وهم أولى بالتطهير من غيرهم". فنظر الرئيس إلي مليا وسألني: " من هؤلاء؟" فأجبته: لست أدري فهم غير معروفين لي.

وفي اليوم التالي سألته عما ينوي اتخاذه من إجراء مع هؤلاء الأساتذة، فأجابني: " لم أقرر بعد" . وشعرت بأنه قد أمعن التفكير في الرأي الذي أبديته بالأمس، وأنه صار مقتنعا به. فاستطردت : " إذا عفوت عنهم فلأن قلبك كبير. وقد سمعنا عن عفوك كثيرا حتى على من دبروا مؤامرات ضدك". واقتنع ومن بعدها لم تثر من جديد قضية تطهير الجامعة.

وعودة لحديثنا عن إعادة البناء السياسي ، فلقد كان جمال عبد الناصر مهتما بالشباب، ويرى فيه قوة المستقبل. وكان معتمدا على منظمة الشباب في خلق جيل من الشباب مؤمن بالثورة ومحافظ عليها. وطالب بإتاحة الفرصة لي لتولي المسئولية. وقد قويت منظمة الشباب، واستطاعت أن تتغلغل بين الجماهير.

مظاهرات الطلبة وبيان 30 مارس

في فبراير 1968م، صدرت الأحكام العسكرية ضد قادة الطيران الذين تسببوا في هزيمة 1967م. وكان رد الفعل الشعبي هو السخط، حيث اعتبرها الشعب غير كافية. وتحت ضغط الانفعال المكبوت، بعد هزيمة يونيو 1967م وفي مناسبة الأحكام على بعض المتسببين فيها من العسكريين، قام الطلاب بتظاهرات طافت بشوارع القاهرة احتجاجا على تلك الأحكام.

وكنت عند عبد الناصر في ذلك اليوم، ووجدته متجهما بسبب الأحداث. وقال لي : " أنا مقدر انفعالات الناس، وخاصة الشباب بعد الهزيمة ولكن أنا مش فاهم إيه لزوم المظاهرات؟ وأنا لسه ما صدقتش على الأحكام ".

ثم ذكر لي أنه على اتصال دائم بوزير الداخلية السيد شعراوي جمعة ، وأنه أصدر له تعليمات واضحة، بعدم التعرض للطلاب بالعنف. وأن وزير الداخلية قد أفاده بتنفيذ هذه التعليمات، وبأنه لأول مرة نسمع عن مظاهرة، كان فيها عدد المصابين من جنود الشرطة أكثر من عدد المصابين من المتظاهرين.

وكنت أدرك أن هذه هي أولى المظاهرات منذ 1952م. ولم يكن خروجها تأييدا لجمال عبد الناصر ، ولكن جمال عبد الناصر لم تصرف تجاه هذه المظاهرات من منطلق عدم شرعيتها والتصادم معها، وإنما من منطلق حق الشعب في توقع التغيير، وفي السخط على الهزيمة.

وبعد أيام قليلة، انتهت المظاهرات ولكن ألأمر لم ينته بالنسبة لجمال عبد الناصر الذي كان يدرس إعادة البناء السياسي . فقد وضع هذه المظاهرات تحت المجهر السياسي، وناقشها مطولا مع مجلس الوزراء. وكانت الهتافات التي ترددت خلالها موضع اهتمامه الشديد، وطالب الوزراء بضرورة الاستجابة لكل ما عبرت عنه هذه الهتافات من شكاو.

وفي نهاية مارس 1968م، كانت الخطوط العامة لعملية البناء السياسي قد تبلورت، من مناقشات الرئيس مع كل أعضاء اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، ومجلس الوزراء ، وقدم جمال عبد الناصر إلى الأمة بيان 30 مارس متضمنا الخطوط العامة للعمل السياسي في المرحلة التالية، وفي مقدمتها إعادة بناء الاتحاد الاشتراكي بالانتخاب من القاعدة إلى القمة، وهو ما كان عبد الناصر يرى فيه أحد الضمانات ضد الشللية ومراكز القوى.

كما كان يأمل مخلصا في أن يظهر جيل جديد من الشباب من خلال هذه الانتخابات، وإعادة بناء الدولة، مع تركيز على الاهتمام بالعلم وعلى القيم الروحية والخلقية، وانطلاقة القوى الخلاقة للحركة النقابية.

وبرغم بعض المعارضين، فقد أصر جمال عبد الناصر على استفتاء الشعب على بيان 30 مارس. وكانت وجهة نظره أن الاستفتاء ضرورة من ضرورات المعركة، لأن المعركة ليست معركة فرد، وليست معركة جيش، وإنما هي معركة شعب ومعركة أمة بأسرها.

وعلى الجانب الآخر فلقد قصد جمال عبد الناصر أن يشهد الشعب، في مرحلة إعادة البناء السياسي، المحاكمات السياسية علانية ليعرف الناس حقائق ما كان. ولتكون عبرة لعدم التكرار. واتخذ عبد الناصر هذا القرار بكل ما يعنيه من تحميل النظام الثوري لتلك الأخطاء، وقدرة هذا النظام أيضا على علاج أخطائه وتصحيح مساره.

الفصل السادس: عبد الناصر والمسرح السياسي العربي

كان البعد العربي القومي منذ 1952م، ركنا أساسيا من أركان فكر وسياسات جمال عبد الناصر، الذي كان يرى أنه بقدر تحرير الأمة العربية سياسيا وتمكينها من قدراتها الاقتصادية وبناء المجتمعات العربية القومية، بقدر ما يكون ذلك خطوة إلى الأمام نحو المواجهة الطويلة المدى، بين الوجود العربي والاستعمار الصهيوني.

وكان لابد أن تقوم سياسات مصر لتحرير الأمة العربية سياسيا واقتصاديا إلى مواجهات وصراعات مع الدول ذات النفوذ الاستعماري في المنطقة، القديم منها والجديد. مع الأنظمة العربية المحافظة، والتي تتعاون مع هذه الدول.

ولكن بعد احتلال إسرائيل للأراضي العربية في 1967م، أصبح من الضروري إجراء بعض التعديلات على تلك الإستراتيجية الطويلة المدى. فإسرائيل احتلت بالفعل مزيدا من الأرض العربية، مستفيدة من عدم الجدية العربية إزاء مطالبة مصر في مؤتمرات القمة عامي 1946م و1965م لسرعة بناء القدرات الدفاعية العربية القادرة على ردع التوسع الإسرائيلي. وتمثلت التعديلات في محاولة حشد أكبر قدر ممكن من طاقات الدول العربية كافة، تقدمية كانت أم محافظة، وراء هدف عاجل هو إزالة آثار العدوان.

وهكذا استمد العمل العربي بعدا رئيسيا في إستراتيجية جمال عبد الناصر في مرحلة التحرير، باعتبار أن المعركة هي معركة كل العرب ضد إسرائيل، وبها يرتبط مباشرة مصير الصراع العربي- الإسرائيلي. واقتضى أن يستفيد العرب من العمق الاستراتيجي ومصادر الثروة المتاحة لهم في مواجهة العمق الاستراتيجي ومصادر الثروة المتاحة للعدو متمثلة في الارتباط العضوي بينه وبين الولايات المتحدة وغرب أوربا.

وكان تفكير جمال عبد الناصر في هذا المجال، والمقاومة الفلسطينية.

أولا: التنسيق والتعاون الوثيق مع دول المواجهة والمقاومة الفلسطينية.
ثانيا: إشراك الدول العربية الأخرى بالقوات أو بالدعم لدول المواجهة كل حسب إمكانياته.

ودعا عبد الناصر إلى عقد مؤتمر للقمة العربية، لوضع إستراتيجية عربية في مواجهة العدوان.وقبل انعقاد مؤتمر القمة، شهدت أيام ما بعد حرب 1967م مواقف عربية كان لها أثرها في الدعم السياسي والمعنوي لمصر، وفي المعاونة على سرعة بناء خط الدفاع الأول.

فكانت الجزائر أول من بعث في 8 يونيو 1967م بطائرات لمصر، كما اجتمع وزراء الخارجية العرب في الكويت في 18 يونيو 1967م، وقرروا الوقوف إلى جانب دول المواجهة العربية، مع استمرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، ووقف ضخ النفط العربي لها.

وحضر الملك حسين إلى القاهرة لإجراء مباحثات مع الرئيس، قبل سفره إلى نيويورك لحضور اجتماع طارئ للأمم المتحدة. وأبلغه الرئيس بأنه ليس أمام مصر سوى القتال لاسترداد الأرض، وأن الحلول الدبلوماسية ستبحث طوال فترة الاستعداد العسكري، وأن موقف أمريكا ميئوس منه، ما دام ميزان القوى العسكري لصالح إسرائيل ، والموقف على جبهات القتال لا يشكل تهديدا للمصالح الحيوية الأمريكية.

ولكنه نصح الملك حسين بأن يعمل كل ما يستطيعه لسرعة استرداد الضفة الغربية، قبل أن تتمكن إسرائيل من تهويدها. وإن للأردن في هذا المجال أن تسعى إن أرادت، لدى واشنطن، بحكم العلاقات التاريخية بينهما، لمعاونتها في استرداد الضفة إن استطاعت.

وفي أوائل يوليو 1967م، حضر إلى مصر رؤساء سوريا والعراق والجزائر والسودان، والملك حسين بعد عودته من الولايات المتحدة، لدعم الصمود العربي وبعثوا برئيسي العراق والجزائر إلى موسكو لتكثيف الدعم العسكري لمصر، والتأييد السياسي للقضية العربية في الأمم المتحدة، من جانب الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية.

مؤتمر القمة في الخرطوم

في أواخر أغسطس 1967م، سافرت مع الرئيس جمال عبد الناصر إلى الخرطوم لحضور مؤتمر القمة العربي. وكانت هذه هي أول مرة أسافر فيها معه، حيث كان يرافقه قبل ذلك الدكتور أحمد ثروت.

ركبنا الطائرة غلى الخرطوم، وكان الرئيس يبدو بشوشا، وإن كان يميل إلى الصمت والاستغراق في التفكير لفترات خلال الرحلة. ووصلت طائرتنا فوق مطار الخرطوم في الوقت نفسه الذي وصلت فيه طائرة الملك فيصل. وجاء من يقول للرئيس: " إن برج المراقبة في مطار الخرطوم يسأل إن كنت تود أن تهبط قبل طائرة الملك فيصل؟ فأجاب بعدم مبالاة : " أي حاجة".

وهبطت طائرتنا أولا، ونزل الرئيس من الطائرة ليصافح كبار مستقبليه. ولما سأله مدير المراسم عما إذا كان لديه مانع في أن ينتظر هبوط طائرة الملك فيصل، التي كانت بالفعل قد وصلت إلى بداية ممر المطار، ليخرجنا من المطار في سيارة واحدة، جاءت إجابة الرئيس، في هذه المرة سريعة قاطعة: " لا ... حاطلع لوحدي" ولم أدرك لذلك سببا في تلك اللحظة حتى يخرج الموكب من المطار.

فما أن ظهر جمال عبد الناصر في سيارته خارج المطار، حتى انطلق مئات الآلاف من المواطنين السودانيين، الذين كانوا في انتظاره منذ ساعات في الحر الشديد والرطوبة الخانقة، يهتفون بملء حناجرهم " ناصر... ناصر". ويتدافعون نحو سيارته آملين في مصافحته.

كان استقبال الشعب السوداني هو المفاجأة الكبرى في مؤتمر القمة بالخرطوم، حتى الرئيس الذي اعتاد على الاستقبالات التي تفيض بالمشاعر نحوه في مصر وسوريا وتونس والجزائر وكل دولة عربية زارها، لم يكن يتوقع هذا الحماس في مرحلة لم يزل يخيم عليها شبح هزيمة 1967م.

ولم تغب الدلالات السياسية المهمة لهذا الاستقبال الكبير عن عيون المراسلين الأجانب. وفي الأسبوع التالي صدرت مجلة " تايم" الأمريكية الواسعة الانتشار في العالم، بصورة لعبد الناصر على غلافها، برغم الهزيمة، وكتبت تحتها: " الخرطوم تخرج تحية للبطل المهزوم".

عندئذ أدركت لماذا أراد الرئيس الخروج من المطار وحده، فقد كان يدرك أن حجم استقبال المواطنين العرب في السودان لرئيس مصر، كان له مغزاه السياسي المهم، أمام صناع القرار في إسرائيل وفي الغرب.

وفي الوقت نفسه، حدث لدى خروجي من المطار، أن انضمت السيارة التي استقللتها، خطأ وبتأثير الزحام، إلى موكب الملك فيصل الذي كان يأتي خلف موكب الرئيس. وكان المواطنون يخبطون بأيديهم على سيارة الملك فيصل هاتفين: " بترول العرب للعرب" في إشارة واضحة إلى ضرورة تأميم النفط. كان عبد الناصر ضد فكرة تأميم النفط، للنتائج المتوقعة لهذا الإجراء في هذا الوقت، وكان يرى أن تستخدم حصيلته في دعم المعركة ضد إسرائيل، لإزالة آثار العدوان.

كان المؤتمر ناجحا إلى أقصى درجة. وكان إجماع الدول العربية على أن تقدم دول النفط (السعودية والكويت وليبيا) الدعم لدول المواجهة. وصدرت عن المؤتمر قراراته السياسية المعروفة: بأن لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع إسرائيل والتمسك الكامل بحقوق الشعب الفلسطيني . وبذلك أعلن العرب عن صمودهم ورفضهم للاستسلام. كما تمت تسوية مشكلة اليمن على أساس عدم تدخل السعودية فيها، وعودة القوات المصرية.

وحدث خلال وجودنا في الخرطوم، أن علم الرئيس بمرض السيد الحسيب النسيب الميرغني، فأرسلني للكشف على صحته حيث وجدته مريضا بهبوط في القلب، ولكنه كان هادئا رابط الجأش. وقد كانت تلك اللفتة من الرئيس موضع تقدير لدى السيد الميرغني.

