رؤية الإخوان لإصلاح الأزهر في عهد الملكية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
رؤية الإخوان لإصلاح الأزهر في عهد الملكية

مركز الدراسات التاريخية

ويكيبيديا الإخوان المسلمين


مقدمة

اهتم الإخوان بتدعيم مؤسسات الأزهر ودفعه باتجاه أداء دوره التاريخي في قيادة الأمة، فيرى الإخوان المسلمون أن الأزهر هو قلب العالم الإسلامي فإذا صلح صلح جسده كله وأضاء بنور علمه مشارق الأرض ومغاربها، ولهذا كان الإخوان بمؤسساتهم وأفرادهم لا يتوانون لحظة عن تقديم النصح للمسئولين عن الأزهر.

فكان الإمام البنا كثيرًا ما يرسل برؤيته الإصلاحية في مختلف الشئون للإمام الأكبر، خاصة شئون الأزهر وما يتعلق بدوره الريادي والقائد في حماية الإسلام، ومن ذلك ما كتبه الإمام البنا في "مجلة النذير" تحت عنوان: "إلى صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأكبر" جاء فيه: حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر حفظه الله..

أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وأرفع إليكم تحية الإخوان المسلمين طيبة مباركة، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يا صاحب الفضيلة أعلنتم في خطاباتكم الجامعة الإصلاحية وفي أحاديثكم على صفحات الجرائد أن القرآن يقرر نفي الإيمان عمن لم يرض بأحكام الله رضًا يزيل الحرج عن صدره ويملأ قلبه استسلامًا وطمأنينة.

وأن الدين مهما امتدت آفاقه وتأول فيه المتأولون فهو لا يحتمل هذه البوائق ولا هذا الإلحاد، ولا هذه الإباحية الجامحة، ولا هذه الشهوات التي لا تقف عند حد.

وأن المسلم الذي لا يعترف بأن الدين حق كله وخير كله ويقول: إن بعض قواعده ضارة بالمجتمع، أو ضارة بالمدنية أو السياسة مسلم مرتد عن دين الله لا يقبل الله منه صلاة ولا صومًا.

وأن إضعاف سلطان الدين على النفوس والتفريق بين قواعده وانتزاع سلطانه على الحياة الاجتماعية يضعف نفس المسلم ويبعده عن دينه.

وأن أولئك الذين يحاولون إبعاد الدين عن الحياة الاجتماعية ويحاولون إخفاء شعائره ومظاهره هم في الواقع أعداء الإسلام.

أعلنتم ذلك وغيره من أحكام الله وتعاليم دينه على منبر الأزهر الشريف وعلى موجات الإذاعة اللاسلكية، فسر المسلمون في أنحاء الأرض، وسعد الإخوان المسلمون حين سمعوا دعوة الإسلام تظهر على لسان شيخ علماء المسلمين، وحمد الجميع لكم هذا الصنيع أن جاهرتم بالحق، ودعوتم إلى الخير، وأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر، ورفعتم رءوس العلماء، وقمتم بوظيفة الدعاة والمرشدين، ولكن هل ذلك وحده يكفي؟

يا صاحب الفضيلة، لعلكم أعرف الناس بالاتجاهات الخطيرة التي تندفع إليها الأمة المصرية في عقائدها وأخلاقها ودينها وكل مظاهر حياتها، ولعلكم أشد الناس ألمًا لإقصاء الإسلام عن كل مظاهر الحياة العملية في:

الاجتماع، والسياسة، والتشريع والتقنين، والعادات والأخلاق، ودور العلم، بل والشوارع والمنازل والبيوت والأسر، وليس ينجينا من التبعة ويخلصنا من عذاب الله يوم القيامة أن نقول وكفى، بل إن وراءنا بعد ذلك عملاً جديًّا لابد من أن نقوم به مهما كلفنا ذلك من جهود وتضحيات، ولعلكم يا سيدي أقدر الناس على بذل هذا المجهود رغم القيود الرسمية التي تحيط بمنصبكم، ولعل هذا أنسب الأوقات لهذا الإصلاح، ولعلها فرصة إن ذهبت من أيدي المصلحين من أئمة المسلمين أعقبتهم ندمًا طويلاً، ولم يستطيعوا لها ردًّا ولا تعويضًا.

يا صاحب الفضيلة.. جاهروا بالحق فإن الله ناصركم، وصارحوا الجميع بتعاليم الإسلام وأحكام الإسلام فإن الله معكم، وإن الإخوان المسلمين ليقفون أرواحهم ودماءهم وجهودهم على كل عمل يسير بالأمة إلى الحياة الإصلاحية الإسلامية الصحيحة.

اطلبوا باسم الله ورسوله إلى الوزراء والحكام أن يكونوا في حياتهم الخاصة والعامة وفي بيوتهم ودواوينهم وتصرفاتهم صورًا كاملة للرجل المسلم الفاضل، حاربوا المنكرات والموبقات وما أكثرها!! واطلبوا إلى الأمة البعد عنها في بيانات زاجرة وإلى الحكومة القضاء عليها بالقوانين الرادعة.

طالبوا بأن يسود التشريع الإسلامي وأن تهيمن تعاليم الإسلام على كل عمل في الدولة، فهذا هو حكم الله الذي لا يماري فيه مسلم، وذلك قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ "المائدة: 49-50".

