رؤية الإمام البنا لنهضة الأمة ( 11 )
بقلم / أ. عبدالمنعم الشريف
مرجعية مشروع النهضة

لقد اتسع الإسلام في القديم والحديث لطوائف كثيرة من الناس ، وتباين الفقهاء في اجتهاداتهم، فأصابوا ، وأخطأوا ...واختلفوا ، وبالرغم من ذلك ضل الإسلام مستوعبا لأكثر هذه الاجتهادات، واعتبرها في إطاره ، واصطفت تحت لوائه .
لكن ما لا نستطيع تجاهله ، وتجاوزه ، أن بعض قضايا الخلاف سببت للأمة عللاً فكرية ، ومفاهيم قاصرة ساهمت إلى حد بعيد في نثر بذور الفتنة والشقاق ، وكبح الأمة عن انطلاقها الحضاري المنشود .
لم يتجاهل الأستاذ البنا هذه الحقيقة ، وأدرك بفطنته أن صيانة مشروع النهضة تتطلب العناية بمرجعيته ، فعمل على وضع أصول عامة تشكل أرضية مشتركة تصلح بأن تكون جامعة لأكثر طوائف الأمة ، ومنطلَقا لنبذ خلاف التضاد ،و مدعاة لخلاف التنوع .
لقد تقدم الأستاذ البنا بهذا المشروع إلى الأزهر الشريف ، وتناول فيه أهم القضايا العالقة بين طوائف الأمة ، وأشار إلى الأصل هو الاتفاق على المرجعية الثابتة وهي كتاب الله وسنة نبيه الصحيحة الثابتة ، فإن هذه هي الأصول التي تمثل المصدر في استنباط الأحكام ، والآراء ، و المباديء ، ثم الانطلاق بعد ذلك من أرضية مشتركة واحدة .
وقد حاول الأستاذ البنا توضيح هذه النقطة فقال :
'أحب أن أحدد المقياس الذي نقيس به هذا التوضيح ، وسأجتهد في أن يكون القول سهلا ميسورا ، لا يتعذر فهمه على قاريء يحب أن يستفيد ، وأظن أن أحدا من الأمة الإسلامية جميعا لا يخالفني في أن يكون المقياس ( كتاب الله ) نستقي من فيضه ونستمد من بحره ونرجع إلى حكمه ' ( إلى أي شيء ندعو الناس ) .
أصول الفهم
لقد دعا الأستاذ البنا من خلال ما أطلق عليه ' الأصول العشرين ' إلى عقد عام تكون ركيزته هذه الأصول ، والتي حددها بوضوح ، وتمنى بأن تكون أرضية مشتركة لانطلاق المشروع الإسلامي نحو النهضة . يقول الأستاذ في كتابه نظرات في القرآن الكريم :
' فكرت طويلا أيها الإخوان في هذا الخلاف الذي يمكن أن نقول عنه خلافا علميا بين الجماعات الإسلامية في مصر أولاً وفي بلدان العالم الإسلامي ثانياً ، وتلمست طويلا العمل على جمع القلوب حول هدف أسمى تلتقي عنده الأرواح المؤمنة ، وتتجه إليه القلوب العاملة ، وتقوم على أساسه النهضة المُنتَظرة ...وقد أردت أن أضع أمام أنظار المفكرين من رجال الإسلام هذه الصيغ التي أعتقد أنها تقرب إلى أقصى حد بين وجهات النظر المختلفة ..مع موافقتها للحق إن شاء الله ..رجاء أن يطيلوا فيها النظر ..حتى إذا رأوها صالحة لجمع الكلمة ، اتخذنا منها أساسا ..
و هذه الأصول أو الصيغ كما عبر الإمام البنا جاءت في سياق واضح ، وتتابع منطقي محدد ، وتقوم بوضع أساس نهضوي لتعاون الساحة الإسلامية .
وبهذا الخصوص يقول :
1. إنها تقرب بين المتباعدين .
2. إنها موافقة للحق من الناحية العملية .
لقد اجتهد الإمام عليه رحمة الله أن تصبح الأصول التي سنحاول التطرق إليها لاحقا دستورا للوحدة الثقافية بين المسلمين ، كما ألزم بها الإخوان فقد أصبحت أول ركن من أركان البيعة أو العهد بينه وبينهم ، على أن يعوا هذه المسائل جيدا ، وأن يدعوا الأمة إلى تبنيها .
وسنحاول فيما يلي تقسيم هذه الأصول إلى مجموعات لتسهيل التعامل معها كالتالي :
المجموعة الأولى : أصول في فهم العقيدة .
المجموعة الثانية : أصول في فهم أصول الفقه .
المجموعة الثالثة : أصول في فهم الفقه .
المجموعة الرابعة : أصول عامة .
المنهج الإعتقادي
1. أصل في فهم شمول الإسلام
الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة ، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة ، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء ، وهو مادة أو كسب وغنى ، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة ، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء ' ( الأصل الأول / رسالة التعاليم ) .