وفي طريق عودتنا إلى القاهرة، بحث الرئيس مع وزير الاقتصاد في ذلك الوقت السيد حسن عباس زكي الموقف الاقتصادي في ضوء الدعم الذي التزمت به الدول العربية. وقال ضاحكا: " صحيح السعودية قدمت الدعم لنا ولدول المواجهة ولكن هم حاسبينها.. لأنهم حيوفروا المبالغ اللي حيصرفوها لو استمرت حرب اليمن" . ثم التفت إلي مستطردا : " قالوا لي حنخلص حرب اليمن بأربعة آلاف جندي في ثلاثة أشهر ودلوقت وصلنا لسبعين ألفا وبنحارب بقالنا خمس سنين". وكانت هذه أول إشارة من عبد الناصر أمامي لحرب اليمن.

ثورة ليبيا

بعد نجاح ثورة ليبيا في أول سبتمبر 1969م، كنت في زيارة لجمال عبد الناصر وكان سعيدا بأنباء الثورة إلى أقصى حد. وحين دخلت الحجرة قال لي: " نشوف حيهوهو فين" ثم سألني هل تعرف هذه النكتة؟ فأجبت " نعم" ولاحظت أنني تسرعت في الإجابة، فقد كان يريد أن يحكيها.

وكانت النكتة السياسية تروي أن كلبا سمينا هرب من مصر إلى ليبيا. وهناك وجد كلابا نحافا سألوه: إيه اللي جابك. ده إحنا مش لاقيين ناكل . فقال: " أنا جاي أهوهو" كانت هذه النكتة تشير إلى أن الحرية فوق أي اعتبار. وكان تعليق جمال عبد الناصر على هذه النكتة يشير إلى أن ثورة ليبيا أضافت عمقا جديدا لثورة 23 يوليو 1952م.

كان جمال عبد الناصر يعرف كل النكات التي تروى عن النظام أو عنه شخصيا- بحق أو بغير حق- وكان يضحك لها. ما عدا حمله النكات التي تعرضت لها القوات المسلحة بعد الهزيمة، وأحزنته كثيرا كما سبق وأشرت. وعلمت من الرئيس، فيما بعد أنه حين وصله أول خبر عن قيام هذه الثورة، استطلع معلومات المخابرات المصرية ورأيها في الثورة والقائمين بها، ليدرس موقف مصر من الاعتراف بها. فأجابوه بأن نجاحها يبدو غير مضمون. وكان ذلك رأي المخابرات الروسية أيضا، وبالرغم من ذلك قرر الاعتراف بها مساندتها.

ولقد كان لقيام ثورة ليبيا- وكذا ثورة السودان في العام نفسه- أثر كبير في رفع معنويات جمال عبد الناصر، فكل شبر يتحرر من الأرض العربية، كسب لمعركة التحرير، التي تقودها مصر. كما أن للبلدين حدودا مشتركة معنا، وقيام نظامين ثوريين فيهما يعني إضافة عمق استراتيجي كبير لمصر غربا وجنوبا في المواجهة مع إسرائيل.

فضلا عن أن تصفية القواعد الأمريكية والبريطانية في ليبيا، أمن مصر من خطر استخدام هذه القواعد ضدها. ثم يبقى بعد ذلك كله، بالنسبة لجمال عبد الناصر أنه رأى بعينيه برغم هزيمة 1967م، وبينما هو في خضم التجهيز لمعركة إزالة آثار العدوان ، شبابا عربيا مؤمنا بثورة يوليو الأم بقيادة جمال عبد الناصر، يتقدم لأداء واجبه في تحرير وطنه وتطهيره من القواعد الأجنبية.

مؤتمر القمة العربي في الرباط

في أواخر ديسمبر 1969م، سافرت مع جمال عبد الناصر إلى الرباط، لحضور مؤتمر القمة العربي هناك. ونزلنا في أحد قصور الضيافة، وكان جو الرباط باردا بالرغم من أن الشمس كانت ساطعة. وتوالى وصول الوفود، وكان كل شيء على السطح يوحي بمؤتمر ناجح.

وكان دافع عبد الناصر، للدعوة إلى المؤتمر هو ما لاحظه من أن بعض الدول العربية قد عادت إلى الأساليب الدعائية القديمة، من هجوم متبادل برغم جو المصالحة الذي تم في الخرطوم. وكان تقدير الرئيس أن هذا التغيير يعكس محاولة للتنصل من المشاركة في المعركة.

فدعا إلى عقد المؤتمر ، وجعل مناقشاته حشد الطاقات العربية للمعركة بالمال أو السلاح أو القوات. وكان هدف عبد الناصر هو وضع كافة الدول أمام مسئولياتها، وكان هدف عبد الناصر هو وضع كافة الدول أمام مسئولياتها، لكشف الجادين من غير الجادين ووضع حد للمزايدات.

وعرض على المؤتمر خطة العمل الموحدة، التي توضح الحد الأدنى المطلوب من القوات على الجبهتين السورية والمصرية. ولكن المقترحات تعددت والمناقشات طالت سواء بالنسبة للدعم المادي أو العسكري. فخرج عبد الناصر من المؤتمر حين شعر بعدم الجدية.

وإثر خروجه أعلن الملك الحسن فشل المؤتمر في التوصل إلى قرارات. وبهذه النهاية لقمة الرباط، أصبحت فكرة الحشد العربي بعيدة عن التحقيق ، وصار لزاما التركيز على التنسيق مع الجبهة الشرقية (سوريا والأردن).

ولم تمنع عبد الناصر اهتماماته طوال فترة الإقامة في الرباط، ما بين حضور جلسات المؤتمر، ولقاءاته الثنائية بالقادة العرب، من أن يفكر في ترتيب رحلة لي لزيارة الدار البيضاء التي لم أكن قد شاهدتها من قبل. وعقب انتهاء المؤتمر، وسفر الوفود، استضاف الملك الحسن الرئيس عبد الناصر يوما للاستجمام، في القصر الملكي بالرباط، حيث الكرم المغربي، بعد أيام من الجدل والمناقشات في المؤتمر.

بعد ذلك ركبنا الطائرة إلى طرابلس ، حيث كان من المقرر أن يقوم الرئيس بزيارة ليبيا. وفي الطريق، هبطنا في مطار الجزائر لمدة ساعتين، اجتمع الرئيس خلالهما بالرئيس هواري بومدين. ولم يكن اللقاء وديا، حيث كان الرئيس شديدا معه، بعد موافقة المعارضة للموقف المصري، في مؤتمر الرباط.

زيارة ليبيا

وصل جمال عبد الناصر إلى ليبيا، في أول زيارة لها بعد نجاح الثورة فيها. وأعترف بأنني لم أر في حياتي استقبالا لبشر مثلما استقبل الشعب الليبي جمال عبد الناصر. فما أن فتح باب الطائرة، إثر هبوطها في مطار طرابلس، وظهر جمال عبد الناصر على رأس السلم، حتى انطلق الهتاف باسمه يصم الآذان.

وحين خرجنا إلى الطريق، خيل إلي أنه لم يبق ليبي في منزله. كانت ألوف الجماهير تهتف بهستيرية باسم عبد الناصر. وكانت الذبائح تنحر أمام سيارته طوال الموكب.وبالرغم من أن المسافة، من المطار إلى قصر الضيافة، تستغرق ثلث الساعة، فلقد قطعها موكب عبد الناصر في ثلاث ساعات. وظل الرئيس واقفا طوال الوقت، يحي بيديه ويلوح بذراعه ويصافح الأيدي الممدودة إليه. أما قلقي على الجهد الذي يبذله فكان بغير حدود.

وكان قصر الضيافة قد شيد قبل الثورة لولي العهد. وقامت الثورة قبل أن يدخله. وكان ذلك موضع تعليق العقيد القذافي، الذي قال: إنه لو كان ولي العهد قد دخل هذا القصر، لما قبلنا أن يطأه جمال عبد الناصر.

وظل الرئيس في اجتماع مع العقيد وأعضاء مجلس قيادة الثورة. وكانت تلك هي المرة الثانية التي يتقابل فيها الرئيس والقذافي. فقد كانت المرة الأولى فور قيام الثورة، حين حضر القذافي مع اثنين من أعضاء مجلس قيادة الثرة الجديد إلى مصر في زيارة سرية، اجتمع خلالها بعبد الناصر.

وفي اليوم التالي، توجه الرئيس إلى سرادق كبير أقيم بمناسبة هذه الزيارة، وقد امتلأ عن آخره بالجماهير التي حضرت، لسماع خطاب عبد الناصر التاريخي في ذلك اليوم. وفي هذا الخطاب حيا الرئيس جمال عبد الناصر شعب ليبيا، وشكر المواطنين على استقبالهم، وكرم ضيافتهم كما حيا رجال الثورة وأوصاهم بالتضامن وعدم الفرقة.

كان عبد الناصر منشرحا في هذا اليوم، وارتجل الخطاب الذي ألقاه، ولم يقرأ ما كان مكتوبا أمامه. وكنت قد اتفقت معه على ألا يزيد خطابه عن ثلث الساعة، وبالفعل نفذ الاتفاق في هذه المرة. أقمنا في طرابلس ثلاثة أيام. كنا خلالها محل حفاوة منقطعة النظير. وكان الرئيس في اجتماعات مستمرة مع قادة الثورة الليبية. وبعدها توجهنا إلى بنغازي.

وفوق مطار بنغازي تعطل جهاز إنزال العجلات، فلاحظنا ارتباك المضيفين. وظلت الطائرة تحوم فوق المطار لمدة نصف ساعة تقريبا، حتى تمكن الكابتن سعد الصيرفي كبير المهندسين، من إصلاح العطل بعد أن شمر عن ساعديه ونزل إلى غرفة العجلات. وقد انتابني شيء من الخوف، ولكني لاحظت أن الرئيس لم يشاركني هذا الشعور.

وفي اليوم التالي كنت أتناول الإفطار مع الرئيس ومحمد حسنين هيكل. فقال له هيكل الذي كان يجلس بجواري في الطائرة : " إن الدكتور منصور كان خائفا بالأمس". فأجبت : " والله لا أنكر هذا.. وكنت مصمما ساعتها، أننا إذا نزلنا بسلام فسأعود إلى مصر على قدمي، فلن أركب الطائرة ثانية، حتى لو اضطرت أن أعود إلى مصر على قدمي".

وضحك الرئيس وقال لي:

" إنك تذكرني حين كنت في الطائرة ذات مرة مع إمام اليمن،وكانت هناك صعوبة في الهبوط بسبب الأحوال الجوية، فنظرت إلى الإمام فوجدت ألوانه تتغير. فلما نزلنا سألني: لماذا لم تخف؟ فأجبته: إنك ستستريح إذا اقتنعت بأن هذا قدر، وأن المكتوب لابد وأن تراه، وإن لكل أجل كتابا".

وفي المطار استقبلنا الخروبي، وكان مسئولا عن بنغازي التي استقبلتنا جماهيرها، وكأنها تنافس جماهير طرابلس في حرارة الاستقبال . ونزلنا في قصر الضيافة. كان المفروض أن نقيم يومين في بنغازي ، ولكن الخروبي طلب من الرئيس بأن تمتد الزيارة يوما ثالثا، أسوة بالمدة التي أقامها في طرابلس.

وأخبرني الرئيس بذلك، وطلب مني أن أجد سببا أعتذر به عن تمديد الزيارة. وفعلا قلت للخروبي إن الرئيس مرهق، وإنني بوصفي طبيبه، أرفض تمديد الزيارة ليوم آخر. ولكن إزاء تصميم الخروبي، لم يملك جمال عبد الناصر إلا الموافقة على البقاء ليوم إضافي، عدنا بعده إلى القاهرة.

لقد رفعت زيارة ليبيا من روح عبد الناصر المعنوية إلى أبعد حد. وبالرغم من التعب الجسماني الذي تحمله في الاستقبالات والاجتماعات الطويلة، فلقد كان لهذه الزيارة أثر كبير في تقدم صحته.

وفي القاهرة أشرت على عبد الناصر، بضرورة الاستجمام لبضعة أيام، بعد الجهد الذي عاناه في المغرب وليبيا. وكان مقررا أن يزور مصر، في ذلك الوقت أحد الرؤساء الأفريقيين وقال لي عبد الناصر إنه سيستقبله في المطار، ولكنني لم أوافق فكانت النتيجة أن تأجلت الزيارة . فقد كان عبد الناصر حريصا على أن يكون في المطار بنفسه، ليستقبل ضيوف مصر من رؤساء الدول.

المصالحة بين الأردن والمقاومة الفلسطينية

في أواخر سبتمبر 1970م، تفجرت المعارك بين المقاومة الفلسطينية وقوات الجيش الأردني، وبغض النظر عن الأساليب التراكمية المباشرة لهذه المواجهة، فلقد كان أثرها الاستراتيجي في مصر بالغ الخطورة، حيث وقعت بين طرفين مشاركين في الجبهة الشرقية ضد إسرائيل، وهي الجبهة التي يفترض أن تساند مصر عند بدء معارك التحرير.

وعلى الفور دعا جمال عبد الناصر إلى انعقاد مؤتمر قمة عاجل، بفندق الهيلنتون بالقاهرة. وطوال الأيام التي استغرقها المؤتمر، كان عبد الناصر في اجتماعات مستمرة، ليلا ونهارا، سواء في صورة كاملة لهيئة المؤتمر أو اجتماعات ثنائية. فلقد كانت المعارك والمذابح الضارية في تصاعد يهدد بنسف كيان الجبهة الشرقية. وكان كل من الطرفين يلقي بالتبعات على الآخر.

وكانت أنظار العالم كله مركزة على ما يجري في القاهرة، من اثر هول الدم الذي يجري في الأردن. ويوم توقيع الاتفاق بين المقاومة والحكومة الأردنية، نشرت جميع صحف العالم شرقه غربه صورة الملك حسين والسيد ياسر عرفات يتصافحان، وقد وقف الرئيس عبد الناصر بينهما، وكتبت تحتها: " إنجاز لا يحققه إلا ناصر". ولكن الجهد الجسماني والعصبي الذي بذله عبد الناصر لينقذ الجبهة والشرقية كان أكبر مما يحتمله قلبه.

