ذكرياتي في عهدين

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
ذكرياتي في عهدين

صلاح الشاهد

أهداء

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

إلى أرواح الزعماء العظام الذين تشرفت بالعمل في ظلالهم وتركوا ظلهم على مصر.

إلى هؤلاء المؤرخين أو الكاتبين الذين جعلوا من عمالقة مصر أقزامًا...

إلى هؤلاء المؤرخين أو الكاتبين الذين تشرفت بالعمل في ظلالهم وتركوا ظلهم على مصر.

إلى هؤلاء المؤرخين أو الكاتبين الذين جعلوا من عمالقة مصر أقزامًا...

إلى هؤلاء الكتبة الذين صنعوا من الأقزام عمالقة...

إلى التاريخ الذي لا يكذب أبدًا مهما ضل الناس..

أنشر هذه الذكريات وهي ليست كل الأسرار.. بل بعض ما شهدت وسمعت.

نورًا وهدى لبعض الحقائق..

ربيع الأول 1396.

مارس 1976

صلاح لبيب الشاهد.

مقدمة

الورق الكائن الحي السعيد الحزين

الورق من لب الشجر، والشجر كائن حي، وهو من أجمل الكائنات الحية يستظل الناس به ليحميهم من شمس يوم حرور، أو يختفون خلقه أو في فجوة فيه من لسعة يوم يريد..

ونرى في بعض الأشجار حماية لطائر حائر يجد فيه الملاذ فيحط عليه وبيني عشه ويفقس بنيه، ونرى بعض الناس يسرون إلى الأشجار ما في نفوسهم فيتناجي في رعايتها، المحبون، ويلتقي عندها الوالهون، ويسجلون عليها أحيانًا عبارات الحب الطاهر الخالي من الأدران والمجون...

والشجر هذا الكائن الحي، تمتد أفضاله على بني البشر، فمن أوراقه وأغصانه يتدفئون، ومن ثماره يأكلون ويشبعون، أو ينالون من دموعه ما يفيد صناعتهم وتجارتهم كما تشاهد في صناعة وتجارة المطاط وغير ذلك من شئون.

ويقسو البشر على الشجر وهو كائن حي، فيقطعونه اقتلاعًا ويحيلونه إلى ورق، إلى أنماط من ورق، يدونون عليه كل جميلة وجليل، كما يدونون عليه الكذب والرياء، ويزحمونه بالشر والنكبات.

فكم من أحكام ظالمة سجلت على هذا الورق؟

فكم من أحكام ظالم احتواه هذا الورق..؟

وكم من أمر قاس يسجن أو إعدام أو سحل أو مصادرة أموال أو فرض حراسة أو تعذيب إنسان برئ سطروه على هذا الورق، على هذا الكائن الحي الذي لم يعرف إلا الحب والحنان، ولم يؤثر عنه إلا كل مفيد وتليد...؟

وكم سطر على هذا الورق الأكاذيب؟

وكم سجل على هذا الورق تزوير التاريخ؟؟

وكم زحم هذا الورق بمنشورات الباطل؟

وكم ملئت صفحاته بالغاش والتدليس؟

إن الورق أعظم مظلوم في التاريخ...

إن الغالبية التي تحترق أشجارها، أنما هي بهذا الحريق تنتحر قبل أن تتحول إلى ورق خشية ما سوف يسجل عليها من زور وبهتان.

كم بودي أن يقل الشجر حتى يشح الورق،ثم يغلو ثمنه فيصبح أغلى من الذهب وعندئذ يخشى الإنسان أن يسطر عليه إلا ما يفيد البشر ليسترد بهذا المفيد المكتوب ما سد في الحصول على هذا الورق..

كم بودي أن أرى الورق شحيحا يغلو سعره عن الذهب والماس، حتى إذا آذوه بالكذب والنفاق والرياء، وكان على الأقل أغلى صريع في عالم الأحياء..

العهد الأول :الملكية

سعد زغلول باشا

في حديث مع الرئيس السابق صاحب الدولة إبراهيم عبد الهادي باشا سألته: كيف قامت ثورة سنة 1919 والأسباب التي أدت إليها واختيار سعد زغلول باشا زعيمًا..

فقال دولته:

عندي أنا إن القوى المحركة الموجهة والتي تركت في الأعماق بذور التحرر والنماء ترجع إلى عدد من المفكرين وأصحاب العقائد: جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، سعد زغلول، ومصطفى كامل، هذه المجموعة بروحها القوية، مضافا إليها التنافس بن كرومر المعتمد البريطاني والخديوي عباس الثاني على السلطة أفسحت المجال لحرية الرأي وانطلاق الأقلام، فظهر من أصحاب الأقلام النظيفة والعقول المفكرة عدد استطاع أن يوجه الأفكار نحو الثورة التحريرية من ربقة الاستعمار وسط هذه العواطف: بين اليمين واليسار.

تجمعت في سعد زغلول الشخصية التي يمكن أن تقود الأمة عند العاصفة لماذا؟

وجوابي على ذلك.

أنه الشخصية التي تمثل مصر تمثيلا خاليا من الصناعة وإذا قامت إنه كان يمثل مصر كلها فبحق لأنه ابن عمدة إبيانه فلاح بن فلاح وفي الوقت نفسه شخصية تحمل كبرياء الرئاسة وليس جبروتها كبرياء الرئاسة التي تتمثل فيها روح المسئولية ونحمل تبعاتها.

بهذه الروح العصرية الخالصة والنفس العالية المورثة انتقل سعد إلى الأزهر (طالبًا) وفي الأزهر عاش على هذه الصورة لم ينحرف عنها.

وقد حدثنا عنها المحامي المعروف (إبراهيم الهلباوي) الذي قال عنها:

إنها كانت أنظف من المستوى الذي كان يعيشه طلاب الأزهر ي ذلك الحين. وبهذه النظافة في المستوى المعيشي والفكري كانت أفكاره وآراؤه فيها من الامتياز والانطلاق والتفتح ما جعله موضع احترام زملائه وعلماء الأزهر أنفسهم.

واتصل بالسيد جمال الدين الأفغاني في صدر الحركة العرابية وأخذ الكثير منه، واشترك مع الشيخ محمد عبده في تحرير الوقائع المصرية، وهي الجريدة الرسمية للدولة، وبالرجوع إلى أعداد هذه الجريدة في تلك الفترة، نجد التطوير الكبير الذي أحدثه الشيخ محمد عبده وسعد زغلول فيها، فقد أبرزا فيها الناحية الفكرية التقدمية من ناحية وحقوق الشعب وواجباته وتثقيفه من ناحية أخرى.

بعد ذلك اشتغل بالمحاماة وفيها تظهر بجلاء روحه الاستقلالية المتأصلة فقد رضي لنفسه أن يشتغل بهذه المهنة وقد كان يومئذ سبة وعارا لأن الطبقة المشتغلة بها وقتئذ لم تكن على مستواها وفي هذه المهنة انطلقت كوامن نفسه وقوته الفكية وقدرته القانونية كرجل متفهم للتشريع الإسلامي قادر على هضمه قادر على كشف كوامنه وخصائصه، قوة في المعارضة والإقناع مضافًا إلى هذا كله خصلة نادرة ما كنت توجد في هذا الوقت في هذه المهنة بالذات وهي الأمانة والاستقامة مما كانت سبيله إلى اختياره لمنصب القضاء.

وبذلك كان سعد زغلول أول محام انتقل من المحاماة إلى القضاء. وتاريخه في القضاء معروف وقد أثبت فيه أن المحامي صنو القاضي في عمله وفضله ومكانته وقد كان قبوله لهذا المنصب فيه تضحية كبيرة من الناحية المالية لأن مكتبه كان يدر عليه الكثير.

وفي منصب القضاء كان قضاؤه العدل والنزاهة واستقلال الرأي، وليس هذا رأي، ولكنه رأى زملائه القضاء سواء كانوا أجانب أو وطنيين إذ كانت صفحته أنقى وأطهر فحصة وبقي في القضاء 14 عامًا إلى أن تولى الوزارة سنة 1906 ومما يرى عنه أنه حين تولى زعامة الأمة لشريكة حياته: إنه الآن سيوفي كل ما فاته من دفاع عن المظلومين لأن هذه القضية هي القضية المصريين جميعًا.

ولقد عمل سعد ما استطاع لخلق جيل مثقف يتحمل المسئولية وفي ندوته كان الشباب الوطني يتلقى منه التشجيع على مواصلة جهاده، وساعد الشيخ على يوسف بالمال لتبقى المؤيد صحيفته التي كان إحدى الصحف الوطنية الكبرى في هذه المرحلة وأيد قاسم أمين في دعوته لتحرير المرأة وإصلاح الحياة الاجتماعية كجزء من خطة التي رسمها لكي يخدم القضية الوطنية بإيقاظ روحها وتكوين رأيها ورفع صوتها.

ولما قامت الدعوة العظيمة لإنشاء الجامعة المصرية شجعها كل التشجيع وصدر من منزله أول منشور على الأمة لتأييدها وتبرع لها مع المتبرعين بملغ مائة جنيه.

ومما يدل على قوة شخصية سعد زغلول شهادة خصومه قبل أنصاره فيه فاللورد كرومر مع ما هو معروف عنه غطرسة وقف يخطب في حفل وداعه.

فقال عن سعد زغلول ما معناه (إن فاتني النص) إن هذا الرجل شجاع في عقيدته قدير في عمله وقد علمني كيف احترمه. وكان سعد زغلول يمتاز أيضا بإرادة حديدية قل أن تتوفر في شيخ مثله فقد تعلم الفرنسية وهو في سن الأربعين ونبغ فيها واجتاز بها امتحانا في الحقوق. كان سعد زغلول يملأ نواحي متعددة ويشغل فراغا قل أن يشغله شخص واحد بذاته.

كان بيته ندوة يلتقي فيها زملائه وأصدقاؤه وغيرهم، من الراغبين في المعرفة والاستزادة من الثقافات المختلفة، والمعنى الذي اختص به سعد زغلول يومئذ الاتجاه إليه في الرأي والمشورة.

وفي التعليم ترك أثرًا ما زالت البلاد تنعم به فمدرسة القضاء الشرعي والدراسة باللغة العربية وروح الإدارة المصرية ودفع عدوان الأجنبي عنها وحكايات دانلوب والمعارك التي دخلها معه.. كل ذلك كان من غرسه ونتائج فكره وجهد المتصل وقد استقبلته صحيفة اللواء لسان مصطفى كامل عندما عين وزيرًا للمعارف استقبالا كريمًا، ولكنها في الوقت نفسه أشفقت عيه من دانلوب وجبروته وتساءلت:

هل سيكون كبقية الوزراء، أم يكون وزيرًا اسمًا وعملا ويحي سلطة الوزراء المصرين..؟ والواقع كما هو معروف أن سعد زغلول كان وزيرًا مصريًا اسما وعملا، أوقف دانلوب في مكانه الصحيح.

والذي لا شك فيه أيضا أن تعين سعد زغلول ناظرًا للمعارف كان تتويجًا للحركة الوطنية إثر حادث دنشواي سنة 1906.

ولم يمض أسبوعان على توليه الوزارة حتى جمع كل السلطة في يده وكان كل أمر من أمورها يظل معلقًا حتى يؤخذ رأيه فيه، وبدأ كل موظف بالوزارة يشعر أن عهدًا انتهى وعهدًا بدأ، وأن الوزارة والمستشار، يقول رأيه فقط، والوزير هو صاحب السلطة الفعلية.

ولا أود أدخل في التفاصيل، فهي كثيرة يخطئها الحصر.. وإني لأذكر حادثًا أو حادثين .. وهما.. حادث ناظرة مدرسة السنية الإنجليزية التي فصلت طالبة بغير وجه حق وأصرت على أريها برغم أمر الوزير بإعادتها فما كان منه إلا أن أعاد الطالبة وأحال الناظرة إلى مجلس تأديب وهاجت الصحف البريطانية وبعض الصحف المصرية الناطقة بلسان الإنجليز ولكنه لم يعبأ بذلك ومضي في الشوط إلى نهايته. وانتصرت إرادته.

والحادث الثاني مع الدكتور كتنج ناظر مدرسة الطب فقد دخل عليه بغير إذن فلم يصنع إليه إلا حين اعتذر له عن دخلوه بغير إذن.

أما الحادث الخطير الذي أغضب الخديوي وأغضب شيخ الأزهر وأصر عليه سعد زغلول، فهو إنشاء مدرسة القضاء الشرعي وتعيين المرحوم عاطف بركات بك مديرًا للمدرسة بعد أن تعب الشيخ محمد عبده في علاج وإصلاح بعض شئون الأزهر الذي انتهى بالشيخ محمد عبده إلى اعتزال منصبه في مجلس الأزهر الأعلى.

وكانت مدرسة القضاء الشرعي تطويرًا للدراسة الأزهرية التقليدية وأخذا بالنظم الحديثة وفتحا لباب الاجتهاد مما أهاج عليه ثائرة علماء الأزهر حتى بلغ بهم العنف في الخصومة إلى اتهام الشيخ محمد عبده وسعد زغلول بالكفر

وتولى سنة 1910 وزارة الحقانية فأرسى قواعد الاحترام للقضاء، كما اهتم بكرامة القضاة واهتم بكرامة المحامين، فأسس لهم نقابة تحميهم وتصون حقوقهم وتجمعهم في هيئة واحدة يناط بها الدفاع عن سمعتهم وشرف صناعتهم. كما أنصف القصر والمحجور عليهم من القوام والأوصياء وقد قدم استقالته في قضية مشهورة تدخل فيها اللورد كتشنر شخصيًا.

وعندما ترك الوزارة ونشأت فكرة الجمعية التشريعية اتجهت إليه جميع الأنظار والحزب الوطني الذي كان يناوشه أحيانًا ويهاجمه أحيانا أخرى فرشح نفسه في دائرتين في القاهرة بعيدا عن منبته في الريف، وقد نجح في الدائرتين معا: بولاق والسيدة زينب برغم محاربة كتشنر له والكل يعلم مدى قوة السلطان البريطانية في ذلك الحين.

وفي الجمعية التشريعية يبدأ مركز الزعامة القومية فيتبوأها سعد زغلول بغير منازع وأصبح العلم الذي التفت حوله جميع الفرق، وقد تقرر منذ ذلك التاريخ مستقبل الحركة الوطنية عندما قامت في سنة 1919.

وفي هذه الجمعية التشريعية يبدأ مركز الزعامة القومية فيتبوأها سعد زغلول بغير منازع وأصبح العلم الذي التفت حوله جميع الفرق، وقد تقرر منذ ذلك التاريخ مستقبل الحركة الوطنية عندما قامت في سنة 1919.

وفي هذه الجمعية التشريعية يبدأ مركز الزعامة القومية فيتبوأها سعد زغلول بغير منازع وأصبح العلم الذي ألتفت حوله جميع الفرق، وقد تقرر منذ ذلك التاريخ مستقبل الحركة الوطنية عندما قامت في سنة 1919.

وفي هذه الجمعية كان المحامي الضليع عن حقوق الأمة، فكان صاحب الآراء العنيفة والعبارات الثورية الخالدة كقوله على سبيل المثال:

الحق فوق القوة، والأمة فوق الحكومة. كان هو الوكيل المنتخب وعدلي باشا يكن الوكيل المعين وكأن المقادير منذ هذا التاريخ هي التي أخذت تعد هذه الشخصية الفذة وتمدها بروح النضال الفكري والثقافي والدستوري وتهيئتها لليوم المرتقب لقيادة الأمة في ثورتها التحررية الكبرى التي أيقظت الشرق كله من سباته وهيأته للنضال ضد الاستعمار.

وبذلك سارت الأمور في الطريق الذي جعل سعد زغلول رجل الأمة وزعيمها الناطق بحقوقها وقلبها النابض بآمالها وآلامها وحري النضال على نحو ما يعلم الجميع هذه الفترة السابقة لثورة 1919 كانت مدرسة للتشبيه المصرية عن طريق الصحافة المصرية الخالصة برغم ما كانت عليه من حال متواضع سواء من ناحية التحرير أو ظروف الحرية المتاحة، وكان الشباب يتسابقون إلى حياض المعرفة خطفًا من كل ناحية، وقل أن يكون ذلك عن طريق مرشد أو راغب إلا حبا في الاستزادة من العلم والتأسي بكبار المصريين الأصلاء في مصريتهم مثل الشيخ محمد عبده وسعد زغلول ومصطفى كامل والشيخ على يوسف أو من تشاء من أهل الرأي والفضل.

وجري بينهم عشق وتنافس عارم على الأدب العربي وحب التزود منه وكانوا يجتمعون لذلك طوائف وأنت علم بأن الأدب هو وعاء كل معرفة خصوصًا ما يتصل بتربية الإحساس والعاطفة وليس أقرب إلى قلوب الشباب من العاطفة الوطنية.

كان الشباب جميعًا يتتبعون كل كلمة تقال في الجمعية التشريعية أو تكتب في الصحف أو تقال في الأندية.

ولما انتهت الحرب أو قاربت بدأت الرؤوس المفكرة وبدا القلب الكبير ينبض في الساعة الملائمة وأخذ سعد زغلول يضم إليه من رجال مصر من يشاء من أهل الكفاية والقدر على مختلف معنى القدر، فمنهم من يعين بالرأي والمشورة وبما يتبع، ومنهم من يعين بماله، والمال كما تعلمون عصب الحياة.

ومنهم من ضمه إلى الصفوف ليتقي خروجه على الصف وأخذ يبشر لليوم الكبير بالمبادرة إلى كل أمر يبدو يسيرا وإن كانت أعقابه كبيرة، فيوم وقف مستشار الحقانية بالجمعية الجغرافية يمهد لتغيير القانون المصري وإبداله بالقانون السوداني الموضوع على النمط الإنجليزي كان الناس ينصتون إلى خطابه، وما كاد ينتهي منه حتى رأي الجمهور سعد زغلول وعلى البديهية يرد عليه ويفند محاولته بحجج آية في البساطة وآية في الوضوح وآية في القوة..

ومن أمثال هذا وغيره أخذ ينبه الناس ويلفت أنظارهم إلى أن في الأمر شيئا خطيرًا.. وأن الحماية التي ضربت على البلاد برغمها لا يفكر الإنجليز في رفعها بعد انتهاء الحرب وإنما يعملون على التمكين لها بتغيير التشريع مما هو من طبيعة الاستعمار ودهائه.

استمر الحال حتى 13 نوفمبر سنة 1918 الإنجليز يخططون لدوام بقائهم والعقول المصرية المستنيرة تنبه إلى الخطر المحدق، وفي هذا الوقت أمكن تشكيل الوفد على ما هو معروف وفي خلال ذلك كانت محاولة حسين رشدي باشا للسفر إلى الخارج لبسط القضية المصرية في انجلترا قد باءت بالإخفاق.

وكان قد تم تشكيل الوفد المصري وجمعت التوكيلات من جميع هيئات الأمة وموظفيها برغم محاربة السلطات البريطانية وبهذه الصورة أكتمل لسعد زغلول تمثيل مصر تمثيلا لم يسبقه إليه أحد ولا تجد عليه مطعنا من كائن من كان.

بهذه الصفات المكتملة لتمثيل الأمة قابل سعد زغلول وصاحباه: على شعراوي باشا، عبد العزيز فهمي بك، سير ريجنالد ونجت المعتمد البريطاني في مصر طالبين السفر للمطالبة باستقلال البلاد فاستنكر ونجت موقفهم خصوصًا بعد ما ذكروا له الغرض الحقيقي من السفر وهو المطالبة باستقلال البلاد.

ومضت الأمور في طريقها، فاعتقل سعد زغلول وأصحابه وفي 8 مارس سنة 1919 تقرر نفيهم.

وفي صبيحة 9 مارس علم الطلبة والبلاد بالخبر فذهب وقد منهم وكنت أحدهم إلى بيت الأمة يثتوثق من صحته، فقابلنا لطفي السيد وعبد العزيز فهمي ومحمد على علوبة فتحققنا مما سمعناه، ولما استشعروا رغبتنا وتصميمنا على أنه لابد أن يتحرك الشباب حركة غضب لاعتقال زعماء البلاد حاول عبد العزيز فهمي إقناعنا بأن هذا ربما يضر بالقضية وربما صور الوفد على أنه عنصر إثارة وتهييج، فأكدنا له أننا نحن الشباب إذا اتخذنا قرار فسيكون على مسئوليتنا وحدنا بعيدا كل البعد عن الوفد، ونحن نعلم مقدما أننا معرضون للانتقام وراضون به أما أن ينفي زعماء البلد وتبقي البلد راكدة ساكنة لا تتحرك فذلك مالا نرضاه ونراه عيبا وسبة لنا معشر الشباب وقضاء على القضية التي من أجلها اعتقل الزعماء.

فذهبنا إلى مدرسة الحقوق وأكدنا الخبر لطلابها فتركوا فصول المدرسة وتجمعوا في صالة المدرسة وقد رغب ناظرها (مستر دلتون) أن يستمهلنا حتى حضر مستر إيموس مستشار الحقانية وكان ناظرًا قديمًا لمدرسة الحقوق وقد حضر على عجل وحاول عبثا إثناءنا عن فكرتنا حرصا علينا وعلى مستقبلنا فلم يجد واحد يشذ عن رأينا الذي عقدنا العزم على تنفيذه.

ولما لم يفلح من هذه الناحية طلب إلينا أن نسترشد برأي أولياء أمورنا لأن الموقف جد خطير، فرددت عليه قائلا:

إن أولياء أمورنا ومن يلجأ إليهم عند المشورة تفتهم السلطات البريطانية ولا سيل إلى الاتصال بهم في الوقت الحاضر. وخرجت صيحة الطلبة جميعا في هذا اليوم هاتفه: يحيا الإضراب.. ولتسقط بريطانيا.

ومررنا على مدرسة الهندسة فخرجت عن بكرة أبيها ومررنا على السعيدية فحدث الشيء نفسه وذهبنا إلى مدرسة الطب وكان ناظرها مستر كتنج وكان رجلا استعماريا مخيفا فحاول تهديد الطلبة ومنه طلبة الطب بالذات من الخروج في المظاهرة فتصدى له عبد الحميد داود بمدرسة الهندسة وجذبه جذبة قوية دحرجته على السلم واندفع الطلبة في مظاهرة عارمة كالفيضان تسير في شارع قصر العيني.

وعند شارع المبتديان تصدى لها عدد من الكونستيلات الإنجليز فوقع من وقع وجرح من جرح واتجهت المظاهرة نحو درب الجماميز وكانت ملحمة عنيفة بين الطلبة وقوات البوليس الراجلين وراكبي الموتوسيكلات والخيل برئاسة اليوزباشي النقيب محمد حيدر، وقبض على عدد كبير من الطلبة وأودعوا سجن القلعة.

وسارت الثورة منذ ذلك اليوم في طريقها ولم يقتصر الإضراب على الطلبة وإنما تعداه إلى عمل الترام وإلى الحوذية وأغلقت المحال العامة احتجاجا وتجددت المظاهرات من الجميع وكان يقابلها الإنجليز بالمدافع والرشاشة وأضرب المحامون إلا من كان يوفدهم مجلس النقابة إلى المحاكم لتأجل القضايا.

وانتشر المظاهرات في مدن القطر جميعها وكانت كلها تقابل بالرصاص فانفجرت الثورة في جميع أنحاء البلاد جارفة تضم الطلبة والموظفين والعمال والفلاحين جميع أبناء مصر بغير استثناء وانقطعت خطوط السكة الحديدية وقام التخريب في كل مكان تصل إليه الأيدي وظهرت شجاعة الشعب بجميع طوائفه على نحو رائع بالتضحية والفداء حتى إن البعض كان يموت وهو يهتف بحياة الوطن أو رافعا العلم وحين كان يسقط العلم من الأيدي التي كانت تحمله بعد وقوعها مضرجا بالدم يبادر إلى رفعة آخر يستقبل الموت كزميله سعيدا مبرورا.

ونفي سعد إلى جزيرة مالطة، وهو في مالطة لم ينس القضية التي قام يدافع من أجلها فكان أول عمل له هناك أن أرسل برية تاريخية إلى رئيس الوزراء البريطاني يذكره بتصريحات الحكومة البريطانية المتكررة بالجلاء عن مصر وأن الاحتلال لن يكون إلا وقتيا ويذكر لهم في هذه البرقية أن شرف الحكومات والممالك لا يقدر إلا بمقدار احترام ساستها ورجالها للمعاهدات السياسية التي يبرمونها والتصريحات الرسمية التي يقولها رجالها الرسميون.

وكان ذلك آخر ما يتوقعه البريطانيون من سعد زغلول في هذه الجزيرة التي يملكونها والتي بدأ سعد يتخذها ميدانا لمعركته مع بريطانيا بعد أن نفته فيها فاضطرت بريطاني إلى الإفراج عنه وعن زملائه بعد شهر واحد من النفي والسماح لأي من أعضاء الوفد بالسفر إلى حيث يشاء.

وهناك في باريس التقى الوفد بكامل هيئته وهنا يبدو موقف الثورة المصرية بقيادة سعد زغلول في مكانه الحق من التاريخ هذا التاريخ الذي لم يعرف قبلها وقفة الإيمان مجردة من القوة في وجه إمبراطورية لا تغرب الشمس عن أملاكها وهي خارجة من أكبر حرب عالمية مزهوة بالنصر مدججة بالسلاح.

ولا شك في أن هذه الثورة ارتقت بالجهاد الإنساني خطوة جديدة في سبيل رفعة الإنسان وصعوده إلى مراتب التقدم التاريخي ولعل من أهل الرأي الرفيع من أعطاها حقها وقدرها وحسبي أن أشير إلى المهاتما غاندي حين قال:

نحن في جاهدنا تلاميذ لسعد زغلول.

كانت الروح الوطنية تشغل المصريين جميعا وتربطهم برباط الإيمان القوي والتآخي الذي يفدي فيه كل وطني أخاه ولقد عز واستحال على الإنجليز أن يجدوا سبيلا فتنة المواطنين بالرشوة والمال الغزير أو بالتهديد والتنكيل الشديد وكثيرا ما وقعت حوادث ذهب فيها بعض الأبرياء ضحية وهم يعرفون من المسئول عنها وتأتي وطنيتهم أن يوجهوا التهمة إلى فاعلها لينجو من هول العقاب.

والوقائع تروي قصة: إبراهيم نظير حين اتهم بقتل أحد البريطانيين وحكم عليه بالإعدام وبعد سنتين من هذا الحكم ونفاذه ظهر أن القاتل الحقيقي كان محمد علي أحد العمال الذي حوكم على هذه التهمة نفسها وحكم عليه بالإعدام وليس هناك مثل في التضحية ولا فيما سطر في تواريخ الجهاد والفداء في وثبات الأمم أروع من هذا المثل.

سيكتب التاريخ الحقيقي وأتمنى أن يكتب هذا التاريخ في حياتكم من علماء التاريخ فتعرفون أن سعد رفع الإنسانية إلى مقام لم يكن لها من قبل وأشعرها أنها بإيمانها وتصميمها والرضا بالتضحية لا بد أن تصل وتحقق أهدافها.

ثم سألت دولة الرئيس السابق إبراهيم عبد الهادي باشا عن حقيقة الائتلاف الذي وقع عام 1926 وموقف سعد من هذا الائتلاف.

فقال دولته:

إن موقف سعد زغلول في هذا الائتلاف كان صريحا وواضحا وهو لم يكن يسعى إلى الائتلاف وإنما كان يريده اندماجا ولو طال به العمر لحققه على هذا الأساس.

النحاس باشا

كيف انضم النحاس باشا إلى الوفد سنة 1919

سألت صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا أن يرى قصة انضمامه إلى عضوية الوفد المصري سنة 1919 فقال: هذا شيء يطول شرحه ولكنه سأحدثك بوجه عام وكان هذا الحديث على ما أذكر في صيف عام 1947 وفي الإسكندرية قال رحمة الله عليه:

أنت تعلم قوة إيماني بالعلي القادر الذي أنشانا من الأرض واستعمرنا فيها ليبلونا فيما آتانا، وأينا أحسن عملا.

ومن فضائل الإيمان، والوطنية وحماية الحرم وقد درست القانون وقواعد العدل والمساواة والحرية للأفراد والشعوب وعلت في المحاماة وفي القضاء وتمكنت الشورى والديمقراطية في عقل وفكري.

ومن كل هذا ومن الجهاد المصري للاستقلال وتأكيد الحضارة المصرية التي أثارت العالم منذ آلاف السنين تكون وعائي النفسي والخلقي.

ولقد لفت انتباهي في شبابي رجلان مصطفى كامل، وسعد زغلول، وما أهمني في أسلوب مصفى اعتماده على الخديوي عباس الثاني صاحب السلطة الشرعية علي هذه الأمة والذي حاول قدر ما استطاع التمكن من هذه السلطة بانتزاعها من معتمد الاحتلال الغاصب ولذلك كنت أميل إلى مبادئ الحزب الوطني وكان لي بين رجاله أصدقاء.

وكان عزل الخديوي عباس وفرض الحماية على مصر غصبًا حديث كل الوطنيين المصريين بعد أن تناست بريطانيا العظمى وعودها العديدة بالجلاء وترك السلطة الشرعية تمرس حكم المصريين.

وما إن قاربت الحرب العالمية على النهاية حتى تقاربت الرءوس وتهامس الوطنيون يبتغون الوسيلة للاستقلال والحرية ومنع المحتل الغاصب من تبديل الحماية والأحكام العرفية إلى ضم مصر إلى ممتلكات التاج البريطاني التي لا تغيب عنها الشمس.

ولا قوة لدينا غير حقنا في الحرية والاستقلال من غير تدخل أجنبي ثم صدق الوطنية والجهاد وهو ما تمنع به جيلنا الذي نشأ على الأمانة الوطنية.

ولا يقولون أحد إن بين قادوا هذا الشعب في العصر الحديث من خان الأمانة الوطنية، بل إن الفكر والتكوين والظروف والإمكانيات والإغراءات والأسلوب هو الذي يفرق بين هذا وذاك، ثم هناك مطامع النفوس ومطامحها مما يسارع بالعاجل الأقل ولا ينتظر الآجل الكامل.

وأكاد أقول هكذا الدنيا وهكذا ساسة العالم. ولقد فتنت بالزعم الأوحد لهذا الشعب ووكيله المفوض من كل طبقاته وفئاته، المرحوم خالد الذكر سعد زغلول باشا.

وتتبعت آثاره محاميا وقاضيًا ووطنيًا أمينًا وتمنيت مقامه، وأكرمني رب العزة فأصبحت خليفته في قيادة هذه الأمة الخالدة على الزمن.

وطلع علينا الدكتور ويلسون رئيس الولايات المتحدة بمبادئه الأربعة عشر وما كان يهمنا فيها تأكيده حق الشعوب الصغيرة وحريتها في تقرير مصيرها وهو ما كان يغلي في جوانح المصريين كافة بعد أن سامتهم السلطة الغاصبة العذاب في التطوع الإجباري للحرب إلى جانبها ونهب خيراتها بل مواشيها.

تفكير الشباب

وكنت قاضيا في طنطا كثير التردد على القاهرة والاجتماع مع صفوة من الأصدقاء في مكتب المحامي الشهير المرحوم أحمد بك عبد اللطيف وكان علي ماهر باشا يحضر بعض هذه الاجتماعات، وكان يومئذ مديرا لإدارة المجالس الحسبية بوزارة الحقانية (العدل) وكنا مشبعين بآراء الحزب الوطني.

وذات يوم عرضت على المجتمعين فكرة ثورية بأن نأتي نحن ومن تسمع ضمه إلى جماعتنا عملا تسمع عن طريقه أوربا وأمريكا صوت مصر المحتلة الراغبة عن استحقاق في أن تتمتع بما انطوت عليه مبادئ الدكتور ويلسون وراقت الفكرة للجميع وفكرنا في الأسلوب وأخذنا نتدارسه لكننا انتهينا إلى أننا جنود صغار لا يعرف الشعب عنا شيئا وقد لا يجدي عملنا الأثر الذي نأمل وقررنا أنه لابد لنجاحنا أو نجاح الأمل الذي يراودنا أن تتقدمنا أسماء ذات شهرة تقلدت المناصب الرفيعة فيكون لسعينا الأثر المطلوب في أوربا وفي أمريكا ووقعه لدي الجماهير المصرية.

ونبهت الإخوة وقتئذ إلى أن السلطة العسكرية لن تسكت على هؤلاء الكبار الذين تختارهم وستطاردهم وقد تعتقلهم وواجبنا في هذه الحال أن تنزل الميدان ونحمل علم الجهاد ولم يطل تفكيرنا في الزعيم القائد بل اجتمعنا على أن يكون سعد زغلول باشا.ط

ولكن كيف الوصول إليه وليس بيننا من هو على صلة به تمكنه من مفاتحته في الأمر، ولما قيل لي إنك لا بد أن تعرف سعد باشا وقد كان لك موقف معه لما كان وزيرا للحقانية فقلت إنها معرفة رسمية سطحية لا تؤهلني لمفاتحته في هذا الأمر الخطير فقال على ماهر إنه يعرف عبد العزيز فهمي بك وربما تمكن من إقناعه بمخاطبة سعد باشا بأفكارنا وقيادته حركتنا.

وزار على ماهر عبد العزيز بك ثم قمت أنا بزيارته وتتابعت الزيارات وذات مساء مال علينا عبد العزيز فهمي بك وقال بصوت خافت:

اسمعا.. لقد فكرنا نحن فيما فكرتم فيه أنتم ونفذنا الفكرة هذا الأمر سر لكما وأود ألا يعلم به أحد.

فاندهشت ووجدتني أقول له نفذتم الفكرة وكيف ذلك.

فقال عبد العزيز:

إني وسعد باشا وعلي شعراوي باشا ومحمد محمود باشا وأحمد لطفي السيد بك نواصل الاجتماع والبحث في تأليف وقد يسافر إلى أوربا لبسط قضية مصر أمام ساستها.

هذا سر بيني وبينكما فاكتماه في أعماق قلبيكما وألزما وصحبكما كل هدوء الآن، ولا تكثرا من التردد علينا لئلا تلتفت أنظار السلطة إلينا فتحوم الشكوك حولنا ثم نهض واقفا وقال: أستودعكما الله.

وكان لكل منا في هذه الفترة جهاده ومن ثم عرفت الزعيم سعد زغلول باشا ومن بعد كان ما هو معروف من تأليف الوفد المصري بقيادة سعد زغلول باشا. ولما شرع سعد باشا في تشكيل الوفد المصري بقيادة سعد زغلول باشا.

ولما شرع سعد باشا في تشكيل الوفد المصري النهائي الذي سيسافر إلى أوربا نشأ بينهم وبين الحزب الوطني بعض الخلافات فرأى سعد باشا رغبة منه في التوفيق لخدمة قضية البلاد أن يقترح على الحزب الوطني أن ينضم إلى الوفد مصطفى النحاس والدكتور حافظ عفيفي عضو الجنة الإدارية للحزب.

ووافق الحزب الذي كنت انتمي إليه فكريا وأصبحت عضوا في الوفد المصري بقرار صدر يوم 20 نوفمبر سنة 1919

وفي يوم 23 نوفمبر 1919 اجتمع الوفد وصادقنا على مشروع قانون تأليف الوفد. وكانت المادة الأولى تنص على تأليفه من الأعضاء السبعة السابقين على ضمن وحافظ عفيفي.

وحددت الثانية مهمة الوفد في السعي بالطرق السليمة المشروعة حيثما وجدا للسعي سبيلا إلى استقلال مصر استقلالا تاما. ونصت المادة الثالثة على أن الوفد يستمد قوته من رغبة أهالي مصر التي يعبرون عنها رأسا أو بوساطة مندوبيهم في الهيئات النيابية.

ونصت المادة الثالثة على أن الوفد يستمد قوته من رغبة أهالي مصر التي يعبرون عنها رأسا أو بوساطة مندوبيهم في الهيئات النيابية. والمادة الخامسة على أنه لا يجوز للوفد أن يتصرف في المهمة التي انتدب لها، فليس للوفد ولا لأحد أعضائه أن يخرج في طلباته عن حدود هذه الوكالة التي يستمد منها قوته، وهي استقلال مصر استقلالا تاما وما يتبع ذلك من التفاصيل.

ونصت المادة الثامنة على أن للوفد أن يضم إليه أعضاء آخرين مراعيا في انتخابهم الفائدة التي تنجم عن اشتراكهم معه في العمل. ولعل ما أوردته المادة الخامسة عن حدود وكالة الشعب للوفد كان السبب في الخلاف بين الزعيم سعد زغلول باشا وغيره.

رأى سعد زغلول باشا في مصطفى النحاس باشا

سأل الأستاذ الجليل محمد كامل سليم بك سعد زغلول باشا وكان سكرتيره عن رأيه في مصطفى النحاس فقال سعد باشا:

مصطفى النحاس.. رجل ذو قلب طيب، ومبدأ ثابت، يميل إلى الثرثرة ولكنه خفيف الروح به خفة ورعونة يميل إلى الخيال، سريع الانفعال ولكنه لا يتغير بتغير الأحوال وطني مخلص وهو فقير مفلس، ذكي غاية الذكاء، وفي كل الوفاء وله في نفسي مكان خاص.

مع الزعيم مصطفى النحاس

كنا ثلاثة فصلتنا وزارة المعارف من مدرسة فؤاد الأول الثانوية قرب نهاية عهد صاح الدولة إسماعيل صدقي باشا الذي حكم البلاد بأسلوبه الخاص وأنشأ لها دستورا على هواه.

محمد عبد المنعم شوقي ابن شقيقه زعيم مصر الراحل العظيم مصطفى النحاس وعلى حسيب نجل حسن باشا عضو الوفد المصري ووزير الحربية وكاتب هذه الذكريات.

وإذا كانت السمة الوفدية قد برزت في السطور السابقة على زميلي فلم أكن غريبا عن الوفد والوفدية والوفديين فوالدي المرحوم محمد لبيب الشاهد باشا كان عضوا في الهيئة الوفدية وكانت المرحومة والدته عضوا في لجنة السيدات الوفديات وكان ثلاثتنا ضيوفا دائمين في منزل الزعيم مصطفى باشا يرعانا بأبوته النادرة وكان مصطفى باشا من المعجبين بفن المرحوم علي الكسار وكان يشاكنا معه في كل حفلة يحضرها وكثيرا ما تمتعنا في هذه الحفلات في ظلال النحاس باشا بفن بربري مصر الوحيد

في مدرسة الأهرام الأهلية

وجمعتنا مدرسة الأهرام بالسنة الرابعة بالقسم الأدبي. ومضت بنا شهور هذا العام سريعة بين المسارح واحتفالات الوفد، والمشاركة السياسية في الأحداث التي جرت في نهاية حكم المرحوم صدقي باشا وبداية حكم صاحب الدولة المرحوم عبد الفتاح يحي باشا والآمال تسرح في عودة مصطفى باشا إلى الحكم.

وفوق أنه لم يكن للتحصيل العلمي لدينا نصيب فقد اعتمدنا على أن سنوات الانتقال في المدارس الأهلية سهلة في امتحاناتها بل يمكن التجاوز فيها عن الامتحان نهائيا.

وفوجئنا في نهاية العام بأن ثلاثتنا راسبون في امتحان النقل إلى السنة الخامسة وتجمعنا في مكتب صاحب ومدير مدارس الأهرام المرحوم الأستاذ طه السويفي في وجود شريكه المرحوم الأستاذ محمد عبد الهادي والأستاذ علي صالح أطال الله حياته وكيل المدرسة وظهرت براعة عبد المنعم شوقي وقال للمرحوم طه إن دولة النحاس باشا كلفني أن تبلغه أنت شخصيا نتيجة امتحاننا.

وأمسك بالتليفون وطلب منزل النحاس باشا وقال له إن الأستاذ طه السويفي مدير المدارس سيخبركم شخصيا بنجاحنا أنا وعلي وصلاح.

وسارع بمناولة السماعة إلى الأستاذ طه الذي وقف من علي كرسيه يحي دولة الباشا بصفات ونعوت مختلفة ويبلغه نجاحنا وانتقالنا إلى السنة الخامسة (البكالوريا) فسر خاطر النحاس باشا وقال له إن المدارس الأهلية أخذت تجاري المدارس الأميرية، وشكره على الجهد العلمي الذي تبذله مدرسته ووعده بمساندة التعليم الحر عند عودته للحكم ما دام قد ارتقى هذا الرقي.

ثم دعاه وشريكه ووكيل المدرسة واملدرس الفرنسي مسيو أو كتاف كيفان ومدرس اللغة الإنجليزية مستر (بالمار) ومدرس التربية الوطنية المرحوم عبد العزيز وصفي لتناول الغداء على مائدته بمنزله بمصر الجديدة وكنا بين الحاضرين.

وما إن انتهى من المحادثة مع دولة النحاس باشا حتى انفجر فينا مهاجما وسألنا كيف ننجح ونحن لم نفكر في الدروس طوال العام؟

ثم تفتق ذهنه عن إحضار ثلاث شهادات بيضاء وأخذ يضع الدرجات حسب هواه، وعندما عرف رسوبنا أعطى كلا منا درجة النجاح فقط.

وكان عبد المنعم راسبا في الرياضة فأعطاه 4 درجات من 20 وكان علي راسبًا في اللغة العربية فأعطه عشرين من خمسين. وكنت راسبًا في اللغة الفرنسية فأعطاني سبعا ونصفا من ثلاثين.

وفي اليوم التالي تقابلنا بالمدرسة وذهبنا بالمدعوين إلى منزل النحاس باشا الذي أحسن استقبالهم وأصر على الإطلاع على الشهادات بعد أن تمنع عبد المنعم بدعوى أن ذلك يكون بعد الغداء.

وما إن اطلع على الدرجات السابقة خاصة في مواد الرسوب حتى ثار على الأستاذ طه، وقال له إن مدارسه بايظة لأنع غير معقول أن تكون درجة النجاح هي جهد الطالب بهذا التحديد معقول تكون أربعًا ونصفًا أو خمسًا مثلا أو ثلاثًا ونصفًا ويعتبر الطالب راسبًا؟... أما أن تتضمن الشهادة الحد الأدنى للنجاح فهي دليل على عدم نجاح التعليم الحر..

ثم أمر دولة النحاس باشا أن يحضر مدرسو المواد التي رسبنا فيها إلى الإسكندرية في الصيف لتقويتنا في هذه المواد استعدادًا للبكالوريا، وقرر النحاس باشا حبسنا طوال إجازة الصيف مع المدرسين للمذاكرة وكان لا يسمح لنا بالخروج إلا إلى البحر معه في الساعة السادسة صباحًا يوميا ونسبح معه بإشراف رائد السباحة إسحق حلمي.

مطالبة النحاس باشا بخمسمائة جنيه

من الوقائع الطريفة التي قصها على الزعيم الجليل مصطف النحاس باشا هذه الواقعة ولا يمكن لإنسان عرف النحاس باشا أن نكر عليه أسلوبه السلس وتواضعه الجم وطبيعته الشعبية. كان النحاس باشا مرآة صافية شفافة لا غموض فيها أو التواء.

كان النحاس باشا وهذا ما يعترف له به خصومه قبل أصدقائه نزيها لا يعرف غير الحق وطيبا بكل ما في المصريين من طيبة وأصالة وسماحة نفس كان النحاس باشا لا يخفي أنه كان فقيرا وكان لا يملك سوى مرتبة عندما كان قاضيًا.

وعندما اشتعلت ثورة 1919 لبي نداء الثورة وخلع وشاح القضاء وضحى بمرتبه لينضم إلى لواء سعد باشا. وعندما تفرق كبار أعضاء الوفدي من حول سعد باشا لم يبق بجواره سوى مصطفى النحاس باشا وفتح الله بركات باشا وسينوت حنا بك وويصا واصف بك ومكرم عبيد باشا الذين آمنوا بسياسة سعد زغلول زعيم الشعب ورئيس الوفد الموكل عن الأمة.

وعندما تولى مصطفى النحاس باشا منصب سكرتير الوفد كان الوفد يخصص مرتبا للسكرتير ليستطيع مجابهة أعباء الحياة.

وعندما ترك النحاس باشا رئاسة الوزراء (سنة 1930) على أثر إخفاق مفاوضات النحاس هندرسون بسبب مسألة السودان كان معاشه من الدولة 125 جنيها شهريا كان النحاس باشا يخصص منه 15 جنيها للسيدة شقيقته، كان يعطي لمديرة منزله ستين جنيها للإنفاق على لوازم المنزل، أما الباقي فكان ينفقه في شكل هبات وتبرعات، وكان رفعته كريما وسخيا لا تعرف شماله ما تعطيه يمينه.

ومما يذكر أنه خلال الثلاثينيات بدأت الدعوة لحماية الصناعة المحلية من غزو الصناعات الأجنبية بعد أن استفحل شأنها. وكان النحاس باشا في وزارة عام 1927 قد أصدر قانونا للرسوم الجمركية لحماية الصناعة الوطنية، وكان القصد منه الحد من تأثير المنتجات الأجنبية على الاقتصاد الوطني وهو القانون الذي ألغته وزارة إسماعيل صدقي باشا سنة 1930.

وبدأ لفيف من الشباب ما سمى (مشروع القرش) وهو مشروع قصد منه إقامة بعض الصناعات المصرية. وبدأت حملة التبرعات وتوجه الشاب الأستاذ أحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة أو الحزب الاشتراكي فيما بعد وهو حزب ناصب مصطفى النحاس باشا العداء بل إن أحد أعضاء مصر الفتاة حاول اغتيال الزعيم مصطفى النحاس باشا وطلب من زعيم مصر التبرع لمشروع القرش، وسارع النحاس باشا وأعطى الأستاذ وطلب حسين خمسة عشر جنيها واستبقى لنفسه جنيها واحدا، وهذه واقعة رواها أحمد حسين في كتابه (إيماني).

أما الواقعة التي أقصدها أساسا في هذا المقام.... فمن المعروف أن إسماعيل صدقي باشا تولى رئاسة الوزراء وأجرى انتخابات زائفة بعد أن ألغى دستور سنة 1923 وقامت المظاهرات في طول البلاد وعرضها تطالب بعودة دستور الأمة وخضب الأرض الدماء إذ قمعت الحكومة المظاهرات بقوة السلاح وارتكبت ما اقشعرت له الأبدان كما حدث في البداري وحلوان وغيرهما وأنزلت العقوبات بجميع المناوئين لسياستها وأنشأت بنك التسليف الزراعي الذي سخرته لأنصارها وقاومتها الأمة بزعامة مصطفى النحاس باشا الذي انضم إليه المرحوم محمد محمود باشا والأحرار الدستوريون.

وحاول صدقي باشا النيل من مصطفى النحاس باشا فأصدر دولته وكان وزيرا للمالية بجانب الرئاسة قرارًا بتخفيض معاش النحاس باشا إلى 60جنيها بحجة أن رئاسة الوزراء قد أخطأت في ضم الفقرة التي قضاها النحاس باشا في الجهاد والمدة التي نفي فيها النحاس باشا إلى سيشل مع الزعيم الخالد سعد زغلول باشا.

ولم تعلن الحكومة قرارها إلى النحاس باشا اكتفاء بإبلاغ بنك مصر الذي كان يحول المعاش إليه واستمر بنك مصر يصرف المعاش كما هو دون الخصم الذي قررته الحكمة حتى تراكم على النحاس باشا مبلغ 500 جنيه، قيمة الفرق المستحق للبنك بعد تخفيض المعاش، وفوجئ النحاس باشا بخطاب من بنك مصر يطالبه بالوفاء بهذا المبلغ.

وتسلم المطالبة الأستاذ إبراهيم فرج وكان سكرتيرا خاصا للنحاس باشا فتوجه إلى البنك حيث قابل المرحوم طلعت حرب باشا الذي استاء لمطالبة زعيم الأمة بهذا المبلغ، وصمم على مجازاة المتسبب لعدم إبلاغه أي النحاس باشا بالقرار الحكومي.

ولما علم النحاس باشا بهذه الواقعة كلف مكرم عبيد باشا برفع دعوى على الحكومة وأنصف القضاء مصطفى النحاس باشا،وألغى القرار وقبض النحاس باشا فرقا وصل إلى 1000 جنيه سدد منه دين البنك. وكان النحاس باشا يفخر بهذه القصة.

ومما يذكر في هذا الصدد.أن الوفد المصري وهو أضخم الأحزاب المصرية على الإطلاق في الحياة السياسية العامة منذ سنة 1919 حتى قام ثورة 1952 لم يكن له أمين للصندوق وكانت كافة المبالغ المملوكة للحزب مودعة في خزينة خاصة ببنك مصر باسم الناس باشا.

وعند صدور قرار إلغاء الأحزاب سنة 1953 وأيلولة أموالها للحكومة قام مصطفى النحاس باشا بتسليم الحكومة مبلغ 90 ألف جنيه هي أموال الوفد التي كانت لديه في حقيبة خاصة حتى إن أحد كبار الوفديين المقربين من رفعته أشار عليه بالاحتفاظ ولو بجزء من هذا المبلغ الكبير الذي لم يكن يعلم بعه إلا القليل من كبار الوفديين وصرخ النحاس باشا في وجهه قائلا إنه ليس مالي وأنا لا أزال الآن كما كنت قاضيا وأسكن في شبرا وغذائي طبق خضار والحلوى طبق بلح.

(الهيئة الوفدية تجتمع في محل الشيمي الكبابجي) (15 مايو سنة 1941م)

ولما كان الوفديين ملاحقين دواما من حكومات الأقلية التي يشكلها القصر لغاية ولمواجهة الوفد المصري حزب الأغلبية الشعبية فقد رأت الهيئة الاجتماع في منزل آل الشريعة بشارع سليم الأول بالزيتون.

ثم نما إليهم أن مكان الاجتماع قد علمت به وزارة الداخلية وأنها بسبيل منعه حيث لم تصرح الحكومة باجتماع عام.

وتم التفاهم مع أعضاء الهيئة على أن يذهبوا فرادى إلى الزيتون ثم ينصرفوا للاجتماع في محل الشيمي الكبابجي بميدان توفيق.

وكان السائد بين النحاس باشا ومكرم باشا أن يمر الثاني على المنزل صباحا ويخرجا معا يوميا في سيارة مكرم باشا إلى بيت الأمة.

وفي المساء يمر مكرم باشا على منزل النحاس باشا ويصرف السيارة إلى حيث تريدها عقليته عايدة هانم ثم يركبان سيارة النحاس باشا إلى بيت الأمة.

ودعاني النحاس باشا وطلب مني أن أركب سيارته مع المرحوم اللواء وحيد شوقي ابن شقيقته الأكبر، ثم نذهب إلى الزيتون على أن نسدل الستائر الخلفية للسيارة.

وغادرنا المنزل في طريقنا إلى الزيتون تلاحقنا سيارة المراقبة البوليسية بقيادة المرحوم محمد وصفي.وأوصانا النحاس باشا بأن نرد تحية الشعب لسيارة الزعيم.

وفوجئت الرقابة البوليسية بنزولنا من سيارة النحاس باشا وأنه لم يكن بها وكذلك مكرم باشا فسارعوا إلى منزل النحاس باشا الذي كان قد غادره ومعه مكرم باشا حيث عقدت الهيئة الوفدية اجتماعها برئاسته في الشيمي الكبابجي.

الخلاف بين الملك والنحاس .. قديم

على أن كاتب هذه الذكريات الذي عاصر النحاس باشا في منزله منذ عام 1935 يرى أن العلاقات السيئة بين الملك والنحاس كانت قائمة منذ ولي الملك سلطاته الدستورية عام 1937 وقد حدث الانقسام الثاني في الوفد في هذا العام وكان الأول عام 1932 لما خرج ثمانية من أعضاء الوفد عليه وأطلق عليهم الأستاذ محمد التابعي (السبعة ونصف) وكان هذا النصف هو علي الشمسي باشا لقصر قامته ...

عندما أعاد النحاس باشا تشكيل وزارته تولى املك سلطاته بدأت الاحتكاكات بين ملك البلاد الشاب وزعيم الشعب صاحب التاريخ الوطني الطويل العريض النزيه المؤمن.

وكان ثلاثة ينفخون في النار.. علي ماهر أحمد حسنين الشيخ محمد مصطفى المراغي، وتفاقمت الخلافات وشارك كثيرون ممن لهم مصالح في توسيع شقة الخلاف ومن النوادر اللطيفة أن هؤلاء السعادة أرادوا إقلاق راحة النحاس باشا وهو يستجم في رأس البر حيث تلقى تبليغا ملكيا بأنه ليس من سلطات الحكومة تعين موظفي القصر وخصوصا إذا كان الموظف أجنبيا.

وعاد النحاس باشا إلى القاهرة وطلب مقابلة الملك الصغير ثم أخذ يشرح له الحدود الدستورية وسلطات الحكومة المنتخبة من الشعب وأنه شخصيا يعتبر نفسه المستشار الأول للملك وفقا للدستور (أبوك كان يعاملني كده) فثار الملك وقال (مستشار إيه.. أبويا بتجيب سيرته بالطريقة دي إزاي؟ أنت ناقص تقول لي إنك تعين الحلاق اللي يحلق لي ذقني) وأمسك الملك بذقنه فقال النحاس باشا ده يكون أحسن لراحتك ولحمايتك من كل مساءلة)

في هذا الجو نسج المتآمرون خيوطهم بعناية ودهاء شديد وراحوا ينشرون في المجالس السياسية والمنتديات أن الملك لا يكره حزب الوفد وأنه خاضع للدستور ولا يمكن أن يحرم الأغلبية الشعبية من تولي الحكم، ولكنه لا يحب النحاس باشا أو أنه يستثقل دمه...)

وهل خلا الوفد من الأشخاص وعقمت فيه الزعامات بحيث صار النحاس باشا صاحب الأمر والنهي المفرد الذي يوجه السياسة في كل شيء وفي أي قرار؟

أو ليس من الأولى اختيار شخصية وفدية ممن يثق بهم النحاس باشا تؤلف الوزارة ويوجهها هو من وراء الستار كما يحب ويشاء؟

وقد تزعم هذه الدعوة المرحوم علي ماهر باشا الديوان الملكي ربما ليصل بشقيقه المرحوم الدكتور أحمد ماهر باشا إلى رئاسة الوزارة ويقصي النحاس باشا الذي خلف سعد باشا في زعامة الشعب والوفد، وبقي علي ماهر باشا محدود الصلة بالشعب.

والدكتور أحمد ماهر باشا له تاريخه الوطني المعروف وكان أحد البارزين في الوفد وكان وزيرا للمالية في وزارة سعد باشا سنة [1924]] التي استقالت عقب مقتل السردار.

وحاكم الإنجليز الدكتور ماهر والمرحوم محمود فهمي النقراشي وكان سعد باشا يشرف على دفاع المحامي عنهما. وكان من شأن هذه التنحية لو تمت الحد من نفوذ مكرم عبيد باشا في الوفد وأبلغ الدكتور ماهر باشا النحاس برأي الملك فيه، وبأنه لا يمانع في تولي الوفد الحكم ولكن ليس برئاسة النحاس باشا.

فقال له النحاس باشا: يا أحمد لا تصدق أن هذا الكلام يراد به الحق والصدق.. فرد الدكتور ماهر: هل نضيع الدستور لأجل أشخاص أو لعدم الاستلطاف الملكي؟

وكما هو معروف احتكم الدكتور ماهر باشا إلى الهيئة الوفدية بخطاب استمر أربع ساعات دار حول إنقاذ الدستور واختفاء النحاس باشا بعض الوقت وانتهى الأمر بخروجه من الوفد بعد خروج النقراشي باشا حيث كونا معا الهيئة السعدية حزبا منشقا على الوفد.

على أن القصر ورئيس الديوان علي ماهر قد انتهى بهما الأمر إلى تولي المرحوم محمد محمود باشا رئاسة الوزارة حتى لا يكون الإخوان رئيس الديوان ورئيس الوزارة هما المسيطرين علي السياسة العليا في البلاد وذلك بعد إقالة النحاس باشا.

وزارة 4 فبراير 1942 وتضحية النحاس باشا

واستمرت علاقة الأبوة مع النحاس باشا حتى ولي الحكم يوم 4 فبراير سنة 1942 وأصدر قرارا بتعييني في الحكومة.

ولقد كتب الكثيرون عن أحداث 4 فبراير 1942 وتناولتها وثائق وزارة الخارجية البريطانية التي أعلنت رسائل السفير البريطاني إلى حكومته وقرار حكومة الاحتلال خلال احتدام الصراع البريطاني مع دولتي المحور ألمانيا وإيطاليا واليابان.

ولن نتوسع كثيرا في هذا الميدان، ولكن واجبنا كمراقبين ومطلعين على صور الأحداث في مصادرها يدعونا إلى القول بأن الملك فاروق كان ألماني النزعة يعلن ذلك في مجالسة الخاصة وتصل أخباره إلى السفارة البريطانية.

وكان الملك فاروق يشارك من قلبه شعبه في كراهية الاحتلال الإنجليزي وكانت له اتصالاته الخاصة مع المحور، حتى إن السلطات العسكرية البريطانية استولت على القصر الملكي في رأس التين بدعوى أن اتصالات خاصة كانت تتم منه في الليل وقد روي لنا الأستاذ الحسيني زعلوك.

وكان وثيق الصلة بالنحاس باشا أن النقاط الهامة في الخطاب الذي أعلن فيه النحاس باشا في رأس البر في صيف 1941 أن الإنجليز يستغلون قوت الشعب المصري حين يستولى على أقطانه بالسعر المنخفض الذي كان سائدا وكانت الخطة متفقا عليها بين أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي وبين النحاس باشا بوساطة الأستاذ الحسيني زعلوك.

وكان وثيق الصلة بالنحاس باشا أن النقاط الهامة في الخطاب الذي أعلن فيه النحاس باشا في رأس البر في صيف 1941 أن الإنجليز يستغلون قوت الشعب المصري حين يستولون على أقطانه بالسعر المنخفض الذي كان سائدا وكانت الخطة متفقا عليها بين أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي وبين النحاس باشا بوساطة الأستاذ الحسيني.

هل أتحدث عن بعد نظر النحاس باشا، وهو الذي أعلنت وثائق الخارجية البريطانية أخيرا أنه نبه إلى أخطار إ،شاء دولة صهيونية في فلسطين عام 1937؟

وهل أقول وهو قول حق، كررته الوثائق إن جميع من عملوا في المجال السياسي والحكومي كانوا يتلقون توجيهات السفارة البريطانية ومن قبلها دار المندوب السامي بصورة أو بأخرى؟

وأنه كان لكل رأيه السياسي في المفاوضات والمراحل أو الجلاء الناجز برا وبحرا وجوا كما أصر المرحوم صاحب الدولة أحمد نجيب الهلالي باشا.

لقد أدرك النحاس باشا برصيده السياسي، أن قرار الحكومة البريطانية قد استقر على عزل الملك فاروق. وكثيرا ما سمعت النحاس باشا يفتخر بالدستور وأن الوفد المصري هو حامي الدستور في دولة ملكية دستورية أقسم دولته يمين الولاء والطاعة لهذا الدستور.

وقد فسر النحاس باشا قبوله لوزارة فبراير 1942 في خطابه يوم 13 فبراير سنة 1945 وفي أثناء رئاسة المرحوم النقراشي باشا للوزارة

وقال:

إنه ضحى يوم 4 فبراير بقبوله رئاسة الوزارة بعد الإنذار البريطاني وأنه قدم التضحية راضيا ليجنب البلاد هزة كبرى يعزل الملك فاروق.

الملك فاروق يكلف النحاس باشا بإحضار نازلي من القدس

نشب خلاف بين الملك فاروق ووالدته في أثناء رئاسة النحاس للوزراء سنة 1942 وذلك بسبب علاقة الملكة نازلي مع أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي حينذاك وقد هجرت الملكة القاهرة إلى القدس ونزلت بفندق الملك داود حيث نما إلى علم الملك فاروق بعض التصرفات غير اللائقة بها فاستدعى الملك النحس باشا وأبلغه قائلا له:

إن والدتي تحبك وتحب زينب هانم وأرجو أن تسافر لإحضارها وبالفعل سافر النحاس باشا وقرينته إلى القدس نزلا بالفندق لمدة أسبوع واتصل رفعته بالملكة وحاول إقناعها بالعودة ولكنها اشترطت أن تستقبل في محطة مصر استقبالا رسميا فوافق النحاس باشا على ذلك ثم طلبت أن يكون الملك نفسه على رصيف المحطة في استقبالها ووعدها النحاس باشا بذلك فقالت له (هل تضمن ذلك) فقال لها إذا رفض فسأخبرك تليفونيا)

وقفل النحاس باشا والسيدة قرينته عائدين إلى القاهرة ثم قابل الملك وروي له ما حدث فأصر الملك على ألا يذهب إلى المحطة وأن يكفي للاستقبال الرسميون وتشريفه من الحرس الملكي.

وحاول النحاس باشا إقناع الملك بأساليب مختلفة ولما رأى إصراره على موقفه قال له (إذا كنت تريد سماع نصيحتي فسأتصل بها تليفونيا وأبلغها بالموقف حسب وعدي لها وهذا ليس لأجل خاطري ولكن لأجل خاطرها وخاصة وأنها أمك)

فنزل الملك عند رأي النحاس باشا الذي اتصل بالملكة تليفونيا وأبلغها بالموافقة على طلباتها وعادت إلى القاهرة وكان الملك على رأس الاستقبال الرسمي.

كاد الوفد أن يخلع الملك سنة 1943 ويعلن الجمهورية؟

وإذا كان قد بدا في السطور السابقة دفاع عن سياسة المرحوم النحاس باشا مع الملك فاروق رحمة الله عليه وحرص النحاس باشا على ألا تتعرض البلاد فهزات في رمزها الأعلى، فإن مباذل الملك فاروق وسهراته التي شاعت في مصر وخارجها وأسلوبه في معاملة زعيم الشعب ذي الكفاح والتاريخ الوطني الطويل حتى وصل الحال إلى أن أمر الملك بألا يرافقه النحاس باشا في السيارة الملكية في بعض الاحتفالات الدينية وهي من المراسيم التي جرى العمل بها من قديم وظهر أن الملك وحاشيته وفي مقدمتهم المرحوم أحمد حسنين باشا سائرون في سياسة غير وطنية وغير كريمة بحيث أصبح رمز البلاد مضغة في الأفواه ورأى كبار الوفديين عز الملك عن العرش.

وعرض الأمر على مجلس الوزراء فأقره هذا الاتجاه وعهد إلى المرحوم أحمد نجيب الهلالي باشا بأن يصوغ بأسلوبه الدقيقة العميق مبررات خلع الملك فأعد بيانا وسلمه إلى الأستاذ محمود سليمان غنام باشا وزير التجارة الذي ذهب إلى مكتبه فأغلقه عليه وحده وأخذ في تبيض مسودة نجيب باشا.

ولما انتهى من ذلك ذهب إلى منزل النحاس حيث كان الوزراء لا يزالون موجودين وتم توقيعهم جميعا على البيان كقرار صادر من مجلس الوزراء يخلع الملك فاروق وإعلان الجمهورية.

ويبدو أن هذا القرار كانت فيه جوانب من المناورة، فقد كان الشائع وقتذاك (1943) أن فرقا خاصة من ضباط الجيش قد نظمت للاعتداء على النحاس باشا ووزرائه انتقاما من قبوله رئاسة الوزارة في 4 فبراير وأن حسنين باشا كان وراء هذه التنظيمات وكان الملك يرتاح لهذه الأسلوب من السياسة.

على أنه بعد أيام توجه المرحوم عبد الحميد عبد الحق باشا إلى منزل النحاس باشا وأبلغه أن قرار عزل الملك فاروق قد نما إلى علم السفارة البريطانية وأنها تشجع هذا الاتجاه وأن عبد الحق باشا علم بذلك م أمين عثمان باشا.

عندئذ طلب النحاس باشا مسودة القرار التي كتبها الهلالي باشا وأشرف على حرقها في دورة المياه.أما قرار مجلس الوزراء المكتوب بخط غنام باشا فقد أخذه عنده.

وقد بذلت جهدا في البحث عن هذا القرار وعلمت أنه لم يكن ضمن الأوراق التي تركها النحاس باشا ومنها بعض مذكراته ومذكرات المغفور له الزعيم سعد زغلول، وأنه قد جري مثل هذا البحث بوساطة فؤاد سراج الدين باشا وأحمد حمزة باشا وغنام باشا وإبراهيم فرج والدكتور محمد محفوظ بك طبيب العيون والأستاذ محمود شوقي ابن شقيقة النحاس باشا.. ولم يعثر أحد على القرار.

أحمد حسنين باشا

حين نسرد صور هذه المرحلة السياسية نرى لزاما علينا القول أن أحمد حسنين باشا رئيس الديوان كان يتعجل رئاسة الوزارة بعد أن أبعد عنها علي ماهر باشا وبعده وفاة محمد محمود باشا وأنه في سبيل غايته في الرئاسة ملأ فكر الملك فاروق بن النحاس باشا قد أضعف سلطان الملك لما قبل الوزارة بطلب الحكومة البريطانية.

وتحدثت الوثائق التي نشرت أخيرا عن تشكيله وزارة في إبريل 1944، لم توافق عليها الحكومة البريطانية.

وقد كان مكرم باشا يعمل بوحي من أحمد حسنين باشا. واستطاع أحمد حسنين باشا أن يقنع الملك بأن النحاس باشا لو رفض قبول الوزارة لما استطاع الإنجليز الاعتداء على عرش مصر.

رأي في الأزمة 4 فبراير

يري المرحوم الأستاذ محمود سليمان غنام باشا أنه برغم أن أمين عثمان كان يتدخل كثيرا بين النحاس باشا والسفارة البريطانية، وما قيل من أن النحاس باشا كان متصلا بحادث 4 فبراير قبل الإنذار البريطاني فإن ظواهر الأمر وسفر النحاس باشا إلى أسوان، تدل على أنه فوجئ بتطور الأحداث.

ولقد امتاز النحاس باشا بالصدق ولو على نفسه. ويأسف غنام باشا لأن مكرم باشا الذي كان يقدس النحاس باشا ورافقه في أحداث 4 فبراير، لما خرج عليه وأسس الكتلة الوفدية، تناقلت الأنباء أن كامل اسحق عضو مجلس النواب عن نجع حمادي أبلغ مكرم باشا أن النحاس باشا قد تباحث مع شخصية إنجليزية قبل الأحداث في أسوان.

وأن مكرم باشا ارتاح إلى هذه الشائعات ورجها مع حسنين باشا انتقاما من النحاس باشا الذي احتضن فؤاد سراج الدين باشا.

مكرم عبيد باشا يتقرب للقصر

لاحظ النحاس باشا في وزارة فبراير 1942 أن مكرم باشا وزير المالية كثيرا ما ينفذ رغبات القصر الملكي مما يدخل في اختصاصه من غير تشاور أو إعلام للنحاس باشا.

وحدثه في الأمر وتكرر التنبيه بأن يطلعه على الرغبات الملكية قبل تنفيذها للتفاهم بشأنها أو على الأقل للعلم بها.

وظهرت عند مكرم باشا نغمة لم يشهدها النحاس باشا من قبل فقد كان رده أن هذه الرغبات من اختصاص وزير المالية وحده.. وبدأ الشقاق وازداد حتى خرج مكرم باشا من الوزارة وأصدر الكتاب الأسود.

ماذا كان في الكتاب الأسود:

وكنت مع الأستاذ محمود شوقي مدير مكتب النحاس باشا رئيس الوزراء وبن شقيقته تتردد كثيرا على صديق يقطن فيلا بكوبري القبة بشارع سليم الأول وكان يشاركنا هذه الزيارات زميل لنا كان يرأس مكتب الشكاوي بالرئاسة الذي تصادف ذات يوم أن سبقنا إلى هذه الزيارة حيث أخرنا عطل في السيارة حتى سبقنا رجال البوليس إلى الفيلا واعتقوا زميلنا رئيس مكتب الشكاوي ومعه مظروف به بعض الأوراق الرسمية الخاصة برئيس الحكومة.

وعلمنا فيما بعد أن الكتاب الأسود كان يوزع في أشولة من حجرة في الفيلا ولم تنفع شفاعة محمود شوقي لدى خاله لإقناعه ببراءة رئيس مكتب الشكاوي وبقي معتقلا حتى أقبل النحاس باشا في 8 أكتوبر سنة 1944، وجاء مكرم باشا وزيرا للمالية من المعتقل ليفرج فورا عن زميلنا ويصبح من رجاله الذين رعاهم بالترقية الاستثنائية والعلاوات. وأود أن أذكر أن كل ما تناوله الكتاب عن استغلال مادي لم يتجاوز عشرة آلاف جنيه بكثير.

أيضا:

قص على المرحوم محمود سليمان غنام باشا أنه يرى أن صدور الكتاب الأسود كان بتحريض من أحمد حسنين باشا وأن الأستاذ محمد التابعي تناول الموضوع في كتابه مشيرًا إلى توجيهات الملك وحسنين باشا، بعد سوء التفاهم الذي ساد بين القصر والوزارة بعد 4 فبراير.

ورئي النيل من أحمد حسنين بطريقة أو بأخرى، وتقدم أحد نواب الوفد بسؤال في مجلس النواب عن دين مطلوب من أحمد حسنين باشا لوزارة المعارف التي يتولاها نجيب الهلال باشا وأعلن الوزير في المجلس أن أحمد حسنين باشا كلف مدرسة الصناعات الزخرفية في بولاق بصناعة طقم خشي لمنزله، ولم يدفع الثمن برغم مضي وقت طويل على لسمه هذا الطقم وضج حسنين باشا من علانية هذا الموضع وإثارته في البرلمان، ثم وسع حسنين باشا من أساليبه السياسية فكان وهو رئيس الديوان الملكي يجري اتصالات مع معارضي الحكومة الوفدية.

وقال إنه سمع من الأستاذ فايق قصجي الذي شارك في توزيع الكتاب الأسود أن توزيعه كان يتم بوساطة سيارات الجيش بأوامر من الفريق إبراهيم عطا الله باشا رئيس الأركان وبتوجيه ملكي.

وأن مكرم باشا انقلب على القصر لأنه لم يتعين رئيسًا للوزراء ولم يحظ حزب الكتلة بالعدد المناسب في انتخابات 1945 التي أعقبت إقالة وزارة النحاس باشا وحل مجلس النواب الوفدي وغدا مكرم باشا ينشر في الكتلة بقلم حكيم كلاما فيه غمزا ولمز للملك فساءت علاقته بالملك وحسنين باشا.

وقد أخذت الوزارة الوفدية تبحث عن المكان الذي طبع فيه الكتاب الأسود وكان النحاس باشا وزيرا للداخلية ومحمود غزالي بك مديرا للأمن العام الذي لم يصل بسبب أو لآخر لمعرفة المكان فانتدب النحاس باشا عبد الفتاح الطويل باشا بصفة غير رسمية لينوب عنه في وزارة الداخلية.

ثم يستطرد غنام باشا قائلا:

وعينني وكيلا برلمانيا بهذه الوزارة حيث جاءني ذات يوم شاب أخبرني أن شخصًا في بني سويف أعور وأخاه اسمه كمال وهو طبيب قد توليا طبع الكتاب الأسود، فذهبت إلى عبد الفتاح باشا بوزارة الداخلية وأحضرنا محمود غزالي بك لمناقشة هذه المواضيع التي قد توصل إلى مفتاح الحقيقة، ثم أحضرت الأميرالاي محمد يوسف من القسم السياسي بالمحافظة وتحرينا عن هذه المعلومات فأفاد أن الكتاب طبع في بيت نجيب إبراهيم باشا في القبة وتناقشت مع عبد الفتاح باشا بحضور غزالي بك وقد وصلوا فعلا إلى المكان والشخص.

حول خروج مكرم عبيد من الوفد

تعددت الأسباب التي دعت إلى خروج مكرم باشا من الوفد والوزارة ولقد اشتعلت نار الخصومة الحادة التي خاض غمارها مكرم عبيد باشا دون هوادة، بل دون مراعاة واجب الزمالة التي ربطته بصديق العمر: مصطفى النحاس باشا منذ فجر الحركة الوطنية سنة 1919.

وأرى أن هذه الأسباب ترجع إلى ما يلي:

  1. أن مكرم باشا قد أعتاد أن يلعب دور المستشار الأول والأوحد لمصطفى النحاس باشا طوال الفترة من 1927 إلى 1942 ولم يكن هناك راد لكلمته أو مشيئته، ولا نزاع أن مكرم عبيد باشا كان كفئا وذكيا ووطنيا وعبقريًا، من الطراز الأول، ولكنه كان أيضًا شخصًا يريد السيطرة ولا يرضى المشاركة في النفوذ ومن هنا.كانت نقطة الضعف فيه كأي إنسان آخر، معجب بذاته عن حق وبتقديس هذه الذات، ولذلك فقد أغضب الجميع.. وعندما أحس بتقلص نفوذه بدأ الهجوم خفيا تارة، وصريحا تارة أخرى بما لا يتفق والحياة الحزبية السليمة.
  2. أن النحاس باشا رأى ألا يغضب باقي أعضاء الوفد وبخاصة بعد انفصال ماهر والنقراشي وكانا وطنين كبيرين وقد سبق لهما أن اشتكيا من تسلط مكرم باشا. وتكونت رواسب لدي مكرم باشا، وحاول البعض تنقية الجو بينه وبين مصطفى النحاس باشا، ولكنه كان يفتأ أن يعود إلى سيرته الأولى من إغضاب باقي أعضاء الوفد.
  3. أن مكرم باشا قابل الملك بناء على دعوة منه دون أن يستأذن النحاس باشا مخالفا بذلك التقاليد.
  4. أن القصر وخاصة أحمد حسنين باشا قد استغل نقاط الضعف في مكرم باشا استغلالا كبيرا.

وكان مكرم باشا كالنار لا يبقى ولا يذر، فاستجاب لدسائس القصر، وخرج على الصداقة التي امتدت منذ سنة 1919 بل إن مكرم باشا كان يستجيب لمطالب القصر الملكي التي تدخل في اختصاص وزير المالية دون إبلاغ أو استئذان رفعة النحاس باشا وقد عاتبه فعته في ذلك فكان رده على زميل الجهاد غريبا حيث قال له إن هذه المطالب يختص بالرأي فيها وزير المالية.

رحم الله مكرم باشا .. لقد كان وطنيا مخلصًا، ولكنه كان إنسانًا جبل على طبيعة الإنسان بما فيها من نواحي الضعف والقوة. لقد أدرك مكرم باشا لقد كان وطنيا مخلصا ولكنه كان إنسانا جبل على طبيعة الإنسان بما فيها من نواحي الضعف والقوة.

لقد أدرك مكرم باشا هذه الزلة بعد أن تعاون مع أحمد حسنين باشا أو أحزاب الأقلية سنوات فعندما توفي المرحوم صبري أبو علم باشا سكرتير الوفد المصري الذي خلف مكرم باشا، شوهد مكرم باشا يقبل النحاس باشا في سرادق العزاء.

فهل كان المرحوم مكرم باشا يأمل أن تعود العلاقات بينه وبين النحاس باشا ويعود سكرتيرا عاما للوفد؟ وقد اشتهر عن مكرم باشا أنه بعد انتخابات 1945 التي لم يتقارب حزبه الكتلة الوفدية في مقاعد مجلس النواب من حصة حزب السعديين وحزب الأحرار الدستوريين أنه قال.لقد أقمت هذا النظام وعلي أن أهدمه.

حادث القصاصين

وصل الخلاف بين القصر والوزارة إلى أن النحاس باشا لم يتوجه مع وزارته إلى القصاصين لتهيئة الملك بنجاته، ولم يكن مصطفى باشا هو البادئ في هذا المجال.

بل إن مصطفى باشا اعترض على منح مدير الشرقية الأستاذ محمود عبد الرحمن صهر حمدي باشا سيف النصر وزير الحربية رتبة البكوية بأن منح الرتب إنما تتقدم الحكومة بطلبه من جلاله الملك لا أن يمنحه هو ولو بنطق ملكي، فقد يكون الموظف المنعم عيه يحاكم تأديبيا أو ليس أهلا بين زملائه لأن تتقدم الحكومة بطلب الإنعام عليه (وقيل آنذاك إن الملك طلب ألا يزوره النحاس باشا)وهكذا.. ساءت العلاقات.

لكن اللواء وحيد شوقي كان يرسل يوميا –صباحا ومساء- باقة ورد إلى الملك في القصاصين ويكتب على كل منها (صباح الخير يا مولانا) (مساء الخير يا مولانا)

إقالة النحاس باشا سنة 1944

وفي يوم 8 أكتوبر سنة 1944 وحوالي الثانية والنصف بعد الظهر كان الملك خارجا من قصر رأس التين فشاهد اللواء وحيد شوقي مدير خفر السواحل عائدا إلى منزله من مكتبه بالأنفوشي في الطريق وقال له إنتوا لسه قاعدي؟

وارتبك وحيد وقال: إننا قاعدون برضاك وعطف جلالتك.وجاءني وحيد في بولكلي وروي هذا الحادث دون تعليق.وكنا نعمل في بولكلي بصفة غير رسمية حيث لم تنتقل الحكومة، وربما كان عدم انتقال الحكومة مديرا من القصر حتى لا يشارك النحاس باشا الملك في السفر بالقطار أو يلتقي معه على المأدبة الملكية في المنتزه كما جرت العادة كل صيف وكان النحاس باشا يقيم في فندق سيسل.

وتواترت الأخبار عن الإقالة النحاس باشا وتولي الدكتور أحمد ماهر باشا رئاسة الوزارة. وقد استغل القصر حادث اليفط في مصر القديمة والتي قرنت اسم النحاس باشا بالملك في الاحتفال بالجمعية اليتيمة في جامع عمرو، وأن وزير الداخلية فؤاد سراج الدين باشا قد أحال المرحوم محمود غزالي بك مدير الأمن العام إلى المعاش لأنه نفذ أمر الملك بإزالة اليفط حتى لا يراها بعد الصلاة دون الرجوع لرئيسه وزير الداخلية قبل ذلك بأيام قليلة.

ورأينا أنا وزملائي موظفو الرئاسة أن نغادر بولكلي إلى فندق سيسل وكان المرحوم اللواء إبراهيم عطا الهأ رئيس أركان حرب الجيش قد أعارنا سيارتين لاستعمالها لنا رسميا حيث لا نستطيع استعمال سيارة الرئيس لأن الوزارة لم تنتقل للأسكندرية رسميا.