هذا إجمال له تفصيل، وفضيلتكم أعلم الناس بكل ما نريد، وقد رفع الإخوان إلى سدة جلالة الملك وإلى رفعة رئيس الحكومة مذكرات ببعض ما يرون من وجوه الإصلاح، وإن الأمة كلها لتؤيدكم في كل مطلب إسلامي، فتقدموا باسم الله وعلى هدي رسوله صلى الله عليه وسلم والله معكم ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ "الحج: 40"، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (1)

لم يمتنع الإخوان من معالجة أي خلل أو المطالبة بإصلاح أي فساد يرونه داخل الأزهر وهيئاته بالحسنى، ولذلك لم تتغاض "مجلة النذير" عن الإشارة إلى أنه جاءها بيان مطول من جمعية الدفاع عن الأزهر تطالب به مشيخة الأزهر بأداء واجبها الأول، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتطالب العلماء والطلبة والهيئات الإسلامية بتحديد موقفهم من المشيخة إزاء سكوتها هذا، بينما المنكرات فاشية، وأشارت المجلة إلى أنها ترحب بهذا الصوت الجريء في الحق، وتريد من المشيخة عملاً وجهادًا وقيادة حركة الإصلاح الإسلامي فهذه رسالتها الأولى، فإلى الأمام يا شيوخ الإسلام. (2)

وحينما ظهرت في فترة قبل الحرب العالمية الثانية في سوق الأدب المصري مجموعة من خمسة كتب قدمها ناشروها إلى الجمهور تحت عنوان "عيون الأدب الغربي"، ترجمها كبار المثقفين المتغربين في مصر، وطبعت في أفخر المطابع، وهذه الكتب هي: "جان دارك" لبرنارد شو، و"الطلسم" للكاتب الإنجليزي ولتر سكوت وهو قصة خرافية تطعن صراحة في الإسلام ورسوله وتدور أحداثها في فترة الحروب الصليبية، وكتاب "سمفونية الريف" لكاتب فرنسي، و"تس" لكاتب إنجليزي وموضوعهما تمجيد في المسيحية، والتأكيد على أنها الأحق والأفضل، وكتاب خامس للكاتب الإنجليزي ولز. (3)

بعض إقتراحات الإمام حسن البنا

صورة المذكرة التي رفعها المرشد العام للإخوان المسلمين الأستاذ حسن البنا إلى فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر لإصلاح الأزهر

بسم الله الرحمن الرحيم... الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

"وبعد" فأشرف بأن أرفع إلى فضيلتكم مقترحات بشأن الإصلاح الأزهرى الذى عقدت عليكم الآمال فى إنفاذه بطريقة تحفظ للأزهر صبغته وتعيد للإسلام مجده، وعلم الله أنه ما حدا بى إلى ذلك إلا اعتقادى أن من واجب كل مسلم أن يتقدم بالنصح فى هذا الأمر الخطير الذى يؤثر أبلغ الأثر فى مستقبل الشرق والإسلام، والله أسأل أن يسدد فى الإصلاح خطاكم، وأن يؤيد الإسلام بجهودكم، وأن ينهض مصر ومن ورائها العالم الإسلامى على أيديكم وهو ولى التوفيق.

مقترحات إدارية

(أ) تعمل مشيخة الأزهر على ضم مراقبة التعليم الأولى بكل اختصاصاتها إلى الناحية الأزهرية، على أن يتبع ذلك إلغاء مدارس المعلمين الأولية والاستعاضة عنها بقسم إعدادى بعد شهادة (الكفاءة، أو البكالوريا الأزهرية) لتخريج المدرسين بالمدارس الأولية.
(ب) ضم شعبة البلاغة والأدب الحالية للتخصص الأزهرى إلى دار العلوم، والمطالبة بضم قسم اللغة العربية بكلية الآداب بالجامعة المصرية إليهما، ثم يضم الجميع إلى ناحية الأزهر حتى يتوحد المعهد الذى يتخرج فيه أساتذة الدين واللغة العربية بالمدارس المصرية.
(ج) المطالبة بتقرير تدريس الدين فى كل مراحل التعليم، وبأن يكون مادة أساسية فى كل المدارس المصرية.
(د) العمل الدائب على إعادة التشريع الإسلامى وجعله القضاء السائد فى الأمة، وتبعًا لذلك يضم قسم التخصص الأزهرى الحالى فى كلية الشريعة إلى كلية الحقوق بالجامعة المصرية، ثم يضمان معًا إلى الأزهر.

مقترحات فنية

(أ) العناية باختيار مواد الدروس الدينية وجعلها أساسًا فى المناهج الأزهرية، مع جعل حفظ القرآن الكريم مادة أساسية يمتحن فيها الطلبة امتحانًا صحيحًا فى كل مرحلة من مراحل التعليم الأزهرى بحيث يتوقف نيل الطالب الشهادة على إجادة الحفظ.
(ب) تحرير المناهج الأزهرية من تقليد غيرها من المناهج، والاقتصار فى العلوم الرياضية والحديثة مما لابد منه للأزهرى، مع الإلمام بها جميعًا على طريقة التوزيع بين الأقسام والفرق.
(ج) العناية باختيار المدرسين وترك الحرية للطلاب فى الأقسام العالية وفى التخصص فى الحضور على من يريدون من الشيوخ.
(د) ملاحظة أن يكون مدرسو الرياضة والعلوم الحديثة ممن يميلون بفطرتهم إلى البيئة الأزهرية، مع إنشاء قسم إعدادى يلتحقون به مدة معينة يلمون فيها بما لابد منه من المعلومات الدينية التى تتصل بدروسهم، والتى تحفظ كرامة المدرس وعقيدة الطالب.
(ه) العناية باختيار الكتب المدرسية.
(و) الاقتصار فى اللغات الأجنبية فى الأزهر على ما لابد منه، وذلك بأن تكون فى مناهج الكلية المخصصة بنشر الدعوة فى البلاد الأجنبية بقسميها العالى والتخصص فقط لا فى كل الكليات ولا فى الأقسام الأولية والثانوية، وجعلها بقدر الإمكان فى أماكن غير أماكن الدراسة الأزهرية، ويجب أن يقوم بتدريسها على أية حال مدرسون مسلمون.
(ز) مراعاة القصد فى البعوث الأزهرية إلا أن يكون ذلك بين الشعوب الإسلامية التى يريد أهلها أن يتعلموا الإسلام عن طريق الأزهر.
(ح) العناية بالتربية والإصلاح الخلقى الذى يقوى فى الأزهرى خلق الرجولة الكاملة، وذلك بأن تكون دراسة الدين فى الأزهر علمية وعملية.
(ط) الزى الأزهرى يجب أن يبقى كما هو، أو يتقرب أكثر من ذلك إلى الشكل العربى، أما إدخال الأزياء الإفرنجية بالأزهر فجريرة لا يعلم مدى سوء أثرها إلا الله.