الفصل السابع:بدء آلام الساق

مع الجهد الخارق الذي كان جمال عبد الناصر يبذله، ما بين القوات المسلحة، والتنظيم السياسي، ومجلس الوزراء، واللقاءات الجماهيرية، ورؤساء الدول الذين توافدوا إلى مصر للاطمئنان على أوضاعها، بدأ الرئيس في أوائل عام 1968م يشكو من آلام في الساق اليمني، نتيجة لضعف في الدورة الدموية فيها، وهي إحدى المضاعفات المعروفة للسكري. واستشرنا في هذه الحالة الدكتور بولسون من الدانمرك، والدكتور فيفر من (ألمانيا الغربية) واتفقنا على العلاج، ووضع الرئيس تحت إشراف طبي دقيق، كما طلبنا منه الإقلاع عن التدخين.

لم تكن هذه الآلام تعيقه عن الحركة أو النشاط، خاصة إزاء الإرادة الحديدية لجمال عبد الناصر . ولكني كنت مهتما بها، لكونها ناتجة عن قصور في الدورة الدموية للساق بسبب تصلب الشرايين .وحدث أن علم سفيرنا في فيينا في ذلك الوقت ، أن الرئيس يشكو آلاما في الساق، فتطوع وأبلغه وجود طبيب عالمي في فيينا، عالج الملك سعود من آلام ساقيه، بعد أن كان عاجزا عن المشي.

وحين يمرض زعيم مثل جمال عبد الناصر ، يكثر المتطوعون للإدلاء بمعلومات عن طبيب نجح في علاج آخرين كانوا يشكون من المرض ذاته، أو لوصف دواء ثبت نجاحه في علاج مضه. وذلك حرصا منهم على صحته، وقد يكون أحيانا من باب التقرب منه والتودد إليه. أخبرني الرئيس عن ذلك الطبيب، فلم أعترض على استشارته وفعلا حضر إلى القاهرة، وقام بفحص الرئيس. ونسب آلام الساق إلى التهاب في الأعصاب، ولما أطلعناه على نظام العلاج لم يضف إليه جديدا.

وتصادف أن كان يزور القاهرة في ذلك الوقت، أستاذ من النرويج، من أكبر الاختصاصيين في التهاب الأعصاب في العالم. فاتصلت به وطلبت منه أن يفحص الرئيس. وبعد فحصه اتفق في الرأي معنا، ونفى وجود أي علاقة بين هذه الآلام والتهاب الأعصاب، وقرر أن الآلام سببها ضعف في الدورة الدموية في الساق. واقتنع الرئيس خاصة وأن الطبيب النمساوي لم يكن قد أضاف جديدا إلى العلاج.

ثم عادت فكرة العلاج الذي خضع له الملك سعود في فيينا ونوعيته تراود الرئيس، فطلب مني السفر إلى فيينا لاستيضاح الأمر. وفي فيينا دعاني السفير إلى العشاء مع الطبيب الذي ظل يتحدث عن نفسه وعن أبحاثه طوال الوقت، موجها حديثه إلى السفير الذي كان فاغرا فاه من الانبهار.توجهت بعد ذلك لزيارة هذا الطبيب في المستشفى. وقمت بفحص بعض المرضى معه، ولاحظت أن مستواه الطبي بالكاد فوق المتوسط. ولم أجد جديدا يفيد في علاج الريس فعدت إلى القاهرة.

وفي الوقت نفسه، كان السوفييت قد أشاروا على الرئيس بالاستشفاء في سخالطوبو، المشهورة بمياهها المعدنية، ورغم عدم اقتناعي بفائدة العلاج هناك، فقد وجدت في هذه الرحلة، فرصة لإبعاد جمال عبد الناص عن الانفعالات والمشاكل وفعلا سافر الرئيس إلى هناك، حيث أمضى بعض الوقت، وعاد إلى القاهرة دون أن يطرأ أي تحسن على آلام الساق.

الفصل الثامن:الأزمة القلبية الأولى

جاء شهر سبتمبر 1968م، مثل الشهور التي سبقته منذ حرب 1967م، مليئا بالجهد المضني الذي كان جمال عبد الناصر يبذله في المجالات العسكرية والسياسية في الداخل والخارج، وما يتعرض له خلال هذا الجهد من انفعالات ، خاصة نتيجة متابعته اليومية الدقيقة لكل ما كان يجري من عمليات مسلحة خلال حرب الاستنزاف.

ففي أول سبتمبر شهدت مصر أول اجتماع قمة مصغر لدول المواجهة بين الرئيس عبد الناصر والملك حسين والرئيس السوري نور الدين الأتاسي ونائب الرئيس العراقي مهدي عماش، لبحث التنسيق والتعاون بين دول تلك الجبهة. وفي الفترة ذاتها، كانت الثورة الليبية، وتتبع الرئيس لكل ما أحاط بهذا الحدث من ردود الفعل في العالم.

وفي 9 سبتمبر كان الرئيس مع وزير الحربية ورئيس الأركان ورؤساء الهيئات في القيادة العامة وقائد الجيش الثاني يتابعون أداء فرقة مدرعة حديثة الإنشاء. وحدث في ذلك اليوم أن أغارت إسرائيل على منطقة الزعفرانة، وهاجمت نقطة حفر السواحل، وقتلت خمسة جنود وبعض المدنيين.

وكان تأثر عبد الناصر بهذا الحادث بالغا، وخاصة بالنظر إلى ضحاياه. وقد قال لي، في صباح اليوم التالي، وصوته يقطر ألما: " المدنيين ذنبهم إيه؟ ورجال خفر السواحل دول ناس فوق الخمسين- والمحارب الشريف لا يقوم بعمل بهذه الخسة".

عقب ذلك مباشرة، وفي ليل ذات اليوم – 10/ 9/ 68م - أصيب جمال عبد الناصر بالأزمة القلبية الأولى. وأثبت الفحص الإكلينيكي ورسومات القلب المتكررة، حدوث جلطة بالشريان التاجي الأمامي للقلب. واتصلنا بالدكتور ناصح أمين لعمل التحاليل اللازمة التي أكدت حدوث الجلطة، وقمنا مباشرة بإجراء العلاج اللازم.

في البداية قلت له إن هناك تقلصات في الشرايين، نتيجة الإرهاق الشديد، وإنه يحتاج للراحة. وكان أول سؤال له هو: " يعني إيه راحة؟ قد أيه يعني؟" فأجبته " مش لمدة طويلة وكل شيء سينتهي بأمان بإذن الله" وفهم عبد الناصر أن قلبه قد أصيب.

وحين طلبت منه إشراك أحد أساتذة القلب بجامعة القاهرة معنا، رفض بطريقة قاطعة، وقال : " مش لازم أي حد يعرف أني مريض بالقلب... أنا داخل على فترة مهمة السنة الجاية في المواجهة مع إسرائيل". فلما اقترحت عليه اشتراك الأستاذ الدكتور محمود صلاح الدين من الإسكندرية وهو اختصاصي في القلب، وافق على أساس أنه كان كثير التردد إليه، وكتمانه لطبيعة مرض الرئيس مضمون.

وفيما بعد وافق عبد الناصر على إشراك الدكتور زكي الرملي أستاذ أمراض القلب بجامعة القاهرة معنا في العلاج.وعاد عبد الناصر فطلب إلينا عدم إذاعة حقيقة مرضه. وبالفعل نشرت جريدة الأهرام أن الرئيس قد اعتكف لبضعة أيام لإصابته بالأنفلونزا، ويشرف على علاجه الدكتور منصور فايز والدكتور الصاوي حبيب، وأضيف اسم الدكتور على المفتي- وهو طبيب الرئيس للأنف والأذن والحنجرة - لتأكيد ذلك.

وخلال هذه الأزمة، كنت أزور الرئيس مرتين يوميا، وكان الدكتور محمود صلاح الدين يزوره صباح كل يوم.وطلبت منه أن نستشير أحد اختصاصي أمراض القلب في الولايات المتحدة أو بريطانيا، ولكنه رفض من جديد خشية أن يعرف الإسرائيليون والأمريكيون أنه مريض بالقلب ولكنه وافق على حضور الدكتور شيزوف وهو أكبر اختصاصي القلب في الاتحاد السوفيتي، كان عضوا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي. وأرجح أن الدكتور سيزوف قد أعلم القادة السوفييت، لدى عودته بطبيعة مرض الرئيس.

واستجاب الرئيس لطلبنا منه بالتزام الراحة لفترة امتدت شهرين، واتفقنا على ألا يزاول أي عمل خلال هذه المدة. وإن كان دائم السؤال عن سبب إصرارنا على الراحة، رغم أننا أخبرناه بوجود جلطة في الشريان التاجي. وكان عبد الناصر يروح عن نفسه، خلال هذه الفترة، بمشاهدة برامج التليفزيون. وقد لاحظنا تحسنا كبيرا في برامج التليفزيون أثناء هذه الفترة، وسرعان ما رجع الحال إلى ما كان عليه، حين عاد الرئيس إلى نشاطه.

كانت الزيادة ممنوعة أثناء فترة الراحة، وبدأ الكثيرون ينتابهم الشك في طبيعة مرض الرئيس. فقد كانت الإجراءات التي اتخذت لا تشير إلى أنه كان مريضا بالأنفلونزا، مثل طول فترة الراحة. ومثل تركيب مصعد في منزل الرئيس خلال مدة الراحة. وبدأ بعض المسئولون الذين أقابلهم، يسألني إن كان الرئيس يتناول الهيبارين (وهو دواء يعطى في علاج الجلطة) في محاولة منهم للوصول إلى طبيعة مرضه. وعندما طالت مدة اعتكاف الرئيس، عرف أنه مريض بالقلب بالرغم من التكتم الشديد.

وحدث أن حضر بهجت التلهوني إلى القاهرة في ذلك الوقت، وأصر على عدم السفر إلا إذا قابل الرئيس. وبالفعل قابله الرئيس في حجرة النوم مرتديا الروب فوق البيجامة. وبالرغم من أن جمال عبد الناصر كان يبدو طبيعيا أمامه، فقد أشيع خبر مرضه بالقلب في الخارج.

وحين مرض الرئيس كان من بين الترتيبات التي طلبناها كفريق طبي يشرف على علاجه، أن تتولى كريمته السيدة هدى عبد الناصر العمل كأمينة سر له، في مكتبه الملحق بغرفة نومه. وكانت قبل ذلك تعمل مسئولة عن متابعة جلسات مجلس الوزراء.

وقد أوصيناها بمحاولة تقليل الكميات الهائلة من الأوراق التي تتدفق على الرئيس طول النهار للاطلاع عليها، وأن تراعي قدر الإمكان أهمية أن تجنبه الانفعالات. وبالفعل قامت السيدة هدى بعملها إلى جانب الرئيس حتى رحيله. وكانت تطلع على كل ما يرد إلى الرئيس، وتعرض عليه ما له أهمية وأولوية، وتجهز حصرا كاملا بما عدا ذلك، وتخبره بما ورد له ولم يعرض، ليطلب الاطلاع عليه أو يطلب موجزا عنه.

وعقب شفاء الرئيس، وانتهاء فترة الراحة مباشرة، كان عليه أن يلقي خطابا في مجلس الأمة. وطلبت منه أن يكون الخطاب مختصرا، وأن يكون جالسا خلال حديثه. ولكني فوجئت بأن الخطاب كان أطول مما اتفقنا عليه، كما أنه ألقاه واقفا حيث كان يخشى أن يؤخذ جلوسه شاهدا على أنه لم يزل مريضا. وفي هذا الخطاب، أعلن استعداده لحضور مؤتمر قمة عربي للتشاور في الأوضاع الراهنة. وفعلا تم عقد هذا المؤتمر في الرباط في أواخر ديسمبر 1969م، كما سبق أن أوردنا.

الفصل التاسع:حرب الاستنزاف والتجهيز للمعركة

كان الخيار العسكري هو البديل الوحيد المتاح لمصر لتحرير أرضها المحتلة عام 1967م. فقد انتهت هذه الحرب باحتلال إسرائيلي سريع لأراضي ثلاث دول عربية، في ظروف عسكرية ظالمة للجندي المصري. كان لها نتائج نفسية كبيرة في العدو، متمثلا حينذاك في أمريكا وإسرائيل.

وبدأت إسرائيل تتصرف بغرور وصلف لا حد لهما. وتصورت أن مصر قد انتهت وأنها ستطرق بابها بين لحظة وأخرى، إذ لا أمل أمامها في بناء قدراتها العسكرية قبل عشر سنوات على الأقل، كما سبق وصرح بذلك موشي ديان. وكانت شروط أمريكا وإسرائيل هي أن يسقط نظام عبد الناصر، وأن توقع مصر معاهدة للصلح تقبل بموجبها " السلام الإسرائيلي" أي السلام بالشروط الإسرائيلية. وباختصار شديد، كان المطلوب أن تستسلم مصر بدون قيد أو شرط.

وكان الخيار العسكري هو البديل الوحيد أمام شعب مصر الذي رفض الهزيمة ، وخرجت ملايينه تتمسك بجمال عبد الناصر، وتمنحه ثقتها لإعادة البناء واسترداد الأرض المحتلة .

وكان تعبير الرئيس عبد الناصر عن ذلك ، بعد 24 ساعة من قبوله تكليف الشعب له بمواصلة النضال ، قوله في 11 يونيو 1967 م لوزير الحربية الجديد الفريق محمد فوزي : ما أخذ بالقوة لن يسترد بغير القوة ، وأنه يجب إعادة بناء القوات المسلحة ، وإعداد الدولة للحرب ، لبدء معركة التحرير في وقت لا يتعدى ثلاث سنوات . ثم تأكيده لذلك ضمن خطوط الإستراتيجية العامة التي طرحها على القادة الجدد للقوات المسلحة ، خلال اجتماعه بهم اعتبارا من هذا التاريخ.

وبناء على هذا التصور ، بدأ العمل العسكري المصري المكثف لبناء الجيش الحديث القوي والقادر ، لتتسلح به الإرادة السياسية المصممة على استعادة التراب الوطني والحق العربي و الفلسطيني.