ونزلنا قبيل الساعة الخامسة بدقائق فلم نجد سيارات الجيش هدية عطا الله باشا لنا وركبت تاكسي إلى فندق سيسل حيث علمنا أن النحاس باشا قد تسلم كتاب الإقالة من حسن يوسف بكل وكيل الديوان الملكي وقتذاك في تمام الساعة الخامسة، حيث كان الدكتور أ؛مد ماهر باشا قد جلس على كرسي الرئاسة في القاهرة في الموعد ذاته. وكلفنا النحاس باشا أن نذهب في الصباح إلى أعمالنا بالقاهرة.

لقائي مع وزير الحربية

وتولى وزارة الحربية حيث كنت أحد موظفيها ومنتدبا تشريفيا بالرئاسة المرحوم الأستاذ السيد سليم باشا وشاهدته يوم 9 أكتوبر لأول مرة صاعدا إلى مكتبه ومعه في المصعد الأستاذ جلال الحمامصي والملازم أول السيد فرج والمرحوم صلاح ندا.

واستقبلت الوزير محييا وقدمني إليه جلال الحمامصي ودخل إلى مكتبه وهم معه وجلست عند سكرتيره الخاص المرحوم إمام سلطان. وبعد فترة استدعاني الوزير وسألني عن أسرار صرف المصاريف السرية في عهد النحاس باشا وكان ردي أن اسم هذا المبالغ يجعلها من السرية التي لا يصح الإباحة بها في مثل هذا الاجتماع على الأقل فأذن لي بالانصراف.

ثم استدعاني وهو منفرد في مكتبه وأعاد السؤال فوجهت إليه عبارات مهينة معتمدا على أننا وحدنا ولا مسئولية علي.

فثار الوزير واستدعى المرحوم: إمام سلطان والصاغ حافظ أبو الشهود فسارعت بالقول عن إذن معاليك يا معالي الوزير، وغادرت المكتب لأكتب استقالتي من الوظيفة في مكتب المرحوم المهندس عبد الخالق صابر وكيل الوزارة معلنا تبرعي بمرتب الأيام التسعة الأولى من أكتوبر للترفيه عن الجنود والمرحوم السيد سليم كان أحد المحامين النابهين في أجا بمديرية الدقهلية وكان عضو الكتلة الوفدية بزعامة المرحوم مكرم عبيد باشا.

ولقاء مع الدكتور أحمد ماهر باشا

ويوم 10/ 10/ 1944 استدعاني المرحوم الدكتور أحمد ماهر باشا إلى رئاسة الوزارة وألح علي أن أسحب الاستقالة وأبقى معه في الرئاسة كما كنت مع النحاس باشا، فاعتذرت فعرض علي أن أرشح نفسي على مبادئ حزب الكتلة الوفدية في بلدتي فديمين بالفيوم واعتذرت أيضا.

لماذا نقل قنصل القدس

في أثناء تولية سراج الدين باشا وزارة الداخلية في الوزارة الوفدية (42/ 1944) كان الأستاذ أحمد زكي سعد مديرا عاما للجوازات، وكان مدير الجوازات دائما يخشى سطوة السراي بعد أن كان يرفض الوزير تدخلها لعدم قانونية ما تطلبه وكان يخشى أن تقال الوزارة وما يتعرض له من جزءا وبناء على رغبته رشح للعمل مديرا عاما للبريد بشرط ترشيح ثلاثة من بينهم الأستاذ أحمد رمزي بك الذي كان قنصلا بالقدس للعمل مديرا للجوازات وفعلا تولى رمزي بك هذا المنصب.

وفي أثناء مباراة أقيمت بين النادي الأهلي ونادي فاروق (الزمالك) وكان وزير الداخلية من كبار المشجعين للنادي الأهلي كما كان رئيس الديوان الملكي:

أحمد حسنين باشا من أنصار النادي الأهلي وكان حيدر باشا من أنصار نادي الزمالك فاروق.وهز النادي الأهلي.وأراد الملك أن يغيظ رئيس الديوان بسبب الهزيمة التي وقعت لناديه

ولكن فؤاد سراج الدين باشا أجاب الملك:إننا لم نهزم لأن النادي يحمل اسم جلالتك.وضحك الملك.وفي أثناء الاستراحة وعند تناول الشاي طلب الملك نقل الأستاذ أحمد رمزي بك من وظيفته إلى وظيفة خارج الوزارة. ولكن الوزير رفض بأدب لأن رمزي بك لا تشوبه شائبة، ولا يمكن نقله دون سبب.وانتهى الأمر عند ذلك الحد.

وعندما قابل رمزي بك وزير الداخلية سأله عن سبب غضب السراي عليه وطلبها نقله قال:

إن الملك كان يدعو للخلافة الإسلامية، وأرسل بعثة برئاسة الفريق عمر فتحي باشا والأميرالاي أحمد كامل بك والقائم مقام محمد حلمي حسين طافت بالبلاد العربية مروجة لهذه الفكرة. وكان آخر جولتها فلسطين.

ولكن القائم مقام محمد حملي حسين بك طلب مني أن أعمل حفلة بها ستات ولكن اعتذرت لأني رجل محافظ. وعند عودة البعثة قال عمر فتحي إننا طفنا البلاد العربية فقوبلنا في كل مكان بالحفاوة والترحيب إلا في القدس لأن أحمد رمزي القنصل زوج كريمة عثمان محرم باشا وينقل إليه كل الأخبار والأسرار وأصر فؤاد باشا سراج الدين على عدم عزل أحمد رمزي بك.

وفي 8 أكتوبر سنة 1944 أقيلت الوزارة الوفدية. وكان أول عمل للوزارة التي شكلها أحمد ماهر باشا أن نقلت أحمد رمزي بك إلى وزارة التجارة والصناعة.

النحاس باشا والإخوان المسلمون

بدأ الإخوان المسلمون بجمعية دينية لا دخل لها بالسياسة منذ سنة 1928 بالإسماعيلية برئاسة المرحوم الأستاذ حسن البنا حيث كان يعمل مدرساي هناك، وبدأ ينشر الدعوة الدينية خلال الثلاثينيات وقد جذبت الدعوة الدنية الكثيرين.

وفي أوائل الأربعينات اقتحمت هذه الجماعة ميدان السياسية ورشح المرشد العام الأستاذ البنا نفسه عن الإسماعيلية لعضوية مجلس النواب سنة []1924]].

وقد استدعى النحاس باشا الأستاذ البنا بمكتبه برئاسة مجلس الوزراء حيث أفهمه أن سياسة الحكومة تسمح بالدعوة الدينية للجماعة على ألا تعمل هذه الجماعة بالسياسة أو تقحم نفسها فيها.

ولم يحتدم الخلاف بين الوفد والإخوان المسلمين إلا بعد أن تولى المرحوم إسماعيل صدقي كرسي الوزارة سنة 1946 حيث أراد أن يواجه الوفد بالإخوان المسلمين.

ويروي فؤاد باشا سراج الدين أن علاقة الإخوان بالوفدي كانت طيبة وأنه خطب ذات يوم بالمركز العام بالحلمية وشجع الجمعية بوصفه وزيرا للشئون الاجتماعية.

ثم قال إنه يأسف لتدهور العلاقات بين الوفد والإخوان فيما بين عامي 1945 و 1950 حيث تغيرت الصورة تغيرا كبيرا إذ حاولت الحكومات أن تتخذ من الإخوان قاعدة شعبية لمحاربة الوفد، وقد مهد لهم حسنين باشا وغيره الذي كن يتصل بزعمائهم كما اتصل بهم إسماعيل صدقي باشا لاستغلالهم في المجال السياسي.

ولما شعر المرشد العام بهذا الاهتمام دارت رأسه وظن أنه أصبح زعيما حيث يتودد إليه القصر وكذلك الحكومات والأحزاب وكان الوفد يساعده ولكن في حزم إذ أنه في عام 1944 تلقي وزير الداخلية تقريرا بأن الإخوان يستقبلون المرشد العام بمظاهرات في الشوارع وموسيقي وهم في ملابس المليشيا.

فاستدعي المرشد العام وخبره بأن تظل الجماعة جمعية دينية أو تتحول إلى حزب سياسي يمكن أن تعامله الحكومة كما تعامل باقي الأحزاب، ولكن المرشد العام قال إنه لا يستطيع أن يستعيض بالدعوة إلى الله أي دعوة أخرى وأعلن أنه سيوقف كافة هذه الإجراءات.

الوفد والدفاع المشترك مع بريطانيا

تضمنت معاهدة 1936 نصا يقضي بجواز النظر في أحكامها بعد انقضاء عشر سنوات من توقيعها. وفي أواخر عام 1945 طالب المرحوم محمود فهمي النقراشي باشا من الحكومة البريطانية فتح باب المفاوضات للنظر في تعديل المعاهدة وخاصة بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية وما قدمته مصر من تضحيات وخدمات لصالح الحلفاء ولكن وزارة النقراشي باشا استقالت من الحكم إثر حوادث الطلبة سنة 1946 وخلفتها وزارة إسماعيل باشا صدقي الذي ما لبث أن عقد مفاوضات مع بريطانيا انتهت بمشروع الاتفاقية التي عرفت باسم (صدقي- بيفن).

ويلاحظ أن الوفد المصري أتباعا لسياسة إنهاء الاحتلال وعدم ربط مصر بأي قيود أو محالفات عسكرية أو غيرها مع الحكومة الإنجليزية قد ندد بسياسة الدفاع المشترك التي سادت عهد إسماعيل صدقي وانتهت بإسقاط مشروع الاتفاقية واستقالة إسماعيل صدقي من الوزارة.

وكان صدقي باشا قد حاول إشراك الوفد في وزارته أو اشتراكه في هيئة المفاوضات مع بريطانيا ولكن الوفد أصر على سياسته بأن يتولي الحكم دون مشاركة من أحزاب الأقلية ومن ثم رفض الاشتراك في الوزارة في الهيئة التي تولت المفاوضات مع لورد ستانسجيت رئيس الوفد البريطاني.

وقد ثارت الصحف الوفدية على سياسة صدقي باشا مما اضطره إلى مصادرتها أولا ثم إلغاء تراخيص إصدار بعض هذه الصحف وزج بمحرريها في السجون.

وكانت الحكومة البريطانية قد طلبت إشراك الوفد في المفاوضات فلما لم يشترك ما طلت في توقيع المعاهدة الجديدة رسميا بعد أن وقعت بالحروف الأولى في لندن بوساطة إسماعيل صدقي باشا وإبراهيم عبد الهادي باشا وزير الخارجية بعد استقالة لطفي السيد باشا من هذه الوزارة لعد موافقته على النص النهائي للمعاهدة الجديدة.

الملك يضمن المعاهدة مع بريطانيا

عندما شعر إسماعيل صدقي باشا بأنه لن يصل مع الإنجليز إلى اتفاق ما .. رأي الملك فاروق أن يتعهد شخصيا بتنفيذ أيه معاهدة يتم الاتفاق عليها وعث برسالة خاصة إلى السفير المصري بلندن (عبد الفتاح عمرو باشا)

وفي هذا النطاق رأى الملك أن يشكل وزارة برئاسة خاله شريف صبري باشا وكلفه بهذا التشكيل بالإسكندرية في الأسبوع الأول من أكتوبر سنة 1946 واجتمع شريف باشا لهذا الغرض مع النقراشي باشا وهيكل باشا وحسين سري باشا في منزل الأخير برمل الإسكندرية ولكن هذه المشاورات لتشكيل الوزارة باءت بالفشل واعتذر شريف باشا عن تشكيل الوزارة واستمر إسماعيل صدقي في الحكم ومفاوضة الإنجليز حتى استقال في الأسبوع الأول من ديسمبر سنة 1946 ليخلفه مرة أخرى المرحوم محمود فهمي النقراشي باشا.

وجدير بالذكر أن مستر بيفن وزير الخارجية البريطانية حينذاك الذي أشرف على المفاوضات قد استاء لإخفاقها وعز ذلك إلى خطأ بريطانيا في إجراء مفاوضات مع الحكومة الأقليات.

الإخوان المسلمون ومشروع المعاهدة

عندما توصل إسماعيل صدقي باشا مع مستر بيفن إلى التفاهم على الخطوط العريضة لمشروعها توهم الإخوان المسلمين قاعدة شعبية ذات وزن فاستدعى المرشد العام (المرحوم الشيخ حسن البنا) بعد وصوله من لندن بساعتين وأطلعه على مشروع الاتفاقية قبل أن يطلع عليه النقراشي وهيكل المشاركين له في الحكم وحصل على موافقته على المشروع وهنا أحس المرشد العام بأنه أصبح زعيما فوق الأحزاب لدرجة أن عرض عليه مقابلة النحاس باشا فطلب أن يذهب النحاس باشا إليه.

ولما اشتدت المظاهرات الشعبية ضد هذه المعاهدة طلب صدقي باشا من المرشد العام أن يركب سيارة سليم زكي باشا مساعد الحكمدار المكشوفة ليعمل على تهدئة الجماهير. واستجاب المرشد العام لطلب صدقي باشا..

وزارة حسين سري باشا 1949

لما لم ينجح المرحوم إسماعيل صدقي باشا في عقد معاهدة مع الحكومة البريطانية ولم يأت الاحتكام أمام مجلس الأمن بوساطة المرحوم محمود فهمي النقراشي باشا بالنتيجة المرجوة وكانت دعوى الحكومة البريطانية أن حكومات أحزاب الأقليات ليست أهلا لتوقيع معاهدة معها كان الملك فاروق محصورا في نطاق ضيق مع أن التطورات الدولية تأخذ أشكالا منذرة بأحداث كبرى حيث العلاقات بين الشرق والغرب تسري من سيئ إلى أسوء ودول الغرب تعمل على إنشاء حلف شمال الأطلنطي وتضغط في المنطقة العربية لإقامة نظام للدفاع المشترك تكون هي راعيته.

وسط هذا المناخ وقع اغتيال المرحوم النقراشي باشا يوم 28 سبتمبر 1948 وعهد الملك إلى إبراهيم عبد الهادي باشا رئيس الديوان الملكي برئاسة الوزارة.

وجاء في كتاب التكليف الملكي لرئيس الوزراء الجديد ما يلي:

نسأل الله تعالى أن يوفقكم إلى تحقيق أمنيتنا نحو توحيد الصفوف وتركيز الجهود لمواجهة الظروف الداخلية والخارجية التي تجتازها بلادنا في هذه الآونة العصبية

الحالة الداخلية

وكان لمصرع المرحوم النقراشي باشا ومن بعده المرحوم الشيخ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين الذي كان من بينهم قاتل النقراشي باشا آثارا سيئة على الحالة الداخلية فازدادت الأمة تفرقا وشاعت في البلاد إجراءات بوليسية غير عادية.

محادثات عسكرية مع بريطانيا

وجرت محادثات عسكرية مع المارشال سليم قائد القوات البريطانية في عهد دولة إبراهيم باشا ولم تصل إلى نتيجة يتم الاتفاق عليها بشأن البريطانية في قاعة قناة السويس.

عبد الهادي باشا يعمل لانتخابات جديدة

ولما كان موعد استكمال مجلس النواب المؤلف من أحزاب الأقلية للسنوات الخمس المحددة لكل مجلس قد قرب، فقد أخذ دولة إبراهيم باشا عبد الهادي في اتخاذ الإجراءات لانتخاب مجلس جديد.

هجوم النحاس باشا يشتد

واشتد هجوم المرحوم مصطفى النحاس باشا على النظام القائم وأخذ يندد في خطبه بالإرهاب ويدعو إلى ضرورة إجراء انتخابات حرة تقول فيها الأمة كلمتها بإرادة حرة وتختار نوابا وقادة حكمها.

الملك يطلب التفاهم مع الوفد

وقد علمت وقتذاك كما علم المرحوم مصطفى النحاس باشا، وفؤاد سراج الدين باشا أني الملك فاروق استدعى دولة إبراهيم عبد الهادي باشا لمقابلته وجري في هذه المقابلة حديث يمكن تلخيصه فيما يلي:

قال الملك:

إن الانتخابات مقبلة، وأنا شايف أنه جو غير مناسب لحكمك وأحسن طريقة أن تتفاهم مع الوفد.

فأجاب عبد الهادي باشا:

يا مولانا والوفد في جيبي ولو أن جلالتك عاوز الوفد يشترك معي فاعتبر أن هذا أمر سهل.

فرد الملك:

المهم يا دولة الباشا، أن تكون الانتخابات هادئة وهذا أفضل...وانتهت المقابلة.

وفي اليوم التالي، دعا دولة عبد الهادي باشا رئيس الوزراء، الشيخ المحترم فؤاد سراج الدين باشا إلى تناول فنجان من القهوة في مكتب رئيس الوزراء بمجلس الشيوخ. ودخل الاثنان المكتب، وأضيء النور الأحمر إيذانا بعدم دخول أحد حتى الوزراء.

وقال دولة إبراهيم عبد الهادي باشا لفؤاد باشا:

متى تستريح من الحرب المخربة والهوسة دي.

فرد عليه سراج الدين باشا:

ما حدش يحب الحرب إحنا بندافع عن أنفسنا

فرد عليه عبد الهادي باشا:

أنا أعرض عليك عرضا وأحنا ولاد عم، وكلنا أصلنا وفديون خذوا أي عدد في الوزارة وخذ أنت وزارة الداخلية وخذوا الأغلبية وزارة سعدية دستورية وفدية، وتجري هذه الوزارة الانتخابات.

فرد فؤاد سراج الدين باشا:

إنك يا إبراهيم باشا تتكلم وتتصرف في الحكم كأنك وحدك لا شريك لك.. هل شركاؤك الدستوريون في الحكم موافقون على هذا الاقتراح.

قال دولته: أنا كفيل بهم.

فقال فؤاد باشا: لازم أرجع لرفعة النحاس باشا ويوم الثلاثاء زي بكرة أرد عليك وسنتقابل في الإسكندرية بعد التفاهم مع النحاس باشا ومعرفة رأيه.

وفي يوم الاثنين التالي استقبل الملك دولة إبراهيم عبد الهادي باشا بحضور حسن يوسف باشا وعلم من رئيس الوزراء أنه لم يتم شيء. ويوم الثلاثاء الساعة السابعة والنصف صباحا بعث الملك المرحوم الفريق محمد حيدر باشا إلى بيت دولة إبراهيم عبد الهادي باشا في لوران وطلب مقابلة الباشا الذي لبش الروب ودخل الصالون

وقال لحيدر باشا:

أنا عارف معاليك جاي علشان أيه.. علشان تقول لي قدم الاستقالة.. فرد حيدر باشا قائلا:

جلالة الملك بيقول: إنك وعدت وعدا ولم ينفذ وعاوزك تقدم الاستقالة.

هدية العيد من الملك

بعد استقالة إبراهيم عبد الهادي باشا وكان التفاهم مع السراي أن يتولى حسين سري باشا تأليف وزار ائتلافية وأجرى اتصالات لتأليف الوزارة.

روي لي حسن سري باشا: أنه كلما كان يعرض اسم فؤاد سراج الدين باشا لوزارة الداخلية يعترض إبراهيم باشا عبد الهادي وهيكل باشا.. ويقولان:

لا نوافق على الداخلية .. موافقين على الزراعة أو المواصلات. والحقيقة التي أعرفها جيدا أن فؤاد سراج الدين باشا ما كان يطمع في تولي وزارة الداخلية خصوصا وهذه وزارة ائتلافية لإجراء انتخابات لمدة شهرين ورغب رغبة أكيدة أن يتولى المواصلات لأن شغلها سهل لمدة نصف ساعة أو ساعة يوميا وسوف تهدي له بوصفه وزيرا للمواصلات الميدالية الذهبية التي تعطي لحاملها ركوب القطارات مجانا مدى الحياة (تسلمها سنة 74).

سافر سراج الدين باشا من مصر وهو يعلم بما ستنتهي إليه المباحثات لتأليف الوزارة وفعلا تم التشكيل في سرعة غير عادية. وهنا استأذن حسن يوسف باشا من جلالة الملك أن يرتدي الوزراء الجدد الملابس القاتمة عند التشرف بمقابلة جلالة الملك لحلف اليمين الدستوري فأذن لهم الملك.

واجتمع الوزراء في مكتب حسين سري باشا فقال أحمد عبد الغفار باشا مخاطبا. فؤاد سراج الدين باشا (وكأنه قد علم بالتطورات حيث كان على اتصال دائم بالسفارة البريطانية)اسمعني أنت لا بس الردينجوت لوحدك؟ وإخوانك لا بسين الملابس القاتمة

فرد عليه فؤاد باشا:

أنا دائما أحمل معي الردينجوت الرمادي والأسود والأسموكنج لأي ظرف طارئ فقال عبد الغفار باشا..

ما تعلم إخوانك.

وذهب الوزراء إلى رأس التين وتشرفوا بالمثول أمام جلالة الملك وأقسموا اليمين الدستورية وقال الملك للوزراء.

هذه هدية العيد.. وأنا أعرف جيدا أن هناك بعض الوزراء قبلوا وزارات أقل من مراكزهم.. وكان بالطبع يقصد فؤاد سراج الدين باشا.

مشاكل أمام الوزارة

استمرت الوزارة الائتلافية وأمامها مشكلتان: الإفراج عن الإخوان المسلمين وتعديل الدوائر الانتخابية. بالنسبة للإخوان فقد كان حسين سري باشا متفقا مع الوفد في الإفراج عنهم، أما السعديون والدستوريون فهم ضد الإفراج عنهم على طول الطريق.

وفعلا تمكن حسين سري باشا ومعه الوفد من الإفراج عن عدد كبير من الإخوان والمشكلة الثانية مشكلة الدوائر.. هناك دوائر سهلة.. عاوزين يدمجوا قرية مع دائرة أخرى أو ينتزعوا قرية من دائرة لمصلحة المرشحين، علما بأن هذه الدوائر لها شروط خاصة العدد المواصلات.. وكان الدافع على هذا التغيير والتبديل أساسه الصالحة الحزبي.

كانت خطة الوزارة التي اتفق عليها هي بحث الدوائر مع كل المرشحين.. وثار المرشحون الوفديون وقال الوزراء الوفديون لحسين سري باشا. أن الوزراء السعديين يتصلون بالمديرين من أجل الانتخابات وطالبوا بوزارة محايدة مائة في المائة ولا داعي لهذه الوزارة الائتلافية وهنا قال سري باشا لفؤاد سراج الدين باشا.كيف يمكن حل هذه الوزارة؟

وطلب سراج الدين السماح له بإنقاذ الموقف فوافق سري باشا وفي أثناء اجتماع مجلس الوزراء قال سراج الدين:

إن لجنة الدوائر الانتخابية تأخرت واحنا لم ننته من شيء وتقولوا لسه فاضل شويه دوائر. واصطنع فؤاد باشا خناقة مع أحمد باشا عبد الغفار وكان من عادة الأخير أن يزعق في كل جلسة وقال:إن الائتلاف تصدع وأنا لا يمكن العمل في مثل هذا الجو الخناق.

وفي اللجنة طالب محمود باشا غالب تحويل لجنة التعديل إلى مجلس الوزراء واعتراض سراج الدين باشا وقال.. بدوي خليفة باشا يجيب الخرائط التي عليها الخلاف.

فرد سري باشا:

تبدأ بأي مديرية؟

فرد فؤاد باشا:

بالفؤادية

أجاب أحمد باشا عبد الغفار.

لماذا لا تبدأ بالمنوفية لأنها دائرتي.

فأجاب سراج الدين باشا:

لماذا نبدأ بالمنوفية؟

فقال عبد الغفار باشا..

لأنها قريبة من القاهرة

فرد سراج الدين باشا.

لا نجيب من فوق.

وهنا نكهرب الجو وفتحت الخرائط وقال سراج الدين: بركة السبع، مثلا.. وقاطعه أحمد عبد الغفار باشا وكان سراج الدين لم يستكمل حديثه فقال محتدا: سيبني يا باشا أكمل.. سأقص وجهة نظرك بالضبط.فرد عبد الغفار باشا.أنا لست بأبكم..

فقال سراج الدين باشا:

أنت بتزعق كده ليه..هو احنا في دوار في بلدك؟ احنا هنا في مجلس الوزراء.. هو أنا أطرش؟ الناس اللي في الشارع سامعين.. احنا فين.. هو احنا في مضيفة.

فرد عبد الغفار باشا..

أنت هاتعلمني؟ وهنا أخذ الوزراء في تهدئة الجو..

فرد سراج الدين:

أنا معترض على سير الجلسة بهذا الشكل.. ورأى دسوقي باشا أباظة أن ستحصل فرقة في الجلسة فأمسك بيد سراج الدين باشا وقال:ده رجل لا يطاق ويثور دائما. يقصد عبد الغفار باشا

ورد سري باشا وقال:

مش قادر اشتغل وسأرفع الاستقالة للملك وانتهت الجلسة دون حل لتقسيم الدوائر كما راد الوفد. وفي منتصف الليل.. اتصل سري باشا بفؤاد سراج الدين باشا تليفونيا وقال له: يا سعادة فؤاد باشا .. أنت عارف أناديك بسعادة ليه مش معالي؟

لأن الوزرة استقالت وأنت مش تنفع وزير.. أنت تنفع تكون ممثل عند يوسف وهبي. وفي رأي فؤاد سراج الدين باشا أن حسين سري باشا أخطأ خطأ شنيعا بعد سماع وجهة نظره حيث قابل الملك وعرض عليه أسماء الوزارة الجديدة وأنه أذاع كل التشكيل الوزاري بعد الانتهاء من جلسة مجلس الوزراء وقال فؤاد سراج الدين باشا لحسين سري باشا: أنت لا تنفع أن تكون ممثلا بالمرة.

وطبعا كان التفاهم مسبقا بين سري باشا والوفد على الاستقالة وعلى إجراء انتخابات سلمية دون أي تدخل من رجال الإدارة في حرية الناخبين.

الملك كان متفقا مع الإنجليز

ويروي الصحافي العجوز الأستاذ عوض قنديل قصة التحول الملكي ناحية الوفد على أنه تم قبل خروج دولة إبراهيم باشا عبد الهادي بشهور وأن اتصالات تمت بوساطة المرحوم محمود غزالي باشا بين مستر تشايمان أندروز القائم بأعمال السفير البريطاني في القاهرة وكانا صديقين ودودين وحسن يوسف باشا رئيس الديوان الملكي بالنيابة وحسن سري باشا والدكتور محمد نصر الطبيب الخاص للنحاس باشا تستهدف تألف وزارة محايدة برئاسة المرحوم حسين سري باشا وتجري انتخابات حرة ويؤلف حزب الأغلبية في مجلس النواب الحكومة الجديدة وكان مفهوما أن الوفد هو صاحب الأغلبية الساحقة المؤكدة وأن رئاسة الحكومة ستكون للمرحوم مصطفى النحاس باشا.

وبدأت هذه الاتصالات في مسكن المرحوم محمود غزالي باشا بالمنزل رقم 10 بشارع سراي الجزيرة. وكان غزالي باشا وهو رجل الأمن العتيد يعمل على أن يتولى الوفد الحكم، فقد كان وفدي الميول وكان شقيقه المرحوم شاكر بك عضو مجلس النواب عن دائرة أبنوب وعضوا في الهيئة الوفدية كما كان غزالي باشا سكرتيرا للمرحوم سعد زغلول باشا لما كان رئيس لمجلس النواب وكان صديقا شخصيا لكافة أقطاب الوفد القدامى، وخاصة المرحوم الدكتور أحمد ماهر باشا والمرحوم محمود فهمي النقراشي باشا حيث كان له ولشقيقة شاكر بك فضل في تعينه مديرا للتعليم في مجلس مديرية أسيوط قبل أن يتفرغ النقراشي باشا للسياسة لكن الملك فاروق كلف المرحوم النقراشي باشا عندما تولى الوزارة في ديسمبر 1946 بإحالته إلى المعاش وأحيل فعلا.

وتصادف عندما كان غزالي باشا يقيم في فندق شبرد القديم بعد الإحالة وفي الساعة الواحدة من إحدى الأمسيات كان غزالي باشا يقيم في فندق شبرد القديم بعد الإحالة وفي الساعة الواحدة من إحدى الأمسيات كان غزالي باشا وصديقنا الأستاذ عوض قنديل جالسين يشربان فنجاني نعناع كعادة غزالي باشا قبل النوم في الصالون الدائري للفندق الذي كان يتوسط النادي الليلي ومدخل الفندق أن مر عليهما الملك فاروق خارجا من النادي الليلي فلما شاهدهما التفت إلى كريم ثابت باشا الذي كان يرافقه وقال له على مسمع منهما: الجماعة دول بقوا روبابيكيا...

وكان الملك فاروق يعرف الصلة الوثيقة بين غزالي باشا وكبار رجال السفارة البريطانية.

حسين سري يسافر ويترك عنوانه لدى السفارة

وإذا تحدثنا عن علاقة المرحوم حسين سري باشا والإنجليز فنقول إنها كانت قديمة بل كانت موروثة عن والده المرحوم إسماعيل سري باشا.

وعندما تأكد سري من نجاح اتصالات غزالي باشا مع جميع الأطراف وخاصة القصر الملكي الذي كان يمثله حسن يوسف باشا وهو أيضا رجل سري باشا حيث عينه مديرا للرقابة عندما كان رئيسا للوزراء سنة 1941 ثم قدمه إلى القصر الملكي بعد ذلك حيث صار فيما بعد وكيلا للديوان الملكي وكان على صلات طيبة بجميع الجهات المحلية والأجنبية حيث المشهور عن حسن يوسف باشا أنه موظف أمين فقط.

عند ذلك كان سري باشا يريد السفر إلى أوربا لقضاء شهري يونيو ويوليو ولذلك رأى أن يترك عنوان إقامته في أوربا لدى السفارة البريطانية وأبلغها أن شركة كوك تستطيع الحصول عليه في أي وقت، كما أبلغ غزالي باشا أنه فوض صهره المرحوم الدكتور محمد هاشم باشا في إجراء كافة الاتصالات والاتفاقات.

وتبين للأستاذ عوض قنديل أثناء هذه الاتصالات أن المرحوم إدجار جلاد باشا صاحب جريدة الزمان التي كان يعمل بها كان على علم بهذه الاتصالات وكان ذلك بالصدفة المحضة حيث علم بذلك من مستر تشايمان أندروز في غداء خاص بنادي السيارات بالقاهرة أقامه غزالي باشا وحضره ثلاثتهم فقط، وتأكد من جلاد باشا نفسه في حديث بينهما بمكتب الجريدة في الإسكندرية فيما بعد.

ولم يكن كريم ثابت يدري بأي شيء مما يجري برغم صلته الوثيقة بالملك نهارا وليلا.

اجتماع للاتفاق النهائي

وفي منزل غزالي باشا الذكر اجتمع ذات مساء مستر ريفنسديل السكرتير الشرقي بالسفارة البريطانية والمرحوم الدكتور محمد هاشم صهر المرحوم حسين سري باشا والدكتور محمد نصر الطبيب الخاص للمرحوم مصطفى النحاس باشا وتم الاتفاق على أن يؤلف حسين سري باش وزارة ائتلافية من جميع الأحزاب تجري بوساطتها الانتخابات حرة دون أي تدخل حكومي بحيث تفصح عن الرغبة الحقيقية للشعب فيمن يتولى حكمه.

الدكتور محمد نصر يؤيد الرواية

وقد رأيت عند إعداد هذه الذكريات أن أتأكد من صحة هذه الرواية فدعوت الدكتور محمد نصر والصديق عوض قنديل إلى منزلي وتناولنا الموضوع فأكد الدكتور محمد نصر أنه حضر الاجتماع المذكور في منزل المرحوم محمود غزالي باشا وما تم فيه غير أنه قال إنه لا يذكر خاصة والحادث كان عام 1949 أن المرحوم الدكتور محمد هاشم كان حاضرا.

كما أضاف الدكتور نصر أن المرحوم النحاس باشا لم يكن يعلم بهذه التفاصيل ولا باجتماعه بمندوب السفارة البريطانية وأن حدود معلومات المرحوم النحاس باشا أنه قال له إن غزالي باشا والإنجليز يعملون على عودة الوفد إلى الحكم وأن الملك موافق على ذلك.

وأن النحاس باشا قال إنه لا يمانع في أن يؤلف حسين سري باشا وزارة محايدة تجري انتخابات نزيهة يكون الحكم فيها للأمة وأنه وافق على أن تكون الوزارة ائتلافية من الأحزاب بشرط عدم المساس بحرية الناخبين في اختيار النواب وأن هذه الموافقة كانت في المراحل الأخيرة من المباحثات.

حسين سري يعود

وفي الثالث والعشرين من يوليو 1949 استدعى الدكتور محمد هاشم حسين سري باشا فوصل الإسكندرية في اليوم التالي.

ونشر الصديق عوض قنديل في صحيفة (الزمان) وكانت تصدر مسائية خبر عودة سري باشا من الخارج بعد أن اتفق مع إدجار جلاد باشا على وضع هذا الخبر في المكان المخصص عادة لرؤساء الوزارة.

وتصادف أن قابل المرحوم الفريق محمد حيدر باشا في الساعة الحادية عشرة في المكان في فندق سان ستفانو صديقنا وقال له:

أنت نشرت الخبر بالصورة دي والناس أخذت تتساءل على كل حال جلالة الملك كلفني الآن بالذهاب إلى إبراهيم باشا عبد الهادي لأصلب منه كتاب استقالة وزارته، وستكون زيارتي الساعة السابعة والنصف بكرة (26 يوليو) بناء على أمر الملك. وكان العيد قد اقترب موعده..

قصة التوازن في مجلس النواب

لما فوجئ دولة إبراهيم باشا عبد الهادي بهذا التحول الملكي وتوقع النتائج المترتبة عليه خاصة بالنسبة للأحزاب التي ساندت الملك منذ عام 1937 لما تألفت الهيئة السعدية وتعاونت مع حزب الأحرار الدستوريين والحزب الوطني ضد المرحوم مصطفى النحاس باشا أجرى اتصالات مع المرحوم الدكتور محمد حسين هيكل باشا رئيس الأحرار الدستوريين والأستاذ محمد زكي على باشا قطب الحزب الوطني.

واتفقوا على أن يطلبوا من الملك بوساطة كريم ثابت باشا مستشاره الصحفي ورفيق سهراته الليلية الخاصة، أن يعمل الملك على قيام توازن بين أعضاء مجلس النواب الجديد بحيث لا يحصل الوفد على الأغلبية المطلقة التي تمكنه من الحكم منفردًا، ووعدهم كريم ثابت بتحقيق رغبتهم.

وزين كريم ثابت للملك قصة التوازن، وقال له إن طرد إبراهيم باشا عبد الهادي بهذه الصورة وهو رئيس الهيئة السعدية، وحليف الأحرار الدستوريين وهم الذين حاربوا الوفد ووقفوا بجانب الملك هذه السنوات الطوال يسيء إلى الملك أبلغ إساءة بين جماهير الحزين والحزب الوطني والإخوان الأخلاقية مما يعطي دعاية هؤلاء قبولا عند الجماهير عامة التي سترى أن الملك يخضع دواما للمطالب البريطانية.

وأضاف كريم ثابت للملك أنه يستطيع بصلته الوثيقة مع السفير البريطانية الذي عاد من إجازته أن يقنعه بالتوازن وتحلل السفارة من وعد مستر تشايمان اندروز واتفاقه مع الوفد. فأذن له الملك بإجراء اتصالات لتحقيق هدفه. وفي أثناء ذلك قابل كريم ثابت السفير البريطاني في مأدبة غداء وأوعز إلى جريدة أخبار اليوم وكان شبه محرر بها وكانت في أشد مواقفها عداء للمرحوم النحاس باشا وفي غاية الولاء للملك وأحزاب الأقلية، عداء للمرحوم النحاس باشا وفي غاية الولاء للملك وأحزاب الأقلية، لتنشر صورته مع السفير لتطمين قادة هذه الأحزاب ونشرت الصورة، وأخذت الإشاعات تناثر.

غزالي باشا مع السفير

ودعا محمود غزالي باشا السفير للعشاء في نادي محمد علي وتناول الحديث بينهما شائعات موافقة الإنجليز على التوازن وحذره من النتائج التي تترتب على تزوير إرادة الناخبين وأن الأحداث الجارية في مصر وفي المنطقة والتطورات الدولية تقتضي أن يشترك المصريون فعلا في اختيار حكامهم دون أي ضغط أو حتى مجرد توجيه، وطمأن السفير غزالي باشا على أن الحكومة البريطانية عند اتفاقها وستحاول ما استطاعت منع التدخل الحكومي في الانتخابات وأنها في سبيل أن تبلغ هذه السياسة غايتها لا تمانع خروج الأحزاب من وزارة رفعة حسين سري باشا، ثم يؤلف وزارة محايدة تجري انتخابات حرة كما يرغب رفعة مصطفى النحاس باشا.

وقد تم ذلك فعلا والملك غارق في فكرة التوازن وقد عاوده عداؤه المعروف للمرحوم النحاس باشا وخشي على سلطاته فيما لو تولى رئاسة الوزارة.

الدكتور محمد هاشم والتوازن

وكان الدكتور محمد هاشم قد كلف من قبل صهره حسين سري باشا بالإشراف على شئون وزارة الداخلية وعلى الانتخابات واستطاع كريم ثابت إقناعه بوجوب التوازن في مقاعد مجلس النواب وأن هذه رغبة جلالة الملك وقد سبق للدكتور هاشم أن كان عضوا ممثلا للهيئة السعدية عن دائرته (شبلنجة) في مجلس النواب، كما كانت له تطلعات في أعلى المناصب، وكان سري باشا يترك له كل شيء في الشئون السياسية.

وقد حاول هاشم باشا تحقيق الرغبة الملكية ولكنه لم ينجح فجاءت نتيجة الانتخاب في المرحلة الأولى كما يلي: 169 للوفد، 24 للهيئة السعدية، 22 للأحرار الدستورين، 4 للحزب الوطني، 22 للمستقلين عن الأحزاب، وظل الحزب الاشتراكي واحدا.

ومعنى هذه النتيجة أن الوفد اكتسح الانتخابات وحاز الأغلبية منذ المرحلة الانتخابية الأولى، وحصل في المرحلة الثانية وكانت الانتخابات قد أجريت في 77 دائرة على ثلاثين مقعدًا منها ونال المستقلون ثمانية والسعديون أربعة والأحرار الدستوريون أربعة والحزب الوطني مقعدين.

وقد اسر المرحوم الدكتور محمد هاشم إلى الأستاذ عوض قنديل بأن اللواء محمد إبراهيم إمام رئيس القسم السياسي بمحافظة القاهرة قد أخل باتفاقه معه وأنه كان وراء فوز الوفد في جميع دوائر محافظة القاهرة.

من أخلاق الدكتور هاشم

على أنني أذكر أن الصديق عوض قنديل جاءني في مكتبي بقصر القبة في أغسطس عام 1966 وطلب مني السؤال عن مصير طلب الدكتور محمد هاشم الإذن له بالعمل مستشارا قانونيا لحكومة الكويت بناء على عقد حدد له مرتبا شهريا خمسمائة دينار ومسكنا وسيارة. وكانت الحراسة قد فرضت على أمواله وأموال زوجته بالتبعية وصارت حالته المالية غاية في السوء.

واتصلت تليفونيا بالمسئول فأفادني برفض الطلب، واتقنا على أن يكتب الدكتور محمد هاشم التماسا إلى المرحوم الرئيس جمال عبد الناصر ويأتيني به دون أن يحضر الدكتور هاشم إلى القصر.

وفوجئت في اليوم التالي بأن الدكتور هاشم رفض بشدة فكرة التقدم بالتماس إلى الرئيس الراحل ولم تمض شهور حتى انتقل الدكتور هاشم إلى جوار ربه.

الانتخاب في دائرة طوخ والتوازن في انتخابات 1950

الانتخابات سارت كما كان مرسوما لها عندما قربت المعركة وكان هاشم باشا وزير الدولة بوزارة الداخلية يعمل سرا على الحفاظ على التوازن وقام بجولتين في الأقاليم بدأ بالوجه البحري وكانت الشكاوي ترد تباعا من مرشحي الوفد من تدخل رجال الإدارة والبوليس.

كما وردت بعض الشكاوي ترد تباعا من مرشحي الوفد من تدخل رجال الإدارة والبوليس كما وردت بعض الشكاوي من محافظة القاهرة أخذ كل هذا فؤاد سراج الدين بصفته سكرتيرا عاما للوفد وذهب على حسين سري باشا ليلا فوجد عنده المرحوم حسن يس وهو مرشح وفدي يشكو له وهنا ثار سراج الدين على المرحوم حسن يس وقال له:

أنت جاي تشتكي للشخص اللي أمر بكده؟

وقال سراج الدين باشا لسري باشا:

حتى لو أردت تزوير الانتخابات فلن تكون رئيس وزارة ائتلافية مستقل فوفر على نفسك عار. أنك زورت الانتخابات الملك هو الذي طالب بالتوازن أنت عارف يسري باشا اللي بيعمله زوج بنتك (يقصد هاشم باشا) تحب تعرف تعليماتك ؟ أتفضل .. وأعطاه بيانا بالشكاوي

ثم قال له:

إما أنك تصدر هذه الأوامر وإما إنك تمر من تحت ذقنك.

فرد على الفور:

أبقى مغفل..

بس بقول .. تعز على أنك أنت واحد يزور الانتخابات .. صدقي ... محمد محمود وأنت ثالثهم وأنا هنا بأقول باسم الوفد لن تكون رئيس وزارة. ويقول فؤاد سراج الدين أن هاشم صدقي له وأخطأ في حقه حين اتصل به في المنيا وكان حديثا قاسيًا ولكن سراج الدين اعتذر له بعد ذلك وبعد يومين، عاد هاشم باشا من الصعيد وقابل فؤاد باشا قائلا:

إحنا إخوان.. تشتمني في التليفون .. وعامل التليفون سامع.. دي مش لطيفة. يا فؤاد باشا حاسبني بعد الانتخابات في كل الدوائر إلا دائرة واحدة لشخص معين لازم ينجح بالحق أو بالباطل.

وكان يقصد دائرة (طوخ) المرشح لها المرحوم الدكتور هاشم صدقي عضو الوفد المصري أيام سعد زغلول حامد محمود خرج مع النقراشي باشا برغم هذا قال فؤاد باشا.

رغم ده كله مش حينجح .. وأراهن. وراهن هاشم باشا وزير الداخلية فؤاد سراج الدين باشا.. وكسب الرهان فؤاد سراج الدين باشا..استمرت المعركة الانتخابية وبدأت جرائد الوفد تهاجم التدخل من جانب الحكومة ولكن الوزارة لم تتراجع عن الخطة الموضوعة

وقال سراج الدين باشا:

وقال..إننا لو أمكنا منع البوليس من التدخل لوصلنا إلى ما نبغي..

وأذكر أن فؤاد سراج الدين باشا كان في المنيا قبل الانتخابات وخطب خطبة طويلة كلها موجهة إلى رجال البوليس وقال: أنا لا أناقشكم بما فعلته حكومة الوفد لرجال البوليس فهذا حقهم المهضوم ولا يصح أن يكون اعترافكم بالجميل هو التزوير.. وكانت الخطبة فيها ترغيب وتهديد..

وقال لي فؤاد باشا إن الضباط الذين أثق فيهم عملوا رابطة خاصة واتصلوا به للوقوف على الحياد. نعود إلى نتائج دائرة طوخ، وكانت الانتخابات يوم السبت. وفي يوم الخميس أرسل فؤاد سراج الدين السيد/ محمود البديني إلى مأمور مركز طوخ بسارة فؤاد سراج الدين الخاصة ليقول للمأمور.

أناجي لك برسالة من فؤاد الدين الخاصة ليقول للمأمور.أناجي لك برسالة من فؤاد باشا والدليل هو عربيته.إن كل التعليمات التي أصدرها هاشم باشا وزير الداخلية هي التزوير لصالح الدكتور حامد محمود ويذكرك فؤاد باشا دوائر القطر كلها كوم ودائرة طوخ كوم ويستحسن أن يكون كل شيء على الحياد التام.

وهنا لطم المأمور على خديه وقال لمحمود البديني وهو زميل له في البوليس وزير الداخلية الحالي لي زور ووزير الداخلية اللي جاي بكرة بيقول ما تزورش أعمل إيه..؟

فرد عليه محمد البديني:

خليك بضميرك .. هاشم باشا ماشي بكرة.. ووزير الداخلية المقبل بيقول لك ارضي ضميرك وخلي الانتخابات حرة.

وعندما عاد فؤاد باشا من بلدته وصل إلى طوخ الساعة الثالثة صباحا ووجد الفوانيس على الطريق مضيئة فأدرك أن زعزع الذي تقدم على أنه وفدي وليس مرشح الوفد واقفا على السكة الزراعية وأوقف سراج الدين باشا وأخذ يقبله فسأله فؤاد باشا عن النتيجة فقال إن الدكتور حامد محمود لم يسترد التأمين.

وبمجرد وصول سراج الدين باشا إلى القاهرة اتصل بهاشم وأبلغه النتيجة وتسلم العشرة الجنيهات.. الرهان..

الملك لا يريد النحاس باشا رئيسا للوزارة

في أثناء معركة الانتخابات عام 1950 وضغط نظرية التوازن على الوفد كما كانت تريد السراي كان فؤاد سراج الدين باشا سكرتير عام الوفد المصري موجودا بالإسكندرية ليخطب في الشعب مؤيدا المرشحين الوفدين وذهب بعد منتصف الليل إلى فندق سيسل لتمضية الليلة بالفندق.

نمي إلى علم سيادته أن إدجار جلاد باشا يريد مقابلته لأمر هام وعاجل وأنه يحمل رسالة من الملك ويرغب إبلاغها لفؤاد سراج الدين باشا. وتمت المقابلة حيث أبلغ جلاد باشا سراج الدين باشا أن الوفد يشكو من سير الانتخابات وأن هناك تدخلا من الحكومة فعلا.

وأردف قائلا:

والواقع يا فؤاد باشا أن الملك يرتب على أن الوفد لا يفوز بأغلبية مطلقة أما إذا كنتم تريد الحيدة في الانتخابات فهذا ممكن تنفيذه فورا ولكن على شرط ألا يتمسك النحاس باشا بتأليف الوزارة وهذه هي رغبة مولانا ما فيش مانع أنك أنت تؤلف الوزارة لأن الملك لا يستطيع العمل مع النحاس باشا

رد عليه سراج الدين باشا قائلا:

أنا أغش الملك لو وافقته على هذا .. وأن أي عضو في الوفد لا يوافق على هذا ونحن لسنا على استعداد أن نبيع مصطفى النحاس زعيم هذا الوطن بأي ثمن..الوزارة لا تهمنا مطلقا...
قل للملك هذا أما إذا زورتم الانتخابات فستكون الحرب سافرة ضد الملك لأنه ثبت للوفد أن حسين سري باشا لا يستطيع عمل هذا كله إلا بموافقة الملك وبتأييد منه وأنكم أنتم الذين تعرضون الملك للتدمير والهلاك خبره بكل هذا.. لن نقبل حتى لو قبل مصطفى النحاس باشا وأي عضو في الوفد يعطيكم هذا الأمر فهو يخدعكم لن تجدوا قطة في النادي السعدي توافقكم على ذلك.

كريم ثابت يطلب تعيينه وزيرا وفديا

تقابل إلياس أندراوس مع فؤاد سراج الدين وقال إنه قادم إليه في مسألة هامة وقال له:

إن كنتم عاوزين تقعدوا عشرين سنة في الحكم.. أنا عندي طريقة وهي أن تأخذوا كريم ثابت وزيرا.

فرد فؤاد باشا على الفور:

أنت يا باشا مجنون؟

فر أندراوس أنه مصري وصحفي درجة أولى والمهم أنه عند الملك فرخة بكشك فرد سراج الدين باشا. إن نظام الوفد لا يسمح لأن ده معناه أن الهيئة الوفدية تشيلنا ويصبح نظام الوفد فاشلا لأن فيه مائة واحد منتظرين علاوة على أنه متمصر وثانيا أن أي خبر يتسرب من مجلس الوزراء سيكون كريم ثابت هو المسئول وسيقال إن الملك أحضر جاسوسا.

أنا سوف أذهب إلى مصطفى باشا النحاس بنفسه على شرط ألا تكلم رفعة الباش وعندما نزل اتصل سراج الدين باشا بتليفون خاص بينه وبين النحاس باشا وأخبره بالأمر خوفا من أن يشتم مصطفى باشا أندراوس باشا أو كريم ثبت باشا أو الملك سمع أندراوس من النحاس باشا وكأن المتحدث هو سراج الدين باشا..بنفس ترتيب الرد، وفهم أندراوس أن سراج الدين اتصل بالنحاس.

مناورة من كريم ثابت

كانت أحزاب الأقلية والمتصلون بكريم ثابت باشا يشيعون أن الملك برغم فوز الوفد بالأغلبية الساحقة لا يزال يرفض توليه الحكم، وأنه يفكر في حل البرلمان كما فعل والده عقب الانتخابات التي أجرتها وزارة المرحوم يحي إبراهيم باشا لو تمسك الوفديون بالحكم وبرئاسة الوزارة.

واتصل كريم ثابت باشا بفؤاد سراج الدين باشا وأبلغه أنه شاهد مظاهرة ضخمة تمر أمام منزله (كان في جاردن سيتي) متجهة إلى منزل رفعة مصطفى النحاس باشا وأنه سمع الهتاف المدوي بحياة (زعيم الأمة النحاس ..

حبيب الأمة النحاس) تردده الألوف في المظاهرة وأنه تشرف بمقابلة الملك في المساء وروي له ما شاهد وما سمع وأنه نصح الملك بتجاوب مع هذا الشعور الوطني وأن حصول الوفد على هذه النتيجة الساحقة في الانتخابات برغم كل ما عمل لتحقيق التوازن البرلماني دليل واضح على أن الناس باشا رجل كويس، وأنه يجب على الملك سرعة تكليف النحاس باشا بتأليف الوزارة.. وأن الملك وافق وسيتم إعداد كتاب التكاليف الملكي في صباح اليوم.وفعلا صدر كتاب التكليف كما أبلغ كريم باشا فؤاد باشا.

طلب إبعاد كريم ثابت والحاشية

كان كريم ثابت شخصية غامضة تحوط بها الأساطير ومهما قيل في التزامه بمسائل أخلاقية معينة، فلا مراء أنه لعب دورا خلال الفترة من 1946- 1952 في تاريخ مصر.

وكانت دسائس القصر تحدق بكريم ثابت وكان يتغلب عليها فيعود منتصرا وعند زواج الملك بالسيدة ناريمان سنة 1951 اشترطت السيدة ناريمان إبعاد كريم ثابت ومن على شاكلته من حاشية الملك لتنقية جو القصر ذاته وأبعد كريم ثابت فعلا.

وأذكر أن السيد ناهد رشاد وكانت تطل من شرفة القصر إلى جوار الملك في 16 يناير سنة 1952 استرعى نظرها شعور السخط والتبرم اللذين كانا مقترنين بميلاد ولي العهد أحمد فؤاد، لم تكن الأمة مبتهجة مثلما كانت ترفع أعلامها عند زواج الملك الشاب سنة 1938 بالسيدة صافيناز هانم ذو الفقار، مات المرح برؤية الملك سماع أخباره فحل محله شعور مكبوت بعدم الارتياح.

وقالت ناهد رشاد:

انظر يا مولنا من الشرفة .. إننا أمام بوادر خطيرة .. يجب يا مولانا أن نقوم بعمل كبير يهز هذا الشعب .. يجب أن تكون القارعة.

ورد الملك ساخرا.

القارعة..؟

فأجابت ناهد رشاد:

نعم يا مولانا قارعة تجعل الشعب يلتف حول العرش ويحميه مثل أن تتنازل عن نصف أموالك للشعب أو شيء من هذا.

ولكن الملك ضحك ضحكة ساخرة واحترقت القاهرة وأقيلت حكومة الوفد وتوالت الحكومات الإدارية على البلاد ويعد استقالة وزارة نجيب الهلالي باشا، كان أحمد مرتضى المراغي باشا يسعى سعيا حثيثا لرئاسة الوزارة.

وهنا ظهر كريم ثابت، واتصل به المراغي وأخبره أنه مستعد لأن يعين كريم ثابت وزيرا للخارجية فيما لو نجح في إقناع السراي عن طريق إلياس أندراوس ليتولى رئاسة الوزارة.

ولكن أندراوس لم يوافق على ذلك وقال لكريم ثابت ضاحكا. أنت عايز تبقى وزير .. ح أخليك وزير وعين كريم ثابت وزيرا في وزارة سري باشا.

ولكن الحقيقة أن كريم ثابت كان يسعى من وراء ذلك لجلب رضاء الملك عليه ولينفي أما أعدائه شبهة إقصاء السراي له عندما أردت الملكية ناريمان إبعاده عن القصر.

طلاق الملكة فريدة

روي لي دولة إبراهيم عبد الهادي باشا أن مراد باشا محسن ناظر الخاصة الملكية زاره في مكتبه بالديوان الملكي حيث كان رئيسا للديوان وأنبأه بأن الملك ينوي الانفصال عن الملكة فريدة ..

فقال عبد الهادي باشا:

لابد من التروي في إصدار هذا القرار فالمسألة خطيرة لا يستهان بها وطلاق الملك غير طلاق الشخص العادي.

ولكن مراد باشا محسن قال:

لا فائدة يا باشا فقد انتهى الأمر ولا تتعب نفسك وأنصح دولتك صادقا ألا تتدخل في مثل هذه الشئون فالمسألة أصبحت منتهية.
مع تقديري لنصيحتك فإنني أعتقد أننا أمام مسألة لا يستهان بها ويجب أن نكون على حذر منها حفظا على كيان الأسرة المالكة وعلى سمعة البلاد.

وفي هذه الأثناء حضر إلى مكتبي حسن يوسف بك وكيل الديوان الملكي ببعض الأوراق لأوقع عليها وتحاشيت أن أحادث حسن بك في هذا الموضوع أو أنظر إلى الأوراق إذ أني قد عزمت ألا أتكلم في هذا الموضوع أصلا.

ومضت عدة شهور وجاءت إحدى المناسبات وفاتحني الملك في طلاقه من السيدة صافيناز هانم ذو الفقار قلت له:

إن الملكة هي سيدة وإن البلد نصفها من النساء وكلهن سوف يعطفن عليها بعد طلاقها وبخاصة أن بنات الملك سوف يبقين في حضانتها ولا أوافق جلالتكم على فكرة الطلاق ولكن الملك قال:

ألست إنسانا أليس لي الحق كأي إنسان في أن أطلق زوجتي ما دمت غير سعيد معها.

فقلت له:

يا صاحب الجلالة إن جلالتكم إنسان ولكن ليس ككل الناس فهناك اعتبارات أخرى. ونقل الملك الموضوع إلى مسألة أخرى نامت حكاية الطلاق لفترة.

ثم يستطرد عبد الهادي باشا في روايته لقصة طلاق الملكة فريدة أن الملك أجريت له عملية بالإسكندرية وذهب الجميع لعيادته واستدعى الملك إلى غرفته بالمستشفى عبد الهادي باشا وقال له:

إن جميع الناس سألوا عني في المستشفى إلا فريدة.

فقال له معللا عدم زيارتها:

إنها لا تعلم بخبر العملية ولو كانت قد علمت بها لهرعت إلى المستشفى وكان عبد الهادي باشا يطمع في أن تتاح فرصة لرفع الخلاف بين الملكة والملك وعودة الحياة الزوجية بينهما

ولكن الملك صاح غاضبا:

أنا لا أريد أن أراها ولا أريد أن تأتي لزيارتي. وساءت الأمور بسرعة فاستدعى نائب المحكمة العليا الشرعية للإشهاد على وثيقة الطلاق.

وجدير بالذكر أن الشيخ محمد إبراهيم سالم نائب المحكمة بذل قصار جهد في أن يجعل الملك يعدل عن الطلاق بل اقترح عليه أن يكون الطلاق رجعيا لتمكن الملك من مراجعة زوجته. ولكن الملك رفض..وأصر على أن يكون الطلاق بائنا..

مجوهرات الملك محجوزة في جمارك إيطاليا

كانت التعليمات الصادرة من القصر بعد مولد الأمير أحمد فؤاد ولي الهد أن تكون الهدايا التي يقدمها المواطنون إلى السراي عينية ومن الأفضل أن تكون من الذهب الخالص بمناسبة هذا الحدث الفذ.

وكان مصدر هذه التعليمات الأستاذ كريم ثابت باشا المستشار الصحفي لجلالة الملك. وأذكر أن المرحوم اللواء وحيد شوقي بك كان قد قدم للقصر هدية عبارة عن صينية من الذهب وبها جنيهات ذهبية تحمل صورة الملك فاروق كما أن كريم ثابت أوعز إلى الكنيسة المارونية التي كان ينتمي إلى طائفتها لتقديم صينية من الذهب أيضا كذلك البطريركية القبطية.

وأذكر أن الملكة السابقة ناريمان عندما حصلت على حكم بحضانة الأمير الصغير ذهبت إلى إيطاليا لتنفيذ الحكم وتفقد أحوال الصغير وثروته ففوجئت بأن مجوهرات الملك ما زالت موضوعة في أكثر من سبعة صناديق من الخشب ملفوفة فورق جرائد بالية ومودعة بالجمارك بعد أن ثار خلاف بين الملك فاروق وسلطات إيطاليا حول الرسوم المستحقة على المجوهرات بالجمارك. وعرضت القضية أمام القضاء الإيطالي.

النحاس باشا يؤلف وزارة 1950

أذكر أن أول يناير سنة 1950 كان يوم عطلة لمناسبة الاحتفال بالمولد الشريف وسألت فؤاد باشا عن الانتخابات في أثناء تناولنا طعام الغداء على مائدة المرحوم محمد حشمت وعن دائرة باب الشعرية التي كان مرشحها فيها عن الوفد المرحوم المهندس مصطفى موسى وكان طالبا بكلية الهندسة ضد السيد/ سيد جلال مرشح السعديين ونائب باب الشعرية في برلمان 1945.

فقال سراج الدين باشا:

لابد أن ينتصر سيد جلال.لكن أصررت على أن الفوز سوفي يكون معقودا لمصطفى موسى ولكن فؤاد باشا لم يرجع عن رأيه فتراهنا على خمسة جنيها أدفعها إذا لم يكسب مصطفى موسى الجولة الانتخابية. وقد حصلت على هذا المبلغ بعد إعلان نتيجة الانتخابات في اليوم الأول من ظهور النتائج وكانت معارك الانتخابات شديدة وكان من المعروف أن الوفد سوف يكتسح خصومه.

وفعلا ظهرت النتائج لتؤكد هذا الفوز الساحق واجتمع مجلس الوزراء برئاسة حسين سري باشا وأكبر الظن أنه اجتمع لمناقشة وزير الداخلية هاشم باشا بعد أن تناولته الصحف المعارضة للوفد بالنقد والطعن والتجريح ووصفته صحيفة أخبار اليوم بأن الوزير الصغير. ثم اجتمع سري باشا في اليوم التالي بالأستاذ إدجار جلاد باشا.

وفي اليوم الثالث كان الملك يفتتح مؤسسة مكافحة الحفاء ووقف سري باشا منتظرا وصول الملك ومرتبا ما يقوله لو سأله الملك عن سبب اكتساح الوفد للانتخابات ولكن الملك لم يسأله شيئا.

ثم استمرت مقابلات سري باشا لبعض الشخصيات غير الوفدية كالمرحوم أحمد خشبة باشا وغيره من الأحرار الدستوريين وبعض الوفديين كالأستاذ عبد الفتاح الطويل باشا وبعض المستقلين كالدكتور عبد الجليل العمري والأستاذ عبد الرحمن حقي واللواء محمود هاشم باشا كاتم أسرار وزارة الحربية أحمد عبد السلام الكرداني بك وكنت أعجب لهذه المقابلات وتساءلت هل يريد سري باشا تشكيل وزارة جديدة أو أن النحاس فوضه لتشكيل مثل هذه الوزارة؟

وكان الجوس السياسي يسوده الغموض والشائعات. فالوفد قد حصل على أغلبة برلمانية ساحقة تؤهله لتأليف الوزارة وفي انتخابات الإعادة كانت النتيجة فوزا مبينا للوفد لا خلاف فيه.

وحضر فؤاد باشا من عزبته مساء 10 يناير سنة 1950 وقابل النحاس باشا في اليوم التالي ثم صدر أمر ملكي بتكليف النحاس تشكيل الوزارة الجديدة وقدم حسين باشا سري استقالته ظهر يوم الخميس 12 يناير سنة .195 بعد أن اجتمع مجلس وزرائه لمدة نصف ساعة وغادر رئيس مجلس الوزراء مكتبه إلى منزل الزعيم مصطفى النحاس وتقابلا معا لمدة ساعتين.

وفي الليلة نفسها ألف الناس باشا وزارته الأخيرة وحلف الوزراء اليمين الدستوري أمام الملك. ومن الطريف أن النحاس باشا رشح وزيرا للتموين الأستاذ المستشار قطب فرحات ولكن سكرتارية الرئيس اتصلت خطأ بالأستاذ مرسي فرحات الذي فوجئ به النحاس باشا بعد حلف اليمين..

وقد اجتمع مجلس الوزراء السبت 14 يناير سنة 1951 لأول مرة. وعقد البرلمان أولى جلساته يوم 16 يناير سنة 1951حيث ألقى النحاس باشا خطبة العرش.

كيف أصبح طه حسين وزيرًا

عند تأليف وزارة النحاس باشا سنة 1950 طلب رفعته أن يشترك الهلالي في الوزارة... ولكنه اعتذر.. وعندئذ طلب النحاس باشا من فريد زعلوك (باشا) حمل الهلالي على الحضور إلى منزل النحاس باشا لكي يقنعه شخصيًا.

وحضر الهلالي باشا.. واجتمع بالنحاس في صالون منزله ثم طلب من الهلالي باشا قبول وزارة الخارجية فاعتذر ولكن الأستاذ فؤاد سراج الدين باشا وفريد زغلول باشا أشارا بإحضار الشيخ طه حسين ليقنع الهلالي باشا بقبول المنصب لصداقته الوطيدة به وحضر الدكتور طه حسين ولكن نجيب باشا أصر على الاعتذار وقال مخاطبًا النحاس باشا.

ما هو عندكم الشيخ طه.وخجل الدكتور طه حسين من هذا القول...وانتهى الاجتماع عندما برحوا منزل الناس باشا على أن يعين عبد اللطيف محمود وزيرا للمعارف وكي عبد المتعال سكرتيرا عاما للبنك الأهلي ولكنه غضب من ذلك بسبب تعيين الدكتور حامد زكي وزير دولة

وقد تدخل الدكتور محمد نصر طبيب النحاس باشا الخاص لفض الخلاف وعين النحاس باشا زكي عبد المتعال وزير ونقل عبد اللطيف محمود إلى وزارة الصحة وذهب الدكتور طه حسين لمقابلة فؤاد باشا واحتج على معاملة النحاس له فاقترح فؤاد باشا تعيين الدكتور طه حسين وزيرا للمعارف ولكن النحاس خشي من معارضة القصر.. وتمكن فؤاد باشا أن يذلل هذه المشكلة بالاتصال بكريم ثابت وإلياس أندراوس. وصدر المرسوم بتعيين طه حسين وزيرا للمعارف.

وقال له رفعة النحاس باشا:

يا حسين أنا حاطك تحت التجربة.

وقد توطدت لذلك العلاقة بين فؤاد سراج الدين والدكتور طه حسين وازدادت توثقا مع الأيام وفترت علاقاته مع نجيب الهلالي باشا.

وإذا كان لي أن أبدي رأيا في تصرفات عميد الأدب العربي بلا منازع، فأكتفي بالقول بأنها أخلاقياته السياسية منذ أن عرفناه، وعرفنا ظروفه المالية وحاجته إلى الإنفاق على زوجته الفرنسية وأولادها منه. وقد كان لها عليه فضل كبير منذ بداية دراسته في فرنسا مبعوثا من الجامعة المصرية القديمة.

النحاس باشا والمستر بيفن

في 28 يناير سنة 1950 حضر مستر بيفن وزير خارجية بريطانيا حيث قابل وزير الخارجية محمد صلاح الدين باشا. ومما يذكر أن رفعة النحاس باشا كان يجيد اللغة الفرنسية إجادة تامة وكان لا يجيد اللغة الإنجليزية.

وقد اتصل السفير البريطاني بمجلس الوزراء لدعوة رئيس الوزراء لحضور مأدبة عشاء بدار السفارة البريطانية بالقاهرة أقامها لوزير الخارجية الإنجليزي وذكرت رفعة الرئيس بموعد العشاء ولكنه اعتذر عن العشاء ولكني قلت له:

إن وزيرا لخارجية سيحضر المأدبة وأن رفعتك رئيس لمجلس الوزراء وقد استقبلت مستر بيفن صباح اليوم.

ولكنه ابتسم وقال:

يا ابني السياسة كدة.. أنا قابلته في الصباح بمكتبي لعمل رسمي، ولكنني لا أريد الجلوس إلى جواره في مائدة عشاء.. فأنا لا أحب الإنجليز ولن أجلس على مائدة مع الإنجليز إلا مائدة المفاوضات رحم الله زعيم الحريات والديموقراطية.

النحاس باشا والجنرال دي جول

وأذكر أن النحاس باشا كان صديقا حميمًا للمسيو شارل روا رئيس هيئة قناة السويس، وقد سمعت من النحاس باشا أن الجنرال دي جول صديق لشارل روا، وأن النحاس باشا كان يرسل نقودا إلى دي جول في أثناء وجوده في المنفى وإقامته بمصر وتشكيله لحكومة فرنسا الحرة إيمانا من النحاس باشا بالديموقراطية إيمانًا عميقًا..

ولقد كنت الشخص الذي يحمل النقود إلى الزعيم الفرنسي الراحل وكانت مقابلتي معه تتم بمقهى إربيان بمصر الجديدة وكان لموقف النحاس باشا من فرنسا في محنتها ومع زعيمها العظيم في منفاه أثر كبير في العلاقات الفرنسية المصرية والتي أيدت مصر في قضايا الوطنية حتى تأمين القناة سنة 1956 ثم تأييد مصر بعد حرب سنة 1967.

وتولى شارك دي جول الحكم في فرنسا وتحسنت العلاقات بين البلدين التي تربط بينهما أواصر ثقافية وعلمية وسياسية منذ عهد طويل.

مباحثات النحاس باشا والجنرال سليم

في 5 يونيو سنة 1950 وفي أثناء المباحثات التي جرت بين مصطفى النحاس باشا والجنرال سليم قائد القوات البريطانية وكان النحاس باشا يتكلم الفرنسية بطلاقة، ولا يجيد التحدث بالإنجليزية فاقترح أن يندب أحد موظفي وزارة الخارجية المصرية للترجمة من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية وبالعكس وعهد بهذه المهمة إلى الأستاذ رشاد مراد وكان قنصلا عاما في سان فرانسكو. وجرت المحادثات في رياسة مجلس الوزراء.

وأذكر أن الجانب المصري كان برئاسة مصطفى النحاس باشا ويصم: فؤاد سراج الدين باشا وإبراهيم فرج باشا، ومن الجانب البريطاني الجنرال سليم والسر رالف ستفينسون السفير البريطاني بالقاهرة وبعض كبار موظفي السفارة وتولى الأستاذ رشاد مهمة الترجمة وكان عليه أن يترجم ما يقوله مصطفى النحاس باشا بالإنجليزية إلى الجانب البريطاني ثم ينقل بدوره ما قله الجانب البريطاني بالعربية إلى الجانب المصري.

وعادة ما كان يتكلم النحاس باشا بالفرنسية وفؤاد باشا سراج الدين وإبراهيم فرج باشا الإنجليزية فينقل رشاد مراد ذلك بالإنجليزية ثم بالعربية والإجابة عليها وبالعكس، ثم يعد تقريرا بكل ما دار في الجلسة باللغة العربية لرفعه إلى رئيس الوزراء.

وقد كان هذا العمل مجهدا ومرهقا لرشاد مراد. وأذكر أنه كان يخرج للاستراحة بمكتبي بعد كل فترة وقد بدا على محياه التعب واستمرت المحادثات يمين وانتهى الأمر برفض مصطفى النحاس باشا ما عرضه الجانب البريطاني بالنسبة لفكرة الدفاع المشترك، وأن تكون مصر مقرا لقيادة الدفاع عن الشرق الأوسط.

وأذكر أن مصطفى النحاس باشا كان يرفض هذه الفكرة شكلا وموضوعًا أما فؤاد باشا سراج الدين فيبدو أنه كان يحبذ إقامة دفاع مشترك بين الدول العربية، لا تنضم إلى بريطانيا أو أمريكا أو تركيا.

وبعد انتهاء المحادثات وكان في النية أن يتوجه النحاس باشا إلى باريس وأن أرافقه في هذه الرحلة وعرضت على رفعته رأيا هو أن يدعو الأستاذ رشاد مراد إلى هذه الرحلة مكافأة له على مجهوده في أثناء المباحثات.

ووافق رفعته على ذلك وصحب رئيس الوزراء إلى باريس.وهناك لاحظ النحاس باشا أن الأستاذ رشاد لا يبرح الفندق فاستدعاه وقال له:

بلهجة الأبوية:

يا بني لما كنت في شبابك هنا، كنت ما أقعدش في البيت أنت ما معاكش فلوس؟ أعطي لك أنا مش جايبك حرس لي أنا جايبك علشان تتفسح أخرج كل يوم وشوف كل حته.. بس راعي ربنا في تصرفاتك.
وبسبب الترجمة بقي رشاد مراد في رحلة ممتعة في أجمل عواصم الدنيا وبرفقة خليفة سعد العظيم أكبر زعماء مصر في القرن العشرين.

من أسرار المفاوضات التي أجراها الوفد مع بريطانيا

بعد تأليف الوزارة سنة 1950 كان في نية الحكومة أن تجري مباحثات وليس مفاوضات بالمعنى القانوني فالمفاوضات كانت تعني وجود محاضر ومن المحتمل أن تنشر هذه المحاضر وتؤثر تأثيرا كبيرا على سير الأمور، أما المحادثات أو الحوار بالمعنى البسيط فلا يعني أكثر من إلقاء الضوء على قصد المتفاوضين وترك حرية العمل على ضوء الخطوط الواسعة التي تستفاد من سير المباحثات، وبخاصة أن المباحثات لا تقيد أحدًا، ولا تلزم الأطراف بأي شيء.

وكان رأي الحكومة مستقرا على أن يتولى الدكتور صلاح الدين باشا وزيرا الخارجية والأستاذ إبراهيم فرج وزير الشئون البلدية والقروية المحادثات أما عملية المفاوضات فيتولاها رفعة النحاس باشا شخصيا.

وقد طالت المباحثات وتعثرت كثيرا وتعرضت لأن تقطعها إما بريطانيا أو مصر وكان الاتفاق على مجلس الوزراء على الاستعانة بالأستاذ فؤاد سراج الدين باشا إذا وصلت المباحثات إلى طريق مسدود، فيأتي فؤاد باشا ويصل الخيوط من جديد.

ويبدو أن المباحثات لم تنته إلى نتيجة برغم إخفاء أمرها وكانت تتم في مبنى بالمكس بالإسكندرية وقد لاحظ فؤاد سراج الدين باشا أن كلا من الجانب الإنجليزي الذي يضم مفاوضين وضباطا والجانب المصري الذي يضم الوزيرين وبعض كبار الموظفين كان يقوم بتحرير محاضر وكان فؤاد باشا يري أن هذا خطأ بين كما لاحظ فؤاد باشا كما قال لي .

أن الإنجليز لأول مرة في حياتهم أعوزتهم المرونة إذا التزموا خطأ واحدا واستمر زهاء ثلاثين جلسة، وهذه ليست عادة الإنجليز ودبلوماسيتهم العريقة المعروفة بالشدة والجذب، إذا ما أرادوا الاتفاق، وبخاصة أن الوزارة تتفاوض على هذا الأساس منذ توليها زمام الأمور.

ولكن الجانب البريطاني قد التزم خطة معينة هي عدم التفاوض وإثارة المشكلات أمام الجانب المصري. وقد رأى فؤاد باشا بعد أخذ رأي الوزيرين عضوي المفاوضة أن يقوم بالاتصال جانبية مع السفير البريطاني وهي اتصالات بقصد جس نبض السفير وتتم دوم محاضر ودون هيئة مباحثات بأمل الوصول إلى شيء.

ويذكر فؤاد باشا أنه اتصل بالسفير البريطاني بعد أن أوضح له أنه يتحدث بصفته الشخصية فهو لا يمثل الوزارة ولكنه يمثل الوفد بوصفه سكرتيرا عاما وغاية مقابلته هو الوصول إلى نقاط يمكن الاتفاق عليها ومهما يكن من أمر السفير أو من أمر المباحثات التي تمت بين فؤاد باشا وبين السفير فإن هذه المباحثات اتسمت بالصراح والوضوح وأمكنهما الوصول إلى نتيجة طيبة، واتفق الاثنان على أن يصاغ هذا الاتفاق في ورقة عمل وقال السفير إنه سوف يبعث إلى لندن بالخطوط العامة للاتفاق وسوف يتصل بالوزير عند وصول الرد.

وبعد يومين قابل فؤاد باشا السفير الذي أخبره أن وزارة الخارجية البريطانية لم توافق على الاتفاق بدعوى أن الحكومة مقبلة على انتخابات ولا تريد الموافقة على إجراء تستغله المعارضة لاتهامها بالتهاون والتفريط وطلب السفير البريطاني إرجاء المباحثات لحين انتهاء الانتخابات وظهور نتائجها وكان من رأيه أيضا استمرار الاتصال بين الجانبين.

وقد اعترض فؤاد باشا على هذا الرأي معللا ذلك بأن الجانب البريطاني يرد تعطيل الوصول إلى حل وأن ذريعة الانتخابات ليست حجة سديدة لأن البرلمان تعرض عليه نتائج المفاوضات بعد إتمامها وكان الاتصال بين فؤاد باشا والسفير تتم في منزل إلياس أندراوس باشا.

ولكن فؤاد باشا لم يفقد الأمل فطلب من الوزيرين مداومة الاتصال بالسفير واستكمال نقاط البحث معه وسافر فؤاد باشا في إجازة خلال شهر يوليو سنة 1951 وعاد ي 18 أغسطس سنة 1951 فاتصل به رفعة النحاس باشا وطلب منه الحضور إلى سان استفانو للتباحث في شأن المباحثات وبعد بحث واتصالات لم يتقدم الإنجليز خطوة واحدة إلى الأمام وتوقفت المباحثات.

وأذكر أن الدكتور صلاح الدين باشا وزير الخارجية كان قد أدلى بتصريح في مجلس النواب يتضمني القول أن الدورة البرلمانية لن تنفض إلا بعد أن تعطي الحكومة بيانا عن المفاوضات. وقد انقضى شهر أغسطس وتلاه سبتمبر وكان الموقف معقدا للغاية

ظروف تعيين عفيفي باشا رئيسا للديوان الملكي

المعروف أن إنجلترا بعد إلغاء المعاهدة لم تقطع العلاقات كما لم تبدأ حكومة الوفد في قطع العلاقات الدبلوماسية إذ كانت بعض المشاكل المعلقة بين البلدين كالقطن والأرصدة الاسترلينية تدعو الوزارة إلى التمهل في إصدار قرار قطع العلاقات وشكلت الوزارة فعلا لجنة لدراسة الموضوع من كافة نواحيه الاقتصادية والسياسية ولكن الموضوع ظل قيد البحث ولم ينته حتى إقالة الوزارة. ولكن الوزارة سحبت عبد الفتاح عمرو باشا سفير مصر في لندن كنوع من الاحتجاج وليس من قبيل قطع العلاقات وسارع الملك فعينه مستشارًا خاصا له.

أما المسألة التي أثارت زوبعة وأحدثت دويا أكثر مما تستحق فقد كانت تعيين حافظ عفيفي باشا رئيسا للديوان الملكي والواقع أن الحكومة لم تقترح تعيين حافظ عفيفي باشا ولكنها لم تعترض على تعيينه وأرادت الحكومة أن تفوت على الملك فرصة الخلاف حرصا منها على استمرار معركة القنال وأرادت السراي أن تومئ من طرف خفي أن المرشح لرئاسة الوزارة الجديدة هو حافظ عفيفي باشا بعد إقالة النحاس باشا، ولكن الحكومة الوفدية لم تكثرت للأمر فالمسألة لا تستحق منها في هذه الظروف سوى أن يمر التعيين ببساطة، لأن إلياس أندراوس كان يريد أن يعين رئيسا لبنك مصر ومحل حافظ عفيفي باشا فمن مصلحة القصر أن يمنى حافظ عفيفي باشا برئاسة الوزارة حيث كان إلياس أندراوس المستشار الاقتصادي للملك وكل الصفقات التي يتمها كانت لحساب الملك.

الوفد وحافظ عفيفي باشا

كان إلغاء المعاهدة حدثا جليلا في تاريخ مصر فقد أطلقت الوزارة العنان للشعب لكي يعتبر عن كراهيته للاستعمار إلى حد لم يسبق له مثيل منذ قيام ثورة 1919 ألتي كانت صيحة الشعب بقيادة خالد الذكر سعد زغلول باشا.

ولا أغالي عندما أقول إن حكومة النحاس باشا نقلت الإحساس المباشر بطغيان الإنجليز ووطأة الاحتلال من مدن القنال إلى جميع أنحاء البلاد بحيث أعادت إلى الأذهان وذكرى حوادث ثورة 1919 وجمهورية زفتى، ونضال أسيوط.

وشجعت كتائب التحرير بأقصى وسائل التشجيع الأدبي والمادي معا، حتى إن ميكروفون الإذاعة بناء على طلب فؤاد باشا سراج الدين وزير الداخلية كان ينتقل إلى معسكرات الإنجليز في القناة ليروي قصص الاحتلال البريطاني الدموية منذ سنة 1882.