ذلك بعض ما أردنا أن نتقدم به من مقترحات فنية وإدارية، وفيما يلى كلمة تفسيرية نلم فيها بالغاية من ذلك والله ولى التوفيق.

مذكرة تفسيرية لهذه المقترحات

مهمة الأزهر ومنزلته:

الأزهر أقدم جامعة فى العالم الإسلامى بل فى العالم كله، وقد أكسبته الحوادث صبغة جعلت منزلته فى القلوب سامية، وأثره فى توجيه الفكر الشرقى بالغًا، ينفر الطلاب إليه من كل فرقة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.
وهو لهذا أصبح مظهرًا من مظاهر الإسلام وشعيرة من شعائر الله، لها من الأثر والقداسة ما يجعل رفعتها وصلاحها رفعة للإسلام وصلاحًا له، كما أن تدهورها واندحارها تدهورًا له كذلك، فنحن حين نغار على الأزهر ونعمل فى سبيله نعتقد أننا نعمل للإسلام فى شخص الأزهر، وقد أدرك خصوم الإسلام هذه الحقيقة فجعلوا فى برامجهم النيل من الأزهر والكيد له بقدر ما جعلوا فيها من النيل من القرآن الكريم ومكة المشرفة وتعاليم الإسلام وشرائعه والكيد لها؛ إذ إنها جميعًا شعائر الله ومقدسات المسلمين الغالية.
ومهما قال الناس عن المهمة التى وكل إلى الأزهر أداؤها والقيام بها فى مختلف الأعصار والحوادث، فقد انتهت هذه المهمة فى العرف وفى الحقيقة الواقعة إلى أمرين لا نزاع فى أنهما مهمة الأزهر (أولهما): تعليم المسلمين أحكام الإسلام ونشرها بينهم. (وثانيهما): تعميم الدعوة الإسلامية بين غير المسلمين.

لهذا يجب أن يكون الإصلاح فى الأزهر قائمًا على أساس الوصول إلى أداء هذه المهمة حق الأداء، وإنما يكون ذلك بتقوية الطلبة إلى أقصى حد فى علوم الدين الغايات منها والوسائل، وتجهيزهم بكل المعدات اللازمة للمعلم الداعية، مع إيجاد الميادين اللازمة لأداء هذه الوظيفة.

التنافس بين الأزهر وبين بقية المعاهد

ولقد أتى على الشرق حين من الدهر كان الأزهر هو المعهد الوحيد لتخريج رجال العلم الدينيين والمدنيين، ليس فى مصر وحدها بل فى الشرق كله، ثم اقتضت الحوادث أن تنشأ مدرسة الحقوق حين عدلت مصر عن التحاكم إلى الشريعة الإسلامية وهى بضاعة الأزهر إلى القوانين الوضعية..

وحينئذ وجد معهد ينافس الأزهر ويقوم ببعض مهمته، وجاءت دار العلوم على أنها جزء من الأزهر يتخصص طلبته بتدريس اللغة العربية فى المدارس، وبعد حين صارت مدرسة برأسها لها صبغتها وحقوقها وامتيازاتها، وتبعتها مدرسة القضاء الشرعى على هذا الغرار، فصار الأزهر بين معاهد ثلاثة تجاذبه مهمته الأولى وتضيق من اختصاصه.

ونشأت بعد ذلك مدارس ومعاهد تختلف مهمتها وتبعيتها باختلاف الغايات التى أنشئت من أجلها، ومنها المكاتب الأولية التى يستمد الأزهر منها طلبته وتكاد تكون هى المعين الأول لتغذيته بما يحتاج إليه من الطلاب.

وكل هذه المعاهد صغيرها وكبيرها، لم تحدد صلتها بالأزهر حتى هذا النوع الوحيد الذى هو أمس أنواع التعليم به، ونعنى به التعليم الأولى، فإنها جميعًا تابعة فى كل شئونها لوزارة المعارف.

وانتهى الأمر بإنشاء الجامعة المصرية التى أخذت تجاذب الأزهر حبل قيادة الفكر والسيطرة على شئون التعليم والثقافة، وكل ذلك جعل الميادين الخالية للأزهر محصورة فى الإمامة والخطابة والتدريس فى الأزهر خاصة والمأذونية والقضاء الشرعى (ولا ننسى تلك الدعوة الجريئة التى ينادى بها قوم من مرضى القلوب بين الفينة والفينة يريدون بها تعديل نظم القضاء الشرعى، بحيث يندمج فى القضاء الأهلى، وحينئذ يقفل باب القضاء جملة فى وجه الأزهر والأزهريين، وتنقطع صلة الأمة بالبقية الباقية من تشريعها السماوى).

بهذا التصوير نرى أنفسنا أمام أنواع كثيرة مختلفة متضاربة من أنواع التعليم فى مصر، فهناك:

  1. التعليم الأزهرى بفروعه وكلياته، وتمده أقسامه من: ثانوية وابتدائية، وتنتهى إلى غير أساس يتبعها وتهيمن عليه من المدارس الأولية.
  2. والتعليم الأولى الذى تنقطع الطريق بسالكه بعد فترة قصيرة ولا يتاح له أن يتم تعليمه وإن ساعدته الظروف على ذلك؛ إذ ينتهى هذا الطريق إلى غير نهاية يحسن الوقوف عندها.
  3. التعليم الجامعى الذى يستمد من المدارس الثانوية والابتدائية ومن دار العلوم ومن الأزهر أحيانًا كما فى كلية الآداب فى الجامعة.
  4. التعليم العالى ويلحق به معهد التربية ويستمد كذلك من المدارس الابتدائية والثانوية.
  5. التعليم الخصوصى والفنى ويستمد من المدارس الثانوية والابتدائية على اختلاف فى تقدير المؤهلات بحسب مطالب كل مدرسة.
  6. دار العلوم التى ينتهى قسمها التجهيزى فى هذا العام فتظل واقفة فى مفترق الطرق.