وكان الانجاز العسكري الذي حققه جمال عبد الناصر ، منذ إعادة البناء في11 يونيو 1967 م ، ومنذ إعادة وتجهيز خط الدفاع الأول عن مصر غرب القناة في نوفمبر 1967 م ، معجزة من حيث الحجم ، لولا القدرات العالية لجمال عبد الناصر ، وثقله السياسي دوليا ، ثم بفضل الإصرار العنيد الذي كان عبد الناصر يتميز به، والجهد الخارق الذي بذله في الوصول إلى هدفه .

وكانت حرب الاستنزاف التي أدارها عبد الناصر ، على مدى ثلاث سنوات ، ملحمة بطولة ، له ولشعب مصر غنية بالدروس ، ثرية بالعطاء والفداء . وستظل مكانتها خالدة في التاريخ السياسي والتاريخ العسكري لمصر .

وبرغم أن هذه الحرب كانت أولى الحروب التي تفشل فيها إسرائيل ـ بشهادة مؤرخيهم كما سنرى ـ فإنها لم تأخذ حقها في النشر إليها وسائل الإعلام من قريب أو بعيد . واستمرت حرب الاستنزاف هذه إلى أن قبل جمال عبد الناصر مبادرة روجرز التي كانت تنص على وقف إطلاق النار ، مؤقتا بيننا وبين إسرائيل .

أراد عبد الناصر بحرب الاستنزاف أن يعبر سريعا وبالسلاح عن الرفض السياسي لشروط الاستسلام الإسرائيلي ، وعن التصميم على استعادة الأرض ، وإزالة آثار العدوان ، ولا يسمح للأوضاع الناجمة عن حرب 1967 م أن تستقر ، فتترتب عليها آثار سياسية وقانونية بغير حدود على حساب الحقوق الوطنية . كما أن عبد الناصر أراد من خلال حرب الاستنزاف أ، يبني الجيش القوي القادر على تحقيق هذا بالهدف الوطني القومي في هذه المرحلة. وكانت أولى خطواته على طريق هذا البناء هي تحديد موقع القوات المسلحة وإطارها الصحيح في داخل الدولة ، وإنشاء الأجهزة التي تتولى التفكير والتخطيط العسكري وتشرف على التنفيذ.

وحدة الفكر السياسي والعسكري

اهتم الرئيس عبد الناصر بوحدة الفكر السياسي والعسكري ، على مستوى السياسة العليا التي يضعها ، بوصفه رئيسا للجمهورية وقائدا أعلى للقوات المسلحة في الوقت نفسه ، وبأن يكون ما يتفرع عنها من إستراتيجية سياسية تنفذها وزارة الخارجية وإستراتيجية عسكرية ينفذها وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة تسير في تناسق كامل مع أهداف السياسة العليا دون تناقض . ومن هنا صار للرئيس جمال عبد الناصر ـ ولأول مرة ـ سلطات فعلية مارسها كقائد أعلى للقوات المسلحة .

وكان التناقض بين أهداف السياسة العليا والإستراتيجية العسكرية أحد المداخل لهزيمة 1967 م ، بسبب حرص المشير عبد الحكيم عامر على إبعاد الرئيس عن كل ما يتعلق بالقوات المساحة . وهو ما أدى إلى التناقض بين أهداف السياسة العليا للدولة التي يحددها رئيس للجمهورية وبين خطط حشد وتعبئة القوات المسلحة التي يصدرها القائد العام للقوات المسلحة .

التخطيط لمعركة التحرير

اهتم الرئيس جمال عبد الناصر بأجهزة التفكير والتخطيط العسكري ، لتكون الخطط العسكرية التي توضع لبناء الجيش في حدود الفترة التي قدرها وأعلنها للقادة العسكريين بثلاث سنوات ، هي نتاج فكر جماعي مدروس دون فردية أو شطط.

وعكفت تلك الأجهزة المتخصصة على دراسة ووضع الخطط العسكرية الكفيلة بتحقيق هدف تحرير الأرض ، وتحديد حجم ومقومات القوات التي يمكنها تحقيق الهدف ، والمراحل التي يسير بها العمل المنسق بين مختلف أسلحة القوات المسلحة ، وتدرج العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش على جبهة القناة ، وانتهت إلى خطة واضحة اعتمدها رئيس الجمهورية ، على تطور هذه الخطة كل ستة أشهر .

وهكذا وضعت الخطة على أساس تحديد جميع الخطوات اللازمة من أول بناء المقدرة الدفاعية إلى دخول معركة التحرير بعد ثلاث سنوات ،وعلى أساس أن تراجع الخطة كل ستة أشهر ، على ضوء التطور الفعلي الذي يتم في قواتنا ، والتطور الذب يتم في قوات العدو ، في لفترة نفسها .

وقد ذكر الفريق محمد فوزي ، القائد العام للقوات المسلحة أثناء تلك الفترة ، أنه بناء على توجيهات الرئيس جمال عبد الناصر الصادرة إليه في يوليو 1967 م ، في أعقاب الهزيمة ، أصبحت إستراتيجية العمل العسكري للقوات المسلحة المصرية هي تحرير الأرض المحتلة في سيناء بالقوة والوصول بالقوات المصرية إلى خط الحدود المصرية ـ الفلسطينية وتأمينها .

ثم استغلال النجاح سياسيا ، لاسترداد حقوق الشعب الفلسطيني . وكانت الفترة الزمنية التي حددها عبد الناصر لتحقيق هذا الغرض هي ثلاث سنوات . ونتيجة لدراسة اللجان العسكرية التي شكلت داخل القيادة العامة برئاسة الفريق عبد المنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المسلحة ، والتي استمرت لمدة سنة ، تم وضع خطة عامة لتحرير الأرض ، أطلق عليها اسم الخطة 200.

كما أوضح الفريق فوزي بعد ذلك ، أنه عقب مرور ثلاثة أعوام على هزيمة يونيو 1967م ، وصلت القوات المسلحة المصرية إلى مقدرة وإمكانيات عسكرية ومعنويات عالية . وتم اختبار التشكيلات الميدانية وجميع أنواع القيادة العامة على واجبات عملياتها ، بحيث أصبح في إمكان هذه القوات البدء في معركة التحرير بمجرد صدور الأوامر إليها بذلك .

وقد اهتم الرئيس جمال عبد الناصر بنوعية السلاح المتطور . وتمكن من تسليح القوات المسلحة بآخر ما في الترسانة السوفيتية من الأسلحة التي كانت تتدفق على قواتنا مع تزايد تطور إمكانياتها .

الارتقاء بنوعية المقاتل المصري

ومما ساعد على سرعة استيعاب التدريب على الأسلحة المتطورة ، التغيير الجذري في نوعية المقاتل المصري ، بعد الاعتماد على خريجي الجامعات والمعاهد العليا القادرين على استخدام الأسلحة المتطورة تكنولوجيا ،والذين تم تجنيدهم ممن تخرجوا في تلك السنوات ، والذين أقبلوا على التجنيد بحماس منقطع النظير .

كما ساعد عليه التدريب والإعداد الجاد والمستمر الذي كان يتم في مناطق تشابه ظروف الجبهة وقناة السويس ، حتى أتقن جميع أفراد القوات المسلحة تدريبات العبور في الليل والنهار .وكان اهتمام عبد الناصر كبيرا بالروح المعنوية للضباط والجنود . فكان عند حضوره مشروعات التدريب والمناورات ، دائم السؤال عن طعامهم ، وعن مشكلاتهم الشخصية ومشاكلهم العامة ، ويسعى إلى علها .

كما بادر ، وعلى سبيل المثال ، إلى تعديل نظام الإجازات للضباط والجنود على الجبهة ، بحيث لا تطول فترات تغيبهم عن عائلاتهم كثيرا ، حرصا على استقرارهم الاجتماعي ، بعد أ، لاحظ بعض الشواهد السلبية في هذا المجال .

اجتماعات عبد الناصر بالضباط والجنود

وكانت اجتماعات الرئيس عبد الناصر المستمرة بالقادة العسكريين تركز على ضرورة اهتمامهم بالروح المعنوية للجنود والضباط ، وترسيخ مفهوم أن لا مفر من الحرب ،وتعميق إيمانهم بالقضية التي يحاربون من أجلها ،بالشرح المستمر لهم عن عدالة الهدف الوطني لبلدهم ، وممارسات العدو وأهدافه ، والظروف الدولية المحيطة بالصراع .

وكان الرئيس عبد الناصر مهتما بألا يكون الشحن المعنوي على أساس فكرة الأخذ بالثأر ،لأنها مفهوم ضيق ، في حين أن فهم أبعاد الصراع العربي ـ الإسرائيلي هو المدخل الحقيقي للإيمان بحتمية القتال ،فضلا عن أنه يضمن سلامة الرؤية السياسية للضابط والجندي تحت كان الظروف . كما كان الرئيس يطالب بالاهتمام والتركيز على القيم الدينية لدى الأفراد .

وكان بناء الجيش في ظل المعارك القتالية على الجبهة أفضل أسلوب لبناء قوات مسلحة على مستوى عال من الكفاءة القتالية للمقاتل على جميع المستويات . كما مكنت قواتنا المسلحة من معرفة أسلوب القتال للعدو وتكتيكاته والوقوف على قدراته الحقيقية ، وحرمان العدو بالتالي من أية مفاجأة أو خداع يقوم بها خلال معركة التحرير المنتظرة .

ولقد مرت المواجهة بين مصر وإسرائيل ، بعد حرب 1967 م ، خلال حر الاستنزاف ، بثلاث مراحل:

(1) مرحلة الصمود : يوليو 1967 م - مارس 1968

بعد أعلنت مصر رفضها للهزيمة ، وإصرارها على مواصلة القتال ، قام العدو بسلسلة من الاعتداءات لإحباط الروح المعنوية للقيادة والشعب المصري ، لكي تستجيب للضغوط الإسرائيلية ـ الأمريكية ، لفرض صلح منفرد على مصر بالتفاوض المباشر ، مقابل إعادة سيناء فقط ، مقابل شروط تفرضها إسرائيل مستغلة انكسار الغطاء العسكري للإرادة السياسية في حرب 1967 م .

معركة رأس العش

ففي الأول من يوليو 1967 م، قام العدو بهاجمة جزء من الأرض شرق وجنوب مدينة بور فؤاد ، الذي لم يكن قد احتلته ضمن احتلاله لسيناء ، وكانت لنا بعض القوات التي تمركزت فيه . وبالفعل هاجمت قوات العدو الموقع من أكثر من نقطة اقتراب أرضا وجوا ، ولكن قواتنا صمدت في وجهه .

فحاول الاقتراب من مدينة بور فؤاد ، ولكن المدفعية ردته. وتمكن رجال الصاعقة من عبور القناة ، وتفجير مخازن للذخيرة حتى لا يستخدمها العدو في المعركة ، وكانت هذه أولى معارك الصمود ، بعد مرور عشرين يوما فقط على الهزيمة ووقف إطلاق النار . وانتهت بانتصار محدود لقواتنا ولكن آثاره النفسية الإيجابية كانت بلا حدود .

ثم كان ثاني الانتصارات المحدودة من نصيب القوات الجوية، في يوم 14 و15 يوليو، حين تصدت طائراتنا أول يوم- 14 يوليو - أسقطت طائراتنا مقاتلتين للعدو. وتكررت النتيجة ذاتها للمواجهة في اليوم ذاتها في التالي . وإثر ثقتهم في طائراتهم ، كما بدأت الثقة تعود من جديد بين رجال القوات المسلحة وبين القوات الجوية.

إغراق المدمرة إيلات:

وفي 21 أكتوبر 1967م، حققت القوات المسلحة انتصارا ضخما، كانت له أصداؤه العالمية، سياسيا وعسكريا، حين تمكن اثنان من زوارق الصواريخ المصرية من إغراق المدمرة إيلات التي دخلت مياهنا الإقليمية في منطقة بور سعيد.

وكان واضحا أن هذه القطعة التي كانت أكبر قطع الأسطول الإسرائيلي قد دخلت مياهنا الإقليمية في تحد لإرادة القتال المصرية، ولم تتصور أن البحرية المصرية بعد الهزيمة تملك الكثير إزاء هذا التحدي ويبدو أن العدو الذي ركبه الغرور بعد "انتصار" 1967م قد تصور أن عبد الناصر يمكن أن يسكت إزاء التحدي بسبب الهزيمة.

وصدرت الأوامر بالتعرض للمدمرة وإغراقها . فخرج زورق الطوربيد الأول بقيادة النقيب أحمد شاكر، وتلاه الثاني بقيادة النقيب لطفي جاد الله. وبالفعل تمكن النقيب أحمد شاكر من المدمرة حين رماها بأول صواريخه فأصابها إصابة مباشرة لتميل على جانبها، فعالجها بالصاروخ الثاني. وبعدها بساعتين أطلق النقيب جاد الله صاروخيه عليها، لتمل رحلتها إلى أعماق البحر بطاقمها العسكري المكون من 250 ضابطا وجنديا.

ولم يشأ الرئيس جمال عبد الناصر أن تعلن مصر عن إغراقها للمدمرة إلا بعد أن يتيقن بصفة أكيدة من أنها بالفعل هي "إيلات" فصدر أول بلاغ مصري يعلن عن نجاح قواتنا البحرية في إغراق هدف بحري إسرائيلي كبير. أما العدو الذي لم يكن يستطيع إخفاء خبر بهذه الضخامة عن الإسرائيليين فقد اعترف بأن الهدف هو "إيلات" أكبر القطع البحرية الإسرائيلية.

وكان لهذا الإنجاز العسكري الكبير أثره المعنوي الضخم في الشعب والقوات المسلحة، حتى إن يوم 21 أكتوبر وهو اليوم الذي تم فيه إغراق المدمرة إيلات أصبح عيدا للبحرية. واستدعيت ذات يوم إلى مستشفى المعادي، لحضور لجنة عسكرية لتوقيع الكشف الطبي على أحد الضباط.وكان هو النقيب أحمد شاكر الذي كان يشكو من مرض خطير هو النخاع الشوكي، لا أمل في شفائه.