وقد سبق أن ذكرنا أن الوزارة مدت الفدائيين بالسلاح وشجعت ضباط الجيش والبوليس على التطوع واستدعت سفيرنا من لندن وهمت بقطع العلاقات السياسية فلم يبق بينها وين حالة الحرب الفعلية إلا خطة واهية.

ولقد برز أشخاص ثلاثة على مسرح الحوادث هم: إلياس أندراوس وعبد الفتاح عمرو وحافظ عفيفي. ولعب كل منهم دورا خطيرا في هذه الآونة، ولكن أخطر هؤلاء لا مناص كان حافظ عفيفي باشا.

وإذا كانت الحكومة لم تعترض على تعيينه أن تفوت على السراي الصيد في الماء المعكر، فإن الناس قد ثارت على تعيينه بسبب الحديث الذي أدلى به للأستاذ كامل الشناوي ونشرته الأهرام وانبرى فيه مدافعا عن معاهدة سنة 1936 وطالب بالارتباط بالإنجليز إلى أقصى حد في الوقت الذي كانت الحكومة على وشك إلغاء المعاهدة.

وحافظ عفيفي طبيب أطفال دخل السياسة هويا وكان عضوا في الحزب الوطني الذي اختاره سعد زغلول باشا مع الزعيم مصطفى النحاس باشا لينضم إلى الوفد وسار كلاهما في طريق مختلف فبينما كان النحاس باشا رجل الشعب كان حافظ عفيفي في أعداء الديموقراطية وصناع المؤامرات التي دبرت للإنقاص من حقوق هذا الشعب وانغمس بكليته في المضاربات السياسية التي عرفتها البلاد. وكان سفيرًا في لندن وانتهت سفارته بإصداره كتاب الإنجليز في بلادهم.

فقد اشترك في أكبر عدد من تعطيلات الدستور. فبينما نجد علي ماهر اشترك في تعطيل الدستور مرتين، وإسماعيل صدقي مرتين، ومحمد محمود مرة واحدة، نجد حافظ عفيفي أسهم في الانقلابات على الديمقراطية ثلاث مرات:

والأول: مع محمد محمود باشا سنة 1928 في حكومة اليد الحديدية.

والثانية: مع إسماعيل صدقي باشا 1930 بعد إلغاء دستور سنة 1923 وإصدار دستور سنة 1930 الذي رفضه الشعب وقاومه مقاومة رهيبة قمعتها الحكومة بالسلاح.

والثالثة: مع الهلالي باشا في وزارة سنة 1952 حيث أعلنت الأحكام العرفية وعطلت أحكام الدستور.

فقد عينه محمد محمود باشا وزيرا للخارجية وحلقة اتصال بدار المندوب السامي وأخفقت المفاوضات التي أجرتها الحكومة مع بريطانيا وقتئذ وفي وزارة إسماعيل صدقي باشا سنة 1930 نقل من الوزارة إلى وظيفة وزير مفوض في انجلترا لكي يكون سندا للانقلاب في بلاط سان جيمس.

وفي تاريخ المفاوضات المصرية - الإنجليزية يبرز حافظ عفيفي باشا ليضرب الرقم القياس بين جميع الساسة المصريين في مائدة المفاوضات. وإذا كان مصطفى النحاس باشا زعيم البلاد فاوض الإنجليز خمس مرات فإن حافظ عفيفي باشا جلس إلى مائدة المفاوضات ست مرات.

الأول: مع سعد زغلول باشا وعدلي باشا يكن سنة [1924]] (مفاوضات سعد زغلول باشا / ماكدونالد)

والثانية: مع محمد محمود باشا سنة 1928 محمد محمود باشا / هندرسون) وكن وزيرا للخارجية.

والثالثة: مفاوضات صدقي باشا سنة 1930

والرابعة: مع مصطفى النحاس باشا سنة 1936 التي انتهت بتوقيع معاهدة 1936

والخامسة: مع صدقي باشا سنة 1946 وانتهت بمشروع معاهدة (صدقي/ بيفن) وهي المفاوضات التي رفضت فيها أغلبية هيئة المفاوضة المشروع.

وأخيرا: اشتراك في مفاوضات الهلالي باشا ورالف ستيفينسون.

عريضة المعارضة

تقدمت المعارضة في أثناء تولي حكومة الوفد في سنة 1950 بعريضة إلى الملك وكانت المعارضة في هذا الوقت تشعر أنها ضاعت في خضم الجماهير التي ارتضت حكومة الوفد بناء على انتخابات حرة نزيهة وصل فيها الوفد إلى الحكم بعد إقصائه خمس سنوات, ومحاربته حربا لا هوادة فيها وبكافة الأسلحة.

وكانت المعارضة تزعم أن الظروف التي قدمت فيها العريضة إلى الملك هي خير الظروف المناسبة لإصلاح شئون البلاد، أو على الأصح إزاحة وزارة النحاس باشا من الحكم.

وفي الواقع أن حجة الإصلاح في رأينا لا أساس لها فالمعروف أن العريضة قدمت بعد أن أجرت مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء التجديد النصفي لأعضاء مجلس الشيوخ الذي زلزل مقاعد المعارضة جميعا وانتهى بعزل الدكتور هيكل باشا من منصبه كرئيس لمجلس الشيوخ.

كما أن المعارضة تعللت بأن الملك كان في رحلات لا تتصل بالمصلحة الوطنية وأرادت أن تشعره بالمسئولية وإلزامه بالصالح العام، ولكن هذا القول أيضا فيما تعلم لا أساس لله فالوفد في هذه المرحلة بالذات كان على صفاء مع القصر أو في فترة مهادنة فرضتها الظروف العام للبلاد بعد حكومات الأقليات التي استمرت زهاء خمس سنوات وشجعت على توسيع هوة الخلاف بين القصر وممثلي الشعب.

ووقع على العريضة: المرحوم محمد حسين هيكل باشا رئيس الأحرار الدستوريين والمرحوم عبد المرحوم الرافعي بك من الحزب الوطني، ودولة عبد الهادي باشا والأستاذ مصطفى مرعي بك أطال الله بقاءهما في الحزب السعدي والمستقلين.

ووقع هؤلاء على العريضة كما كتبها دولة عبد الهادي باشا ولكن بعض الساسة طلبوا تعديل صيغة العريضة وعدلت بالفعل ووقع عليها بعد التعديل الدكتور نجيب إسكندر ومحمود غالب باشا وطه السباعي باشا.

وجدير بالذكر أن عبد القوي أحمد باشا وزير الأشغال الأسبق وقع على العريضة واختفى بعد التوقيع ورفض علي ماهر باشا وحسين سري باشا الاشتراك في التوقيع على العريضة كما أن العريضة عرضت على بعض السياسيين الآخرين ولكنهم رفضوا جميعًا.

وقد أصر الموقعون على العريضة على تقديمها عندما علم الملك بالعريضة أمر رجال القصر بعدم مقابلة أي فرد من الموقعين على العريضة.

ويذكر أن الملك قد عرف قصة العريضة من أحمد نجيب الجواهرجي الذي رجا الملك أن يسمح له بمقابلة عبد الهادي باشا عن طريق الأستاذ زكي علي وهو صديق لدولة عبد الهادي باشا وأحد وزرائه لإقناع عبد الهادي باشا بعدم تقديم العريضة.

وتمت المقابلة بين عبد الهادي بباشا وأحمد نجيب الجواهرجي وأبلغ نجيب الجواهرجي أن عدم تقديم العريضة رغبة ملكية، فرفض عبد الهادي باشا وأصر على تقديمها.وأرسلت العريضة بالبريد المسجل ووصلت فعلا إلى الملك الذي أخذها ووضعها في جيبه.

وقد حاول الملك مرات كثيرة حمل الموقعين على هذه العريضة على الاعتذار ولكنه أخفق غلا حافظ رمضان الذي بادر بالاعتذار إلى الأعتاب الملكية ونشر هذا الاعتذار في صدر جريدة الأهرام في 18/ 6/ 1950

الهلالي باشا يوافق على إلغاء المعاهدة

من المعروف أن القصر كان يدخر المرحوم الهلالي باشا لوقت معيني وكان الهلالي باشا مرشحا لتولي الوزارة بعد مصطفى النحاس باشا، ومن المعروف أيضا أن بعض الصحف المناوئة للوفد بدأت تركز الأضواء على الهلالي باشا وتشيد بعبقريته وذكائه وفطنته وتؤكد أنه سوف يقوم، بدور معين وتذكر بمناسبة وبدون مناسبة أنه رفض أن يدخل حكمة الوفد وأن مصطفى النحاس باشا عرض عليه أية وزارة يختارها وأنه عرض عليه وزارة الخارجية.

وكان في تصور السراي أن يأتي الهلالي باشا بعد مصطفى النحاس باشا وفي هذه الحالة إما أن يؤيد مجلس النواب الوفدي الهلالي باشا فيظل البرلمان قائما أولا يؤيده فيصدر قرار بحله.

وتمت مقابلة بين الملك والهلالي باشا ودار الحوار حول إلغاء المعاهدة فأقر الهلالي باشا رأي الحكومة في إلغائها ودلل بأن الشعب متحمس لإلغاء المعاهدة وأن المعاهدة نسها استنفدت أغراضها وأن حكومة الوفد أرادت أن تضع الملك أمام إرادة الشعب وتعرضه لامتحان رهيب وأخيرا لا مفر من إلغاء المعاهدة لحماية الملك شخصيا من غضب الشعب الثائر.

وخاصة في هذه الآونة التي بدأت فضائح القصر تنتشر وتفرج الإشاعات وربما يعلل البعض موافقة الهلالي باشا على إلغاء المعاهدة بغرض آخر، وهو أنه كان لابد أن يعلم أن إلغاء المعاهدة يعجل بذهاب حكومة الوفد وأنه سوف يثير الخلاف بين الإنجليز والقصر والحكومة ولابد في النهاية أن ينتهي بإقالة النحاس باشا.

ولكن لا يجوز الحكم بالعلل والمهم أن دولة الهلالي باشا كان متقنعا بإلغاء المعاهدة وقد أفتى بذلك بعقلية القانون الدقيق.

ومن المقرر أن القصر لم يكن تخطر باله عواقب إلغاء المعاهدة، فقد صدق الملك على مرسوم الإلغاء دون أن يعلم بما سوف تتمخض عنه الحوادث، فالوفد كان جادا في تنفيذ ما اعتزمه وما يقتضيه الإلغاء من إجراءات وتعبات.

تحديد إقالة الملك فاروق

في يوم الأحد 7 أكتوبر سنة 1951 عاد حضرة صاحب المقام الرفيع المغفور له مصطفى النحاس باشا طيب الله ثراه من الإسكندرية إلى القاهرة بقطار الساعة الخامسة والنصف مساء.

وفي يوم الاثنين 8 أكتوبر طلب مني رفعة النحاس باشا العمل فورا في توصيل ميكروفون من قاعة مجلس النواب إلى مكتبه برئاسة مجلس الوزراء على أن يتم هذا التوصيل في أقل من ساعة وكلفت المهندسين وتم ما أراد الزعيم.

ثم استدعاني رفعته قال:

ادخل المجلس من الموظفين وادعهم جميعا لحضور الاجتماع بمجلس النواب ثم أضاف. إن جلالة الملك سوف يحضر وبمجرد وصوله يدخل فورا إلى مكتبه.وقد تم ذلك في دقائق دون علم أحد. كما طلب مني مصطفى النحاس أن أغلق باب المكتب بالمفتاح وألا أسمع للملك بالخروج من المكتب.

وسألته مستفسرا:

كيف يتم كل هذا يا رفعة الباشا.. إنه الملك.. لا أجرؤ أن أفعل هذا ولكن النحاس صمم على ما قال. وعند دخول الملك إلى مكتب رئيس الوزراء بالرئاسة قال له:

عن إذن مولانا لما أروح البرلمان جلالتك سوف تسمع ما أقول والجهاز موجود أمامك على المكتب. وخرج وأغلق بيده باب الغرفة وأخذ المفتاح ثم قال لي: تعالى معي.

وذهبنا معا إلى مجلس النواب واستقبل النحاس باشا استقبالا حارا ووقف على منبر مجلس النواب ليعلن للأمة أنه من أجل مصر وقعت معاهدة 1936 ومن أجل مصر طلبكم اليوم بإلغائها وعاد فورا إلى مجلس الوزراء وفتح باب المكتب.

ومما يذكر أن إياس أندراوس قابل فؤاد سراج الدين وسأله عن نية الوزارة نحو إلغاء المعاهدة قبل ثلاثة أيام من الإلغاء ولكن فؤاد باشا نفي ذلك نفيا باتا.

وذهب إلياس أندراوس إلى السفير البريطاني وكان يبدو أنه موفد من قبله لينقل إليه عدم اعتزام الحكومة إلغاء المعاهدة مؤكدا ذلك وأنه استعلم الأمر شخصيا من وزير الداخلية الذي جزم له بأنه ليس من مشروعات الوزارة إلغاء المعاهدة.

وأبرق السفير إلى حكومته بتكذيب كل الشائعات حول إلغاء المعاهدة ثم فوجئ السفير البريطاني إلى حكومته بتكذيب كل الشائعات حول إلغاء المعاهدة ثم فوجئ السفير البريطاني وإلياس أندراوس بإلغاء المعاهدة وتصديق الملك عليها.

وقد عاتب إلياس أندراوس فؤاد سراج الدين بعد ذلك الذي قال له:

أنت تنتظر كنت أقول ح نلغي المعاهدة عشان تروح تبلغ السفير البريطاني بالإلغاء فرد إلياس أندراوس: أنت يا معالي الباشا حرقت السفير البريطاني لدى حكومته وفي رأيي ف هذه المرة الأولى الذي يؤكد فيها السفير البريطاني أمرا ثم يظهر الأمر بخلاف ما أكد.

وفي صباح الثلاثاء 9 أكتوبر سنة 1951 رجع النحاس باشا إلى الإسكندرية وفي رأيي أن النحاس باشا بإلغاء معاهدة 1936 قام بعمل وطني من أعظم الأعمال في تاريخ مصر وكأنه يحس أن هذا العمل هو آخر عمل سوف يقدمه إلى مصر طوال زعامته لها لمدة تقارب 25 عاما أبلى فيها بلاء حسنا وناهض فيها أعداء الأمة، وكافح من أجل حرية البلاد واستقلالها.

وكان إلغاء المعاهدة بالظروف والملابسات ومكانة القصر واتصاله بالإنجليز الوثيق خير دليل على بسالة مصطفى النحاس ووطنيته التي لا يمكن للشعب المصري أن ينكرها عليه.

ورحم الله النحاس حيث قال بالإسكندرية بعد إلغاء المعاهدة وكان في آخر خطبه:

ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد.. لقد وقعت معاهدة 1936 من أجل خير مصر ثم ألغيتها أيضا من أجل خير مصر.. لقد بلغ الكتاب أجله...

احتجاج الدول الأربع على إلغاء المعاهدة

بعد إعلان قرار إلغاء المعاهدة في 8 أكتوبر سنة 1951 طلب سفراء الدول الأربعة وهي انجلترا وأمريكا وفرنسا وتركيا مقابلة وزيرا لخارجية بصفة عاجلة وعندما علم النحس باشا بهذا الطلب قال إنها مظاهرة سياسية.

وطلب من الدكتور صلاح الدين باشا أن يقابل الوزير السفراء كل على حدة، على أن تتم المقابلة بين كل سفي وآخر بعد انقضاء نصف ساعة. وتمت المقابلة وكان من الغريب أن تقدم السفراء جميع بمذكرة تضمنت صيغة طبق الأصل احتجاجا على إلغاء معاهدة سنة 1936 وفي الحقيقة كانت العقبة الكثود هي السودان وحين كان الجلاء أمرا مفروغا منه ويمكن الاتفاق بشأنه فإن السودان كان موضع مناقشات ومساومات وأخذ ورد طويلين.

وطالب السفير بالرجوع إلى السودان لحل الإشكال ولكن الحكومة رفضت هذا الطلب بشدة وشجبت محاولات الانفصال وطالبت بالوحدة بين البلدين الشقيقين تحت التاج المصري.

والواقع كما ذكرت أن مذكرة السفراء ولنقل إنها كانت مذكرة انطوت على صيغة واحدة تضمنت إجراء استفتاء حول مصير السودان وكان الوفد يرفض هذه الفكرة من أساسها إذ لم يكن القطر الشقيق إلا جزءا لا يتجزأ من الوطن كالإسكندرية والغربية وأسيوط وأسوان.

وعند اجتماع مجلس الوزراء عرض وزير الخارجية المذكرة التي قدمها السفراء ورفضها المجلس بالإجماع وكلف المجلس الوزير مقابلة السفراء فرادى وإعلانهم بقرار الرفض.

وطلب صلاح الدين من مجلس الوزراء أن يترك له الرد على السفراء وكانت الغاية من ذلك هي التسويف من جانب صلاح الدين باشا لرفض المذكرة أو تأجيل الرد عليها وكأن مجلس الوزراء مازال يبحث المذكرة.

ولكن المجلس رفض ذلك لأن المذكرة مرفوضة من أول وهلة، بل إن المجلس أصر على ذلك وعزم النحاس باشا على إعلان قرار رفض مذكرة السفراء أمام مجلس النواب في جلسة علنية.

وكان الزعيم الجليل مصطفى النحاس حاسما في مثل هذه الأمور ولا يقبل فيها جدلا أو مناقشة أو مساومة بأي حال بل كانت هذه مبادئه التي كان يدين بها منذ انتمائه إلى الحركة الوطنية في مطلع شبابه وكان قراره دائما بالنسبة لما يمس مصر والسودان أو يكون محلا لمزايدة أو تلاعب الرفض القاطع الذي لا يقبل بحال الرجوع فيه.

وكانت خطة سراج الدين باشا تتمثل فيما يلي:

يطلب أحد نواب المعارضة (الأستاذ حامد العلايلي بك) وهو من الأحرار الدستوريين الكلمة في مجلس النواب فيرد عليه رئيس المجلس المرحوم عبد السلام فهمي جمعة باشا عما يطلب بهذه الكلمة.

فيقول النائب:

هناك مسألة خطيرة لا يمكن السكوت عليها وأرجو أن يتسع صدر المجلس إلى سماعها أرجو سؤال الحكومة فيها.ط

فيوافق رئيس المجلس على إعطاء العضو الكلمة فيقول بصوت عال:

إنه نمى إلى علمي أن الدول الأربع وعددها تقدمت باقتراح إلى الحكومة حول إلغاء المعاهدة والخطوات التالية عليها.

ويطلب وزير الداخلية وسكرتير عام الوفد فؤاد سراج الدين باشا الكلمة ويرد بالآتي:

إن الحكومة ترحب بسؤال النائب المحترم ويهم الحكومة أن توضح لحضرات الأعضاء المحترمين حقيقة الأمر فقد تقدمت الدولة الأربع الكبرى بمذكرة وقد عرضت على مجلس الوزراء فرفضها بالإجماع لما تنطوي عليه من تدخل في شئون مصر وتمس استقلالها وأمانيها. ويصفق الأعضاء طويلا لكلمة الوزير الذي أجهز على كل مساومة يمكن أن تتم في هذا الموضوع الخطير.

لماذا أراد القصر عزل حكومة الوفد..؟

بعد إلغاء معاهدة 1936 في 8 أكتوبر سنة 1951 كما أسلفنا وإعلان الحكومة الجهاد ضد القوات المحتلة في قناة السويس بدأت أعصاب الملك تهتز وبدأ يخشى مغبة استمرار الكفاح الشعبي الذي قاده مصطفى النحاس وقد حاول البعض أمثال: إلياس أندراوس استغلال حالة الملك النفسية وإيهامه بأن الوفد يزمع عزله.

وكما أوضحنا أنه كان هناك مأدبة غداء أقامها الملك بمناسبة سبوع ولي العهد لكبار رجال الجيش في يوم السبت 26 يناير سنة 1952 أي يوم حريق القاهرة.

وعند اندلاع الحرائق وامتدادها إلى أنحاء كثيرة من العاصمة توجه وزير الداخلية فؤاد باشا سراج الدين إلى القصر لكي يعرض على الملك ما آل إليه الحال ويطالب بإنزال الجيش إلى الشوارع لحماية العاصمة.

وجلس وزير الداخلية ينتظر المثول أمام الملك مدة ساعتين ونصف الساعة ثم أذن له بمقابلة الملك وكان معه حافظ عفيفي باشا رئيس الديوان الملكي وكريم ثابت باشا المستشار الصحفي.

وطالب فؤاد باشا الملك بضرورة نزول الجيش إلى العاصمة ووافق الملك على ذلك قد نمى إلى علمي فيما بعد أنه قبل 26 يناير سنة 1952 عقد اجتماع بين حافظ عفيفي باشا وكريم باشا ثابت والفريق محمد حيدر باشا واستقر الرأي على الإطاحة بحكومة الوفد ولكن حيدر باشا لم يقتنع بذلك وأوعز إلى الملك بالإبقاء على الحكومة الوفدية حفاظا على العرش.

وقد علمنا أن السبب في ذلك يرجع إلى أن حافظ عفيفي باشا كان يريد أن يتولى رئاسة الوزراء، وأنه كان ضليعا في المؤامرة التي أدت إلى إعفاء النحاس باشا من الحكم.

ولكن الملك بعد إقالة النحاس باشا لم يكلف حافظ عفيفي باشا كما كان يريد ويدبر بل كلف دولة الهلالي باشا بهذه الوزارة فاعتذر مشيرا بتكليف رفعة علي ماهر باشا بتشكيل الوزارة الجديدة

أما إلياس أندراوس فقد كان يحقد على فؤاد باشا سراج الدين حقدا شخصيا ولأسباب اقتصادية منها أن إلياس أندراوس كان يضارب على القطن في البورصة نزولا أما سياسة فؤاد باشا سراج الدين منذ توليه وزارة المالية فكانت تهدف إلى ارتفاع أسعار القطن مما أدى إلى إلحاق الخسائر بإلياس أندراوس الذي صمم على إبعاد فؤاد باشا عن الحكم وكثيرا ما أدخل في روع الملك أنه بحكم اتصاله بالإنجليز فهم أن الوزارة في سبيل قطع علاقاتها بانجلترا وإذا أقدمت على ذلك فإن انجلترا سوف تعتبر نفسها في حالة حرب مع مصر وستأخذ الملك أسير حرب.

ولذلك فقد ألح على الملك بضرورة إقالة الوزارة. أما بالنسبة لكريم ثابت فلا نطيل القول بأن العداء قديم بينه وبين حزب الوفد شخصيا فقد كان الوفد يعلم أن كريم ثابت شخص لا يؤمن جانبه وأنه كان قوي التأثير على القصر في نواح غير أخلاقية وكان كريم ثابت يعلم أن حكم الوفد عقبة كثود أمامه، وأن الوفد لن يصبر على بقائه بالقصر وأن وجوده عاجلا كان أو آجلا مؤقت وسوف تطلب الحكومة عزله يوما ما.

ولذلك فقد انضم إلى ركب الناقمين على الحكومة وسياستها، وكان أحد مدبري الطبخة كما قال حيدر باشا لفؤاد سراج الدين باشا.الفدائيون والسلاح.

لما ألغيت معاهدة سنة 1936 وأعلنت حكومة الوفد الجهاد ضد الإنجليز بدأت حركة الفدائيين في منطقة القنال تؤرق مضاجع جنود الاحتلال وكانت الحكومة الوفدية تشجع الحركة بكل طاقتها وتمد الفدائيين بالسلاح وذلك عن طريق ضباط من البوليس.

وقد ضمت الحركة بين أطرافها شبابا من كافة النزعات وكان قوامها طلبة الجامعة الذين قدموا زهرة شبابهم كما انضم إلى حركة الفدائيين بعض الإخوان المسلمين ولفيف من ضباط الجيش.

ولكن كان والحق يقال – محرك هذه الحركة ضباط البوليس الذي كان وراءهم وزير الداخلية نفسه فؤاد سراج الدين باشا.

ولقد اكتشف الإنجليز هذه المسألة وعرفوا أن حكومة الوفد تحرك الفدائيين وحضهم على مزيد من حركة العنف وتخريب المعسكرات فأرسل رالف ستيفنسون السفير البريطاني حينذاك إنذارا للحكومة جاء فيه.

إن كل من يقوم بهذه العمليات ضباط من البوليس. وإن الحكومة البريطانية تحذر حكومة الوفد من الاستمرار في عمليات الفدائيين وهذا الإنذار ما زال موجودا في أرشيف وزارة الداخلية وبين المستندات الرسمية ينطق بخطورة عمليات الفدائيين المصريين.

ولكن فؤاد سراج الدين باشا لم يأبه لهذا الإنذار وسخر منه، وأشار بحفظه والحق أقول إن هذه المعركة النبيلة التي خاضها شباب الأمة ونفخ فيها الوفد من روحه، وفقت توفيقا كبيرا وكانت حركة كما قال لي رفعة النحاس باشا مباركة ومثمرة وكان شغل الحكومة الشاغل أن يستمر وهج الحركة الوطنية مشتعلا وأن تستمر حركة الفدائيين فعالة كي يضطر جيش الاحتلال أن يرحل من منطقة القناة خاصة بعد أن امتنع العمال المصريون عن العمل في معسكرات الاحتلال، وبعد أن قاطع تجار المنطقة الإنجليز بتحريض من الحكومة وبعد أن سددت المنافذ على بريطانيا أن تحارب الفدائيين بوصفهم جيشًا.

وسوف يسجل التاريخ أن حكومة الوفد كانت تشتري السلاح من الصعيد وأن الأستاذ رفيق الطرزي وهو نائب في البرلمان الودي ونجل أحد أقطاب الوفد القدامى كان يرسل السلاح من بلدته منفلوط في الصعيد إلى الفدائيين بمنطقة القناة، كما أن محافظة بور سعيد عبد الهادي غزالي كان ينقل بنفسه السلاح بسيارته الحكومية إلى الفدائيين.

وأذكر أنه ذات يوم حضر لمنزل الأستاذ فؤاد سراج الدين باشا قريب له كان يحمل أخبار غريبة في بابها تتلخص في أنه علم بأن هناك قوات مسلحة قادمة من أستراليا سوف تصل إلى القناة لضرب الفدائيين وتعزيز القوات البريطانية الموجودة بالمنطقة.

واقترح على وزير الداخلية نسف القناة وسدها لكيلا تصلح للملاحة وذلك عن طريق طرد ألغام ينقل من القاهرة إلى بلدة القنطرة شرق بالسكك الحديدية لكي تتفادى تفتيش الإنجليز ثم يثبت في مكان ما يعينه الضباط لنسف القناة وتعطلها وأن يصحب الطرد: وجيه أفندي.

فوافق فؤاد باشا وزير الداخلية واتصل فورا بالمهندس المرحوم سيد عبد الواحد وكان مديرا عام لسكك حديد مصر وأخبره بأن هناك طردا من وزارة الداخلية سرى وعلى قدر كبير من الأهمية ولا يريد أن يطلع عليه أحد ومعه موظف اسمه وجيه أفندي

كما أتصل وزير الداخلية في الوقت نفسه بمأمور القنطرة شرق وأبلغه بأن طردا هاما يصل إليه الليلة ومعه موظف اسمه: وجيه أفندي وطلب منه أن يمر من الجمرك.دون تفتيش وأن يتم على وجه السرعة وبصورة سرية للغاية.

وقد تم كل شيء في أقل من 48 ساعة ولكن الوزارة لم تتمكن من أن تستمر في جهادها المقدس بسبب إقالتها بعد 22 ساعة.وصدرت الأوامر مبعد ذلك بوقف نشاط الفدائيين ووأدت الحكومات المتعاقبة بأمر الإنجليز نشاط الفدائيين.

وأذكر أنه عندما حوكم فؤاد باشا سراج الدين أمام محكمة الثورة سنة 1953 ذكر للمحكمة ما قام به من أعمال في منطقة القناة ومنها نقل الطور بيد لنسف القناة.

وقد نسب رئيس المحكمة السيد عبد اللطيف البغدادي هذه الواقعة إليه كتهمة ولكن سراج الدين باشا أنكر ذلك بقوله:إن أحد الضباط منكم هو الذي طلب مني ذلك ونفذت له ما أراد.

وفي اليوم الثاني للمحاكمة وأثناء الاستراحة دخل شخصي على فؤاد سراج الدين باشا ومن الطريف أنه كان وجيه أفندي وهو قائد الجناح وجيه أباظة) وقال له إنه قادم خصيصا لكي يستدعيه فؤاد باشا إلى الشهادة ولكي يؤدي رواية سراج الدين باشا

ولكن فؤاد باشا اعتذر له قائلا:

إن هذه الشهادة لا تقدم ولا تؤخر.

ولكن وجيه أباظة ألح عليه إلحاحا كبيرا ولم يستجب له فؤاد باشا. وهنا اقتحم وجيه أباظة المحكمة أثنا الاستراحة وأعلن لها أن ما قاله فؤاد سراج الدين صحيحي فقد نقل اللغم، أما كل ما قام به عبد اللطيف البغدادي فهو نقل جهاز اللغم.

أمريكا تحتج على.. مقتل ممرضة أمريكية

بدأت حركة نضال الشعب ضد الاحتلال البريطاني واستشهد المصريون بالمئات برصاص الإنجليز الغادر.

وبلغ إسراف الإنجليز ووحشيتهم في إراقة الدماء مبلغا تأباه الضمائر، فقد أطلق رصاصة من أحد جنود الاحتلال على الراهبة الأمريكية آن بديرسان فنسان دي بول يوم 19 يناير سنة 1952 فأودت بحياتها.

وكان لاغتيال الراهبة الأمريكية دوي هائل في الأوساط الأمريكية والبريطانية واحتج السفير الأمريكي بالقاهرة مستر جيفرسون كافري على مقتل الراهبة آن.

وقدم هذا الاحتجاج إلى الدكتور محمد صلاح الدين باشا وزير الخارجية وكان الاحتجاج شديد اللهجة فاتصل صلاح الدين باشا بسراج الدين باشا وأطلعه على المذكرة وقال له:

إن السفير يريد مقابلتك. ورفض فؤاد باشا ولكن النحاس باشا طلب منه أن يجتمع بالسفير كافري واجتمع السفير الأمريكي بالوزيرين المصريين وسأله وزير الداخلية عن سبب الاحتجاج وهل تأكدت الحكومة الأمريكية من الرصاصة التي قتلت الراهبة أنها رصاصة أطلقها مصري؟ ورفض الاحتجاج لحين إجراء تحقيق في هذا الموضع وكان السفير ضيق الصدر بادي التبرم.

وثبت من التحقيق في مقتل الراهبة استحالة أن يكون مصدر الإصابة مصريا إن الأدلة كانت قاطعة في أن الرصاصة من مصدر بريطاني وأنها لقيت مصرعها بنفس الرصاص الذي استشهد به المصريون. وبعد هذه

النتيجة استدعى كافري لمقابلة سراج الدين باشا الذي قال له:

لقد كانت الحكومة الأمريكية تطالب بتعويض عن فعل ما نرتكبه، ولو كنا قد قبلنا مذكرة الاحتجاج لطالبنا نحن بالتعويض.

عزام باشا.. والدفاع المشترك

بعد إلغاء معاهدة 1936 قدم السفير البريطاني سير رالف ستيفنسون مذكرة إلى رفعة النحاس باشا رئيس مجلس الوراء في 13 أكتوبر 1951 تنطوي على مروع للدفاع المشترك في الشرق الأوسط تكون مقر قيادته القاهرة وتشترك فيه الدول الأربع: انجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا..

مما يذكر أن النص على تركيا في معاهدة الدفاع المشترك جاء في اتفاقية الجلاء التي أبرمها الرئيس عبد الناصر في أكتوبر سنة 1954 مع الجانب البريطاني وقد رفض النحاس باشا المذكرة شكلا وموضوعا بل رفض أن يناقش الفكرة من أساسها ومما يذكر أنه لم يمض وقت طول بعد إعلان قرار النحاس برفض قيادة الشرق الأوسط ومشروعاتها الدفاعية وهو ما اعترض عليه منذ وزارة إسماعيل صدقي باشا سنة 1946 في مشروع المعاهد التي سميت باسم معاهدة صدقي بيفن وهي التي ثار عليها الشعبي وانتهت باستقالة الوزارة وقطع المفاوضات ومن بعد عرض النقراشي باشا النزاع على مجلس الأمن سنة 1947.

وأذكر أن عبد الرحمن عزام باشا قابل المرحوم اللواء وحيد شوقي بك مدير خفر السواحل في هذا الحين وقال له:

لماذا استعجلت الحكومة رفض المشروع، وهناك مشروع للضمان الجماعي موجودا بالجماعة العربية قدمه الدكتور ناظم القدس منذ سنة 1949 ولم يتحرك حتى الآن؟ ولكن النحاس باشا لم يقبل مشروع الدفاع المشترك وكان من رأيه أن يتخذ موقفا جديا فوريا من الغرب وتهيئة الشعب لكل الظروف والاحتمالات.

على هامش حريق القاهرة سنة 1952

اجتمع السفير البريطاني سير رالف ستيفنسون مع حافظ عفيفي باشا رئيس الديوان الملكي وناقشه في الأزمات التي هدد بها الوفد الوجود البريطاني في منطقة قناة السويس وأثره على علاقات البلدين.

وكان الاجتماع قبل حريق القاهرة يوم 26 يناير سنة 1952 بأيام قليلة ووافقه حافظ باشا على رأيه خاصة وأن الملك وافق على تولي الوفد الحكم للوصول إلى معاهدة مع الحكومة البريطانية لكن الوفد لم يقبل العروض البريطانية كما لم يقبل مشروع قيادة الدفاع عن الشرق الأوسط الذي تقدمت به بريطانيا وأمريكا وفرنسا وتركيا بل إنه ألغى معاهدة 1936 وأصح الاحتلال البريطاني بدون أي سند.

وكان إلياس باشا المستشار الاقتصادي للملك فاروق يقوم بتبادل الرسائل بين الملك والسفارة البريطانية وأفهم الملك أن الإنجليز قد تخلو عن أي مساندة للقصر، وأن حرب مصطفى النحاس باشا للإنجليز في القناة قد تؤدي إلى عزل الملك.

وبعد اجتماع السفير البريطاني مع حافظ عفيفي باشا قابل حافظ باشا الملك الذي بدا ثائرا على الأوضاع فقال له حافظ باشا.إنني أرجو جلالتك أن تضبط أعصابك عدة أيام قليلة.

وفي يوم 26 يناير 1952 بدأت المظاهرات صباحا وأحرقت القاهرة وطلب القصر من الوزارة إعلان الأحكام العرفية لتمكين القصر من المؤامرة وإقالة الوزارة وقد خشي النحاس باشا من نتيجة إعلان الأحكام العرفية ولكن وزراءه أقنعوه ومن ثم كانت الإقالة التي توقعها المرحوم النحاس باشا.

ذلك أن المرحوم حافظ عفيفي باشا، وكريم ثابت باشا حاولا مباشرة إقناع الملك بالإقالة لكن المرحوم الفريق محمد حيدر باشا كان ضد الإقالة واستطاع إقناع الملك وخرج حيدر باشا ليبلغ فؤاد سراج الدين باشا تليفونيا فقال له فؤاد باشا: وسبتهم معاه ليه زمانهم كملوا الطبخة.

وكان حافظ باشا يردد في مجالسة الخاصة أن الحكومة لو قطعت العلاقات مع بريطانيا فمؤدى ذلك إعلان الحرب وأخذ الملك فاروق أسيرا، وأنه أمام خيارين، إقالة النحاس باشا أو أخذه أسيرا.

المستفيدون من حريق القاهرة

ولابد أن يتبادر إلى الذهن من هم المستفيدون من حريق القاهرة. إن نتيجة حريق القاهرة كانت شيئا واحدا، هو إجهاض الحركة الوطنية التي أشعلتها وزارة النحاس باشا في القناة ووأدها، وإقالة الحكومة التي فجرت نار الجهاد وإقصاء النحاس باشا عن الحكم بأية وسيلة.

وقد تحقق ذلك جميعا فقد أقليت الحكومة عقب حريق القاهرة وفرضت الأحكام العرفية، وتحولت البلاد إلى ظلام ما بعده ظلام ولكن لا يزال الغموض يكتنف مدبري الحريق من هم..؟

هل هم الإنجليز أو القصر أو عناصر معينة أرادت أن تشوه وجه الحركة الوطنية، أو عناصر ذات اتصال بأمريكا لقد اشترك بعض المهيجين في حريق القاهرة وهذا أمر لا خلاف فيه ولكن السؤال الذي كان عليما بكل ما يجري في الخفاء وهو فؤاد سراج الدين باشا وزير الداخلية يتهم الذي استفاد من هذا الحريق ويستدل على ذلك بأنه رغم وجود بعض العناصر التي ساهمت في إحداث الشغب واستغلاله فإن المواد التي استعملت في الحريق لم تكن في متناول الأفراد ولا يمكن للأفراد الحصول عليها بسهولة كما أن فؤاد سراج الدين باشا نفي أن يكون أحمد حسين زعيم مصر الفتاة ضليعا في المؤامرة فقد كان الأمر مدبرا بدقة ابتداء من مصر الجديدة إلى حلوان وهو أمر أحكم إحكاما كبيرا.

ولكن ما دور القصر في الحريق لقد كان من المدعوين على الغداء الملكي جميع ضباط بوليس القاهرة من رتبة صاغ فما فوقها مع ثلثمائة من ضباط الجيش بمناسبة ميلاد ولي العهد.

يمكن أن يكون للملك فكرة معينة حول الحريق ولكن تصرفاته يوم الحريق كانت تصرفات مشبوهة مريبة وربما كان بعض من حوله قد افهموه بأنهم يدبرون أمرا بصد إتاحة الوسيلة للإطاحة بالحكومة الوفدية ولكن الملك أيضا لم يكن طرفا في المؤامرة بأي حال بل إن المؤامرة اتسعت أيضا لتلتهم الملك كذلك.

وقد سرد وزير الداخلية حوادث ذلك اليوم بالتفصيل في بيان خطير نشرته جريدة المصري يوم 10 فبراير 1952 أثناء وزارة علي ماهر باشا بعد إقالة الحكومة الوفدية، كشف فيه الستار عن ظروف الحريق وما أكتنفه من ملابسات وحلل فيه الوقائع تحليلا يكشف عن المتآمرين في حريق القاهرة

ولكن الحكومة صادرة الجريدة ولم تسمح بنضر البيان ,لكن الجريدة احتالت على النشر وضللت الرقيب ونشر البيان وكان له دوي هائل. وكان في إمكان القصر أن يطلب من رجال الشرطة الانصراف لإخماد النيران ولكن ذلك لم يحدث بل حدث أنه بعد الغداء جمع الملك الضباط وبدأ في الكلام معهم.

ويطلب وزير الداخلية إنزالا الجيش الاشتراك في إخماد الحريق ولكن لا مجيب ويسوف حيدر باشا في الأمر بحجة عرض الأمر على الملك (خشية حيدر من مشاركة الجيش للثوار). وفي الساعة الثانية والنصف طلب فؤاد باشا عرض المسألة على مسامع الملك ولكن قبل أن بقابل فؤاد باشا الملك لينقل إليه المأساة ويطلب إخماد الحريق، يجد حيدر باشا وحافظ عفيفي باشا يجلسان في المكتب وكأن شيئا لم يكن وكأن القاهرة لم تصب بأضرار.

ومن الطريف أن حيدر باشا وحافظ عفيفي باشا قابلا أنباء الوزير بشيء من البرود، كان كل منهم يدعو الآخر إلى رفع الأمر إلى الأعتاب الملكية إلى درجة أن وزير الداخلية صرخ فيهما بعد أن فقد أعصابه وقال حيدر ثم عاد ليقول إن الملك أمر بنزول الجيش..

ووصل الجيش إلى حديقة الأزبكية في الساعة الخامسة والربع واتصل الأستاذ حسين صبحي بك مدير الأمن العام بوزير الداخلية في القصر الملكي ليقول له:

إن الجيش نزل إلى الشارع ولكنه لا يحرك ساكنا.

واتصل الوزير بعثمان المهدي باشا رئس أركان حرب الجيش الذي قال له:

إن معاليكم لم تصدروا إلينا بإطلاق الرصاص. وكان فؤاد باشا من قبل قد اتصل بحيدر باشا الساعة الحادية عشرة صباحا

ولكن حيدر باشا قال له:

بلاش ... نزل البوليس

فأجاب فؤاد باشا:

لكن البوليس فقد أعصابه بعد معركة الإسماعيلية وانضم لطلبة الجامعة في المظاهرات فقال حيدر باشا.

سأعرض الأمر على الملك مستأذنا في ذلك لأنه القائد الأعلى للجيش أنا ما ليس دعوة.

وقد تناقل الخاص وقتئذ أن فؤاد باشا قال لحيدر باشا في غضب أنه سبق أن قال له وقت احتدام معارك الفدائيين والبوليس في القناة إن الاحتياطات كاملة لإنزال الجيش في الشوارع عند حدوث أي شغب وأن حيدر باشا رد عليه أنه الآن يخشى انضمام الجيش إلى الجمهور الغاضب بعد الاعتداء الإنجليزي الوحشي على رجال البوليس والمظاهرات التي قام بها جنود البوليس وشاركهم الجامعيون والشعب.

وكان معروفا وقتها أن حيدر باشا غير راض عن سياسة الملك، وأن يده مغلولة بالنسبة للجيش رغم أنه القائد العام وأن الأستاذ مرتضى المراغي وزير الحربية واللواء حسين سري عامر هما صاحبا الرأي لدى الملك مما دعا حيدر باشا إلى تقديم استقالته ورفض الملك لها.

كما أن العلاقة العائلية بين المرحوم حيدر باشا والمرحوم المشير عبد الحكيم عامر كانت معروفة وأن المرحوم صلاح سالم كان يعمل في مكتب حيدر باشا.

وربما كان لدى حيدر باشا إلى جانب التقارير الرسمية معلومات عن الإعداد لحركة الجيش في يوليو 1952. هذه حدود معلوماتي عن حريق القاهرة.. ولا يزال السؤال حتى الآن قائما:

من الذي دبر حريق القاهرة ولا يزال السؤال حتى الآن قائما:

من الذي دبر حريق القاهرة.

علاقة الوفد بالولايات المتحدة الأمريكية

والواقع أن علاقة وزارة الوفد الأخيرة بالأمريكان كانت علاقة طيبة ولم يكن مرد ذلك بحال إلى الدكتور أحمد حسين باشا الذي كان وزيرا للشئون الاجتماعية في عهد الوفد حتى استقال ولكن كان مرجع ذلك إلى تقدير الولايات المتحدة الأمريكية للأسلوب الذي كان وزيرا للشئون الاجتماعية في عهد الوفد حتى استقال ولكن كان مرجع ذلك إلى تقدير الولايات المتحدة الأمريكية للأسلوب الذي كان يتبعه الوفد في إدارة البلاد وسياستها في هذه الآونة الدقيقة من التأييد والشعبية التي تتمتع بها الوفديون.

ولا أدل على ذلك من أن السفير الأمريكي في القاهرة مستر جيفرسون كافري كان وثيق الصلة بالحكومة بل إنه كان يقدم لها كما قال فؤاد باشا سراج الدين وزير الداخلية يد العون أثناء صراعها مع الإنجليز بعد إلغاء المعاهدة إلى حد أن العلاقات قد ساءت بين السفارة البريطانية والسفارة الأمريكية بالقاهرة، ووصلت إلى درجة القطيعة بينهما، وكان ذلك بعد خروج الدكتور أحمد حسين باشا من الوزارة وكان فؤاد باشا دائم الاتصال بالسفير الأمريكي ويستعين به على الإنجليز للحد من تصرفاتهم الطائشة خلال معركة القناة.

وعلى سبيل المثال: فقد منع الإنجليز تدفق السولار إلى القاهرة من منطقة القناة، وكانت مواد الوقود تكفي البلاد أسبوعا واحدا ثم تتعطل المرافق العامة كالمياه والمجاري والكهرباء وذلك بقصد الإضرار بمركز الحكومة بعد إلغاء المعاهدة، وكان فاد باشا يقابل السفير الأمريكي عادة في منزل الاقتصادي المصري الكبير أحمد عبود باشا وفي ذلك الوقت حذر وزير الداخلية السفير من مغبة تصرف قوات الاحتلال وإقدامها على مثل هذا التصرف الخطير

وقال الوزير:

إن مثل ها التصرف سوف تنعكس آثاره على الأجانب ولا ندري عواقب الفتنة التي سوف تتمخض من ثورة الشعب على الأجانب.

وقال السفير:

إننا نريد معركة أرضها قناة السويس، ونرجو أن تظل محصورة في القناة وحدها واتصل السفير الأمريكي بوزارة الخارجية الأمريكية وأرسل لها تقريرا عاجلا عن تصرف قوات الاحتلال البريطاني.

واتصل وزير الخارجية الأمريكي بزميله البريطاني فألغى القرار البريطاني وأخطرت وزارة الخارجية الأمريكية مستر كاري بهذا الإلغاء قبل أن يصل إخطار الخارجية البريطانية لسفيرها بالقاهرة فسارع مستر كافري بإبلاغ فؤاد باشا.

وعلى الجانب المقابل، حاولت الحكومة المصرية الاتصال بالاتحاد السوفيتي لتزويدها بالسلاح أثناء معركة القنال، ولكن الاتحاد السوفيتي لم يستجيب لطلب الحكومة وعلل ذلك بارتباطاته الكثيرة كما حاولت الحكومة الاتصال بدول المجموعة الشيوعية ولكن هذه الدول لم تخرج عما سرا عليه الاتحاد السوفيتي من الامتناع عن تزويد مصر بالسلاح وكل ذلك طبعا كان رعاية لبريطانيا.

وكان متسر جيفرسون كافري إذا استطرد في شرب الويسكي ينطلق لسانه بعض الانطلاق وفي مقابلة له مع فؤاد سراج الدين باشا بمنزل أحمد عبود باشا سأله فؤاد باشا عما إذا كان الروس قد توصلوا لصنع القنبلة الذرية فأجابه بأنه يعتقد ذلك ولكن ليس على المستوى الأمريكي.

فقال فؤاد باشا:

ولماذا لا تنتهز أمريكا الفرصة لحل المسائل المختلفة عليها مع الروس مع التلويح باستعمال القوة أو استعمالها فعلا.

فضحك مستر كافري قائلا:

يا معالي الوزر إن الذي يعلن الحرب في الاتحاد السوفيتي شخص واحد أما في الأمريكان فلابد ن موافقة الكونجرس واتخاذ إجراءات طويلة والروس يعلمون ذلك.

رفض الوفد الاشتراك في حرب كوريا

لما استطاعت الولايات المتحدة في غيبة الروس وحيث قررت الأمم المتحدة تشكيل قوة دولية للفصل بين كوريا الشمالية وكويا الجنوبية طلب من الحكومة المصرية المشاركة بقوة رمزية بين قوات الأمة المتحدة في كوريا فرفض النحاس باشا هذه المشاركة بأي صورة كانت.

وأذكر أنه في هذا اليوم كانت الحكومة تعتزم الاعتراف بالصين الشعبية بعد انتصارها على قوات شان كاي شيك سنة 1949 ولكن السفير الأمريكي تدخل وضغط على القصر لمنع الاعتراف بالصين الشعبية، وأرجأ مجلس الوزراء الاعتراف بالصين إلى جلسة أخرى وكانت النية متجهة أن يصدر الاعتراف بهدوء وبشكل غير ملفت للأنظار.

الوفد والاتحاد السوفيتي

كانت وزارة الوفد عام 1942 أول وزارة تعترف دبلوماسيا بالاتحاد السوفيتي وتقيمي معه علاقات سياسية وذلك ليس إيمانا بالمبادئ البلشفية أو اليسارية ولكن لما يحتمل من فؤاد تجارية.

وكان اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية أحد الحلفاء ضد المحور الألماني الإيطالي الياباني وكانت مصر تتلقى الرأي البريطاني بل الأمريكي وتبحثه في نطاق ما تستطيع كسبه لمصر. وقد حاول الملك فاروق استغلال الفرصة ضد حكومة النحاس باشا فادعى الغضب لأن الاعتراف بفتح الباب المصري للشيوعية.

وبعد قيام العلاقات مع الروسي تبين للحكومة أن السياسة السوفيتية كانت وربما لا تزال حريصة على عدم إغضاب حكومة الولايات المتحدة الأمريكية وبوجه خاص، فقد كان قانون الإعارة والتأخير الأمريكي وسيلة الروس إلى هزيمة الألمان وردهم عن موسكو.

صلة الوفد باليسار

ومن الأمور الواجب إزاحة الستار عنها مسألة صلة حزب الوفد باليسار وقد قلنا إن الوفد كان أول من أنشأ علاقات سياسية مع الاتحاد السوفيتي أثناء وزارة 1942، ولكن دون غايات سياسية بل كان يقصد إقامة علاقات تجارية وبقصد التوازن مع بريطانيا وقد أبدى الملك فاروق معارضته بدعوى خطر الشيوعية على البلاد.

ويلاحظ أن الوفد قد أبرم اتفاقية الذرة مع يوغوسلافيا وهي إحدى الدول الشيوعية التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفيتي حتى 1948 ولكن روسيا كانت حريصة على عدم إغضاب الولايات المتحدة بعد خروج أمريكا من الحرب العالمية الثانية منتصرة وقد حصلت على القنبلة الذرية التي لم تكن روسيا تملكها في هذا الحين ولم تستطع حكومة الوفد فيما يبدو أن تفيد من هذا الموقف لأن السياسة الروسية كانت ملتزمة بعدم الصدام مع أمريكا وانجلترا.

وفي أثناء هجوم الفدائيين عل معسكرات الاحتلال بعد إلغاء معاهدة 1936 في أكتوبر سنة 1951 طلب وزير الداخلية شراء أسلحة من دول الكتلة الشيوعية كروسيا ويوغويلافيا وتشيكوسولفاكيا على أن يكون الدفع بالنقد الفور ولكن هذه الدول لم توافق بحجة أن مصانعها مرتبطة بعقود لسنوات طويلة ولكن في الحقيقة كانت تعلم أن هذا السلاح معد للحرب.

أما بالنسبة لموقف الوفد من اليسار في الداخل فإن وزير الداخلية الوفدي ينفي صلة الحزب باليسار ولم تكن هناك قيمة تذكر قبل 1952 لما يطلق عليه تيار يساري فالجهود الشيوعية لم تزد عن كونها محاولات فردية كإنشاء الخلايا عن طريق أفراد معروفين للبوليس السياسي وكان بعض الأفراد ينضم للخلايا بقصد الابتزاز أما القلة فكانت تؤمن بمبادئ اليسار وهذه القلة لم يكن يؤبه لها ولا تشكل خطورة بوصفها تيارا سياسيا يمكن أن يلعب دورا في الأحداث.

وكانت سياسة حزب الوفد سياسة ليبرالية تبتعد عن الصدام حتى أثناء الظروف العسكرية لم تستغل ذلك للبطش باليسار، بل كانت معظم حركة الأفراد الذين يعتبرون من اليسار مكشوفة لحكومة الوفد إذ كانوا يوزعون المنشورات في ظل حماية القانون دون أي ضغط أو إرهاب من جانب الوفد.

ويقال إن الهيئة الوفدية كانت تضم لفيفا من اليسار ولكن سكرتير الحزب فؤاد سراج الدين باشا ينفي ذلك بصورة قاطعة فاليسار لم يكن القصد منه الشيوعية بل كان يقصد به المطالبة بالإصلاحات الاجتماعية ورفع مستوى المعيشة وهذا ما كانت تلتزم به الحكومة الوفدية ذاتها بل كان فؤاد سراج الدين باشا نفسه يدعو إلى زيارة الضرائب التصاعدية

وفي عهد حكومة الوفد وفرضت ضرائب التركات وضرائب الدخل العام وأطلقت مجانية التعليم وقرر الضمان الاجتماعي وهي مبادئ اشتراكية صحيحة ولكنها لم تكن مبادئ شيوعية ووزارة النحاس باشا 4 فبراير 1942 هي التي أصدرت تشريعات حماية العمال.

ويذكر فؤاد باشا سراج الدين أنه قدم غليه تقرير مفاده أن نجل عباس سيد احمد باشا وهو الأستاذ محمد سيد أحمد المحرر حاليا بالأهرام ونجل الوزير عبد اللطيف باشا محمود وهو الأستاذ محمود النبوي عضوان في خلايا شيوعية وقابل وزير الداخلية في نادي السيارات بالإسكندرية المرحوم عباس سيد أحمد باشا بعد أن طوي التقرير في جيبه قوال له قبل أن يعطيه التقرير:

إن ابنك متعب وشيوعي النزعة.. فماذا أفعل عندما يقبض عليه.. هو عمره كام..

فقال عباس باشا سيد أحمد:

25 سنة.

فقال الوزير:

أنت بتدي له كام مصروف جيبه؟

فقال:

5 جنيهات.

فسأله عن إيراده فقال:

50 ألف جنيه في السنة

فضحك فؤاد باشا قائلا:

لابد أن يصبح شيوعيا أعطل له 20 جنيها وأنا لا أدري ماذا أفعل عندما يقبض عليه .. هل أحبسه؟

فقال عباس باشا:

عالجه أنت.

فرد وزير الداخلية:

أنا إذا عالجته بالسجن يخرج مجرما.

وتكررت نفس القصة بالنسبة لعبد اللطيف محمود باشا ولكن فؤاد باشا اقترح أن يعطي الأب لولده 50 فدانا بإيجار عشرة جنيهات بشرط أن يعمل فيها ويستولى على الإيراد.

ولم تنقض سنة عندما قابل فؤاد باشا عبد اللطيف محمود باشا الذي ذكر له أن محمود النبوي يغالطه في الحساب كأكبر رأسمالي؟ ويقيني أن الهيئة الوفدية لم تكن تضم بين صفوفها شيوعيا واحدا.

وإذا كانت للبعض أفكار تقدميه فإنها كانت تتفق وطبيعة التطور ومركز الوفد بالنسبة للشعب بوصفة الحزب الذي عبر عن الأمة.

وأذكر أن بعض النواب قدموا مشروعا لرفع سعر اليروسين فثار بعض شباب الوفد على هذا المشروع وتلقف خصوم الوفد هذا النقد واتهموا الشباب بأنهم شيوعيون ولكن فؤاد باشا سراج الدين خطب في سرادق أقيم في شبرا بمناسبة انتخابات سنة 1950 تأييدا لمرشح الوفد الأستاذ حسين أبو الفتح قائلا:

إن خصومنا يتهموننا بأن الوفد هيئة شيوعية بقصد الإيقاع بينه وبين القصر ولكنني أنفي ذلك وإن كنت أرحب بالأفكار التقدمية وإذا كانت مبادئ الوفد في التقريب بين الطبقات ورفع الضرائب والإصلاح الداخلي مبادئ شيوعية فنحن شيوعيون والخلاصة أن الوفد كان حزبا أقرب إلى الاشتراكية الصحيحة المعتدلة.

ولادة الأمير أحمد فؤاد إبلاغها أزعج مجلس الوزراء

أذكر أنه بعد ولادة الأمير أحمد فؤاد ولي العهد اتصل بمجلس الوزراء معالي المرحوم عبد اللطيف باشا طلعت كبير الأمناء بالقصر الملكي ليبلغني أن سعادته يريد مقابلة رفعة النحاس باشا لأمر عاجل.

وحددت المقابلة مع مصطفى النحاس باشا بمنزلة بعد نصف ساعة. وفي الميعاد قابل رئيس الوزراء كبير الأمناء ولم تستغرق المقابلة أكثر من دقيقتين خرج بعدها النحاس باشا لكي يودع عبد اللطيف باشا طلعت وكان مبتهلا مبتسمًا.

وطلب رفعة النحاس باشا مني دعوة مجلس الوزراء فورا. وبدأت الشكوك تساورني ولكن كان من بواعث اطمئناني أن رفعة النحاس باشا كان قرير العين مطمئن البال.

وبدأت أتصل بمديري مكاتب الوزراء وألقيت الرعب في قلوبهم بأن الوزارة مصيرها معلق في يد القدر وأن مجلس الوزراء دعي لاجتماع عاجل بناء على طلب القصر وأنه يجب على الوزراء الحضور إلى مجلس الوزراء في أقل من نصف ساعة.

وجاء الوزراء وأشهد أنهم كانوا منزعجين قلقين.وكان الجد مرتسما على وجهي. ودخل الوزراء وكأن على رؤوسهم الطير للاجتماع، ولكن فؤاد باشا سراج الدين كان يعرف المسألة بحذافيرها فطلب مني أن أستمر في الدور إلى النهاية ودخل وهو مقطب الجبين بادي القلق بشكل لا يخفى.

وعندما وصل النحاس باشا إلى مكتبه بالرئاسة طلب مني أن أدخل لمجلس الوزراء أثناء انعقاده محمود بك يونس الأمين بالقصر الملكي.

وبدأ الاجتماع عندما دخل النحاس باشا ورحب بالوزراء وطمأنهم وبعد دقائق وصل محمود بك يونس ودخل لمجلس الوزراء في التو واللحظة ثم بدأ يتلو خطابا موجها من الملك إلى رئيس وزارته ومكتوبا بماء الذهب ويتضمن إشادة بجهود الوزارة وعهدها الزاهر وتمنيات الملك لرئيس الوزراء ولوزرائه بالتوفيق والسداد.

الأمير محمد علي يهاجم سياسة الوفد

كان معروفا أن الأمير محمد علي ولي عهد الملك فاروق وثيق الصلة بالإنجليز بل كانت الأحلام تراوده بخلع الملك توليته العرش.

ولما ساءت علاقة حكومة الوفد الإنجليزي وكان الملك فاروق في كابري والرئيس مصطفى النحاس باشا بباريس كان المرحوم المهندس الكبير عثمان محرم باشا وزير الأشغال رئيسا للوزراء بالنيابة فوجئ الناس بحديث للأمير محمد علي نشرته (الأهرام) وتضمن مطاعن ضد الوزارة وانتقادا لسياستها الاقتصادية.

وكان هجوم سراج الدين باشا وزيرا للمالية بعد إخراج الدكتور زكي عبد المتعال فنشر حديثا فند فيه المطاعن وأوضح أن (حكومة جلالة الملك) تلتزم جادة الصواب في الشئون الاقتصادية وأن هذه الانتقادات لا أساس لها من الصحة.كما أن حكومة جلالة الملك تحتج أشد الاحتجاج على آراء ولي العهد.

وتقاطرت التهاني على فؤاد باشا الذي قال:

إن واجبي الرد على أي إنسان ولو كان ولي العهد، وقد تعمدت أن أقول (حكومة جلالة الملك) كي أضع الأمور في نصابها الصحيح. وحدثت أزمة بين ولي العهد ووزير المالية.

وحاول سكرتير ولي العهد المرحوم أحمد مختار تخفيف الأزمة باعتذار من فؤاد باشا الذي رفض لأن الأمير هو الذي بدأ بالهجوم. وفي اليوم التالي طلب سكرتير ولي العهد أن يقابله وزير المالية بقصره الساعة الحادية عشرة فاعتذر فؤاد باشا بانشغاله، وحدد موعدًا آخر بعد يومين.

وتمت المقابلة بقصر الصفا بالإسكندرية وعاتبه ولي العهد قائلا:

أنت زي ابني وأنا كنت على صلة بوالدك وأزوره.

فقال فؤاد باشا:

أنا لم أفعل شيئا وسموك تعلم أننا لم نتأخر في تحويل أموال للخارج لأشخاص ملازمين لك بالمنزل ولك، ودائما كنا نعمل ما تريد وكنت أنتظر أن سموك تكلمني بملاحظاتك.

وحاول ولي العهد تخفيف الموقف فقال:

أنت عارف إلي يمشي وراء الصحفيين يغرق.

وفي اليوم التالي ترك الأمير بطاقته بمنزل فؤاد باشا وكذلك فعل مع المرحوم عثمان محرم باشا رئيس الوزراء بالنيابة.

ولما عاد الملك من الخارج روي له كريم ثابت القصة.وفي أول مقابلة ملكية مع فؤاد باشا قال له الملك. أنت هلكت أبو دقن.

الملك يرفض طلب الوفد بإحالة حيدر إلى المعاش والجيش يستقبله بالتصفيق

تقدمت حكومة الوفد بطلب إحالة حيدر باشا وعثمان المهدي باشا إلى المعاش بناء على طلب مصطفى نصرت باشا وزير الحربية.

وفي 6 مايو 1951 يوم الاحتفال بعيد جلوس الملك بنادي الضباط بالزمالك كانت سيدة الغناء أم كلثوم ستحيي الحفل سألت الوزارة السراي عن اسم مندوب الملك الذي سيحضر الحفلة ولم تتلق الوزارة جوابا وكان سؤال الوزارة عن اسم المندوب حتى أنها لو علمت أنه حيدر لاعتذر مصطفى نصرت عن استقباله ولكن السراي تكتمت الخبر وفوجئ معالي مصطفى نصرت باشا بوصول مندوب الملك الفريق محمد حيدر باشا الذي اضطر لاستقباله كمندوب عن الملك.

وعندما استقبل حيدر باشا من أكثر من أربعة آلاف ضابط بعاصفة من التصفيق استمرت أكثر من خمس دقائق. وهنا أشفق الوزراء على موقف مصطفى نصرت وهو رجل مسن ثم قام نصرت باشا وزيرا لحربية ليلقي الكلمة التقليدية في هذه المناسبة ولم يصفق له أحد مطلقا وبعد غناء أم كلثوم ودع نصرت باشا.. حيدر باشا وفي صباح اليوم الثاني جاء كريم ثابت برسالة من الملك إلى فؤاد سراج الدين قائلا: إن شاء الله يكون مصطفى نصرت والناس سمعوا أم كلثوم وانبسطوا وعلشان تعرفوا قد إيه الجيش بيحب حيدر باشا. وهذا طبعا معناه.. أن رأي حكومة الوفد في حيدر باشا خطأ.

رفض الوفد تعيين إسماعيل شرين محافظا للقاهرة

حضر حسن يوسف لمقابلة فؤاد سراج الدين وقال له:

إن الملك يريد تعيين إسماعيل شرين محافظا للقاهرة.

فرد سراج الدين قائلا:

ليس من مصلحة الملك تعيين إسماعيل شرن محافظا للقاهرة ولا إسماعيل شرين في حاجة لمرتب محافظ وهو زوج الأميرة فوزية أخت الملك وأنا لا أقبل أن يقابلني زوج أخت الملك على رصيف المحطة بوصفي وزيرا للداخلية وهذا يثير عليه الكثيرين ويصبح ضمن عشرين واحدا منتظرين وصولي أرجو إبلاغ رأيي هذا للملك يمكن تعيينه في أي شركة إ كان يريد عملا بجانب عمله.

وأعاد حسن يوسف الكرة مرة أخرى وقال لفؤاد باشا:

إن الملك يرجوه في تعيين إسماعيل شرين محافظًا.فرفض سراج الدين وقال حسن يوسف باشا. لو أصدرت الوزارة مرسوما بتعيين محافظ للقاهرة فإن هذا المرسوم لن يوقعه الملك وفي الحال أصدر سراج الدين باشا قرارا بندب وكيل المحافظة محافظا بالنيابة وظل المحافظ بالنيابة إلى أن انتهى حكم الوفد.

صلاح الدين باشاواستفتاء السودان

أثناء انعقاد جمعية الأمم المتحدة بباريس في يناير سنة 1952 وكان صلاح الدين باشا وزير الخارجية يستعد للسفر لإلقاء خطبة في الجمعية العمومية أراد فؤاد باشا سراج الدين أن يعلم فحوي الخطبة قبل إلقائها على ضوء السياسة التي كانت تنتهجها حكومة الوفد بالنسبة لقضية الاستقلال والسودان.

ودار حديث بين فؤاد باشا سراج الدين ووزير الخارجية. وقال وزير الخارجية وعلى شفته ابتسامة اعتاد أن يرسمها على وجهه عندما كان يصاف مسائل خطيرة.إنني أنوي أن أقذف في وجه الإنجليز بقنبلة خطيرة أثناء الجمعية العمومية فقال له فؤاد باشا..ما هي؟

فقال: لقد صممت أن أوافق على الاقتراح بعمل الاستفتاء في السودان بشرط خروج الموظفين الإنجليز من السودان قبل إجراء الاستفتاء .

ولكن فؤاد باشا عارض هذه الفكرة بشدة لأنها كانت تخالف رأي الوفد في قضية وحدة وادي النيل، وإصراره على الوحدة منذ عهد بعيد.

فقد تحطمت المفاوضات التي أجراها سعد زغلول وخليفة مصطفى النحاس باشا منذ سنة 1924 على صخرة السودان وقال النحاس باشا كلمته المدوية في مفاوضته مع هندرسون. تقطع يدي... ولا أفرط في السودان.

وكانت انجلترا منذ سنة 1947 أي منذ عرض قضية السودان على مجلس الأمن تطلب الاستفتاء ولكن الوفد وهو يعبر عن الأمة بشطريها أصدق تعبير كان يرفض هذه الفكرة من أساسها باعتبارها منازعة في حق مسلم به لمصر كما أخذت أمريكا أخيرا في تأييد دعوى الاستفتاء.

وكانت حجة فؤاد باشا سراج الدين دامغة وهي أن: قبول مصر لفكرة الاستفتاء معناه بوضوح هو أنه يعطي لإنجلترا ذريعة وإثارة للتشكيل فيما نادي به الوفد منذ فجر الثورة المصرية سنة 1919. وأخيرا سأل وزير الخارجية:

يا صلاح باشا هل أخذت رأي رفعة النحاس باشا؟

ولكن صلاح الدين باشا أجاب بالنفي ثم قال:

ما دمت أنت ترى ذلك وأنت سكرتير الوفد فأرى أنه لا داعي للرجوع إلى رفعة الرئيس. وسافر صلاح الدين باشا إلى باريس وألقى خطابا يتضمن كل ما ذكره لفؤاد باشا ونشرت الصحف نص الخطاب.

ولم تمض أكثر من ساعات، إلا واتصل النحاس باشا فؤاد سراج الدين قائلا:

شفت الكلام اللي قاله صلاح الدين ما كنا خلصنا من زمان لو كان عاوزين نعمل استفتاء. وتصادف أن يوم نشر الخطاب كان هو اليوم المقرر لاجتماع مجلس الوزراء وتعمد فؤاد باشا سراج الدين أن يمر على منزل النحاس باشا قبل الذهاب إلى مجلس الوزراء ليصطحب رفعته. واجتمع مجلس الوزراء.

وتكلم الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف بعد أن رفض التقليدي بجدول الأعمال بسبب مسائل خطيرة لا يمكن إغفالها أو التغاضي عنها ثم ذكر واقعة خطاب صلاح الدين باشا وما تضمنه من اقتراح لإجراء استفتاء في السودان

وقال طه حسين:

إن هذا يناوئ سياسة الوفد.

وتساءل:

وهل الوفد قد غير من مبادئه؟

وطالب وزير المعارف بإقالة وزير الخارجية فورا. وقامت زوبعة بين الوزراء وكان النحاس باشا واجما لم ينطق بحرف إذا كان حزينا وكلم وزير الداخلية فؤاد سراج الدين باشا موجها الخطاب إلى رفعة مصطفى النحاس باشا.

لقد كنت قاضيا ورفعتكم تعل أنه لا يجوز محاكمة متهم دون سماع دفاعه وحق الدفاع حق مقدس، فكيف تحكمون على إنسان دون أن تسمعوا دفاعه فربما كان ذلك راجعا إلى خطأ في الترجمة أو النقل وأرى تكليف إبراهيم فرج باشا وزير الخارجية بالنيابة الاتصال فورا بالدكتور صلاح الدين باشا وأن يطلب منه باسم مجلس الوزراء العودة فورا إلى القاهرة.

وبالفعل اتصل إبراهيم فرج باشا بالوزير الغائب الذي وصل القاهرة يوم 25 يناير 1952 وهو يوم مشهود وأقيلت الوزارة دون أن يجتمع مجلس الوزراء.

الأيام الأخيرة لحكومة الوفد

عندما ألغى النحاس باشا معاهدة 1936 ثم رفض مشاركة مصر في حرب كوريا كان يعلم أن الكتاب ربما قد بلغ أجله ولا بد أن ينتهي عهد حكومة الوفد عاجلا أو آجلا.كان هذا الإحساس يغمر مصطفى النحاس باشا وكان صادق الحس مؤمنا أنه قاد مصر في فترة حاسمة من تاريخها كافح واستبداد القصر وتعينت الإنجليز ولم تلن له قناة.بل أذكر أن النحاس باشا ارتد بعد إلغاء المعاهدة شابا غض الإهاب متوقد الحماسة كأنه ابن العشرين.

ولكن القصر والإنجليز لم يغفروا لمصطفى باشا النحاس إقدامه على إلغاء المعاهدة، فبدأت الحملات المسعورة تنشر أنباء مختلفة تتسم بالمبالغة والاختلاف عن محاربة الوزارة للفدائيين واعتقالهم بقصد زعزعة الثقة بين المقاتلين في الجبهة والوزارة في الداخل وتطوعت صحف القصر والإنجليز وخرجت صفحاتها بالحملات الجائرة على مظاهر الفساد الداخلي في الوفد والتشهير بالأخطاء والسرقات واستغلال النفوذ بغية صرف اهتمام الناس إلى الوضع الداخلين وإضعاف ثقة الشعب في الوزارة التي اختارها بأغلبية ساحقة سنة 1950.

وقد تمت مشاورات متصلة بها القصر وأعوانه للبحث عن وزارة تخل وزارة الوفد ويتوفر فيها مواصفات خاصة من أهمها الادعاء بالاستمرار في مقاومة الإنجليز والقدرة على إلهاء الشعب تدريجيا وفي هدوء عن قضية الاستقلال.

كما قام الإنجليز باستفزازات وتحرشات عنيفة لا غرض من ورائها سوى تعريض الحكومة لهزات عنيفة وإثارة موجة السخط في الداخلي بقصد إثارة الشعب لإحراج الحكومة واتهامها بعدم القدرة على المحافظة على الأمن وحراسة أموال وأرواح الأجانب ففي 8 ديسمبر سنة 1951 هدم الإنجليز حيا بمدينة السويس، هو كفر أحمد عبده وأبادوه من الوجود.

وكان القائد العام للقوات البريطانية أرسكين قد طلب من محافظ السويس إبراهيم زكي الخولي إخلاء منازل الكفر بحجة أنه يقع بجوار وابور المياه الذي يزود المعسكرات البريطانية بالماء ولأن القيادة البريطانية تنوي أن تمد طريقا وتقيم جسرا يصلان بين المعسكرات البريطانية وهذا الوابور.

واتصل المحافظ بوزارة الداخلية فرفض فؤاد سراج الدين باشا طلب القيادة وأمر قوات البوليس بحماية مساكن الكفر والحيلولة دون هدمها ودفع كل اعتداء يقع على ساكنيها من القوات البريطانية.

ولكن في يوم الجمعة 7 ديسمبر وجهت القيادة البريطانية إنذارا باحتلال الحي في صباح اليوم التالي بقوات كبيرة من المشاة تؤيدها المدفعية والدبابات لهدم الحي.

وأبلغ الإنذار إلى مصطفى النحاس باشا الذي قرر رفض طلب القيادة البريطانية وعهد إلى المحافظ باتخاذ الإجراءات اللازمة لمقاومة الاعتداء على الأهالي ومقاومة تنفيذ الإنذار بالقوة.

وكان رأي الحكومة قاطعا في رفض العدوان على الأهالي ومقاومة تنفيذ الإنذار بالقوة. وكان رأي الحكومة قاطعا في رفض العدوان الذي لم يكن له مبرر من ضرورة حربية وقد أوضحت وزارة الخارجية المصرية في مذكرتها إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة فظاعة العدوان البريطاني المسلح على القرية الآمنة، وكان القصد من ذلك كله هو إطلاق عقال المظاهرات وإشاعة الفوضى في الداخل بقصد إقالة الوزارة.

ولا أكذب على التاريخ عندما أقول إن النحاس باشا كان رجل الديمقراطية في مصر فقد أطلقت الحريات في عهد الحكومات الوفدية ولكن أعداء الوطن كان لابد أن يبحثوا عن وسيلة للحد من الحريات العامة لأن وأد القضية لا يمكن أن يتيسر في ظل الحريات.وتمت الخطة بحذافيرها..وأحرقت القاهرة..

وساطة جلالة الملك عبد العزيز

بعد إلغاء مصطفى النحاس باشا معاهدة 1936 ازداد تدهور العلاقات السياسية بين مصر وبريطانيا وبدأت حركة الكفاح المسلح بمنطقة القناة ضد القوات البريطانية مما أقلق الحكومة البريطانية.وتقدمت العراق للوساطة بين مصر وبريطانيا عن طريق سفيرها المرحوم نجيب الراوي ولكن مصر رفضت هذه الوساطة.

وقال النحاس باشا:

إن نوري السعيد ملكي أكثر من الملك.

ثم تدخلت المملكة العربية السعودية لبذل مساعي الوساطة بين مصر وبريطانيا وفي الخامس من ربيع الثاني سنة 1371 هـ أرسل جلالة الملك عبد العزيز آل سعود كتابا خاصا إلى رفعة النحاس باشا بيدي فيه قلق الشديد من تردي العلاقات المصرية البريطانية ويعلن استعداد جلالته للتدخل لعلاج الموقف على الأسس الآتية:

  1. اعتبار معاهدة 1936 ملغاة وكأن لم تكن.
  2. تقوم القوات البريطانية بالجلاء عن منطقة القناة إلى أماكن خرج المملكة المصرية.
  3. يقوم الجيش المصري بالحلو محل القوات البريطانية تباعا بمنطقة القناة.
  4. يتم تسليح القوات المصرية وتدريبها لتصبح قادرة بنفسها على مهمة الدفاع عن مصر.
  5. تعقد معاهدة صداقة جديدة بين مصر وبريطانيا وينظم أمر الدفاع باتفاق ثنائي يقوم على التعاون ويوضح فيه شكل التعاون ووسائله في حالتي السلم والحرب
  6. يترك أمر السودان لاختيار أهله ويجري استفتاء خالص من كل شائبة.

وقد قبل رفعة النحاس باشا هذه المبادرة الطيبة من الملك عبد العزيز وكتب إلى جلالته الرد التالي: حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود حفظه الله.

تشرفت باستلام كتاب جلالتكم المؤرخ 5 من ربيع الثاني سنة 1371 هـ الذي تفضلتم فيه جلالتكم بالإعراب عن مكنون محبتكم لمصر وما ينطوي عليه قلبكم الكبير من أماني الخير لها والرغبة الصادقة من دفع السواء عنها وإني باسم الشعب المصري وأسمى لأقدر هذا الشعور النبيل الخليق بملك عربي جليل وستبقى ذكرى هذه العواطف الشريفة خالدة في قلوب المصريين مقرونة بالود والإكبار والامتنان.

إن البواعث الكريمة التي حدت بجلالتكم أن تتفضلوا باقتراح أساسي لحل النزاع الذي استفحل أمره بين مصر وانجلترا باعتباره اقتراحا شخصيا من جلالتكم قد تلقيته بما يستحقه من عناية واعتبار ووضعت إلى جانبه ما رأيت من التعديلات المرافقة التي أ‘تقد أنها تكلف تحقيق ما تصبو إليه جلالتكم من مطالب مصر القومية عن طريق الوفاق والاتفاق.

وأرجو أن تفضلوا يا صاحب الجلالة.

بقبول موفور الشكر والاحترام.

مصطفى النحاس.

أما هذه التعديلات التي أشار إليها كتاب رفعة النحاس باشا فقد انطوت على ما يلي:

  1. تعتبر المعاهدة التي كانت معقودة بين مصر وبريطانيا سنة 1936 وملحقاتها واتفاقية سنة 1899 ملغاة اعتبارا من تاريخ العمل بالقوانين المصرية التي أصدرها البرلمان المصري بإلغائها في 16 ، 17 أكتوبر من سنة 1951.
  2. يبدأ جلاء القوات البريطانية والجوية والبحرية فورا عن منطقة قناة السويس إلى أماكن خارج القطر المصري على أن يتم الجلاء الكامل في مدة لا تزيد على ستة أشهر.
  3. تسلم القاعدة العسكرية إلى القوات المصرية ويحل الجيش المصري تباعا محل القوات البريطانية التي تجلو عن قناة السويس.
  4. يسلح الجيش المصري ويزود بمختلف الأسلحة والمعدات والطائرات
  5. ينظم أمر الدفاع باتفاق بيني على التعاون الصادق بين الذين يتف معهم في هذب المضمار يوضح فيه شكل ذلك التعاون وحدوده في حالة الحرب فقط
  6. الإقرار فورا بالوحدة بين مصر والسودان تحت التاج المصري وفقا للتشريعات التي أقرها البرلمان المصري عل أن يكون للسودانيين حق الاختيار بين الوحدة أو الانفصال وذلك في استفتاء حر خال من كل شائبة.

وقامت الحكومة المصرية بإيفاد المرحوم الدكتور عبد الوهاب عزام بك وكان سفيرا لمصر في باكستان ويقضي إجازة بالقاهرة وزودته بكافة البيانات المطلوبة لمقابلة العاهل العربي الكبير.

وبالرغم من قيام هذه الوساطة فلم يهدأ الكفاح المسلح بمنطقة قناة السويس ضد القوات البريطانية بل زادت حدته وضراوته وظل عبد الوهاب عزام بك في السعودية حتى إقالة الحكومة الوفدية في 27 يناير سنة 952 بعد حريق القاهرة.

ثم نوري السعيد باشا ثانية

بعد إلغاء معاهدة 1936 تفجرت الطاقات الشعبية وخشي الإنجليز على وضعهم في المنطقة وبدأت دعوة الحكومة الوفدية إلى حمل السلاح وتجنيد الفدائيين لإقلاق مضاجع الإنجليز ودفعهم إلى الجلاء عن مصر.