وسواء صح ما يشاع من ضم المدارس العالية إلى الجامعة وضم دار العلوم إليها أو إلى الأزهر أو لم يصح، فإن الذى نقصد إليه فى كلمتنا هذه هو توطيد طريق التعليم الأزهرى توطيدًا يصل حلقات سلسلته بعضها ببعض اتصالاً وثيقًا، أما النظر فيما عدا ذلك وإن كان يمت إليه بأقوى صلة فلسنا نعرض له هنا وإن اضطرنا البحث إلى الإلمام ببعضه.

كيف يكون الارتباط بين حلقات السلسلة الأزهرية

أولاً: يجب أن يضم التعليم الأولى بكل فروعه إلى ناحية الأزهر، وتجهز مناهجه بكيفية تجعلها وثيقة الرابطة بالمناهج الأزهرية، فتضم المكاتب الإلزامية إن بقيت والأولية إن عادت إلى ناحية الأزهر، وتلغى مدارس المعلمين الأولية وتحضيريتها ويستعاض عنها بحملة شهادة الدراسة الثانوية القسم الأول أو الثانى بالأزهر، بعد أن تكون هناك فترة يعدون فيها للقيام بمهمة التدريس بالمدارس الأولية، ويمنحون بعدها إجازة تخولهم هذا الحق وتقوم مقام كفاءة التعليم الأولى الحالى؛

وبذلك تتحول كل اختصاصات مراقبة التعليم الأولى إلى الناحية الأزهرية، ونكون قد استكملنا بذلك النقص الحالى فى كل منهما، فجعلنا للتعليم الأزهرى أساسًا متينًا من هذه المدارس الأولية، وجعلنا للتعليم الأولى نهاية طيبة لمن شاء أن يتم دروسه من التعليم الأزهرى.

ثانيًا: تعتبر كل كلية فى الأزهر إعدادًا للمرحلة التى تليها من مراحل الأزهر، فكلية اللغة العربية تجهز للتخصص الذى يقوم بدراسة اللغة العربية فى كل المعاهد المصرية بعد أن تضم دار العلوم إلى هذه الشعبة، وتقتصر كلية الآداب بالجامعة المصرية على الأقسام الحالية بها غير قسم اللغة العربية حتى لا يكون هناك تضارب بين نظام الجامعتين الأزهرية والمصرية، وتكون كلية الشريعة إعدادية لشعبة التخصص الذى يوكل إليه أمر القضاء، وعلى الأزهر أن يسعى سعيًا حثيثًا فى إقناع السلطات المختصة بوجوب العودة إلى التشريع الإسلامى؛

وحينئذ تضم إليه كلية الحقوق وتمتزج بكلية الشريعة، وتحديد مهمة كل جامعة من الجامعتين تحديدًا دقيقًا، وتكون كلية أصول الدين إعدادية لقسم التخصص، وهو القسم الخاص بالإمامة والخطابة والوعظ والإرشاد فى البلاد الإسلامية وبالدعوة الإسلامية خارج البلاد.

وتتميمًا لهذا الوضع يجب أن ينادى الأزهر بتعميم تدريس الدين فى المدارس المصرية، وجعله مادة أساسية فى كل مراحل التعليم يقوم بتدريسها مدرسو اللغة العربية.

وقد يبدو هذا الوضع بعيدًا أمام الذين يتناسون الحقائق ويغفلون صالح الأمة، أما الذين يضعون نصب أعينهم أن دين الدولة الرسمى هو الإسلام كما ينص عليه دستور الأمة، وأن الواقع يؤيد هذا النص، فمصر بلد مسلم، بل هو زعيم الشرق الإسلامى كله، والمصريون أمة تعتز بدينها وتحافظ عليه، وأن الأزهر هو محط آمال المسلمين فى الإصلاح الإسلامى، الذى يعتقد هذا يرى هذا الوضع هو ما يجب أن يعمل له كل مسلم غيور.

ذلك إلى ما فيه من توحيد الثقافات وتقريبها، وتحديد الاختصاصات والقضاء على التضارب الذى أوجده الاضطراب فى سياسة التعليم، والذى من أمثلته أن الوزارة تكل التعليم الأولى إلى المتخرجين فى مدارس المعلمين الأولية، وتجيز مزاولته للذين نالوا شهادة الدراسة الثانوية الأزهرية، وهنا يقع التضارب والتفاضل؛

وكذلك تدريس اللغة العربية فى المدارس المصرية مهمة يتنازعها رجال دار العلوم وهم أساتذتها الأصليون، ورجال كلية اللغة العربية بالأزهر لما لهم من قدم فى دراسة العربية، ورجال كلية الآداب لما يدلون به(4) من نظام جامعى، وكل ما تراه من جدل بين هذه الطوائف فمحوره التنازع حول هذه الغاية، وإذن فالخير كل الخير فى وضع حد لذلك، وتحديد الاختصاص على النحو الذى أسلفناه.

إصلاح المناهج فى الأزهر

ننتقل بعد ذلك إلى ناحية إصلاح المناهج فى الأزهر الشريف، وذلك إنما يكون بحسن اختيار المواد الدراسية، وبحسن اختيار المدرسين وإعدادهم، وحسن اختيار الكتب الدراسية.

فأما من الناحية الأولى فقد أجمع المربون على أن أول أساس يجب أن ينظر إليه فى اختيار المواد الدراسية الغاية التى يجهز لها الطالب.