وكان قد تقدم بطلب للسفر إلى الخارج للعلاج. ووجدت النقيب أحمد شاكر هادئا، يعكس وجهه الارتياح بعد أن أدى واجبه نحو وطنه على أحسن ما يكون . وبرغم أن اللوائح كانت تقف عائقا أمام سفره لعد جدوى العلاج في الخارج، فلقد قررنا سفره ، مقدرين أن ذلك هو أقل ما نملكه إزاء هذا البطل الذي رفع اسم مصر عاليا في وقت من أصعب الأوقات.

وإثر إغلاق المدمرة إيلات، بدأ العدو، بعد ثلاثة أيام، بضرب مستودعات الوقود ومعامل تكرير النفط في السويس، ضربا متواصلا بالقذائف الثقيلة. وسرعان ما نجحنا ، ضمن خطة إعداد الدولة للحرب، في نقل معامل التكرير إلى العمق في مناطق القاهرة والإسكندرية والدلتا والوجه القبلي.

تهجير الأهالي من منطقة القناة:

كذلك سارعت الحكومة إلى إخلاء مليون ونصف مليون مواطن من مدن القناة الثلاث إلى العمق. ورتبت لهم أماكن الإعاشة في سرعة بالغة. وكان لهذا العمل الكبير مغزاه الذي لم يفت على العدو. فقد كان التهجير بهدف تأمين السكان الذين كانت إسرائيل تعتبرهم رهائن تحت رحمة مدفعتها، للضغط على مصر ضد أية عمليات عسكرية تقوم بها قواتنا.

وكان واضحا أن تهجير مثل هذا العدد الضخم - والذي يعادل نصف سكان إسرائيل - بهذه السرعة يعبر عن قدرة إدارية عالية، وعن جدية في إعداد الدولة للحرب، وعن تصميم على خوض حرب تحرير طويلة المدى.

(2) مرحلة المواجهة (مارس - أبريل 69م):

تميزت هذه المرحلة بسرعة استكمال البناء العسكري والتشكيلات المقاتلة الجديدة، تدريبا وتسليحا، والتي كانت تدفع إلى الجبهة أولا بأول. وتصاعد القدرات القتالية المصرية، والانتقال إلى مرحلة المواجهة، وتكثيف عمليات العبور والتعرض للعدو في سيناء ليلا ونهارا، بمشاركة القوات البرية والجوية.
وقام الرئيس عبد الناصر بأول زيارة للجبهة في 10 مارس 1968م. واجتمع بأعداد كبيرة من الضباط والجنود. وكان لزيارته فعل السحر في الروح المعنوية. وكانت التحصينات جارية، في الوقت نفسه، الذي تتم فيه عمليات العبور والاقتحام والاشتباكات بالمدفعية، والتي تمكنت من إنزال إصابات بالغة العدو، مما أثر كثيرا في روحه المعنوية.
وكانت أولى عمليات العبور التي تمت، هي تلك التي وجهت إلى نقطة العدو الحصينة في الدفرسوار، في شهر أكتوبر 1968م، بعد التدريب على موقع له المواصفات نفسها والتحصينات ذاتها، أقيم خصيصا للتدريب عليه في الإسماعيلية.
وتمكنت قواتنا من اقتحام النقطة الحصينة في هدوء الليل وفي مفاجأة كاملة أذهلت قوات العدو. وكانت هذه العملية فاتحة لعمليات تالية كثيرة نفذت بقوات متزايدة في عددها، متنوعة في الأهداف المحددة لها، كما أخذت المدد المحددة لبقاء قواتنا على الجانب الآخر تطول مع كل عملية.

(3) مرحلة التحدي والردع: (أبريل 69م- يوليو 70م):

دخلت قواتنا المسلحة هذه المرحلة الحاسمة بفضل التطوير المستمر والجاد الذي مضى فيه العمل العسكري، حتى أصبحت قواتنا تقوم بعمليات حربية ضد العدو في عمق سيناء برا وجوا وبحرا، بل وصت إلى حدودنا الدولية مع فلسطين، في شمال سيناء عند العريش وإلى إيلات على خليج العقبة جنوبا.
وإزاء هذا التصاعد في عدد وحجم العمليات المصرية، اضطرت إسرائيل إلى زيادة قواتها، والعمل على انتشارها، وإشراك سلاحها الجوي في المعارك باستمرار ، وهو شكل ضغطا كبيرا عليه. وتصاعدت المواجهة إلى الحرب الشاملة. وكثفت عمليات العبور شرق سيناء على مدى الليل والنهار. وبدأت قواتنا تقوم بالهجوم على المواقع الإسرائيلية، وتعود بالأسرى والوثائق. وتأثرت معنويات القوات الإسرائيلية إلى حد كبير، وتحولت عملياتها إلى ردود فعل على عملياتنا.

وكان الرئيس يقول لي:

" إن أولادنا بيعدوا القناة كل يوم طوال الأربع وعشرين ساعة، ويقومون بعمليات فدائية ضد القوات الإسرائيلية في سيناء، ويجدون أقصة التعاون من السكان المدنيين في مدن القناة. وكان الرئيس كثيرا ما يثني على الفريق فوزي، لإنجازاته في إعادة البناء العسكري، وكان يقول لي: (خللي بالك من فوزي ده معاه جميع خططنا).

وإزاء قلق العدو من كثافة عمليات قواتنا ضده، ليلا ونهارا، وفي محاولة لكسر حدة التصاعد فيها، قام بمحاولة لاحتلال الجزيرة الخضراء، جنوب لسان بور توفيق. ولكن القوات المصرية في الجزيرة، نجحت في صد قوات العدو، وتدخلت المدفعية من غرب القناة بكل ثقلها، لتبيد قوات العدو ولتجبر من تبقى منهم، على الانسحاب تاركين معداتهم المدمرة.

وأمام فشل القوات البرية في إيقاف الموجات المتتالية من العمليات العسكرية لقواتنا، بدأت إسرائيل تدخل سلاحها الجوي، ليلا ونهارا، ضد قواتنا في الجبهة. وكانت قواتنا الجوية تتصدى له. وكان الرئيس عبد الناصر يتابع كل عملية تقوم بها قواتنا شرقا في سيناء باهتمام بالغ.

ويبقى عادة في قمة الانفعال حتى تنتهي العملية ويعود الجنود المشتركون فيها، إلى مواقعهم غرب القناة. ولم يعادل فرح الرئيس بنجاح العمليات إلا حزنه على استشهاد أحد الجنود أو الضباط. وأذكر ذات مرة أنني وجدته حزينا في الصباح. وحين استفسرت، حدثني عن شهيد عبر مع قواته في عملية فدائية ليلا، وبعد أن أبلى بلاء ممتازا، وساهم إلى حد كبير في نجاح العملية، استشهد وهو في طريق العودة. وقال عبد الناصر بالحزن كله: " خسارة .. ده كان خلص العملية بنجاح".

كذلك كان عبد الناصر يبقى ساهرا الليل كله إذا أسقط العدو إحدى طائراتنا ويكون الطيار قد نزل بالمظلة في سيناء، ويظل يتابع جهود البحث عنه، ولا يقبل أن تتوقف هذه الجهود، مهما طالت، حتى يعثر عليه.

وإزاء فشل القوات البرية والجوية العدوة في إيقاف تصاعد العمليات العسكرية المصرية، بدأ العدو في توجيه عمليات في أقصى الجنوب، في البحر الأحمر، م الأدبية إلى القصير، وهي مسافة 500 كيلو متر، وكانت غير مشغولة بقوات كثيفة حتى ذلك الوقت، منذ عام 1969م ليجبرنا على نشر قوات فيها وتخفيف العبء والضغط الذي تمارسه قواتنا ضده على جبهة القناة.

في يوم 9/ 9/ 1969م قامت إسرائيل بعملية إنزال، قوامها تسع دبابات برمائية، على شاطئ خليج السويس، في أقصى الجنوب، قرب الزعفرانة ، وهاجمت نقطة حفر السواحل، وقتلت خمسة جنود، ودمرت عددا من السيارات المدنية المارة بالمنطقة، وقتلت بعض المدنيين، مستغلة عدم وجود قوات مسلحة في هذه المنطقة.

وفور أن علم الرئيس بما جرى ، وهو يتابع مشروع فرقة مدرعة حديثة التكوين، أمر رئيس هيئة الأركان بالتوجه رأسا إلى الزعفرانة، لاستطلاع الموقف واتخاذ الإجراءات اللازمة لحسمه من الموقع وعلى الطبيعة.

ولم يستطع الرئيس أن يستمر مع الفرقة المدرعة طوال اليوم، وفضل العودة إلى القاهرة بعد الظهر ليتابع الموقف في الزعفرانة. وحين وصل، فوجئ بأن رئيس هيئة الأركان قد سبقه إلى القاهرة، وراح يتابع الموقف من مكتبه في القيادة العامة.

واستمر الرئيس يتابع الموقف مع وزير الحربية، وكذا من الإذاعات الأجنبية التي كانت قد بدأت تذيع أخبار عملية الإنزال المحدودة، وتصور الأمر وكأنه انتصار ساحق للقوات الإسرائيلية.وكان جمال عبد الناصر متأثرا من موقف رئيس الأركان، في ذلك الوقت، وقد أقاله الرئيس لعدم تنفيذه تعليماته بالتوجه إلى الزعفرانة لوضع حد من هناك للإنزال الإسرائيلي.

وحين كان الرئيس عبد الناصر في دور النقاهة، وإثر إصابته بجلطة في الشريان التاجي، طلبت منه ألا يتابع تنفيذ العمليات الفدائية من ساعة خروج القوات إلى العملية ولحين عودتها، حتى لا تتأثر حالته الصحية، من كثرة الانفعالات وأن يبلغ بنتائجها بعد عودة القوات، فوافق على ذلك. ولكنني فوجئت بعدها بأنه لم يستطع تنفيذ الاتفاق. وحين حاولت أن أتحدث معه فى الأمر لخطورته على حالته الصحية نتيجة الانفعال الشديد، التفت إلى عاتبا وقال كيعني عايزني أعرف أخبار مصر من الجريدة؟

وفي نهاية 1969م، اتخذ الرئيس عبد الناصر قرارا بتصعيد العمليات العسكرية ضد إسرائيل، على جميع الجبهات، بعد أن وصلت القوات المصرية إلى درجة عالية من القدرة والكفاءة، وقامت قواتنا بسلسلة من الأعمال الناجحة، تم خلالها تدمير نقط حصينة للعدو في سيناء وعودة سالمة لقواتنا.

ويتضح مدى الفاعلية التي بلغتها قواتنا المسلحة، خلال هذه الفترة من حرب الاستنزاف، من اضطرار موسي ديان للاعتراف بالخسائر التي تكبدتها إسرائيل، مع الأخذ في الاعتبار حرص قادة إسرائيل دائما على إخفاء خسائرهم خشية على درجة تأثر الروح المعنوية للإسرائيليين.

ومع بداية عام 1970م، عقد الرئيس جمال عبد الناصر سلسلة من الاجتماعات مع كبار قادة القوات المسلحة، في بداية عام حاسم. وتم حصر كا احتياجات مصر، للوصول إلى حرملة بدء الحرب التحرير. وكانت أساسا صواريخ متصلة بالدفاع الجوي والقوات الجوية.

وفي هذه الفترة بدأ العدو في تصعيد جديد لعملياته، مستخدما طائراته الطويلة المدى في ضرب العمق المصري.وكان رد الفعل، أن ازداد الشعب تلاحما مع الجيش، وعلقت صحف العالم مندهشة من موقف شعب مصر الذي يمشي في الشوارع ويمارس حياته العادية خلال غارات العمل الإسرائيلية.

واستمرت العمليات الناجحة للقوات المسلحة في سيناء تتوالى، وتتصاعد العمليات العسكرية على طول جبهة القتال. وهنا تجدر الإشارة إلى عملية معينة، تمت في يوم أول مايو 1970م. وكانت من أنجح العمليات التي تمت خلال حرب الاستنزاف.

فأثناء إلقاء الرئيس عبد الناصر لخطابه في عيد العمال، والذي وجه فيه نداء إلى نيكسون بأن تراعي أمريكا اتخاذ موقف أكثر توازنا من قضية الشرق الأوسط، وهو الخطاب الذي وصفته الدوائر العالمية، بأنه كان فرصة للسلام أتاحها عبد الناصر لنيكسون، كانت قواتنا المسلحة تعبر قناة السويس واحتلت نقطة حصينة للعدو وأبادت كل من فيها من جنوده، واستولت على ما فيها من سلاح ومعدات ووثائق سرية.

وبقيت قواتنا في الموقع يوما كاملا، وأرسلت من هناك كمينا من الجنود المصريين الذين اختبئوا بانتظار وصول النجدة الإسرائيلية، فأبادوها فور ظهورها. وكانت هذه العملية مكملة للرسالة إلى الرئيس نيكسون . فقد أراد عبد الناصر أن يقول : نعم نحن دعاة سلام، ولكنه من موقف مبني على القوة، فهدفنا هو السلام.. ولكنه السلام العادل.

غارات العمق والرحلة السرية إلى موسكو

في أوائل يناير 1970م، قامت إسرائيل بغارات جوية في العمق المصري، وضربت المعادي ومصنع أبز زعبل ومدرسة بحر البقر. وكان الهدف من هذه الغارات أن يحس الشعب المصري بالحرب، ويعمل على إسقاط حكم جمال عبد الناصر.

وبعد الغارة الإسرائيلية على أبو زعبل قرر جمال عبد الناصر التوجه إلى موسكو للاجتماع بالقادة السوفييت، من أجل سرعة الاستجابة لتقوية وسائل الدفاع الجوي، ووقف الغارات الإسرائيلية في العمق. وكان قراره أن تكون الزيارة سرية، لأنه توقع أن تكون نتائجها على جانب ضخم من الأهمية الإستراتيجية العسكرية.