ومما يذكر أنه في يوم 2/ 1/ 1952 وكان فؤاد باشا سراج الدين بوزارة المالية، أن طلب سفير العراق نجيب الراوي مقابلته لأمر هام.وفعلا تمت المقابلة

وبعد أن تبودلت كلمات المجلة قال السفير لفؤاد سراج الدين باشا:

لا أريد أن ألف عليكم بل سوف آني من الطريق المستقيم وهو أقصر الطرق، لقد نجحتم إلى أقصر الطرق لقد نجحتم إلى أقصى حد يمكن أن يصل إليه سياسيون مناضلون وقد أرسلني نوري السعدي باشا بطلب الوساطة بين مصر وانجلترا والواقع أن الإنجليز طلبوا من نوري السعيد باشا أن يتوسط شخصيا على أساس الجلاء عن منطقة القنال بشرط أن توفقوا المعركة الدائرة الآن:

وقد رد سراج الدين باشا على السفير:

أشكر لسعادتكم هذا الإطراء ولكني لا أستطيع أن أقبل الوساطة سواء كنت وزيرا وكنت وطنيا ولا أستطيع أن أقنع الشعب بأن الإنجليز قد وعدوا بالجلاء عن مصر وقد قطع الإنجليز على أنفسهم في خلال 70 عاما أكثر من سبعين وعدا، ولكن عدا منها لم يتحقق والوعد شيء والتنفيذ شيء آخر فإذا بدءوا التنفيذ فعلا فلا محالة أن الأمر سوف يتغير وأننا في هذه اللحظة سوف نفكر في جدوى الوعد وأهميته.

فقال السفر:

أنت محق يا معالي الوزير، وسوف أسافر إلى العراق للاتصال بحكومتي وبعد أيام عاد نجيب الراوي من بغداد حاملا رسالة من نوري السعيد باشا تتضمن أن السياسي العراقي الكبير قد اقتنع بوجاهة رأي وزير الداخلية المصري وأنه اتصل بالإنجليز وأنهم قد وافقوا على بدء الجلاء بشروط أن تؤمن ظهورهم لكي يتفرغوا للعملية وأن الجلاء أصبح قاب قوسين أو أدنى.

وقد وعد فؤاد سراج الدين باشا بعرض الأمر على مصطفى النحاس باشا ولكن النحاس باشا لم يقتنع بوساطة العراق وكان يدرك بإحساسه العميق بأن الأمر لا يعدو أن تكون مناورة يسهم فيها أحد كبار أنصار بريطانيا في الشرق الأوسط لتصفية الحركة الوطنية.

وقد حققت الأيام صدق هذه الرؤية فلم تمض أيام إلا واحترقت القاهرة وأقبل الوفد وتغير وجه التاريخ. ولا أدل على أن الإنجليز كما يروي ذلك الأستاذ فؤاد سراج الدين باشا قد شاركوا فيحيق القاهرة وأن كل شيء توقف تماما بعد الحريق، وأخمدت الحركة الوطنية.

رأي في إلغاء المعاهدة

لا خلاف أن إلغاء معاهدة سنة 1936 كان عملا من أخطر الأعمال في تاريخ مصر السياسي وقد تمخض عن نتائج خطيرة عميقة الأثر.

وقد تعددت الآراء في تصوير واقعة الإلغاء ذاتها ويذكر المرحوم محمود سليمان غنام باشا وهو من الطليعة الوفدية المناضلة لشباب ثورة سنة 1919 تصويرا دقيقا عن هذه الواقعة، فيقول:

كان منتقدو الوفد يأخذون على مصطفى النحاس باشا مهادنته للقصر في الأيام السابقة على إلغاء المعاهدة ولكن النحاس باشا كان يدبر أمر إلغاء المعاهد إذ لا بد من موافقة الملك على هذا الإلغاء وضمان عدم معارضته وكان النحاس باشا يخشى نفوذ رجال القصر من إقناع الملك بعد الانصياع لرئيس الحكومة كما كان النحاس باشا يخشى في الوقت نفسه من تأثير الإنجليز على الملك لكي يحولوا دون صدور مراسيم الإلغاء.

وفي اليوم المقرر لإلغاء المعاهدة وهو يوم مشهود في تاريخ البلاد (8 أكتوبر سنة 951) اجتمع النحاس بوزرائه جميعا وأخذ عليهم عهدا وإيمانا مغلظة ألا يذيعوا خبر الإلغاء خشية أن يتسرب الخبر إلى الصحف وكانت الصحف المعارضة تدعي أن الحكومة لن تجرؤ على إلغاء المعاهدة أبدا.

ويستطرد الأستاذ غنام باشا أنه عندما رجع الوزراء إلى منازلهم لاذ كل منهم بالصمت حتى دوي صوت النحاس باشا عاليا في مجلس النواب: من أجل مصر وقعت معاهدة 1936 ومن أجل مصر أطالبكم بإلغائها معلومات خاصة.

في أوائل يناير سنة 1952 حضر إلى مجلس الوزراء الأستاذ فرد شحاتة سكرتير الدكتور طه حسين وقتها وأخبرني أن الوزارة مآلها الإقالة قبل انقضاء شهر يناير وقد هالني هذا النبأ وقلت له إن الوزارة تتمتع بالعطف الملكي ولاسيما في الآونة الأخيرة الدقيقة بعد إلغاء المعاهدة.

ولكنه ما لبث أن اتصل بي في منتصف الشهر ذاته مؤكدا أن الوزارة ستقال وقد راهنته على ذلك وأيدني في الرهان المرحوم عبد الحليم الغمراوي المحرر بالأهرام وفي صباح يوم 24 يناير سنة 1952 عاود المذكور الاتصال بي وفي هذه المرة أكد أن ثمة مظاهرات سوف تنفجر صباح السبت ولن تنتهي إلا بإقالة الوزارة في نفس اليوم.

وبالفعل جاء صباح 26 يناير سنة 1952 وكانت الحوادث الشهيرة التي انتهت بحريق القاهرة وإعلان الأحكام العرفية في نفس الليلة بعد اجتماع مجلس الوزراء بمنزل مصطفى النحاس.

وأثناء تكليف من رفعة النحاس باشا بإحضار القرارات مع الأستاذ عبد العظيم الدلجموني مدير الإدارة برئاسة مجلس الوزراء اتصل بي أحد الأشخاص تليفونيا ليخبرني بأنه يعمل لدى أحد الأجانب وأن هذا الأجنبي يتصل الآن بمحطة لاسلكية بمنزله وأعطاني رقم التليفون وعاودته لأتأكد أنه المتحدث وعلمت بالفعل أنه يعمل في خدمة هذا الشخص الذي كان يقطن بشارع الأمير فؤاد محمود عزمي حالا بالزمالك.

ثم اتصلت فورا بالأستاذ حسين صبحي بك مدير الأمن العام وقتئذ وأخبرته بهذه الواقعة ولكنه اعتذر لي بعدم استطاعته أن يفعل شيئا بسبب أنه لا يوجد بالعاصمة جنود أو ضباط بوليس والكل مشغول بالحريق.

وفي نفس الليلة أقيلت الوزارة وكلف الرئيس السابقة علي ماهر باشا بتأليف الوزارة الجديدة الذي حضر إلى رئاسة مجلس الوزراء الساعة الثانية من صباح يوم 27 يناير سنة 1952 وكان قد فرض حظر التجول بسيارة من سيارات الإسعاف أحضرها له الأستاذ إبراهيم عبد الوهاب سكرتير عام الجمعية.

وفي أول مارس 1952 نشرت جريدة أخبار اليوم خبرا مؤداه أن رئيس الوزراء لن يقابل السفير البريطاني في الموعد المحدد له الساعة الحادية عشرة من يوم السبت أول مارس 1952.

واتصل بي فريدي شحاتة مؤكدا لي صحة هذا الخبر وأن الاعتذار سيكون بسبب وعكة صحية ألمت بالسفير بعد مباراة التنس التي قام بها بنادي الجزيرة.

فذهبت إلى وزارة الخارجية لأكون في استقبال السفير عند حضوره لاسيما وأن رئيس الوزراء كان بمكتبه. وفي تمام الحادية عشرة أبلغت من السفارة بنفس الاعتذار الذي قيل لي من الشخص المذكور وهو إصابة السفير بوعكة بسبب ما تش التنس.

وأخبرت رئيس الوزراء الذي كلفني بالذهاب إلى مجلس الوزراء لدعوة مجلس الوزراء إلى الاجتماع. وفعلا انعقد المجلس ورفع استقالته إلى الملك. وقد ذهب علي ماهر لمقابلة كبير الأمناء حيث قدم له استقالة وزرائه. وفي هذه الأثناء اتصل بي فريد شحاتة مرة رابعة وأخبرني بأن الهلالي باشا سوف يؤلف الوزارة الليلة. وبالفعل تحقق ذلك.

وعندما تصادف وقابلت فريد شحاتة وسألته عن مصدر الأنباء الصحيحة التي تأكدت أخبرني بأن أجنبيا لا يعرف جنسيته ويرجح أنه ربما كان إنجليزيا أو أمريكيا كان يتصل به تليفونيا ويطلب مقابلته ثم يتقابلان على رصيف شارع سليمان باشا أمام محل لوك ويسيران معا ويتحدث الأجنبي معه أثناء سيرهما ويخبره بكافة الأنباء ويختفي ثم يعاود بعد ذلك الاتصال به عندما يجد جديد أو يكون ثمة نذير في الأفق.

هكذا رواية فرد شحاتة وربما كانت أخباره من أحد الأساتذة الإنجليز في كلية الآداب الذي قد أسلم وتزوج بمصرية وعاش بالقاهرة حتى طردته حكومة الثورة. وكان مشهورا بأن يعمل لحساب المخابرات البريطانية.

وساطة النحاس باشا بين الهند والباكستان

الخلاف بين الهند والباكستان قديم وأذكر أنه في عهد الوزارة الوفدية الأخيرة طلب إلى النحاس باشا أن يتوسط لوضع حد لهذا الخلاف وكان مصطفى النحاس باشا يتمتع بثقة لا حد لها في تاريخ الهند الحديث بل كان حزب المؤتمر الهندي الذي لا يزال يحكم الهند يترسم خطى حزب الوفد المصري وحدد النحاس باشا موعد لسفير الهند على أن يليه في المقابلة وبعد نصف ساعة سفير دولة الباكستان.

ووصل سفير الهند ورافقته إلى الصالون الوحيد الملحق بمكتب رئيس مجلس الوزراء. ولكن المغفور له مصطفى النحاس باشا تأخر عن الحضور في الموعد واقترب موعد سفير الباكستان ثم أدركتنا العناية الإلهية ووصل رئيس الوزراء إلى مكتبه ولكن بمجرد أن جلس على المقعد اتصل القصر برئيس مجلس الوزراء وكان الملك هو المتحدث وأضئ المصباح الأحمر أثناء الحديث.

وكانت عقارب الساعة تتحرك والموقف يزداد سوءا والظنون تشد أذني فما العمل عندما يحضر سفير الباكستان ويلتقي بسفير الهند في صالون واحد إنها القارعة كما يقولون..؟

واستقبلت السفير بترحاب زائد وبدأ ذهني يعمل بسرعة بحثا عن الحل وأسعفني الله أن أقول للسفير. يا سعادة السفير إني أعلم بأنك ذواقة تحب الفن وسوف أنتهز هذه الفرصة لأرى سعادتكم الآن لوحة مرسومة في سقف البهو.

ونظرت إلى أعلى ونظر السفير معي وطفقت أستعين بكل ما أعرفه عن الفنون واللوحات وأهميتها وبدأت أشرح له تاريخ هذه اللوحات التي ترجع إلى مطلع القرن العشرين وكيف أن الخبراء قدروا ثمنا لها عشرة آلاف جنيه عندما اشترت الحكومة القصر.

ويبدو أن اللوحة والحديث قد استهوى سعادة السفير فظل غارقا في التأمل. وسمعت جرس رئيس الوزراء واستأذنت السفير وتركته يفكر في اللوحة وروعتها وأهميتها على أن أدخلت سفير الهند لمكتب النحاس باشا وخرجت لسفير الباكستان وأتممت قصة اللوحة على مسامعه وكان يستزيد الحديث بدقة الفنان وذوقه ثم صحبته إلى الصالون دون أن يشعر بالمأزق الذي كنت غارقا فيه. وأنقذتني لوحة الأميرة شويكار..هذا هو مصطفى النحاس باشا.

الإنعام على عبد المجيد عبد الحق بالباشوية برغم أنف الملك

في مأدبة الغداء التي أقيمت بمناسبة سبوع ولي العهد قبل 26 يناير سنة 1952 ضمت المأدبة الوزراء وكبار الضباط وأكثر من 300 من الشخصيات العامة، ودخل الجميع لتهيئة الملك رسميا واستبقى الملك النحاس باشا ووزراءه بقاعة العرش وكان آخر قائمة الوزراء هو الأستاذ عبد المجيد عبد الحق بك.

وارتفع صوت النحاس باشا مهنئا بولي العهد باسمه وباسم وزرائه وكان الملك غير موفق الرد إذ قال: متشكر. وبكره الولد يكبر ويرازي في الوزارات ويحل البرلمان .. وطبعا مش حتكونوا موجودين وقتها .. وضحك.

وكان الرد غير كريم إذ ينبئ عن إصرار الملك في تنشئة ولي العهد نفس النشأة التي نشأ عليها. وهمس فؤاد سراج الدين باشا في أذن الملك بطلب الإنعام على عبد المجيد عبد الحق برتبة الباشوية لأنه الوزير الوحيد بالوزارة الذي لم يحصل على هذه الرتبة ولكن الملك رفض بسبب عدائه التقليدي للوفد ورئيسه.

ولم يسمع عبد المجيد عبد الحق ما دار..

وفجأة صاح النحاس باشا بعبد المجيد عبد الحق قائلا:

اشكر مولانا على الباشوية.

ولكن الملك قال:

أنا لم أقل شيئا يا باشا.

فرد النحاس باشا:

إننا نمثل جلالتك .. فالدستور ينص على أن الملك يباشر سلطاته عن طريق وزرائه. وتم الإنعام على الوزير إذ أقبل عبد المجيد عبد الحق معتقدا أن الملك قد أنعم عليه برتبة الباشوية وصافح الملك ولم يكن أمام الملك إلا مصافحته ولكن الملك ظل متجهما.

وعلى مأدبة الغداء ظل الجو متوترا وكان الملك يتميز غيظا من الوزراء وكان رئيس مجلس النواب المرحوم عبد السلام باشا جمعة جالسا بعد مقعدين من مقعد الملك ولكن الملك ابتدره قائلا.

لقد رأيت صورتك في الصحف وأنت تقرأ مرسوم ولي العهد دون أن تكون لابسا طربوشا على رأسك وكان يجب أن تلبس الطربوش.وكان النقد غاية في قلة الذوق لأن رئيس مجلس النواب كان أكبر من أن ينتظر من الملك درسا في المراسم أو الإتيكيت.

وتوقع الوزراء أن يرد عبد السلام جمعة على الملاحظة الثقيلة ولكنه ضحك معللا ذلك بأن الجو كان شديد الحرارة.ومرت الأزمة الأولى. ولكن ما لبث أن مضى الملك إلى الإدلاء بملاحظات أخرى فذكر أن بعض الوزراء كانوا يدخنون السجائر والسيجار في المناسبات الرسمية.

وأراد وزير الداخلية فؤاد باشا سراج الدين أن يعترض على هذه الملاحظة ولكن الأستاذ غنام وزير التجارة والصناعة همس في أذن سراج الدين باشا قائلا.إنه لم يذكر أسماء وهو لا يستحي ويريد أن يفتعل أزمة عدل فؤاد باشا فالملاحظة تنطبق على أكثر من وزير.

وفي العودة كان النحاس باشا يركب سيارته وإلى جواره وزير الداخلية وكان ثائرا لأن الملك أنعم على حسين الجنيد وزير الأوقاف برتبة الباشوية بسبب اكتشافه نسب الملك إلى النبي عليه الصلاة والسلام واتصاله بالسراي دون إذن رئيس الوزراء ثم يسوف عندما يطلب رئيس الوزراء الإنعام على عبد المجيد عبد الحق.

ولكن فؤاد باشا هدأ خاطرة قائلا

إن الجندي وفدي على كل حال برغم أنه على يقين أن حسين الجندي كان يتصل بالقصر من خلفه.

وسأل النحاس باشا فؤاد باشا:

هل تعتقد أن الملك سيعترف بالباشوية؟

ثم أمر سراج الدين باشا أن يرافق بيان كبير الأمناء عن المأدبة فإذا جاء اسم عبد المجيد عبد الحق دون لقب يمنع النشر فقال فؤاد باشا.ولكن منع النشر مشكلة خطيرة فرد النحاس باشا بحزم. كلمة واحدة.

ثم صدر البلاغ وكان آخره اسم عبد المجيد عبد الحق مقرونا بالباشوية فطمأن وزير الداخلية رئيس الوزراء على ذلك. وانتهت أزمة عنيفة مثلت فيها شجاعة النحاس باشا وجسارته عندما رد على الملك بأسلوب جاد معروف عن النحاس باشا طوال زعامته لمصر.

قوة إيمان النحاس باشا

في أوائل أغسطس سنة 1950 وصلني من الأستاذ حسين صبحي مدير عام الأمن العام منشورا للعلم بأن هناك معلومات أن أشخاصا يلبسون الزي العربي سيقتلون مصطفى النحاس باشا بخناجر يحملونها في طيات هذا الزي.

وعلى ما أذكر يوم 15 أغسطس اتصل بي صاحب السمو الشيخ محمد بن عيسى آل خليفة بن عم صاحب السمو أمير البحرين المعظم يطلب موعدا لمقابلة النحاس باشا رئيس الوزراء.

وتحدد الموعد وفوجئت بصاحب السمو الشيخ محمد يحمل خنجرين ظاهرين عند وصوله إلى رئاسة مجلس الوزراء للمقابلة.

ودار في ذهني ذلك المنشور الذي وقعت عليه بالعلم، وما أستطيع أن أطلب من سمو الشيخ محمد خلع الخنجرين فدخلت معه ووقفت بينه وبين المرحوم النحاس باشا بشكل غير عادي وكلما تحرك حركة عايدة قمت بحركة بهلوانية مبعثها ما في نفسي.

ولما انتهت المقابلة سألني رفعة النحاس باشا .. إيه الحكاية.. كان لك حركات غير طبيعية ولا مناسبة. فقصصت على رفعته أمر منشور مدير الأمن العام وأنني في كل حركة كنت أستعد لأي تصرف.

فضحك رفعته وقال

اسمع يا ابني لقد حاولوا قتلي بالمترليوز، وأصيب الذين عن يميني وعن شمالي وخلفي وقدامي وقذفوا الديناميت على غرفة نومي ولم يحصل لي أي شيء ولا حتى مجرد إصابة وتكررت محاولات الاعتداء على حياتي من قبل ذلك ومن بعده إن إيماني ويقيني أنني سأموت عندما ينتهي أجلي.

عظمة أخلاق النحاس باشا

كان النحاس باشا قد حدد موعدا لعودته إلى القاهرة وفي اليوم السابقة على هذا الموعد طلب رسل باشا حكمدار القاهرة مقابلة وزير الداخلية فؤاد سراج الدين باشا وأبلغه أن لديه معلومات عن اعتزام جماعة مصر الفتاة الاعتداء على حياة النحاس باشا ولاسيما أن لهم سابقة في الاعتداء عليه سنة 1937 عندما شرع عز الدين عبد القادر في محاولة الاعتداء على النحاس باشا.

وبسبب خشية الاعتداء كلف الوزير الحكمدار باتخاذ ترتيبات الأمن المناسبة فقال رسل باشا: سأعلم كردونات من جنود البوليس مزدوجة من رصيف المحطة حتى باب السيارة التي ستقل النحاس باشا على نظام عسكري في ظل عسكري وألا يدخل المحطة سوى كبار الزوار ويبقى الشعب وراء كردون البوليس.

وأضاف الحكمدار إن هذه الترتيبات سوف تغضب النحاس باشا الذي يحب أن يكون الاستقبال شعبيا دون أي تدخل من جانب البوليس. وقبل موعد الوصول بعشر دقائق لاحظ وزير الداخلية أن مساعد الحكمدار فينتزباتريك في حالة غضب شديد بسبب أن المرحوم الأستاذ حسن ياسين شتمه لوجود جند البوليس يحولون دون الشعب واستقباله لزعيمه مصطفى النحاس.

ثم وصل القطار إلى المحطة ونزل مصطفى النحاس حيث لم يجد في استقباله غير كبار المسئولين وفوجئ وزير الداخلية باختراق الأستاذ حسن ياسين لكردون البوليس وتصور فؤاد باشا أنه يريد أن يخاطب النحاس باشا أو يقبله.

وبمجرد رؤية النحاس باشا للاستقبال أبدى غضبا شديدا وفوجئ المستقبلون بأن رفعته ضرب أول ضابط بوليس قابله في صدره وصرخ فيه سيبوا الناس واندفعت الجماهير وتاه الوزراء في خضم المستقبلين في صدره وصرخ فيه سيبوا الناس واندفعت الجماهير وتاه الوزراء في خضم المستقبلين وأصبح النحاس باشا وسط الجماهير لا يظهر منه غير طربوشه وقال فؤاد باشا لمن معه النحاس باشا ضاع.

وقد روي لي فؤاد باشا أن ربع الساعة الذي انقضى بين نزول النحاس وركوبه السيارة كان أشبه بربع قرن من الانتظار والترقب.واستاء وزير الداخلية من ضرب ضابط البوليس ولم يذهب إلى منزل النحاس باشا وقال لبعض زملائه لماذا لم يطلبني النحاس باشا داخل صالون القطار قبل نزوله.

وكان المفروض أن يتناول الوزراء طعام الغداء على مائدة النحاس باشا ولكن وزير الداخلية لم يذهب بل أرسل خطابا يطلب فيه إعفاءه من منصبه لأسباب صحية كما كان راغبا في عدم حضور جلسة مجلس الوزراء التي ستعقد مساء ذلك اليوم.

وفي الساعة السادسة فوجئ بإبلاغ أن رفعة النحاس باشا قد وصل إلى منزله. وسارع فؤاد باشا بلقاء النحاس باشا الذي سأله عن سبب عدم حضوره مأدبة الغداء فقال فؤاد باشا (أنا مستقيل) فرد النحاس باشا نحتكم لمجلس الوزراء تعالى معي بالله وعقد مجلس الوزراء في جو متوتر.

وكان محمد صلاح الدين بك سكرتيرا عاما لمجلس الوزراء تعال معي بالله وعقد مجلس الوزراء في جو متوتر. وكان محمد صلاح الدين (بك) سكرتيرا عاما لمجلس الوزراء فوجه النحاس باشا إليه الكلام: أكتب أنني أسجل اعتذاري وأسفي لمعالي وزر الداخلية.

فأمسك فؤاد باشا يد صلاح الدين ومنعه من الكتابة وقال إن الأمر قد انتهى ولكن لي رجاء وأمل في أن تستقبل الضابط الذي ضربته غدا برئاسة مجلس الوزراء وقد وافق النحاس باشا.

وفي اليوم التالي حضر إلى الرئاسة مساعد حكمدار القاهرة سليم زكي باشا على رأس لفيف من الضباط بينهم الضابط المذكور الذي ضربه النحاس باشا وكان الضباط يتألفون من أقدم ضابط في كل رتبة واصطفوا أمام النحاس باشا الذي سأل عن الضباط المضروب ودعاه وقبل رأسه وقال ما تزعلش يا بني أنا فؤاد باشا كلمني عن الحكاية فبكي الضباط وبكي زملاؤه فقال لهم النحاس باشا: أرجوكم وراحوا قولوا لفؤاد باشا إنكم مش زعلانين.

الرئيس الحبيب بورقيبة يتحدث عن مصطفى النحاس

أثناء زيارة الرئيس أنور السادات لتونس، وكنت أرافقه في هذه الرحلة أراد رئيس المراسم بالقصر الجمهوري في تونس أن يقدمني لفخامة الرئيس الحبيب بورقيه، ولكن الرئيس ما إن سمع باسمي حتى هتف صائحًا.

إنني أعرفه منذ عهد طول . إنه صلاح الشاهد بتاع النحاس باشا وكرر هذه العبارات أكثر من مرة ونحن في طريقنا إلى قاعة الاجتماعات حيث كان الرئيسان السادات وبورقيبة يجتمعان.وما إن رأى الرئيس السادات حتى صاح بأعلى صوته.

يا فخامة الرئيس إن صلاح الشاهد بتاع النحاس باشا في تونس الخضراء أثر من آثار وأمجاد الزعيم المصري الكبير.و المعروف أن الرئيس بورقيبة أطلق اسم مصطفى النحاس باشا على أكبر شوارع تونس العاصمة بل على الشارع الرئيسي في العاصمة.

كما أنه عندما ألقى خطابا أمام الرئيس السادات وكنت قد نبهت الدكتور مراد غالب وزير الخارجية في هذا الوقت إلى أن متانة الصلات بين الرئيسي التونسي والزعيم المصري الخالد مصطفى النحاس قد تجعل الرئيس التونسي ينتهز الفرصة لكي يشيد بعظمة مصطفى النحاس وأمجاده الوطنية وتاريخ كفاحه لنصرة العرب والعروبة.

وقد تحقق حدسي فارتفع صوت فخامة الرئيس التونسي ينتهز الفرصة لكي يشيد بعظمة مصطفى النحاس وأمجاده الوطنية وتاريخ كفاحه لنصرة العرب والعروبة.

وقد تحقق حدس فارتفع صوت فخامة الرئيس بورقيبة ليذكر زعيمين خالدين من زعماء مصر هما: سعد زغلول ومصطفى النحاس، وليطلق لسانه في التحدث عن تاريخهما ونضالهما ضد الاستعمار في كافة صوره.

ومن المعروف أن مصطفى النحاس باشا كان صديقا للحبيب بورقيبة عندما كان لاجئا في مصر من حكم الإعدام الذي أصدرته سلطات الاحتلال الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية وكان موضع إعزاز مصطفى النحاس ومحل تقديره ورعايته بكل ما يحتاج إليه. وهذا ما لم ينسه الزعيم التونسي الذي ظل وفيا لذكرى زعيمنا المصري الخالد.

النحاس باشا والسباحة

تبدو رعاية النحاس باشا للسباحة وأبطالها في أجل معانيها، عندما كانت يداعب أبطالها مداعبة الأب لأولاده.وفي سنة 1941 عندما كان يصطاف النحاس باشا في رأس البر بادر السباح المعروف عبد المنعم عبده ... قائلا:

اسمع يا منعم.. أنت لازم تفهم أن مش أنت بس لوحدك بطل السباحة في البلد أنا كمان بطل كبير في السباحة وبكره إن شاء الله تجي وتنزل معايا البحر ونعوم قصاد بعض ونشوف بقه.. مين اللي حيسبق الثاني؟ وبالفعل تمت المباراة بين الزعيم الكبير والبطل الشاب.وكان الزعيم رقيق الحاشية مرحا كابن البلد في نقاوته وصفائه، ومشجعا للبطل الشاب بكل صور التشجيع.

ولم يكتف الزعيم بذلك بل إنه كلف الصحفي المعروف الأستاذ محمد التابعي لكي يتصل بالموسيقار محمد عبد الوهاب ليقيم حفلا برأس البر يخصص دخله لمعاونة السباح، ماديا بعد أن علم أنه مقبل على تجهيز شقيقاته للزواج بصفته رشدي العائلة وعندما اعتذر عبد الوهاب عن إقامة الحفل لعذر عائلي انتهز النحاس باشا فرصة سفره للقاهرة لمقابلة الملك عقب استدعائه له بعد خطابه المشهور في رأس البر الذي ندد فيه بسياسة الحكومة والإنجليز وخاصة في شئون القطن وانتهز رفعة النحاس باشا فرصة وجوده في القاهرة لعدة أيام واتصل بالفنان الكوميدي الكبير المرحوم نجيب الريحاني وطلب منه إقامة حفل في رأس البر يخصص إيراده لمساعدة السباح عبد المنعم عبده.

وأقيمت الحفلة وقدمت فرقة الريحاني مسرحية (لو كنت حليوه) تبرعا بناء على رغبة النحاس باشا. ومن الطرف أن السباح عبد المنعم عبده أراد أن يعبر عن امتنانه لمصطفى النحاس باشا فأهداه قفصا صغيرا من السمان لا يزيد وزنة على كيلو واحد.

وتقبل الزعيم الهدية الصغيرة بقبول حسن برغم أن السيدة قرينته قالت ساخرة عندما نظرت إلي القفص الصغير:

فين هي الهدية دي، حي تعمل عزومة على قفص جريد؟ .. دا حتى ميكفيش نفر واحد.

ولكن الزعيم استمر بلهجة حانية:

يا سلام يا منعم هديتك عظمة قوي في نظري .. أنا متشكر منك جدا وممنون خالص ولم يقتصر تشجيع النحاس باشا على مجرد الرعاية المعنوية بل إنه قد عين البطل عبد المنعم عبده بإدارة التربية البدنية بوزارة المعارف في وزارة الوفد سنة 1942.

ومن المعروف أن رفعة مصطفى النحاس باشا كان رياضيا في شبابه وكان يهتم بالرياضة ويشجع الرياضيين الذين كانوا يجدون في رحابه الأب المشجع.

وأذكر أنني كنت برفقة بعض زملاء الصبا وخلان الشباب ومنهم اللواء وحيد شوقي ومصطفى شوقي ومحمود شوقي وعبد المنعم شوقي نقوم برياضة السباحة صباح كل يوم بشاطئ الإسكندرية (جليم) وكان رفعة النحاس باشا وهو مولع شديدا بالسباحة وبرفقته البطل المصري إسحق حلمي كانا يشهدان هذه السباحة ويشجعان الرياضيين الشباب وكان النحاس باشا يدعو الفريق الصغير إلى تناول طعام الإفطار على مائدته بعد انتهاء الرياضة.

إن رياضة السباحة تدين للنحاس باشا ومآثره على هذه الرياضة كثيرة فقد رصد في ميزانية وزارة الشئون الاجتماعية سنة 1950 مبلغ خمسة آلاف جنيه إسترليني لبعثة المانش. وعندما سافرت البعثة إلى لندن استقبلها قبل سفرها وأوفد أحد المندوبين لوداعها وكان يترقب أخبار الرحلة بشغف كبير واهتمام ظاهر.

وأنثا عبور البطل المصري المعروف: حسن عبد الرحيم وحصوله على جائزة الديلي ميل أغسطس سنة 1950 كان النحاس باشا يترقب الأخبار وهو في طريقه من الإسكندرية إلى القاهرة بعد أن أمر بإبلاغه نتائج المباراة أولا بأول من نظار المحطات وعندما دخل القطار القاهرة كانت أنباء انتصار حسن عبد الرحيم قد وصلت وفرح النحاس باشا فرحا شديد وكان وهو يسير ممسكا بعصاه من منتصفها يختال زهوا وكأنه هو الذي حقق لمصر هذا الفوز العظيم.

وطلب مني أن أرسل برقية للسفير المصري بلندن للتهنئة السباحين والبعثة وإعطائهم أي مبلغ هم في حاجة إليه. وعند رجوع البعثة إلى القاهرة قابلها مصطفى النحاس باشا في سان استفانو مهنئا ودعا أفرادها لتناول الشاي ووقف منهم خطيبا ومشيدا ببطولتهم ثم قال إنه يرى أن الدعاية عن طريق الرياضة خير وأبقى وأكثر ثمارا من الدعاية الدبلوماسية الباردة.

النحاس باشا يرفض شهادتي في قضية زينب هانم الوكيل. وأذكر أنه أثناء قضية زينب هانم الوكيل حرم الزعيم مصطفى النحاس باشا رحمها الله أن طلبت زينت هانم من المحكمة سماع أقوالي في واقعة تتعلق بالقضية وقد نشرت مجلة التحرير وكانت تعبر عن رأي مجلس قيادة الثورة، ويصدرها ضباط هذا الخبر.

وقد كنت على استعداد لأن أدلي بشهادتي إيمانا مني بإظهار الحقيقة على الملأ كما أني عملت وقتا طولا بالقرب من مصطفى النحاس واتصلت به منذ شبابي وكان الرجل وزوجته غفر الله لهما أثيرين إلي نفسي، ولم يكن من المعقول وأنا رجل عام أن أتخلى عن ذكر الحقيقة أيا كان الموضع الذي كنت أشغله كما يقول الله سبحانه وتعالى: ولا تكتموا الشهادة.

وقد أبديت رغبتي في التوجه إلى المحكمة للسيد الرئيس اللواء محمد نجيب فأبدى شيئا من الحر خشية أن يؤول الأمر باعتباره معاداة للثورة.ولكني لم أتردد.

واتصل بي المحامي الكبير الأستاذ أحمد رشدي بك وكان مدافعا عن السيدة الجليلة زينب هانم ودعاني لمقابلة السيدة زينب هانم فلبيت والتقينا في منزل مصطفى النحاس وأبديت بجلاء استعدادي للشهادة وليكن ما يكون.

ولكن مصطفى النحاس باشا رفض ذلك وقال بالحرف الواحد للأستاذ أحمد رشدي:

يا أحمد بك لا تتعب نفسك فالحكم مكتوب قبل المحاكمة وكل شيء معد مقدما ولا داعي لإحراجه في وقائع لن تسمعها المحكمة. وفي اليوم التالي سحب الأستاذ رشدي طلبه باستدعائي للشهادة ... وصدر الحكم.

القاضي سعد زغلول واحترام القضاء

أخبرني المغفور له رفعة الزعيم الجليل مصطفى النحاس باشا وهو يرى لي ذكريات نضاله أثناء الحركة الوطنية سنة 1919 وظروف تكوين الوفد وزعامته للأمة وبعض الجوانب الخفية من حياة الزعيم الخالد سعد زغلول باشا.

وقال مصطفى النحاس باشا بأسلوبه السلس الواضح.. .في ذكريات له في عظمة سعد زغلول وهي حادثة فيما نعلم لم ترد في أي كتاب كتب عن سعد زغلول حتى الآن برغم المؤلفات العديدة التي كتبت ولا تزال تكتب عن نشأة الزعيم الوطني ودوره في الجهاد منذ الثورة العرابية وكفاح ضد دنلوب وهو ناظر للمعارف، وعضويته عن الأمة في الجمعية التشريعة سنة 1913 وكان نائب الأمة بحق المعبر عن أمانيها وآمالها والمدافع عن حقها وحقوقها.

قال المغفور له خليفة سعد، وحامل لوائه بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى أن سعد زغلول كان ناقما على المستشار أحمد طلعت بك وكان مستشارا بمحكمة الاستئناف لأنه رشح نفسه في الانتخابات وجاءت الانتخابات معبرة عن إرادة الأمة كأي انتخابات نزيهة تعبر فيها الأمة عن إرادتها الحرة بلا تقيد.

وانتصر سعد زغلول على خصومه وسحقهم سحقًا. ولما كان وفقا لقانون إنشاء المحاكم الوطنية المعمول به منذ سنة 1883 أنه يجوز لمجلس الوزراء ندب أحد المستشارين بمحكمة الاستئناف لرئاسة إحدى المحاكم الابتدائية أراد الزعيم سعد زغلول أن ينتقم من المستشار أحمد طلعت وأن يستعمل هذا الحق المقرر لمجلس الوزراء في ندب مستشار الاستئناف لوظيفة أقل.

واستدعى سعد زغلول رئيس إدارة قضايا الحكومة لبحث مسألة ندب المستشار، ولكن رئيس إدارة قضايا الحكومة لبحث مسألة ندب المستشار ولكن رئيس إدارة قضايا الحكومة وكان المرحوم بيولا كازيللي، أفتى بعدم جواز هذا الندب وقال لسعد زغلول:

إنه ليس سعد زغلول القاضي هو الذي يطالب بالمساس بالقضاء وليس سعد زغلول القاضي الذي عرفته المحاكم نزيها، هو الذي يهدر حقوق الإنسان كما أن هذا النص الوارد في قانون إنشاء المحاكم الأهلية لابد أن يفسر علي ضوء الظروف التاريخية وقت صدوره وسعد زغلول القاضي منذ 1892 والمستشار بعد ذلك يعرف مثل هذه الظروف فلم يكن هناك مستشارون مصريون في وقت صدور القانون. واقتنع القاضي سعد زغلول بوجاهة الحجج التي ذهب إليها بيولا كازيللي وصرف النظر عن الموضوع.

البوليس يقبض على كل من يلقي ملبسا على النحاس باشا

بعد زيارة رفعة مصطفى النحاس باشا لأوربا سنة 1950 وصل إلى ميناء الإسكندرية واستقل سيارة مكشوفة وإلى جانبه معالي فؤاد سراج الدين وباشا وزير الداخلية وكان من المعروف أن رئيس الوزراء بالنيابة عثمان محرم باشا هو الذي كان يجب أن يحاور مصطفى النحاس باشا أثناء ركوبه السيارة، ولكن الزعيم كان يريد أن يجعل من فؤاد باشا وهو عنصر الشباب والدم الجديد في الوفد خليفة له، بشكل يوحي بأن الزعيم إسماعيل يبايع فؤاد باشا بعد انتقاله إلى رحمة الله.

وكان حماس الجماهير كبيرا حتى ألقى الناس على الموكب زهورا وملبسا وخشي البوليس على حياة الزعيم من الملبس وخافوا أن يكون قنابل فالقوا القبض على المستقبلين والذين اشتعلوا حماسا.

واشتكى المعتقلون من سبب الاعتقال إذا لم يكن له من سبب سوى حماسهم وحبهم للزعيم الوطني. واستاء مصطفى الناس باشا وكان لا يخشى الموت لإيمانه العميق وأمر بالإفراج عنهم وقال لرئيس الحرس. اللي يرموا الملبس تقبضوا عليه.. أما اللي يرمي قنابل تعملوا فيه أيه؟ شيء عجيب!!

أخلاق الشيخ الكبير

وأذكر أنه بعد إعفاء رفعة النحاس باشا من الوزارة أثر حريق القاهرة في 26 يناير سنة 1952 أن أسندت رئاسة الوزارة إلى رفعة علي ماهر باشا واتصل بي بالرئاسة شخص كان يشغل مركزا دينيا كبيرا في مجلس الوزراء وكان معروفا بوفديته منذ عهد بعيد، كما كان لمصطفى النحاس باشا أياد بيضاء عليه وعلى أخويه وكان أزهريا عريقا وسألته:

حضرتك مين؟أنا فلان.. وأشغل الوظيفة الفلانية ولكني سألني..من أنت. وكأنه لم يدرك أن المتكلم شخص آخر غير صاحب هذه الذكريات وكان موقفنا بأن المتحدث قد أعفى من منصبة بسب إقالة مصطفى النحاس باشا.

وآثرت أن أضلله فأنكرت نفسي وطلب أن يسمح له بمقابلة رئيس الوزراء وسألته:

ما سبب الزيارة؟

لتهنئة رفعت رئيس الوزراء.

وما هو العنوان؟

إنني أسكن جنب منزل المرحوم.وتبادر إلى ذهني لأول وهلة أن مولانا يقصد المغفور له دولة أحمد ماهر باشا شقيق رئيس الوزراء... فقلت.

في حدائق القبة بجوا المرحوم ماهر باشا؟

ولكنه لم يتمهل بل قال:

بل إنني أقصد النحاس باشا.

فارتعت قائلا:

وهل انتقل النحاس باشا إلى جوار الله؟

فأجاب ساخرا

لم يمت النحاس باشا ولكن النحاس باشا لن تقوم له قائمة بعد المأساة التي انتهى إليها لقد ذهب النحاس باشا إلى الأبد.وحزنت وأحسست بالألم يعتصرني.وبكي قلبي على الوفاء، وترحمت على الأوفياء.

ونقلت الحديث إلى رفعة علي ماهر باشا... وبان على وجهة الاستياء وأمر باستدعاء الشيخ وكيل الوزارة الذي هرج لمقابلة رئيس الوزراء لتقديم فروض الولاء والدعاء لرفعته بالمجد والسؤدد.

ولكنه فوجئ بأن رئيس الوزراء يطلب من فضيلته تقديم الاستقالة..!وقدم الاستقالة فعلا..النحاس باشا أخلص الناس وطنية:سألت دولته عن اختيار النحاس باشا رئيسا للوفد وهل كان هناك من ينافسه؟ فقال دولته:

لقد انتخب مصطفى النحاس رئيسا للوفد بلا منازع والحقيقة التي يجب أن يعملها أبناء هذا الجيل أن مصطفى النحاس كان من أخلص الناس وطنية وطن أكثرهم فما للقضية المصرية والشيء الذي يؤخذ على النحاس باشا.. شدة عناه وربما كان محمدة فيه ...قلت:

وما هي أسباب انشقاق السعديين وانفصالهم عن الوفد وخروج أحمد ماهر والنقراشي فقال دولته:

مشروع خزان أسوان وقد لعب مكرم عبيد دورا كبير أدى إلى هذا الانشقاق كان مكرم يخشى ماهر والنقراشي وكان وثيق الاتصال بالنحاس باشا في غداوته وروحاته، وجاء مشروع خزان أسوان فوقع الخلاف الذي انتهى بهذا الانقسام.

لقد كانت شركة بريطانيا تقدمت بعطاء عن مشروع كهربة خزان أسوان ورأت أغلبية مجلس الوزراء أن يتم الاتفاق على هذا المشروع بالممارسة ولكن النقراشي باشا ومحمود غالب باشا ومحمد صفت باشا والفريق علي فهمي باشا رأوا أن مشروعا كهذا لا يصح أن يبت فيه بالممارسة بل لابد أن يعرض في مناقصة عالمية وهنا رأى النحاس باشا أن تستقبل الوزارة ليعيد تشكيلها من جديد مستغنيا عن النقراشي وغالب وصفوت وعلى فهمي.

وهنا ظهر الرأي المخالف للطريقة التي اتبعت في إقصاء الوزراء عن مناصبهم لا لشيء إلا لأنهم استمسكوا برأي وهو لا شك أقرب على المصلحة العامة وإلى الطمأنينة للجماهير على سلامة تصرف الحكومة في أموال الدولة.

وعندما فوق ذلك أن الخلاف الشخصي الداخلي في الوفد بين مكرم باشا صاحب النفوذ الظاهر المستمر على النحاس باشا وبين النقراشي وهو من عمد الوفد الأصلية وحراسة مبادئه القوام على تنظيمه قد فعل فعله في تغيير النفوس وتهيئتها لانتهاز أول فرصة للتخلص من تشدد النقراشي فيما يراه حقا واستعمال حقه هذا في مصارحة الرئيس ولو كان على غير رأيه.

وقد انضم النقراشي (68) من أعضاء الهيئة الوفدية وكان هؤلاء من أصلاء الوفديين الذين أسهم أكثرهم بنصيب في الحركة الوطنية.واضطر الوفد أن يسد هذه الثغرة فملأها ولكن من أناس بعضهم لم يكن له سابقة جهاد بل كان بعضهم حربا على الحركة الوطنية ولا داعي لذكر أسماء..

بل إن من أعضاء الهيئة الآخرين من قدم استقالته وأعطاني إياها أمانة وبقيت في جيبي بضعة أيام وجاءوني بعدها يطلبون هذه الاستقالة فسلمتها إليهم دون أي محاولة للتشهير بواحد منهم أو الكشف عن أسمائهم. كان من نتيجة هذا أن تكاثر الناس في دهشة واستغراب يتساءلون كيف يفصل عضو من أعضاء الوفد كالنقراشي وهم يرونه من كيان الوفد الأصيل لا كأي فرد أو عضو من المنتسبين!

وانقسمت الآراء في الهيئة الوفدية مستنكرة هذا التصرف وكان من أثر ذلك محاولة بذلها مكرم باشا ليغطي أثر الجرح الذي ضج الوفد منه فعرض على النقراشي عضوية مجلس إدارة قناة السويس والمرتب الضخم والامتيازات الكثيرة، ولكن النقراشي رفض هذا كله وكان له تصريح في كلمات أنه لا يطلب إلا حكما صالحا.

ونفخ النافخون في نار الخلاف ونتج عن ذلك فصل النقراشي من الوفد، ولكن ماهر باشا أعلن في اجتماع الوفد أنه لا يلتزم بهذا القرار وأنه يعتبر النقراشي دائما عضوا في الوفد من حقه أن يطلعه على كل مداولاته وأسراره فقبل الوفد ذلك ولم يعترض على ذلك مصطفى النحاس باشا أو مكرم وكان هذا طبيعيا تفاديا لمضاعفة الأثر بخروج ماهر على النقراشي في وقت واحد.

فقلت له:

أود يا سيادة الرئيس أن تذكر لي الظروف التي جاءت بوزارة الدكتور أحمد ماهر باشا بالحكم عام 1944.

فأجاب دولته:

كانت الظروف كلها في ذلك الوقت تدعو إلى تغيير الوزارة ولا داعي لذكر الأسباب وتولى أحمد ماهر الوزارة وألف هيئة استشارية من جميع الأحزاب غير الوفدية ومن بعض المستقلين للمفاوضات مع بريطانيا ولكن الم يقدر لهذه الهيئة أن تمارس المهمة التي شكلت من أجلها فقتل أحمد ماهر في البرلمان وتولى النقراشي من بعده الحكم ولم يتم شيء في هذا الموضوع ثم تولى صدقي باشا الحكم فاتصل بالإنجليز ووافقوا على المفاوضات وبعثوا اللورد (ستانسجيت).

وجرت بين الاثنين مباحثات تمهيدية وبعد ذلك اشتركنا مع صدقي باشا في الحكم وتوليت أنا وزارة الخارجية وسافرنا إلى انجلترا وعقدنا جلسة طويلة واحدة مع مستر بيفن وزير خارجية إنجلترا في ذلك الحين ثم الاتفاق فيها على جميع أسس الاتفاق الجديد أو مشروع المعاهدة سمها كما شئت وقد كان انطباعي عن هذه الجلسة لشخصية مستر بيفن أنه كان رجلا مستقيم الطريق واضح الغاية وكان يقصد فعلا إلى إنهاء الوضع القائم على أسس يتحقق معها استقلال مصر مع تنفيذ الجلاء.

وفي هذه الجلسة تحددت المسائل واضحة والجلاء بنوع خاص وعلى أساس أن يكون في مدى محدد وقد طلبت بالذات تحديد يوم الجلاء من الشهر والسنة فوافق وحدد اليوم التاسع عشر من سبتمبر سنة 1949 وقد عرض مستر بيفن مشروعه على مجلسا لوزراء البريطاني مصحوبا باستقالته إذا لم يوافقه المجلس عليه.

وفي هذا الوقت كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة منعقدة وكان مستر بيفن سيحضرها بصفته وزير خارجية بريطانيا فرجانا كل الرجاء وألح في ذلك كثيرا بألا ندلي بأية تصريحات من قريب أو بعيد عن مضمون المشروع حتى يعود من هيئة الأمم قائلا لأنكم لا تعلمون أن مجلس الوزراء البريطاني وافق على المشروع مرغما وتحت التهديد بالاستقالة وذلك دفعا لأية محاولة لهدمه من جانب الكارهين وغير الموافقين عليه من جانب الذين وافقوا مكرهين تحت الضغط والتهديد، بالاستقالة وقد يتيسر هذا في غيابي لعدم وجود من يدافع عنه.

والواقع في رأي أنه كان اتفاقا عظيما مشرفا حتى إن بعض المصريين الذين عرفوا بمضمون هذا الاتفاق دهشوا للتوفيق الذي حصل عليه المفاوضون المصريون فأخذوا يزايدون والعجيب أن لطفي السيد باشا كان أحد الوزراء الذين وافقوا على المشروع وكان أحد أعضاء هيئة المفاوضات ثم انضم إلى المعارضين منهم وكان صوته هو المرجح لرفض الهيئة للمشروع.

المهم أ، بعض الصحفيين المصرين أذاعوا على لسان صدقي باشا عبارات انتهزها خصوم الاتفاق في انجلترا وفي مصر مما حمل مستر أتلي رئيس الوزارة البريطانية أن يصدر بيانا في غيبة مستر بيفن يقول فيه: إن صدقي باشا أعطى بيانات مضللة وكان هذا هو النذير بفشل المفاوضات.

وعاد بيفن حزينا لم يستطع أن يصلح ما قد فسد وظلت المرارة في نفسه عند مروره قبل وفاته بالقاهرة في عهد حكومة سري باشا وصرح بأنه آسف وحزين لضياع هذا الجهد ويقول في معرض تأييده للوفد. لقد أخطأنا المفاوضة مع حكومات الأقليات.

حديث خاص مع دولة إبراهيم عبد الهادي باشا

وقلت للرئيس السابق إبراهيم عبد الهادي:

ألم يجدد الإنجليز معكم المحاولة مرة أخرى حينما توليتم الوزارة عام 1949؟ نعم حدث وبعد أشهر قليلة من توليتي الوزارة وصلنا إلى حالة هدوء داخلي كامل بعدما انحسرت موجة الجريمة التي اجتاحت البلاد، يومئذ زارني الأستاذ حسن يوسف وكيل الديوان الملكي وأبلغني أن المارشال سليم قائد قوات الإمبراطورية موجود ويريد أن يستأنف مع الحكومة المصرية محادثات في شأن العلاقات بين مصر وانجلترا فرجت بذلك واتفقنا على أن ندعوه للعشاء بقصر الزعفران واستجاب الرجل للدعوة والتقينا بغير ضجة أو ضوضاء..

وحضر معنا خشبة باشا وزير الخارجية وحسن يوسف باشا ومحمد حيدر باشا، ومن الجانب البريطاني المارشال سليم وآخر.بعد العشاء اجتمعت والمارشال سليم على انفراد فعرض وجهة نظره التي تقضي بإقامة أساس لتأمين الشرق الأوسط من خطر العدوان الأجنبي فكان ردي بأن ذكره بمفاوضاتنا السابقة مع الحكومة البريطانية عام 1946 وأن هذا الموضوع بذاته أشير إليه يومئذ وانتهينا فيه إلى نتيجة كنت أحد الموقعين عليها وإن كان هناك جديد أرجو أن يسلم إلي مكتوبا.

فاستجاب وأرسل إلى مذكرة لا يخرج ما فيها عن شيء مما سبق أن صفيناه في مباحثات (صدقي – بيفن) عام 1946.وقد شرحت له وجهة النظر المصرية مرة أخرى على أساس أن الاحتلال أصبح فوق كونه مكروها فإنه لا فائدة فيه إلا إثارة الكراهية زيارة عما هي وعدم التصديق لأي عهد تتعهد به انجلترا طالما كان الاحتلال قائما.

ولكنه أراد أن يجعل من وجود أسلحة ومعدات ضخمة في القاعدة في فايد والسويس ولها مخابئ تحت الأرض ومنها أجهزة كهربائية معقدة ليس من السهل استعمالها بغير خبرائها مبررا لبقاء هؤلاء الخبراء في القاعدة.

فرددت عليه بأن ذلك لا يستوجب بقاء جيش وبما أننا ننوي أن نكون عند وقوع حرب حلفاء فلا بأس من أن تبقى هذه الأجهزة أمانة لدينا كحلفاء لكم فإذا وقعت الحرب يمكن أن تكون معدة للاستعمال. فكان جوابه: نحن لا نأمن عليها غير رجالنا.

فرددت عليه بقولي:

بأن من لا يؤتمن على بعض أسلحة فكيف يؤتمن على أن يكون حليفا وما دام الأمر كذلك فارفعوها واحملوها إلى حيث تشاءون فوافق على ذلك.

وقد عينا من قبلنا خبراء مختصين مصريين لتحديد المدة اللازمة لنقل هذه المعدات والأسلحة ونقلها وهم: القائمقام أحمد حمدي هيبة وكان معروفا بأنه من أوسع الضباط الكبار علما ومعرفة كرئيس للمجموعة المصرية يعاونه البكباشي عز الدين عاطف للسلاح البحري والبكباشي إبراهيم جزارين للطيران وصلاح جوهر، واجتمعوا بالخبراء البريطانيين وجاءوا بتقريرهم.

وفي هذا التقرير تحديد للمواعيد التي يتم فيها الجلاء البري والبحري والجوي، أما ما يتعلق بمهمات البحرية والطيران فأمر لا يستغرق حمله أكثر من أسبوعين وأما المخازن الأخرى فهمي تحتاج إلى ستة أشهر.

ولكن الجانب البريطانية لم يوافق على هذا التقرير وحاول المارشال سليم أن يكون الرأي القاطع في تقرير ذلك من الحكومتين، فتمسكت بقرار العسكريين وقلت:

إن كل حكومة تستشير من خبرائها العسكريين من تختار ولكن المفاوضات والقرار النهائية شأن الحكومة وحدها. وقفت الأمور عند هذا الحد، ثم أرادوا بعثها بعد ذلك بقليل فتمسكت بوجهة النظر السابقة ولكنهم أرسلوها كلمة نقلها إلى الطيار إبراهيم جزارين إذ جاءني يقول إنه حدث في الاجتماع الأخير أن رئيس المجموعة الإنجليزية قال:

إن من يتمسك بهذا الرأي يجب أن يكون في غني عن مركزه. وكان هذا التبليغ بحضور الضباط الثلاثة. فطمأنتهم بأن هذا الكلام ليس موجها إليكم أنتم بقدر ما هو موجه إلى كرئيس للحكومة ثم عقبت على ذلك قائلا:

ومع ذلك فإن حدث لأحدكم ضرر أعاهدكم أن لقمة العيش التي عندي ستكون قسمة بينكم وبيني. كل هذا يعلمه السيد إبراهيم جزارين والسيد عز الدين عاطف والسفر الحالي صلاح جوهر ورحمة الله عليه: أحمد حمدي هيبة.

علاقة الملك وإبراهيم عبد الهادي باشا

وقلت للرئيس السابق إبراهيم عبد الهادي:

أريد أن تحدثني عن سبب أو أسباب إعفاء الملك لكم من الوزارة ولم تمض على الحكم إلا سبعة أشهر... إن لم تخن الذاكرة؟

فقال:

لقد وضعت تشريعا يقضي بالحكم على من يضبط معه سلاح بخمس سنوات سجن فضبط مصطفى كمال صدقي وكمال يعقوب على ما أذكر، وقدما للمحاكمة فحكمت المحكمة على مصطفى كمال صدقي بخمس سنوات.

ولما كان الحكم لا يصبح نافذ المفعول إلا إذا صدق عليه الحاكم العسكري وبعد الحكم مباشرة جاءني حسن يوسف وقال لي:

إن مولانا يريد عدم التصديق على الحكم.

فقلت له:

بلغ مولانا أن هذا ليس من مصلحته كما أنني لا أقبل هذا لأنني أنا واضح التشريع ولا أستطيع أن أهدره بنفسي في بدء تطبيقه فذلك أمر عسي على نفسي ولا أستطيع مطلقا أن أهدم قانونا أو مشترك في وضعه دا مش ممكن مستحيل قل لمولانا هذا .. هذه أول مسألة أغضبت الملك.

والمسألة الثانية أنتم كلكم تعرفون أن عثمان باشا المهدي ضابط كبير رجل طيب الله يرحمه ويحسن إليه رشحته السراي ليكون رئيسا لهيئة أركان حرب الجيش ولكني كنت أرى أن فؤاد صادق باشا أصلح لهذا المنصب كقائد محارب ولكن حيدر باشا كما علمت أفهم الملك أنه لو تم تعيين فؤاد صادق فسيكون كعرابي باشا كما علمت أفهم الملك أنه لم تم تعيين فؤاد صادق فسيكون كعرابي باشا كما علمت أفهم الملك أنه لو تم تعيين فؤاد صادق فسيكون كعرابي باشا وتفاديا للحرج ووفق على تعيين عثمان المهدي باشا رئيسا للأركان مع وعد بتعيين فؤاد صادق مفتشا عاما للجيش.

ويقضي القانون بأن من يعين في وظيفة مدير عام فما فوق يكون بمرسوم ترفعه الحكومة إلى الملك للتصديق .. فوضعت المرسوم وصدق عليه الملك وبعد حوالي شهر ونصف من تاريخ صدور المرسوم علمت من الأستاذ كامل سليم بك سكرتير عام مجلس الوزراء يومئذ وهو رجل أمين أن السراي طلبت منه إرسال المرسوم الخاص بتعيين عثمان المهدي رئيسا للأركان فرابني هذا الطلب لأن السراي لديها ولا شك صورة من هذا المرسوم في محفوظاتها فلماذا وما هو الداعي لطلب النسخة الأصلية من المرسوم لذلك أبديت له عدم موافقتي على إرساله.

وفي اليوم التالي جاءني حسن يوسف باشا فكرر الطلب، فلم أوافق لعد اقتناعي بذلك وقلت له:

إذا كان المراد الاعتراض على عثمان المهدي فذلك جاء متأخرا لأن تعيينه حدث وجري بموافقة الملك فما الذي جد في هذه الفترة القصيرة ليبرر العدول عن هذا ؟ والموافقة على ذلك تضييع لحق قانوني دستوري لا أوافق عليه لأنه اختلاس لحق الأمة وما دامت لم أفكر في أن أختلس لنفسي شيئا فلا أظن أن أحدا يحملني على أن أختلس لصالح الملك شيئا.

وقد تكرر طلب هذا المرسوم في اليوم التالي بواسطة كريم ثابت ورددت عليه بنفس الرد، والحمد لله الذي أنطق بهذا كريم ثابت نفسه في مذكراته التي نشرتها إحدى الصحف في هذا العهد وهي جريدة الجمهورية.

ثالثا: المحروسة والاعتماد الخاص بها..

جاءني حيدر باشا بعد أن انتهينا من وضع الميزانية واقترح حسين فهمي وزير المالية إذ ذاك كما انضم لحيدر باشا أن يكون الاعتماد الخاص بالمحروسة اعتمادا خاصا غير داخل في ميزانية وزارة الدفاع.

ولما عرض على اللجنة المالية في مجلس النواب لقي ما يستحق من معارضة فجاءني حيدر باشا يعلن أنه غير قادر على إقناع اللجنة المالية التي طلبت حضور رئيس مجلس الوزراء شخصيًا.

فذهبت وأدركت خوف اللجنة المالية التي كنت أشاركها في وجهة نظرها وتداولت معها اللجنة وأعطيت كل الضمانات التي ترى فيها كفالة وصيانة لعدم تمكين أي راغب في التلاعب بالاعتماد، واستقر الرأي على أن يعهد إلى رئيس مجلس الوزراء شخصيا الإشراف على هذا الاعتماد وأن يكون التصرف فيه قائمًا على أساس تقرير من خبراء دوليين يقررون أن إصلاح يخت المحروسة خير من شراء قطعة بحرية جديدة تنوب عنه وذلك لأن المتقدمين من قبل البحرية بطلب الاعتماد ادعوا أن هيكل المحروسة من مواد صلبة وأمتن من المواد المستعملة في السفن من أمثالها في الوقت الحاضر وأن تطرح العملية على شركات عالمية للمناقصة.

ووافق مجلس النواب على هذا كما وافق عليه مجلس الشيوخ كذلك، ولما وافق عليه مجلس الشيوخ كنت قد خرجت من الوزارة ولم يجر أي تصرف في هذا الاعتماد في مدة حكمي. ولما جاءت وزارة حسين سري أهملت كل هذه الشروط والقيود ونفذ الاعتماد وف عهد حكومة الوفد كلك صرف مبلغ فرق دولارات زيادة.

حكاية المحروسة هذه كانت ذات أثر في نفس الملك وقد لوح لهذا في المأدبة حكاية المحروسة وهذه كانت ذات أثر في نفس الملك، وقد لوح لهذا في المأدبة التي أقامها الوزراء عند السفر إلى الإسكندرية قبل الاستقالة بأيام حيث عرض الحديث على المائدة أن الموسيقى التي تسمع ألحانها هي موسيقى المحروسة وبأثر هذه القضية على نفسه شهد الأستاذ حسن يوسف عرضا أمام إحدى الهيئات القضائية في المحاكمات التي جزت خلال هذا العهد بأن حكاية المحروسة هذه كانت من أشد ما أغضب الملك على الوزارة ورئيسها.

وقد فاتني أن أذكر الصدى الذي نتج عن عدم الموافقة على إلغاء محاكمة مصطفى صدقي ومبلغ ما ترك في الغضب في نفس الملك حيث لم أقبل رغبته في عدم المصادقة على الحكم فقد تذكرون أن زميلي في الوزارة مصطفى مرعى وكنت أشركه فيما يختص بالأحكام العرفية قد استقال من وزارة حسين سري التي تلت وزارتي في الحكم وكان من بين أسباب هذه الاستقالة ما أراد سري باشا أن يشركه أو يورطه فيه من عدم التصديق على الحكم المشار إليه فرفض مصطفى مرعى واستقال أعود فأقول: إن حسن يوسف يقول لي:

مولانا عاوز المرسوم الخاص بتعيين عثمان المهدي.

فقلت له:

مولانا عاوز. مولانا يا حسن باشا .. مولانا على عينا ورأسنا لكن تسليم مرسوم

مثل هذا للسراية يبقى معناه إيه؟

وذهب إلي كامل بك سليم سكرتير عام مجلس الوزراء وقال له:

إن مولانا عاوز مرسوم عثمان باشا المهدي.

فجاءني كامل سليم بك وأبلغني ما قاله حسن يوسف فقلت له:

هذه وثيقة من وثائق الدولة وهي أمانة عندك، وأنت المسئول عنها.وقلت له كلاما آخر.. لا داعي لذكره.

جاءني حسن يوسف وأعاد على نفس الطلب فقلت له: لما يكون فيه مستند عندي وعاوزين صورة منه ممكن أما المرسوم الموقع من الملك فلا .. وأنا أفهمتك هذا.

فقال:

مولانا عايزه.

فقلت له:

عاوزه ليه يا سيدي؟ علشان يغيره بأمر ملكي .. إزاي يا حسن باشا. الناس .. يقولوا إيه؟

الراجل بتاعكم وأنتم طالبيه بالذات ونفذنا الطب إيه تاني؟ عاوزيني أسرق حتى دستوري من حقوق البلد علشان أديه لكم؟ وأنا ما بسرقش لنفس الحكاية.

مرسوم ملكي يصبح أمر ملكي..؟ دا شيء؟ غير معقول.بعد الظهر كلمني الملك في هذا الموضع بالتليفون قائلا: سعيدة فرددت عليه سعيدة مبارك با مولانا.

قال:

إيه الحكاية بتاعت عثمان المهدي؟

قلت:

تم تعيينه للأركان كطلب مولانا.

قال:

لا .. الموضوع اللي كلمك فيه حسن..

قلت:

لن أوافق يا مولانا على هذا الرأي، لأنه ليس من مصلحتك ولا من مصلحة البلد ثم الناس تضحك علينا يا مولانا.. الحاجة اللي عملناها وصدق عليها الملك. نرجع فيها ثاني بعد شهر واحد.فسكت ... وقبلها..

والواقع أنني أحسست أن في الجو شيئا غير عادي فاستصدرت جميع القوانين التي أريدها، وسافرنا إلى الإسكندرية وعزمنا الملك على الغداء في قصر المنتزه ثم انتقالنا إلي التراس المطل على البحر وكان الملك عنده قدرة كافية فائقة في الحديث اللطيف إن شاء وأن يأتي ببعض الطرائف والأشياء مما يؤنس الجالسين معه، وحرصا منه على أن يضفي على الجلسة جوا عائليا صرفا أحضر الأميرات ليسلمن علي.

وكان قبل هذا تناثرت الأحاديث بأن وزارني ستستقيل بعد أيام، فكنت أؤكد لمن يفاتحني في هذا بأن الوزارة قوية وتسير وفق البرنامج الذي وضعته لنفسي ولا أنكر أننا قضينا وقتا جميلا في ذلك اليوم. وبعد بضعة أيام أقام مأدبة في سراي رأس التين لأعيان ووجهاء الإسكندرية وكنت أحد المدعوين فمال الملك على أذني وقال لي:

حتعمل إيه في الإخوان المسلمين؟

قلت:

اللي يعمل حاجة تستحق المحاكمة بتقدمه للمحاكمة وبعضهم في المعتقل.

فقال:

بلغني أنكم تضربونهم.

قلت:

هذا غير صحيح... دا بعضهم تزوج في المعتقل وأعطينا لهم حق شراء كل ما يحتاجون إليه م المتعهد.. خلافا للتعيينات المقررة لهم.

فقال كلاما آخر... رددت عليه بأن هذا طبيعة الخصوم السياسيين عندما يريدون التشهير بالحاكم. وخرجت من عنده وأنا على يقين بأن ما قاله هو حيثيات الحكم لخروجي من الوزارة .. وقد كان..

عندما طلبت من الملك إطفاء النور

عندما كانت الوزارة تتنقل من مقرها الصيفي بالإسكندرية إلى قصر عابدين قبل الثورة كان يصدر بيان من كبير الأمناء يحدد فيه موعد الانتقال إلى القاهرة

وأذكر أنه حدد يوم أول نوفمبر سنة 1951 لانتقال الحكومة إلى العاصمة كما حدد يوم السبت 3 نوفمبر سنة 1951 لإقامة مأدبة غداء يحضرها رئيس الوزراء بعابدين.

وفي يوم الخميس أول نوفمبر سنة 1951 وكنت أقود سيارتي بشارع إبراهيم باشا الجمهورية حاليا عند تقاطعه بشارع الساحة (رشدي باشا حاليا) فوجئت بسيارة واقفة ويخرج منها نور قوي يبهر البصر، فأخذت أنبه قائدها إلى إطفاء النور عن طريق إضاءة وإطفاء نوري، ولكن قائد السيارة لم يستجب وسدد الكشاف إلى عيني مما جعلني لا أتبين طريقي واضطررت عند فتح الإشارة أن أكسر عليه وبصوت عال صحت به: ما تفتح يا أخينا.

وهنا صدمت عندما شاهدت الملكة ناريمان بجوار السائق، فعلمت أنه الملك .. وأصابني دوار أشبه بدوار البحر.. وذبت خجلا .. ثم وجدت جندي المرور يوقف سيارتي ليطلب مني رخصة السيارة ورخصة القيادة ونبهني أنني قد شتمت الملك وحاولت أن أدفع عن نفسي وقلت له:

إن سائق السيارة المضيئة ليس الملك لأن الملك سوف يشرف العاصمة صباح السبت كما جاء في الصحف وهو الآن مازال بالإسكندرية. ولكن دفاعي لم يجد وأخذ مني رخصتي القيادة والسيارة بعد أن عطلني الجندي حوالي نصف ساعة.

وفي اليوم التالي اتصلت بالأخ اللواء حسن مشرفة مدير المرور مستفهما عما تم في طلب القصر مصادرة السيارة بعد حادثة الأمس. ولكنه أخبرني بأن أحدا لم يتصل به. وذهب النحاس باشا يوم السبت 3 نوفمبر سنة 1951 لحضور مأدبة الغداء بالقصر وكنت أثناء ذلك مترقبا ما سوف تأتي به الأيام ومنتظرا أن يصدر أمر ملكي بإحالتي إلى المعاش أو نقلي إلى أسوان وهذا أضعف الإيمان.

ولكن لم يحدث ومرت الدقائق وكأنها سنوات..وعاد النحاس باشا من القصر واتصل بي في المنزل وطلب مني أن أتوجه غدا في الصباح لمقابلة معالي عبد اللطيف باشا طلعت كبير الأمناء لأمر هام.. بناء على طلب الملك شخصيا.

ويعلم الله كيف مرت على هذه الليلة الليلاء إذ استبدت الهواجس بنفسي ودارت برأسي الظنون وقلبت الأمر من جميع وجوهه، فلم أجد سببا إلا واقعة شتمي أو سيء للملك.

وتوكلت على الله وليكن ما يكون .. وقابلت معالي عبد اللطيف باشا في يوم مازال سجلا في ذاكرتي وهو الأحد 4 نوفمبر سنة 1951 الذي بادرني بابتسامة لطيفة وقال لي:

إن مولانا يطلبك للعمل بالقصر.وفوجئت بذلك وخشيت أن يكون طلب العمل بالقصر وسيلة للانتقام من شخصي ولكن خشيت أن أرفض فأزيد الطين بله.

ووافقت ولكن قلت لعبد اللطيف باشا:

أرجو أن تبلغ مولانا شكري وتقديري غير أني لا أريد أن أترك رفعة النحاس باشا إذ أن لرفعته مآثر كبيرة على كما أنني ربيت في بيت النحاس باشا.

وخرجت من القصر ثم نقلت ما دار إلى رفعة النحاس باشا فقال:

يا ابني هناك أحسن لك وأنت عارف أن أحنا يوم هنا ويوم في الشارع أما هناك ففيه استقرار.

ولكني قلت له:

سوف أتحمل المصير الواحد.
ولم أكن أدري .. ماذا سوف تخبئة الأيام، إذ لم نمض سنة واحدة حتى قامت الثورة وأعفى بعض رجال الحاشية الملكية من مناصبهم كما أنني أصبحت من أشد الناس إيمانا بأن الله يرتب الحوادث كما يشاء وأن الرزق بيده سبحانه وتعالى وكما تقول الآية الكريمة: ( وفي السماء رزقكم وما توعدون)

لماذا نفذت الثورة الحكم علي فؤاد سراج الدين؟

بعد قيام ثورة يوليو سنة 1952 حاول الرئيس جمال عبد الناصر الاتصال بالسياسيين لمعرفة رأيهم في حل الأحزاب السياسية وقد وافق المرحوم حسن الهضيبي مرشد الإخوان المسلمين على حل الأحزاب.

ويقال إن عبد الناصر عارض إلغاء الأحزاب بعد ذلك.وقد حاول الإخوان منذ بدء الثورة احتواءها وذهب وفد منهم لمقابلة اللواء محمد نجيب ودامت المقابلة أكثر من ثلاث ساعات.

واجتمع بهم وفتئذ جمال عبد الناصر مرحبا. وفي هذه الأثناء اعتقل فؤاد سراج الدين ووجهت إليه اتهامات كان من الراجح أنه برئ منها وحكم عليه بالسجن لمدة 15 عاما.

ويبدو أن هناك عاملا خارجيًا في الحكم على فؤاد سراج الدين بهذه العقوبة، وكانت حكومة الثورة تخشى من إطلاق سراح سراج الدين باشا وهو من أقوى الشخصيات السياسية وسكرتير لأكبر الأحزاب السياسية التي عرفتها البلاد في تاريخها الحديث كما أن تنفيذ الحكم في سراج الدين باشا كان مرده أيضا إلى عامل داخلي تمثل في الصراع الذي نشب بين الإخوان المسلمين وبين الثورة.

وكان لابد من القضاء على كافة خصوم الثورة قبل الانقضاض على الإخوان المسلمين وصدق على الحكم الصادر بعقوبة فؤاد باشا من مجلس الثورة دون تعديل، وكان الصاغ كمال الدين حسين معارضا في هذا الحكم بعد أن اعترض عليه اللواء نجيب نفسه فثارة عبد الناصر على كمال الدين حسين ثورة شديدة قائلا.

إن الوفد إن كان بريئا فلا بد من عودته إلى الحكم. واستمرت المداولات بين أعضاء مجلس الثورة وقتا ليس بالقصير وانتهت بتراجع الأعضاء جميعا عدا كمال الدين حسين الذي أصر على البراءة وصدر قرار المجلس بإجماع الآراء فيما عدا رأي العضو المعارض.

وأذكر أن اللواء نجيب رفض أن يقابل السيدات شقيقات فؤاد باشا خشية أن يتأثر بالمقابلة وقد ظل سراج الدين باشا عامين في سجن الأجانب قضاهما في غرفة بها ثلاجة وراديو وكانت زيارته مفتوحة.

اتصال الوفد بالضباط الأحرار ومحمد نجيب

وقد حدث في أكتوبر سنة 1951 بعد إلغاء معاهدة 1936 أن اتصل بعض الضباط الأحرار بمعالي فؤاد باشا سراج الدين وزير الداخلية وقتئذ من بينهم قائد الجناح وجيه أباظة والبكباشي أحمد أنور ودار حديث بين الوزير والضباط في منزله حول إلغاء المعاهدة والموقف المشرف للحكومة وتصعيد حرة المقاومة ضد الإنجليز وأخبر الضباط الوزير بإمكانه الاعتماد على الجيش وأن الجيش لن يسمح للملك بالانقلابات الدستورية.

فقال فؤاد باشا:

إن هذا موقف عظيم منكم.. ونحن لا نريد من الجيش أكثر من ذلك .. ولكننا لا نريد أن يعمل الجيش بالسياسة .. كما أن موقف الحكومة من الملك واضح لإخفاء فيه وأنها قادرة على تحمل مسئوليتها التي فرضتها عليها الأحداث إما أن تخرج أو يخرجنا فإن استقالتنا في جيبنا .. ويومئذ سوف تعلمون أننا عجزنا فاعملوا ما تريدون..

وكانت هذه المرة الأولى للقاء الذي تم بين فؤادي باشا سراج الدين والضباط الأحرار.. ولم يكن يعلم أنهم من الضباط الأحرار أو أنهم ينتمون إلى تشكيل ثوري فقد كان كلامهم كلاما عاما حول أحداث الساعة. والواقع أن فؤاد باشا كان في استطاعته أن يعرف من اتصل به ولكنه لم يفعل لإيمانه أنه يتحدث إلى وطنيين دفتهم وطنيتهم وشبابهم إلى التطوع والتحرك من أجل مصر.

ويذكر فؤاد باشا سراج الدين أنه في أثناء معركة القتال طلب اللواء نجيب مقابلته وذلك على طريق الأستاذ الصحفي محمد خالد وحدد مكان المقابلة في عيادة لطبيب أسنان بشارع خيرت بالسيدة زينب .. وفعلا تمت المقابلة وتوقع فؤاد سراج الدين باشا أن يقول اللواء نجيب معلومات عن حكاية نادي الضباط ولكن اللواء نجيب تحدث حديثا عاما.

وقد تساءل فؤاد سراج الدين حول الغاية من مقابلة اللواء محمد نجيب وعلل ذلك أنه يريد إثبات وجوده وخاصة في المكان الذي تمت فيه وكانت الساعة الثالثة بعد الظهر ويبدو أن فؤاد باشا اعتقد أن محمد نجيب كان هيابا من الموقف.

وبعد خروج الوفد من الحكم توقع سكرتير الوفد أن يتصل به اللواء نجيب ويمده ببعض المستندات ضد القصر أو الحكومة ولكن اللواء لم يفعل وتحاشى الاتصال بالأستاذ سراج الدين.ثم قامت الثورة وكان رفعة النحاس باشا وفؤاد باشا في أوربا فعادا إلى القاهرة في اليوم التالي لقيام الثورة.

وطلب النحاس باشا من سراج الدين باشا مقابلة اللواء نجي لسؤاله عن الانتخابات والدستور والبرلمان. وطلب فؤاد باشا بوصفه سكرتير الوفد أن يقابل اللواء نجيب باعتباره رئيسا لمجلس الثورة عن طريق السيد عيسى سراج الدين وكان من الضباط الأحرار ومن عائلة سراج الدين ويعلم الآن سفيرا بوزارة الخارجية.

ومن المعروف أن بعض جلسات الضباط الأحرار كانت تعقد بمنزل عيسى سراج الدين لقرابته لوزير الداخلية وعدم تطرق الشك إليه ولأن زوجته سيدة تركية لا تعرف اللغة العربية جيدا ولكن عيسى سراج الدين أخبر فؤاد باشا أن اللواء لن يقابله لأنه يخشى أن يضعه السياسي الكبير في جيبه ولكن اللواء طلب إبلاغ معاليه رسالة معينة.

وحدد موعد المقابلة في منزل اللواء نجيب بحلمية الزيتون وحضر المقابلة جميع أعضاء مجلس الثورة ودامت المقابلة من الساعة الرابعة مساء إلى الساعة الواحدة صباحا ومما يذكر أنه في هذا اليوم فتش البوليس جريدة المصري بحثا عن أصل خبر نشرته الجريدة في الصباح لهذا اليوم مضمونه أن النية تتجه إلى توفير بعض الوظائف الزائدة على الحاجة.

وجاء الأستاذ أحمد أبو الفتح لمقابلة محمد نجب ثائرا من عملية التفتيش ولكن الضباط هدءوا ثائرته وأكمل الجلسة مع فؤاد باشا والضباط.وقد دار حوار شيق بين السياسي فؤاد سراج الدين وشباب الثورة حول المسائل الشخصية ثم تطرق فيها بعد إلى الأحداث التي كانت تهم الرأي العام في هذه الوقت ومن أهمها قانون تحديد الملكية الزراعية.

وكان رأي فؤاد باشا واضحا وصريحا ومع إيمانه بالمبدأ فإنه ينكر وسيلة تطبيقه ويبدو أن الحديث قد أتعب فؤاد سراج الدين فطلب منه صلاح سالم متأدبا أن يجتمع بهم مرة كل أسبوع للتشاور، كما طلب جمال عبد الناصر أن يبقى فؤاد سراج الدين بالقاهرة.

وفي نهاية الجلسة أقترح أحمد أبو الفتح أن تعقد الجلسة التالية بمنزله.ولكن هذا الاجتماع لم يتحقق أبدا. ففي اليوم التالي صدرت مجلة آخر لحظة وكانت تصدر عن أخبار اليوم ويحررها الإخوان مصطفى وعلي أمين خبرا مفاده أن فؤاد سراج الدين قد اجتمع بالضباط الأحرار ثم خرج مصرحا بأنه وضع أعضاء مجلس الثورة في جيبه وكان النشر بقصد الإيقاع بين فؤاد باشا ومجلس الثورة.

وبالفعل علم فؤاد باشا من الأستاذ أحمد أبو الفتح أن الرئيس عبد الناصر أجل الاجتماع وبعد أيام قلائل صدر الأمر باعتقال فؤاد سراج الدين باشا بسبب هذا الخبر المدسوس والذي نشرته إحدى صحف أخبار اليوم بقصد توسيع الهوة وإفساد العلاقات بين الوفد والثورة.

أزمة بسبب راقصة

في صيف 1951 كان الملك فاروق في دوفيل، وعدد جلالته أحد أصحاب الكاباريهات باستقدام راقصة من القاهرة تحيي ليالي ألف ليلة في المدينة الفرنسية الصاخبة.

وتقدمت الراقصة بطلب تأشيرة الخروج من القاهرة ولكن وزير الداخلية رفض السماح لها. وحدثت أزمة .. بين القصر والحكومة وفشلت الحاشية الملكية في إقناع وزير الداخلية بأن سفر الراقصة لتمثيل مصر في الخارج إرادة ملكية سامية لا يمكن للحكومة إزاءها إلا الطاعة والتسليم.