والغاية التى يجهز لها الطالب فى الأزهر لا مشاحة فى أنها تعليم الناس الدين ونشر دعوة الإسلام بينهم، وعلى هذا يجب أن يلاحظ فى مواد الدراسة الأزهرية هذه الملاحظات:

(أ) العناية بالدروس الدينية عناية تجعل الطالب الأزهرى ضليعًا فيها، ملمًا بأصولها، جيد الملكة فى تذوقها، وبذلك نحرص على كرامة الأزهر وصبغته الإسلامية التى يجب أن تظل خالدة فيه.

(ب) تحرير مناهج الأزهر من تقليد المدارس المدنية الذى خضعت له فى العهد الأخير، والذى نجم عنه شحن المناهج بالعلوم المدنية على طريقة تحول بين الطالب وبين هضم إحدى الناحيتين، بل يجب أن يكون تدريس هذه العلوم فى الأزهر بقدر وكيفية تجعلها لا تطغى على الصبغة الأزهرية، ولا تعوق الطلبة عن التضلع فى الناحية الدينية، مع الإلمام بأكبر قدر ممكن منها، ليس الأزهر مدرسة للهندسة ولا للزراعة ولا للتجارة ولا للطب ولا للرياضيات، ولكنه مدرسة التعليم الدينى قبل كل شىء ولا نمانع فى أن يدرس الأزهريون كل المواد، وأن يأخذوا من المعارف العامة بالنصيب الأوفى الذى يؤهلهم لفهم بيئتهم، ودراسة العصر الذى يعيشون فيه دراسة تمكنهم من حسن الاتصال بالناس وإفادتهم، وتقرب بين ثقافتهم والثقافات الأخرى، ولكن الذى نمانع فيه أن تحول هذه الدراسة دون المقصد الأول وتصبغ الأزهر بصبغة غير صبغته ولون غير لونه.

وإنما نصل إلى الجمع بين تدريس العلوم الرياضية فى الأزهر وعدم طغيانها على صبغته الصحيحة بأن تكون هذه العلوم فى المناهج على سبيل التوزيع، ففى الأقسام الأولى مثلاً تدرس مبادئ الرياضة من حساب وهندسة ورسم وما إليه، وفى الثانوى يزاد عليها ما يمت إليها بصلة كالطبيعة والكيمياء والجبر؛

ويضاف إلى ذلك مبادئ التربية وعلم النفس، وكل ذلك بقدر شامل موجز، وفى الإعدادى لإجازة التعليم الأولى يتوسع فى دراسة المواد التى تتصل بصناعة التعليم كالتربية علمًا وعملاً، والمنطق وعلم النفس، وتدبير الصحة وهكذا، وفى كل كلية يتوسع فى دراسة ما يمت إلى مهمة هذه الكلية بصلة، وبذلك نجمع بين التعميم والاختصاص.

وإذا كنا لمسنا ناحية حاجة الأزهرى وهو طالب الإسلام إلى هذه العلوم، فأحر بنا أن نلمس حاجة غيره من طلبة المعاهد الأخرى المدنية إلى تعلم الإسلام، فمما لا شك فيه أن حاجة الأزهرى إلى هذه العلوم المدنية أقل من حاجة طالب الطب وطالب الهندسة وطالب الزراعة وطالب التجارة وطالب الرياضة إلى الدين، ولهذا كان من أوضح العدل أن يلح الأزهر فى وجوب تعميم دراسة الدين فى كل هذه المعاهد.

(جـ) الاقتصار فى اللغات الأجنبية على الضرورى: إن إدخال اللغات الأجنبية فى مناهج الأزهر ضرورة اقتضتها مهمة الأزهرى فى تعميم دعوة الإسلام، فنحن لا ننكر على المناهج الأزهرية اشتمالها على هذه اللغات، ولكن الذى نريد أن نحرص عليه الاقتصار فى دراستها على القدر الضرورى الذى دعت إليه الحاجة، بحيث لا تكون هذه اللغات فى أقسام الأزهر كلها، إذ لا ضرورة تدعو إلى ذلك؛

ولكن تكون فى القسم الذى يخصص للدعوة وهو كلية أصول الدين، وبذلك نحفظ للأزهر صبغته الإسلامية الشرقية، أما إذا عممت فى أقسام الأزهر فستزاحم قطعًا المواد الأساسية التى هى مهمة الأزهر الأولى، وتصبغه بصبغة ليست منه فى شىء، وتكون وسيلة إلى أن يتسرب إلى الأزهر مدرسون أجانب عن بيئته حقيقة أو مجازًا، فيكون لذلك فى نفوس أبنائه أسوأ الآثار.

وحبذا لو كانت دروس اللغات فى ناحية غير الناحية الأزهرية، بأن ينشأ قسم خاص يلتحق به من توكل إليه مهمة الدعوة، ويتفرغ فيه لدراسة اللغة التى سيقوم بالدعوة بين أبنائها، أو بأن يكون ذلك فى فصول ليلية، وكل ذلك حرصًا على الصبغة التى لزمت الأزهر منذ أكثر من ألف سنة.

وأما عن الناحية الثانية وهى إعداد المدرسين وحسن اختيارهم فأمامنا لذلك عدة وسائل، فأما من حيث المدرسين الحاليين فإن إصلاح شأنهم يكون فى ترك الحرية للطلاب فى الكليات وأقسام التخصص فى الحضور على الشيخ الذى يريدون حضور درسه، وإذن فسيكون هناك تنافس بين الشيوخ فى الإجادة والإفادة ويكون البقاء للأصلح، وأما من حيث المدرسين فى المستقبل فإن إصلاح المناهج كفيل بإصلاح شأنهم بعد الوقت المناسب.