هذا لأن كثير من الدعوات تنادي بحصر الإسلام في زاوية التعبد ، وأركان المساجد ، ويقصرون مجاله على البخور و الزوايا ، ومنهم من يؤكد مرارا وتكرارا بأن الإسلام لا دخل له في شؤون الحياة الأخرى كالاقتصاد والسياسة ، والاجتماع ، ومنهم من يرى أن الإسلام مثله مثل المسيحية حيث لا يحتوي إلا على مجموعة إرشادات خلقية تسعى لتهذيب النفس ، وحمل الناس على كف الأذى ، والتزام الحياد ، والبعد عن مقارعة الباطل ، ومنهم من حصر الإسلام في قضايا الاعتقاد ، ومعرفة الله عز وجل دون الاهتمام بالجوانب الأخرى من الحياة ،.
لذلك كله كان هذا الأصل ، ولأجل الإشارة إلى أن الإسلام يحوي الإجابة على كل سؤال يتعلق بالإنسان ، فقد قال الله عز وجل ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) .. ووصفه أيضا بأنه( تبياناً لكل شيء ) .
2. أصل في فهم آيات الصفات
معرفة الله تبارك وتعالى وتوحيده وتنزيهه أسمى عقائد الإسلام ، وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة و ما يليق بذلك من التشابه نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل ، ولا نتعرض لما جاء فيها من خلاف بين العلماء ، ويسعنا ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ..( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا )... ( آل عمران الآية 7 ) ' ( الأصل العاشر / رسالة التعاليم ) .
3. أصل في محظورات التكفير
ولا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض - برأي أو بمعصية - إلا إن أقر بكلمة الكفر, أو أنكر معلوماً من الدين بالضرورة, أو كذب صريح القرآن, أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال, أو عمل عملاً لا يحتمل تأويلا غير الكفر' ( الأصل العشرون / رسالة التعاليم ) .
4. أصل في التوسل والدعاء
والدعاء إذا قُرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء ، وليس من مسائل العقيدة ' ( الأصل الخامس عشر م رسالة التعاليم ) .
5. أصل في الظنون وادعاء معرفة الغيب
والتمائم والرقى والودع والرمل والمعرفة والكهانة وادعاء معرفة الغيب وكل ما كان من هذا الباب منكر يجب محاربته ( إلا ما كان آية من قرآن أو رقية مأثورة ) ' ( الأصل الرابع / رسالة التعاليم ) .
6. أصل في البدعة التي لا أصل لها
' وكل بدعة في دين الله لا أصل لها – استحسنها الناس بأهوائهم ، سواء بالزيادة فيه أو النقص منه – ضلالة تجب محاربتها ، والقضاء عليها بأفضل الوسائل التي لا تؤدي إلى ما هو شر منها ' ( الأصل الحادي عشر /رسالة التعاليم ) .
7. أصل في البدع والقبور والمقبورين
وزيارة القبور- أيا كانت- سنة مشروعة بالكيفية المأثورة ، ولكن الاستعانة بالمقبورين أيا كانوا ، ونداءهم لذلك ، وطلب قضاء الحاجات منهم عن قرب أو بعد ، والنذر لهم وتشييد القبور وسترها وإضاءتها ، والتمسح بها ، والحلف بغير الله ، وما يلحق بذلك من المبتدعات ، كبائر تجب محاربتها ولا نتأول لهذه الأعمال سداً للذريعة ' .( الأصل الرابع عشر/ رسالة التعاليم ) .
8. أصل في الولاية والكرامة وصحة الاعتقاد في ذلك
' ومحبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عرف من طيب أعمالهم قربة إلى الله تبارك وتعالى. والأولياء هم المذكورون في قوله تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ).. ( يونس الآية 63 ) ....والكرامة ثابتة لهم بشرائطها الشرعية، مع اعتقاد أنهم رضوان الله عليهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً في حياتهم ، أو بعد مماتهم ، فضلا عن أن يهبوا شيئاً من ذلك لغيرهم '.( الأصل الثالث عشر/ رسالة التعاليم ) .
هذه هي الأصول التي يفهم بها الإخوان مسائل الاعتقاد ، والتي سبّب الاختلاف في فهمها كثير من التناحر بين المسلمين ، وأنا أدعو كل من أراد النقاش حول هذه الأصول ، أو الأصول الآتية ، أدعوه أن يجول في حدائق العلم الغناء ، ويقلب أقوال العلماء الأجلّاء ، قبل أن يتسرع ، فتزل به قدمه ، أو يكبو به حصانه ، وسوف يجد بإذن الواحد الأحد أن الإمام البنا رحمه الله قد وُفق في صياغة هذه الأصول .
بهذا نكون قد وصلنا إلى نهاية هذا الجزء من ( مرجعية مشروع النهضة ) ، وسوف نتناول في الجزء القادم المجموعة الثانية وهي : أصول في فهم أصول الفقه..... .. وذلك إن أطال الله في أعمارنا . .
للإطلاع على باقي الأجزاء:
- رؤية الإمام البنا لنهضة الأمة (1)
- رؤية الإمام البنا لنهضة الأمة (2)
- رؤية الإمام البنا لنهضة الأمة (3)
- رؤية الإمام البنا لنهضة الأمة (4)
- رؤية الإمام البنا لنهضة الأمة (5)