ولكن وزير الداخلية لم يقتنع بل أصر على الرفض إصرارا شديدا.وأذكر أن الملك بنفسه- أتصل بوزير الداخلة محاولا جعل الوزير يستجيب ولكن الوزير رد على الملك بقوله:

إنني أرفض التصريح لهذه الراقصة لأن فيها مساسا بالعرش وأنا أدري بمصلحة العرش. واهتزت العلاقات بين السراي، وفؤاد سراج الدين باشا، ووصلت إلى حد التوتر الذي ينذر بوقوع شيء للحكومة.

ولكن فؤاد سراج الدين بقي صامدًا.وأشار خصوم الوفد على الراقصة الملكية بأن ترفع دعوى أمام مجلس الدولة ضد وزير الداخلية شخصيا لإلغاء القرار والحكم عليه بالتعويض لمساسه بالحرية الشخصية لإحدى الراقصات.

ورفعت الدعوة بالفعل الراقصة سامية جمال. وصدر حكم المجلس برفض الدعوى باعتبارها تدخلا في سلطة الإدارة التي هي أعلم بمصالح البلاد. ولم تسافر سامية جمال كما طلب الملك.

الدكتور النقيب يمنع النحاس باشا من زيارة والدة ناريمان

كانت السيدة أصيلة هانم والدة ناريمان مريضة وتعالج بالجناح الملكي في مستشفى المواساة ولما بلغت المرحوم مصطفى النحاس باشا أبدى رغبته في زيارتها فاتصلت باللواء أحمد لبيب الشاهد (زوج أختها) والسيد مصطفى صادق (شقيق زوجها) اللذين كانا في انتظار المرحوم النحاس باشا على باب المستشفى.

وصعدنا جميعا إلى الجناح الملكي فاستقبلنا المرحوم الدكتور أحمد النقيب باشا مدير المستشفى ورحب بالنحاس باشا وسأله عن غرضه فأبلغه رغبته في زيارة أصيلة هانم فاعتذر النقيب باشا بأنه لا يسمح لرفعته بالزيارة وذلك بناء على أوامر الملك.

فاستاء النحاس باشا وبدا الغضب ظاهرا علي وجهه ثم قال:

طيب ننزل نزور زوجة عبد المنعم النحاس .. وغادر الجناح.وسارعت إلى غرفة أصيلة هانم ورويت لها ما فعله الدكتور النقيب خاصة وأنني أبلغتهم بالزيارة قبل موعدها.

فاتصلت أصيلة هانم تليفونيا مع الملك في قصر المنتزه فطلب ذهابي إلى هناك فسارعت وقابلت جلالته ورويت له ما حدث فقال:

تروح حالا تجيب رفعة النحاس باشا إلى المستشفى وإذا لم يحضر فسأسجنك فقلت يا مولانا.ما ينوب المخلص إلا تقطيع هدومه وأنا ذنبي أيه.

فقال:

هذا أمر روح الآن ويذهب رفعة النحاس باشا للمستشفى فسارعت بسيارتي إلى فندق سان ستيفانو وكان المرحوم النحاس باشا يتوضأ لصلاة العصر ففاجأني قائلا:

إيه اللي حصل ده.. أنا ما ما عرفتش أتغذي وحكمت أعصابي لأنه كان واجب أضرب النقيب بالعصا وأدخل. فقلت:

أنا حاضر من عند الملك الآن وقد أخبرته بما فعله النقيب فأبلغني أنه ذاهب بشخصه الآن إلى المستشفى وسيكون في استقبال رفعتك، وإذا لم تذهب فسيصدر أمرا بسجني فقال إن السيارة قد صرفت فقلت لرفعته إن سيارتي موجودة فقال:

بتسوق كويس.فقلت ربنا يسهل وفي ذهني أنني أتحمل مسئولية كبرى حينما أقود السيارة التي يركبها زعيم البلاد.وارتدى رفعته ملابسه وذهبنا للمستشفى وصعدنا للدور العلوي حيث الجناح الملكي وفتحت باب غرفة أصلية هانم فوجدنا الملك جالسا فلما رآنا وقف وقال:

أهلا مصطفى باشا أنا آسف من اللي حصل.. تصرف النقيب تصرف خاطئ وأنا لم أصدر أمرا بعدم الزيارة . وأنا شاكر أنك حضرت للسؤال عن حماتي، كما أشكرك على قرار تعديل معاشها وبالنسبة للنقيب إذا لم تقبل اعتذاره يحال الآن إلى المعاش.

فرد النحاس باشا بأسلوبه المعروف:

نقيب إيه ومعاش أيه يا جلالة الملك، أنا بيقولوا علي أنني مغرم بتقبيل السيدات، وأنا شايف قمر نايم ولسه ماسلمتش عليه ونفسي أقبله، وجلالتك بتقول حماتي دي صغيرة وزي القمر.وعن إذن مولانا..

واتجه رفعته إلى أصيلة هانم وقبلها وألقى بيتا من الشعر عن الجمال لا أذكره.

فضحك الملك وقال النحاس باشا: إنني بعد هذه القبلة نسيت الإساءة التي صدرت من الدكتور النقيب الذي لم يفهم ما قلته له إنني رئيس وزراء ومن حقي التفتيش المفاجئ على أي مستشفى.

هدية الملك للنحاس باشاخاتم زمرد

يوم 15 يونيو سنة 1950 وفي الساعة الخامسة مساء وصلت إلى جناح المرحوم مصطفى النحاس باشا بفندق سان ستيفانو سلة فواكه من مزارع الخاصة الملكية مع مندوب ملكي قال لي:

هذه السلة هدية من جلالة الملك لرفعة النحاس باشا بمناسبة عيد ميلاده، فصعدت بالسلة إلى غرفة المرحوم النحاس باشا الذي فتح غطاءها فوجد كمية من المشمش وفوقها علبة مجوهرات وفتحها رفعته فوجد بداخلها خاتما من الزمرد فسألني رفعته لخاتم ده حريمي ولا رجالي.

فقلت:

إنه رجالي وإن الملك أرسله هدية بمناسبة عيد ميلاد رفعتك اليوم ولبسه رحمه الله عليه فورا ونادى على المرحومة قرينته وقال لها شوفي هدية الملك في عيد ميلادي عرف أزاي مقاس صباعي لازم السياسي بتاعه عارف كل حاجة.فقال رحمة الله عليها.دا جميل خالص أعطيه لي. فقال: هدية الملك لا تهدى ولا تخلع من يدي.

صحف المعارضة تستغل الخاتم

ومما يذكر أن بعض الصحف المعارضة للوفد دست أحد مصوريها ليصور الخاتم في يد المرحوم النحاس باشا عدة صور وخاصة أخبار اليوم وحرصت على أن تنشر هذه الصورة بين حين وآخر وتتهم المرحوم النحاس باشا في نزاهته، وكيف يستطيع الحصول على ثمن هذا الخاتم.

وكان رفعته دائم الصبر كعادته. وإنني أتساءل الآن هل كان الملك بعد أن ساءت العلاقات بينه وبين النحاس باشا وبلغت الأزمات مع الحكومة الإنجليزية غايتها وراء ما تنشره هذه الصحف التي كانت وثيقة الصلة بالقصر الملكي وقد علمت أن الخاتم هدية ملكية.إنني لا أقطع بذلك بل أشك. والمعرفة أن الملك الراحل رحمة الله عليه. كان واسع الخيال في مناوراته.

سرقة حذاء النحاس باشا

في سنة 1941 كان النحاس باشا يصطاف في رأس البر وكان مولعا بالسباحة وكان يصطحب كاتب هذه الذكريات في رياضته المفضلة ويضم إلى زمرة مرافقيه الرياضي الكبير إسحق حلمي وبن دمياط البار: عبد المنعم عبده.

وفي أحد أيام الجمع و النحاس باشا ومكرم باشا عبيد يعومان في مياه الجربي.. قال النحاس باشا مداعبا مكرم عبيد باشا:أمتى يا مكرم تسلم علشان تصلي معانا الجمعة.فضحك مكرم باشا..وانتهت فترة الاستحمام وخرج النحاس باشا من البحر إلى عشته وارتدى ملابسه وذهبنا جميعا لأداء الصلاة في دمياط.

واستقبل النحاس باشا ومرافقوه استقبالا حماسيا حافلا.وبعد أن أدى رفعته الصلاة خرج يفتش عن الحذاء فلم يجده وكانت حادثة من أطرف الحوادث التي مرت بالنحاس باشا.

وخرج أهالي دمياط عن بكرة أبيهم ليكسروا حوانيت الأحذية بحثا عن حذاء ملائم لرفعة الباشا ولكنه رفض. وعاد بالسيارة .. دون حذاء..!

ووجد مكرم باشا منتظرا في عشته برأس البر.وعندما علم بهذا الخبر استغرق في الضحك وقال لرفعة النحاس باشا مداعبا:عايزني أسلم يا باشا، علشان جزمتي تنسرق؟

الباشوية للشيخ طه

في أثناء المشاورات التي سبقت تشكيل وزارة مصطفى النحاس باشا سنة 1950 قابل حسين سري باشا رئيس الديوان الملكي مصطفى النحاس باشا في منزله وأبلغه اعتراض السراي على شخص واحد في هذا التشكيل هو المرحوم الدكتور طه حسين بك الذي رشح وزيرا للمعارف وقد برر ذلك بأن الملك يعتقد أن الدكتور طه حسن متطرف ويساري الاتجاه والتفكير.

وكان طه حسين ينادي بتأميم التعليم وأن التعليم كالماء والهواء، وقد جعل التعليم الابتدائي بالمجان عندما كان مستشارا فنيا للمرحوم نجيب الهلالي باشا وزير العارف في وزارة الوفد سنة 1942.

وبالرغم من أن طه حسين لم يكن وفديا فقد أصر مصطفى النحاس باشا على ترشيحه تقديرا منه للشيخ طه، كما كان يطلق عليه مداعبا، وطلب من رئيس الديوان إبلاغ الملك أن الوزارة إما أن تشكل وبها طه حسين وإما ألا يشكلها أصلا ويعتذر عن عدم تأليفها.

وأصر النحاس باشا على موقفه ولم يذعن لرجاء سري باشا.وقد نزل الملك على إرادة الزعيم الكبير وعين طه حسين وزير للمعارف واستمر يشغل هذا المنصب حتى أقيلت وزارة الوفد.

وطبق في هذه الوزارة سياسة تأميم مرفق التعليم وصدر قانون يجعل التعليم الثانوي بالمجان، كما أنشئت جامعة (إبراهيم) وجامعة (محمد علي) اللتين أطلق عليهما فيما بعد (عين شمس) و (أسيوط).

وكانت حكومة الوفد سنة 1942 قد أنشأت جامعة فاروق (جامعة الإسكندرية) فيما بعد.وأذكر أنه بعد شهور معدودة من تشكيل الوزارة افتتح الملك معهد الصحراء في مصر الجديدة وألقى الدكتور طه حسين في حفلة الافتتاح خطابا أشاد فيه بمآثر محمد على وخلفائه على التعليم في مصر، وما قدموه من خدمات جليلة في هذا الشأن.

وكان الملك مسرورا قرير العين، إذ لم يكد الدكتور طه حسين ينتهي من إلقاء خطابه حتى كان الملك قد منحه رتبة الباشوية وهنأه بنفسه. وكان طه حسين (باشا) أول وزراء الحكومة الذين منحوا هذه الرتبة وسبق زملاءه الذين لم يكونوا يحملونها بنحو عام كامل.

ترشيح فؤاد سراج الدين رئيسا للديوان الملكي

وأذكر أن أندراوس قال لفؤاد سراج الدين باشا وكان وزيرا للداخلية إن الملك يرشح وزير الداخلية رئيسا للديوان الملكي. ولكن فؤاد باشا اعتذر عن قبول هذا المنصب وضحك على مجرد الفكرة وعرف أن المقصود منها هو بث الفرقة في صفوف الوفد.

فقال أندراوس:

إن الملك يقول... إنه إذا عين غير وفدي فإن الوفد يثور ويحتج والسوابق على ذلك كثيرة منذ سعد زغلول باشا سنة [1924]] إلى مصطفى النحاس باشا في وزارة سنة 1936.

فرد فؤاد سراج الدين باشا:

إنني أقبل على شرط واحد، هو أن أحتفظ بعضويتي في الوفد

فقال أندراوس:

لعلك تذكر أنك اعترضت على تعيين إبراهيم عبد الهادي باشا رئيسا للديوان وهو نائب رئيس الحزب السعدي.

فقال سراج الدين باشا (ضاحكا) يا باشا بلاش حركات .. وأنتم عايزين أخرج من الوفد وبعدين انتهى سياسيا وأفقد عضويتي في الوفد؟

وكان يستوي لدى فؤاد باشا سراج الدين أن يكون أي شخص رئيسا للديوان لأن قوة الوفد ليست في القصر بل هي في الشعب.

ولعل ذلك هو ما حدا بالحكومة الوفدية بعد الاعتراض بصورة جدية على تعيين حافظ عفيفي باشا رئيسا للديوان الملكي، فقد كان بعيدا عن الأحزاب.

القصر يرفض تعيين فؤاد سراج الدين نائبا لرئيس مجلس الوزراء

في أثناء سفر النحاس باشا إلى أوربا في صيف سنة 1950 وكان فؤاد باشا سراج الدين وزيرا للداخلية وسكرتيرا عامًا للوفد المصري كما كان الشخص الذي يؤهل لخلافة مصطفى النحاس باشا في زعامة الوفد.

وكان النحاس باشا فيما أعلم يزكي فؤاد باشا تزكية خاصة وينزله في قلبه منزلة الابن، إذ كان فؤاد باشا يمثل الشباب الذي هيأته الأقدار لأن يتولى دفة الأمور.وكان فؤاد باشا يمثل الشباب الذي هيأته الأقدار لأن يتولى دفة الأمور.

وكان وفقا للتقاليد يتولى منصب رئيس الوزراء بالنيابة أقدم الوزراء، وهو المهندس الكبير المغفور له عثمان محرم باشا، وأراد النحاس باشا أن يضفي على فؤاد باشا شيئا من شرعية النيابة فاقترح على القصر أن يصدر مرسوم بتعيين فؤاد باشا سراج الدين نائبا لرئيس مجلس الوزراء.

وبالرغم من أن الوفد في وزارته الأخيرة لم يشرك فيها الهلالي باشا، فإن القصر قد استشار الهلالي وهو صاحب العقلية القانونية والدستورية الفذة، فأفتي بقانونية الاقتراح ولكن القصر رفض لسبب غير مفهوم وليس ذلك إلا إشاعة الفرقة في صفوف الوفد.

وأذكر أن فؤاد باشا لم يكترث لذلك، بل قابل الموضوع بروح الرياضي الذي أدرك مغزاة وفوت على القصر ورجاله ما يرمون إليه.

عثمان باشا محرم يرفض مقابلة السفير البريطانية يوم الجمعة

وفي أثناء سفير النحاس باشا إلى أوربا في ذلك الوقت كان المرحوم المهندس عثمان محرم باشا وزير الأشغال رئيسا للوزراء بالنيابة.

وأذكر أنه في يوم الخميس 17 أغسطس سنة 1950 اتصل بي السفير البريطاني. السير رالف ستفينسون وطلب مقابلة رئيس الوزراء لأمر هام للغاية، وحدد للمقابلة يوم الجمعية 18 أغسطس سنة 1950 انتظار لوصول رسالة ترد من لندن مساء الخميس، ويحب إبلاغها فورا إلى الحكومة، ولا تحتمل أي تأخير.

وبالفعل اتصلت بالمرحوم المهندس الكبير عثمان باشا محرم وعرضت عليه رغبة السفير فرفض معاليه أن يجتمع بأي إنسان حتى لو كان ملكة بريطانيا العظمي يوم الجمعة أو أن يخاطب أي إنسان في العمل أيام الراحة الأسبوعية وطلب إبلاغ رأيه إلى السفر وأن تتم المقابلة صباح السبت التالي 19 أغسطس سنة 1950 في بولكلي.وفعلا، تمت المقابلة، وحضر السفير إلى مقر رئاسة المجلس.

وبعد أن انتهت الزيارة قال لي عثماني باشا محرم:

إن السفير البريطاني كان محرجا لأنه كان يخشى أن تسأله حكومته عن سبب عدم مقابلته لرئيس الوزراء المصري في الموعد الذي حدده.

ولكن عثمان باشا قال له:

أرجو أن تبلغ حكومتك ما أبلغتك به صلاح بك .. فلو جاءت الملكة نفسها إلى القاهرة وطلبت مقابلتي يوم الجمعية لاعتذرت.

الملك يعتزم قتل كريم ثابت باشا:

وأذكر ذات يوم ونحن في بولكي في صيف سنة 1951 أن أفضى إلى المرحوم محمد وصفي قائد حرس الوزارات بأن الملك أصدر أمرا بقتل كريم ثابت باشا.

عجيب لهذا الخبر وسألته في دهشة:

هل ستنفذ أنت هذه المهمة..؟

فقال مستنكرا:

لا إن الأوامر قد صدرت إلى الحرس الحديدي الملكي لتنفيذ هذه المأمورية ولا أعرف الشخص المكلف بها وإنما أعلم أنه سوف يغتال بمدفع رشاش هذا اليوم وفي صباح اليوم التالي لم يقتل كريم ثابت.

وقابلت وصفي ضاحكا..

وأنا أقول:

إنه لم يقتل، إن أخبارك أصبحت لا يوثق بها..

ولكن محمد وصفي لم يفقد ثقته بأمر الملك وأجاب:

لقد نجا كريم ثابت بفضل صلاح الدين باشا.

وسألته:

كيف كان ذلك؟

فأجاب:

لقد قابل كريم ثابت في أثناء تنزهه على الكورنيش أمام فندق سان استفانو الدكتور صلاح الدين باشا وزير الخارجية فحياة وأقبل عليه، وسار إلي جواره متحدثا.. وهنا شاهده .. (المنفذون) فأحجموا عن تنفيذ المهمة خوفا من قتل وزير الخارجية معه.

وهكذا نجا كريم ثابت من موت محقق ولا أعلم سبب الأمر باغتياله حتى الآن وكل ما أعلمه أن الملك لما علم بنجاته مصادفة رفع غضبه عنه وقال: اتركوه.. له عمر.

موت محمد وصفي قائد حرس الوزارة

ذات مساء وبعد منتصف الليل في أوائل وزارة علي ماهر باشا التي تألفت بعد 23 يوليو سنة 1952 مر علي بمكتبي المرحوم محمد وصفي يرتدي جاكت كحلية وبنطلونا رماديا وخرجنا معنا المرحوم البكباشي رشاد مهنا (ضابط البوليس)

للنزهة واشترينا مانجو ثم ذهبنا إلى الحسينية لنأكل زبادي من أشهر محل لعمل الزبادي وأمضينا وقتا سعيدا تستمع إلى نكات رشاد مهنا حتى الساعة الثالثة صباحا وأوصلنا وصفي إلى منزله وذهب كل منا إلى منزله.

وفي الصباح الباكر اتصل بي المرحوم رشاد مهنا وقال:

إن مراسلة سفرجي وصفي اتصل به وأخبره أنه طرق باب حجرة نومه ولكنه وصفي لم يرد.. فذهب مسرعين إلى منزله وفتحنا الباب بالقوة فوجدنا المرحوم محمد وصفي نائما على ظهره واضعا رجلا على رجل يقرأ مجلة روز اليوسف وقد فارق الحياة.

وقد أشيع أن وصفي مات منتحرا لاتهامه بمقتل عبد القادر طه في المنيل والشيخ حسن البنا. وسبب الإشاعات أنه مات منتحرا وجدت علبه الحبوب المنومة خالية من الحبوب وظنوا أنه ابتلعها كلها.

وأرى إحقاقا للحق وقد شاهدته نائما على سريره ممسكا بمجلة روز اليوسف، وتذكرت ليلة وفاته لهونا وضحكنا وتواعدنا على المقابلة في الصباح كل هذه الشواهد تجزم بأنه مات بسكتة قلبية لا منتحرا.

القسم السياسي يراقب الدكتور يوسف رشاد

ذات يوم وبعد منتصف الليل وكنت أقطن بجليمونوبلو برمل الإسكندرية في أثناء انتقال الوزارة إلى الإسكندرية للمصيف في أغسطس سنة 1951 أخبرني السفرجي أنه سمع من اثنين يجلسان تحت نافذة منزلي أنها في انتظار ارتكاب جريمة قتل خصوصا أن معهم سيارة أجرة تنتظرهما للهروب،ففتحت النافذة وأمسك السفرجي والبواب بأحدهما وفر الآخر بالسيارة وأحضراه لي فسألته عن سر وجوده في هذه الساعة وسبب حمله هذا السلاح فكان جوابه أنه مخبر ولن يبوح بأكثر من ذلك.

فاتصلت بالأميرالاي زهران رشدي بك رئيس القلم السياسي بالإسكندرية الذي طلب التحدث إلى المخبر المقبوض عليه وسأله بعض الأسئلة وأعطاه المخبر رقمه فطلب زهران التحدث معي وقال:

مضبوط هو مكلف بمأمورية معينة.فتركته ظنا أنه يراقبني أن شخصيا.وفي صبيحة اليوم التالي توجهت إلى الرئاسة وأخبرت رفعة مصطفى النحاس باشا بكل ما حدث وهنا.. ثار رفعته وطلب الاتصال بمدير الأمن العام السيد حسين صبحي وطلب منه تقريرا بذلك ووصل التقرير يفيد أن الأمر الصادرة إليه من الملك هي مراقبة مصطفى كمال والدكتور يوسف رشاد اللذين كانا يسهران في المنزل المجاور الذي يقطنه المستشار علي رضا.

الوفد باقي يا صحب الجلالة

في 15 نوفمبر سنة 1951 وكان الملك عائدا من مصيفه بالإسكندرية أقيمت مأدبة غداء بقصر القبة حضرها الوزراء مع رفعة النحاس باشا.ولم يكد الملك يجلس على كرسه حتى ابتدأ الوزراء وكان وجهة متهللا بصوت عال الوفد يبكش وألا أيه..؟ الهلالي طلع منه.

وكان الوفد قد أصدر قرارا بفضل الهلالي باشا من عصوية الوفد.وما كاد الملك ينتهي اهتزت الأطباق بسببها وقال صارخا:الوفد باقي يا صاحب الجلالة ولا يكش يا مولاي بل الوفد ينضف ينضف. وكانت بوادر أزمة في الجو أعادت إلى الأذهان ما فعله سعد زغلول عندما ضرب المائدة بقبضة يده أمام الخديوي عباس حلمي الثاني انتهت بإخراجه من الوزارة ولكن الملك بلغ الإهانة حيث كان يحس بالخشية أمام الزعيم العنيد الذي لا يزال يتمتع بحماسة الشباب برغم شيخوخته، كان صلبا لا تلين له قناة.

وقال:

يا باشا أنا ماليش دعوة بالأحزاب تطلع حد أو ما تطلعش أنا قصدي واحد خرج من الوفد

وأعاد النحاس باشا في صوت هادئ قوله:

يا مولاي إن الوفد باقي لأن الشعب باقي لا يموت..

وأراد الملك أن يغير الحديث ... وخشي أن ينزلق في جدال عن الديمقراطية والحرية مع زعيم الديمقراطية والحرية. ووجه الحديث إلى إبراهيم باشا فرج وكان وزيرا للخارجية بالنيابة قائلا:أيه أي وزير الخارجية في الاتصال بتاعت صلاح الدين اللي في باريس مع الشيوعية؟

وكان وزير الخارجية يحضر اجتماعات الأمم المتحدة.ولم يترك النحاس باشا هذه الملاحظة تمر دون تعليق. شيوعية أيه يا مولانا هو لما صلاح الدين يقابل السفراء والوزراء في اجتماعات دولية يبقى فيها أيه. وسكت الملك.

حول إلغاء معاهدة 1936

عقدت معاهدة 1936 في ظروف دولية معينة وبانتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت بوادر انتفاضة وطنية عامة، معادية للاحتلال تطلبت إعادة النظر في معاهدة سنة 1936.

وكانت وزارة النقراشي باشا في الحكم بعد إقالة الوزارة الوفدية في 8 أكتوبر 1944. وبتاريخ 20 ديسمبر سنة 1945 أرسلت الوزارة مذكرة إلى وزير خارجية بريطانيا تطلب فيها فتح باب المفاوضات لتعديل معاهدة 1936.

وجاء في هذه المذكرة ما يلي:

وإذا كانت مصر قد قبلت المعاهدة بكل ما انطوت عليه من قيود تحد مني استقلالها فلأنها كانت تعرف أنها قيود أملتها ظروف وأحداث وقتية تزول بزوال هذه الظروف التي قضت بقبولها.

ولذلك كان لزاما أن يعاد النظر في معاهدة 1936 بعد أن نفذت الظروف التي فرضت عليها طابعا خاصا لكي تكون متمشية مع الحالة الدولية الجديدة فإن أحكامها التي تمس باستقلال مصر وكرامتها لم تعد تساير الوضع الحالي.

ولما لم تسفر المفاوضات عن نتيجة مع الجانب البريطاني توجهت مصر إلى مجلس الأمن في أغسطس سنة 1947 وتولى النقراشي باشا عرض القضية المصرية ولكن المجلس لم يستطع أن يتخذ قرارا في هذا الشأن.

وعاد النقراشي باشا بعد أن وصف الإنجليز بأنهم قراصنة، ولم يكن الوفد راضيًا عن منهج الحكومة النقراشية في عرض القضية إذا لم يكن النقراشي باشا يعبر عن رأي الأمة بل كان رئيسا لإحدى الوزارات الانتقالية التي عرفتها البلاد منذ [1924]] وفي نوفمبر سنة 1948 وبمناسبة عيد الجهاد الوطني الذي مهد السبيل لثورة 1919 بزعامة الزعيم الخالد سعد زغلول وكانت البلاد تحتفل بهذا العيد احتفالا رسميا وشعبيا خطب النحاس باشا في النادي السعدي خطبة طالب فيها بإلغاء اتفاقيتي: 1899 وإعلان سقوط معاهدة 1936 إذ لم يعد مقبولا أن يتذرع الاحتلال في وجوده إلى معاهدة جديرة بالسقوط.

وفي 16 يناير سنة 1950 جاء في خطاب العرش الذي ألقاه مصطفى النحاس باشا ما يلي:

وترى حكومتي أن معاهدة 1936 قد فقدت صلاحيتها كأساس للعلاقات المصرية البريطانية وأنه لا مناص من تقرير إلغائها ولا مفر من الوصول إلى أحكام جديدة ترتكز على أسس جدية تقرونها جميعا ألا وهي الجلاء الناجز الشامل ووحدة مصر والسودان تحت التاج المصري.

وتعلن حكومتي أنها لم تحيد عن التمسك بهذه الأسس وتؤمن إيمانا عميقا بأن الاعتراف بها من الجانب البريطاني أكبر ضمان لاستتباب السلام في ربوع الشرق الأوسط.

وتنتظر حكومتي أن يصل إليها في القريب ما يحقق تلاقي وجهات النظر في هذا السبيل ويرضى رغبات شعب وادي النيل العزيز، ومهما يكن الحال فإن حكومتي ماضية دون تردد أو إبطاء في تحقيق الأهداف الوطنية ولن تترك وسيلة إلا اتخذتها للوصل إلى غايتها بفضل تأييدكم وعون الأمة ويقظتها وفي طليعة هذه الوسائل إعلان أنها معاهدة سنة 1936 استنادا إلى تعارضها الواضح مع أحكام ميثاق هيئة الأمم المتحدة فضلا عن تغير الظروف سنة 1899 الخاصتين بالحكم الثنائي في السودان اتفاقيتي 16 يناير، 10 يوليو سنة 1899 الخاصتين بالحكم الثنائي في السودان.

وتأمل حكومتي أن يقدر الجانب البريطاني ما تجنيه الديمقراطية وما تكسبه قضية السلام العام من إرضاء شعب الوادي مصره وسودانه بالمبادرة إلى إقرار مطالبه الوطنية العادلة حتى يتفرغ للمساهمة بنصيبه في بناء مجد الحضارة والوقوف إلى جانب الديمقراطية لخدمة السلام.

ولما لم تسفر المحادثات مع بريطانيا أقدم النحاس باشا على وضع حد للتسويف والمماطلة وأقدمت الحكومة في 8/ 10/ 1951 على إلغاء معاهدة 1936 وملحقاتها وأحكام الاتفاق الخاص بالإعفاءات والميزات التي تتمتع بها القوات البريطانية الموجودة في مصر كما أنهت الحكومة العمل بأحكام اتفاقيتي سنة 1899 بشأن إدارة السودان أي إلغاء الوضع الذي كان قائما من وجوب أن يكون حاكم السودان بريطانيا يتم تعيينه بموجب مرسوم ملكي يصدره ملك مصر، كما طالبت الحكومة بتعديل المادتين 159، 160 من دستور 1923 لتقرير الوضع الدستوري في السودان، وتلقيب الملك بملك مصر والسودان.

وكان إقدام الحكومة على هذه الخطوات تعبيرا عن إرادة الشعب وآماله ونهاية لمرحلة طويلة من مراحل المفاوضات المصرية البريطانية.وقد قوبل النحاس باشا في مجلسي البرلمان بالتأييد الكامل وتفجرت الوطنية في نفوس الشعب.

ولا بد من الإشارة إلى أن الملك كان قد نسف خطته مع الإنجليز لمنع إلغاء معاهدة 1936 فقد تلقى عبد اللطيف طلعت باشا كبير الأمناء بالقصر الملكي أمرا في أثناء وجود الملك في الخارج وذلك تنسيقا للاتجاهات بين الملك والإنجليز للحد من اتجاهات رئيس الوزراء الوطنية.

وطلب السفير البريطاني مقابلة رئيس الوزراء على انفراد. وفي الموعد المحدد وجد السفير أن الأستاذ إبراهيم فرج باشا وزير الخارجية بالنيابة موجود مع النحاس باشا، وأمتعض السفير البريطاني وقال لرئيس الوزراء:

إنني طلبت مقابلة خاصة لا يحضرها أحد.

فقال النحاس باشا:

وأنا عند وعدي فالأستاذ إبراهيم فرج يحضر بوصفه سكرتيرا خاصا للاجتماع ليدون ما يجري في أثناءه من حديث.ولم يخرج فرج باشا.. وبدأ السفير البريطاني الكلام وقال.إن مجلس الوزراء المصري منقسم على نفسه بشان فكرة إلغاء المعاهدة وسأله النحاس باشا مستفسرا.عن إلغاء ماذا؟

وقال السفير:

عن إلغاء معاهدة 1936

فقال النحاس باشا ساخرا:

يا سيدي إن هذه المسألة لم يبحثها المجلس لأنها لم تعرض عليه أصلا وإني أنصحكم ألا تستقوا معلوماتكم إلا من مصادر صحيحة والمعلومات التي وردت إليكم غير صحيحة ومن الأسف أنكم تنساقون إلى مثل هذه الأنباء وتكون النتائج التي تنتهون إليها غير صحيحة.

كان النحاس باشا يلقن السفير البريطاني درسا في المنطق وأصول البحث ونطاقه وذهل السفير البريطاني وبقي هذا الحديث مطويا لم يعرفه أحد.وعاد الملك من الخارج في نهاية صيف سنة 1951.

وبدأت المناورات التي كان يدبرها القصر لاختلاق أزمة مفتعلة مع الوزارة سعيا للتخلص منها قبل إقدامها على إلغاء المعاهدة.وكان الاتفاق مدبرا على أن يؤجل الملك مقابلته رئيس الوزراء بضعة أيام ثم يعين له اليوم والساعة لتلك المقابلة وأنه سوف يعمل على إثارة النحاس باشا بطلب إخراج وزيرين وفديين أولهما مصطفى نصرت باشا وزير الحربية وكان يقوم برحلة في الخارج يطوف فيها ببعض دول أوربا لعقد صفقات أسلحة لازمة للجيش ومعه لجنة من الضباط وذلك لإشعار الجيش بعدم الرغبة في تزويده بما يحتاج إليه من أسلحة والثاني هو عبد الفتاح الطويل باشا بسبب التحقيقات في صفقة الأسلحة وعلم النحاس باشا بالمناورات.

وقابل الملك وأخفقت المناورات ولم يخرج أحد من الوزراء وأخفقت المحاولات لمنع النحاس باشا من إلغاء المعاهدة ودخل الوزارة بعد هذه المقابلة وزيران جديدان أحدهما حسين الجندي وكان وكيلا لمجلس الشيوخ وعبد المجيد عبد الحق وكان وكيلا لمجلس النواب.

ثم استطلع الملك رأي الهلالي باشا وكان يطمئن إلى الهلالي باشا ويثق بذكائه وحسن مشورته حول إلغاء المعاهدة فقال الهلالي باشا.

إن الوفد لا يمكن أن تقدم وزارته على إلغاء المعاهدة بل إن النحاس باشا يخوف الملك ويحاول إحراجه أمام الشعب بإظهاره أنه يحول دون ما أجمع عليه الشعب ونصحه بتأجيل الأزمة مع الوزارة والمسألة لا تخلو من أمرين:

الأمر الأول: ألا تقدم الوزارة على إلغاء المعاهدة وكفي الملك شر القتال وفي هذا الفرض تخسر الوزارة تأييد الشعب ويفقد النحاس باشا شعبته وزعامته.

الأمر الثاني: أن يجرؤ النحاس باشا على إلغاء المعاهدة وهو فرض خيالي بحت، فإن ذلك سيكون إيذانا بدق آخر مسمار في نعش الوزارة ولن تعدم حيلة في الإطاحة بها بعد ذلك بصورة أو أخرى.

الدكتور وحيد رأفت أعد التشريعات

كان الحل بعد أن توقف المفاوضات في رأي سراج الدين باشا هو تنفيذ ما طالب به الوفد وهو في المعارضة في أثناء حكومة المغفور له: محمود فهمي النقراشي باشا أو دولة إبراهيم عبد الهادي باشا، ألا وهو إلغاء معاهدة بقانون يعرض على البرلمان يعدل الدستور ليصبح ملك مصر ملكا على مصر والسودان وكانت حجة فؤاد سراج الدين باشا تقوم على أن الإنجليز وهم طرف في معاهدة 1936 قد أخلوا بأحكام هذه المعاهدة، فقد كان ينص على وجود عشرة آلاف جندي بمنطقة القناة في حين كان يحتل المنطقة ثمانون ألف جندي كما أنه يجوز للدول إلغاء معاهدات إذا تغيرت ظروف إبرامها والمسائل الدولية رهينة الظروف والظروف متغيرة بطبيعتها.

وكان رأي فؤاد باشا من الوضوح وقوة الحجة، بحيث إن الزعيم مصطفى النحاس باشا أبدها بحماس شديد، وأضاف إليها حججا من عنده، وقبل فؤاد باشا...وهنأه.

وكان مصطفى النحاس باشا ديمقراطيا في نزعته ليبراليا في تفكيره حرا في اتجاهاته لا يعرف التعصب يمتاز بعقلية القاضي الوطني الذي يزن المسائل بميزان العدل والإنصاف وتسود روحه النزاهة والأصالة، وكان يترك الجميع يتكلمون ثم يتكلم في النهاية فإذا سمع ما أعجبه، اهتز طربا كالأب الحنون عندما يسمع شدو أولاده، أما إذا لم يعجبه ما قيل فإنه يدلي برأيه، وفي المسائل الوطنية فإن المسائل لا تتصل بالحكومة وإنما تتصل بالوفد والوفد هو الأمة والوفد يعني رئيس الوفد.منذ أيام سعد باشا.

وقد بقي الوفد برغم خروج البعض عليه، وظل مصطفى النحاس باشا ثابتا كالطود.كان منهج النحاس باشا الديمقراطية في كل صورها بشرط ألا تمس هذه الديمقراطية حقوق الشعب الذي اختار النحاس زعيما في فترة زعامة امتدت ربع قرن من الزمان شهدت أمجاد مصر وعظمتها وروعتها.

ولقد اعتنق الزعيم مصطفى النحاس باشا فكرة أصبح لا يتنازل عنها وهي إلغاء المعاهدة وتبناها باعتباره زعيم الجهاد الوطني، وعندما كان يتعلق الأمر بالجهاد فمصطفى النحاس باشا لا يعرف سوى أن الحكم وسيلة وإذا اختلف مع الجهاد أي الغاية فإن الوفد لابد أن يترك الحكم لتبدأ مسيرة الجهاد.

وكان النحاس باشا يتوقع أن يتمخض إلغاء المعاهدة عن نتائج خطيرة كان يدرك مداها وكان يتوقع أيضا أن يتلقف خصوم الوفد إلغاء الوفد للمعاهدة لكي يبرروا سبب الإلغاء بأسباب تختلف عما كان الأمر في الواقع أو الحقيقة.

وقد تم تشكيل لجنة من وزير الداخلية ووزير الخارجية ووزير الشئون البلدية والقروية لإعداد بيان يلقيه الناس باشا أمام مجلس البرلمان يتضمن إلغاء المعاهدة.

وكان يساعد هذه اللجنة مستشار من كبار مستشاري مجلس الدولة وهو الدكتور وحيد رأفت .. وتكتمت الوزارة نبأ الإعلان عن إلغاء المعاهدة حتى الوزراء الذين لم يعلموا به إلا في الوقت المناسب.

وبعد أسبوعين ألقى النحاس باشا وكأنه عاد إلى شبابه الأول عند اندلاع ثورة 1919 بيانا وطنيا توجه بالعبارة الشهيرة الخالدة.من أجل مصر وقعت معاهدة 1936 ومن أجل مصر.. أطالبكم اليوم بإلغائها.

وقد أعد الدكتور وحيد رأفت التشريعات بدقة وبسرعة.وأذكر أن هذه كانت أول التشريعات التي عدلت من دستور 1923 قبل إلغائه في عهد الثورة.

وكان مصطفى النحاس باشا بعقلية القانوني الضليع كما أذكر يعارض عملية تعديل أحكام الدستور حتى لو كان هذا التعديل إلى الأحسن إيمانا منه بقدسية الدستور، وأنه يجب أن يظل في منأى عن أي تعديل أو تغيير وأن الأمة وهي دائما مصدر السلطات وستظل مصدر السلطات وحدها صاحبة الرأي وأنه لا يجوز لأي فرد كائنا من كان أن يمس المبادئ العليا وذلك بغية حماية الدستور من التعديلات تحت دوافع من بعض النزوات.

واجتمع مجلس الوزراء يوم الأحد بيولكلي، على أن يجتمع النواب والشيوخ يوم الاثنين وفي يوم الأحد عرضت التشريعات على مجلس الوزراء واتسمت هذه العملية بالسرية بمقدار الخطرة التي انطوى عليها هذا الإجراء إذ قد يضغط الإنجليز على الملك لإقالة الحكومة قبل أن تعرض المراسيم الجديدة على البرلمان وتضيع الفرصة.

وكانت خطة الوفد أن تسلم المراسيم إلى حسن يوسف باشا رئيس الديوان الملكي بالنيابة مع تحذيره بخطورة سرية هذه المراسيم وإذا تسربت فإن السراي سوف تتحمل تبعة هذا الأمر وفي هذا خطورة على القصر ورجاله، كما حذر حسن يوسف باشا من الاتصال بإلياس أندراوس تحذيرا شديدا خشية أن يقوم أندراوس بإبلاغ السفارة البريطانية وهو صديق معروف لها فتبوظ المسألة بأكملها وكان النحاس باشا قد قرر أنه حالة في حالة عدم موافقة الملك على التصديق على المراسيم فإنه سوف يعلن أمام البرلمان أنه عرض الأمر على القصر الملكي ولكن القصر لم يوافق، وفي هذا البيان سوف تكون الطامة الكبرى على القصر الذي كان سيواجه ثورة عارمة من الشعب وهو أمر لا تحمد عقباه، ولا تعرف نتائجه..

ما بعد إلغاء المعاهدة

أصدر مجلس الوزراء بجلسته المنعقدة في 21 أكتوبر سنة 1951 بعد إلغاء المعاهدة قرارات سرية بالدرجة الأولى نصها كما يلي:

أولا: اتخاذ كل السبل المؤدية لعدم تعاون العمال مع القوات البريطانية عن طريق مكاتب مصلحة العمل والنقابات والشيوخ والنواب والهيئات الأهلية على أن تصرف لهم الحكومة أجورهم من يوم توقفهم عن العمل وأن تدبر لكل منهم ما يناسبه من عمل.

ثانيا: عدم اتخاذ إجراء رسمي حاليا بالنسبة لموردي تموين القوات البريطانية على أن يسلك حيالهم السبل السابقة لحملهم على عدم التعاون مع هذه القوات.

ثالثا: زيادة سعر كل من سكر البطاقات والطوارئ بمقدار قرشين في الأقة الواحدة اعتبارا من أول نوفمبر سنة 1951 وكذلك زيادة ثمن الكسب بمقدار جنيهن في الطن الواحد مع الاستيلاء عليه. على أن تخصص حصيلة هذه الزيادات لمواجهة تكاليف القرار الأول.

رابعا: الإذن لوزير المواصلات في صرف استمارات سفر مجانية على خطوط السكك الحديد المصرية للعمال المشار إليهم في القرار الأول الذين قيدوا ويقيدون أسماءهم في مكاتب العمل المختصة وذلك للسفير من مقر أعمالهم الحالية إلى البلاد التي يطلبون التوجه إليها هم وعائلاتهم الذين كانت تقيم معهم فعلا في مقر أعمالهم كذلك استمارات مجانية لنقل أمتعتهم المملوكة لهم والتي كانت بمقر عملهم وعلى أن تكون هذه الاستمارات صالحة للاستعمار لمدة شهر من تاريخ الصرف مع جواز استعمالها كاملة أو مجزأة ومع الترخيص المكاتب العمل المختصة في صرف الاستمارات المشار إليها.

خامسا: إرجاء اتخاذ قرار يتعلق بالحكم العام للسودان إطلاقا مهما كانت الظروف والأحوال وعليه أن يقام بالقوة على كل محاولة لإخراجه منه لآخر رجل ولآخر طلقة.

ثامنا: مقاومة القوات البريطانية إذا ما اجتازت منطقة القناة مهما كانت النتائج والدفاع عن القاهرة إلى النهاية.

تاسعا: إرسال برقية إلى مجلس الأمن بتحميل الإنجليز مسئولية تهديد السلام العالمي من جراء اعتداءاتهم التي تزداد كل يوم على سيادة مصر وأراضيها وأهلها ومرافقها العامة.

عاشرا: استدعاء سفراء الدول الكبرى وتبليغهم ما ذكر في القرار التاسع بشكل أوسع وأوضح.

الحادي عشر: تكليف سفير مصر في لندن بتقديم احتجاج صريح إلى وزارة الخارجية البريطانية على هذه الاعتداءات.

الثاني عشر: تكليف سفراء مصر بالخارج بعقد مؤتمرات صحفية وإعطاء البيانات الصحيحة عن اعتداءات الإنجليز الأخيرة.

الثالث عشر: الاتفاق مع الأمين العام لجامعة الدول العربية للاتصال بالدول العربية لا استدعاء وزراء الدول الأربع المتحالفة لمقابلة حضرات وزراء الخارجية في الدول العربية وإظهار استيائهم مما يقع في مصر.

الرابع عشر: عدم منح أي تصريح جمركي بإدخال مواد أو عتاد للقوات البريطانية حتى في حالة قيامهم بدفع الرسوم المقررة.

الخامس عشر: إخطار وزراء الداخلية والحربية والبحرية الخارجية بكل ما يقع من السلطات البريطانية في دائرة اختصاص أي وزارة في اليوم نفسه.

السادس عشر: تأليف لجنة من مديري مصالح السكة الحديدية والجمارك والمواني والسواحل والحدود والجوازات والجنسية لتنسيق العمل بينهم فيما يختص بالحالة التي نشأت عن إلغاء المعاهدة وتفويض وزير المالية في الإشراف على أعمال هذه اللجنة واعتماد قراراتها.

السابع عشر: تكوين لجنة وزارية من:

  1. فؤاد سراج الدين، وزيرا الداخلية ووزير المالية
  2. عبد الفتاح حسن باشا وزير الشئون الاجتماعيةووزير الحربية النيابة
  3. عبد المجيد عبد الحق باشا وزير الدولة.

وتفويضها في اتخاذ القرارات التنفيذية المترتبة على قرارات مجلس الوزراء الخاصة بهذه المسألة. ويستفاد من هذه القرارات أن الحكومة كانت قد أعدت العدة لكافة الاحتمالات وأنها كانت مستعدة لكافة النتائج والآثار القانونية المترتبة على إلغاء المعاهدة وأنها لم تكن مرتجلة في قرار الإلغاء، بل كانت صادقة وحريصة.

ولكن ما لبث أعداؤها أن ائتمروا عليها وكانت كارثة الحريق التي شوهت وجه القاهرة الجميل ذات صباح.وختمت عهدا.. وبدأت عهدا..

صفقة من الحديد الخردة

أذكر أنه في أحد أيام نوفمبر سنة 1951 حضر إلى رئاسة مجلس الوزراء السيد (م. ح) والسيدة قرينته وطلب الإذن بمقابلة صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا دون موعد سابق.

واستأذنت رفعة الرئيس الجليل الذي علم بأن زوجة السيد المذكور هي مدام (ح) فاغرورقت عيناه بالدموع وأخبرني في صوت متهدج:

إن لوالد هذه السيدة دينا في عنقي لا أنساه.فقد طلب والدها أن يرافق النحاس باشا عند نفيه وسعد زغلول وصحبه إلى سيشل سنة 1921 وكان الوالد مثال الإخلاص النادر إذا ارتضى النفي الاختياري وكان يتولى رعاية النحاس باشا رحمه الله في أثناء مرضه، ويلازمه كظله حتى أبله الله من مرضه.

وكان النحاس باشا نموذجا للوفاء الخالص.وما إن رأى النحاس باشا السيدة وزوجها حتى قبلها كابنته، وكانت عاطفة الأبوة من أجمل مزاياه، كان أبو الجميع يظلمهم بعطفه وسألها وزوجها عما يستطيع به الوفاء بالدين القديم.

وتقدم الزوج على استحياء بطلب للرئيس الجليل يطلب الموافقة على تصدير مائة ألف طن من الحديد الخردة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وهذه الكمية وغيرها توجد في الصحراء الغربية ومن مخلفات جيش الحلفاء في الحرب العالمية الثانية وأبدى استعداده لدفع عشرة جنيهات عن كل طن أي أن الصفقة تبلغ مليون جنيه تدفع للحكومة المصرية.

والجدير بالإشارة أن السيد المذكور كان قد نشر تعليقا مصورا في مجلة آخر ساعة في اليوم نفسه جاء فيه أن كميات من الحديد الضخمة بالصحراء تتعرض لغزوات البدو كما أن الأستاذ حسين حجاب الذي كان قد اشترى من الجيش البريطاني كل المخلفات قد أعلن بناء على شهادة مصنع الحديد الوحيد في مسطرد أن المصنع لم يعد في حاجة إلى هذه الكميات ..وأنها أضحت نهبا للبدو، ويجب حمايتها.

والواقع أن عرض الصفقة كان مغريا فالحكومة المصرية تحصل على مليون من الجنيهات دون غرم وعلى الفور قام النحاس باشا بعد اقتناعه بالتأشير على الطلب بما يلي:

معالي أحمد حمزة باشا.

برجاء استخراج التصريح المطلوب

مصطفى النحاس.

ولم يكتف النحاس باشا بذلك بل طلب مني أن أتوجه بصحبة السيدة وزوجها بسيارتي إلى وزارة التموين لإنجاز ما يطلبان.وقدمت الطلب إلى الأستاذ أحمد حمزة باشا الذي أبدى استغرابه لهذا الأمر على أنه لفت نظري بعد المقابلة أن (م. ح) وقد لاحظ أن سيارتي صغيرة الحجم بادرني بقوله:

غدا سوف تجد سيارة كاديلاك بدل هذه السيارة الصغيرة وعشرين ألف جنيه وقد كان هذا القول مثارا للدهشة وتوجست أن يكون وراء الأكمة ما وراءها من الطلب والعرض المغري والملابسات التي أحفت بالموضوع جميعا.

على أن هذه الظنون قد تأكدت عندما رجعت إلى مكتبي وكان رفعة النحاس باشا قد غادر الرئاسة إلى منزله ووجدت صحفيين وهما من أقرب من عرفت إلى قلبي وكانا زميلين في جريدة الأخبار وهي جريدة كانت سافرة العداء للوفد وزعيمه ومن أخطر الصحف المعارضة في هذا الوقت.

وابتدرني أحدهما قائلا:

هل تم التصريح؟

فتجاهلت السؤال وقلت له: أي تصريح تقصد؟

فقال والابتسامة تعلو شفتيه:

يا سيدي لا تتغابى تصريح الحديد الخردة.

وتظاهرت بأن المسألة عادي وسألته:

وما أهمية هذا التصريح؟

فقال:

هل لازلت مصرا لقد قبض النحاس باشا نصف مليون جنيه رشوة. وصعقت لقد كانت المسألة جميعها أمام عيني تترى بفصولها وحوادثها ولكن ما أكد الشكوك هو عرض السيارة الكاديلاك والعشرين ألف من الجنيهات.

وكانت المسألة لعبة يراد بها الإيقاع بزعيم من أنزه زعماء مصر في تاريخها الحديث والمعاصر. ولم أتردد بل توجهت لمقابلة الزعيم الجليل وكان يتوضأ .. للصلاة..وقصصت عليه ما سمعت وما حدث.

فطلب مني أن أحضر الطلب من وزير التموين بنفسي وفي لحظات كان الطلب أمام رفعة النحاس باشا. واحرقنا الطلب وأخفينا معالمه، وكأن شيئا لم يكن وفي الصباح التالي حضر إلى الرئاسة السيد (م. ح) مستفسرا عن مصير الطلب وأجبته بحدة لا تخلو من مرارة.لقد رفض الطلب.وخرج صاحبنا دون أن يدري لذلك سببا مشيعا باللعنات.

ومن الطريف أن المسألة تكررت فصولا مع الرئيس اللواء محمد نجيب إذ حضر السيد (م. ح) مرة أخرى إلى دار الرئاسة ومعه أحد أقرباء اللواء محمد نجيب وعرض نفس الأمر بكافة التفاصيل والجزيئات وكاد الرئيس نجيب أن يوافق.

ولكني أيضا هذه المرة لم أكتم اللواء نجيب القصة بحذافيرها من الألف إلى الياء وقلت له:

إن مصطفى النحاس كان نزيها وهذه المسألة لا تحتاج إلى دليل أما أنت فلو كنت نبيا لاتهمت بالرشوة

وأذكر أنه أعطى لقريبه درسا لا ينساه وطرده شر طرده وأنذره بالعقاب لو عاد للأمر مرة أخرى.

مصر وقضية فلسطين

لم تكن قضية فلسطين الشاغل الأول لمصر في الفترة التي تلت انتهاء الحرب العالمية الثانية فقد كانت قضية مصر واستقلالها أهم ما يشغل أفئدة المصريين في هذه الآونة الحرجة.

أما البلدان اللذان استغلا القضية ورفعا الشعارات فقد كانا سوريا والعراق وكانت وجهة النظر العراقية هي ضم سوريا إلى العراق وتكوين (الهلال الخصيب) علاوة على أن الملك عبد الله كان ينوي ضم باقي الأراضي الفلسطينية إلى إمارته الصغيرة.

ويلاحظ أن الشعب المصري كان مهتما اهتماما كبيرا بقضية الاستقلال الوطني فيما عدا البعض كعزام باشا.. وغيره من الذين تراودهم بعض الأفكار النظرية عن القضايا العربية وقد كان لإنشاء الجامعة العربية سنة 1944 بعد أن وقع النحاس باشا البروتوكول أن وجهت الأنظار إلى القومية العربية وعند حضور سماحة الحاج أمين الحسني مفتي القدس إلى مصر دعاه عزام باشا لإثارة قضية فلسطين.

وبدأت الحملة للفت أنظار الجماهير إلى القضية وذلك بقصد جلب العطف على سماحة الحاجة أمين الحسيني شخصيا. وقد استغل الأخوان المسلمون قضية فلسطين استغلالا كبيرا بعد أن تناولت الصحف المصرية القضية بالتحليل والتعليق وإثارة المشاعر.

ولكن الاهتمام الرسمي لم يتجاوز حدود الاتصال والمشاركة في الرأي. وفي أثناء المفاوضات بين الحكومة المصرية برئاسة إسماعيل صدقي باشا والحكومة الإنجليزية سنة 1946 لم تعرض مسألة فلسطين على مائدة المباحثات وكان في ذهن المفاوضين المصريين أن الإنجليز ليسوا بحاجة إلى قاعدة عسكرية بعد إتمام الجلاء عن مصر وبخاصة أن لهم هذه القاعدة في قبرص وفلسطين.

ويعلم الله ماذا كان سوف يحدث لو كان الإنجليز قد جعلوا من فلسطين قاعدة عسكرية لهم إذا كانت هذه المعاهدة قد أبرمت؟

وفي سنة 1947 ظهر مشروع التقسيم الذي وضعته الأمم المتحدة وبدأت الدعاية قوية ضد هذا المشروع ولكن أكرر.. أن المسألة الفلسطينية لم تكن محل دراسات جادة أو عميقة أو صريحة لمعرفة حقيقة الأوضاع وقوة اليهود ومركز الإنجليز في فلسطين بل أكثر من ذلك لم يكن قد ظهر في الأفق أن انجلترا قد تحولت إلى دولة من الدرجة الثانية بحيث يتعين عليها أن تكون تابعة للولايات المتحدة الأمريكية بشأن توطين اليهود في شكل دولة وليس مجرد استيطانهم في بلد عربي.. وهو ما سوف تكشف عنه الأيام فيما بعد..

وقد اشتدت الحملة الدعائية في الداخل حتى سنة 1948 وقد تصدى لذلك الذين رأوا أنهم أعلم بحقيقة الأمور العربية وبخاصة أمين الحسيني وعزام باشا كما ساندهم في ذلك بعض الشخصيات التي اختلطت بأمين الحسين وتجاوبت معه وكان التصدي للأفكار الوطنية في هذه الآونة لا يكلف الناس كثيرا وبخاصة إذا كانت بعيدة عنهم. وعلى سبيل المثال: كانت اللجنة العربية العليا التي ضمت شخصيات منها توفيق دوس باشا وعلوبة باشا وفؤاد أباظة باشا ورشوان محفوظ باشا وآخرون.

كانت هذه اللجنة تقوم بالخطابة وإشعال الحماس ولا شيء غير ذلك.وقد استهوت هذه التنظيمات بعض الشباب خاصة الإخوان المسلمين بتكوين تشكيلات لنصرة قضية فلسطين مع فارق المميزات بين الطائفتين من حيث السن والنضج وطريقة التفكير.

كما شاع بين الناس فكرة أن اليهود مجرد عصابات من اليسير القضاء عليها بقليل من التعاون العربي وكان يبدو أن المروج لهذه الفكرة عزام باشا شخصيا.وتطوع بعض الشباب لحمل السلاح كما استقال بعض الضباط من الخدمة وقادوا بعض الشباب المتطوع والمتحمس للفكرة.

ولكن الأحداث توالت .. وأدت إلى تحرك السلطات الرسمية لإنقاذ فلسطين وعلى حين فجأة تحرك الجيش بأمر الملك والله يعلم من الذي ملأ رأس الملك بهذه الفكرة وبخاصة أن اللواء حيدر باشا كان طوع بنان الملك. ودخل الجيش الحرب.

وبيقين فإن دولة النقراشي باشا لم يكن يعلم بنية دخول مصر الحرب ولم يكن راضيا عن ذلك ووقف الرجل حائرا فإما أن يسكت وإما أن يضرب جيش البلاد في ظهره ويعلن استقالته على الملأ وربما أدى إلى إخماد جذور الحماس التي سرت بين الناس مسرى النار في الهشيم كما أن ذلك لابد أن يؤجج الفتنة في الجبهة الداخلية.

ولم يجرؤ أحد على إعلان معارضته دخول مصر الحرب سوى إسماعيل صدقي باشا الذي اتهم في وطنيته بسبب هذا الموقف.وبدأت الحرب...

الحق نقول إن حرب سنة 1948 كانت صفحة مشرفة للجيش المصري، بالرغم من أنه كان قليل العدد والعتاد فقد كان موفقا في المعارك التي خاضها والذين يدعون أن الجيش المصري قد هزم في هذه الحرب فإن إدعاءهم هذا قائم على غير أساس فقد أوقف الحرب أكثر من مرتين وكان جيش مصر مقتحما فلسطين ومحتلا اللد والرملة ولم تطأ قدم يهود أرض سيناء.

وأوقفت الحرب أول مرة ثم عاد اليهود في الجولة الثانية وغرروا بالجيش المصري الذي لم يتقدم أحد لمناصرته من الدول العربية التي شاركت في القتال كالعراق والأردن وفي هذه المرة حوصر قسم من الجيش في الفالوجا ومع ذلك استمرت الحرب والجيش يقاوم.وفي أثناء ذلك اغتيل المرحوم محمود فهمي النقراشي باشا وعهد إلى إبراهيم عبد الهادي باشا تشكيل الوزارة خلفا له.

وفي هذه الظروف التعسة حاول الإنجليز الضغط على دولة عبد الهادي باشا من أجل مد العمل بمعاهدة سنة 1936 مقابل حصول مصر على السلاح وكان رئيس الوزراء رفض ذلك الضغط وأبت وطنيته أن ينفخ في روح هذه المعاهدة التي كان يجاهر منذ أن كان وزيرا للخارجية بأنها قد استنفدت أغراضها.

وتدخلت الأمم المتحدة لوقف القتال وكان رئيس الوزراء يتعرض لضغط شيدي من جانب القصر لإعلان ذلك وكان حيدر باشا وزير الحربية والبحرية حينئذ يعلن في كل مناسبة أنهم في حاجة إلى رجل سياسي ثم تقررت الهدنة...

وجاء إلى دولة الرئيس القائم بأعمال السفارة الأمريكية بالقاهرة وأنبأ دولته بإبرام الهدنة قبل أن يصل رأي الحكومة في القبول أو الرفض على طريق الخارجية المصرية.

وقبلت الهدنة ووقف القتال وكانت مفاوضة رودس التي تمسك فيها الجانب المصري بأن الانسحاب يكون عن طريق الأمم المتحدة وعدم إجراء مفاوضات مباشرة مع إسرائيل وكان وفد مصر مؤلفا من اللواء محمد إبراهيم سيف الدين والأميرالاي كامل الرحماني والقائمقام إسماعيل شيرين واليوزباشي محمود رياض أمين الجامعة العربية الحالي) واليوزباشي صلاح جوهر السفير حاليا.

وتم الاتفاق مع حفظ كرامة مصر وكان رالف بانش مساعد سكرتير عام الأمم المتحدة الوسيط بين مصر وإسرائيل وكان من بين شروط إسرائيل لرفع الحصار عن الفالوجا تجريد القوة المصرية من السلاح ولكن دولة عبد الهادي باشا رفض الشرط وأصر على خروج الجيش المصري بسلاحه وكرامته واحترامه.

علي ماهر يؤلف وزارة الأحكام العرفية

لا أستطيع أن أنسى ذلك اليوم الحزين 26 يناير 1952 ذلك اليوم الذي صارت فيه الحضارة التي أنشأها العلم والفن المصري نارا ودخانا وترابا ورعاعا لا تقدر أية مسئولية وأي فكر ولا تقف عند حد. فقد فوجئت ذلك الصباح بالمظاهر يقودها المرحوم اليوزباشي عبد الهادي نجم الدين ضابط البوليس صار لواء ومدير الأمن بمحافظة الغربية فيما بعد والذي قبل وقتها إنه ذو اتصال بالهيئة السعدية والمتظاهرون جنود البوليس والطلبة وأبناء الشوارع وضباط الأمن يهتف ضد الملك والحكم القائم، وباعة السميط والخس والجزر ينتهزون هذه الجموع الحاشدة مقيمة في حديقة مجلس الوزراء للدخول والبيع وحرس المجلس من الجنود لا يتحرك حتى لقد خفت على حياتي ووضعت كرسيا في غرفة ماكينة الأسانسير بالدور العلوي لاختفاء.

واتصل بي المرحوم مصطفى النحاس باشا ووصفت له الحال فأبلغني بقدومه إلى المجلس من الباب الخلفي من شارع محمد سعيد باشا ولما شاهد الحال اتصل تليفونيا بعبد الفتاح حسن باشا وزير الدولة بالداخلية وعاد رفعته إلى داره وجاءنا عبد الفتاح باشا يخطب المتظاهرين من غرفة مكتبي وفي مواجهته غرفة حرس المجلس ضابط الأمن نجم الدين يوالي هتافاته ضد كل السلطات.وبدأت أخبار الحرائق في معالم قلب القاهرة تتوالى حتى الساعة الثالثة بعد الظهر.

سفرجي يبلغني أن انجليزيا يتصل لاسلكيا

واتصل بي مصري قال إنه يعمل سفرجيا لدى انجليزي ساكن في شارع الأمير أحمد فؤاد بالزمالك بجوار عمارة بهلر، وإن الإنجليزي يجري اتصالات لاسلكية وأبلغني رقم تليفونه، ولما تأكدت باتصالي بهي من رقم التليفون اتصلت بمدير الأمن العام حسين صبحي الذي رد علي بأنه لا يمكن عمل أي شيء لعدم وجود أي ضابط بوليس.

وبعد نزل الجيش في الخامسة مساء ذهبت إلى منزلي وفي الساعة السادسة والنصف اتصل بي المرحوم محمود شوقي سكرتير عام مجلس الوزراء وأبلغني تعليمات المرحوم النحاس باشا بدعوة الوزراء للاجتماع بمنزله وتكليف عبد العظيم الدلجموني إعداد مرسوم إعلان الأحكام العرفية وتعيين حاكم عسكري وفهمت أن هذه رغبة القصر وأن النحاس باشا عارض الفكرة ولم يصر على المعارضة.

مظاهرة معايدة للنحاس باشا

وعلم وحيد بهادر مدير مكتب وزيرك الداخلية أن مظاهرة تسير عند الإسعاف في اتجاه منزل النحاس باشا وأنها تهتف ضده ولما لم يجد مسئولا في الوزارة لتفريقها حمل مدفعا رشاشا وركب سيارة مكشوفة وفرق المظاهرة. وانتهى مجلس الوزراء حوالي الساعة الحادية عشرة مساء وأعلنت الأحكام العرفية وذهبت لمنزلي.

إقالة الوزارة

وفي الساعة الواحدة اتصل بي الأميرالاي محمد وصفي قائد حرس الوزارة وأبلغني إقالة الوزارة وأن رئيس الوزراء الجديد نجيب الهلالي باشا أو علي ماهر باشا وبعد دقائق اتصل فريد شحاتة سكرتير الدكتور طه حسين وقال عن علي ماهر باشا سيؤلف الوزارة وعاود الأميرالاي وصف الاتصال مؤكدا ذلك.

وكنت في حيرة فسألته:

أيه رأيك أحضر ولا تبقى مسألة بايخة والكل يعف علاقتي بالنحاس باشا ..

فضحك المرحوم وصفي وقال:

علي باشا يسعده أن تعمل معه إن لم يكن ذلك يضايقك.

ووصلتني سيارة إسعاف أرسلها إبراهيم عبد الهادي وزير في وزارة ماهر باشا وكان سكرتيرا عاما لجمعية الإسعاف وعلي ماره باشا رئيسا. ولما قابلت علي ماهر باشا كان معه المرحوم محيي الدين فهمي والأستاذ مصطفى أمين والمرحوم علي أمين.

نشاط علي ماهر

وأذكر أن المرحوم علي ماهر باشا كان يحضر إلى مجلس الوزراء في التاسعة صباحا، ويشرب فنجان شوربة الساعة الواحدة ويبقى حتى الرابعة ويذهب لمنزله أو الدهبية الخاصة ويعد الساعة الخامسة ويبقى حتى منتصف الليل.

وكان يعقد اجتماعات في مكتبه وفي الصالون الملحق به وفي قاعة اجتماع مجلس الوزراء ومكتبي. اختيار علي ماهر:

وقد روي لي المرحوم نجيب الهلالي باشا أن الملك بعث إليه مساء 26 يناير المرحوم حافظ عفيفي باشا رئيس الديوان الملكي بمنزله بالمعادي لتكليفه تشكيل وزارة وأنه فوجئ بوجود إلياس أندراوس باشا يرافق حافظ باشا فأبدى له في خلوة استياءه من هذه الرفقة فخفف حافظ باشا الأمر بأن إلياس ركب معه كرها واعتذر نجيب باشا عن تأليف الوزارة.

وفي أثناء وجود حافظ باشا وصل الأستاذ فريد زغلوك وأبلغ نجيب باشا أن علي ماهر باشا أرسل إليه المرحوم الأستاذ حمادة الناحل المحامي يطلب أن يرشح الهلالي باشا ماهر باشا لرئاسة الوزارة مع وعد بتعيين فريد والدكتور نور الدين طراف وزيرين ورشح الهلالي باشا علي باشا الذي لم يشرك لاثنين معه.

مرسوم بحل البرلمان

رأى علي ماهر باشا أن يواجه الوفد محتاطا لكل الظروف فاستصدر مرسوما ملكيا بتأجيل مجلس النواب ذي الأغلبية الوفدية الساحقة شهرا وحمله معه وحضر جلسة المجلس وأشاد بصاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا قائلا عنه سلفي العظيم فقوبل بالتصفيق والتأييد ولم يظهر مرسوم الحل الذي بقي سرا حتى استقالته بيوم واحد وبعد أيام قليلة والرجل يبذل أقصى الجهود في مختلف الجبهات ويواجه أخطر الظروف السياسية التي مرت بالبلاد فوجئت بصديقنا فريد شحاتة يقول لي:

قبل نهاية شهر فبراير هذا لازم علي ماهر باشا يمشي.

الأزمات تحاصر علي ماهر باشا

مما لا شك فيه أن الملك فاروق لم يكن يطمئن إلى رفعة علي ماهر باشا لأسباب كثيرة معروفة لدى المتصلين بالسراي، والمعروف أن صلة علي ماهر باشا بالملك ترجع إلى عام 1936 عندما كان رئيسا للوزراء ثم رئيسا للديوان الملكي ثم أقصى منه بعد ذلك وتدهورت العلاقات بعد ذلك بسبب المناورات والدسائس التي حاكها خصومه وفي مقدمتهم أحمد حسنين باشا رئيس الديوان فيما بعد.

وأذكر أن الملك كان يتعمد في مناسبات كثيرة إهانة علي ماهر باشا، بل إن ماهر باشا كان لا يستقبل في القصر الملكي الاستقبال الذي يليق بحامل قلادة فؤاد الأول والتي لا يحملها سوى سبعة أشخاص على قيد الحياة في مصر وتعطي صاحبها أرفع ألقاب الدولة وهو: صاحب المقام الرفيع.

وفي سنة 1951 عندما دعي ماهر باشا إلى حفل شاي أقامه القصر بمناسبة زفاف الملك أجلس في مكان قصي من حديقة القص، وذلك بقصد إهانته والحد من قدره وكرامته.

وقد ذكر أنه لا يذكر أنه جلس في مكانه اللائق بالحضرة الملكية إلا في مناسبتين:

الأولى عندما أعلن علي ماهر باشا عن تأليف جبهة مصر وهي أشبه بالحزب السياسي منه بالجماعة السياسية، وأراد الملك أن يحرج السياسي العجوز على مأدبة الغداء أمام الجميع فقال له ساخرا وبصوت عال يحمل الاستهزاء.إيه حكاية جبهة مصر؟

وبدأ يروي أهداف هذه الجبهة ولكن الملك لم يعره أذنا مصغية أما المناسبة الثانية: فقد حدثت عندما دعي على مأدبة غداء بالقصر احتفالا بميلاد ولي العهد وكان الملك يجلي بين حسين سري باشا وعلي ماهر باشا وأمضى كل الوقت على المائدة أو في الصالون وهو يوجه حديثه إلى رفعة حسين سري باشا دون أن يحاول مرة واحدة أن يخاطب علي ماهر باشا بكلمة واحدة.

وكان الملك يتعمد إذلال صاحب المقام الرفيع أمام أقرانه ولكن علي ماهر باشا كان يتذرع بالصبر ويبتلع الإهانات والإساءات وكثيرا ما كان يغزو سلوك الملك إلى الخفة والطيش والوشايات والدسائس التي يموج بها القصر.

وبعد مأساة حريق القاهرة بدأت المشاورات لتأليف وزارة جديدة واتجه الملك إلى ترشيح علي ماهر باشا وجدير بالذكر أن الفريق محمد حيدر باشا طلب من الملك إعادة تكليف مصطفى باشا النحاس بتشكيل وزارة جديدة لأن النحاس باشا يتمتع بالأغلبية المطلقة وأنه زعيم الأغلبية بلا منازع كما أن حيدر باشا لا يمكن أن يطمئن إلى الجيش إلا بوجود مصطفى النحاس باشا في الحكم إذ كانت تساوره المخاوف من انقلاب الجيش على العرش وكان لديه الكثير من المعلومات.

ولكن هذا الرأي لم يلق ما يستحقه من الاهتمام لدى صاحب الجلالة. . بل إن الملك رأى أن يكلف حيدر باشا نفسه بتشكيل الوزارة الجديدة ولكنه اعتذر.

وطفا على السطح رفعة علي ماهر باشا ولم ير القصر بدا وخاصة أن الهلالي باشا رشحه فألفها. ولكن الأزمان حاصرت علي ماهر باش في وزارته التي استمرت شهرا واحدا وأذكر في أثناء تشكيل هذه الوزارة أن كريم ثابت باشا زار الأستاذ إبراهيم عبد الوهاب الذي كان يتمتع بثقة ماهر باشا واقترح عليه أن يرشحه وزيرا ليقوم ببذل المساعي الحميدة بين القصر والوزارة ويكون رسولها لدى القصر الملكي.

ولكن علي ماهر باشا رفض بشدة وثار في وجه إبراهيم عبد الوهاب. وبدأت الأزمات تطل بوجهها فقد أراد القصر تعيين اللواء أحمد طلعت بك وكان يمت بصلة القرابة على ماهر باشا حكمدارا للعاصمة ولكن الوزارة كانت رشحت لشغل المنصب اللواء أحمد عبد الهادي وفعلا صدر هذا القرار ونشر بالصحف ولكن الوسطاء سعوا بين الوزارة والقصر وقبل رئيس الوزراء أن يعني اللواء أحمد طلعت حكمدارا للعاصمة.

وثارت مشكلة جديدة بسبب عودة عبد الفتاح عمرو باشا سفير مصر لدى بلاط سان جيمس إذا استدعته الحكومة الوفدية بعد إلغاء معاهدة 1936 وصدر أمر ملكي بتعيينه مستشارا للملك في الشئون الخارجية وكان علي ماهر باشا يري أن يعود عمرو باشا إلى لندن مادام يراد تحسين العلاقات بين مصر وبريطانيا بعد الأزمة الخطيرة التي تعرضت لها هذه العلاقات ولاسيما بعد أن قابل رئيس الوزراء علي ماهر باشا السفير البريطاني السير رالف استفينسون في محاولة لإعادة العلاقات الطبيعية بين البلدين ولكن الملك لم يوافق على هذا الرأي.

ولم يقتصر الأمر على ذلك بل تعداه إلى محاولة النيل من على ماهر باشا وإذلاله فقد أود الملك تعيين الأستاذ كامل القاويش نائبا عاما مكافأة له على التحقيق الذي تولاه في قضية مصرع أمين عثمان باشا وأنعم عليه برتبة البكوية.

ولم يخف رئيس الوزراء غضبه واحتجاجه وكانت حجته قوية في عدم استحقاق الأستاذ كامل القاويش لهذا المنصب الخطير فالقاويش أحداث مستشار ولا يمكن أن يتخطى زملاء لمجرد رغبة ملكية تهز الجهاز القضائي واستقلاله.وتدخل الوسطاء مرة أخرى لإزالة الخلافات وعين القاويش وكيلا لوزارة الداخلية لشئون الإعلام والدعاية.

كل هذه الأزمات والحق يقال كانت يسيرة وتافهة إلى جانب أزمة نشأت بين القصر وعلي ماهر باشا منذ تأليف الوزارة ولم يكن في مقدور الوسطاء أن يتخطوها وهي أزمة عاصرت الوزارة منذ ولادتها وهي الأزمة التي تمثلت في مهادنة الوزارة للوفد وزعيمه الكبير مصطفى النحاس باشا وكان علي ماهر باشا من الذكاء بحيث أبى أن يكون مخلب قط لضرب الوفد، ثم سرعان ما يتخلص القصر منه وفقا للعبة التي يجيدها من قديم وخاصة أن علي ماهر باشا لا ينتمي إلى حزب سياسي أو يتمتع بأغلبية في البرلمان وله في هذه السياسية باع طويل وقديم

وطلب القصر من رئيس الوزراء حل البرلمان الوفدي وإجراء ما يسمى بحركة التطهير وتقديم كل من استغل نفوذه أيام الحكومة الوفدية إلى المحاكمة ولكن علي ماهر باشا لم يوافق على ذلك وأيا كانت نواياه أو اتجاهاته فقد كان يرى أن تبدأ الحكومة بمفاوضة الإنجليز ووضع حل للمشكلات الخارجية ثم يبدأ بعد ذلك الإصلاح الاجتماعي الداخلي.

وكان قد بادر بزيارة مصطفى النحاس باشا في منزله في اليوم التالي لتشكيل الوزارة ثم أعلن في مجلس النواب تحياته وتقديره لسلفه العظيم مصطفى النحاس باشا. ولقد طلب المرحوم علي ماهر وهو رئيس الوزراء مقابلة الملك مرتين ولم يوافق الملك على المقابلة.

وربما كان الملك يريد الخلاص من علي ماهر ليتمكن من إسناد الوزارة إلى المرحوم أحمد نجيب الهلالي وفقا للخطة التي كان متفقا عليها مع الوزير المفوض بالسفارة البريطانية مستر كريزويل والذي بناء عليها رشح الهلالي باشا ماهر باشا ليخلف المرحوم النحاس باشا لكي يخلو الطريق أمام الهلالي باشا من أي زعيم آخر يصلح للوزارة في هذا الظرف الدقيقة.

وفي أول مارس 1952 وبعد أن نشرت أخبار اليوم في ذات الصباح أن السفير البريطاني لن يقابل رئيس الوزراء وأبلغني السفارة في الساعة العاشرة والدقيقة الخامسة والخمسين أن السفير يعتذر عن الموعد المحدد (الساعة الحادية عشرة) لمقابلة علي ماهر باشا بوزارة الخارجية بسبب وعكة برد أصابته بعد لعب التنس في نادري الجزيرة اتصلت من مجلس الوزراء برفعة ماهر باشا بوزارة الخارجية وأبلغته الاعتذار عندئذ كلفني رفعته بدعوة مجلس الوزراء إلى الاجتماع فورا بدار الرئاسة ثم جاء إلى المجلس ودخل حجرته وطلب مني إبلاغه عندما يكتمل المجلس ومنع أي اتصال به فسألته: خير يا رفعة الباشا.

فقال:

إنني أعد كتاب استقالة الوزارة.

ولما اكتمل الأعضاء دخل عليهم وبقي معهم حوالي عشر دقائق تلا فيها كتاب الاستقالة الذي حرره عندما حضر لمجلس الوزراء بخط يده ثم أغلق عليه مظروفا وسلمه إلى المرحوم محيي الدين فهمي بك لتسليمه إلى رئيس الديوان الملكي المرحوم حافظ عفيفي باشا ولما لم يكن حافظ باشا موجودا بقصر عابدين فقد سلمه محيي الدين بك إلى المرحوم عالي عبد اللطيف طلعت باشا كبير الأمناء.

الهلالي باشا يشكل الوزارة

وإثر تقديم الاستقالة فوجئت باتصال تليفوني من فريد شحاتة يقول:

مبروك عليك نجيب الهلالي باشا.

ومضى النهار ومنتصف الليل ووصل المرحوم الهلالي باشا إلى رئاسة مجلس الوزراء ومعه الأساتذة فريد زعلوك ومصطفى أمين وعلي أمين وبدأ الاتصال بالوزراء الجدد ترشيح محمد نجيب لوزارة الحربية:

واستدعاني الهلالي باشا وسألني هل أعرف اللواء محمد نجيب ولما علم صلتي به كلفني الاتصال به ليعين وزيرا للحربية ووافق اللواء محمد نجيب وأبلغت الهلالي باشا الموافقة فاتصل بحافظ عفيفي باشا الذي أبلغه رفض الملك الذي وصف اللواء محمد نجيب بأنه عرابي رقم اثنين وأذكر أن بأسماء الوزراء بخط الهلالي باشا واسمه بينهم فضحك وقال:

أنا كنت متوقع اعتراض الملك.

وردع على قبر والد ناريمان:

وافق صباح اليوم الأول لوزارة الهلالي باشا الذكري الأول لوفاة المرحوم حسين صادق والد الملكة ناريمان وركبت مع الهلالي باشا وهو يرتدي الردنجوت استعدادا لحلف اليمين أمام الملك ووضعنا باقة ورد على القبر ثم توجه الهلالي باشا إلى القصر.

الملك يطلب تعيين الدكتور النقيب وزيرا:

ولما دخل الهلالي باشا وجد الدكتور أحمد النقيب باشا مرتديا الردنجوت فصافحه وظن أنه كان في الحضرة الملكية.وكان الوزراء قد اجتمعوا في القصر لحلف اليمين الدستوري، ودخل الهلالي باشا مكتب الملك ليفاجأ بطلب تعيين الدكتور النقيب وزيرا للصحة وقال الملك إنه موجود وجاهز لحلف اليمين وكأنه أراد إحراج الهلالي باشا في آخر لحظة.

فاعتذر الهلالي باشا بأن الوزارة متجانسة والوزراء منسجمون جميعا..وخرج الهلالي باشا من لدن الملك فوجد أمامه المرحوم محمود غزالي باشا والأستاذ فريد زعلوك فقال لهما:

مفيش حلف يمين:

لكنه فوجئ بالملك من خلفه يقول: ألا تصلح شهادتي في الدكتور النقيب بأنه صالح للوزارة.وأصر الهلالي باشا على موقفه.وذكر لي فريد زعلوك أن الأستاذ محمد حسين هيكل كان رئيس تحرير آخر ساعة اتصل به في محكمة جنايات الجيزة حيث كان يترافع في إحدى القضايا وأخبره أن الهلالي باشا يؤلف الوزارة وأنه يطلب أن يتوجه الأستاذ فريد إلى منزله فتوجه إلى المعادي.