وأما مدرسو المدنية: الرياضة والعلوم، فمن واجب إدارة الأزهر الاهتمام بشأنهم فقد لوحظ أن كثيرًا منهم لا يتصل بالبيئة الأزهرية إلا بصلة الارتزاق فقط، وهو مع ذلك متبرم بها، ولذلك أثره بالغ فى التقصير فى أداء مهمته، كما لوحظ أن كثيرًا منهم يجهل البسائط فى الدين، ويجيب على ما يوجه إليه من أسئلة فى الموضوعات الدينية التى قد يكون لها مساس ببعض موضوعات فنية إجابة مضحكة أو مشككة، مما يجعل منزلته فى نفس الطالب الذى يتلقى عنه ضئيلة هزيلة.

ولإصلاحهم يجب أن تعنى الإدارة باختيارهم ممن يميلون بفطرتهم إلى بيئة الأزهر، ثم ينشأ قسم إعدادى يلتحقون به فترة قبل مزاولتهم التدريس يلمون فيه بما لابد منه للمدرس من المسائل الدينية، على أن يكون هذا نظامًا مؤقتًا حتى تثوب المدارس المدنية إلى الرشد وتعنى بشأن الدين.

أما الناحية الثالثة وهى العناية باختيار الكتب، فقد ألم بها باحثون كثير على أثر ما لوحظ من عناية الكتب المتداولة بالألفاظ والجدل أكثر من عنايتها بالعلم والملكات، وإنما يكون إصلاح هذا النقص بالعودة إلى بعض كتب المتقدمين الدسمة المليئة بالعلم فى سهولة ودقة بحث، وبأن تؤلف لجان فنية مهمتها الانتقاء والاختيار وإمداد الأقسام الأزهرية بالمصنفات التى تنتج دراستها غزارة العلم وقوة الملكة.

ملاحظات عامة

‌(أ) البعوث الأزهرية التى يقصد منها تثقيف أبناء الأزهر يجب أن تضيق دائرتها وتقتصر فيها على قدر الحاجة، على حين يجب الاهتمام كل الاهتمام بتوسيع دائرة المبعوثين إلى الشعوب الإسلامية لتعليم أبنائها الإسلام.
(ب) هناك بوادر خلقية ونفسية تنتاب الأزهريين فى هذا العصر يجب أن يبادر بعلاجها علاجًا سريعًا حاسمًا، من أمثلتها: انتشار فكرة التحرر من قيود البحث الصحيح إلى ما تمليه الأهواء ويمت إلى الزراية على السلف تحت عنوان حرية الفكر أو الانتصار للاجتهاد أو غير ذلك من المزاعم؛
ومنها: التهالك فى حب الدنيا والخنوع للمادة والاستهانة بكرامة العلم، ومنها: التهاون فى أداء الفرائض وعدم الاحتفاظ بالمظاهر الإسلامية أخذًا بالرخص الفقهية وجريًا وراء التيار، وإنما كان منشأ ذلك فى الأزهر أن نظمه الجديدة جعلت منه مدرسة علمية فقط الغرض منها تدريس المواد ومعرفة العلوم بعد أن كان دارًا للتربية والعلم معًا؛
ففقدان روح التربية الصحيحة بالأزهر جر إلى نفوس أبنائه كثيرًا من الضعف، وعلاج ذلك إنما يكون بالقدوة الحسنة، وبأن يؤخذ الطلبة بأداء الفرائض والاستمساك بحبل الدين عمليًا، وبأن يستعان على ذلك بدراسة كتب التربية الإسلامية التى تمت إلى التصوف الصحيح بصلة كإحياء الغزالى دراسة عملية لا علمية فقط.
(‌ج) الزى الأزهرى يجب أن يبقى عربيًا، وإن كان ولابد من تعديله فإلى ما يقربه من ناحية العروبة أقرب مما هو الآن، فكلما تعمق الزى الأزهرى فى عروبته كلما زادت مهابة أبنائه وصلحت بذلك نفوسهم، أما أن يصرح للأزهريين بارتداء الملابس الإفرنجية أو خلع العمائم فتلك جناية كبرى على الشرق وعلى الإسلام وعلى الأزهر تعقب أسوأ الآثار.
‌(د) مما يشرف الأزهر ويرفع من شأنه فى العالم الإسلامى أن يعنى بشأن ضيوفه من الطلبة غير المصريين عناية تسهل عليهم الاستفادة منه من جهة، وتجعل الأزهر يجنى من وجودهم بمصر أطيب الثمرات من حيث الارتباط المنشود بين مصر وبقية الأقطار.
بقيت بعد ذلك مسألة تبعية الأزهر، وكل ما نرجو أن يلاحظه أولو الأمر فيها وجوب استقلال الأزهر استقلالاً تامًا عن مهاب الزوابع والأعاصير، وإبعاده كل الإبعاد عن التورط فى الشئون السياسية والحزبية التى ليست من مهمته.
ولعلى بذلك أكون قد أديت أمانتى وقدمت نصيحتى، والدين النصيحة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (5)

ولقد تفاعل الإخوان مع الدول الإسلامية فى العالم وتبنوا قضيتهم فى التحرر من المستعمر الأجنبي, وطالبوا الأزهر بإيفاد البعثات للدول الإسلامية لنشر الإسلام ولقد استجاب الأزهر لهذه النداءات وأرسل عدة بعثات لبعض الدول مثل البعثة التي اتجهت إلى نيجيريا وكانت مكونة من ثلاثة شيوخ لتعليم الديانة الإسلامية لأبناء البلاد كما تقررا إرسال بعثة أخرى لدول شرق أفريقيا لدراسة الحالة الاجتماعية الثقافية للمسلمين هناك.