في ذلك اليوم، كنت في زيارة للرئيس في استراحة القناطر الخيرية، حيث كان مريضا بالتهاب رئوي. وما أن دخلت حتى بادرني بقوله بلهجة حاسمة وقاطعة: " أنا عايز أروح روسيا فورا ومش عايزك تقول لا. أنا مقدرش أقعد أتفرج على البلد وهي بتنضرب.. أروح بيتنا أحسن".

قلت له بهدوء:

طبعا لازم تسافر. وبعد قليل، قلت له إنه مريض بالتهاب رئوي وإنه سيسافر بعد انخفاض درجة الحرارة، وكانت حرارته يومها أربعين درجة مئوية. وبعد ثلاثة أيام من العلاج، انخفضت درجة حرارته، وأحس الرئيس بتحسن في حالته العامة. ولكنى أخبرته أنه لا يمكن أن يسافر قبل ثلاثة أيام، ريثما تستقر الحالة ولا يتعرض لنكسة.

وفي مساء ذلك اليوم، وكان الجو باردا، دق جرس الهاتف في منزلي ليطلب مني مكتب الرئيس أن أجهز حقيبتي للسفر، حيث تقرر سفرنا في الخامسة من صباح اليوم التالي 22 يناير 1970م.

كانت الرحلة سرية لم يعلم بها أحد.. وأخبرني مدير الأمن في رئاسة الجمهورية بعدها، أنهم أرادوا أن يعرفوا وجهتنا فلم يجدوا وسيلة إلا أن يفتحوا حقيبتي ويفحصوا ملابسي. فاستنتجوا من نوعية الملابس الثقيلة جدا أننا سنسافر إلى موسكو، ومن قلة ما معي من ملابس أن الرحلة ستكون قصيرة. وقد كان مصيبا في استنتاجاته كله.

وفي صباح اليوم التالي، أخبرت زوجتي أنني مسافر غلى الجبهة مع الرئيس. وتوجهت إلى مطار ألماظة ركبنا الطائرة غلى موسكو. وأثناء الرحلة غيرنا المسار عن الطريق المعتاد، حفاظا على سرية الرحلة ووصلنا إلى موسكو بعد حوالي ست ساعات.

وفي موسكو، توجهنا إلى قصر الضيافة في تلال لينين. وكانت درجة الحرارة تبلغ 16 درجة مئوية تحت الصفر، في ذلك اليوم، والثلج يتساقط بغزارة. ولكننا لم نشعر ببردوة الجو، فقد كانت التدفئة في القصر مناسبة. وفي لمساء حضر بريجنيف لزيارة الرئيس عبد الناصر.

وفي اليوم التالي، بدأت المباحثات الرسمية. وكان الرئيس جمال عبد الناصر حاسما، غير قابل لأنصاف الحلول، وقال إنه لن يتأخر ساعة واحدة عن بدء معركة التحرير تحت أية ظروف. وإذا كان الاتحاد السوفيتي لن يجيبه إلى طلباته كلها الخاصة بالدفاع الجوي، فإنه سيتحمل تبعات ذلك أمام الشعب العربي في مصر وفي كل الدول العربية.

وقدم الرئيس طلباته:

وحدات كاملة من الصواريخ سام/3 بأطقمها السوفيتية، وأسراب كاملة من الطائرة ميج 21 بطياريها، وأجهزة رادار متطورة للإنذار والتتبع بأطقمها. وقال إنه يصر على حضور الأطقم السوفيتية من ضباط وجنود لتشغيل المعدات فورا، ريثما يتدرب المصريون على تشغيلها. وطلب قاذفات المدى قادرة على الوصول إلى عمق إسرائيل.

وإزاء إصرار الرئيس عبد الناصر، وعدم تنازله عن أي مطلب، أوضح بريجنيف أنه لابد أن يرجع لمجلس رئاسة السوفييت الأعلى.

وفي صباح اليوم التالي، بدأ بريجنيف الجلسة بأن أبلغ الرئيس بموافقة اللجنة المركزية ومجلس السوفييت الأعلى على جميع طلباته. وقال: " أرجو أن تقدر يا سيادة الرئيس أن هذه هي أول مرة منذ الحرب العالمية الثانية يخرج فيها جندي سوفييتي غلى دولة صديقة. ولقد وافقنا على ذلك، تقديرا لك وتقديرا لشعب مصر فقط".

ونفذ الاتحاد السوفييتي وعده على الفور، وفي خلال أيام كان كل ما طلبه عبد الناصر قد وصل. وأثناء إقامتنا في موسكو، لم يسح لأحد بالخروج من قصر الضيافة. ولكن بالرغم من ذلك، وبالرغم من كثرة مشاغل جمال عبد الناصر فقد رتب لي جولة في موسكو وكان هذا شعورا رقيقا نحوي.

وكان الانجاز الذي تم خلال هذه الرحلة، أبرع ما قام به الرئيس عبد الناصر منذ بدء عمليات إعادة البناء. فلقد كانت نوعية الدعم بالمعدات التي لن تخرج من حدود دول الكتلة الشرقية، وتواجد الطيارين والأطقم السوفيتية في مصر، ردعا للولايات المتحدة وإسرائيل. واضطرت واشنطن أن تعيد حساباتها، لأن الاتحاد السوفييتي أصبح يشارك فعليا في المواجهة العسكرية.

وحدث بعد ذلك أن كانت ا لطائرات الإسرائيلية في الطريق لعمليات ضد الجبهة المصرية، حين التقط طياروها حديثا بالروسية، بين اثنين من الطيارين في المقاتلات التي خرجت لمواجتهتم، فعادوا إلى قواعدهم على الفور ولم يحاولوا الاشتباك معهم. وبعدها قرر موشي ديان عدم التعرض للعمق المصري.

وهكذا نجح جمال عبد الناصر في وقف الغارات الإسرائيلية في العمق المصري. وكانت الحكومة الأمريكية قد هددت بأن هذه الغارات سوف تستمر وتتزايد بصورة أكبر، لتشمل الأهداف الاقتصادية المصرية.

وكان السفير الروسي في القاهرة، متعاونا معنا إلى أقصى درجة، وبذل جهدا كبيرا لكي نحصل على كل ما طلبناه من القادة السوفييت. ومما ساعد على ذلك، أنه كان عضوا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي.

وحين مرض السفير السوفييتي في نوفمبر 1969م، كان جمال عبد الناصر شديد الاهتمام به . فقد استدعاني لمقابلته ظهرا، رغم أنني كنت في زيارته في صباح اليوم نفسه. وطلب مني زيارة السفير السوفييتي، لأنه مريض وقد قام الأطباء السوفييت بعلاجه، ولكنه لم يتحسن .

وقال:

" أرجو أن تفعل ما في وسعك لأن السفير مهم جدا لنا ونحن في أشد الحاجة إليه في ذلك الوقت".

ذهبت غلى السفير . فوجدته يعاني من مغص مراري شديد، مصحوب باحتباس في الصفرا. وكانت حالته العامة غير مطمئنة. أجريت له كونسلتو، بناء على طلب الرئيس. وبعثت في طلب الدكتور ناصح أمين، لعمل التحليلات اللازمة. وكنت أعوده مرتين في اليوم صباحا ومساء وأمكن السيطرة على الأزمة بعد أسبوع. وكان الرئيس دائم السؤال عن حالته.

وبعد انتهاء الأزمة طلبت فحص المرارة بالأشعة، بمعرفة الدكتور محمد عبد الوهاب أستاذ الشعة بجامعة القاهرة. ووجدنا أن المرارة سليمة وخالية من الحصوات. وكنت آمل أن نجد حصوات لأن البديل كان مزعجا.

وحين سافرنا إلى موسكو، عقب الغارة الإسرائيلية على أبو زعبل،رافقنا السفير. فطلبت منه أن يتخلف هناك، ويدخل المستشفى لإجراء المزيد من البحوث لمعرفة سبب المرض. وأبرته باحتمال التدخل الجراحي. ولكن عند عودتنا إلى لقاهرة، وجدته معنا على الطائرة. وذكر لي أنه سيعود ثانية إلى موسكو. فكررت طلبي بضرورة دخوله المستشفى.

سافرت بعد ذلك إلى باريس، في مهمة علمية لمدة خمسة عشر يوما، وخلال تلك الفترة، عاودت السفير الأزمة. ودخل مستشفى المعادي، فتقرر سفره غلى موسكو. وهناك أجريت له عملية جراحية، اتضح أثناءها وجود مرض خبيث وتوفي بعد أيام من إجراء الجراحة.

تشييد قواعد الصواريخ

بعد نجاح الرحلة السرية إلى موسكو، بدأت أكبر عملية عرفتها مصر لتشييد مواقع الصواريخ. وحين اكتشف الإسرائيليون أن الصواريخ المصرية تقترب من منطقة غرب القناة، ركزوا كل جهودهم لتعطيل تحقيق هذا الهدف. كانوا يقومون بعشرات الغارات يوميا، ويلقون آلاف أطنان المتفجرات على المواقع الجاري بناؤها.

كانوا يغيرون في الصباح على القواعد التي يجري إعدادها ليلا، ثم أصبحوا يغيرون عليها صباح مساء. سقط الشهداء من عمال مصر في الصراع الضاري والمعارك الطاحنة من أجل إقامة مواقع الصواريخ. وكانت قوات الدفاع الجوي في اشتباكات مستمرة مع طيران العدو. وخرجت قواتنا الجوية لتدمير أهداف العدو، من شط القناة شرقا، غلى عمق سيناء.

وكان الرئيس عبد الناصر في اجتماعات مستمرة طوال هذه الفترة، مع قادة القوات المسلحة، وقادة الدفاع الجوي خاصة. ووصلت اجتماعاته إلى مستوى قادة كتائب الدفاع الجوي. ونجحت قواتنا في إسقاط 15 طائرة فانتوم وسكاي هوك للعدو، في أسبوع واحد، أسمته صحف العالم: " أسبوع تسقط الطائرات الإسرائيلية". وكانت ردود الفعل واسعة وعنيفة في أمريكا وإسرائيل، إزاء بدء تآكل سلاح الجو الإسرائيلي.

وفي نهاية يونيو 1970م، قام الرئيس عبد الناصر بزيارة أخرى لموسكو، حصل خلالها على ما طلبه من دعم لنظام الدفاع الجوي بشبكة أجهزة إلكترونية حديثة. وسرعان ما وصلت وتدرب عليها المصريون وبدءوا بالفعل في استخدامها. وبهذا الدعم السوفييتي، أصبحت مصر جاهزة تماما لبدء معركة التحرير.

خطوة واحدة وجوهرية كانت تنقصنا. وهي دفع كتائب الصواريخ إلى حافة القناة في القطاع الأمامي من الجبهة، لتغطي رؤوس قواتنا التي ستعبر وتؤمن لها السماء لمسافة 25-30 كيلو مترا داخل سيناء.

قبول مبادرة روجرز ووقف إطلاق النار

في 20 يونيو 1970م، كانت مصر قد تلقت مبادرة روجرز التي تقدم بها وليم روجرز وزير خارجية أمريكا، في ذلك الوقت. وعكفت الأجهزة الرسمية على دراستها، بتكليف من الرئيس. وكانت المبادرة تنص على وقف إطلاق النار الكامل لمدة ثلاثة أشهر، على أن يمتنع الطرفان عن تغيير الوضع العسكري في داخل المنطقة التي تمتد لمسافة خمسين كيلو مترا شرق وغرب القناة.

كانت الولايات المتحدة ترصد القدرات العسكرية المصرية. وكانت تخشى من استمرار الحرب، بعد الدعم السوفييتي لمصر في 1970م، قد يصل غلى نقطة المواجهة بين القوتين العظميين. فأرادت أن تفتح الطريق للتفاوض غير المباشر، وغير المشروط مسبقا، متنازلة بذلك هي وإسرائيل عن مطلب التفاوض المباشر حول شروط محددة.

ومن وجهة نظر مصر المصممة على خوض معركة التحرير، كانت للمبادرة إيجابية مهمة، وهي دفع حائط الصواريخ إلى حافة القناة ، لتغطي رؤوس قواتنا التي ستعبر. في 23 يوليو 1970م، أعلن الرئيس جمال عبد الناصر قبوله مبادرة روجرز، في خطابه بمناسبة أعياد الثورة. وفي الخطاب ذاته، أعلن عن انتهاء العمل في السد العالي الذي كان بالنسبة له يعني الكثير . وبالنسبة لشعب مصر فهو يجسد الكفاح وقبول التحدي.

وخرجت بعض الصحف العربية تهاجم مصر لقبولها المبادرة، غير واعية لسبب قبولها، وهو عزم جمال عبد الناصر على تحريك الصواريخ. ومضحك أمر هؤلاء الجالسين على مقاعدهم، حين يتوجهون غلى من أداروا حرب الاستنزاف طوال ثلاث سنوات، تهمة التراجع عن التحرير بالحرب. وكان الرئيس عبد الناصر مستاء من موقف الصحف وأجهزة الإعلام المصرية التي لم تواجه هذا الهجوم بذكاء. وقد شكا لي ذلك.

وفي 6 أغسطس 1970م تحدد موعد بدء وقف إطلاق النار في الواحدة من صباح 8 أغسطس 1970م. مع غروب شمس يوم 7 أغسطس، اندفعت فجأة كتائب الصواريخ المصرية إلى شاطئ القناة الغربي مباشرة في سرعة واقتدار. وكانت هذه الكتائب في مواقعها قبل أن تنتصف ليلة 7- 8 أغسطس 1970م قبل ساعة واحدة من موعد وقف إطلاق النار.

ولقد قال لي جمال عبد الناصر، وهو في سعادة بالغة: (لقد قمنا بتحريك الصواريخ واتهمنا إسرائيل بخرق وقف إطلاق النار) ثم سكت لحظة واستطرد قائلا:" ومن إمتى إسرائيل بتحترم الاتفاقيات".

قامت أمريكا بتعويض إسرائيل عن خسائرها من طائرات الفانتوم. ورفضت إسرائيل إرسال مندوبها غلى نيويورك للتفاوض غير المباشر. وفشلت مبادرة روجرز من اللحظة الأولى في الوصول غلى حل دبلوماسي. ولكنها نجحت إلى آخر المدى، من وجهة نظر مصر التي قبلتها لتدفع بصواريخها إلى حافة مياه القناة، تمهيدا لبدء معركة التحرير الكبرى.