وأضاف أن حلف اليمين تأخر حتى الساعة الحادية عشرة مساء بسبب اعتذار الهلالي باشا عن تحقيق طلب الملك تعيين الدكتور النقيب وزيرا للصحة والأستاذ كامل القاويش محافظا للقاهرة.

مرسوم تأجيل مجلس النواب

تداول الناس أن الهلالي باشا استعمل الدكتور زكي عبد المتعال باشا والأستاذ مرتضى المراغي باشا للتعجيل باستقالة علي ماهر باشا حيث أبلغا أخبار اليوم خبر المرسوم الملكي بتأجيل جلسات مجلس النواب شهرا وكان ماهر باشا قد استصدره وأودعه مكتبه.

وقد أكد لي الهلالي باشا زيف هذه الشائعة وروي لي أن المسألة أثيرت في مجلس الوزراء فقال علي ماهر باشا للوزراء إن التأجيل لم يعد له مقتضى حيث كان الهدف من المرسوم مواجهة مجلس النواب به فيما لو عارضت الأغلبية الوفدية اعتماد الخمسة الملايين من الجنيهات التي قررتها الحكومة لتعويض بعض المحلات التي أحرقت يوم 26 يناير بالقاهرة، وأن المجلس أقر الاعتماد ولذلك يجب العدول عن تأجيل جلسات المجلس.

وقال الهلالي باشا أنه لم تكن له أية علاقة بهذه المسألة.على أنه تردد وقتئذاك أن الدكتور زكي عبد المتعال باشا والأستاذ [[أحمد مرتضى المراغي باشا اعتراضا على رأي ماهر باشا بحجة أن العدول عن التأجيل لا يتفق مع كرامة الحكومة وأنهما قدما استقالتهما من الوزارة بالاتفاق مع القصر الملكي الذي كان على تفاهم مع السفارة البريطانية بوساطة المرحوم محمود غزالي باشا صديق الهلالي باشا وعديل الدكتور زكي عبد المتعال باشا حيث كان قد تزوج الشقيقة الصغرى لزوجته لما صار وزيرا للمالية في وزارة المرحوم النحاس باشا.

وإنني أرى أن هذه الفترة الخطيرة في التاريخ المصري يجب أن يذاع كل ما قيل عنها من شائعات وما تردد من معلومات عن موقف الملك فاروق وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية والحكومة البريطانية ويكتب عنها تاريخ دقيق.

عندما دخل الهضيبي علي إبراهيم عبد الهادي

في أثناء وزارة رفعة علي ماهر باشا أراد أن يجري مشاورات مع زعماء الأحزاب السياسية للتفاهم عن الوضع بعد إقالة الوزارة الوفدية.ودعي إلى مقابلة رئيس الوزراء كبار رجال الوفد الأساتذة فؤاد سراج الدين باشا.وإبراهيم فرج باشا وعلي زكي العرابي باشاوالدكتور محمد صلاح الدين باشا.

كما دعي للمقابلة: الدكتور محمد حسين هيكل باشا رئيس حزب الأحرار الدستوريين والأستاذ حافظ رمضان باشا رئس الحزب الوطني والأستاذ مكرم عبيد باشا رئيس حزب الكتلة الوفدية.

وأخيرا دعا رئيس الوزراء دولة إبراهيم عبد الهادي باشا رئيس حزب السعديين والأستاذ حسن الهضيبي بك المرشد العام للإخوان المسلمين رحمة الله عليه.وحدد مواعيد المقابلات وكان من المفارقات أن يأتي دور الأستاذ الهضيبي بك بعد دولة عبد الهادي باشا مباشرة.

ولكن حدث بعض التأخير في مواعيد المقابلات.وحضر دولة إبراهيم عبد الهادي باشا وقابل رئيس الوزراء. وفاجأني المرحوم محيي الدين فهمي بك سكرتير عام مجلس الوزراء بطلب غريب هو إدخال فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين مكتب رئيس الوزراء مباشرة في أثنا مقابلة عبد الهادي باشا.

وحاولت أن أفهم الأستاذ محي الدين فهمي بك بغرابة هذا الطلب إذ كيف يتفق أن يدخل المرشد العام للإخوان المسلمين على دولة عبد الهادي باشا والمرشد العام يتم الحزب السعدي باغتيال المرحوم حسن البنا؟

ولكنه أصر على هذا الطلب بحجة أن هذه أوامر أصدرها رفعة رئيس الوزراء وأعدت محاولتي وحاولت بكافة الوسائل أن أتنصل من هذا العمل والمسئولية الناجمة عنه ولكن سكرتير عام مجلس الوزراء أصر على موافقة إصرار شديدا وكرر أنه طلب علي ماهر باشا وحضر الأستاذ الهضيبي ودخل على رئيس الوزراء دون أن يعلم المفاجأة التي في انتظاره.

وهنا وقعت الواقعة وحدث انفجار في مكتب رئيس الوزراء، وثار دولة عبد الهادي باشا والأستاذ الهضيبي معا في الوقت نفسه، وخرج عبد الهادي باشا مسرعا في مشيته.وكذلك خرج الهضيبي مهرولا غاضبا. وطلبني رئيس الوزراء وكان غاضبا غضبا لا يوصف وصاح بي:

إيه اللي عملته ده.. أنت عملت أزمة كبيرة.وقلت وقد تزرعت بالصبر بصوت هادئ.يا رفعة الباشا إن محيي الدين بك هو الذي أمر بذلك.ولم ينتظر علي ماهر باشا بل أسرع إلى مكتب الأستاذ محيي الدين فهمي بك ووجه إليه عبارات اللوم على الإهمال الجسيم الذي صدر منه على رؤوس الأشهاد الموجودين بالمجلس. وثار محيي الدين بك.. وترك مكتبه.

ويبدو أن علي ماهر باشا قد شعر بقسوة ملاحظاته على تصرف الأستاذ محيي الدين بك فهمي وأراد أن يعتذر للأستاذ محيي الدين بك فغادر مقر الرئاسة إلى منزل الأستاذ محيي الدين بك لاسترضائه. ولكنه نظر إلي قبل أن يتوجه للاعتذار وطلب مني أن أصلح ما أفسده محيي الدين بك بكل الوسائل وأن أحضر المرشد العام بعد ربع ساعة.

ولن أصف الحيرة التي وقعت فيها فقد كانت المسألة في نظري دقيقة ومحرجة وتحتاج إلى قدر من الصبر وسعة الصدر. على أنني توكلت على الله وتوجهت إلى منزل المرشد العام بمنيل الروضة وشرحت لفضيلته رحمه الله المسألة بأبعادها وأنها حدثت بسبب خطأ أوقعني فيه سوء الحظ وأنها لم تكن مقصودة.

وكررت الرجاء ولكن المرشد العام رفض بإباء وشمم.ولم يتطرق اليأس إلى قلبي وزعمت للمرشد العام أن هذه الغلطة سوف تؤدي إلى فصلي من الخدمة.ولا قلب المرشد العام وحضر معي وقابل رئيس الوزراء.

وانتهت الأزمة على خير ولكنني أتساءل هل قصدها علي ماهر باشا بنفسه أولا؟ وأغلب الظن أن الشيب الذي علا مفرقي قبل الأوان يرجع في المحل الأول إلى هذه الأزمات التي خضعت غمارها في أثناء عملي بمكاتب رؤساء الوزراء.رحم الله الجميع وغفر لهم.

استثناء من الاستثناءات

وعندما جاء الهلالي رئيسًا للوزراء في أول مارس سنة 1952 أعلن برنامجا يحارب فيه الوفد محاربة لا خفاء فيها.. وأصدر في أثنا ذلك قانونا بإلغاء الاستثناءات التي منحتها حكومة الوفد لعض الموظفين فيما عدا الرياضيين تقديرا من الدولة وتشجيعا لهم مثل: مرعي حسين حماد وسيد العربي حسن عبد الرحيم وغيرهم من أبطالنا الكبار..

وذات يوم دخل على شخص لم أره قبلا وقدم نفسه لي بأنه عبد الفتاح عنايت وهو من الأبطال المصريين خلال ثورة سنة 1919 الذين بذلوا التضحيات في سبيل مصر وحوكم بتهمة اغتيال السردار سنة 1924 حيث قضي زهرة شبابه وراء القضبان بعد إعدام شقيقه وقد طالب باستثناء المحكوم عليهم سياسيا من قانون إلغاء الاستثناءات بعد أن وصل إلى الدرجة الأولى بمجلس النواب، أسوة بأبطالنا الرياضيين وكان هذا بعد أن وصل إلى الدرجة الأولى بمجلس النواب أسوة بأبطالنا الرياضيين وكان هذا الاستثناء من قانون الاستثناءات يستفيد منه شخصان الأستاذ عنايت والمرحوم الشافعي البنا.

واقتنعت بذلك.. وأيدت هذا الاقتراح أمام رئيس الوزراء الذي سألني هم قرايبك .. ولكني قلت له: يا دولة الرئيس أنا لا أتوسط لأقاربي ولا لأصدقائي بل إنني مقتنع بعدالة المطلب.ووافق دولته وكلف الأستاذ فريد زعلوك باشا بالاتصال فورا بالسراي وتعديل القانون من قبل التصديق عليه.

درس:بعد تولي الهلالي باشا الوزارة طلب السيد محمود زكي الطويل وكان وقتئذ وكيلا لوزارة شئون السودان الإذن بمقابلة رئيس الوزراء لتهنئته بمنصبه.وعندما دخل على الهلالي انحنى على يده ليقبلها ولكن الهلالي سحب يده بشدة وقال له:

لماذا تسلك مثل هذا المسلك وأنت موظف كبير بالدولة أنا لا أرضى عن ذلك في تعبيرك عن الإخلاص والولاء وأما أن تقبل يدي استخفافا بشأن أو ضحكا على هذا مالا أضاه أرجو أن تحترم وظفتك وتحترم نفسك فأنت شقيق زميلي عبد الفتاح الطويل باشا وكان عبد الفتاح الطويل باشا وكان عبد الفتاح باشا رسول النحاس باشا إلى الهلالي باشا عندما كان النحاس باشا يرغب في استشارة الهلالي باشا في شئون الدولة في وزارة 1950.وأمر دولته بعد ذلك ألا يسمح له بالدخول عليه.

قشاشة والشافعي:

كان المرحوم الأستاذ علي قشاشة يعمل سكرتيرا خاصا للزعيم الراحل مصطفى النحاس باشا كما كان الأستاذ أحمد الشافعي يعمل سكرتيرا صحفيا للزعيم برئاسة مجلس الوزراء.

وبعد أيام من ولاية الهلالي باشا طلب دولته نقل قشاشة والشافعي إلى وزارة الداخلية وكان مرتضى المراغي باشا وزيرا لها بقصد الاضطهاد ونقلها إلى أقصى الصعيد وطلب مني رئيس مجلس الوزراء إعداد مذكر بذلك ولكني سألت دولته مستنكرا عن سبب هذا الإجراء.

فقال دولته: أنا لست في حاجة إليهما. قلت لدولته: يا دولة الرئيس مجرد اختيار رئيس وزراء لشخص ما معناه أنه موضع ثقته وفي نظري هي درجة الدكتوراه التي تضاف إلى مؤهلاته العلمية بل أكثر من هذه الدرجة وإن كنت لا تريدهما فإنني أطلب منهما أن يختارا الوظيفة المناسبة لهما ويكونا موضع تكريم عند نقلهما من رئاسة مجلس الوزراء.

فقال مقاطعا: لازم دول أصحابك قوي.فقلت: يا دولة الرئيس.. إنني أدافع عن كياني شخصيا ... ما ذنبي لو لم تكن تريدني فلماذا أنقل إلى أقصى الصعيد وأي جرم ارتكبته لكي أنال هذا المصير؟

فقال باسما: لقد أقنعتني .. ونفذ ما تريد. وبالفعل اختار الأستاذات قشاشة والشافعي الوظيفة نقل كل منهما إليها بعد تكريمهما بصورة لائقة.

تحديد إقالة فؤاد سراج الدين باشا

في أثناء وزارة الهلالي باشا رفع إلى وزير الداخلية تقرير من القسم السياسي أنه لم تزل هناك مقاومة بالقناة وأن علي رأس زعمائها الأستاذ عبد الحميد صادق المعروف بميوله الوفدية ولكتاباته في صحف الوفد.

ورأت الوزارة أن الظروف عصيبة بعد حريق القاهرة وأنها كوزارة مستقلة ومحايدة من أهدافها إصلاح الأوضاع لا إشعال الفرقة.كما نمي إلى علم الوزارة أنه على رأس المحرضين فؤاد باشا سراج الدين الذي يمد حركة المقاومة بالأسلحة والأموال والمفرقعات.. إلخ.. وكان يجتمع بهم ويشجهم على مداومة الكفاح.

فاقترح الأستاذ مرتضى المراغي باشا وزير الداخلية في مجلس الوزراء اعتقال فؤاد باشا بموجب الأحكام العرفية ولكنه الهلالي باشا اقترح بدلا من ذلك تحديد إقامته بعزبته في بلبيس.واستدعاني الهلالي وأخبرني بهذا القرار وأخذ رأيي وفوجئت وخشيت أن يكون الهلالي باشا يختبرني..

وعند عودتي إلى منزلي طلبت من السيدة حرمي ألا تدخل علي أحدا أو تنبئ أحدا بوجودي في المنزل خشية أن يتسرب الخبر.وفي صباح اليوم التالي صدر الأمر بتحديد إقامة فؤاد سراج الدين في عزبته ونشرته الصحف جميعها.

ولكن سراج الدين طعن في القرار أمام مجلس الدولة مطالبا بإلغائه وحكم المجلس بإلغاء القرار. وقد ذكر المرحوم الهلالي باشا للصديق الأستاذ عوض قنديل أنه استشعر من التقرير ومقدمة الأستاذ مرتضى المراغي باشا وزير الداخلية في وزارة المرحوم علي ماهر باشا وفي وزارته المسئولية الخاصة في أثناء المناقشة في مجلس الوزراء ومن يعرف المرحوم الهلالي باشا العالم الحكيم اللطيف ذي التهذيب الأديب يدرك طلبه تحديد الإقامة أنه عندما عرض الأمر أمام مجلس الدولة قرر ألا يكون للحكومة أي رأي وألا يعرض على المجلس سوى تقرير وزير الداخلية. وقد عرف عن الهلالي باشا عدم تدخله في شئون الوزارات وتركها لوزرائها.

عيد الدستور (15 مارس)

وجاء 15 مارس وطلب مني الهلالي أن أذهب إليه في منزله بالمعادي فذهبت وكان هناك الأستاذ فريد زعلوك باشا وزير الدولة ووجه الهلالي كلمة بالإذاعة احتفالا بهذه المناسبة.

وبعد إلقاء الكلمة طلب مني أن أصحبه في سيارته خلافا للعادة إلى القصر الملكي وكانت العادة قد جرت أن يرافقه ياوره من رجال حرس الوزارات وهو البكباشي إسماعيل إبراهيم اللواء فيما بعد.

وفي أثناء الطريق بدأ الهلالي هجوما على الوفد وزعيمه، وكان حادا في هذا الهجوم ولم يترك نقيصة إلا رمي الوفد بها وبمصطفى النحاس وزوجته مما أذهلني ولم أحر جوابا وتركته يتكلم. ووصلنا قصر عابدين حيث قيد اسمه في دفاتر التشريفات وعند توديعي إياه طلب مني أن أعود معه إلى المعادي.. وعدنا..

وفي الطريق طلب مني الرأي فيما قاله عن الوفد ومصطفى النحاس والسيدة قرينته واعتذرت بدعوى أنه لم يطلب مني الإصغاء إلى حديثه منذ بدايته لأعد رأيا في هذا الشأن ولكنه أصر فقلت له: يا دولة الرئيس لي رأيان في الرد على هذا الهجوم رأي صلاح الشاهد الحر ورأي صلاح الشاهد الموظف، فأي الرأيين تفضل؟

فقال دولته: كلاهما..وبدأت برأي صلاح الشاهد الحر بعد أن أخذت عليه عهدا بأن يتقبل هذا الرأي وإن خالفه فوعد بذلك وهنا أعلنت رأي مخاطبا إياه كيف تسمح لنفسك يا دولة الرئيس وأنت الذي عاشرت مصطفى النحاس وصاحبته وزاملته طيلة أعوام كثيرة أن تهاجمه في شرفه ونزاهته ووطنيته هو والسيدة الجليلة قرينته؟ لقد أخطأت يا دولة الباشا في الإساءة إلى هذا الزعيم الوطني الكبير الذي تفخر به البلاد.

أما رأي صلاح الشاهد الموظف فأنت على حق يا دولة الرئيس فيما تقول وكان رئيس الوزراء الكريم قد أمر منذ تأليف وزارته بأن يتناول كل الضباط طعام الغداء على مائدته إذا ما وصل إلى منزله الساعة الثانية أو ما بعدها وكان المعتاد دائما أن يعود بعد الثانية. ودعانا جميعا إلى مائدته.

وأجلسني إلى جواره وخاطب كافة الضباط الموجودين قائلا لهم:

اليوم هاجمت النحاس باشا أمام صلاح بك زورا وبهتانا وطلبت رأيه فيم قلت من هجوم مرير اعتبره إسفافا لا يليق وكنت أتوقع أن يجاملني صلاح بك فيما قلت كما جرت عادة الموظف لرئيسه ولكن صلاح بك أبي بل دافع دفاع الأبطال عن النحاس باشا دون مبالاة بغضبي.

ووجه كلامه أمام الحاضرين وكان وجهه ينطق بالشر وقال لي: أنت اليوم موضع تقديري وثقتي واحترامي وهذا آخر اختبار أجريته لك منذ أن عملت معي.وهنا سألته عن الاختبارات السابقة ومن حقي أن أعلم بها.

فقال دولته وعلى شفته الابتسامة كان أول اختبار لك عن مدى كتمانك للسر، عندما أخبرتك عن رأيك في تحديد إقامة فؤاد سراج الدين بعزبته ببلبيس وكنت الوحيد الذي يعلم بذلك ومع ذلك لم تذع سرا.

ثم أعطيتك أوراقا تتضمن معلومات خاصة باستبدال العملة وكان في الإمكان أن تثري ثراء كبيرا لو أذعت هذه المعلومات ولكنك كنت أمينا فلم تفعل. وأخيرا أردت أن أعرف مدى وفائك لمن عملت معه فعلمتني كيف يكون الوفاء.

همه 121 يوما

رحمة الله المستشار عبد الفتاح رجائي صديق الهلالي باشا فقد داء يوما كان بالمعاش وطلب مقابلة الهلالي باشا فرحب ولما فتحت باب المكتب وقف فيه وقال للمرحوم الهلالي باشا:

همه مائة وواحد وعشرين يوما وبعدها نتقابل في ال (مونسنيير) في الإسكندرية وحاول الرجوع. فقال له الهلالي باشا.. تعالى رايح فين.

فرد قائلا:

لا يا سيدي أنا ماليش دعوة برؤساء الوزارات. وغادر رئاسة مجلس الوزراء والعجيب أن رئاسة الهلالي باشا لم تزد عن ال121 يوما.

الملك يثير الأزمات ضد الهلالي باشا

من المعروف أن الهلالي باشا كان قد استقدم وفدا من رجال السيد عبد الرحمن المهدي باشا وكان عبد الرحمن باشا للحقيقة والتاريخ من أشد الناس عداوة للإنجليز وانتصارا لوحدة القطرين:

مصر والسودان ولكن لما كان السيد علي الميرغني مناوئا للمهدي فقد اعتبر المهدي من أنصار الإنجليز وكان الإنجليز يشترون القطن قبل زراعته من جزيرة آبا التي يزرعها المهدي.

وقد حاول عبد الرحمن باشا المهدي أن يتقرب إلى مصر ولكن الإنجليز كانوا قد أبلغوا المغفور له الملك فؤاد ثم من بعده الملك فاروق بأن المهدي يطمع في أن يكون ملكا على السودان وبذلك استطاع الإنجليز أن يكونوا أسيادا في كلا البلدين.

ولكن الهلالي باشا كان مقتنعا بضرورة تحسين العلاقات مع عبد الرحمن باشا المهدي وأمكنة أن يجعل الطيب حسين سفير الباكستان في مصر يطالب حكومته بالاعتراف بأن فاروق ملك مصر والسودان وفقا للقانون الذي أصدرته حكومة المرحوم النحاس باشا مع قانون إلغاء المعاهدة.

ولما كانت دولة الباكستان عضوا ي الكومنولث فكان من المتعين أن توقع الاعتراف ملكة بريطانيا ومن ثم تكون بريطانيا قد اعترفت بأن فاروق ملك مصر والسودان.

ولكن حدث أن خرج فضيلة الشيخ حسنين مخلوف مفتى الديار المصرية وبدون مناسبة إلى الحديث عن المذهب الذي تعتنقه الباكستان وأنه القاديانية من المذاهب التي يكفرها الإسلام وقد احتجت وزارة الهلالي على هذه الفتى وطلبت إخراج مفتى الديار المصرية.

وفعلا ساءت العلاقة بين مصر وباكستان وساءت العلاقات بين القصر والوزارة. ولما جاء وفد السودان برئاسة عبد الله الفاضل المهدي رحمه الله للمفاوضة وبينه الأستاذ محمد أحمد محجوب دعاه رئيس الوزراء إلى مأدبة إفطار بصر أنطونيادس ثم إلى حضور الدرس الديني الذي أعتاد القصر إقامته بمناسبة شهر رمضان المبارك يوميا برأس التين.

وكان صاحب الفضيلة الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية بلي الدرس بعد صلاة العشاء أطال الله بقاءه)وكان يرتاد هذه الدروس أفراد الشعب حيث كانت تقدم القرفة والشاي.وفي أثناء إلقاء فضيلة الشيخ مخلوف درس الديني حضر أحد تشريفاته. القصر وسلم الشيخ رسالة قيل إنها بخط الملك فاروق.

وما لبث الشيخ أن قال: إنه كان يرجو لو كان يلقي درسه في الخرطوم وبدأ من قرب يهاجم رجال المهدي وقال: كيف نشرب من نيل واحد ونحن يجمعنا دين واحد ولا يكون مليكنا ملك مصر والسودان كان يجيب أن تأتوا إلى مليككم وتعلنون الولاء.

وساد الوجوم وارتسم على وجوه أعضاء الوفد وامتنعوا عن تناول القرفة وانصرفوا غاضبين. وتعثرت بسبب ذلك المفاوضات لمدة أربعة أو خمسة أيام بذل فيها الهلالي باشا كل من الجهد لإعادة المباحثات وأخبرني الهلالي باشا في حديث معه أن هذه الأزمة الدافع إليها الرغبة في إقصائه عن الوزارة لأنه عندما قابل الملك أخبره بأنه سيلغي الاستثناءات ويبدأ بالتطهير وبتطهير رجال القصر أولا وأصبحت العلاقات بين الملك والهلالي باشا غاية في السوء.

ولم تصل المفاوضات مع الحكومة البريطانية إلى نتيجة يستطيع الهلالي باشا أن يواجه بها الشعب. وبدأ مستر جيفرسون كافري سفير الولايات المتحدة الأمريكية يزيد من اتصالاته وتدخله في الشئون المصرية سواء لدى الملك أو الوفد أو غيرهما.

ودارت الإشاعات في القاهرة أن عبود باشا يريد أن يتولى سري باشا الحكم لأن شركات عبود مدينة للحكومة بمبلغ خمسة ملايين جنيه ضرائب وسيقوم سري باشا بتسوية الدين.وأصبح الهلالي باشا على يقين من دفع عبود باشا هذه الرشوة فقال لي إنه سيرفع استقالة وزارته.فاتصلت بالسيدة أصيلة والدة الملكة ناريمان ونبهتها إلى خطورة الموقف وأن قبول الاستقالة يكشف الملك ويؤكد شائعة المليون جنيه.

قصة المليون جنيه

أوردت وكالات الأنباء أن صحيفة ديلي إكسبريس) البريطانية نشرت أن المرحوم أحمد عبود باشا دفع مليون جنيه للملك فاروق عن طريق إلياس أندراوس باشا ثمنا لإقالة وزارة الهلالي باشا حيث كانت الحكومة تطالب شركة السكر بضرائب متأخرة تزيد على خمسة ملايين جنيه وبتعيين المرحوم حسين سري باشا رئيسا للوزارة وكانت علاقاته بعبود باشا معروفة.

فلما قرأ الهلالي باشا النبأ قرر الاستقالة وقال:

إن الملك يريد بيعنا وأن الأحزاب غير راضية عن وجودنا.وكان ذلك يوم الخميس 26 يونيو سنة 1952.

وكنت دولته الاستقالة واتفق مع وزرائه بالإسكندرية على إرجاء تقديم الاستقالة إلى يوم السبت. وكان الدكتور زكي عبد المتعال وزير المالية والاقتصادية موجودا بالقاهرة ويتصادف أن اجتمع بحافظ عفيفي باشا رئيس الديوان في القطار صباح يوم السبت في أثناء عودتهما إلى الإسكندرية

وعند وصول القطار إلى سيدي جابر نزل حافظ باشا متوجها إلى رئاسة الوزارة ببولكلي فلم يجد الهلالي باشا الذي كان قد ذهب إلى قصر رأس التين لتقديم الاستقالة.. وقد ترك كتاب الاستقالة وغادر القصر إلى منزله بالمندرة.

ولما ألغ المرحوم عبد اللطيف طلعت باشا كبير الأمناء الملك بكتاب الاستقالة تصادف وصول حافظ عفيفي باشا رئيس الديوان إلى القصر فسأله الملك عن أسباب الاستقالة فأخبره بما نشرته الصحيفة البريطانية وما كان له من أثر في نفس الهلالي باشا الذي قال:

إن الملك قد باعنا..وبسبب عدم صحة النبأ، وأن الملك فكر أن وزارة الخارجية البريطانية أوعزت إلى الصحيفة بنشره للصعوبات التي اقترنت بها المفاوضات التي كان يجريها الهلالي باشا مع الإنجليز ووصفهم إياه بالتشدد فقد أخفى الملك نبأ الاستقالة لمدة يومين.

وبينما كان الملك يقضي سهرته بنادي السيارات وخبر الاستقالة شائع في الثغر دخل المهندس شفيق جبر وسأل الملك عن حقيقة خبر الاستقالة فنفاه الملك وخرج شفيق من الغرفة التي بها الملك ليلتقي بفريد باشا زعلوك وزير الدولة وقال له:

إن الملك نفي خبر استقالتكم.فما كان من فريد باشا إلا أن أكد النبأ فعاد شفيق جبر إلى الملك ونقل إليه تأكيد فريد باشا باستقالة الوزارة.وهنا رد الملك.هو اللي قال كده؟ ابن ال... ونادى كريم ثابت وكلفه بالذهاب إلى حسين سري باشا لإبلاغه تكليف الملك بتشكيل الوزارة.

ولما أراد كريم ثابت فرض نفسه على سري باشا بتعيينه وزيرا رفض سري باشا وتأخر تشكيل الوزارة فقام كريم ثابت بمناورة قصد بها إرغام سري باشا والدكتور محمد هاشم باشا على إشراكه في الوزارة فاقنع الملك بتكليف المرحوم بهي الدين بركات باشا بتشكيل الوزارة لكن هاشم باشا حرصا منه على تشكيل الوزارة من تمكن من إقناع سري باشا وأسرته بدخول كريم الوزارة.

وتم التشكيل في 2 يوليو سنة 1952 وظل الهلالي باشا وقتا طويلا موقنا أن إلياس أنداروس تسلم مليون جنيه لحساب الملك ثمنا لإقالته ولم يكن هذا الظن صحيحا إذ لم يدفع أحمد عبود رشوة لهذا الغرض وإنما حقيقة الأمر تتلخص في أني تاجر مجوهرات كبيرا في أمريكا اللاتينية يدعى (هاري ونستون) أراد أن يبيع الملك قطعتين من الماس تزن إحداهما 126 قيراطا والأخرى 76 قيراطا بثمن مليوني دولار عن طرق سفير مصر في باريس الأستاذ أحمد ثروت وتدخل في الأمر أحمد نجيب الجواهرجي وحصل على سمسرة قدرها 50 ألف دولار دون علم الملك.

وطلب نجيب الجواهرجي من عبود دفع الثمن فلم يستطيع عبود جمع المبلغ كله ولكنه تكن من دفع مبلغ مليوني ومائتي ألف دولار تسلمها فيما بعد من أحمد نجيب الجواهرجي.ووافق البائع مقابل وفاء الملك بباقي الثمن.

ولم يمض وقت طويل حتى عزل الملك عم العرش وبدأ تاجر المجوهرات في المطالبة بباقي الثمن فأبلغ أن هذه المجوهرات موجودة بقصر القبة فطلب منه أن يكتب رسالة أو أن يوقع على رسالة يفيد ذلك فكتب الملك الرسالة وأرسلها التاجر إلى الحكومة في القاهرة التي عثرت عليها لكنها لم تدفع باقي الثمن المطلوب.

ولجأ الرجل إلى القضاء المصري وحصل على حكم بأحقيته في المبلغ ولكنه لم يستطيع تنفيذ هذا الحكم لعدم وجود أموال للملك في مصر بعد أن صودرت أملاكه. ومن الطريف أن الأستاذ فريد زعلوك كان أحد محامي الجواهرجي.

الهلالي باشا وشيوخ ونواب أسيوط

أناب الملك الهلالي باشا لوضع حجر الأساس لكوبري سوهاج, وعندا وصل القطار الخاص إلى أسيوط قامت المدينة لتحية الهلالي باشا الذي كانت أسيوط مسقط رأسه.

وفي أثناء التحية وكان يستقل القطار بعض الخبراء الأجانب الذين هرعوا للتفرج على أسيوط من النافذة وتركوا أماكنهم في غرفة الطعام بالقطار احتل بعض الشيوخ والنواب مقاعدهم وأبوا الرحيل عنها.وقد حاولت إقناعهم بالتنحي عن هذه الأماكن لضيوفنا ولكنهم أصروا على موقفهم إصرارا عجيبا.

وعندما علم الهلالي باشا مني المسألة خرج من صالونه الخاص حيث غرفة الطعام ولقن أعضاء الشيوخ والنواب درسا في كرم الضيافة وأخلاق الصعايدة وأبي عليه كرمه إلا أن يدعو الخبراء الأجانب إلى مائدته لتناول طعام الغداء معه.

ظرف الهلالي باشا

وكان الهلالي باشا حاضر البديهة سريع الفطنة والنكتة الطريفة وأذكر أنني ذات مرة وكان يتناول طعام الإفطار بقصر أنطونيادس أن خرج إلى الفراندة وبرفقته عبد الله الفاضل المهدي وآخرون من وفد السودان وحاولت أن أنبه دولته لتناول القهوة وقلت له:

يا دولة الرئيس القهوة.فأجاب على الفور.هنا أهواوله في هذا المجال الكثير مما يؤلف كتابا ممتعا.

أول يوم في وزارة سري باشا الثانية

كنت قد قابلت في العاشرة والنصف مساء المرحوم الدكتور بهي الدين بركات باشا لأتلقى منه تعليمات بانتظاره في رئاسة مجلس الوزراء الساعة التاسعة والنصف من صباح اليوم التالي.

وفي الساعة الواحدة صباحا اتصل بي تليفونيا المرحوم الأميرالاي عميد محمد وصفي قائد حرس الوزارة والياور الخاص للمرحوم إسماعيل صدقي باشا والمرحوم حسين سري باشا وطل مني الحضور إلى منزل سري باشا.

فذهبت وتقابلنا معا في سري باشا الذي طلب مني أن أحضر إلى الرئاسة في التاسعة صباحا ليجري مشاورات تأليف الوزارة ويتم إعداد مراسم التشكيل.

وبعد وصول سري باشا بقليل حضر إلى المكتب في بولكلي محمود بك سري الشقيق الأكبر لسري باشا وطلب مقابلته فسارعت بفتح الباب ودخل محمود بك وفوجئت بحسين سري باشا يقول لي:

إيه اللي جاب البيه دي هنا، أنا مشي قلت ماحدش يخش إلا لما تقول لي وأوافق. فقلت له: يا رفعة الباشا أنت قلت لي على أنك رئيس وزراء وحتى الآن لم تحلف اليمين ومبارح كان بهي الدين بركات باشا نام على أنه رئيس وزراء وصحا من النوم ليجد نفسه كما هو

ومن حق الأخ الأكبر الدخول على الأخ الأصغر ما دام هذا لا يشغل مصبا رسميا ورفعتك لم تحل اليمين للآن. فأصرع على خروج محمود بك الذي غادر المكتب وفي عينيه دمعتان ولم ألاحظ على المرحوم سري باشا موقفا يمكن أن يوصف بالضعف إلا أمام قرينته المرحومة ناهد هانم عندما كانت تؤنبه بشدة على تعيين كريم ثابت باش وزيرا في وزارته برغم ما يعلمه عن فساد تصرفاته وما عمله ليخرجها من رئاسة الهلال الأحمر.

وكان رد سري باشا أن الملك عاوز كده ولازم نسمع كلام الملك.

سري باشا

وكان موجودا المرحوم الدكتور هاشم الذي كان يلطف من حدة حرم سري باشا باعتباره هو الذي أثر علي سري باشا وقال:

كريم حيبقى كويس وحيسندنا في القصر والسياسية عاوزه كده .. وكان هذا الموقف من هاشم باشا سببا في تغيير معاملة سري باشا له حتى إنه كان قبل أن يدخل مكتب سري باشا يقرأ الفاتحة ويترك السيجارة على مكتبي ويزرر الجاكتة.

أما كريم ثابت فكان إذا طلبه سري باشا يسألني خير إن شاء الله ثم يتجه إلى المرآة ويعدل وضع الطربوش على رأسه ويترك السيجار على مكتبي ويدخل وهو يرتعد.

تعليمات محددة

وعندما حلف اليمين وعاد الرئاسة وقال اسمع يا صلاح الآتي:

  1. حضر معي كل المقابلات إذا كان الضيف في درجة أقل من سفير.
  2. عند تحديد الموعد تراعى الدقة المتناهية في دخول الضيف وخروجه بمعنى لو حددنا لسفير مثلا نصف ساعة من الساعة العاشرة مثلا يدخل على في تمام العاشرة ويخرج عشرة ونصف بالضبط وإلا فمسئوليتك خطيرة فاهم يا صلاح.وكثيرا ما كنت أنتزع الضيف من أمام رئيس الوراء انتزاعا.
  3. لا أحد يدخل علي دون موعد محدد مسبق، وأذكر أن المرحوم الفريق محمد حيدر باشا حضر دون موعد وكان القائد العام للجيش ودخل علي سري باشا الذي طلبني وقال:

خذ سعادة الباشا وصله للسيارة .. وخرج حيدر باشا يمضغ شفتيه ويتعجب من تصرفات بلدياته سري باشا.

سري باشا يرفض مقابلة سفير تأخر خمس دقائق

حددنا الساعة الحادية عشرة لمقابلة طلبها سفير البرتغال تليفونيا من القاهرة وقد تأخر الديزل الذي كان موعد وصوله محطة سيدي جابر الساعة 40‚10 وكان به السفير الذي وصل إلى بولكلي بعد الموعد المحدد بخمس دقائق فرفض سري باشا مقابلته برغم أنه كان يعرف أن السفير صديق شخصي للملك فاروق ومقرب منه، وأنه يشاركه رحلات صيد البط أسبوعيا.

فقلت له إن السفير حضر دون أن تكون معه ملابس يستطيع بها المبيت في فندق حتى الساعة التاسعة والنصف من اليوم التالي وهو الموعد الجديد.

فقال: لقد قصدت تحديد الموعد بهذه الصورة لينام من غير بيجامه ويتعلم أنه يحضر في الموعد المحدد له بالضبط. وتمت المقابلة في اليوم التالي

ذلك القلب الطيب

والذين عرفوا المرحوم حسين سري باشا على حقيقة يذكرون ذلك القلب الطيب والإنسان الذي يغطي هذا كله بتكشيرة وصوت عالي في حدة ثم لا يلبث أن تنبثق منه حقيقته رحمه الله رحمة واسعة.

ذات مرة أعطاني خمسمائة جنيه لمصاريف البيت من ماله الخاص طبعا وأخذت أصرف منها وكان من بينها تذاكر سفر لابنته وزوجها الأستاذ إسماعيل مظلوم وكان ولد إسماعيل أغنى ماليا من سري باشا. وطلبني سري باشا ذات يوم وقال:

أنت أغنى ولا أنا.

فقلت: ما أعرفش ثروة رفعتك علشان أرد على السؤال

فقال: لا.. لا .. أنا أغنى.

فلما سألته عن سبب السؤال قال:

حسابي كام عندك.

فاستأذنته وأحضرت بيان المصروفات وناولته لدولته فمزقه ورماه في سلة المهملات وثار غاضبا. مش عيب تجيب لي كشف مكتوب .. قول لي عايز كام وبس.

فقلت له مبتسما:

على كل حال دي حركة كويسه ضيعت رفعتك أصل الحساب وأنا مخي مش دفتر ورفعك أكلت من علي الذي دفعته.

فقال لا.. أنت عارف الحساب، وآدي كمان خمسمائة جنيه أخرى

فقلت له:

يبقى أنا أغنى من رفعتك لأنني عاوز 625 جنيها فوق الخمسمائة الأولى فضحك وأعطاني 652 جنيها وطلب أن يكون الحساب أسبوعيا. ولم يمض على ذلك أسبوع حتى استقال من رئاسة الوزارة.وطلبني من منزله تليفونيا لأوافيه بأوراقه الخاصة.

فلما سلمته الأوراق بكي وقال:

يا صلاح أنا ماعنديش أولاد وأنا كنت سعيد بعملك معي كنت أعتبرك ابني

سري باشا واليوزباشي مهندس حسين زكي

طلبي مني رئيس الوزراء ووزير الحربية حسين سري باشا استدعاء المهندس يوزباشي حسين زكي من سلاح المهندسين لمقابلته.وجرت العادة أنه في مثل هذه المقابلات يتحتم علي البقاء مع رئيس الوزراء لحضور أوامره.وعند مقابلته لرفعة رئيس الوزراء سأله رفعته:

هل أنت المهندس المشرف على بناء المصنع الحربي بطره؟

فأجاب بالإيجاب.

ثم سأله:

إلى أي مرحلة وصلت في البنا؟

فأجاب الأساس والأعمدة المسلحة والسقف المسلح انتهينا منه.

فرد عليه:

ضروري من إزالة كل هذا.

فدهش اليوزباشي وقال لرئيس الوزراء.

أهد مليون جنيه دفعت في إنشاء هذا المصنع الحربي؟

فقال له :

نعم.. إنه أمر مني بإزالته فورًا.

فاحتد اليوزباشي قائلا:

يا أفندم مش معقول

وخبط رئيس الوزراء على المكتب بيده وصرخ:

أنا وزير الحربية بأمرك.

وقال له الضابط..

الأمر يصدر إلي من رئيسي مدير سلاح المهندسين أما أنا فلن أزيل وأعلم يا رفعة الباشا جيدا أن سبب هذا الطلب مرده لأنكم عند خروجكم من الوزارة تعينون بشركة الأسمنت بطره عضوا بمجلس إدارتها ولا تريدون لمصنع الأسمنت أن يكون هدفا حربيا.وخرج اليوزباشي غاضبا.. ثائرا..وهو الآن رئيس مجلس إدارة شركة فيبرو للأساس.

ومع القائم مقام محمود سيف اليزل خليفة

وكان القائم مقام محمود سيف اليزل خليفة مديرا لمكتب وزير الحربية قبل أن يعين حسين سري باشا وزيرا لها ودخل لكي يعرض بريد الوزارة على الوزير مرتديا الزي العسكري الصيفي البوشرت وغضب الوزير لارتداء القائم مقام مثل هذا الزي بدون قميص أو رباط عنق وقال له:

يا حضرة .. تاني مرة تلبس قميص وكرافته.

فقال له مدير المكتب:

متأسف أنت وزير وأنا مدير مكتبكم للشئون العسكرية والإدارية أما تغيير الزي فهو من سلطة القائد العام للقوات المسلحة وأخشى أن غيره فأحاكم بتهمة.. لبس غير لائق.

فثار مرة أخرى غاضبا وقال له.أنا الوزير الذي أصدر التعليمات وليس القائد العام.وأصر القائم مقام سيف اليزل على موقفه وانصرف دون عرض البريد.ولولا قيام الثورة لتغير مصير القائم مقام وأحيل إلى التقاعد بدلا من أن يكون أول سفير مصري في السودان الشقيق لمدة سنوات طويلة.

ومع اليوزباشي عادل طاهر

كان اليوزباشي عادل طاهر ياورا لوزير الحربية وكان حسين سري باشا يحب رياضة المشي فكان يسير في مناطق نائية مثل: الرأس السوداء والملكس وطريق أبو قير لمسافة خمسة كيلومترات يوميا..

وكان يرافقه في هذه المرحلة المرهقة الياور عادل طاهر صامتا.وفي يوم أراد أن يتجاذب معه أطراف الحديث لكي يخفف عن نفسه مشقة السير.

فقال له:

يا أفندم المشي رياضة جميلة.

ولكن رئيس الوزراء انفجر قائلا:

اسكت أنا ماشي بافكر في مهام الدولة مش في البامية والملوخية اللي بتفكر فيها أنت. فسكت الياور على مضض وهنا أحس رئيس الوزراء بأنه كان عنيفا مع الياور الشاب فسأله الرئيس: أنت رياضي؟

قال له:

طبعا يا أفندم

قال له:

بتلعب أيه؟

فأجاب:

كل أنواع الرياضة

فسأله رئيس الوزراء:

هل لعبت الشيش؟

فقال:

نعم

فقال له:

أي النوعين لعبت؟

فأجاب:

النوعين

وهنا حدث حوار طويل بين رئيس الوزراء وياوره حول الشيش لإلمام الرئيس بفنون اللعبة بسبب أن زوج إحدى كريماته كان بطلا من أبطالها.وأصبح عادل طاهر كأنه في طابو سير يمشي دون حديث.

في أثناء أزمة انتخابات نادي الضباط:

طلب المرحوم حسين سري باشا رئيس الوزراء المرحوم الدكتور محمد هاشم وزير الدولة المشرف على وزارة الداخلية فجاءه في الرئاسة وطلب سري باشا دخولي معه ودارت المحادثة كالآتي:

سري باشا فيه في المطرية عساكر الهجانة ن سلاح الحدود بتوع اللواء محمد نجيب ضربوا في عساكر اللواء حسين سري عامر، أنت سمعت بكده.

هاشم باشا أيوه دول كانوا خارجين من السينما وحصل احتكاك بسيط وانتهت المشكلة بتغلب فريق محمد نجيب .. والخلاف أساسه انتخابات رئاسة نادي الجيش.واستأذنت في الخروج وخرجت.

وبعد ذلك بيومين أطلق أحدهم الرصاص على اللواء حسين سري عامر ولم يصب بشيء.وقد أطلق الرصاص من سيارة ستود بيكر بيضاء.ولم يصل التحقيق الذي قام به البوليس والنيابة إلى معرفة السيارة أو من أطلق الرصاص وإن كان قد تردد وقتها أنه كان في السيارة ضابطان من الشباب أحدهما من رجال القوات المسلحة والثاني من بوليس القاهرة، وبالتأكيد لم يكن بينهما الضباط جمال عبد الناصر.

وزارة الهلالي باشا الثانية

على أثر استقالة المرحوم حسين سري باشا (20 يوليو) اتصلت به السيدة أصيلة هانم والدة الملكة ناريمان وأبلغته أن الملك سيكلف الهلالي باشا بتشكيل الوزارة وسيكون ذلك تكذيبا قاطعا لإشاعة المليون جنيه إياها.

فأخبرت السيدة بأن للهلالي باشا شروطا لقبول الوزارة والخروج من صومعته التي لزمها بعد استقالته هي تطهير الحاشية وإبعاد لفيف من المفسدين وعلى رأسهم إلياس أندراوس وكريم ثابت ومحمد حسن وبوللي وحلمي حسين .. فقالت:إن الملك قبل هذه الشروط.

وبالفعل اتصلت بالهلالي باشا فلم أجده بمنزله ولكني علمت أنه سيناول طعام الغداء على مائدة فريد زغلوك بمنزله بسان استيفانو واتصلت به تليفونيا وطلب مني الحضور فورا فذهبت ووجدت الهلالي باشا والأستاذين مصطفى وعلي أمين والأستاذ محمد حسين هيكل وتناولنا معا طعام الغداء.

وأخبرت الهلالي باشا بما دار بيني وبين أصيلة هانم وطلب مني إحضار قائمة الوزراء الذين كانوا تحت رئاسته في وزارته الأولى.

ثم ذهبنا معا إلى منزله بالمندرة وكان برفقته نفس الجماعة السابقة وقد قرأ الهلالي باشا أسماء الوزراء وأيد تعاون بعضهم معه في الوزارة المقبلة فيما عدا محمود غزالي باشا الذي كان وزيرا للزراعة في وزارته الأولى وطلب مني البحث عن وزير للزراعة.

ترشيح حسن كامل الشيشيني باشا وزيرا

وقد رجعت لأسماء الوزراء السابقين في الدليل المصري ووقع نظري على اسم المرحوم الشيشيني باشا رئيس مجلس إدارة بنك التسليف الزراعي، وعرضت اسمع على الهلالي باشا فوافق عليه فورا وطلب مني الاتصال به وعرض منصب الوزارة عليه فاتصلت بمنزله بالدقي ولكنني علمت أنه رحل إلى الإسكندرية بقطار الظهر وسألت عن عنوانه فلم أستدل عليه فكلفت ضابطا من حرس الوزراء بالمرور على جميع سماسرة الرمل وسؤالهم عن الذين استأجروا شققا أو فيلات حديثا أمكن لنا بعد طول البحث العثور على الشيشني باشا وقابلته في منزله بلوران وعرضت له الرغبة في تعيينه وزيرا للزراعة ولكنه اعتذر وكررت عليه العرض قائلا: إن دولة الهلالي باشا عرض اسمك على السراي ووافقت.واعتذر مرة أخرى.

وبعد إلحاح صرح لي بعدم قبول هذا المنصب بسبب أنه عضو مجلس إدارة البنك الأهلي ويتقاضي مكافأة ألف جنيه سنويا ويخشى أن تضيع هذه المكافأة وخاصة في عهد اتسم بعدم الاستقرار وتوالي الوزارات على الحكم وهو في حاجة إلى هذه المكافأة كما أنه لا تتوافر لديه بدلة الرد نجوت الرمادية للمثول أمام جلالة الملك عند حلف اليمين ولكنني ذللت هذه الصعوبة عندما عرض عليه جاكتي التي تناسبه تماما وقالت له: سوف أرسل لكل البدلة فورا وقد أرسلت له البدلة وارتداها وحلف اليمين ودخل الوزارة وخرج منها بعد ساعات بعد أن خسر مكافأة البنك الأهلي.

وقد عرضت قصة حسن كامل الشيشيني باشا على اللواء محمد نجيب بعد قيام الثورة بكافة تفاصيلها وظروفها وأخبرته بأنني مسئول عما لحق به من أضرار وتفضل سيادته ورد إليه المكافأة وبقي يتقاضاها إلى أن توفاه الله.

تعيين القائم مقام إسماعيل شيرين بك

في أثنا محاولة الهلالي باشا تشكيل الوزارة بحضور الأساتذة علي أمين ومصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل وفريد زعلوك باشا دخل علينا الدكتور حافظ عفيفي باشا رئيس الديوان الملكي وقتئذ وهنأ دولة الهلالي باشا بإسناده الوزارة إليه.

ثم طفق يتباحث معه في المرشحين لدخول الوزارة فأخبره بأسماء المرشحين الجدد وهم حسن كامل الشيشيني باشا والمهندس يوسف سعد والأستاذ مريت غالي بك والدكتور سيد شكري بك.

وهنا سأله عفيفي باشا عن رأي في القائم مقام إسماعيل شيرين بك زوج الأميرة فوزية فأثنى عليه الهلالي باشا ثناء كبيرا وأشاد بأخلاقه وأنه من بيت طيب.

وكان الهلالي باشا ينتوي أن يستند إلى مرتضى المراغي وزارة الحربية كما فعل في وزارة أول مارس سنة 1952.

وطلب مي كتابة أسماء المرشحين الذين وقع عليهم الاختيار لإصدار المرسوم الملكي بتعينهم وزراء وبالفعل أعد المرسوم من الإدارة العربية لرفعه إلى القصر وأرسل فعلا وعاد عفيفي باشا بالمرسوم دون توقيعه من الملك وسأله الهلالي باشا عن سبب عدم إدراج اسم إسماعيل شيرين ضمن الوزراء وزيرا للحربية برغم أن الملم موافق على تعيينه فبدت الدهشة على وجه الهلالي باشا وقال:

مين قال إني أرده وزير حربية.

فقال حافظ باشا

لقد أخذت رأيك وأنت مدحته.

فرد الهلالي باشا:

لقد سألتني عن شخصي معين دون الوظيفة يعني لو سألتني عن صلاح الشاهد وقتل كويس يبقى وزير يا حافظ باشا وزير الداخلية مرتضى باشا هو وزير الحربية.

فقال حافظ باشا:

لقد فهمت خطأ ورفعت إلى الملك موافقتكم على تعيينه وزيرا والحل الوحيد هو أن أقدم استقالتي من رئاستي للديوان حلال لهذه الأزمة.وهنا حاول كل الموجودين بصالون الهلالي إقناعه كي تمر الأزمة خاصة وأن الملك أجاب كل مطالب الهلالي باشا من تطهير وإبعاد لرجال الحاشية.

ورضي الهلالي باشا يدون أن يقتنع..ودخل القائم مقام إسماعيل شيرين بك وزيرا للحربية.وهنا تتحقق نبوءة مصطفى النحاس باشا الذي قال عندما تولى عفيفي باشا رئاسة الديوان الملكي أواخر سنة 1951 إن عفيفي باشا رجل الولايات المتحدة الأمريكية المرتقب. ويبدو أن حافظ عفيفي باشا أراد بإدخال إسماعيل شيرين بك وزيرا للحربية إثارة الخواطر وتهييج المشاعر على الملك تعجيلا بثورة الجيش.

كاد وجه التاريخ يتغير

وعين القائم مقام إسماعيل شيرين بك وزيرا للحربية بناء على طلب الدكتور حافظ عفيفي باشا.

ولكن إسماعيل شيرين رفض أن يحلف اليمين وحاول أن يقبل يد الملك والدموع في عينيه. يا مولاي أنا خادم العرش.. والعرش في خطر.. ولن ينقذ العرش سوى شخص واحد هو مصطفى النحاس.

وأجفل الملك ولكن إسماعيل شيرين استمر يقول:

يا مولاي نحن أمام بوادر انقلاب في الجيش وسوف يطيح بالعرش وأنا مخلص لجلالتكم وأطالبكم بإنقاذ العرش المفدى.كان إسماعيل شيرين صادق في لهجته عندما أردف يقول: أرجو أن تعطيني الفرصة لإثبات ولائي لجلالتكم. ورد الملك:وكيف ذلك؟

أرجو أن تكلفني بأن أذهب على ظهر طائرة خاصة لإحضار مصطفى النحاس باشا من أوربا في ساعات وأنا كفيل بأن الشعب عندما يرى زعيمه بين صفوفه سوف يهتف للعرش وجلالتكم.

وابتسم الملك .. يا مولاي إنها فرصة أرجو أن تغتنمها.وكان الملك مترددا وكان يخشى سطوة النحاس باشا بين جماهير الشعب وقبل الملك في النهاية واستعد إسماعيل شيرين للسفير في آخر الأمر.

ولكن الداهية حافظ عفيفي باشا رئيس الديوان الملكي وقتئذ تدخل لدى الملك لمنع إسماعيل شيرين من تنفيذ اقتراحه وقال ساخرا.إن إسماعيل شيرين قليل التجربة في الحياة السياسية إنه شاب لم ينضج بعد ولو دعي النحاس باشا لمثل هذا الأمر لشارك بنفسه في خلع الملك واقتنع الملك.

وقامت الثورة التي انتهت بخلع الملك بعد ثلاثة أيام.وكأن إسماعيل شيرين كان يقرأ في كتاب مفتوح.

العهد الثاني الثورة

انتخابات نادي الضباط

إذا أردنا أن نؤرخ ثورة 23 يوليو سنة 1952 فإنه تجدر بنا الإشارة إلى واقعة معينة، هي واقعة انتخابات نادي الضباط فقد كانت هذه الواقعة أيضا المظهر العلني لحركة الضباط السرية، والمحك الأول لإرادة الضباط الأحرار.

واذكر بمناسبة علاقتي بالجيش وأهله منذ نشأتي الأولى أن انتخابات النادي كانت تتم في هدوء بحيث لم يكن أحد من الساسة الكبار يعني بالاهتمام بها.

فانتخابات النادي كانت انتخابات مهنية أو طائفية.أما حوادث انتخابات النادي سنة 1952 فقد كانت آخر تمخض عنه أحداث عظام.فقد قرر اللواء محمد نجيب وهو الذي يطلق القصر عليه اسم عرابي رقم 2 أن يرشح نفسه رئيسا لمجلس إدارة النادي بعد أن تقرر نقله من سلاح الحدود.

وكان رجل القصر اللواء حسين سري عامر مرشحه للرئاسة.واجتمعت الجمعية العمومية للضباط وقررت عدم جواز ترشيح اللواء حسين سري عامر لأنه من سلاح الحدود وهي لا تعتبره سلاحا لأنه يضم ضباط من مختلف الأسلحة.

وبدأت الانتخابات واشتد وطيسها وبدأت القصة.فقد كانت فترة الانتخابات فرصة يلتقي فيها اللواء محمد نجيب مع الضباط في ناديهم بالزمالك الذي كان قد ضم إليه مبنى الاتحاد المصري الإنجليزي وهو النادي الذي لعب دورا أساسيا في توجيه السياسية المصرية خلال الحرب العالمية الثانية.واختمرت فكرة الانقلاب

فقد كان الضباط يحتشدون في النادي كل ليلة، وكانت المناقشات صاخبة ولم تكن تدور حول النساء والخمر، بل كانت في الموضوع المفضل وهو الموقف السياسي العام بأبعاده واتجاهاته بعد أن تدهورت الأحوال السياسية في مصر عقب حريق القاهرة.

وكان المرشحون لرئاسة النادي: اللواء محمد نجيب، واللواء حافظ مدير سلاح المدفعية واللواء إبراهيم زكي الأرناءوطي مدير المهمات واللواء سيد محمد مدير الصيانة.

والواقع أن اللواء محمد نجيب كان رمزا لشيء جديد، وكان باقي المرشحين قيادات تقليدية ولعل ذلك كان مؤشرا للأصوات التي حصل عليها المرشحون.

فقد حصل اللواء محمد نجيب على مئات من الأصوات وحصل باقي المرشحين على 58 صوتا وكان مجلس الإدارة يضم بعض الأعضاء الذين سوف يعلو نجمهم يوما مثل القائم مقام رشاد مهنا الذي اختير سكرتيرا للنادي والذي أصبح وصيا على العرش فيما بعد والبكباشي زكريا محيي الدين وقائد الجناح حسن إبراهيم اللذين وصلا إلى منصب نائب رئيس الجمهورية والصاغ جمال حماد الذي كتب للسينما المصرية قصة فيلم غروب وشروط مؤرخا لأحداث الثورة كما صورها خياله والذي أصبح يوما محافظا لأحد أقاليم الجمهورية.

ولقد كانت نتيجة الانتخابات مفاجأة للقصر .. وكان لابد أن يحدث شيء فقد استدعى الفريق محمد حيدر واللواء نجيب والقائم مقام رشاد مهنا إلى مكتبه وبدون مواربة قال لها:

اسمعا .. إن أوامر (مولانا) أن يدخل حسين سري عامر مجلس إدارة النادي ولكن اللواء محمد نجيب ابتدره قائلا:

يا سعادة الفريق، إن هذا ليس من حق مجلس الإدارة بل هو من صميم حقوق الجمعية العمومية، فإذا أصر مولانا فإنني سأعقد الجمعية العمومية وأعرض الأمر عليها وقد استمرت الجلسة سع ساعات حتى الثانية صباحا في حوار..

وقال لي اللواء نجيب فيما بعد:

إننا لم نتزحزح عن موقفنا قيد أنملة، برغم أن حيدر باشا خرج إلى التهديد السافر عندما أعيته الحيل.

ولكن القصر لم ييأس، فقد حاول تعديل لائحة النادي عن طريق الجمعية العمومية بما يسمح بأن يدخل حسين سري عامر ممثلا للحدود، ولكن هذه المحاولة لم تسفر عن أي نجاح.

وأخيرا استقر الرأي على حل مجلس إدارة النادي وتعيين مجلس مؤقت برئاسة اللواء علي نجيب وهو شقيق اللواء محمد نجيب ونقل رشاد مهنا إلى العريش.وقد أثار ذلك بلبلة في الخواطر وإن كنت موقنا بأن هذا النقل كان بناء على طلب رشاد مهنا نفسه بقصد الابتعاد عن القاهرة وتوقيا لغضب الملك واتقاء لما تنذر به الأيام.

وكان اللواء محمد نجيب موضوعا تحت الرقابة ورجال البوليس السري يحرمون حول منزله، وبعض الأفراد يحاولون استدراجه في الحديث وهو لا يثق بهم.عمد اللواء نجيب إلى الحيطة والسرية المطلقة في الاتصالات ولم تكن الثمرة ناضجة في رأي اللواء نجيب للقيام بأية حركة.

وكان الموقف بعد حل النادي لا يخرج عن اتخاذ إحدى الوسائل التالية:

الأولى: إرسال برقيات احتجاج من الضباط للملك. الثانية: احتلال النادي بالقوات المسلحة. الثالثة: جمع كبار الضباط واعتقالهم وفرض شروط الضباط على الملك.

وكان اللواء نجيب يعارض في الوسيلتين الأولى والثانية فمن شأن الوسيلة الأولى الكشف عن أسماء الضباط وعدم استجابة الملك لهم أما الوسيلة الثانية فقد كانت عملا متطرفا ربما يؤدي إلى التصادم بين الجيش وإراقة دماء المصريين بأيد مصرية.

أما الوسيلة الثالثة فقد وافق عليها اللواء نجيب وكانت الإرهاصات جميعًا تنبئ عن شيء ما بعد أن انتشرت منشورات الضباط الأحرار وبدأ توزيعها على نطاق واسع.

ويذكر اللواء نجيب أنه فوجئ بزيارة اللواء أحمد فؤاد صادق في مكتبه ليقص عليه همسا أنه كان في منزل الدكتور يوسف رشاد وإذا به بعد اتصال تليفوني يعود إليه قائلا بأنه سوف يقبض على اللواء محمد نجيب لاتهامه بتزعم حركة ثورة داخل الجيش.

واستمر أحمد فؤاد صادق في روايته لمحمد نجيب إنه نفي ذلك نفسا قاطعا وإن يوسف رشاد قال له: إن المسألة خطيرة لأنها تتعلق بحياة الملك.ويبدو أنه اقتنع

وفي يوم 18 يوليو 1952 حضر إلى منزل اللواء نجيب رجل كان وثيق الصلة به وطلب منه الذهاب لمقابلة المرحوم الدكتور محمد هاشم باشا وزير الداخلية وزوج كريم حسين سري باشا والرجل القوي في وزارته هذا الرجل هو المرحوم طه عبد المطلب مدير مكتب الدكتور هاشم بوزارة الداخلية.

وكان هذا الرجل يعمل مع المرحوم محمود فهمي القيسي باشا بالداخلية وقريبا لزوجة محمد نجيب نفسه.وعندما وصل اللواء نجيب إلى المنزل المقصود لم يجد الدكتور هاشم ومرت الدقائق ثقيلة بطيئة، وقد روي اللواء نجيب أنه أحس بالخوف والقلق يتسللان إلى نفسه.

وجاء الوزير.. وبدأ نجيب يناقش الوزير..وكان مدار النقراشي هو حالة التذمر التي نشبت في الجيش. وكان محمد نجيب يرجع ذلك إلى الأسلوب الدكتاتوري الذي تستعمله السلطة في حكم البلاد.

وكان الحديث طويلا ويقول محمد نجيب إن الوزير عرض عليه منصب وزير الحربية لإزالة أسباب التذمر وخلق حالة من الرضا.ولم ين ترشيح محمد نجيب لمنصب وزير الحربية هو الأول من نوعه فالقصر كان يعارض معارضة شديدة مثل هذا الاقتراح منذ وزارة الهلالي الأولى.واعتذر نجيب هذه المرة وشعر بالمناورة لإبعاده عن الجيش.

وذكر لي محمد نجيب يوما أن حديثه مع محمد هاشم باشا امتد إلى الساعات الأولى من الليل وكان هاشم باشا ذكيا أريبا وبطريقة عابرة قال:هناك لجنة من 12 شخصا عرفت الجهات المسئولة أسماءهم.

ولم يسأل محمد نجيب عن ذلك ولم يفصح هاشم عن أسماء هؤلاء الأعضاء ولكن محمد نجيب قال: يا معالي الوزير إن هناك شعورا عاما وجارفا في صفوف الجيش ضد كثير من تصرفات رجالي السراي.

وانتهت الجلسة وعاد محمد نجيب إلى داره مع الدكتور هاشم في سيارته حرصا من الدكتور هاشم على حياة محمد نجيب الذي كان الأمر مدبرا لاغتياله وفي الصباح الباكر حضر إلى منزل الصاغ جلال ندا الضابط السابق الذي كان يعمل محررا عسكريا بدار أخبار اليوم ومعه الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس تحرير مجلة آخر ساعة لسؤاله عما دار في مقابلته مع هاشم باشا واستبد العجب باللواء نجيب.

وكان محمد حسنين هيكل مراسلا حربيا في أثناء معركة فلسطين وحضر لتغطية القتال عقب معركة أسدود كما أن نجيب كان قد عرف هيكل بالأستاذ عبد الحميد صادق المحامي الذي كان يبذل ماله على كتائب الفدائيين في أثناء معركة الكفاح ضد الإنجليز بالقناة عقب إلغاء المعاهدة سنة 1951 لعمل تحقيق صحفي عن الفدائيين.

وفي أثناء الجلسة حضر إلى منزل نجيب البكباشي [[جمال عبد الناصر]] والصاغ عبد الحكيم عامر، على غير موعد.وفي الجلسة أيضا تحدد موعد الثورة وإن لم يعلم به هيكل.

أحمد نجيب الهلالي باشا

تخرج في مدرسة الحقوق الملكية سنة 1912 وكان أول دفعته وكانت العادة المتعبة أن يسافر الأول في بعثة إلى باريس للحصول على درجة الدكتوراه في القانون من جامعاتها كالمغفور لهم الدكاترة: 1912 باشا – حسن نشأت باشا- عبد الحميد أبو هيف بك – وبهي الدين بركات باشا – ولكن والده رفض أن يسافر إلى الخارج وحرم من البعثة التي رشح لها المرحوم محمد المفتي الجزائري باشا الذي صار وزيرا للأوقاف في وزارة الهلالي باشا.

وقد عين الهلالي مساعدا للنيابة ثم نقل إلى إدارة التفتيش بوزارة الحقانية ومنها إلى قضايا الخاصة الملكية ثم أصبح أستاذا في مدرسة الحقوق وكان من بين زملائه أعلام القانون في مصر في هذا القرن كالمغفور لهم على ماهر باشا وسيد مصطفى باشا وكامل مرسي باشا وعبد الحميد أبو هيف بك والعميد الفرنسي ليون ديجي.

وعند إنشاء الجامعة المصرية سنة 1925 اقترح فصل الأساتذة الذين ليست لهم أبحاث قانونية وفي غضون ثلاثة أشهر أخرج الهلالي باشا مؤلفه الجليل عن عقد البيع وهي أول دراسة في القانون المدني تميزت بالأصالة والعمق وقد طبع هذا المؤلف فيما بعد مرتين بإشراف الدكتور حامد زكي باشا أحد تلاميذ الهلالي باشا.

وترك الهلالي باشا التدريس بالجامعة ليعين مع زميله الدكتور محمد صبري السوريوني بالمكتب الفني بوزارة العدل وسكرتيرا عاما لوزارة المعارف بعد ذلك ثم وكيلا لها.

تولى رئاسة لجنة التحقيق في أثناء وزارة عبد الفتاح يحيي باشا التي خلفت وزارة إسماعيل صدقي باشا في فضيحة الكورنيش وما نسب إلى المهندس الإيطالي دانتمارو وإلى صدقي باشا رئيس الوزراء من تهم الرشوة والفساد واستغلال النفوذ وحقق الهلالي باشا مع أحمد صديق باشا وإبراهيم سيد أحمد بك وأحمد كامل باشا من كبار موظفي بلدية الإسكندرية والأخيران من أقرباء صدقي باشا.

وانتهى الهلالي باشا من التقرير ونشره بروح القاضي النزيه فاستدعاه عبد الفتاح باشا يحيي وقال له: يا نجيب بك لو كنا عارفين أنهم ح يطلعوا براءة ما كناش عملنا اللجنة دي ولم يرق ذلك الهلالي الذي صاح قائلا.

لو كنت أعرف أنكم عاوزين تزوروا التحقيق لم أكن أقبل العمل في هذه اللجنة.وتقلد الوزارة أول مرة سنة 1935 في وزارة توفيق نسيم باشا وكان يتولى وقتئذ منصب المستشار الملكي بقلم قضايا الحكومة وكان بين زملائه المغفور له:

أحمد عبد الوهاب باشا الذي عين وزيرا للمالية وقد حدث أن مرض أحمد باشا مرضا خطيرا وبالكشف عليه قرر الطبيب الإنجليزي الذي دعي لعلاجه أنه مرهق إرهاقا كبيرا وأنه سوف يقضي نحبه من العمل بوزارة المالية ولا بد أن يترك الوزارة وإلا ساءت حالته.

وفكر الهلالي باشا في المسألة وقلبها على وجوهها وأدرك أنه لو علم عبد الوهاب باشا بحالته الصحية فإنه سوف يموت من الخوف ولذلك فقد اقترح الهلالي باشا أن تقسم وزارة المالية إلى وزارتين هما المالية والتجارة، واحتفظ الهلالي لنفسه بوزارة التجارة وقد ثار عبد الوهاب باشا من توزيع اختصاصات وزارته ولكنه علم بعد ذلك بالحقيقة فشكر الهلالي باشا.

وفي الانتخابات التي أجريت بعد تأليف الجبهة الوطنية سنة 1935 وأجرتها وزارة علي ماهر باشا ترك الوفد للهلالي باشا دائرة في المنزلة رشح نفسه فيها لينزل معترك الحياة العامة لأول مرة، وقد اعتبر الهلالي باشا مرشحا وفديا وأصبح رئيسا لكل من اللجنة الدستورية واللجنة التشريعية بمجلس النواب أثنا وزارة النحاس باشا.

وفي أواخر عهد الوزارة وقبل إقالتها في 30 ديسمبر سنة 1937 بشهرين تولى الهلالي باشا وزارة المعارف وخطب خطبته الشهيرة في الدرب الأحمر التي جاء فيها:

إذا لم أكن مع الوفد في البداية فإنني مع الوفد إلى النهاية:

وفي سنة 1938 عرض رفعة محمد محمود باشا منصب وزير المعارف على الهلالي باشا ولكنه اعتذر. لم ينعم على الهلالي باشا برتبة الباشوية إلا في وزارة الوفد سنة 1942وكان وزيرا للمعارف ولكنه لم يشترك في الوزارة الوفدية سنة 1950 ولقد ظل الهلالي باشا وفيا للنحاس باشا، وعندما دب الخلاف بين النحاس باشا ومكرم عبيد باشا رفض الهلالي باشا إلا أن يلتف حول النحاس باشا برغم صداقته لمكرم باشا بل إنه نصح مكرم باشا ألا ينشق على الوفد وحذر من كيد الكائدين له ولكن مكرم باشا لم ينتصح وكانت المأساة.

توفيت زوجته فجأة وهي تتوضأ وحزن عليها حزنا شديدا وعندما قابل فريد زعلوك باشا قال له في نبرة من الأسى.لقد أصبح من المستحيل أن أعيش بعدها لقد كانت رفيقة عمري وشبابي وشريكة شيخوختي. وبعد عشرة أيام انتقل إلى رحمة الله العالم الجليل والسياسي النزيه والمصلح الكبير الذي كان يحرص على كرامته فلا يزيد توديعه للسفير البريطاني عن باب مكتبه.

وكان معروفا أنه يناصب القصر العداء فقد نشر بتوقيع المرحوم أحمد قاسم جودة عديدا من المقالات الشهيرة بعنوان (مخالب القطط) و (آن لنا أن نصرح) كان رحمه الله قمة شامخة في الأدب السياسي الرفيع شأنه في المحاماة حيث كانت حيثيات الأحكام تصدر متضمنة فقرات كاملة من مذكراته في القضايا التي كان يترافع فيها وما ترافع إلا لإحقاق العدل وتأكيد سيادة القانون.

ليلة 22 يوليو 1952 كما يرويها فريد زعلوك

يذكر فريد باشا زعلوك وكان وزيرا للتجارة والصناعة في وزارة دولة أحمد نجيب الهلالي باشا الثانية التي عاجلتها حركة الجيش في 23 يوليو سنة 1952 فأطاحت بها قبل انقضاء ثماني عشر ساعة على تشكيلها وطويت بها صفحة من تاريخ مصر؟

يذكر أحداث مساء 22 يوليو 1952 كما يلي:

إن الهلالي باشا اتصل به تليفونيا في منزله وأبلغه بأن هناك ثورة في البلد كما أن مرتضى المراغي وزير الداخلية اتصل به ونقل إليه أن الجيش بدأ في التمرد وأن هناك تفكيرا في إصدار الأوامر للواء أحمد طلعت حكمدار القاهرة لإخماد التمرد ولكن الأستاذ زعلوك كان له رأي آخر أشد حذرا وخشي أنه لو قبض على الثائرين وضرب على أيديهم تثور ثائرة الجيش ويحدث مالا يحمد عقباه، كما أن هناك سببا آخر يدعو إلي التريث، هو أن الوزارة كانت تشعر بالفساد الذي ضرب أوصاله في الحياة المصرية وأن الوزارة كانت تريد أن تكبح جماح الملك واستبداده وتقلم أظافره.

ويستطرد الأستاذ زعلوك في روايته ليقول:

إنه اتصل تليفونيا بالأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس تحرير آخر ساعة فقيل له إنه نائم ولنكه طلب إيقاظه، فاستيقظ وطلب منه الأستاذ زعلوك أن يذهب إلى عابدين وأ، يتصل به.

واتصل الأستاذ هيكل بالوزير زعلوك من أخبار اليوم وأخبره أن معه على الخط اللواء محمد نجيب فاتصل الأستاذ زعلوك باللواء نجيب عن طريق أخبار اليوم وأخبره اللواء نجيب أن أحمد مرتضى المراغي باشا قد كلفه بأن يهدئ من ثورة الثائرين ولكن ليست لديه أوامر كتابية بذلك كما أنه لا صفقة له واعتذر عن فعل أي شيء ولكن الأستاذ زعلوك رجا اللواء نجيب أن يفعل ما يرضى ضميره وبخاصة أن وزير الداخلية في الإسكندرية وأن اللواء نجيب في القاهرة.وانتهى الاتصال..

وذهب زعلوك باشا إلى رئيس الوزراء وألغه ما حدث وذهبا معا إلى بولكلي فوجدا الأستاذ مصطفى أمين في وزارة الداخلية واتصل الأستاذ زعلوك باشا باللواء نجيب مرة ثانية ليكلمه الهلالي باشا.

وقال الهلالي باشا.. في نبرة جادة يا سعادة اللواء إن الإنجليز تحركوا على بعد 45 كيلو متر من القاهرة ونحن لا نريد أن نكرر حكاية عرابي ولا نريد حربا أهلية تراق فيها الدماء ولا نريد بأي حال من الأحوال أن تكرر مسألة الاحتلال.واستمر الهلالي باشا يقول.

إذا كانت للحركة مطالب معينة فطائرتي موجودة وأنا قادم إلى القاهرة أما إذا كانت الحركة أبعد من ذلك فإن ردك يكون أبعد عن طريق الإذاعة.واجتمع الهلالي باشا بوزير العدل كامل مرسي باشا والمفتي الجزايرلي باشا وزير الأوقاف للمشاورة فيما يجري من الأمور وعرض أحمد مرتضى المراغي أن يستقل الطائرة إلى القاهرة وكان مرافقا له الصحفي مصطفى أمين.

وفي الساعة الحادية عشرة مساء اتصل الأستاذ زعلوك باللواء نجيب مرة ثالثة وقال له:

يا سعادة اللواء أنتم ثوار ونحن سياسيون وإن معنا قوات.

فقال اللواء نجيب:

يا معالي الباشا كلنا احترام وتبجيل لدولة الهلالي باشا ودولته أستاذي وقد منحني الليسانس ولكن لنا اعتراضات على بعض الأشخاص من الوزراء.فقال له الأستاذ زعلوك مستفسرا عن هؤلاء الأشخاص؟فأجاب اللواء نجيب.إسماعيل شيرين ومرتضى المراغي.

ويبدو أن الحديث لم يرق الأستاذ زعلوك باشا فقال له:

اعتبر وزارة الهلالي باشا مستقبلة. فأجاب اللواء نجيب .. آسفا.كنا نود بقاء الهلالي باشا ولكن الأغلبية تريد رفعة على ماهر باشا.وطلب الأستاذ زعلوك رفعة علي ماهر وقص عليه ما حدث.

وكان الهلالي قد ذهب إلى القصر وأبلغ الملك ما حدث ولكن الملك رفض أن يكلف على ماهر باشا بتشكيل الوزارة بحجه أن ماهر باشا أيقظه في الفجر وقال له: إن بعض الضباط حضروا إليه فطردهم شر طردة وقال لهم: إنه لا يعرف للبلاد إلا سيدا واحدا .. هو الملك.

ولكن الهلالي باشا نصح الملك بعرض الوزارة على رفعة علي ماهر باشا توقيا لما قد يحدث. وأخيرا أعن الملك للنصيحة وطلب منه أن يكلف حافظ عفيفي باشا على ماهر باشا بتأليف الوزارة.

ولم يكتف الهلالي باشا، بل اتصل شخصيا بعلي ماهر باشا من بولكلي ولكن على ماهر باشا طلب إمهاله ساعة ليفكر في الأمر.ولكن يبدو أن الأمور كانت تسير سيرا خطيرا فقد صرح الهلالي باشا الساعة الخامسة بأن الموقف جد خطير ولا يحتمل الإبطاء.

ولكن على ماهر باشا اتصل بالهلالي باشا وقال له: إن الموقف أصبح في يده وأنه سيحضر غدا إلى قصر المنتزه مباشرة.وقد تمت المقابلة وكان الملك قد طلب إحضار الهلالي باشا، ولكن علي ماهر باشا تجاهله وطلب مقابلة الملك رأسا.ويذكر زعلوك باشا.أن الهلالي باشا طلب من الملك التنازل عن العرش إلى ولي العهد.

كما يذكر أن الهلالي باشا اتصل بالملك ورد عليه مصطفى صادق الطيار (عم الملكة ناريمان) وطلب إليه أن يفاوض الضباط، وقد اعتبر الهلالي باشا حين أبلغه الملك بالرجوع إليه في مسائل المفاوضات أن المسألة متعثرة لأن بعض الضباط الملتفين بالملك كانوا قد هونوا من شأن الحركة.

ومما يذكر أن السفير الأمريكي جيفرسون كافري اتصل بالهلالي باشا مستوضحًا الأمر فقال الهلالي باشا: إن المسألة داخلية.وكان كريزويل الوزير المفوض بالسفارة البريطانية قد اتصل بالهلالي باشا في منزله في أثناء وزارة حسين سري باشا وحذره مما في منزله في أثناء وزارة حسين سري باش وحذره مما يحدث لو وقع حادث جديدي كحريق القاهرة يؤدي إلى المساس بحياة الرعايا الأجانب. وكان تهديدًا سافرًا من السفارة البريطانية للهلالي باشا قبل تأليفه الوزارة.

ليلة 22 يوليو 1952

ذهب إلى نادي الصيد بالإسكندرية للعشاء مساء 22 مايو وفي الساعة التاسعة والنصف طلبتني السيدة أصيلة هانم والدة الملكة ناريمان للذهاب إلى منزلها.

وهناك وجدت الملك فاروق:

وقالت أصيلة هانم إنه يبدو أن في القاهرة حركة للجيش غير عادية وقد طلبتك لإبداء رأيك.

فتوجهت إلى الملك قائلا:

جلالتك تلبس بدلة الماريشالية وتتوجه إلى رئاسة الجيش في القاهرة وتقابل ضابط الحركة وتبحث معهم مطالبهم

فرد الملك: بعد أن فكر قليلا:

أنت عاوزني أروح أسلم نفسي بنفسي لهم علشان يغتالوني أو يعتقلوني لا لن أذهب بهما مهما كانت الظروف. وعندئذ طلبني المرحوم نجيب الهلالي باشا للذهاب إلى رئاسة الوزارة بولكلي فاستأذنت وغادرت المنزل (كما سيأتي تفصيله بعد)

وأذكر أن أحد السادة أعضاء مجلس قيادة الثورة قال لي بعد نجاح الحركة إنه كان في تقديرها أنه إذا حضر الملك إليهم وبحث معهم أسباب حركتهم وأقر وجهة نظرهم فسيعودون إلى الثكنات.

بيان الثورة الأول

صباح الأربعاء 23 يوليو قصد البكباشي أنور السادات إلى الإذاعة وتوجه إلى غرفة المذيع ليعلن بيان الثورة الأول.