ولقد أخذت جريدة الإخوان تحث الأزهر على إيفاد هذه البعثات ولا تحصر دور الأزهر فى تدريس الدين داخل جدرانه فحسب لكن يجب تعريف الناس بالدين الإسلامي وتبليغ الأمانة. (6)

ولقد كتب الأخ زكريا إبراهيم الزوكة الذي قدم رؤيته لإصلاح الأزهر في باب "في الميزان" أجملها في ثلاثة محاور:

المحور الأول: واجب الأزهر

فواجب الأزهر أن يكون بمثابة القوة الدائمة المتأهبة، والتي يحتمي بها المسلمون في الحفاظ على حدوده، أو الدفع بهذه الحدود في جهاتها الأربع، ومعنى هذا أن كل رجل من رجاله لابد أن تجري في عروقه روح التضحية، وتتراءى في أعماله مظاهر العزم المصمم، والكفاح الدائم في سبيل عزة الإسلام ورفع رايته والتمكين لكلمته، فلا يكون فيهم من تثقل روحه فلا يرتفع عن الأرض، ولا يكون فيهم من يجبن فلا ينطق بكلمة الحق، ولا يكون فيهم من يتهافت على الدنيا تهافت اليائس من الغد..
كما لا يكون فيهم الإمعة الذي قصاراه أن يخرج من الدنيا كفافًا لا عليه ولا له، إنما يكون فيهم الداعي إلى الله، الحافظ لحدوده، الصادع بأمره، هذا الذي يستفتح كل يوم من أيامه بهذا النشيد السماوي ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾ "الأنبياء: 105-106"، إن العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يخلقوا لأنفسهم ولكن خلقوا للناس ليصححوا لهم أوضاعهم.
فإن لم يتقدم العلماء لحمل الراية، ورفع المشعل، وهداية الركب الحائر، فقد يطول ضلال الناس كثيرًا، وسيرتدون إلى قوم آخرين يحبهم الله ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، والله أعلم حيث يجعل رسالته. (7)

المحور الثاني: وسائل الأزهر لأداء واجبه

ولكي نحقق ذلك لابد من عدة أمور يشد بعضها بعضًا حتى تتكون القوة العارمة التي تشق الطريق وتفضي إلى الغاية وهي:
(أ) إعداد الطالب
فلابد أن يقف الطلبة على أبواب الكليات وقفة طويلة ليغربلوا غربلة ملؤها الصدق، فلا يدخل إلا من كان معدنه يصلح ليكون سهمًا من سهام الله، وما عدا ذلك فيوجه لما خلق له، ثم يربى المصطفون تربية حازمة تدفع بهم في صدر الحياة أثبت إيمانًا وأمضى سلاحًا وأقدر ما يكون على النفع والانتفاع؛
لقد أصبح أمر الكليات عجبًا بعد أن استبيحت لكل عاجز يدخلها ما دام جواز المرور حفظ صفحات من الكتب يرددها ترديد الحاكي لما ملئ به، وهذه حال لا يخرج منها الذكي إلا أحد رجلين: إما يائس قد أطفئ سراجه وخمدت ناره ليرتد إلى نوع من الرضا العاجز والزهد المكذوب، أو ثائر حاقد أعماه الغبن وبرحه البخس واندفع يضرب ذات اليمين وذات الشمال ويهاجم الحق بالباطل.
(ب) اختيار الكتاب
ونريد بالكتاب ما يشمل النوع والكيف، وفي رأينا أن الدراسة في القسمين الابتدائي والثانوي تحتاج إلى تعديل ميسور، فيعفى الطالب أول التحاقه من حفظ جميع القرآن على أن يدخل بنصفه ثم يتمه مع إتمام دراسته الابتدائية، وتستبدل حصص القرآن بحصص الفقه كاملاً في القسم الثانوي.
أما التعليم المتوسط فتكفيه لغة أجنبية تدرس بعناية وإخلاص، فلقد منيت اللغات في الكليات بفشل يبكي له القلب، ثم يجيء التعليم العالي وأكثر آفاته الكتب وما تعقدت به والتوت عليه، فمن الخير أن تصفى تصفية تنقي خبثها، وتسهل وعرها، وتسلك بها إلى الأذهان أقرب الطرق، أليس من الغريب أن يقذف بالطالب في متاهات الحواشي والشروح ليرهق وقته وعقله في مناقشة آراء دالت دولتها، وذهبت ريحها؟
وماذا يفيد الطالب من دراسة الفلسفة الإلهية وما يتصل بها ويعين عليها؟ وما انحدر المسلمون في هذه الوهدة إلا حين فلسفوا الدين، ونقلوا الإيمان من القلب إلى العقل، وكثيرًا ما نسمع أن هذه الدراسة الصلبة المتوعرة تذكي الذهن وتخلق ملكة البحث، وهو محض خيال لا يتحقق إلا إذا ثبت أن أشعة أنواع الرياضة هو الذي ينمي الجسم ويخلقه خلقًا سويًّا.
(ج) ترشيح الأستاذ
أما مشكلة الأساتذة فلا يكفي لنطمئن إلى العالم الذي يدريس في الكليات أنه أمضى كذا سنة في التدريس بالمعاهد، أو أنه كان في الصف الأول من صفوف التخرج.. إلخ، فما أتفه كل هذا، إنما الأستاذ في الكليات مقرر علم ومربي نفس فيجب أولاً أن يضع كتابًا في المادة التي يقوم بتدريسها ليدلل على نفاذ فكره أو سعة اطلاعه؛

ثم يتصل بتلاميذه اتصال الشيخ بمريديه يتعهدهم ويراقب سلوكهم ويأخذهم برياضة نفسية معتدلة تدور على هذه الآية ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ "التوبة: 24"، حتى يخرجوا للناس فيخاطبوهم بألسنتهم وأفعالهم، فليس العالم الديني كالعالم المدني كل ما يعوزه العلم، ولكنه رجل تؤخذ عنه الشريعة والشريعة علم وعمل.

حق الأزهر على المسلمين

لاشك أن الأزهر قد خلف آثارًا في مصر وفي الشرق إن أنكرها الناس فلن ينكرها التاريخ، وإن أهملها المتعنتون من الكتاب فلن يهملها السفرة الأبرار من ملائكة الله، فقد أتى على مصر حين من الدهر كانت فيه حيرى سادرة تخبط في ليل ثقيل الظلال، فكان الأزهر هو الضوء الذي تعشو إليه، والحبل الذي تعتصم به، فلا أقل من أن تجزيه الأمة فضلاً بفضل وإحسانًا بإحسان، فيتعاهد الملهمون من قادة الفكر على مده بما يحتاج إليه من وسائل الإصلاح وضروب الإنتاج وأساليب الدعاية...