وهكذا كانت ملحمة جمال عبد الناصر في بناء جيش مصر الحديث على أعلى مستوى من الكفاءة القتالية، وعلى أتم استعداد لخوض معركة التحرير. وخاب ظن ديان حينما أعلن بعد هزيمة 67م، أنه قد تم تحطيم الجيش المصري ولن تقوم له قائمة قبل عشر سنوات.

وحين كتب العميد منتياهو بيليد، أشهر المؤرخين العسكريين عن حرب الاستنزاف ، بعد رحيل عبد الناصر قال:

" إن فشل الجيش الإسرائيلي من الناحية العسكرية في حرب الاستنزاف يمثل أول معركة يهزم فيها في ساحة القتال منذ قيام إسرائيل. لدرجة أننا في إسرائيل قبضنا على أول قشة ألقيت إلينا، وهي وقف إطلاق النار المؤقت". وليست هناك شهادة لنا، بعد اعتراف العدو بهزيمته على يدنا، بعد مرور السنوات.

الفصل العاشر:عبد الناصر .. الإنسان

لا يكتمل عن عبد الناصر حديث، ما لم يتعرض لجانب أساسي، وهو صورة جمال عبد الناصر بعيدا عن السياسة. وربما لا أتجاوز إن قلت إن ذلك، هو المدخل الصحيح لفهم الكثير من شخصية جمال عبد الناصر.

فمن لم يعرف جمال عبد الناصر عن قرب، لا يرى فيه سوى زعيم قوي، وإرادة حديدية، وقائد يتحدث من وراء مكبر الصوت تلك هي الصورة الشائعة عن جمال عبد الناصر عند من لم يعرفوه، مؤيدين كانوا أم معارضين.

فمؤيدوه يرون فيه القوة والحسم. يعجبون بولائه للجماهير العريضة في وطنه، وإخلاصه في العمل م أجلهم، والتزامه بقضاياهم يضربون المثل بوطنيته، ويشيدون بابتعاده فحياته الشخصية عن الترف وحصانته ضد الزلل.

ومعارضوه يرونه دكتاتورا قويا وحاكما بأمره. ويدفعون إلى آخر المدى بمقولة إن الحاكم مسئول عن جميع الأخطاء التي تقع في عهده، متغاضين عن أن الحاكم بشر. وأن في عالم السياسة دائما واقعا يحكم وظروفا تتحكم، وتوازنات تراعى.

ولست هنا بصدد تقويم عبد الناصر حاكما. ولكن مما لا شط فيه أن المقارنة بين إنجازات عبد الناصر على الخريطة السياسية والاجتماعية في مصر والوطن العربي، وبين أخطاء عهده، ترجح كفة الأولى وتؤكد أن الرجل كان علما من أ‘لام عصره.

فحديثي في هذا المقام، سوف يقتصر على البعد الغائب في الصورة الشائعة لجمال عبد الناصر. وأظن هذه الصورة ناقصة عند مؤيديه، خاطئة عند معارضيه. فهي في الحالين تنقصها الحياة، وتفتقد نبض عبد الناصر الإنسان. وأستطيع القول أنني رأيت عن قرب هذا البعد الأساسي في جمال عبد الناصر، بحكم مهنتي كطبيب لازمته لفترات طويلة.

كان عبد الناصر قويا في إرادته. قاسيا على نفسه ملتزما بمبادئه في تصرفه وفي حياته الشخصية. فقد كان يعمل ليلا ونهارا دون أن يعرف طعما للراحة أو يشعر بمرور الوقت. كانت حجرة نومه مكدسة بالملفات، والأوراق في كل مكان. ولكنها كانت دائما منظمة، منسقة بفعل انضباطه وعسكريته. وبجوار سريره كان الراديو يذيع طوال النهار وحتى الساعات المتأخرة من الليل نشرات الأخبار التي كان يتابعها باهتمام سواء بالإنجليزية أم بالعربي.

وكان عبد الناصر لا يعترف بنظام عطلة نهاية الأسبوع. وإن كل يقول لي أنه معجب بالرئيس تيتو، لأنه مواظب على منح نفسه إجازة من العمل، في نهاية الأسبوع مهما كانت الظروف. وكان يذهب من آن لآخر للاستجمام إلى استراحة القناطر الخيرية التي كانت في الأصل تابعة لتفتيش الري.

وبقيت في عهد عبد الناصر دون أن يدخل عليها تغيير يذكر. ولكنه لم يكن ينقطع عن العمل هناك، وإنما كان يروح عن نفسه لساعة أو بعض الساعات بأن يتمشى في حدائق القناطر بعد الظهر. كما كان يذهب إلى استراحة المعمورة في الإسكندرية، في فصل الصيف. ولكنه أيضا كان يقضي وقته في العمل المستمر. وحتى خلال الرحلات الخارجية، كان لا يغادر إلا لحضور الاجتماعات الرسمية.

وحتى إثر إصابته بالأزمة القلبية الأولى أوصيناه بالراحة وبعدم إجهاد العقل. فقال: " يمكنكم أن تمنعوني عن الحركة، ولكن لا يمكنني أن أوقف عقلي عن التفكير فيما حولي من مشاكل" وحين تماثل للشفاء، اقترحت عليه أن يأخذ إجازة من العمل، وأن يسافر إلى جزيرة بريوني في يوغسلافيا للاستجمام، لكن ظروفه لم تسمح بذلك، فلقد كان يسابق الزمن لبدء معركة التحرير في العام التالي.

وكان ذهن عبد الناصر مشغولا دائما بالمشكلات. وكان يقول لي ضاحكا: " ربنا خلقني للمشاكل" .وأذكر قوله يوم أن عقت على كمية ما يفكر فيه من قضايا ومشكلات في وقت واحد. " أنا برتب المشاكل إلى آجلة وعاجلة. وبالطريقة دي لا أجعل المشاكل الآجلة تقلقني كثيرا أو تلح على ذهني طول الوقت، لتترك لي مجالا لأفكر في المشاكل العاجلة التي تبقى ضاغطة على ت فكيري حتى أتخذ فيها القرار المناسب".

ونتيجة ضغط العمل المستمر، لم يكن لدى عبد الناصر الوقت لهويات يروح بها عن نفسه. ولكنه كان حريصا على سماع السيدة أم كلثوم التي كان يقدرها، ويسألني دائما عن صحتها.

وكان عبد الناصر حريصا على متابعة الصحف اليومية، وإبداء ملاحظات عليها لرؤساء التحرير. وأذكر أنه لاحظ إثر ثورة السودان عام 1969م أن إحدى الصحف اليومية شرت خبرا عن الرئيس نميري في صفحة داخلية، فطلب من رئيس ا لتحرير المزيد من الاهتمام بالسودان، ونشر أخباره في الصفحة الأولى.

ومن أبرز ما لمست في جمال عبد الناصر ، أنه كان رب أسرة مثاليا برغم مشاغله الجمة التي كانت تستغرق معظم وقته. وكان يقول لي أن أسعد أوقاته هي تلك التي يقضيها مع السيدة حرمه وأولاده. وكان يحرص بقدر ما تسمح الظروف على أن يجتمعوا معا على الغداء. وكان عبد الناصر يفضل الطعام الذي تقوم السيدة حرمه بطهيه بنفسها.

وكان جمال عبد الناصر شديد الحب لأولاده، حريصا على مراعاة مشاعرهم. وأذكر أنه كان مريضا في الوقت الذي وضعت فيه كريمته السيدة منى مولودها " جمال" في مستشفى الدكتور على إبراهيم، فاتصل بالمستشفى وطلب تأجيل خروجها لمدة يومين، لحين شفائه حتى يزورها في المستشفى، ويظهر معها في الصورة على غرار ما فعل مع ابنته السيدة هدى، حين وضعت ابنتها "هالة".

وبرغم الحب الشديد لأولاده فإنه لم يكن يقبل عم أي استثناء لهم. فابنته منى اضطرت لدخول الجامعة الأمريكية ، حيث لم يؤهلها مجموع درجاتها في الثانوية العامة لدخول الجامعة المصرية. في حين التحقت ابنته الكبرى هدى بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، بناء على مجموع الدرجات الذي حصلت عليه.

وكان جمال عبد الناصر محافظا، ولم يكن رجعيا. لذلك فهو لم يكن ممانعا كما تردد في ظهور السيدة حرمه في الحفلات الرسمية حين تتواجد قرينات الرؤساء الضيوف. ولكن حدث أن حضرت السيدة حرمه حفل استقبال رسمي للإمبراطور هيلا سيلاسي، وأصيبت أثناء الحفل، بنوبة اضطراب في ضربات القلب وظلت تعاني منها. وهذا ما منعها من الظهور في الحفلات الرسمية بعد ذلك.

وقد روت لي السيدة حرم جمال عبد الناصر أنه حين تقدم لخطبتها، ذهب لزيارة أسرتها بمنزلهم أولا حيث رآها. وبعدها تحدد موعد الخطوبة كما هو متبع عادة، وحين قدم لها دبلة الخطوبة لاحظت أنه لم يكتب عليها تاريخ اليوم الذي تم فيه الاحتفال بالخطوبة، وإنما كتب عليها تاريخ الزيارة الأولى التي راها فيها لأول مرة، لأنه التاريخ الذي قرر فيه الارتباط بها. فكانت لفتة رقيقة منه نحو شريكة حياته.

وكان عبد الناصر بارا بأهله وخصوصا والده. وكان دائم السؤال عنه والاهتمام بصحته رغم كثرة مشاغله. كما كان حريصا على شعور من يعمل معه. وأذكر أنه في صيف 1967م لم يسافر جمال عبد الناصر إلى الإسكندرية كعادته كل سنة، واضطررت أن أبقى معه في القاهرة.. ولكنه ظل يطلب مني أن أسافر إلى الإسكندرية لعلم بأن عائلتي هناك.

ومن الطريف، أنه صمم في إحدى المرات على أن أسافر إلى الإسكندرية " بالأمر" لأرى عائلتي. واتصل جمال عبد الناصر بمكتبه، يسأل عن مكان وجودي، ليطمئن على أنني قد سافرت. ولكن من تلقى رسالة عبد الناصر، في مكتبه فهم أنه يريدني لمقابلته، فاتصل بمنزلي في الإسكندرية طالبا عودتي غلى القاهرة فور وصولي، لأن الرئيس يطلبني. وبالفعل عدت على الفور لأجد أن جمال عبد الناصر لم يكن يريد سوى أن يتأكد من سفري إلى الإسكندرية.

وحدث أن مرض نجله عبد الحميد بالصفراء، وكان قد حضر من الإسكندرية للعلاج. واتصلوا بي في العيادة، بمجرد وصوله إلى القاهرة، طالبين مني الحضور فورا. وحين علم عبد الناصر اتصل بي بنفسه في العيادة وطلب مني عدم الحضور إلا بعد أن أنتهي من الكشف على صحة مرضاي المنتظرين في عيادتي.

كما حدث أن مرض الرئيس السادات عام 1969م، وطلب مني أن أزوره للكشف على صحته، في السادسة من بعد ظهر احد الأيام. وفي صباح ذلك اليوم كنت عند جمال عبد الناصر الذي علم مني أنني سأقصد أنور السادات بعد الزهر. فاتصل به الرئيس ، وطلب منه أن يغير الموعد، لأنني في السادسة أكون في العيادة.

وخلال مرافقتي للرئيس في رحلاته الخارجية، كان ى يفوته وسط مشاغله أن يرتب لي زيارات لمعالم البل الذي نزوره. وحين مرض الدكتور أحمد ثروت، الطبيب المرافق للرئيس وتولى الدكتور الصاوي مهام عمله، كان يطلب من الدكتور ثروت الحضور معنا يوميا ، حرصا على شعوره رغم أنه كان لا ينفذ إرشاداته.


كان جمال عبد الناصر غنيا بالمشاعر والعواطف. ولم تكن مشاغله لتنسيه السؤال عن أي مريض يعرفه. وحين أخبرته بمرض الدكتور السنهوري رئيس مجلس الدولة السابق- وبرغم الاختلاف السياسي في أوائل الثورة- كان دائم السؤال عنه.

كما مان عبد الناصر شديد التأثر من المواقف اللاإنسانية وقد أصيب بالأزمة القلبية الأولى، عقب المذبحة التي نفذها الإسرائيليون ضد خمسة من جنود خفر السواحل المتقدمة أعمارهم والمسلحين بمجرد البنادق.

كان جمال عبد الناصر يولي اهتماما شديدا لاحتياجات الشعب وقضاياه. فقد كان دائم السؤال عن مدى توافر العلاج للقاعدة العريضة من الشعب. وكان يطالب الوزراء والمسئولين دائما بتخفيض أسعار الدواء. وبالفعل انخفضت أسعار المضادات الحيوية. وظل سعر الدواء عموما في مصر، متمشيا مع مستوى الدخل الفردي للغالبية الكبرى من الناس.

وذات مرة، أخذنا منه عينة دم وأرسلناها غلى ألمانيا مع الدكتور فيفر لإجراء تحليل معين هناك. ولما علم عبد الناصر بعدم إمكان إجراء هذا التحليل لمرض السكري في مصر، قرر بناء معهد لعلاج المواطنين من مرض السكري، وإجراء التحاليل والأبحاث الحديثة الخاصة بهذا المرض. ومن المؤسف أنه بعد رحيل عبد الناصر توقف إنشاء هذا المبنى ولم يتم اكتمال بنائه إلا عام 1987م.

وفي أعقاب إصابة جمال عبد الناصر بالجلطة الأولى، جهزنا خلال فترة الراحة التي خضع لها جمال عبد الناصر، غرفة عناية مركزة في حجرة بالدور العلوي بمنزله، لمواجهة أي طارئ وحين علم عبد الناصر بذلك طلب أن نجهز غرفة مماثلة للمواطنين في القصر العيني وفي الإسكندرية.