وامتنع المذيع عن السماح للرئيس السادات بإذاعة البيان إلا بعد موافقة الرقيب العام الأستاذ أنور حبيب رئيس ديوان المظالم الآن واتصل البكباشي السادات بالأستاذ أنور تليفونيا فواقف على إذاعة البيان على مسئوليته الخاصة وحمل الأثير صوت الرئيس السادات يعلن انتهاء عهد وبدء عهد..

الوزراء يأكلون الساندويتش

وصل المرحوم علي ماهر باشا جابر الساعة العاشرة والدقيقة الأربعين وقصد فندق سان ستفانو وطلبني المرحوم محيي الدين فهمي بك وتوجهت للفندق حيث أملاني رفعة علي ماهر باشا مسودة كتاب قبوله تأليف الوزارة يوم الخميس 24 يوليو ثم تحدد موعد مقابلته الملك وأداء الوزارة اليمين الدستورية وقد تم ذلك في ذات اليوم حيث كان ماهر باشا قد دبر أموره مع الضباط والوزراء المختارين وتم التشكيل على الوجه التالي:

علي ماهر باشا للرئاسة الداخلية والخارجية والحربية والدكتور إبراهيم شوقي للصحة وإبراهيم عبد الهادي للتجارة والصناعة والتموين وسعد اللبان للمعارف ومحمد علي رشدي للعدل وعبد الجليل العمري للمالية والاقتصادي وألفونس جريس للزراعة وزهير جرانة للمواصلات والشئون الاجتماعية ومحمد كامل نبيه للأشغال وفؤاد شيرين للأوقاف وعبد العزيز عبد الله سالم للشئون البلدية والقروية.

ومن المصادفات أن الأستاذ عبد الجليل العمري لم تكن لديه بدلة الردينجوت الرمادية ليؤدي اليمين أمام الملك فأعطيته بدلتي، مثل ما حدث مع المرحوم حسن كامل الشيشيني قبل ثمان وأربعين ساعة.

اللواء نجيب في بولكلي

وفي اليوم التالي الجمعة 25 يوليو قدم دار الرئاسة في بولكلي اللواء أركان حرب محمد نجيب ومعه قائد الجناح جمال سالم واليوزباشي إسماعيل فريد واستقبلت اللواء نجيب كما اعتدت من سنوات طوال من الصلة العائلية وقلت له:

إيه إلي عملتوه ده بكرة الملك حيشنقكم.

فضحك وقال:

ربنا يسهل يا أبو صلاح.واستقبل ماهر باشا اللواء نجيب ومرافقيه. وطلب اللواء نجيب إبعاد ستة من حاشية الملك هم.إلياس أندراوس وأنطوان بوللي والطيار حسن عاكف، والدكتور يوسف رشاد، والأميرالاي محمد حلمي حسين ومحمد حسن.

وكان كريم ثابت قد قدم استقالته ..ولما أبلغ الملك وافق وقدموا جميعا استقالاتهم..وأمر الملك بالإنعام على اللواء محمد نجيب برتبة فريق.

الملك ينتقل إلى قصر رأس التين

وانتقل الملك في سيارته ومعه الملكة ناريمان وولى العهد أحمد فؤاد وتولى بنفسه قيادة السيارة وتبعتها سيارة أخرى فيها الأميرات بناته إلى قصر رأس التين ولم أعلم سببا لهذا الانتقال من قصر المنتزه الذي لم يره الملك بعد ذلك.

عزل الملك

وفي الساعة التاسعة من صباح السبت 26 يوليو قدم الرئاسة اللواء محمد نجيب لمقابلة علي ماهر باشا وكان رفعته قد توجه إلى قصر رأس التين حيث طلبه الملك من سان ستفانو بعد أن أطلق جنود الحركة الرصاص على قصر رأس التين ردا على رصاص صدر من الحرس الملكي ظنا منه أن الجنود يهدفن الاستيلاء على القصر.

وكان مستر سباركس المستشار بالسفارة الأمريكية موجودا بدرا الرئاسة حيث قابل الأستاذ سليمان حافظ وهو في أشد حالات الاضطراب وقال له إنه موفد من السفير جيفرسون كافري لمعرفة حقيقة إطلاق الرصاص على قصر رأس التين ومدى ما ينجم عن ذلك من أضرار قد تسيء إلى مصالح مصر.

وكانت فرصة للأستاذ سليمان حافظ الذي أبلغ اللواء نجيب برسالة سفير أمريكا وقابله المستشار فأهمه اللواء نجيب أن حرس القصر ظن أن القوات التي اقتربت منه وهي إحدى فرق المحافظة على النظام تبغي الهجوم وأن الأمر قد انتهى وأنه أمر بإجراء تحقيق وانصرف مبعوث السفير الأمريكي.

وبعد فترة حضر علي ماهر باشا حيث قابله اللواء نجيب وقدم له إنذار الجيش للملك بالتنازل عن العرش قبل الساعة الثانية عشرة ظهرا ومغادرة البلاد قبل السادسة مساء.

وكان رد علي ماهر باشا ما يلي:

زي ما تشوفوا....وغادر اللواء نجيب الرئاسة وبعد دقائق وكانت الساعة قد قاربت العاشرة قصد علي ماهر باشا قصر رأس التين وقابل الملك وأبلغه الإنذار ونصحه بالقبول ووافق الملك دون أيه مناقشة.

مطالب الملك

وقد سأله علي ماهر باشا عن وسيلة السفر وهل يكون جوا أو بحرا فقال الملك إنه بفضل السفير على الباخرة المحروسة على أن يحرسها الأسطول المصري حتى إيطاليا وأن تصحبه زوجته ناريمان وأنبهما الأمير أحمد فؤاد وبنات الملك من الملكة فريدة وأن يودع بصورة تليق بملك تنازل عن عرشه باختياره وتشترك الحكومة في وادعه ممثلة في رئيسها والجيش ممثلا في اللواء محمد نجيب وأن يقابل السفير الأمريكي جيفرسون كافري قبل السفر.

وأذكر أن اللواء نجيب وافق على جمع الطلبات ما عدا حراسة الأسطول المصري للباخرة المحروسة الحرية فيما بعد فقد رأى تكون حتى نهاية المياه الإقليمية المصرية وليس حتى إيطاليا ورضخ الملك

اللواء نجيب يعود للرئاسة

وفي الساعة الحادية عشرة عاد اللواء محمد نجيب ومعه البكباشي أنور السادات وقائد الجناح جمال سالم إلى بولكلي حيث أطلعهم الأستاذ سليمان حافظ علي صيغة الأمر الملكي بالتنازل عن العرش وكان قد أعده الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا رئيس مجلس الدولة ومعه الأستاذ سليمان حافظ وكيل المجلس.

وقد رأى جمال سالم وأيده الدكتور السنهوري باشا أن يتضمن الأمر الملكي عبارة ونزولا على إرادة الشعب وصيغت العبارة وأضيفت..ولما قابل اللواء محمد نجيب علي ماهر باشا قال إنه نصح الملك بالتنازل عن العرش لابنه استبقاء العرش في ذريته وإن الملك قال له إنه ليس جبانا وإن لديه قوات من الجيش موالية أكثر مما لدي الثائرين.

وأن علي ماهر باشا اعترض بأنه لا يوافق على تعريض البلاد لحرب أهلية لا يعلم نتائجها إلا الله وأن الملك لم يناقشه في الأمر.وأعتقد أن نجاح الحركة وتنازل الملك إنما يرجع إلى نصيحة السفير الأمريكي جيفرسون كافري وعلي ماهر باشا حيث أقنعاه بالقبول بطلبات الجيش ووعده السفير الأمريكي بحمايته وأسرته حتى يغادروا مصر.

ولهذا كانت الانفعالات التي بدت على مستشار السفارة الذي أوفده السفير إلى بولكلي لما أطلق الرصاص على قصر رأس التين حيث كان الملك قد أبلغ به السفير.وقبيل الظهر ذهب الأستاذ سليمان حافظ وكنت معه أحمل الأمر الملكي رقم 65 لسنة 1952 وقابلنا الملك في الدور الأول بقصر رأس التين وكان سعيدا جدا حين أطلع على التنازل ووقعه وهو مسرور ووقع الأمر الملكي بقلم حبر خاص بي ولا زلت أحتفظ به.

وقد علق الناس حينما شاهدوا بالصحف صورة الأمر الملكي رقم 65 لسنة 1952، فمنهم من قال إنه كان مضطربا فوقع مرتين.وحقيقة الأمر أن الملك كما شبهته كان مثل الرجل المحكوم عليه بالإعداد ثم خفف الحكم إلى الأشغال الشاقة ومن هنا يمكن للقارئ أن يعرف سعادة فاروق وهو يوقع الأمر الملكي.أما مسألة التوقيع فقد جرت العادة أن يوقع الملك فوق اسمه ثم يوقع تحت الأمر الملكي.

وهاك نص الأمر الملكي بالتنازل عن العرش.

أمر ملكي رقم 65 لسنة 1952م نحن فاروق الأول ملك مصر والسودان. لما كنا نطلب الخير دائما لأمتنا ونبغي سعادتها ورقيها. ولما كنا نرغب رغبة أكيدة في تجنب البلاد المصاعب التي تواجهها في هذه الظروف الدقيقة.

ونزولا على إرادة الشعب.قررنا النزول عن العرش لولي عهدنا الأمير أحمد فؤاد، وأصدرنا أمرنا بهذا إلى حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا رئيس مجلس الوزراء للعمل بمقتضاه.

صدر بقصر رأس التين في 4 ذي القعدة سنة 1371ه. 26 من يوليو سنة 1952

إعداد الباخرة المحروسة

وأعدت الباخرة المحروسة ونقلت أمتعة الملك إليها تمهيدا للرحيل حسب رغبة الملك. وقبيل الساعة السادسة غادر فاروق قصر رأس التين إلى رصيف الميناء ولم يكن اللواء نجيب قد وصل وما إن غادر الملك القصر حتى أنزل العلم الملكي وطوي وسلمه قائد الحرس الملكي إلى علي ماهر باشا الذي قدمه بدوره والدموع تنزل من عينيه إلى الملك الذي قبل العلم واستقل اللنش إلى المحروسة وأطلقت المدفعية 21 طلقة تحية لرحيله وأدى حرس الشرف التحية العسكرية.

وكان الملك قد تحادث لدقائق مع علي ماهر باشا.. والسفير جيفرسون كافري سفير أمريكا ثم نظر إلى ساعته وقال:

يجب أن أذهب الآن فالساعة قاربت السادسة.ثم صافح مودعيه، على ماهر باشا والسفير الأمريكي ومستشار السفارة وإسماعيل شيرين ومحمد علي رؤوف زوج الأميرة فائزة أخت الملك وبعض ضباط الحرس وكان المودعون وخدم القصر يجهشون بالبكاء والدموع تنهار من مآقيهم.

اللواء محمد نجيب يودع فاروق

ووصل بعد ذلك إلى القصر اللواء محمد نجيب حيث كان قد أخره زحام المرور وهتاف الجماهير وتحيتها له ولم تكن قد علمت بعد بتنازل الملك كما أن سائق السيارة ال جيب توجه إلى ميناء خفر السواحل بدلا من الميناء الملكي بقصر رأس التين الذي كان فاروق قد غادره منذ خمس دقائق مرتديا ملابس القائد الأعلى للقوات البحرية.

واستقل اللواء محمد نجيب لنشا عسكريا دار حول المحروسة دورة كاملة على الأسلوب المتبع في تقاليد القوات البحرية للتحية، ثم صعد إلى المحروسة ومعه القائم مقام أحمد شوقي البكباشي حسين الشافعي وقائد الجناح جمال سالم واليوزباشي إسماعيل فريد حيث التقى بالملك وبناته وأدى اللواء نجيب التحية العسكرية ورد فاروق ثم صافحه بيده.

ومضت لحظات صمت قطعها اللواء محمد نجيب بقوله أفندي. ثم تحدث عن استقالته يوم الاعتداء البريطاني على قصر عابدين بالدبابات يوم 4 فبراير سنة 1942.

فقال فاروق:

إن مسئوليتكم كبيرة وإني أوصيك خيرا بالجيش المصري.ولاحظ فاروق أن جمال سالم يحمل عصاته فتوقف عن الحديث وتوجه إلى جمال قائلا:ارم عصاك فحاول جمال سالم الاعتراض فمنعه اللواء محمد نجيب فألقى العصا ووقف وقفة فيها الكثير من اللامبالاة.

وعندئذ أدى اللواء نجيب التحية العسكرية فمد فاروق يده وصافحة وقال:

أنتم سبقتموني في اللي عملتوه .. اللي عملتوه الآن كنت أنا راح أعمله.ثم طلب فاروق يصافح بقية العسكريين الموجودين وعندما صافح القائمقام أحمد شوقي قال له:

أنت قريب علي ماهر؟

فأجاب بالإيجاب.

واستغرق فاروق في لحظة التفكير، حيث كان يعتقد أن هذا الانقلاب قد دبره علي ماهر بالاشتراك مع اللواء نجيب والقائم مقام أحمد شوقي ولكن لحظات التأمل لم تطل قد هبط المدعوون إلى اللنش لكي يقلهم إلى الشاطئ.

ويبدو أن لوعة هذه اللحظات التاريخية قد أثرت تأثيرا كبيرا على اللواء نجيب والقائم مقام أحمد شوقي وهما ينظران إلى فاروق وبناته فانخرطا في البكاء حتى إن قائد جناح جمال سالم تهكم من هذا البكاء.

ومن الطريف أن الباخرة المحروسة التي أقلت الملك فاروق إلى نابولي هي الباخرة التي سبق أن حملت الخديوي إسماعيل جده إلى منفاه في نابولي بعد أن عزل عن العرش.

وفي مساء يوم 26 يوليو سنة 1952نودي بالملك أحمد فؤاد الثاني ملكا على البلاد وأعلن مجلس الوصاية ليباشر السلطات الدستورية.وقد استمر الملك فؤاد الثاني ملكا اسميا على البلاد لحين إعلان الجمهورية في يوم 18 يونيه سنة 1953.

ومن الطريف أيضا أن السفير الأمريكي جيفرسون كافري الذي حضر أحداث ثورة 1952 جميعها وكان السفير الوحيد الذي كان ي وداع فاروق عند رحيله صر في حفلة نادي الروتاري في سبتمبر سنة 1953بأنه وضع قدميه في بلد إلا وكان وراء انقلاب عسكري وإن مصر هي رابع بلد يعمل بها سفيرا حدث بها انقلاب عسكري بعد تعيينه سفيرا لبلاده.والدول الثلاث من دول أمريكا اللاتينية.

منع سفير بوللي

ومما يذكر أن اللواء محمد نجيب لم يوافق على سفر أنطوان بوللي مع الملك وبقي بوللي بالإسكندرية تحت حراسة مشددة حتى رافق اللواء نجيب في الطائرة التي أقلته إلى القاهرة يوم 27 يوليو

أول قرار لعلي ماهر

في الساعة الخامسة والنصف مساء 26يوليو أبلغني الأستاذ صلاح مرتجي أن البكاباشي طبيب حسين صميدة زوج ابنة شقيقي قد توفي في لندن إثر عملية جراحية، وكان صديقا عزيزا على فانفرطت في البكاء ورآني أحدهم، فأبلغ علي ماهر باشا أنني بكيت عند مغادرة فاروق لمصر.

وفي المساء دخلت على علي ماهر باشا وكان معه الأستاذ سليمان حافظ وطلبت منه بوصفه وزيرا للحربية الموافقة على نقل الجثمان على نفقة الدولة.

فثار علي ماهر باشا وقال:

هو دا واقته.

فأسعفني الأستاذ سليمان قائلا:

أيوه يا رفعة الباشا وقته لأن المتوفى زوج بنت أخت صلاح.

فنظر علي ماهر باشا وقال:

علشان كده كنت بتبكي مشي علشان الملك أنا قالوا لي إنك بتبكي فأبلغت جماعة الثورة أنك بكيت لتنازل الملك عن العرش ومغادرته البلاد. ثم وافق وكان أول قرار أصدره بصفته وزيرا للحربية ورئيسا لمجلس الوزراء.

بيان اللواء نجيب عن تنازل الملك

وكانت الإذاعة منذ الساعة الخامسة تثبت نداءات للشعب تطالبهم بالهدوء والنظام وعدم التهور في التصرفات عند متابعتهم لتطور الأحداث.وفي الساعة السادسة والنص أعلنت الإذاعة أن اللواء محمد نجيب سيلقي البيان التالي الذي أذيع بصوته:

بني وطني

إتماما للعمل الذي قام به جيشكم الباسل في سبيل قضيتكم قمت في الساعة التاسعة من صباح السبت 26 من يوليو 1952 الموافق 4 من ذي القعدة 1371 بمقابلة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا رئيس مجلس الوزراء وسلمته عريضة موجهة إلى مقام حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول تحمل مطلبين على لسان الشعب.

الأول: أن يتنازل جلالته عن العرش لسمو ولي عهده قبل ظهر اليوم.

الثاني: أن يغادر جلالته البلاد قبل الساعة السادسة مساء.

وقد تفضل جلالته فوافق على المطلبين وتم التنفيذ في المواعيد المحددة دون حدوث ما يعكر الصفو. وإن نجانا إلى الآن في قضية البلاد يعود إلى تضافركم معنا بقلوبكم وتنفيذكم لتعليماتنا وإخلادكم إلى الهدوء والسكينة.

وإني أعلن أن الفرح قد يفيض عن صدوركم لهذا النبأ غير أنني أتوسل إليكم أن تستمروا في التزام الهدوء حتى نستطيع مواصلة السير بقضيتكم في أمان.ولي كبير الأمل في أنكم ستلبون ندائي في سبيل الوطن وفقا الله جميعا لما فيه خيركم ورفاهيتكم والسلام.

اللواء نجيب يتنازل عن رتبة الفريق

وفي الساعة الثامنة مساء بثت الإذاعة البيان الثاني لقائد الحركة اللواء محمد نجيب بصوته وجاء فيه:

بني وطني

إن ما ينسب إلى من عمل مجيد إن هو في الحقيقة إلا مجهود وتضحيات لرجل لجيش البواسل من جنود وضباط ولم يكن لي إلا شرف قيادتهم.قد أمر جلالة الملك فاروق عندما طلب الجيش إسناد منصب القيادة العامة إلى بأن ينعم على برتبة الفريق بدرجة الوزير فلم أعلن رفضها حتى لا يعرقل ذلك غرضا أسمى وهو تنازل الملك عن العرش.

والآن وقد انتهت الأمور فإني أعلن تنازلي عن هذه الرتبة قانعا برتبة اللواء مراعاة لحالة الدولة المالية وغادر اللواء محمد نجي ثكنات مصطفى باشا الإسكندرية بالطائرة ظهر اليوم التالي 27 يوليو إلى القاهرة حيث اجتمع بقادة الحركة وشكلوا مجلس قيادة الثورة برئاسة اللواء محمد نجيب وصار البكباشي جمال عبد الناصر مديرا لمكتبه.

قصتي مع محمد نجيب وتحديد إقامتي

كان والدي مع والد اللواء محمد نجيب في السودان بعد الحملة التي أرسلت لاسترداه إثر الحركة المهدية.وتزوج الاثنان بسيدتين سودانيتين وأنجب كل منهما أولادا إذ أنجب والدي المرحوم اللواء أحمد لبيب الشاهد كما أنجب المرحوم يوسف نجيب اللواء محمد نجيب.

ومنذ سنة 1900 نشأ وترعرع كل من أحمد الشاهد ومحمد نجيب في ربوع السودان حيث توثقت الصداقة بينهما والتحقا معا بالكلية الحربية وتخرجا بعد ذلك ضابطين صديقين بالجيش المصري وعملا بوحداته بالبلد الشقيق حتى مقتل السردار سير لي ستاك سنة [1924]] وأعيد الجيش المصري من السودان.

ومنذ ذلك الحين لم تنقطع صلتي باللواء نجيب.وعندما رشح وزيرا للحربية في وزارة نجيب الهلالي باشا الأولى، اتصلت به ووافق على دخول الوزارة ولكن القصر لم يوافق إذا اعتبر اللواء محمد نجيب عرابي رقم 2 تاريخ مصر وتجدد ترشيح اللواء نجيب للوزارة أثناء تأليف وزارة حسين سري باشا ولكن هذا الترشيح كان مصيره مصير الترشيح الأول وأصرت السراي على الرفض إلى أن حدثت أزمة نادي الضباط في يوليو سنة 1952 وانفجرت الثورة على أثرها.

وكانت وزارة نجيب الهلالي الثانية قد شكلت وأقسم الوزراء اليمين مساء يوم 22 يوليو سنة 1952 بقصر المنتزه.وذهب كل منا للراحة بعد يومين مريرين دون نوم أو راحة.وفي منتصف ليلة 23 يوليو سنة 1952 اتصلت بي السيدة أصيلة هانم لتبلغني أن ثمة تمردا في صفوف الجيش وقابلت الملك كما سبق وأوضحت.

واتصلت بدولة الهلالي باشا.. وطلب مني إبلاغ الوزراء للتوجه فورا للاجتماع، كما طلب ترتيب السيارات وتموينها للذهاب إلى القاهرة في التو واللحظة ولكنه عدل عن ذلك وطلب إعداد طائرة خاصة لسفر مرتضى المراغي باشا وزير الداخلية وحده إلى العاصمة.

ثم ما لبث أن عدل عن ذلك عند ما علم أن الانقلاب العسكري قد أسفر عن تحرك الجيش من ألماظة وطريق السويس إلى القاهرة.وقد طلب الهلالي باشا الاتصال باللواء نجيب وإبلاغه بأن رئيس الوزراء يفوض وزير الدولة فريد زعلوك باشا لإجراء حوار مع اللواء نجيب والتحدث معه بشأن الجيش وتمت المحادثة فعلا بعد الاتصال بمنزل اللواء نجيب بالزيتون.

وأذكر جيدا أنه قال لزعلوك باشا إنه لا علم له بما دار في الجيش والدليل بين إذ أنه بمنزله. وانتهت المحادثة دون الوصول إلى نتيجة وكان مرتضى المراغي في طريقه إلى القاهرة بالسيارة.

ثم قفل عائدا إلى الإسكندرية في مطلع الفجر بصحبة اللواء محمد إبراهيم إمام رئيس البوليس السياسية بوزارة الداخلية وأبلغ دولة الهلالي باشا أنه اتصل بمحمد نجيب من مكتبه بوزارة الداخلية واستدعاه فرفض اللواء نجيب الذهاب وقال له: إذا كنت عايزني تعالي لي..

ولكن وزير الداخلية رفض وعدل عن المقابلة والبقاء بالقاهرة ورجع إلى الإسكندرية وتوالت الأحداث وقدم نجيب باشا استقالته.

وعند رفع الاستقالة إلى الملك قال الهلالي باشا ملطفا من حدة الموقف:

لا تخشى يا جلالة الملك شيئا فإن الثورة تأكل بعضها.

ثم ذكر بيت شوقي أمير الشعراء الذي يقول فيه:

فيا لك هرة أكلت بنيها
وما ولدوا وتنتظر الجنينا

وأسندت الوزارة إلى رفعة علي ماهر باشا وفي 24 يوليو سنة 1922 حضر اللواء محمد نجيب إلى الرئاسة ببولكلي لأول مرة في حراسة مشددة وبرفقته القائم مقام أحمد شوقي بك وقائد جناح جمال سالم واليوزباشي إسماعيل فريد وداعبت اللواء نجيب وقلت له:

إيه إلي أنت عامله ده أنت عملت ثورة ضد الملك.وضحك اللواء وقال.نعم إن أول برقية وصلتني اليوم من أخيك أحمد الشاهد زوج خالة ناريمان وفي 7 سبتمبر سنة 1952 ألف محمد نجيب وزارة مدنية برئاسته وأتيح لي العمل معه وأذكر أن فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري اختير وزيرا للأوقاف وكان يقطن في حلوان وطلب استدعاءه فأرسلت إليه البوليس ليتصل به تليفونيا ولكن الشيخ ما إن سمع باستدعاء البوليس حتى ظن أنه يريد أن يعتقل ولولا أن اتصل به الأستاذ موسى صبري فأفهمه الموقف لولى الأدبار.

وعملت مع اللواء محمد نجيب وبسبب العلاقات القديمة التي امتدت سنوات طويلة كنت الأمين له.وكثيرا ما قلت له إن التاريخ حلقات متصلة يكمل بعضها بعضا كالسلسلة وإن أي تفكك في طرف منها يؤدي إلى انهيار البناء جميعا رجوته ألا يصف عهد ما قبل الثورة بأنه عهد بائد فكل من عمل فيه له فضل لايستهان به وهو مرحلة من مراحل الكفاح الوطني وإن مصر هي الباقية دوما وإن الأشخاص فانون.

وقد اتصل اللواء محمد نجيب في أول عهده ببعض رؤساء الوزارات والوزراء السابقين لاستطلاع الرأي والمشورة وذلك لعلمه بفضلهم ورجاحة فكرهم وسداد رأسهم وأنهم لم يصلوا إلى مراكزهم القيادية إلا بفضل إخلاصهم للبلاد مهما كانت الأخطاء المنسوبة إليهم فكلنا خطاءون.

ثم ساءت العلاقات بين اللواء نجيب ومجلس قيادة الثورة.ويبدو أن سبب سوء العلاقات كان مرده الشعبية التي اكتسبها اللواء محمد نجيب والتفاف المواطنين حوله.وسمعت فيما سمعت أن ثمة مؤامرات تدبر لاغتيال اللواء نجيب تخلصا منه وأن أحد الأشخاص تطوع بالركوب إلى جوار محمد نجيب ومعه قنبلة زمنية تتفجر.. فيموت الاثنان معا..

ولكن رفض هذا الاقتراح لعدم إنسانيته.وأذكر أن كثيرا من القرارات والمراسم التي كان يوقعها جميع أعضاء مجلس قيادة الثورة كان يرفض اعتمادها اللواء نجيب وكم مزقت مراسم وأحرقت أوامر وقرارات كان يرفض حتى قراءتها.واستمرت الظروف تتلاحق إلى منتصف فبراير سنة 1954.

وخلا هذا الشهر أخبرني اللواء نجيب وكان رئيسا للجمهورية منذ إعلانها في 18 يونيو سنة 1953 أنه يزمع زيارة السودان ولكني لم أقره على هذا الزيارة بسبب عدم ملائمة الظروف لها فضحك وقال: أنت فاكر يعملوا في زي ما عملوا في صلاح سالم؟

قلت :

ليه لا؟

قال:

أنا أمي سودانية وأنت عارف كويس أني سوداني.وسكت..

وفي يوم الخميس 25 فبراير طلب مني اللواء محمد نجيب شراء بعض الهدايا لبعض المواطنين السودانيين عند سفرة في أول مارس لحضور افتتاح مجلس النواب وفي فجر يوم 26 فبراير سنة 1954 حضر إلى منزلي اليوزباشي منصور من البوليس الحربي وكان قبل ذلك منتدبا من بين حرس اللواء نجيب وطرق الباب وفتحت له واعتقدت أنه موفد من الرئيس محمد نجيب لمهمة خاصة ورحبت به ودعوته للدخول وجلسنا في غرفة الصالون وسألته عن سبب زيارته فأخبرني بطريقة مهذبة ودبلوماسية رائعة أنه صدر قرار بتحديد إقامتي فذهلت من الخبر وفكرت بأن ثمة انقلابا قد وقع وأطاح بالنظام.

وفي الساعة السادسة صباحا من يوم الجمعة 26 فبراير سنة 1954 قرأت في الصحف خبر استقالة اللواء محمد نجيب من المناصب التي كان يشغلها وأهمها رئاسة الجمهورية لوقوع خلاف بينه وبين أعضاء مجلس قيادة الثورة وأعلن استمرار مجلس قيادة الثورة.

وأذاع المجلس بيانا على المواطنين بأسباب الخلاف بينه وبين محمد نجيب وعين البكباشي أركان حرب جمال عبد الناصر رئيسا لمجلس الوزراء.وظل منصب رئيس الجمهورية شاغرًا.

وقد أمضت في منزلي ثلاثة أيام مرة كأنها ثلاثة قرون إلى أن حضر أحد ضباط البوليس الحربي الساعة السادسة والنصف مساء يوم الأحد 28 فبراير سنة 1954 مستأذنا في رفع القوة التي كانت تتولى حراسة المنزل والتي كانت تحول دون نزول أفراد الأسرة والاتصال بي عن طريق زيارتي وأخبرني أن قرار تحديد الإقامة قد انتهى ومن الطريف أن أحد الجنود الذين كانوا مكلفين بحراستي رأى إحدى الشغالات أثناء مهمته وأعجب بها وخطبها من أهلها ثم تزوجها.

وقد عمل وسطاء الخير في إزالة الشقاق بين محمد نجيب ومجلس قيادة الثورة خوفا من أن يتسرب الخلاف إلى صفوف القوات المسلحة ويحدث مالا تحمد عقباه.وقبل مجلس قياد الثورة عودة الرئيس محمد نجيب إلى رئاسة الجمهورية وأذاع المجلس في 27 فبراير البيان التالي:

حفاظا لوحدة الأمة.

يعلن مجلس قيادة الثورة عودة اللواء أركان حرب محمد نجيب رئيسا للجمهورية

وقد وافق سيادته على ذلك.

وعدت إلى العمل في أول مارس سنة 1954 وطلبت مقابلة الرئيس جمال عبد الناصر بمجلس قيادة الثورة وذلك بقصد معرفة أسباب القرار الذي صدر بتحديد إقامتي ولكن علمت من الرئيس عبد الناصر أنه لم يكن الآمر بهذا القرار ولم أشأ أن أدخل في التفاصيل وقلت له بالحرف الواحد.

يا سيادة الرئيس إنني لو كنت سيئا فلا يصح أن أعمل معك أو مع محمد نجيب، أما أن تحدد إقامتي لأن محمد نجي رجل سيء فهذا لا ذنب لي فيه، لأنكم جبتم واحد سيء لأعمل معه وأنا أعمل في موقعي هذا منذ أكثر من 12 سنة فإذا كان تحديد إقامتي هو سوء من نجيب فأرجو تجديد الأمر بتحديد إقامتي.

وضحك جمال عبد الناصر.وعلمت أن محمد نجيب سوف يعود من السودان إلى محطة ألماظة الجوية الساعة الثانية عشرة الثلث يوم الثلاثاء 2 مارس.وطفقت أفكر حائرا بين الذهاب لاستقبال الرجل الذي عملت معه قرابة السنتين وذهبت للقائه وقد دهشت عندما رأيت بالمطار معظم ضباط السواري يهنئونني، وصافحتهم وفي الزحام هنأني اللواء عبد الحكيم عامر بدوره، وسألته عن سبب التهنئة وهل عينت وزيرا.

فضحك ونفي ذلك وقال.لأن تحديد الإقامة انتهى.فقلت له: يا سيادة اللواء هذا موضوع قديم نسيته وأنا واثق غلطة من إنسان حقود لو شئتم لذكرت اسمه.وكانت الطائرة قد هبطت أرض المطار.وكان الاستقبال عسكريا ورسميا.

وركبت برفقة اللواء محمد نجيب اللواء عبد الحكيم عامر في طريقهما إلى قصر عابدين وذهبت إلى القصر أثناء صعودي درج السلم صادفني الرئيس جمال عبد الناصر وباقي أعضاء مجلس قيادة الثورة بعد اجتماعهم باللواء نجيب.

ودخلت إلى اللواء نجي مهنئا بسلامة العودة وأنه لو كان قد التفت إلى كلامي وآثر عدم الذهاب إلى السودان ما وقع ما وقع.وكانت قد وقعت بعض الحوادث الدامية أثناء زيارة اللواء نجيب للسودان راح ضحيتها 36 شخصا وكانت هناك مؤامرة لاغتيال اللواء نجيب نفسه دبرها فيما قيل أنصار المرحوم عبد الرحمن المهدي وقد أنقذ اللواء نجيب بأعجوبة.

وفي 9 مارس أعيد محمد نجيب رئيسا لمجلس الوزراء ورئيسا لمجلس قيادة الثورة ولكن مرة أخرى احتدم الخلاف بين محمد نجيب ومجلس قيادة الثورة وانتهى بأن اجتمع بعض ضباط القوات المسلحة في ثكناتهم يوم 27 مارس سنة 1954 وتداولوا الموقف بالتفصيل وأن البلاد ستعود إلى الفوضى وإلى نفس الأحزاب القديمة وانتهوا إلى المطالبة بالتفصيل وأن البلاد ستعود إلى الفوضى وإلى نفس الأحزاب القديمة وانتهوا إلى المطالبة بإلغاء قرارات 5 مارس التي تنص على اتخاذ الإجراءات فورا لعقد جمعية تأسيسية تنتخب بطريقة الاقتراع العام المباشر تكون مهمتها مناقشة مشروع الدستور الجديد وإقراره والقيام فورا بمهمة البرلمان إلى الوقت الذي يتم فيه عقد البرلمان الجديد.

وكذلك طالبوا بإلغاء قرارات مارس التي تنص على أن يحل المجلس قيادة الثورة يوم 24 يوليو سنة 1954 أي يوم انتخاب الجمعية التأسيسية وقد اجتمعت كلمة الضباط على الاعتصام في ثكناتهم إلى أن تلغى هذه القرارات وحملوا مجلس قيادة الثورة مسئولية ما وقع من حوادث.

وقد اعتبر الضباط أن قراراتهم تماثل قرارات ثورة يوليو سنة 1952 وأضرب بعض العمال احتجاجا على عودة الأحزاب وطالبوا باستمرار مجلس قيادة الثورة في مباشرة سلطاته.وانتهى الإضراب وتم العدول عن قرارات 5و 25 مارس سنة 1953 وعادت الأمور سيرتها الأولى.

وفي 17 إبريل سنة 1954 تخلى محمد نجيب عن رئاسة الوزارة واكتفى برئاسة الجمهورية ومجلس قيادة الثورة وقرر المجلس في 17 إبريل سنة 1954 قبول التخلي وتكليف جمال عبد الناصر تأليف الوزارة فألفها برئاسته ودخل فيها بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة وهم:

  1. السيد / حسين الشافعي لوزارة الحربية.
  2. السيد حسن إبراهيم وزير دولة لشئون رئاسة الجمهورية.

وأذكر في 17 يونيو 1954 أن حضر الرئيس محمد نجيب لزيارة جمال عبد الناصر بمكتبه بمجلس الوزراء وكانا يجلسان على الأريكة الموجودة بالمكتب ودق الجرس في مكتبي ودخلت موجها السؤال إلى الرئيس محمد نجيب ..

وقلت:أفندم ولكن عبد الناصر نظر باستغراب .. وسألني:إيه اللي عرفك إن الرئيس نجيب هو الذي طلبك؟ فقلت: يا سيادة الرئيس هذا سر المهنة.ولكنه أصر على الجواب ... فقلت له: من طريقة دق الجرس.فقال لي الرئيس نجيب:أنا جاي النهاردة علشان أطلبك تعمل مي.. إيه رأيك؟فقلت له: لا يا سيادة الرئيس إنني أرغب مخلصا أن أعمل مع الرئيس جمال عبد الناصر لسببين:أولهما، أن عملي معه بمثابة تكذيب رسمي لما قيل عني من شائعات كاذبة مغرضة بيني وبنيك والثاني أنني هنا في عملي رئيسا لنفسي لا رئيس لي سوى جمال عبد الناصر.

ونظر الرئيس نجيب إلى جمال عبد الناصر وقال:عرفت ليه أنا كنت متمسك به؟ووقف محمد نجيب ليصافحني مقبلا .. ويقول:أرجو أن تعمل مع جمال بنفس الإخلاص والأمانة التي عهدتها فيك. وانصرف نجيب.

وفي 14 نوفمبر سنة 1954 قرر مجلس قيادة الثورة تنحية محمد نجيب وذهب اللواء عبد الحكيم عامر وقائد جناح حسن إبراهيم إلى قصر عابدين لإبلاغ نجي بعزله واصطحابه إلى قصر المرج حيث حددت إقامته وظل بالقصر المهجور طيلة 18 عاما إلى عهد الرئيس أنور السادات الذي أمر بإطلاق سراحه.

وقد كانت قصة اللواء أركان حرب محمد نحيب مأساة مريرة لأول رئيس مصر تولى حكم البلاد بعد سنوات طويلة من الحكم الملكي.وظل ثمانية عشر عام معتقلا بصورة مهينة. وخرج أول رئيس مصري من معتقله شيخا وقورا محطما أمد الله في عمره.

السنهوري والانقلاب والوصاية على العرش وأزمات علي ماهر

كان الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري باشا رحمه الله قانونيا بارعا وفقيها مجتهدا ومشرعا فذا ولقد عمل السنهوري بالسياسة وتولى وزارة المعارف ثم وزيرا للدولة ورئيسا لوفد مصر في اجتماع جمعية الأمم المتحدة 1946 وحصل على قرار يدين الاحتلال البريطاني ثم اختير عضوا بوفد مصر سنة 1947 الذي رأسه المرحوم النقراشي باشا لعرض القضية المصرية على مجلس الأمن.

وأذكر أن أحد الخبثاء قال للنقراشي باشا وقتذاك لابد أن يسلم الإنجليز بمطالب مصر عندما يرون السنهوري وعبد المجيد إبراهيم صالح عضوي الوفد لضخامتهما وبدانتهما.وابتسم النقراشي باشا.

وفي سنة 1949 عين الفقيد رئيسا لمجلس الدولة فأقام قواعده على أساس متينة وأصدر أحكاما قضائية رائعة تشهد له.وأذكر أن بعض الصحف الإنجليزية قالت في تعليق على أحكام المرحوم السنهوري: ليت في بريطانيا قضاة مثل هذا الرجل.

وقد أرادت حكومة الزعيم مصطفى النحاس باشا لكون السنهوري باشا من أقطاب السعديين نقل الفقيد الكبير من منصبه القضائي إلى أي منصب آخر يختاره فرفض وقال للحكومة:

بيني وبينكم الدستور والقانون إن واجبي أن أدفع أي اعتداء يقع على رئاسة مجلس الدولة وإنني مسئول عن دفعه عن كل رئيس يأتي بعدي ومسئول عن دفعه عن أي عضو من أعضاء المجلس وجد الآن أو سيوجد في المستقبل وإني أضطلع بمسئوليتي كاملة.

وظل السنهوري باشا رئيسا لمجلس الدولة إلى أن وقع الانقلاب في 23 يوليو سنة 1952 فقام السنهوري باشا بالنصب الأوفى في بدء حركة الجيش إذ كان مشرعها الأكبر.ومما يذكر أن وثيقة التنازل عن العرش التي وقعها الملك فاروق كان قد أعدها السنهوري باشا في صيغة أمر ملكي مستلهما ديباجته من الدستور.

وكانت أول أزمة عرضت على السنهوري باشا هي قضية الوصاية على العشي وتعيين مجلس لها وهي قضية دستورية إذ كان دستور سنة 1923 ينص على ألا يتولى أوصياء العرش عملهم إلا بعد أن يؤدوا أمام مجلس النواب والشيوخ مجتمعين اليمني قبل مباشرة سلطتهم الدستورية.

وتحدد المادة 52 من الدستور أنه عند وفاة الملك يجتمع البرلمان بحكم القانون خلال عشرة أيام من الوفاة فإذا كان المجلس منحلا وكان الموعد المعين لاجتماعه بعد انتخاب أعضاءه يجاوز اليوم العاشر وجب أن يعود المجلس المنحل لعمل حتى يجتمع المجلس الذي يخلفه.

وتنص المادة 55 على أن يتولى مجلس الوزراء بصفة مؤقتة سلطات الملك الدستورية حتى يؤدي أوصياء العرش اليمين أمام البرلمان.وكان مفروضا أن يدعي البرلمان الوفدي للانعقاد طبقا للدستور وبناء على فتوى كبار رجال القانون الوفديين لرئيس الوزراء علي ماهر وكان خلال رئاسته للوزارة وبعد حريق القاهرة قد رفض حل مجلس النواب الوفدي بعد أن منحه المجلس الثقة بناء على توجيها الوفد.

وفي أول أغسطس سنة 1952 أصدر قسم الرأي مجتمعا قرارا لم يوافق عليه واحد فقط هو الدكتور وحيد رأفت بعد جواز دعوة مجلس النواب المنحل في حالة نزول الملك عن العرش وأنه يجب إجراء انتخابات جديدة ولما كانت الانتخابات تأخذ وقتا غير قصير فإن الحل الوحيد هو إيجاد نظام للوصاية المؤقتة بإضافة مادة للأمر الملكي المشار إليه تنص على أنه في حالة نزول الملك عن العرش وانتقال العرش إلى خلف قاصر يجوز لمجلس الوزراء إذا كان مجلس النواب منحلا أن يؤلف هيئة للعرش من ثلاثة تتولى بعد حلف اليمين أمام مجلس الوزراء سلطة الملك إلى أن تتولاها هيئة الوصاية الدائمة ولم يكن اللواء محمد نجيب من هذا الرأي ولكنه خضع للأغلبية كعادته.

وتم تعين مجس الوصاية المؤقت من الأمير محمد عبد المنعم وبهي الدين بركات باشا والقائم مقام رشاد مهنا الذي عين وزيرا للمواصلات بصفة شكلية ليستحق عضوية مجلس الوصايا دستوريا.

ثم جاء أزمة أخرى مردها إلى قانون الإصلاح الزراعي وكان صاحب فكرة المشروع والمروج لها قائد الجناح جمال سالم بعد أن عقد مجلس قيادة الثورة جلسة طويلة حضرها الدكتور راشد البراوي الذي أحضر من الإسكندرية اليوزباشي أحمد حمروش وكان راشد البراوي معروفا لدى الضباط عن طريق كتبه التي نشرها عن البترول والشرق الأوسط والاشتراكية والتفسير المادي للتاريخ الإنجليزي ورأس المال لكارل ماركس، والاقتصاد السياسي لليونيف.

وكان مشروع الإصلاح الزراعي قد سبق أن عرض على مجلس الدولة وأعد السنهوري باشا صياغته القانونية ولكن رئيس الوزراء علي ماهر باشا كان موزع الرأي حول تحدي الملكية الذي يطالب به مجلس القيادة وبين الضرائب التصاعدية التي كان رئيس الوزراء مقتنعا بها اقتناعا كبيرا.

وعقد علي ماهر باشا مؤتمرا من الأوصياء على العرش وأعضاء مجلس الوزراء وبعض أعضاء مجلس قيادة الثورة وعدد من الفنين وأعضاء مجلس الدولة في مبنى رئاسة مجلس الوزراء.

وقد حضر هذا الاجتماع اللواء محمد نجيب رئيس مجلس قيادة الثورة وبهي الدين بركات باشا ورشاد مهنا والدكتور عبد الجليل العمري وجمال سالم وصلاح سالم والدكتور عبد الرزاق السنهوري وراشد وسليمان حافظ.

واختلف الآراء فقد أيد رئيس الوزراء بهي الدين بركات باشا والقائمقام رشاد مهنا ثم ما لبث الأخير أن نزل عن رأيه تأييدا للأغلبية كما قال وانتهت الجلسة إلى موافقة شبه إجماعية على المشروع مع تحيد الملكية بحد أقصى هو 200 فدان وأعد سليمان حافظ المشروع في صيغته النهائية ولكن المشروع ما لبث أن توقف في مجلس الوزراء.

وكان هناك خلافات بين رئيس الوزراء ومجلس الثورة فقد تولى علي ماهر باشا رئاسة الوزراء تحت ضغط الأحداث بعد قيام الانقلاب واحتل وزارات الداخلية والحربية والخارجية وكان مفروضا بعد خروج الملك أن يدعم وزارته بعناصر تعطي ثقلا للحكومة.

وروي لي اللواء محمد نجيب أنه تناقش مع الرئيس علي ماهر باشا حول أسس التعديل واتفق أن يتم يوم وقفة عيد الأضحى بالتحديد ولكن علي ماهر عمد إلى المماطلة وسافر إلى برج العرب ومرسى مطروح حيث اجتمع بعدد من الضباط ناقش معهم مشروع الإصلاح الزراعي من وجهة النظر التي يعتنقها. ثم صدرت مراسم بعد العيد بتعديل وزاري يخالف ما أتفق عليه علي ماهر ومحمد نجيب وان علي ماهر قد عرض هذا المرسم على رشاد مهنا التي انفرد بالتوقيع عليها دون الرجوع إلى اللواء محمد نجيب.

وأذكر أن الرئيس علي ماهر في هذه الآونة كان خاضعا لمؤثرات شديدة من رجال الأحزاب والسياسيين القدامى بقصد منع صدور قانون الإصلاح الزراعي كما أنه كان محرجا من زملائه الوزراء بقصد دفع علي ماهر باشا إلى الاستقالة حفاظا على كرامته.

ودار بحث مجلس الثورة حول المرشح لمنصب رئيس الوزراء واستبعدت كافة الأسماء الحزبية.ورشح الأستاذ سليمان حافظ الدكتور عبد الرازق السنهوري ووافق محمد نجيب دون إبطال على هذا الترشيح بوصفة سندا للقانون والديمقراطية ولكن قائد الجناح علي صبري الذي كان حاضرا هذا الاجتماع باعتباره سكرتيرا لمجموعة الطيران همس شيئا في أذن قائد الجناح جمال سالم .

ولم يلبث جمال سالم أن قال مندفعا بصوت عال:

إنني أعترض على هذا الترشيح.

وقال نجيب:

لماذا الاعتراض ونحن جميعا نجل السنهوري ونعرف قدره ونعترف بجدارته ونثق في إخلاصه للحركة.؟

وقال جمال سالم :

إنني أعرف كل ذلك فقد أيد السنهوري قانون الإصلاح الزراعي وأنا أحترم الدكتور السنهوري وأثق في إخلاصه للحركة.

فسأله نجيب:

ولكن ماذا..إنني أتشفع الصراحة والإخلاص في عرض السبب الذي يحملني بالرغم عن ذلك على العدول عن الترشيح.

فقال نجيب:

أرجو أن توضح السبب لنا.

فقال جمال سالم .

لقد عرفت أن الأمريكيين سوف يعترضون على الترشيح لأن بعض الصحف الغربية نسبت إليه في أواخر عهد الملك السابق وأثناء وزارة الوفد أن له ميولا شيوعية أو يسارية.

وذهل محمد نجيب وقال مستفسرا.

كيف ذلك؟

فانفجر جمال سالم بصوت غير عادي:

إنني برغم يقيني ببطلان هذه التهمة إلا أن مصلحة الحركة، وقد أخذت بعض الصحف في الخارج تتهمها بالشيوعية توجب علينا تفادي كل ما من شأنه أن يستغله الأعداء وران على المجلس الصمت

ولم يفقد السنهوري باشا رباطة الجأش فأجاب في صوت هادئ يفيض ثقة:

إنني أقر وجهة نظر جمال سالم وأعرف أن الذريعة التي استندت إليها الصحف الغربية في اتهامي بالشيوعية مرجعها إلى أنني وقعت وزملائي من مستشاري محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة نداء للسلام ورد إلينا بالبريد من الخارج كما ورد مثله لسائر الهيئات في ذلك الحين عام 1950 ولا يخرج مضمون هذا النداء عن الدعوة لإقرار السلام العالمي بمنع أساليب الحرب ومحاصرتها وإنني أطلب الانتقال للحديث عن المرشح الآخر.

وظهر اقتراح تعيين سليمان حافظ فاعتذر مفضلا منصب المستشار القانوني لرئيس الوزراء كما فعل مع علي ماهر باشا.وعندئذ اقترح السنهوري باشا تولي اللواء محمد نجيب رئاسة الوراء بجانب رئاسة مجلس قيادة الثورة.ولكن وقع ازدواج بين مجلس القيادة واتسع الخلاف بينهما إلى درجة أصبحت تهدد بتعطيل القرارات والأعمال اليومية.

واستشار اللواء نجيب الدكتور السنهوري واتفق الرأي على تشكيل لجنة اتصال دائمة بين الهيئتين للتحكيم عند الخلاف وكانت مشكلة برئاسة نجيب وعضوية سليمان حافظ وعبد الجليل العمري وأحمد حسن وفؤاد جلال والشيخ الباقوري عن الوزراء وجمال عبد الناصر وجمال سالم وعبد الحكيم عامر وعبد اللطيف البغدادي عن مجلس القيادة وكانت اللجنة تجتمع سرا في ثكنات قصر النيل وظلت تعمل حتى أعلن سقوط دستور 1923 في العاشرة من ديسمبر سنة 1952 واستعيض عنها بمؤتمر من جميع أعضا مجلس الوزراء ومجلس قيادة الثورة يجتمع مرة كل أسبوعين.

ويكون بمثابة برلمان وذلك على هيئة جبهة تقابل الأخرى.ولكن الازدواجية لم تنته وبدأ سليمان حافظ في إحدى جلسات المؤتمر يتحدث عن مساوئ الازدواجية ويعلن باسم المدنين الاستقالة من الوزارة وأن تشكيل وزارة عسكرية صرفة أو وزارة مختلطة.

ثم أصدرت لجنة خماسية فروعية من الجنة الدستور قرارا خطيرا وكانت تضم السنهوري وعبد الرحمن الرافعي ومكرم عبيد والسيد صبري وعثمان خليل عثمان وكان هذا القرار بإعلان الجمهورية.

واعترض اللواء محمد نجيب أولا على إعلان الجمهورية ثم قيل رئاسة الجمهورية وأعيد تشكيل الوزارة ودخلها العسكريون إذ عين جمال عبد الناصر نائبا لرئيس الوزراء وصلاح سالم وزيرا للإرشاد وعبد اللطيف البغدادي وزيرا للحربية ورقي الصاغ عبد الحكيم عامر إلى رتبة اللواء وعين قائدا عاما للقوات المسلحة.

وعندما وقعت أزمة مارس سنة 1954 توجهت مظاهرة مدبرة من مبنى هيئة التحرير إلى مجلس الدولة وقوامها عمال مديرية التحرير وجنود من البولي الحربي تحت قيادة الصاغ حسين عرفه وعدد آخر من ضباط البوليس الحربي وكانت جريدة الأخبار قد نشرت أن الجمعية العمومية لمجلس الدولة سوف تجتمع اليوم بدعة من رئيس المجلس بصورة تشير إلى أن الاجتماع له صلة بالأحداث الجارية واقتحم المتظاهرون مبنى مجلس الدولة الذي سحبت الحراسة من حوله ودخلوا قاعة الاجتماع وكان قد صدر قرار بتأييد الديمقراطية والحياة النيابية واعتدى المتظاهرون على الدكتور عبد الرازق السنهوري وعلى باقي الأعضاء بالضرب الشديد ومزقوا القرار الذي تم اعتماده بعد أن تمت محاصرة مستشاري مجلس الدولة وحبسهم في قاعة الاجتماعات ثم إجبارهم على توقيع بيان بتأييد مجلس الثورة.

وقد اتهم السنهوري أمام النيابة العامة جمال عبد الناصر بتدبير الحادث كما أنه رفض مقابلته عندما زاره بعد الاعتداء عليه ليعوده.ثم سقط السنهوري من رئاسة مجلس الدولة بحكم قانون صدر بمنع الوزراء الحزبيين من ممارسة العمل.

وظل السنهوري بعيدا عن الأحداث إلى أن وافاه الأجل واختاره الله في سنة 1971 وكان رحمه الله قد حصل على جائزة الدولة التقديرية سنة 1970 في عهد الرئيس عبد الناصر.

مجلس الوصاية على العرش

في مساء يوم الأربعاء 10 يوليو 1952 دخل مكتبي القائم مقام محمد رشاد مهنا فحييته مرحبا وجلس معي بعض الوقت دون أن أعلم سبب مجيئه وخجلت من سؤاله عن ذلك وبعد تناول القهوة استدعاني الرئيس الراحل علي ماهر باشا وسألني عن مجيء القائم مقام رشاد مهنا فأجبته بالإيجاب فقال: أحضر صورة من القسم لكي يحلف اليمين أمامي.

فسألته:

أي الوزارات سوف تسند إليه؟وزارة المواصلات.

وصحبته إلى مكتب الرئيس ماهر حيث حلف اليمين وصدر المرسوم بتعيينه وزيرا وفي 2 سبتمبر سنة 1952 قرر مجلس الوزراء برئاسة علي ماهر تأليف هيئة الوصاية المؤقتة للعرش من:

الأمير محمد عبد المنعم بهي الدين بركات باشا محمد رشاد منها واستمر القائم مقام رشاد مهنا في أداء عملة من قصر عابدين حتى يوم 14 أكتوبر سنة 1952 حيث أقيل من منصبه بعد مشادة حدثت بينه وبين الرئيس اللواء أركان حرب محمد نجيب بعد أن أفهمه بأنه يتدخل في شئون الحكم ولا يلتزم حدود منصبه كوصي على العرش وأنه كان يقوم بدعاية صحفية واسعة وهنا. ثار مهنا وخبط بيده على مكتبه قائلا:

أنا هنا .وصي يعني ثلث ملك.وقد خرج من المكتب الرئيس نجيب غاضبا ونقل ما حدث إلى زملائه وصدر المرسوم بإعفاء رشاد مهنا من منصبه.

ثم ما لبث أن أعفى بهي الدين بركات باشا أيضا من منصبه وترك الأمير محمد عبد المنعم وصيا وحده على العرش إلى حين إعلان الجمهورية في 8 يونيو سنة 1953 وعقب إقالة القائم مقام رشاد مهنا صدر الأمر بتحديد إقامته بمنزله في منشية البكري ثم اتهم بعد ذلك بالاتصال ببعض زملائه من ضباط الجيش لكسب عطفهم بعد إقالته بدعوى عدم إعطائه الفرصة لتحقيق ما كان يطمح إليه من إصلاحات وألقى القبض عليه بتهمة تدبير مؤامرة لإحداث فتنة بين أفراد القوات المسلحة والاستيلاء على قيادة الجيش.

وقدم إلى المحكمة أمام مجلس الثورة بهيئة محكم ة وأصدر المجلس في 19 مارس 1953 الحكم عليه بالسجن المؤبد.ثم أفرج عنه إفراجا صحيا بعد ذلك.

الأمير عبد المنعم يبكي

استمر الأمير عبد المنعم وصيا على العرش وكان لا يعترض على ما يطلب منه ثم نحي من منصبه بعد إعلان الجمهورية في 18 يونيو سنة 1953 وظل في قصره معتكفا راضيا بمرتبه وقدره 150 جنيها.

وفي سبتمبر سنة 1958 اتصل بي الأمير عبد المنعم وطلب مني إبلاغ الرئيس عبد الناصر أنه يريد السفر إلى الخارج وأنه طلب تأشيرة الخروج من السيد زكريا محيي الدين وزير الداخلية فرفض ولما كنت أمينا طوال فترة عملي على أن أنقل الصورة الحقيقية لما يحدث إلى الرئيس وإبلاغه رغبات السياسيين القدامى الذين تربطهم بهم صلات قوية فقد سألني الرئيس عن سبب سفر الأمير فأخبرته بأنه سوف يسافر إلى سويسرا لزيارة أولاده الذين غادروا مصر منذ ثلاث سنوات.

ولكني قبل أن أستطرد في الكلام طلب مني إحضار مجلسة المصور وكنا يوم خميس فأحضرتها وأراني الرئيس صورة يوم توديع الملك فاروق على الباخرة.المحروسة كملك البلاد بعد تنحيته عن العرش في 26 يوليو سنة 1952 وصورة أخرى في الجهة المقابلة لما حدث بعد ثورة العراق من قتل لأفراد الأسرة المالكة العراقية الهاشمية.

وقال لي الرئيس عبد الناصر.شوفي الفرق بين المعاملة فبعد قيام الثورة مباشرة كنت النية متجهة من أحد أفراد مجلس قيادة الثورة لمحاكمة الملك وأعضاء الأسرة المالكة ولكني رفضت بشدة وهددت بالاستقالة لو نفذ ذلك.

فأخبرته:

تفرض يا سيادة الرئيس أنه سافر ولم يعد. فإننا نستفيد بقصره ونوفر للدولة 50 جنيها شهريا.واقتنع الرئيس وأصدر أمرا بسفر الأمير السابقة عبد المنعم.وغادر الأمير مصر ولم يعد حتى اليوم.وأصبح قصره الآن مقرا للضيافة باسم قصر الحرية.

وأذكر أنني عندما ذهبت لمقابلة الأمير وإبلاغه بالموافقة على سفره بكي كثيرا وقال: إن هذا الموقف يذكر بما حدث عندما أبلغه اللواء نجيب بإعلان الجمهورية في 18 يونيو سنة 1953 فقد بكي حينذاك وهو يسمع القرار الأخير في حكم أسرته التي ظلت تحكم مصر زهاء 148 عاما (1805- 1953)

الولايات المتحدة الأمريكية واللواء نجيب

اذكر أن اللواء محمد نجيب حدثني ذات يوم أنه لم ير السفير الأمريكي جيفرسون كافري أول مرة إلا يوم وداع الملك فاروق الراحل.واستمر اللواء نجيب لا يقابل السفير الأمريكي حتى دعي للعشاء على مائدة البكباشي عبد المنعم أمين في منزله، وكان حاضرا العشاء السفير الأمريكي وأربعة من رجال السفارة اثنان منهم من المخابرات المركزية الأمريكية وكان يصاحب اللواء نجيب أربعة من أعضاء مجلس قيادة الثورة

هم: جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وعبد اللطيف البغدادي وذكريا محيي الدين كما كان معهم اليوزباشي محمد رياض قائد حرس اللواء نجيب ثم تكررت الدعوة للعشاء بعد أسبوع.

ويذكر اللواء نجيب أنه صرح للسفير الأمريكي عندما أنذره بالخطر الشيوعي الذي يتهدد مصر أنه لا يخشى على البلاد من الشيوعية كما أنه يرفض التعاون بين أجهزة الأمن والمخابرات الأمريكية لخوفه من أن ينقلب جهاز الأمن إلى أداة تسلط على الشعب وأن يصير هو الحاكم الفعلي.

وقال لي اللواء نجيب أنه انقطع عن مقابلة الأمريكيين ولكنه علم بعد ذلك أن جمال عبد الناصر لا يزال على اتصال برجال المخابرات الأمريكية مستر (كوميت رزفلت) وأنه يجتمع به بمجلس قيادة الثورة فطلب اللواء نجيب من جمال عبد الناصر الامتناع عن مقابلة هذا الرجل بسبب أن اجتماعه به أمر خطير جدا وأن الأمريكيين يريدون تخريب الثورة والقضاء عليها واحتوائها في ركاب الولايات المتحدة الأمريكية

مسدس من أيزنهاور

سنة 1953 طلب السفير جيفرسون مقابلة اللواء محمد نجيب لإبلاغه عن زيارة جون فوستردالاس وزير الخارجية الأمريكية.

وأثناء المقابلة قال السفير الأمريكي:

إن حوادث الصدام وعدم الاتفاق بين الحكمة المصرية والحكومة الإنجليزية تهدد باضطراب في منطقة الشرق الأوسط.

فرد اللواء نجي قائلا:

وما ذنبنا نحن؟

فقال كافري:

مهما يكن فإن هذه المنطقة يهم الولايات المتحدة استمرار الهدوء فيها في هذه الآونة التي اشتدت فيها الحرب الباردة بين الشرق والغرب.

فقال نجيب

إن مراوغة الإنجليز كانت هي السبب الرئيسي في قطع المفاوضات وفي عودة حزب العصابات.

فقال كافري:

أنا معك يا سيادة الرئيس في ذلك وأقترح أن تتوسط الولايات المتحدة مرة أخرى بعد وساطتها الأولى في تسهيل بدء المفاوضات وأن تشترك كطرف ثالث ضمانا لنجاحها.

فرد نجيب:

لا أعتقد أن هذا الاقتراح مجد

فقال كافري:

إنني يا سيادة الرئيس أعرض الوساطة بين مصر وبريطانيا بقصد تضييق شقة الخلاف وتحديد المحادثات إذا بدأت في التفصيلات وهو ما يزيد فرص النجاح ووافق اللواء نجيب على هذا الاقتراح.

وبعد أيام وصل مستر جون فوستردالاس لزيارة مصر وهرع لاستقباله الدكتور أحمد حسين سفير مصر في واشنطن بعد سفره لأمريكا بعشرة أيام وتقديم أوراق اعتماده بخمسة أيام ورحب بدالاس في القاهرة ولم تعارض هذه الزيارة إلا جريدة المصري

وقابل دالاس محمد نجيب وقدم إليه رسالة شكر من الرئيس أيزنهاور عبارة عن هدية أرسلتها الحكمة المصرية مع السفير أحمد حسين وكانت تمثالا لآلهة الحكمة من آثار مصر القديمة ومع خطاب الشكر هدية من الرئيس أيزنهاور وهي عبارة عن مسدس قبضته بالفضة ونقشت عليه العبارة الآتية بالإنجليزية.

إلى الجنرال نجيب من صديقه الجنرال أيزنهاور وقال دالاس وهو يقدم المسدس للرئيس نجيب.يا سيادة الرئيس أنها هدية عظيمة وعقب جيفرسون كافري قائلا..إنها هدية نافعة لكن لتأييد السلام

فقال نجيب ضاحكا:

إننا نستخدم السلاح فقط في حالة الدفاع عن النفس.وكان المسدس بلا ذخيرة واستدعاني اللواء نجيب إلى مكتبه وأراني المسدس فارغا وقد بذلنا محاولات للبحث عن ذخيرة له.

وقلت له بعد هذه المحاولات:

لم أجد ذخيرة له لأنه مسدس من عيار خاص غير متوافر..

فرد نجيب .. ساخرا

إن هذا المسدس لعبة أمريكية معروفة وما أكثر ألاعيب الولايات المتحدة.

الاتحاد السوفيتي واللواء نجيب

كان للحرب العالمية الثانية والسنوات التي أعقبتها أثر كبير في تطور الأوضاع السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط ولعل أهم ما يستلفت نظرنا ما أبرزته الوثائق الألمانية التي كشفت في محاكمات نورمبرج عن محاولات جرت في خلال السنوات الأولى من الحرب العالمية الثانية ولا سيما في نهاية عام 1940 بتقسيم مناطق النفوذ بين دول المحور والاتحاد السوفيتي

حيث طالب السوفيتي بأن تمتد مناطق نفوذهم عبر إيران حتى الخليج العربي وعلى الرغم من أنه لم يترتب على هذه المحاولة أي أثر إيجابي حيث أنها لم تتعد تتبادل الرأي بين مولوتوف وزير خارجية الاتحاد السوفيتي والسفير الألماني في موسكو أنها تسجل بداية تطلع الاتحاد السوفيتي إلى مناطق النفوذ في الشرق الأوسط.

ولم تلبث أن تكررت هذه المحاولة في العام التالي حينما اشترط مولوتوف عند اجتماعهما في مارس 1941 أن تطلق يد موسكو في العراق وأن تستولي على جزء من المناطق الشرقية بهدف تأمين الإشراف السوفيتي على كل مياه الخليج العربي الفارسي وخليج عدن

أما مصر فلم تعترف بالاتحاد السوفيتي إلا سنة 1943 وكانت العلاقات بين الدولتين مفقودة تماما قبل هذا التاريخي وفي أوائل سنة 1943 رؤى لاعتبارات تتعلق بالسياسة الدولية العدول عن هذا الموقف فزار الرفيق فينشكي نائب وزير خارجية الاتحاد السوفيتي وقتذاك رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية المصري وقتئذ رفعة مصطفى النحاس باشا وعلى أثر هذه الزيارة وافق مجلس الوزراء في 19 مايو سنة 1943 على تبادل التمثيل السياسي بين الدولتين وقد تم ذلك بمذكرات تبادلها سفير مصر في بلاط سان جيمس حسن نشأت باشا والرفيق مايكسي سفير الاتحاد السوفيتي هناك

وقبل إلغاء وزارة الوفد لمعاهدة 1936 وبداية حركة الفدائيين كانت الوزارة قد أرسلت في سبتمبر بعثة برئاسة وزير الحربية والبحرية مصطفى نصرت باشا إلى أوربا لمحاولة التعاقد مع شركات أسلحة فرنسية وبلجيكية وهولاندية وسويسرية وألمانية لتسليح الجيش المصري.

وقد كتب مصطفى نصرت باشا عدة تقارير من أوربا أهمها التقرير الذي كتبه بتاريخ 26 أكتوبر سنة 1951 من باريس حول إنجازات البعثة المصرية في بلدان أوربا للتعاقد على تسليح الجيش المصري.

والثابت أن الدافع لإرسال هذه البعثة للتعاقد على تسليح الجيش المصري قبل إلغاء المعاهدة في أ:توبر سنة 951 هو تصاعد الموقف العدائي من جانب انجلترا وقد تمكنت اللجنة من إتماما عقد الصفقات مع الشركات السويسرية والسويدية والفرنسية كما حصلت على عرض لتوريد عربات وجررات للمدافع من شركات ألمانية وفرنسية وإيطالية كما تقدمت لها عروض من الحكومة التشيكوسوفاكية بتوريد معدات جاهزة للتسليم.

وكانت الحكومة المصرية فيما يبدو تنوي الاتفاق معها على شراء معدات حربية من تشيكوسلوفاكية. ثم قامت حركة الجيش سنة 1952 ولم يتم الاتفاق مع الحكومة التشيكية حتى سنة 1955 عندما أبرم الرئيس جمال عبد الناصر صفقة الأسلحة المشهورة.

وأذكر أن اللواء نجيب كان قد طلب من الولايات المتحدة الأمريكية تسليح الجيش المصري وقد قائمة للأسلحة للمستر وليم فوستر مساعد وزير الدفاع الأمريكي أثناء زيارته لمصر وطلب مساعدة الوزير إرسال بعثة مصرية للتحدث مع المسئولين في البنتاجون وأرسلت بعثة يرأسها علي صبري وظلت ثمانية أسابيع ثم عادت دون نتيجة وقدم اللواء نجيب قائمة ثانية إلى جون فوستردالاس ولكنها لم تحقق شيئا وصرح اللواء نجيب وقتذاك إلى الصحف بـأنه:

لابد أن نحصل على أسلحة حديثة من دولة ما وفي حالة امتناع أمريكا والديمقراطية الغربية عن مساعدتنا فمن البديهي في هذه الحالة أننا سنلجأ إلى غيرها

وذات يوم يوم في ديسمبر سنة 1953 حضر لزيارة اللواء نجيب السفير السوفيتي بنيامين سولود وأثناء تناول القهوة قال السفير:

لماذا أنتم مع الغرب ضدنا؟؟

وأجاب اللواء نجيب بسخرية

لأن الغرب ومنه الإنجليز أصدقاؤنا أما أنتم الروس فإنكم تحتلون بلادنا وظهرت الدهشة والاستغراب على وجه السفير السوفيتي وقال مستنكرا نحن نحتل بلادكم؟

ولما ظهر للسفير السوفيتي أن الرئيس تجيب يداعبه يدا الارتياح على محياه وضاعت الدهشة وقال: إن كان الإنجليز يحتلون بلادكم فلماذا لا تطردونهم؟

فرد اللواء نجيب قائلا:

نحن لا نملك السلاح الذي يهيئ لنا معركة ناجحة مع 80000جندي بريطاني

ثم سكت ليقول:

لماذا لا تقدمون لنا السلاح؟

وقال السفير في صراحة:

إذا قدمنا لكن السلاح استخدمتموه ضدنا.

فقال اللواء نجيب:

وكيف نستخدمه ضدكم، هل سنعبر سينا وإسرائيل وسوريا والقوقاز

ثم أضاف يقول:

المنطق يقول إننا أصدقاء لكم ولا يوجد سبب واحد للعداء معكم فكل قطعة سلاح تشجعنا على محاربة الاستعمار.

وقال سولود:هل الرئيس جاد فيما يتحدث به

فرد اللواء نجيب قائلا:

إنني جاد تماما وإنني وعلى استعداد للحصول على السلاح من أي دولة تمدنا به.

وقال سولود:

سأكتب إلى موسكو وأوافيك بالرد.وبعد ثلاثة أسابيع زار سولود اللواء نجيب في منزله، وكان اليوم يوم جمعه وكانت زيارة قصيرة لم تستغرق إلا نصف ساعة.

وقال السفير:

يا سيادة الرئيس إن موسكو وافقت على إعطائكم السلاح من ناحية المبدأ ونحن ننتظر منكم تفاصيل ما تطلبون وكان الرئيس نجيب مبتهجا..وأرسل السفير إلى اللواء عبد الحكيم عامر وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة المصرية وطلب منه إعداد قائمة بالأسلحة المطلوبة.

وتابع اللواء نجيب الموضوع مع عبد الحكيم عامر في حدود ما سمحت به أعباؤه وكان الرد دائما أن الموضوع محل دراسة لما يتطلبه تغيير نوع السلاح في نظم القوات المسلحة والتكتيك الذي تتبعه. ولم تتم الصفقة إلا بعد سنة 1955.

النحاس باشا واللواء نجيب وإلغاء الأحزاب

عندما أصدر الملك فؤاد قرارا بحل البرلمان سنة 1930 ومنع مجلس النواب من الانعقاد وكانت أغلبيته وفدية وثار الشعب على الإجراءات الغاشمة التي اتخذها إسماعيل صدقي باشا من تعطيل دستور 1923 ثم إلغائه رأي الضباط محمد نجيب وكانت له صلات وطنية بالحركة التي قامت في السودان ضد الإنجليز أن يقابل الزعيم الخالد مصطفى النحاس باشا.

ويذكر اللواء محمد نجيب أنه لم يكن سهلا على ضابط يرتدي الملابس الرسمية أن يذهب إلى منزل كان يخضع لرقابة البوليس، فلم يكن من سبيل للوصول إلى إليه إلا عن طريق صديق مشترك بينهما.

وقرر محمد نجيب أن يذهب متنكرا معتمدا على لون بشرته الذي يقترب من لون أبناء النوبة والسودان وكانت وسيلة التنكر ساذجة إذ لبس نجيب جلبابا بلديا فوق ملابسه الرسمية وقفز فوق سور الحديقة من منزل المرحوم محمد حمد الباسل باشا المجاور لمنزل النحاس باشا ولكنه فوجئ بكلب شرس يهجم عليه ويحاول افتراسه ولم ينقذه سوى البواب بعد أن رفع جلبابه وكشف عن شخصيته.

وتمت المقابلة الأولى بين الزعيم مصطفى النحاس باشا ومحمد نجيب وكان مع النحاس باشا من زعماء الوفد مكرم عبيد باشا ومحمود فهمي النقراشي باشا الذي استمرت الصلة بينه وبين محمد نجيب.

وكان اللواء محمد نجيب منفعلا وبدأ حديثه مع مصطفى النحاس بكلام عاطفي حماسي عن استعداد الجيش لمقاومة الإجراءات غير الدستورية التي أنزلها الملك بالدستور واستمع النحاس باشا إلى حديث الضباط المنفعل ثم قال هادئا.

إنني أوثر أن يكون الجيش بعيدا عن السياسة وأن تكون الأمة مصدر السلطات وأتمنى أن يكون ولاء الضباط للوطن والشعب أكثر مما هو لشخص الملك الزائل ..

وكانت المقابلة مثيرة ومرحة .. تبادل الزعيم النحاس باشا ومحمد نجيب الضحكات وخاصة عندما عاد محمد نجيب إلى ارتداء الجلباب استعداد للخروج وعانقه الزعيم وصحبه مع تمنياته بالتوفيق.

ولكن خروج اللواء نجيب لم يمر بسلام إذ تبعه أحد رجال البوليس السري الذين يحيطون بمنزل النحاس باشا فأسرع في خطاه واختفى عند ناصية أحد الشوارع وخلع الجلباب في سرعة فظهرت ملابسه الرسمية واستدار راجعا ليواجه المخبر ويمر به وهو يسرع للبحث عن الرجل الذي يتعقبه.

وبالرغم من أن النحاس باشا حاول إصلاح الجيش سنة 1937 وأصدر قانون بشأن تشكيل مجلس الدفاع الوطني بحيث يجعل ولاء الجيش للشعب والأمة وأثار هذا القانون في ذلك الحين ضجة كبرى، فإن نجيبا لم يقابل النحاس باشا إلا في يوم عودته من أوربا عند وقوع الانقلاب سنة 1952 ثم مرة أخرى عند زيارة النحاس باشا لرئاسة الوزراء إثر تولي نجيب لها في سبتمبر سنة 1952 ومرة ثالثة النحاس باشا لرئاسة الوزارة إثر تولي نجيب لها في 1952 ومرة ثالثة وأخيرة عندما قام اللواء نجيب برد هذه الزيارة.

وبالرغم من أن حادث 4 فبراير سنة 1942 نسب إلى النحاس باشا وقد أثبتت الوثائق التي نشرت أخيرا براءة النحاس باشا من هذا الحادث فقد كان محمد نجيب هو الضابط الوحيد الذي قدم استقالته احتجاجا على هذا الموقف وجاء في الاستقالة حيث إنني لم أستطع أن أحمي مليكي وقت الخطر فإن لأخجل من ارتداء بذلتي العسكرية والسير بها بين المواطنين:

لكن الملك أعاد الاستقالة مع ياوره عبد الله باشا النجومي واضطر اللواء لسحبها نزولا على رأي زملائه. ثم وقع الانقلاب.وبدأت حركة الجيش في اعتقال السياسيين القدامى بحجة تهدئة الجو السياسي الذي اضطرب في الأيام الأخيرة لوزارة علي ماهر باشا وتولي اللواء نجيب رئاسة الوزراء ولكن لوحظ أن الشكوك قد بذرت بين الأحزاب السياسية وبين حركة الجيش ولم يكن هناك مفر من المضي في هذا الطريق إلى غايته.

وجاء دور سليمان حافظ وكان حاقدا على مصطفى النحاس باشا حقدا دفينا ليقدم مشروع قانون لتنظيم الأحزاب السياسية وكان يقصد من ورائه هدم حزب مصطفى النحاس أولا وأخيرا.

وعارض المشروع الدكتور السنهوري باشا معارضة شديدة من حيث المبدأ تأسيسا على أ، الدستور لا يمنع تنظيم الأحزاب على اعتبار أنها نوع من الجمعيات كما أن العرف الدستوري جري على عدم تعرض الشروع لها تاركا أمر تنظيمهن لرجالها وكانت حجة سليمان حافظ هي أن الأحزاب قد فسدت بما يفسد المعنى الحقيقي للديمقراطية البرلمانية واضطر الدكتور السنهوري إزاء إصرار سليمان حافظ إلى إقرار المشروع بشرط ألا يكون تدخل الإدارة إلا عند الاقتضاء لتحقيق أغراض القانون وأن تخضع في تدخلها لرقابة مباشرة من مجلس الدولة.

وأيد اللواء نجيب المشروع إيمانا بأن الرقابة القضائية خير كفيل لحماية الأحزاب في تسليط الحكومة ولحماية الحكومة ذاتها من سلطتها.وفي هذه الظروف صدر قانون تنظيم الأحزاب السياسية وبدأت معركة طاحنة بين الأحزاب وحركة الجيش ولم يكن لهذا القانون نظير سوى في العراق وألمانيا الديمقراطية.

وكان القانون في أحكامه ينص على اعتبار الأحزاب منحلة منذ صدوره على يعاد تأسيسها من جديد وفقا لأحكامه. ويذكر اللواء نجيب أن جماعة الإخوان المسلمين كانت قد تقدمت بإخطار عن تأسيسها على وجه الاحتياط في حالة اعتبارها حزبا بمقتضى القانون ولكن جمال عبد الناصر قال له:

إن الجماعة كانت من أكبر أعوان الحركة قبل قيامها وأنه لا يصح أن يطبق عليها قانون الأحزاب. واعترض اللواء نجيب على هذا الرأس استنادا إلى أن القوى السياسية يجب أن تكون أمام القانون سواء ولكن جمال عبد الناصر اتصل بسليمان حافظ الذي بحث له عن مخرج يجعل في إمكان الجماعة أن تدخل تعديلا على الإخطار يخرجها من نطاق الأحزاب السياسية ثم قام المرحوم حسن الهضيبي بك وجمال عبد الناصر بزيارة سليمان حافظ بوزارة الداخلية.

وكان من الواضح أن القانون لم يكن يستهدف سوى الوفد باعتباره حزب الأغلبية الذي يتمتع بتأثير شعبي واسع كما كان صاحب الأغلبية الساحقة في البرلمان الأخير ونتيجة الإصرار على تنفيذ القانون تقدم 16 حزبا بإخطارات تكوين إلى وزارة الداخلية وشن الوفد في صحفه حملة ضارية على هذا الاتجاه عامة وعلى سليمان حافظ بصورة خاصة.

ولم يكن مجلس القيادة يتوقع هذه الحملة الرهيب ودارت مناقشات شديدة داخل المجلس حضرها سليمان حافظ الذي استمات في الدفاع عن المشروع وقد أيده في ذلك الشقيقان صلاح سالم وجمال سالم أما جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر ويوسف صديق وخالد محيي الدين فقد اعترضوا على المشروع ولكن حقد سليمان حافظ الدفين لم يحل دون أن يعترض على تعيين مصطفى النحاس باشا في الرئاسة الشرفية لهيئة الوفد المصري الذي ظل رئيسا وزعيما لها زهاء ربع قرن.

ولم يسكت مصطفى النحاس فأصدر بيانا للناس جاء فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم

إنني أعد نفسي دائما ملكا للشعب وقد كان ثقتي في الشعب وثقته في شخصي طوال حياتي السياسية عوني على الشدائد وظهري في العيش وسأظل ما بقي من عمري ملكا لهذا الشعب الوفي ولن تستطيع قوة أن تنحيني عن هذه المكانة بعد الله جلت قدرته إلا الشعب دون سواه.

والله ولي التوفيق.

وقد كان البيان مؤثرا وبليغا.وكان السؤال هو: من الذي يملك حق انتزاع هذا الرجل من مكانه في الوفد؟ هل اعتراض سليمان حافظ على رئاسته للوفد سيؤدي إلى انتزاعه من قلوب الناس

وراجع اللواء نجيب سليمان حافظ ولكن سليمان حافظ لم تكن تنقصه ذلاقة اللسان في تجسيم خطر الأحزاب على مسيرة الحركة أو رواية بعض المهازل والمفاسد التي أطاحت ببعض زعماء الحياة السياسية في مصر.