ويهيئ ولاة الأمر لأبنائه نزلاً مرموقة حتى تتراءى فيهم كرامة الإسلام وعزة المؤمنين، إن الأمة تنفق الكثير في محاربة الشر وحياطة الأخلاق وتنشئة الأمة النشأة الصحيحة، ثم لا تظفر في النهاية إلا بلمع من النصر، فلو أصلحت رجل الدين لكفاها ذلك كله، ولاستطاع أن يرد على العالم ظل الإسلام ليجد فيه برد الراحة وجمال الهدوء ونعمة الاستقرار. (8)

ظل الإمام البنا يذكر علماء ورجال الأزهر الشريف بدورهم الأساسي، دون النظر إلى مغرم أو مغنم، فكتب يقول:

دعوة حارة إلى حضرات العلماء المتخصصين (9)

يا حضرات العلماء الأجلاء.

يا شباب الأزهر والإسلام:

قرأت نبأ اجتماعكم فى جريدة الأهرام واقتراحكم أن يلغى قرار المسابقة لوظائف التدريس، وأن عددكم فى هذا الاجتماع قد أربى وزاد على مائتى عالم فاضل.

يا حضرات العلماء الأجلاء:

لا أحب أن أتدخل فى قراراتكم، بل أشارككم الرجاء لمشيخة الأزهر أن تعدل عن المسابقة كما تريدون، ولكن أخاطبكم الآن لأمر هو أعظم من هذا وأجل.
إلى متى أيها الإخوة تظل الوظائف والأعمال الحكومية مطمح أنظارنا وقبلة آمالنا؟وإلى متى نظل فى هذه الحيرة نقضى السنين والأعوام حتى تذهب البقية من العمر فى انتظار الوظيفة التى تأخذ ما تعطى فى مظاهرها وتكاليفها، ويظل أحدنا كما هو فقير الروح، فقير العاطفة، فقير الوجدان؟
مائتا عالم متخصص! يا لله إنكم يا إخوانى تستطيعون أن تفتحوا أبواب قلوب هذه الأمة كلها، إذا أقفلت أمامكم أبواب الوظائف والأعمال. تعالوا يا إخوانى نجتمع ونتفاهم ونتوزع على القرى والمراكز.
إن فى مصر مائة مركز إدارى تقريبا، فإذا توزع على كل مركز منكم رجلان ففيهما الكفاية لنشر الهداية والنور بين أهله وأبنائه من القرويين، وسوف لا نتقيد بالمناهج الرسمية ولا بالخطوات الحكومية، ولكنا سنعمل جاهدين فى إنقاذ السفينة الغارقة فى بحار الظلمات من الجهل والفقر والبؤس والحرمان المادى والأدبى.

أيها الإخوان:

قليلا من التضحية بالوقت، بالآمال الذاهبة أدراج الرياح، بالخيال الخامل الضعيف المحدود بجدران المعاهد والدواوين والوظائف الفارغة الضئيلة، وسترون عاقبة هذه التضحية خيرا وبركة وبرا بأنفسكم وبأمتكم.
ماذا تريدون أيها الإخوان؟ تريدون المطعم والملبس. ستجدونه فى عزة وكرامة وإباء. وهل يتعب المجاهد ببطنه وهو تكفيه الكسرة وتستره الشملة. تريدون الكرامة والجاه.
وهل أكرم على الله وعلى الناس ممن يقود القلوب والعقول والأفكار إلى الخير، إلى السعادة، إلى النور؟ أما الآمال فستحقق، وستجدون فى نجاح عملكم وفى سعادة الناس بكم أعذب الأمانى، بل أفضل الحقائق وأسعد النتائج.
تعالوا إلينا أيها الإخوان لنتحد ولنتعاهد، ولنجهز حملة قوية وجيشا صادقا من العلم والفضيلة والخلق والهداية على هذه المراكز والجهات؛ لننقذ إخوتنا وعمومتنا وخئولتنا ومواطنينا من براثن الجهل والأمية والضلال والبؤس والشقاء، وسننجح إن شاء الله.
وسترون كل تضحية قليلة هينة فى هذه السبيل. فهل أنتم مستمعون وهل أنتم مصدقون؟ وهل أنتم بعد ذلك فاعلون؟ إنى فى الانتظار.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

المراجع

  1. مجلة النذير، العدد (2)، السنة الأولى، 7 ربيع الآخر 1357ه 6 يونيو 1938م، ص(6-7).
  2. مجلة النذير، العدد (16)، السنة الثانية، 17 ربيع الآخر 1358ه 6 يونيو 1939م، ص(24-25).
  3. مجلة النذير، العدد (10)، السنة الثانية، 4 ربيع الأول 1358ه 25 أبريل 1939م، ص(12).
  4. أى: يعتبرون لهم الفضل والمنزلة.
  5. جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (13)، السنة الثالثة، 8 ربيع الآخر 1354ه 9 يوليو 1935م، ص(3-10).
  6. جريدة الإخوان المسلمين 340 سنة3 22 رجب 1366، 11 /6/1947 ص2.
  7. السابق، العدد (42)، السنة الثانية، 7 رمضان 1363ه 26 أغسطس 1944م، ص(5، 16).
  8. السابق، العدد (43)، السنة الثانية، 21 رمضان 1363ه 9 سبتمبر 1944م، ص(13-16).
  9. مجلة التعارف، العدد (4)، السنة الخامسة، 30 محرم 1359ه 9 مارس 1940، ص(10).

إقرا إيضا

للمزيد عن علاقة الإخوان بالأزهر الشريف

وصلات داخلية

ملفات متعلقة

مقالات متعلقة

أخبار متعلقة بالأزهر

أحداث في صور

وصلات فيديو