وبالفعل كان لدينا اعتماد يسمح بذلك في القصر العيني، أما بالنسبة للإسكندرية فقد واجهتهم مشاكل التمويل. فأرسل الرئيس إلى الدكتور محمود صلاح الدين صكا من حساب التبرعات برئاسة الجمهورية بالمبلغ اللازم لعمل غرفة عناية مركزة في مستشفى الإسكندرية الجامعي.

وكان جمال عبد الناصر بسيطا يميل إلى المزاح، ولكنه لم يكن متساهلا. فقد كان يمكن أن يغضب سريعا في بعض الأحيان، وأن تصل تصرفاته إلى حد العنف إزاء محظورات لم يكن على استعداد أبدا لأنصاف الحلول بشأنها أو التساهل إزاءها. مثل خيانة المبدأ، أو خيانة الأمانة، أو استغلال المركز أو تعدي الحدود.

وكمثال هذه الحالة الأخيرة- تعدي الحدود- فقد حدث أثناء سفرنا بالطائرة إلى الرباط لحضور مؤتمر القمة العربي، أن كان من المفروض أن يجلس مع الرئيس في الجزء الأمامي من الطائرة كل من السيد محمود رياض وزير الخارجية والفريق أول محمد فوزي وزير الحربية والسيد محمد حسنين هيكل وأنا.

ولكن الرئيس لاحظ بعد فترة من الطيران أن أحد كبار موظفي رئاسة الجمهورية من أعضاء الوفد إلى المؤتمر، قد دخل إلى الجزء الأمامي مخالفا التعليمات ودون أن يشعر به الرئيس، فما كان من عبد الناصر إلا أن أمر برجوعه إلى لقاهرة، فور وصولنا الرباط.

وكان جمال عبد الناصر لا يقبل التحدي. فقراره بتأميم شركة قناة السويس، عقب سحب المصرف الدولي عرضه بتمويل السد العالي، خطوة سياسية محسوبة وغير مسبوقة في العالم الثالث، ولكنها شاهد على صلابته إزاء التحدي.

وذات مرة، كنا في استراحة القناطر الخيرية، خلال تصاعد حرب الاستنزاف، وقام الإسرائيليون بغارات مركزة على مدن القناة، ردا على عمليات العبور لقواتنا المسلحة في سيناء، فقال الرئيس إنه لابد أن نواجه التصعيد بالتصعيد، وعلى قواتنا الجوية أن تتعامل مع المواقع الإسرائيلية في سيناء.. ورد السيد علي صبري – وهو ضابط طيار أصلا- بأن لا داعي لذلك في هذه المرحلة.

ولم يعلق عبد الناصر وبعد يومين طالعتنا أصحف بأنباء إغارات قواتنا لجوية على أهداف العدو في سيناء. لم يقبل عبد الناصر معارضة علي صبري، فقد كان يرى ضرورة القيام بهذه الغارة، تصعيدا للموقف مع العدو.

وكان جمال عبد الناصر يضيق صدرا بالمناقشات غير الموضوعية والتي كثيرا ما تقع في الاجتماعات التي يحضرها. وكان يقول لي: " فيه ناس تحب تتكلم لمجرد الكلام". وكان بطبيعته لا يؤمن بأهمية اللجان، وكان يقول : " أي موضوع عايز تركنه حوله على لجنة" .

وكان عبد الناصر يعلم أن الكثيرين يخشون معارضته في الرأي، في حين أنه كان يسعى للرأي الموضوعي، ويهتم بسماع النقد المنزه عن الهوى. وذات مرة سألته: " هل ستعين فلانا رئيسا للجامعة؟". فأجابني : " مش هاعينه.. أنا عايز واحد يعرف يقول لا" . وكم أثيرت قضية أهل الثقة في مواجهة أهل الخبرة ذوي الآراء الصائبة ولكن غير المسموعة نتيجة مواقفهم غير المتعاونة مع الثورة ولم يكن عبد الناصر مسئولا عن ذلك وحده.

وكان جمال عبد الناصر يؤمن بالقومية العربية، وبضرورة أن يكون للعرب سياسة متحررة، وموقف مؤثر حتى يمكنهم التحرر وامتلاك ثرواتهم، في مواجهة الأطماع المنظمة ضدهم. وكان عبد الناصر مؤمنا بحتمية الوحدة العربية.

وبالرغم من تأثره نفسيا وصحيا من وقوع الانفصال عام 1961م فلقد استفاد من تجربة الوحدة المصرية- السورية التي استعجلها السوريون خشية وصول الضباط السيوعيين غلى الحكم فيها. وأصبح مفهوم الوحدة لديه يقوم على مضامين سياسية واقتصادية، وصار الطريق إليها يقوم على أساس التدرج.

كان جمال عبد الناصر مؤمنا بالله وبقدره. وكان يتحامل على نفسه في أداء رسالته، باذلا من الجهد ما يفوق طاقة البشر، رغم علمه بخطورة مرضه، وكان يقول: تلك إرادة الله وهذا قدري. وشاء قدره أن يتم عبد الناصر البناء حتى النهاية، لتحقيق أمله الكبير في إزالة آثار العدوان وتحرير الأرض. ثم يرحل قبل أن يرى نتائج غرسه.

الفصل الحادي عشر :وقائع الزيارة الأخيرة

بعد ظهر يوم 28 سبتمبر 1970م اتصل بي السيد فؤاد عبد الحي، من الأمانة الخاصة للرئيس جمال عبد الناصر وقال لي إن الدكتور الصاوي موجود عند الرئيس، ويطلب حضورك فورا لأن الرئيس متعب. توجهت في الحال إلى منزل الرئيس ووصلت في الرابعة وخمسين دقيقة. وبعدي بدقائق وصل الدكتور زكي الرملي الذي كان الدكتور الصاوي قد استدعاه أيضا.

أبلغني الدكتور الصاوي في كلمات سريعة موجزة، أنا الرئيس قد أحس بالتعب أثناء توديعه لأمير الكويت في المطار، وأنه قام بفحصه وأجرى له رسما كهربائيا للقلب. فتبين وجود جلطة جديدة في الشريان التاجي، مصحوبة باضطراب في ضربات القلب وأنه بدأ العلاج فورا. دخلت حجرة الرئيس، فوجدته راقدا في سريره مرتديا البيجامة. كان يبدو عليه الإرهاق الشديد، وكان متعبا من ضربات القلب.

ولكنه كان رابط الجأش لا تبدو عليه أية أعراض للقلق. بادرني مبتسما: " إواي عرفوا يجيبوك دلوقت؟". ثم استطرد مشيرا إلى الأسبوع الذي قضاه في مؤتمر القمة في الهيلتون: " الحقيقة إنهم تعبوني جدا في الأيام اللي فاتت". قمنا بفحصه على الفور، واستمر العلاج المركز.

كنا فريق الأطباء نخرج وندخل كثيرا بين غرفة نومه وبين حجرة مكتبه الملاصقة، حيث كنا نحتفظ بجميع الأجهزة والاستعدادات لعلاج جلطة الشريان التاجي، إثر إصابته بالنوبة الأولى قبل عام. كانت وجوهنا جادة، تعكس التفكير والتركيز. بينما ظل جمال عبد الناصر على هدوئه، مسيطرا على أعصابه.

ولكني أذكر أنه قال لي، وأنا منهمك في علاجه: " أنا مش حارقد المرة دي.. أنا عندي مواعيد وشغل كثير الفترة اللي جاية" .. قالها وجهاز رسم القلب لم يزل متصلا بذارعيه وبساقيه.

وفي تمام الساعة الخامسة، مد جمال عبد الناصر يده إلى جهاز المذياع بجانب سريره، واستمع غلى موجز نشرة ألأخبار من إذاعة القاهرة. وقال : " ما فيش حاجة" ثم طلب قفل المذياع واستطرد: " نيكسون كان عامل لي مظاهرة في نابولي وكنت عايز أعرف إيه الأخبار".

وكان نيكسون قد حضر بنفسه إلى نابولي، لحضور مناورة تقوم بها أقوى قطع الأسطول السادس. وذلك من باب التهديد لجمال عبد الناصر. وانتظمت ضربات القلب.

وقال جمال عبد الناصر: " الحمد لله.. أنا دلوقت استريحت".

.. وكانت تلك هي آخر كلماته. فما هي إلا لحظات حتى توقف القلب فجأة.ولم يستجب قلب جمال عبد الناصر لمحاولاتنا اليائسة، بالتدليك وبالصدمات الكهربائية، ليعود إلى نبضه. وأدركت أن الأمر قد قضى.. وأن جمال عبد الناصر أصبح في رحاب الله.

وكان جمال عبد الناصر قد أمضى قبل ذلك فترة مشحونة بالتوتر والانفعالات أثناء انعقاد مؤتمر القمة العربي في فندق الهيلتون، لوقف إطلاق بين الأردن والمقاومة الفلسطينية.وخرجنا من حجرته. ليدخل إليه أبناؤه، في وداع أخير.

نزلنا إلى ردهة الاستقبال التي كان جمال عبد الناصر يستقبل فيها زواره. وسألني أنور السادات: هل أوصى الرئيس بشيء؟ .. فأجبته: لا. ثم مال على حسين الشافعي ، وقال له ما العمل بالنسبة لكيان الدولة؟ وأعقب ذلك، باقتراح أن ينعقد مجلس قيادة الثورة. ولكن الرأي انتهى إلى الأخذ باقتراح هيكل، أن ينعقد اجتماع مشترك للجنة التنفيذية العليا ومجلس الوزراء.

وانعقد الاجتماع في المساء وحضر معظم الوزراء من الجبهة مباشرة ، حيث كانوا في زيارة هناك حسب تعليمات جمال عبد الناصر . وكان الجميع واجمين من هول الصدمة. وكان الجو حزينا كئيبا. أعلنت التقرير الطبي وسبب وفاة الرئيس، ثم انصرفت.

كانت الإذاعتان قد بدأتا، منذ الرحيل، تذيعان آيات متصلة من القرآن الكريم. فأحس الناس بأن شيئا خطرا قد وقع ولكن لم يتصور أحد أن جمال عبد الناصر الذي ملأ حضوره العالم كله ، قد رحل عن وطنه وعن الدنيا كلها.

وفي السابعة والنصف، ظهر أنور السادات يعلن النبأ الجلل. وما أن انتهى من أول جملة في بيانه، حتى عم البكاء كل شوارع مصر فقد نزل الخبر على شعبها نزول الصاعقة.

زحفت الجماهير إلى بيت عبد الناصر، في منشية البكري. وحين سرى بينها خبر نقل جثمان الرئيس إلى قصر القبة، تحولت الجماهير إلى هناك. وانتشرت حول القصر من كل جانب وسدت الشوارع المؤدية إليه. وباتت جماهير شعب مصر ليلتها، حول القصر تحيط بجمال عبد الناصر.

وفي كل المدن ، من المحيط إلى الخليج، كان تصرف الشعب العربي عنيفا إزاء النبأ . خرجت الجماهير في كل مكان إلى الشارع، موجوعة برحيل بطلها. وفي بيروت ظلت طلقات الرصاص تدوي طوال الليل، تعبيرا عن الحزن ورمزا للحداد.

وأعلن عن تشييع جنازة جمال عبد الناصر يوم الأول من أكتوبر 1970م لإتاحة الفرصة، لرؤساء الدول الراغبين في المشاركة فيها بالحضور. وعلى مدى ثلاثة أيام عاشتها مصر والحزن والصمت يخيمان عليها، توافد إليه رؤساء الدول العربية والدول الصديقة في أوروبا وآسيا والاتحاد السوفييتي ووفود تمثل حكومات معظم دول العالم.

وفي أول أكتوبر 1970م كانت مصر حديث العالم كله، ومحط أنظاره بينما إذاعاته وشبكات المرئية فيه تنقل على الهواء صورة حية لشوارع القاهرة. كان مشهدا غير مسبوق لتعبير شعب عن الحب والوفاء لزعيمه ولخروج أمة في وداع قائدها.

فما أن طلعت شمس ذلك اليوم، حتى كانت القاهرة كبحر من البشر. زادت على ملايينها ملايين أخرى من المواطنين، جاؤوا إليها بالقطارات والسيارات وبكل أنواع المواصلات. بدأ الآلاف منهم مسيرتهم إلى العاصمة، من ليلة أول أكتوبر سيرا على الأقدام ليكونوا فيها في الصباح.

كان شعب مصر ملء شوارعها، ليعبر عن حبه لزعيمه في لفتة أخيرة. وظهرت في سماء القاهرة، طائرة عمودية تقل جثمان الزعيم من قصر القبة إلى الجزيرة، لتخرج جنازته من المبنى الذي كان مقرا لمجلس قيادة الثورة.

كانت الجماهير مصطفة، على طول الطريق من مبنى مجلس قيادة الثورة في الجزيرة إلى جامع عبد الناصر في مر الجديدة وكان النظام يبدو دقيقا. وخرجت عربة مدفع، من مبنى مجلس قيادة الثورة، تحمل النعش ملفوفا بعلم الجمهورية العربية المتحدة. ومن خلفها مباشرة سار أبناؤه يليهم رؤساء الدول المشاركة في الوداع المهيب.

وسارت الجنازة وسط نحيب الجماهير إلى كوبري قصر النيل. وما أن تعدت الكوبري، واتجهت إلى شارع النيل، أمام فندق هيلتون، حتى هجمت الجماهير تربت بأيديها على النعش، لتلمسه للمرة الأخيرة. كانت الجنازة تكاد لا تسير من فرط الازدحام وتدافع الجماهير نحو عربة المدفع.

وبعد ساعات وصلت الجنازة إلى منطقة غمرة. وبدا واضحا أن النعش الذي تم تغيير العلم الذي يلفه عدة مرات خلال هذه الفترة. لن يصل قبل الليل فتم نقله غلى عربة مدرعة. ولكن الجماهير ظلت من حول الرئيس تحيط بالعربة المدرعة حتى وصل إلى جامع عبد الناصر بعد الظهر. وشيع جمال عبد الناصر إلى مثواه الأخير، في وداع لم يسبق له مثيل في تاريخ مصر الحديث.