ثم عرض الأمر على مجلس قيادة الثورة بعد ذلك ولكن لاحظ اللواء نجيب أن صوت المعارضة قد خفت ومرد ذلك قد يكون لأن مقاومة الأحزاب لم تكن صلبة أو أن كثيرا من التناقضات الشخصية قد جعلت عددا من القادة يلجأون إلى ضباط الحركة بقصد التشهير بزملائهم.

والله ولي التوفيق.وقد حاول اللواء نجيب أن يتفادى هذه الأزمة بتأكيد موعد الانتخابات في فبراير سنة 1953 وصرح للصحف بقوله:والله ولي التوفيق.

إنه إذا تم تطهير قواعد الأحزاب التي مهما أحاط بقادتها من شبهات فإنها ولا شك سليمة لأنها في مجموعها تشكل شعبنا العظيم.وذلك بقصد كسب ثقة قواعد الأحزاب.وظلت معركة الأحزاب تشكل الواجهة الرئيسية لأيام هذه الفترة وتميزت بنشاط شديد خارج الجيش وداخل الجيش أيضا.

وسقط دستور 1923 وكان المحرك الأول هو سليمان حافظ أيضا بدعوى أن فساد الحكم السابق وعفونته تستدعي عمليات تطهير واسعة تقوم بها عشرات من اللجان شكلت بمقتضى قوانين خاصة أولاها ذات صبغة قضائية وعلى رأسها قاضي وتضم أحد رجال النيابة العام لتفحص حالات موظفي الدولة وتفصل من يستحق الفصل منهم أما الثانية فكانت لجانا قضائية برياسة مستشار وعضوية اثنين من كبار رجال القضاء للتحقيق في الأعمال الحكومية وإحالة المسئولية إلى المحاكم الجنائية أو الإدارية حسب الأحوال

وقال سليمان حافظ:

إن اللجان الأولى تسير في أعمالها أما اللجان الثانية فكانت تصطدم بأن كثيرا من الوزراء السابقين تقع عليهم المسئولية الجنائية أو السياسية ولا يجوز الوصول إليهم لأن الدستور يضفي عليهم الحماية من القضاء العادي ويجعل لهم محكمة خاصة لا ترفع أمامها الدعوى إلا بناء على قرار من مجلس النواب ولذلك يتعين إلغاء الدستور.وصدر قرار الإلغاء.

وفي أزمة مارس سنة 1954 كانت الأحزاب السياسية ملغاة ونشاطها محظور وقيادتها معتقلة وطالب اللواء نجيب بعودة الأحزاب السياسية قبل انتخابات الجمعية التأسيسية لكي تأخذ المعركة الانتخابية أبعادها الحقيقية وكانت الأحزاب منذ الحركة قد غيرت تنظيماتها وأفكارها وأعلنت برامجها وعقب صدور قانون تنظيم الأحزاب.

وكان برنامج الوفد ينادي بسياسة ديمقراطية اشتراكية لتحقيق الاستقلال والوحدة ورفض جميع صور الدفاع المشترك كما طالب بوضع حد أدنى للأجور وصدور قانون بمعاقبة الوزراء واستصدار قانون تأمين صحي واجتماعي للعمال وأفراد أسرهم والانتهاء من تعميم المياه الصالحة للشرب خلال خمس سنوات كما أعلن البرنامج موافقته على مشروع الإصلاح الزراعي بوصفه محققا للعدالة الاجتماعية والتقريب بين الطبقات.

وكانت هناك معركة واضحة على صفحات الصحف فقد تبنت جريدة المصري عودة الأحزاب والديمقراطية أما جريدة الأخبار فقد بدأت تهاجم فكرة الانتخابات وتحذر من جهل المواطنين.

ويذكر اللواء نجيب أن جمال عبد الناصر قدم لمجلس الثورة كشفا بأسماء بعض الزعماء السياسيين لاعتقالهم وكان من بين الأسماء مصطفى النحاس لتحديد إقامته ورفض اللواء نجيب هذا الاقتراح ووافقه المجلس بعد معارضة شديدة وشطب اسمه من كشف المعتقلين.

وشطب اسم النحاس من الكشف ووقع عليه ولكنه فوجئ بأنهم أعادوا اسمه للكشف بعد التوقيع عليها واستاء اللواء نجيب ولكن جمال عبد الناصر قال: إن إلغاء التحديد عن مصطفى النحاس بعد نشر ذلك يزيد الموقف بلبلة.

ومن الغريب أن جمال عبد الناصر كان في وقت من الأوقات يعتبر من المدافعين عن الوفد عامة وعن مصطفى النحاس خاصة وكان لا يفتأ يردد: إن النحاس رجل طيب واللي يتعرض له مايشوفش خير.

وكان اللواء نجيب معتقدا في قرارة نفسه أن النحاس باشا قد حددت إقامته ظلما بل تزويرا لأن اسمه أقحم في كشف المتعقلين بعد توقيعه عليه.وخلال أزمة مارس سنة 1954 أفرج عن المعتقلين وألغى تحديد إقامة الزعيم مصطفى النحاس باشا.

وقد أراد اللواء نجيب أن يتأكد بنفسه من تنفيذ قرارات الإفراج عن المعتقلين واتصل بمنزل النحاس باشا ودارت بينهما المحادثات التالية بعد التحية وقال نجيب.لعلك راض الآن يا رفعة الرئيس.

فقال النحاس باشا:

راضي على أيه أنتم أفرجتم عن كل الناس بينهما ضوعفت الحراسة علي.

فقال نجيب مطمئنا وقد غلبته الدهشة.

إن شاء الله قريبا سيزول كل هذا الغبار.

وانتهت المحادثة بسؤال عن صحته وصحة السيدة الجليلة حرم النحاس باشا.وخرجت صحيفة الأخبار لتقول إن محمد نجيب يتصل بالأحزاب المنحلة لتدبير انقلاب في حين كان معظم رجال هذه الأحزاب في السجون والمعتقلات. واعتقل بعد ذلك محمد نجيب وظل النحاس باشا في الإقامة الجبرية مدة إثنى عشر عاما.ثم توفاه الله.

وأذكر أن جمال عبد الناصر كان في جدة عندما انتقل الزعيم مصطفى النحاس باشا إلى رحاب الله وكان توديع النحاس باشا رهيبا يحمل وفاء الأمة وتقديرها لمن عملوا لمصر لآخر قطرة من دمائهم ونبض من حياتهم وقامت مظاهرة كبرى نقلتها الصحف العالمية ووكالات الأنباء.

والتفت جلالة الملك فيصل إلى الرئيس وكان بجواره قائلا:

لقد كان النحاس باشا رحمه الله رجلا عظيما فاضلا.
وصمت جمال عبد الناصر.
وأرسلنا برقية إلى أسرة الزعيم.
وأرسل جلالة الملك فيصل برقية مؤثرة.
رحم الله الجميع.

اعتقال الهلالي

اعتقل نجيب باشا في الإسكندرية سنة 1953 ووصل الخبر إلى الأستاذ فريد زعلوك باشا الذي هرع لمقابلة صديق الشباب وزميل الصبا الدكتور نور الدين طراف وكان وزيرا للصحة في الوزارة الأولى التي شكلها اللواء محمد نجيب بعد قيام الثورة كما اتصل زعلوك بكاتب هذه الذكريات من مكتب الدكتور طراف طالبا موعدا لمقابلة الرئيس محمد نجيب وتمت المقابلة فورا.

وأذكر أن اللواء نجيب عندما رأى الأستاذ زعلوك بادره بالقول. أنا عارف أنت جاي ليه؟ أنت جاي تسأل عن الهلالي باشا دلوقت تروح لإسماعيل فريد علشان تقابل اللواء حسين حمدي.

وفعلا توجه الأستاذ زعلوك باشا بصحبة إسماعيل فريد واللواء حمدي إلى المدرسة الثانوية العسكرية حيث أحضر الحراس دولة الهلالي باشا من غرفته.وعندما علم الهلالي باشا بتفاصيل ما حدث للأستاذ زعلك ثار وصاح في وجهه:

مين قال تروح لدول وتطلب مقابلتي؟

فأجابه زعلوك باشا:

لقد وعدني الرئيس نجيب أنه سوف يفرج عن دولتك بعد 24 ساعة وفعلا أفرج عن دولة الهلالي باشا وجاء قرار الإفراج متأخرا ثلاثة شهور.

والجدير بالذكر أنه أثناء اعتقال الهلالي باشا في المدرسة الثانية العسكرية زار اللواء نجيب المعتقلين لكي يتفقد أحوالهم وعندما رآه الهلالي باشا رفض أن يمد يده لمصافحته وأشاح بوجهه عنه.

ومما يذكر أنه تصادف أن جاء عيد ميلاد الهلالي باشا وكان معتقلا ففكرت في أن أهنئه بهذه المناسبة وطلبت الإذن بمقابلته في الثانوية العسكرية ووفق على ذلك وأحضرت تورتة وشمعًا بهذه المناسبة.

وعندما وصلت إلى الثانوية العسكرية توجهت مع الضباط المنوب إلى غرفة الهلالي باشا فرأيت دولته يتناقش في مسألة قانونية مع المغفور لهم: عثمان محرم باشا وحامد جودة وعلى أيوب بك من كبار رجل السياسة والأحزاب في هذه الآونة.

ودخلت محييا وقدمت لدولته التهنئة المناسبة فاغرورقت عيناه بالدموع وقال بصوت متهدج إلى زملائه في المعتقل.شوفوا صلاح فيه الخير لم ينسني أو ينسى عيد ميلادي مع أن ابني نبيل كان عندي إمبارح في السجن وما افتكرشي عيد ميلادي وافتكره صلاح الشاهد والله الناس معادن.

محاكمة دولة إبراهيم عبد الهادي باشا

وفي 7 سبتمبر سنة 1952 بعد أن تولى اللواء نجيب رئاسة الوزراء أمر باعتقال بعض رجال السياسة القدامى أذكر منهم: دولة إبراهيم عبد الهادي باشا ودولة أحمد نجيب الهلالي باشا ونجيب سالم باشا وأحمد عبد الغفار باشا وإلهامي حسين ومرتضى المراغي وفؤاد أباظة ومحمود سليمان غنام عثمان محرم وحافظ عفيفي ومحمود غزالي باشا وصلاح الدين مرتجى وإمام الشيمي والدكتور يوسف رشاد والنبيل عباس حليم واللواء أحمد طلعت واللواء عمر حسن وعبد العزيز البدراوي وإدجار جلاد وعبد الحميد سراج الدين وياسين سراج الدين واللواء وحيد شوقي وعلي الرجال وعلي الخشاشني ومحمود البديني والدكتور أحمد النقيب وعبد الحميد الوكيل وخليل الجزار وكمال عبد الرزاق وحافظ شيحا وكمال رياض والسيد سالم ومحمود طلعت ويوسف حبيب وعبد الوهاب حسني وعلي الزمر وممدوح رياض وحسن يوسف وسعد الدين السنباطي ومصطفى صادق ومصطفى فهمي. والحق يقال .. إنهم عوملوا في معتقلهم معاملة طيبة.

وتألفت محكمة الثورة في يوم الثلاثاء الخامس عشر من سبتمبر سنة 1953 وكانت برئاسة قائد الجناح: عبد اللطيف البغدادي وعضوية البكباشي أنور السادات وقائد الأسراب حسن إبراهيم.

وفي صباح اليوم التالي اجتمعت محكمة الثورة لأول مرة في مبنى مجلس قيادة الثورة بالجزيرة على النيل وكان الملك فاروق قد شيده ليقضي فيه بعض لياليه وأول من قدم لهذه المحكمة هو الرئيس السابق إبراهيم عبد الهادي باشا وحضر معه الأستاذ مصطفى مرعي المحامي والأستاذ علي أيوب المحامي.

والتهم التي وجهت إلى دولته ست تهم:

  1. أتى أفعالا تعبر خيانة للوطن وضد سلامته والأسس التي قامت عليها الثورة وذلك بأنه عمد إلى الاتصال بجهات أجنبية تهدف إلى الإضرار بالنظام الحاضر ومصلحة البلاد العليا.
  2. أتى أفعالا تعتبر خيانة للوطن وضد سلامته في الداخل والخارج وساعدت على تمكين الاستعمار بالبلاد وذلك أنه في خلال سنة 1948 أثناء توليه رئاسة ديوان الملك السابق عمل تنفيذ أهوائه بالزج بجيش مصر في معركة فلسطين قبل أن يتخذ الجيش أهبته لخوض غمارها.
  3. أتى أفعالا من شأنها إفساد إدارة الحكم في خلال الفترة بين 28 ديسمبر سنة 1948 و 25 يوليو سنة 1949 بوصفه رئيسا للوزارة بأن أشاع حكم الإرهاب واعتدى على الحريات العامة وتزعم حملة اعتقالات واسعة النطاق للتنكيل بالمواطنين.
  4. أتى أفعالا من شأنها إفساد أداة الحكم وذلك أنه خلال عام 1949 هيأ لأعوانه الأسباب التي يسرت لهم قتل المرحوم حسن البنا.
  5. أتى أفعالا من شأنها إفساد إدارة الحكم وذلك أنه في غضون سنتي 1948و 1949 ساهم مساهمة فعالة في تنفيذ مشروع إصلاح اليخت المحروسة.
  6. استغل نفوذه دون مراعاة للمصلحة العامة في إنشاء ورصف طرق ببلدته الزرقا مراعيا مصلحته ومصلحة ذويه مما حمل خزانة الدولة تكاليف باهظة.

واستمرت محكمة الثورة في نظر هذه القضية حتى انعقدت في صباح الخميس أول أكتوبر سنة 1953 وحكمت على دولة إبراهيم عبد الهادي بالنسبة للادعاءات المقامة عليه بالإعدام شنقا ومصادرة كل ما زاد عن ممتلكاته وأمواله عما ورثة شرعا لصالح الشعب.

وبعد ذلك قدم أبناء الرئيس السابق إبراهيم عبد الهادي التماسا إلى الرئيس نجيب وكنت أنا شخصيا الذي حملت هذا الالتماس إلى الرئيس نجيب الذي عرضه علي مجلس الثورة فرأى أن يخفف عقوبة الإعدام إلى السجن المؤبد. وهل أول رجل كان حاكما للشعب يدخل السجن.

من عجائب الأقدار

اجتمع مجلس قيادة الثورة في هيئة محكمة يوم 10 يناير سنة 1953 لمحاكمة البكباشي محمد حسني الدمنهوري وشقيقه اليوزباشي حسني رفعت الدمنهوري.

وقد وجهت إلى الشقيقين تهمة تدبير مؤامرة لإحداث فتنة بين القوات المسلحة وإضرار بالوطن ومصالح البلاد العليا.وأذكر أن مجلس قيادة الثورة قد أعطى لهذه القضية كبير الاهتمام ووصفها بأنها أخطر مؤامرة قد حاكها الأعداء للثورة منذ قيامها وبعد أقل من ستة شهور.

ولذلك فقد تولى المجلس نظرها بنفسه في هيئة محكمة كان يرأسها اللواء محمد نجيب.وقد نظر المجلس القضية وتحقق من خطورة الاتهامات المنسوبة إلى المتهمين وأصدر حكما على الشقيقين بالإعدام رميا بالرصاص ولكنه خفف على الشقيق الأصغر اكتفى بطرده من الخدمة العسكرية.وتحدد يوم حكم الإعدام.

وفي ليلة الإعدام حدث شيء لم يكن على البال، إذا انفجرت الزائدة الدودية عند البكباشي محمد حسني الدمنهوري وأصيب بالتهاب حاد في البريتون ونقل بين الموت والحياة إلى المستشفى العسكري وأجريت للمحكوم عليه بالإعدام عملية دقيقة وخطيرة وكان الطبيب الذي يقوم بالعملية هو اللواء طبيب عبد المجيد شهدي رحمه الله يخشى أن يموت المريض أثناء العملية فيقال أنه قتل دون تنفيذ الحكم ولكن المحكومة عليه بالإعدام لم يمت بل وهبت له الحياة وكان على أبواب الأبدية ونجا..

وتدخل القدر مرة أخرى وخفف الحكم إلى السجن المؤبد.وهكذا أفلت البكباشي محمد حسني الدمنهوري من موت محقق ومن حكم الإعدام في نفس الوقت.وكان حكم القدر، أقوى من حكم الإعدام فقد أفرج عنه نهائيا..

النحاس باشا والزعيم نهرو بعد ثورة 1952

أثناء مرور الزعيم جواهر لال نهرو بالقاهرة سنة 953 لحضور مؤتمر الكومونولث بلندن، طلب مقابلة مصطفى النحاس باشا وأصر على هذه المقابلة إصرار عجيبا لم تملك إزاءه حكومة الثورة إلا الإذعان.

وتمت المقابلة بناء على طلب سفير الهند في القاهرة بانيكار في 18 يونيو 953 يوم إعلان الجمهورية المصرية.والتقى زعيما والهند في منزل مصطفى النحاس باشا وقام بالترجمة بين الزعيمين الكبيرين الأستاذ إبراهيم فرج المحامي.

وقال زعيم الهند: إنه مسرور بمقابلة مصطفى النحاس خليفة سعد العظيم ومعلم جيلين من أجيال الهند، لقد كان غاندي العظيم يقتفي خطى زعيم مصر الراحل في توحيد طائفتي الأمة.ورد النحاس باشا بأنه كان صديقا لوالد الزعيم نهروا إذ كانت تربط بينهما صداقة وثيقة أيام لقائهما بباريس سنة 1920 فرد نهرو: بل أنت والد الجميع.

وتطرق الحديث بين الزعيم إلى الأحوال في مصر.. وكان النحاس باشا زعيم الليبرالية المصرية منطلقا إلى أبعد الحدود، وقال: إنه مغتبط بأن يرى الجمهورية وأن تزول الملكية في حياته بعد أن اتهم من الملك فؤاد والملك فاروق بأنه يسعى لإقامة الحكم الجمهوري في البلاد وتحمل من أجل ذلك الضربات تلو الضربات ولكنه اشترط أن تكون الجمهورية برلمانية تعبر عن حكم الشعب حقيقة أما حكم الفرد فتشقى البلاد به إذ ينتهي الأمر إلى حكم ضار وهدام للبلاد كان الوفد الفرد فتشقى البلاد به إذ ينتهي الأمر إلى حكم ضار وهدام للبلاد كان الوفد دائما دائما ضد الديكتاتورية وحكومة الفرد.

وكان نهرو يستمع إلى أستاذ كبير من أساتذة الديمقراطية كتلميذ في مقاعد الدراسة.وقص النحاس باشا على نهرو واقعة خطيرة مؤداها أنه التقى مع القائد محمد علي جناح بالقاهرة سنة 1946 وكان يقوم برحلة في البلاد العربية والإسلامية لشرح وجهة النظر لإقامة دولة الباكستان وتقسيم الهند إلى دولتين إحداهما دولة للمسلمين.

وذكر أن محمد علي جناح خاطبه بوصفه زعيما للمسلمين ولكن النحاس باشا اعترض على هذا الوصف وقال له:

لست زعيما للمسلمين بل أنا زعيم للمصرين ولست مؤمنا بالطوائف بين الشعب الواحد.ثم فند الزعيم مصطفى النحاس حجج تقسيم شبه القارة الهندية إلى دولتين وأوضح بجلاء أن هذه المؤامرات إنجليزية تقصد إشاعة الفرقة بين صفوف الشعب الواحد وأنه يؤمن بأنه يجب تسوية الخلافات الطائفية.

وكان نهرو مؤيدا لرأي الزعيم المصري وقال:

إن النحاس باشا دائما صادق مع نفسه، وصادق مع الآخرين لقد سمعت عن النحاس باشا ولكن لم أكن أعتقد أنه على القدر من الذكاء والحجة والألمعية.ولم يكتف النحاس باشا بذلك بل قدم لنهرو مذكرة تتضمن النقاط التي ناقشها مع محمد علي جناح عبد التقائهما سنة 1946.ورد النحاس باشا الزيارة حيث قابل الزعيم نهرو في السفارة الهندية واستمر اللقاء ساعة.

محمد نجيب وفؤاد جلال

أثناء تولي محمد نجيب رئاسة الجمهورية حضر إلى مصر فنان نمساوي وطلب أن يرسم للرئيس صورة بالباستيل وكان ضيفا على أحد المصريين.وبدأ الرسام برسم صورة اللواء نجيب بصالون مجلس الوزراء ساعة كل يوم إلى أن انتهت الصورة واتفق على نشرها كغلاف لمجلة المصور الأسبوعية.

ولكن الصورة لم تحز قبولا لدى الرئيس محمد نجيب فأمر بعدم نشرها بالمصور.واتصل يوم الأحد بالمرحوم فؤاد جلال وكان وزيرا للإرشاد القومي وأبلغته برغبة الرئيس في عدم نشر الصورة.

ولكن في يوم صدور المجلة الأربعاء فوجئت بأن الصورة منشورة على الغلاف فأخذت المجلة إلى مكتب اللواء محمد نجيب الذي غضب غضبا شديدا واتصل فورا بوزير الإرشاد القومي ولكن الوزير تنصل من ذلك بحجة أن أحد لم يتصل به فلم أتمالك نفس من أخذ السماعة وصحت في الوزير.

يا فؤاد بك أنا بلغتك يوم الأحد بعدم نشر الفنان النمساوي.

فقال: أيوه.. دا نمساوي.

فقلـت: ماهه نفس الصورة.

فقال: أنا ماعرفش إنه نمساوي.

فلم يتمالك محمد نجيب نفسه وجذب السماعة وقال للوزير بصور غاضب:

نمساوي ألماني، فرنساوي. قال لك صلاح وإلا لا؟ خللي عندكوا شجاعة

أدبية واعترف بالخطأ .... أنا مش محضر مشنقة عيب.

وأذكر أيضا أن الصديق القديم: أنور طه حبيب وكان رئيسا للنيابة كان منتدبا للعمل رقيبا عاما على الصحف خلال الأزمة بين مجلس الثورة والرئيس محمد نجيب وصدرت تعليمات إلى السيد فؤاد جلال وزير الإرشاد أنور طه حبيب أخبار عن اللواء نجيب وأبلغ الوزير هذه التعليمات إلى الأستاذ أنور طه حبيب الرقيب العام الذي قام بدوره بإبلاغ الصحف ذلك عن أن تتحمل إدارة كل صحيفة مسئوليتها عن النشر.

واتصل بالدكتور سيد أبو النجا وكان مديرا لتحرير جريدة المصري وأبلغه بالتعليمات وهي عدم النشر فقام الدكتور أبو النجا بالاتصال بالمرحوم محمود أبو الفتح بلندن الذي أحاله إلى الأستاذ أحمد أبو الفتح.

وعند إبلاغ الأستاذ أحمد أبو الفتح بذلك اتصل بالبكباشي جمال عبد الناصر نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية لكي يتبين منه حقيقة الأمر، ويبدو أن جمال عبد الناصر لم يكن على علم بالمسألة فاتصل بوزير الإرشاد القومي الذي أنكر صدور مثل هذه التعليمات عنه وأن الأستاذ أنور طه حبيب قد تصرف على مسئوليته وفوجئت بالزميل القديم في مكتبي بالرئاسة ليقص علي الخبر فأخذته من يده وأدخلته على اللواء محمد نجيب ليقص عليه ما حدث..

وأذكر واقعة أخرى خاصة بالمرحوم فؤاد جلال:

أبلغ الأستاذ أنور طه حبيب الرقيب العام المرحوم فؤاد جلال بأن المصور سينشر صورة لمجلس قيادة الثورة يظهر فيها القائم مقام يوسف منصور صديق بعد أن عزله المجلس من عضويته وأن التعليمات لديه بعدم نشر هذه الصورة ولكن السيد الوزير قال له أوافق على النشر على مسئولتي أنا الخاصة بوصفه وزيرا للإرشاد القومي.

وعند ظهور مجلة المصور وبها الصورة هاجت الدنيا وماجت وبسؤال الرقيب العام قال إن الوزير هو الآمر بالنشر.

وهنا أنكر الوزير وطلب من الرقيب العام مصادرة العدد وقال بالحرف الواحد.أوعى توري وشك لمحمد نجيب.وحضر إلى زميل الصبا الذي أعتز بصداقته وأبلغني ما حدث.فأخذته من يده إلى الرئيس نجيب وقص على الرئيس القصة.فرد الرئيس محمد نجيب مبتسما:الأزمة.... أزمة أخلاق وانعدام الشجاعة الأدبية.

الأصفر في حياة عبد الناصر الخاصة

كان اللون الأصفر أثيرا ومحببا لدى الرئيس عبد الناصر إذ أنه كان يستهويه أن تكون أشياؤه جميعها من اللون الأصفر كفوط الوجه والبرنس.

وأعتقد أن عددا قليلا من الناس يحبون اللون الأصفر ولا أدرى حتى الآن ما سر تعلق الرئيس بهذا اللون ولماذا كان يؤثره على غيره من الألوان.

الله سبحانه وتعالى هو الواسطة

كنت على علم بأن أحد الضباط قد لفق قضية تهريب لبعض الأشخاص بمبلغ مليون جنيه وكنت على يقين من أن القضية كاذبة فقد اتفق أحد الضباط على تسليم المبلغ وتأشيرات الخروج وقام بإيصال الحقائب بالمبلغ إلى الطائرة بناء على اتفاق نظير نصف مليون جنيه تدفع لشخص في بيروت.

وأمام هذه المغريات وقع الأشخاص في الشرك وقبض عليهم وقدموا إلى المحاكمة التي أصدرت حكمها بالسجن لمدد تتراوح بين خمس سنوات وعشر سنوات وبغرامة بلغت جميعها ثلاثة ملايين من الجنيهات.

وكان من بين هؤلاء الأشخاص ابن شقيقه المغفور له شكري القوتلي رئيس جمهورية سوريا.

وفي أحد الأيام حضرت إلى مكتبي بالرئاسة سيدة عجوز ومعها الأستاذ [[عدلي جلال]] المحرر بجريدة الأهرام وسلمني خطابا بلغة عربية فصحي على ورق لأحد المحامين وقالت في شكواها إن زوجها حكم عليه في قضية التهريب بالسجن عشر سنوات وغرامة نصف مليون جنيه وإن الحكومة شرعت في الحجز على أثاث بيتها وقدرته بمبلغ 300 جنيه وحددت يوما للبيع ولا تدري ما مصيرها ومصير أولادها إذا طردت من المنزل ولما كنت على يقين بأن القضية ملفقة، فقد وعدت السيدة ببذل جهدي لإبلاغ شكواها إلى الجهات المعنية وفعلا سلمت الشكوى إلى المرحوم فهمي السيد مستشار الرئيس جمال عبد الناصر الذي رفض الشكوى استنادا على أن القانون هو القانون هو القانون.

وحضرت السيدة مرة أخرى وفي هذه المرة سلمتني رسالة باللغة الإنجليزية وقالت إنها كتبت هذه الرسالة بوجدانها وشعورها وإحساسها.وقد أخذت الرسالة ووضعتها على مكتبي وكنت يائسا. فقد كنت أعرف الإجابة سلفا وهي الرفض لأن القانون هو القانون.

وكنا في الأيام التي سبقت إعلان الوحدة بين مصر وسوريا في 22 فبراير سنة 1958 وفي هذا اليوم وبمناسبة إهداء الرئيس شكري القوتلي بعض الأوسمة لبعض الشخصيات المصرية وإهداء الرئيس عبد الناصر أو سمة لبعض الشخصيات السورية ذهب الرئيسان إلى رئاسة مجلس الوزراء حيث خطبا في الجموع التي أتت للتهنئة بالحدث التاريخي الكبير.

وانصرف الرئيس القوتلي وطلب الرئيس عبد الناصر منى إحضار براءات الأوسمة لتوقيعها وأحضرت البراءات وبدأ الرئيس توقيع هذه الأوسمة.

وفجأة رأيت خطاب السيدة البائسة ضمن الأوراق ويبدو أن الحيرة ارتسمت على وجهي وسألني عبد الناصر. علي وجهي وسألني عبد الناصر:

إيه ده؟؟؟

فقلت:

دا خطاب بالإنجليزي وشكوى قدمتها سيدة لا أعرف من الذي دسه بين البراءات فقال:

فيه إيه؟؟

فقلت لسيادته:

إنها شكوى عرضتها على الأستاذ فهمي السيد. ورفضها..
وبدأت أذكر للرئيس القصة وهو يقرأ الخطاب.. فقال:
وبعد ذلك؟

فقلت:

لقد انتهى الأمر عبد ذلك.

فقال رحمه الله.

هذه السيدة واسطتها الله سبحانه وتعالى لأنها مظلومة، مش دي قضية المليون جنيه؟

فقلت: نعم

فأمر الرئيس بالإفراج عن زوجها في نفس اليوم وكلفني بإبلاغ السيدة المظلومة بالخبر ولكن ما لبث أن قال: ولا أقولك .. هات الورقة.. يفرج عن جميع المسجونين في هذه القضية.

وترفع الغرامات وتيم الإفراج عنهم الآن.ولقد هرعت إلى منزل السيدة وكانت تقطن بالدور السابع في إحدى العمارات بشارع الألفي وكان المصعد معطلا، ولكني صعدت السلم جريا وأنا أعلم أن الله قد أنقذ هذه البائسة بقدرته ورحمته.وكانت مفاجأة جعلت السيدة تبكي وهي تسمع الخبر بكاء طويلا.

حول حوادث 9 مارس 1954

وأذكر في خلال الفترة التي كان مجلس الثورة فيها يريد عزل اللواء محمد نجيب من رئاسة الجمهورية ومن كافة المناصب التي كان يشغلها تحركت بعض المظاهرات التي ذهبت إلى قصر الرئاسة بمجلس الوزارة تهتف بسقوط محمد نجيب وبحياة الضباط الأحرار، وكان المحرك لهذه المظاهرات الصاغ مجدي حسنين مساعد مدير مكتب محمد نجيب إذ كان بيده مكبر للصوت يصدر به أوامره للمتظاهرين بالحماس للهتاف ضد محمد نجيب.

وكان محمد بمكتبه يستمع إلى أصوات المتظاهرين مبتسما.. وقد حال ضباط الحراسة الذين اصطفوا على باب المكتب وأذكر منهم محمد رياض والشهيد نجم والضباط البحري لطفي السيد الذي كان ياورا بحريا للواء نجيب حالوا بينه المكتب والمتظاهرين.

وهنا تقدم أحد ضباط الشرطة العسكرية وهو خال لطفي السيد وصفعه على وجهه وهدده بالقتل... واستطاع الضباط أخذ محمد نجيب والخروج به سالما وعند توديع جلالة الملك سعود رحمه الله وكان بالمطار اللواء نجيب والبكباشي جمال عبد الناصر واللواء عبد الحميد عامر هرع اليوزباشي لطفي السيد إلى مقام الملك السعودي طالبا الحماية وإعطاءه حق اللجوء لأنه أصبح يخشى من الانتقام. فالتفت الملك إلى عبد الناصر قائلا:

سوف آخذه معي إلى السعودية وأنا ملك عربي لا أتخلى عمن يطلب حمايتي.ولكن عبد الناصر وعد الملك سعود بأن لطفي السيد لن يناله أذى.وبالفعل ترك لطفي السيد وشأنه وعاد إلى السلاح البحري ضابطا فيه.

نوري السعيد يقابل الرئيس بالمسدس

حضر نوري السعيد باشا رئيس حكومة العراق إلى القاهرة.وفي 15 سبتمبر سنة 1954 اجتمع بالرئيس جمال عبد الناصر والدكتور محمود فوزي وزير الخارجية وقبل مجيء رئيس وزراء العراق، كان الرئيس عبد الناصر قد أوفد المرحوم الصاغ صلاح سالم إلى العراق لإجراء محادثات تمهيدية مع نوري السعيد بقصد تقوية اتفاقية الميثاق العربي وهي ما عرفت بمحادثات سرسنك.

وحضر نوري باشا إلى دار الرئاسة يصحبه السيد صلاح سالم استقبلتهما علي سلم مجلس الوزراء مرحبا ولكني لاحظت أن دولة نوري السعيد يحمل مسدسا بجيبه الخلف وتعمد إبرازه فأوقفته له:

يا دولة الرئيس. أرجوك أن تترك المسدس مع ياورك.

فنظر إلي قائلا:

لماذا؟

قلت:

لقد جري العرف الدولي على ألا يدخل أحد لمقابلة رئيس دولة مسلحا.ولكنه أصر على أن يظل محتفظا بالمسدس بل بالعكس رفع الجاكتة من الخلف ليجعل المسدس بارزا ظاهرا مما أثار انتباه المصورين وأخت له عدة صور وهو يصافح الرئيس عبد الناصر وسلاحه ظاهر فيها.

اتفاقية الجلاء.. سنة 1954

وفي 19 أكتوبر سنة 1954 عقد الاتفاق المتضمن جلاء القوات البريطانية عن الأراضي المصرية في غضون عشرين شهرا من تاريخ التوقيع.

وفي تمام الساعة التاسعة انتقل المفاوضون إلى البهو الفرعوني بمجلس النواب للتوقيع على الاتفاقية وقد تولى إجراءات التوقيع قائد الجناح علي صبري مدير مكتب الرئيس جمال عبد الناصر وكان الجانب المصري في المباحثات يضم الرئيس عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وعبد اللطيف البغدادي وصلاح سالم والدكتور محمود فوزي ومن الجانب الإنجليزي السفير البريطاني السير رالف موري الوزير المفوض في السفارة العام للقوات البريطانية في منطقة القناة والمستر رالف موري الوزير المفوض في السفارة البريطانية بالقاهرة ثم حضر الجزء الأخير من مرحلة المباحثات المستر أنطواني هيد وزير الحربية والمستر شاكبور وكيل وزارة الخارجية.

وقيل في أسباب اختيار هذا المكان للتوقيع على الاتفاقية إنه بيت الشعب الذي اجتمع فيه ممثلو الشعب ولم يفعلوا شيئا.

وبعد ذلك أظهر الشعب ابتهاجا بتوقيع اتفاقية الجلاء وحضر آلاف المواطنين إلى دار الرئاسة للتهنئة وألقى بعضهم كلمات مشيدا بروعة الاتفاق وعظمته وفي يوم الخميس 21 أكتوبر سنة 1954 أقيمت مأدبة غداء باستراحة القناطر الخيرية تكريما لوفد المفاوضات.

وكان الرئيس عبد الناصر يعتزم الذهاب إلى الإسكندرية للاستجمام بسبب المجهود الذي بذله منذ إجراء المفاوضات في انتظار الاحتفال الشعبي الذي سوف يقام يوم 26 أكتوبر سنة 1954 تكريما للرئيس ولزملائه بمناسبة اتفاقية الجلاء.

ولكن أرجئ السفير بسبب وصول صاحب السمو الملكي الأمير محمد نعيم خان نائب رئيس مجلس وزراء أفغانستان إلى القاهرة خصيصا لمقابلة الرئيس عبد الناصر فقابله صباح السبت الموافق 24/ 10/ 1954 بمكتبه بالرئاسة ثم أقام مأدبة غداء بنادي ضباط الجيش بالزمالك.

وفي 24 أكتوبر حضر الرئيس احتفال مجلس إدارة نادي ضباط القوات المسلحة وفي الغد استقبل رئيس تحرير جريدة لايف الأمريكية وأدلى بتصريح بشأن الاتفاقية ثم سافر بعدها إلى الإسكندرية بالسيارة ونزل باستراحة ستانلي.

محاولة اغتيال الرئيس عبد الناصر 1954

لم أكن معتادا أن أحضر الاحتفالات الشعبية حيث كان عملي مقصورا على المراسم وعلى الحفلات الرسمية.لذلك فإنني بقيت في القاهرة يوم الثلاثاء 26 أكتوبر سنة 1954 لأنوب عن الرئيس في الحضور للاحتفال الذي أقامه سعادة سفير إيران بمناسبة ذكرى ميلاد جلالة الإمبراطور محمد رضا بهلوي.

وعند عودتي وكنت أقود السيارة سمعت جزءا من الخطاب الذي ألقاه الرئيس بالإسكندرية بميدان المنشية مهنئا شعب الثغر بتوقيع الاتفاقية مع الحكومة البريطانية وعندما وصل إلى قوله:

احتفل معكم اليوم بعيد الجلاء.. بعيد الحرية.. بعيد العزة والكرامة دوت طلقات من الرصاص متوالية سمعتها في الإذاعة وانقطعت الإذاعة فورا.

وتوجست خيفة على حياة الرئيس وتوجهت فورا إلى منزله بمنشية البكري وقابلت السيدة الفاضلة قرينة وطمأنتها على سلامته وأخذت أداعب أولادها وكانوا صغارا واتصلت تليفونيا بالإسكندرية فقيل إن الرئيس يحضر مأدبة عشاء أقيمت لتكريمه بإحدى فنادق الثغر وطلبت أن أحادثه ولكن كان المتحدث معي المرحوم صلاح سالم الذي طمأنني على سلامة الرئيس ورجوته أن يتصل الرئيس فورا عند وصوله إلى استراحة استانلي بمنزله وأنا باقي بالمنزل.

وبعد أكثر من ساعة ونصف اتصل الرئيس بي وتحدث مع السيدة قرينته وأولاده وفي غداة اليوم التالي عاد بالقطار الخاص إلى القاهرة حيث استقبل استقبالا شعبيا حافلا وما إن وصل إلى رياسة مجلس الوزراء حتى هرع الآلاف لتحية وخطب فيهم خطابا وطنيا.

ومن الطريف أنه عندما عاد إلى مكتبه كان مرهقا إرهاقا كبيرا وكان العرق يتصبب من كل جسمه واستحال عليه أن يفك رباط العنق (كرافته) مما دعاني إلى قصها من الخلف وخلعت رباط عنقي وأعيته للرئيس وكثيرا ما كان يذكرني بأنه احتفظ بهذه الكرافتة الحمراء ذكرى لهذا اليوم

17 نوفمبر سنة 1954

وكان مجلس الوزراء برئاسة الرئيس جمال عبد الناصر قد اجتمع لأول مرة بعد إقصاء محمد نجيب عن رئاسة الجمهورية وقد امتد اجتماع المجلس إلى ما بعد منتصف الليل.

وفي الساعة الأولى من صباح يوم 18 نوفمبر هبط مجلس الوزراء ضابط برتبة البكباشي المقدم وكان يختال كأنه هبط من السماء إلى الأرض وهو يضع نظارة زجاجة دون شمبر على أرنبة أنفه، ويضع تحية قال:

فين جمال؟

ولم أعر الأمر اهتماما وسألتهم دون اكتراث: جمال مين؟

فقال ولم تفارقه نغمة الخيلاء.

بل أتكلم جد .. أنت عايز جمال مين؟

فقال:

أنا أصلي دفعة جمال.

فقلت:

أنت تقصد البكباشي جمال عبد الناصر دفعتك.. ده يقطن منشية الطيران بمنشية البكري أما هنا الرئيس جمال عبد الناصر رئيس مجلس الوزراء وهو شخصية عامة لا تمت إليك بصلة وليس له أقرباء أو قرناء ولا أولاد ولا زملاء أثناء وجوده بالرئاسة أما في منزله فهو صديقك ورفيقك ودفعتك

ولكنه رد ببرود:

طيب قل للرئيس عبد الناصر أنا موجود وذكر اسمه.ولكني اعتذرت لأن الرئيس يرأس اجتماعا للوزراء ولا يمكنه أن يقابل أحدا فجلس في مكتبي دون استئذان وبعد دقائق دخل شخص يرتدي ملابس مدنية وجلس بجواره ثم أخذ يتحادثان وسمعت الضباط يقول لزميله.بكره أرسل واحد عسكري وبلاش واحد مدني.

فاعتبرت أن هذا القول إهانه لي ونظرت إلى اللوحة المعلقة بمكتبي وهي تضم جميع رؤساء الوزارات التي تولوا الحكم منذ سنة 1905إلى 1952 جميعا كانوا مدنيين باستثناء الرئيس نجيب والرئيس عبد الناصر.. وقلت له:

تعال لما أورى لك نسبة المدنين إلى العسكريين.فلم يكترث وتظاهر بالغباء.وفي هذه الآونة خرج الرئيس عبد الناصر من قاعة مجلس الوزراء إلى مكتبه ودعاني وسألني عن مواعيد اليوم التالي فأخبرته بقصة الضابط فقال لي:

أنا يوم ما جيب مجلس الوزراء قلت لك أنا هنا ليس لي أخ ولا قري ولا ابن ولا زميل.. وكويس قوي اللي أنت عملته معاه.. وروح اطرده.. وإن لم يقبل اطرده بالبوليس.فخرجت من مكتب الرئيس وخفت أن أطرده فلا يذعن لهذا الأمر وأردت إذلاله ورد الإهانة إليه فأخذت الباشجاويش سلطان معي وقلت للضابط:

الرئيس أمرني بطردك وإن ما رضيتش فسوف أجعل سلطان يطلعك بره.وقد أثلج هذا التصرف صدري وأحسست أنني قد أنزلت به درسا كان يستحقه.

14 نوفمبر سنة 1954

في التاريخ نحي اللواء أركان حرب محمد نجيب من رئاسة الجمهورية وفي اليوم التالي أذكر وكانت صورة اللواء نجيب معلقة بمكتبي بالرئاسة أن دخل ضابط صغير السن برتبة الملازم من الشرط العسكرية وكنت في هذا اليوم حزينا بسبب الإطاحة باللواء نجيب فبادرني الضابط بقوله:

كيف تسمح لنفسك بإبقاء صورة مثل هذا الرجل الخائن.

وقد كظمت غيظي عندما رددت عليه:

هل أنت قادم بصفة رسمية أو بصفة شخصية

فأجاب:

بل بصفة شخصية وهنا انفجرت فيه وطردته من مكتبي

وفي اليوم الثاني فوجئت بالرئيس عبد الناصر يدعوني لمكتبه ويسألني عن قصة ضابط الأمس فرويت له ما حدث دون أن أزيد كلمة واحدة.ولكنه طلب مني أحضر مع الضباط عند حضوره لمكتبه.

وفي نفس اليوم حضر الضابط يختال في زهو فسألته عن اسمه وأخبرت الرئيس عبد الناصر بحضوره فأمر باستدعائه إلى مكتبه في صحبتي.ودخلنا معا وبدأ الرئيس عبد الناصر موجها الخطاب إلى: ماذا حدث بالأمس؟وأعدت علي مسامعه الرواية من أولها إلى آخرها وأضفت أنني أخبرت الضباط بأنني جد متألم لتنحية اللواء نجيب.

وسألني عبد الناصر:

هل شتمتني؟

فقلت له:

يا سيادة الرئيس إن سياق القصة لا يدل على ذلك وما دخل سيادتك في هذا الحوار الذي دار بيني وبين هذا الضابط.

فسأل الضابط:

هل سمعت من صلاح أنه شتمني؟

فأجاب الضابط:

بل كان في نيته ذلك.وهنا ثار الرئيس عبد الناصر وألقى على مسامع الضباط درسًا وأمر بنقله فورا إلى أسوان.

سيسيل دي ميل ومكتب الرئيس

أثناء زيارة سيسيل دي ميل المخرج العالمي للقاهرة لتصوير مشاهد فيلم الوصايا العشر قابل الرئيس جمال عبد الناصر ومعه المصور الفوتوغرافي في 9 ديسمبر 1954.

وأذكر أن مكتب الرئيس كان موضوعا على يسار الغرفة وكان لهذا المكتب تاريخ طويل في صفحات الجهاد المصري فقد جلس إليه سعد زغلول رئيسا لأول وزارة شعبية بعد انتخابات سنة 1924 بل إن الزعيم العظيم سعد زغلول وقع على نفس المكتب شيكا بنصف مليون جنيه إثر اغتيال السير لي ستاك سردار الجيش المصري سنة 1924 وهي واقعة معروفة في التاريخ المصري.

ولكن وضع المكتب لم يرق في عين المخرج الأمريكي وأصر لإتمام تصوير الرئيس عبد الناصر في فيلم ملون أن يوضع المكتب في صدر الغرفة.ونقل المكتب فعلا وكان وراء المكتب نافذة أسد عليها ستار من القطيفة البنية ووضع على يمين الرئيس العلم المصري وتم التقاط عدة صور اختار منها الرئيس الراحل صورتين وظل المكتب إلى الآن في موضعه الجديد الذي اختاره المخرج العالمي.

أول أوراق اعتماد تقدم للرئيس عبد الناصر

في 20 ديسمبر سنة 1954 قدم سفير المملكة الليبية أوراق اعتماد سفيرًا لبلاده لدى جمهورية مصر للرئيس جمال عبد الناصر بحضور قائد الجناح حسن إبراهيم وزير الدولة لشئون القصر والدكتور محمود فوزي وزير الخارجية. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتقبل فيها الرئيس أوراق اعتماد أحد السفراء.

حلف اليمين القانونية

وفي 21 ديسمبر سنة 1954 أقسم مستشار مجلس الدولة اليمين القانونية أمام الرئيس عبد الناصر وهم الأساتذة جبريل بطرس، مصطفى المرجوشي، محمد تاج الدين ياسين أحمد، محمود حسن أبو عافية، عوضين إبراهيم الألفي، محمد شلبي يوسف الذي صار أخيرا رئيسا للمجلس.

من قصص المرحوم جمال سالم لا حرية ولا ديموقراطية

أذكر وكنا في رمضاني أنه بعد انعقاد مجلس الوزراء وكان قد امتد إلى ما بعد منتصف الليل خرج قائد الجناح جمال سالم ، وكان نائبا لرئيس مجلس الوزراء، وعل سلم رئاسة مجلس الوزراء طفق يخاطب الصحفيين بعد أن أخبره أحدهم بأنه مرشح لرئاسة المجلس النيابة المزمع انتخابه.

وانفعل جمال سالم قائلا:

هل تظن أن هذا الشعب يحكم حكما ديمقراطيا؟ يجب أن يحكم بالحديد والنار .. لا حرية ولا ديمقراطية.

وهنا قال أحد الصحفيين وكانوا أكثر من عشرة معظمهم أحياء إلى الآن:

إن الرئيس جمال عبد الناصر صرح في خطاب له بأن الانتخابات على الأبواب وأن المجلس سوف يعتقد قريبا. وثار قائد الجناح . قائلا:دار كلام فارغ لا مجلس نيابي ولا حاجة أبدا...

وهنا نظر أحد الصحفيين باستغراب وساء هذا التصرف قائد الجناح وأقسم يمينا بأنهم لن يغادروا الرئاسة قبل طلوع الشمس.جلس على السلم الرخامي وأخ يكذب كل شيء يتعلق بموضوع المجلس النيابي واستمر ينقل من حديث لآخر حتى بزوغ الشمس، وانصرف تاركا وراءه كل الصحفيين الذين لم يتمكنوا من تناول السحور.

وبعد ذلك بيومين كتب الأستاذ سامي الليثي الصحفي بمجلة روز اليوسف في هذا الوقت كل ما حدث في هذه الليلة من وقائع.وعند حضور الرئيس عبد الناصر ومعه اليوزباشي محمود الجيار .. قلت للجيار..

أيهما نصدق: الرئيس عبد الناصر الذي يقول بأن هناك انتخابات ومجلسا نيابيا أم نائب الرئيس الذي كذب هذا الخبر؟وتركني وانصرف...وذهب إلى مكتبي وبعد دقائق استدعاني الرئيس عبد الناصر وأعطاني ورقة مطبوعة حديثا ومبتلة بالماء ومتضمنة كل ما حدث في الليلة الليلاء من جمال سالم وكانت بروفة من صفحات في المجلة قبل الطبع.

فطلب مني أن أبلغ نائب الرئيس جمال سالم عند وصوله أن الرئيس يرغب مقابلته وحضر قائد الجناح وقابلني قائلا:نمت كويس.وضحك...

وبعد أن قابل الرئيس عبد الناصر خرج هائجا ودخل إلى حجرتي وأمسك بخناقي وحاول الاعتداء علي لولا دخول الرئيس عبد الناصر بنفسه الذي فض المعركة ونهر نائب الرئيس وطلب مني أن أذهب لمنزلي للاستراحة هذا اليوم.

تصرف غريب

سنة 1954 وكان نائب مستشار ألمانيا الغربية في زيارة لمصر طلب مني الرئيس عبد الناصر إحضار هديتين إحداهما باسمه والأخرى باسم نائبه قائد الجناح جمال سالم وفعلا أحضرت الهديتين وحازتا القبول والاستحسان وقد سر جمال سالم من الهدية وطلب أن أمر عليه بالهدية في منزله الساعة الثانية صباحاوفعلا جلست ساهرًا أنتظر الموعد الغريب وأقطع الليلة في القراءة.

وفي الموعد ركبت سيارتي إلى منزل قائد الجناح جمال سالم .وكان في انتظاري ومعه السيد محمد أبو نصير.ثم ركب سيارته يصحبه أبو نصير وتابعتهما بسيارتي إلى المطار.

وتقدم جمال سالم بالهديتين إلى نائب مستشار ألمانيا الغربية وكانت الساعة قد قاربت السابعة صباحا ثم رجعنا بنفس الترتيب جمال سالم وأبو نصير في سيارة وأنا في سيارتي ولكنني طفقت أفكر وأتساءل عن هذا التصرف ماسببه وما حكمته وما المقصود منه؟

وفي الحادية عشرة صباحا وكنت قد وصلت إلى مكتبي حضر إلى الرئاسة جمال سالم وقال لي مبتسما.

لعلك تقول عني أنني مجنون؟

فقلت مستنكرا:

كيف

فقال:

بشأن تصرفاتي هذا الصباح الباكر..

ولعلك تسأل عن سبب هذه التصرفات لم يكن في حسباني أن يحضر أبو نصير أو غيره وكنت وحيدا فأردت أن تحكي لي أسرار من عملت معهم من رؤساء الوزراء السابقين وقصصهم المضحكة.

ولكني قاطعته:

إن هذا لن يحدث أبدا فلو شنقوني لن أتكلم عن الأشخاص الذين تشرفت بالعمل معهم وسوف أحترم ذكراهم.

وحاول أن يقاطعني ولكني قلت له:

يا سيادة النائب.. لا تحاول أن أتكلم عن هؤلاء بسوء أو أذكر لهم قصصا مضحكة لا تفكر في ذلك حتى لو عينوك رئيسا لمحكمة الثورة.
وحدثت مشادة وصلت مسامعها إلى الرئيس عبد الناصر الذي أقرني على هذا التصرف.

فضيحة في المراسم

كان من المفروض أن أسافر ضمن الوفد الذي مثل مصر في مؤتمر باندونج في إبريل سنة 1955 وكان الوفد برئاسة جمال عبد الناصر وكان رئيسيا للوزارة.

وكان ممن صحبوه: صلاح سالم وزير الإرشاد القومي الدكتور محمود فوزي وزير الخارجية الشيخ أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف.وتولى قائد الجناح جمال سالم منصب رئيس الوزراء بالنيابة ومن المعروف أن منصب رئيس الجمهورية كان شاغرا ويتولاه مجلس الثورة برئاسة رئيس الوزراء.

وكان من مهام رئيس الوزراء قبل أوراق اعتماد السفراء وأن تؤدى أمامه المراسم واليمين القانوني للسفراء ورجال القضاء.وعندما علم جمال سالم بسفري في رفقة الوفد اعترض بحجة أنه لا يعلم عن فن المراسم أو الاستقبال الرسمية شيئا وأنه لا بد من وجودي إلى جواره مدة غياب الرئيس.

ووافق الرئيس عبد الناصر على هذا الرأي ولكني أوجست خيفة من تصرفات النائب التي اشتهرت بالعصبية والغضب والصياح.وحدثت الرئيس عبد الناصر بهذه المخاوف عند توديعي له في الطائرة وقلت: لعلك يا سيادة الرئيس عند ما تعود بالسلامة ستجدني إن شاء الله إما معتقلا أو سجينا أو مفصولا أو مضروبا بفضل النائب الثائر.

ولكنه ضحك رحمه الله وقال.لا يهمك شيئا سارد إليك الحرية إذا كنت معتقلا أو سجينا وسأعيدك إلى عملك إذا فقدت هذا العمل أما الضرب فلا حول ولا قوة .. وعليك أن تدافع عن نفسك بنفس الأسلوب وليحافظ الله عليك. وأوصاني خيرا بالسيدة الفاضلة قرينته وبأولاده أثناء غيابه.

وفي الحقيقة كنت خائفا من تصرفات السيد النائب وكنت أحسب لها ألف حساب.وبدأ أول الفصول.. عندما زار حضرة صاحب السمو الملكي الأمير فيصل وزير خارجية المملكة العربية السعودية القاهرة أوارد سموه العودة إلى السعودية صباح يوم 12 إبريل سنة 1955 وبعد منتصف الليل اتصل بي اللواء عبد الحكيم عامر وزير الحربية لكي أبلغ النائب بسفر الضيف الكبير.

وكان لابد من حضور نائب ورئيس الوزراء لوداع ضيف مصر، وحاولت جاهدا الاتصال به أو بمدير مكتبه أو ياوره الخاص ولكن ذهبت المحاولات سدى وامتنع على إبلاغ النائب جمال سالم بالموعد فاتصل باللواء عامر وأبلغته ما حدث فأخذ على عاتقه إبلاغ جمال سالم شخصيا بالموعد.

وفي مطار القاهرة الدولي تمت مراسم وداع سمو الأمير فيصل دون أن يحضر النائب ولم ينقذ الموقف سوى حضور اللواء عامر هذه المراسم وكان في شرف وداع الضيف العظيم وبالرغم من ذلك فإن النائب جمال سالم هاج وماج وقابلني عند مدخل مجلس الوزراء بثورة عارمة وبصوت عال مفعم بالغضب صاح في أنت بتشتغل مع مين معايا ولا مع عبد الحكيم؟

وقلت في هدوء:

يا سيادة النائب.. لنتكلم في المكتب.وسبقني على المكتب والشرر في عينيه.وبدأ الصياح والهياج..

وسألني:

كيف تخبر عبد الحكيم عامر بسفر الأمير ولا تخبرني؟ وتمسكت بأهداب الصبر وبدأت أشرح للنائب ما حدث

فقال:

كان لابد أن تتصل بي.

فقلت:

وكيف السبيل؟ وأنا أعلم أين سيادتك ولا أعرف نمر تليفونك.
وهذا هو اليوم الأول لعمل معك

فقال:

اتصل بي عن طريق بوليس النجدة.

وكتمت غضبي في صدري وقلت:

لم تجر العادة لرجل المراسم أن يتصل بكير من كبراء الدولة عن طريق البوليس وانتهت الزوبعة.. وازدادت خشيتي وكنت أعد الأيام بالساعات والدقائق والثواني.وجاء شهر الصوم المبارك.كنت مريضا بالقرحة في المعدة وأمرني الأطباء بالإفطار.وكانت العادة أن يقدم لي في الظهر المرحوم عم داود ساعي المكتب كوبا من اللبن وتفاحة.

وذات يوم رأى النائب هذا المنظر فصاح في صوت غاضب:

الكافر مين اللي فاطر..؟

ولم يجب الساعي المسكين فرقا.وخرجت إلى النائب وقلت له.

يا سيدي أنا الكافر وأنا مريض بالقرحة وليس على المريض حرج وسكت النائب على مضض.

وقبل تقديم أحد السفراء أوراق الاعتماد إلى النائب جمال سالم أوضحت له ما تقضي به أحكام المراسم المعمول بها من وجوب ارتداء ملابس قائمة أو زي عسكري أثناء تسلم أوراق الاعتماد.

ولكني فوجئت بأن النائب يلبس بدلة سبور عادية: عبارة عن بنطلون جبردين وجاكته زيتي وحذاء شمواه كريب دون مراعاة للتقاليد أو أبسط قواعد المراسم.وسأني عن رأيي في هذا الزي الشاذ ..فقلت له: إنه يخالف جميع قواعد المراسم المعمول بها في دول العالم.

ولكنه لم يكترث بل قال هازئا:يعني يا سيدي السفير بتاعك لما يجي يلاقيني كده يقول لا؟ مش ح أدي له أوراق الاعتماد.فقلت له: لا .. بل سوف يقدم أوراق الاعتماد ولكنه سوف يرفع تقريرا بما حدث لحكومته ويقص على زملائه السفراء هذه الحكاية وتنشر لتكون فضحية في المراسم لم تشهدها التقاليد.

ولكنه سخر.وتمت عملية تقديم أوراق الاعتماد.. ونائب رئيس الوزراء في بدلة سبور مشكلة وانقضت الأيام وكأنني في سجن رهيب.وجاء موعد عودة الرئيس عبد الناصر في 2 مايو سنة 1955 من رحلته. واستقبلني ضاحكا وقال لي أنا لا أرى علامة ضرب أو جرح في وجهك وأنت لا تزال حرا طليقا. والحمد لله تزاول عملك.

فقلت له:

إن المظاهر خادعة.. فإن أعصابي قد احترقت أثناء غيابك .. لقد عانيت كثيرا وضحك الرئيس بصوت عال.. وقال. لقد أنقذك الله بأعجوبة.

حادث لابن رئيس وزراء سابق

حضر الزعيم الهندي الكبير جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند إلى مصر في يوليو سنة 1955 في أعقاب مؤتمر باندونج الذي حضره الرئيس عبد الناصر.وكانت هذه الزيارة تأييدا للمبادئ التي تقررت في هذا المؤتمر.

وأصدر الرئيسان بيانا مشتركا في 12 يوليو سنة 1955 انطوي على أن الرئيسين تناولا في مباحثاتهما التطورات الدولية والموقف في الشرق الأوسط ومسائل أخرى تهتم مصر والهند.

كما جاء في البيان أن الرئيسين وصلا إلى اتفاق تام على هذه المسائل واهتم الرئيسان بصفة خاصة بأمر دعم السلام العالمي وتحرير الشعوب في المناطق التي لا تزال خاضعة لغيرها أو لحكم الاستعمار.

وكانت وزارة الخارجية قد رشحت الأستاذ محمد علي ماهر نجل الرئيس السابق علي ماهر باشا مرافقا للزعيم الهندي وكان يعمل بإدارة المراسم بوزارة الخارجية وعندما كان الرئيسان نهرو وعبد الناصر في طريقهما إلى قاعة الاجتماع وقعت عينا قائد الجناح جمال سالم على الأستاذ محمد علي ماهر وكان يقف وقد عقد ذراعيه على صدره في البهو الكبير بقصر القبة.

وبدون مناسبة استشاط قائد الجناح غضبا وسألني بصوت عال متفجر بالغضب.

من هذا الشخص؟
وقلت في صوت خفيض.
الأستاذ محمد علي ماره مستشار بوزارة الخارجية

وقال صاخبا:

يبقى ابن علي ماهر؟
وأجبت بالإيجاب.
ولكنه استمر هادرا..
خليه يمشى نم هنا في الحال..

وكنت في غاية الحرج والاستياء وخجلت من الأمر الشاذ الذي أصدره نائب الرئيس في لحظة هياج. ولم أجرؤ على أن أخاطب الأستاذ ماهر فهو نجلي عظيم من عظماء مصر وأحد كبار الساسة المصريين منذ سنة 1919 حتى سنة 1952.

وكان لي الشرف أن عملت مع رفعة علي ماهر باشا مرتين.ولم يكن من اللائق بأي حال من أن أنفذ أمرا قد صدر في نوبة من نوبات الغضب الجامح الذي لا يعي أو يعقل.واستطعت أن أتصرف في هدوء واتصلت بالسفير حسن محرم مدير إدارة المراسم لكي يستدعي الأستاذ ماهر في صمت.

وقد استدعى الأستاذ ماهر لوزارة الخارجية دون أن يدري سببا لهذا الاستدعاء وبعد أن صدر بيان نهر وعبد الناصر صدر أمر بنقل الأستاذ محمد علي ماهر إلى سفارتنا في كابول عاصمة أفغانستان بناء على أمر قائد الجناح جمال سالم الذي لم يهدأ غضبه إلا أن يتم النقل فورا وبدون إبطاء.

ولكن الأستاذ ماهر لم يقبل هذا الأمر الشاذ الذي لم يجد له تفسيرا معقولا وقدم استقالته وقبلت الاستقالة على الفور.

هدية للرئيس تيتو

صباح يوم 4 يناير 1956 اتصل بي تليفونيا السيد جمال سالم نائب رئيس الوزراء.ط واستطع أن أسجل المكالمة بعد تبادل تحية الصباح فيما يلي:

عندك فلوس؟

نعم يا فندم.

طيب تعالى على البيت حالا.

ولم يكن معي سوى جنيهات لا تتجاوز خمسين جنيها بالتمام والكمال عندما توجهت إلى منزل نائب الرئيس. وانتظرت اللقاءوبعد ساعتين قضيتهما محبوسا في الصالون وقد بلغ الغيظ مني كل مبلغ.حضر السيد جمال سالم .ودون مناقشة ابتدرني قائلا.هل أحضرت معك فلوسفأجبته بالإيجاب.

ولكنه لم ينتظر واستمر في السؤال: كم؟ فقلت: خمسون جنيها.وما إن سمعت الرقم حتى انفجر قائلا:وهل هذه فلوس؟وحاولت أن أعتذر بأن هذا هو كل ما عند ولكن نائب الرئيس قال بصوت عال:اذهب الآن وهات 1500 جنيه في الحال أتفضل عايزك بعد ربع ساعة.

وغادر الصالون هائجا كزوبعة ثارت ولم تهدأوانتابني بحق شيء من الضجر والإيلام.وأخذت نفسي إلى السيد علي صبري وكان مديرا لمكتب الرئيس عبد الناصر وقصصت عليه القصة من الألف إلى الياء.

واستمع السيد علي صبري إلى القصة وعلل طلب جمال سالم الشاذ بأن والده ربما قد توفاه الله وهو في حاجة إلى المبلغ بسبب الوفاة.واتصل السيد علي صبري بوزير الداخلية السيد زكريا محيي الدين وقص عليه الموضوع ثم طلب مني أن أذهب إلى وزارة الداخلية لاستلام المبلغ المطلوب.

وكان المبلغ في جيبي بعد ربع ساعة وأمام جمال سالم .أما باقي فصول القصة الطريفة فيمكن أن تتخلص في أن جمال سالم اصطحبني بسيارته إلى محال الهدايا بشارع عبد الخالق ثروت، حيث ابتاع هدية وأمرني بأن أدفع ثمنها إلى البائع ودفعت المبلغ الذي تسلمته زائدا عشرين جنيها من جيبي لم أقبضها والله على ما أقول شهيد حتى كتابة هذه الذكريات.

ثم طلب مني نائب الرئيس أن أقدم الهدية إلى الرئيس جوزيب تيتو والسيدة قرينته وكان الرئيس اليوغوسلافي ينزل ضيفا على جمهورية مصر.وقدمت الهدية كما أمرت..وعندما علم عبد الناصر بالقصة غاضب غضبا شديدا.وكان الرئيس عبد الناصر قد أهدى لضيفه هدية، هي عبارة عن طقم من الشاي لا يزيد ثمنه عن مائتين وأربعين جنيها.

وحاولت أن أهدئ ثورة غضبه على معللا ذلك بأن نائب الرئيس هو الذي طلب وأن علي صبري هو الذي اقترح أن أقوم بصرف المبلغ من وزارة الداخلية.

ولكن ذلك جمعية لم يكن مقنعا أمام ثورة عبد الناصر. وقال:

بل أنت ستقوم بدفع هذا المبلغ من جيبك.

فقلت:

وما ذنبي يا سيادة الرئيس في الحجرة العليا يوجد السيد جمال سالم وكل ما يمكن أن أقوله: من الذي يستطيع أن يقول لجمال سالم .. لاولكن ثائرة عبد الناصر لم تهدأ وفي هذه اللحظة حضر جمال سالم لمقابلة جمال عبد الناصر ورئي تفاديا للإشكال أن يخصم هذا المبلغ على أقساط شهرية من مرتب نائب الرئيس.

وفعلا تم الخصم بناء على أمر جمال عبد الناصر وربما استرد المبلغ بأكمله أو استرد على الأقل جزء منه كبير.ولكن بقي شيء واحد.. لا أزال موقنا منه...وهو أن المرحوم جمال سالم لم يدفع لي مبلغ عشريني جنيها دفعتها في هديته للرئيس اليوغوسلافي.سامحه الله ورحمة الله عليه..

مشادة مع اللواء صدقي محمود

في إبريل سنة 1956 أثناء سفر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى المملكة العربية السعودية للاجتماع بالإمام أحمد ملك اليمين من محطة ألماظة الجوية العسكرية كان في رفقته كل من الرئيس أنور السادات فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري السيد خيرت سعيد نائب وزير الخارجية السيد علي صبري مدير مكتب الرئيس، السيد أمين شاكر مدير مكت الرئيس والسفير السعودي بالقاهرة.

وحضر إلى ألماظة قائد جناح جمال سالم رحمه الله وكان يشغل منصب نائب رئيس مجلس الوزراء.ولما كان الجندي المكلف بالحراسة على بوابة المحطة لا يعرف جمال سالم بشخصه، فقد طلب منه إبراز تحقيق الشخصية ولكن جمال سالم بادره بضربه باليد والرجل وصاح فيه:أنا جمال سالم نائب الرئيس.

وتوجه مترجلا وفي حالة عصبية إلى الصالون الصغير بالمطار.. وأخذ يصيح بصوت علي موجهًا الكلام إلى اللواء صدقي محمود قائد الطيران قائلا:

ربوا عساكركم.. تعرف مين اللي داخلي.. مفيش ضبط ولا ربط.

فما كان من اللواء صدقي محمود إلا أن أوقفه عند حده قائلا:

أنا هنا قائد للمحطة واستطيع أن أضعك تحت التحفظ.وقامت مشادة كبيرة بينهما على مسمع ومرأى من المودعين.وفي أثنائها وصل اللواء عبد الحكيم عامر رحمه الله وهدأ من روع صدقي محمود وأخذ جمال سالم إلى الصالون.

وأذكر أن صدقي محمود ترك الصالون مغضبا وأشعل سيجارة وأفطر في رمضان بسبب المشادة. ولم يعلم الرئيس جمال عبد الناصر بما جي.. إلا عندما أخبره اليوزباشي محمود الجيار بالحادث في الطائرة فأثنى على شهامة وموقف صدقي محمود.

وليس هذا الموقف غريبا على أخلاق الفريق أول محمد صدقي محمود الذي كان له موقف مماثل مع الملك الراحل الذي حوكم بسبب هزيمة 1967 وصدر احكم ببراءته ثم أعيدت المحاكمة ليسجن حتى يفرج عنه الرئيس السادات.

جمال سالم عريسًا

كان المرحوم المهندس الزراعي الدكتور يحي العلايلي مديرا لشركة السكر في كوم أمبو وقد نشأت بينه وبين قائد الجناح جمال سالم نائب الرئيس علاقة من نوع خاص لا يمكن أن توصف بأنها صداقة بل يجوز القول بأنها علاقة عمل ربطت بين المهندس العلايلي ونائب الرئيس رحمهما الله في مجلس الإنتاج القومي.

وبعد فترة من الزمان شب نزاع في بيت المهندس العلايلي وبدأ الشقاق بينه وبين السيدة زوجته التي طلبت الطلاق وانتهى الأمر بالطلاق وديا دون عرض النزاع على القضاء.وتقدم جمال سالم لخطبة السيدة بعد انقضاء العدة وتحديد يوم الخميس 22 مارس سنة 1956 لعقد القران بمنزل أسرة العروس بالإسكندرية.

ودع جميع أعضاء مجلس قيادة الثورة لحضور حفل العرس.وفي هذا اليوم نفسه سافر الرئيس عبد الناصر إلى الإسكندرية وظننت أنه قد سافر لحضور حفل القران وتهنئته بمناسبة الزيجة الجديدة. وقد سألت سيادته مستفسرا عما إذا كنا سنرسل باقة من الورود إلى حفل الزفاف ولكن الرئيس خرج بالصمت عن ولا ونعم.

كان الرئيس يريد أن يعبر لنائبه عن عدم رضائه عن هذا الزواج وكان التعبير بالإغضاء ولذلك لم يحضر الرئيس حفل الزواج بالرغم من أنه كان موجودا بالإسكندرية وقت إشهار هذا الزواج.

المرحوم سليمان نجيب

18 يناير سنة 1955 أذكر أن الفنان الراحل سليمان نجيب مدير الأوبرا طلب ذات يوم مقابلة الرئيس عبد الناصر خلال أربع وعشرين يوما ساعة لأمر هام.وفي اليوم التالي حضر إلى مكتب سليمان نجيب وعاتبني عتابا شديدًا لعدم إتاحة الفرصة أمامه لمقابلة الرئيس... وقال بالحرف الواحد.

ربنا ولا جمال عبد الناصر؟

وقلت له:

استغفر الله.. ما وجه الشبه بينهما؟

فقال:

في إمكانية مقابلة الله سبحانه وتعالى بعد لحظات لو أطلقت على رأسي الرصاص فإني سوف أكون في لقاء الله بعد ثوان.

فضحكت ودخلت على الرئيس وأبلغته ما حدث فضحك وكان مجتمعا بالمرحوم أحمد حسني وزير العدل وأمر بإدخال الفنان العظيم ودخل الفنان وبطريقته الظريفة ولهجته المحببة قال للرئيس عندما رأى وزير العدل إنه كان ألفه عليه عندما كانوا تلاميذ في المدرسة وهو الآن وزيرا وأنا .. ممثل.

وقد طلب مني الرئيس أن يشاهد عمل مسرحي له قبل اعتزاله للفن في الغد فوعده الرئيس بذلك وذهب فعلا لمشاهدة المسرحية وكان اسمها المشكلة الكبرى.وقد كان الفنان سليمان نجي رائعا إلى حد كبير وكأنه كان يحس أنه يمثل آخر أدواره على المسرح فأجاد وأبدع.

وفي اليوم التالي الأربعاء 19 يناير انتقل الفنان إلى جوار الله.وأذكر أنه في أثناء الاستراحة بين الفصول قابل الفنان سليمان نجيب الفنانة الكبيرة زينب صدقي أطال الله عمرها وقال ضاحكا. أنني أعرض عليك اتفاقية جنتلمان . .فكلانا أعزب، ومن يمت قبل أخيه يقم بواجب الأخوة نحو منزله فيرعاه ويشرف عليه.

وأشهدني وشكري راغب على هذا الاتفاق وضحكنا.. وكأنه كن يحس بدون أجله. وأبلغت الرئيس النبأ.. فكلفي أن أنوب عنه في تشيع الجنازة وإقامة سرادق العزاء والاتفاق على مصاريف الجنازة.

وذهبت إلى منزل فناننا الراحل فوجدت الجميع يبكي فيه مروءته ولم أر أحدا من أقرباءه لإبلاغه العزاء وذهبت لمتعهد الفراش الحاج جد لإقامة السرادق ولكنه أبلغني بأن شخصا لا يعرفه قد دفع له مبلغ خمسمائة جنيه تكاليف الجنازة والسرادق والفراشين..إلخ.

وشيعت جنازة المرحوم الرائد الفنان سليمان نجيب نيابة عن الرئيس عبد الناصر وعلمت فيما بعد أن الشخص الذي تطوع لاتفاق على تشييع جنازة الفنان هو المرحوم محمد سلطان باشا. رحمه الله ورحم الله الفنان العظيم.

الرئيس عبد الناصر والبدلة الأسموكنج

في 20 فبراير سنة 1955 وصل إلى القاهرة مستر أنتوني إيدن رئيس الوزراء البريطاني لمقابلة الرئيس جمال عبد الناصر.وكان من بين برنامج هذه الزيارة أن يحضر المستر إيدن لرئاسة مجلس الوزراء للتوقيع في سجل الزيارات في الساعة السادسة مساء.

كما كان ضمن البرنامج أن يحضر رئيس الوزراء البريطاني حفلة عشاء في السفارة البريطانية تكريما له يحضرها الرئيس عبد الناصر.وبناء على ذلك حاولت أن أنتهز فرصة فراغي من العمل من الساعة الواحدة إلى السادسة لقضاء وقت في رفقة زوجتي خاصة وأن اليوم كان مشمسا وبديعا واتفقنا على أن نذهب إلى نادي الجزيرة حيث نتناول طعام الغداء ونشاهد سباق الخيل.

وخشية الإزعاج من جهاز التليفون وما تحمله أسلاك التليفون لتعكر صفوي وضعنا التليفون وأغلقنا عليه الغرفة بالمفتاح.واستروحت عناء العمل ومشاقة وقضينا وقتا ويوما ممتعا للغاية .. ورأينا الخيول وهي تركض في حلبة السباق وقد مضي على دهر طويل لم أشهد فيه السباق.

وضكنا ضحك طفلين معا.. كما قول المرحوم الدكتور إبراهيم ناجي.وبعد ذلك توجهت إلى مكتبي وكانت مفاجأة في انتظاري فقد علمت أن الرئيس عبد الناصر كان يبحث عني من الساعة الثانية بعد الظهر.واتصلت بالرئيس.وسألني: أين كنت؟فقلت له: كنت في المنزل.فقال: ولكن لم يرد أحد على التليفون.

فقلت: إن التليفون لي به حرارة.فقال الرئيس: ما علينا أنا مدعو على العشاء في السفارة البريطانية مساء اليوم ومكتوب على التذكرة الحضور بملابس اسموكنج وليس عندي بدلة اسموكنج ما الحل؟

فقلت يمكن لسيادتكم أن نذهب بالزي العسكري أي بدلة المكتب ووافق الرئيس وطلب مني أن أخبر المدعوين من العسكريين بارتداء الزي العسكري.

وحضر المستر إيدن ووقع في سجل الزيارة ثم انصرف.وانصرفت إلى منزلي ولكن مفاجأة أخرى كانت في انتظاري. فقد علمت من المربية أن أحد ضابط قسم الزمالك حضر إلى منزلي أثنا وجودي بنادي الجزيرة وسأل عني وعن أسباب عدم الرد على التليفون.وكانت المربية صادقة فأخبرته عن مكاني.وعلم الرئيس بالأمر كله. وعندما قابلت الرئيس صباح 21 فبراير سنة 1955 حاولت له أن أبرر كذبي.. ولكنه ابتسم ولم يعلق..

علي الحسني و30 مارس

في 30 مارس سنة 1955 زلت قدم اللاعب القديم علي الحسني أثناء ركوبه الأتوبيس ونقل إثر ذلك إلى القصر العيني للعلاج.وقد علمت بذلك من الأستاذ محمد شميس لاعب الترسانة القديم والناقد الرياضي المعروف وزميل علي الحسني في الملاعب.

ولما كنت أعلم مكانة البطل على الحسني في عالم الرياضة إذ كان كابتن مصر في دورة أمستر دام سنة 1928 فقد أبلغت الحادث للرئيس عبد الناصر مبينا منزلته وأمجاده الرياضية القديمة واقترحت على الرئيس تكريما للرياضة في البطل نزيل مستشفى القصر العيني أن يوفد مندوبا لعيادته. ووافق سيادته على ذلك وأوفدني شخصيا.

واتصلت بالقصر العيني وأبلغت المسئولين بقدومي نيابة عن الرئيس لزيارة علي الحسني وأرسلت باقة من الورد إلى المستشفى.وكنت في حجرة على الحسني بعد ساعتين وكانت الحجرة نظيفة وتلق بأحد أبطالنا القدامى من الجيل الذي قدم للرياضة جهودا موفقة.

وقد دمعت عينا البطل عندما أبلغته تحيات رئيس الدولة.والواقع أن البطل لقي من المستشفى عناية يستحقها مدة بقائه بها.كما أن تكريم علي الحسني كان تعبيرا صادقا عن وجوب رعاية الدولة للرياضيين في شبابهم أو عندما يتقدم بهم العمر.

وفي 30 مارس سنة 1972 أي بعد انقضاء ثماني عشرة سنة وافق الرئيس محمد أنور السادات على منح البطل القديم علي الحسني وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى بعد أن رفعت التماس إلى سيادته بطلب تكريم كرة القدم في أمستردام سنة 1928 وقدت سلم البطل الوسام وفي عينيه دموع تعب عن الوفاء والامتنان.

ومما يذكر أيضا ارتباط على الحسيني بيوم 30 مارس أنني دعيت إلى برنامج في التليفزيون شريط تسجيل أذيع يوم 30 مارس سنة 1971 وكان ضيف البرنامج يستضيف بعض الشخصيات ويجري معهم حوارا في كافة المجالات التي يهتم بها

وطلبت دعوة الأستاذ علي الحسني.. ولبي الدعوة برغم شدة مرضه.. وحضر محمولا على كرسيه. ولكن عندما بدأ الحديث تدفق كالسيل لتوجيه الشباب نحو الرياضة التي قضي في ملاعبها زهرة شبابه.

السفاح محمود أمين سليمان

اعتاد السفاح محمود سليمان الاتصال تليفونيا ببعض الأشخاص ليطلب منهم إتاوة حتى إن شهرته انتشرت في كل مصر.وأذكر أن شائعة ترددت في أن السفاح سيذهب ذات مساء إلى منطقة الجيزة والدقي مما أثار الرعب في نفوس كل أهالي المنطقة.

وأذكر جيدا أن هذه المنطقة أغلقت محلاتها منذ الساعة السادسة مساء ولم نتمكن من شراء الخبز. كانت البلد كلها متتبعة أخبار هذا السفاح الذي كانت أخباره تنشر في جريدة الأخبار.

ودق التليفون وإذا السفاح يخاطبني تليفونيا ويطلب مني الاتصال بالرئيس جمال عبد الناصر لمنحه مبلغ جنيه لكي يتمكن من الهرب عن طريق ليبيا وأخذ يهددني بالقتل لو لم أحضر له الألف جنيه فورا.. ثم استطرد في التهديد بقوله حتى أولادي سينتقم منهم وهنا قلت له:

أيها السفاح لقد أتى أجلك على يدي ولن أطلب من عبد الناصر ولا مليم ولو كنت رجلا حقيقة فأنا موجود بالمنزل الليلة وسأترك الباب مفتوحا أنت لا تعرف الشخص الذي يتكلم أنا لست جبانا مرحبا بك الليلة.

وقفلت التليفون واتصلت فورا بتليفون آخر باللواء عبد العظيم فهمي مدير المباحث العامة وقتذاك أطلب منه النجدة العاجلة والحراسة المشددة لا خوفا ولكن للقبض عليه.

وبعد أيام سافرنا إلى الهند الباكستان مع الرئيس الراحل في زيارة رسمية وأذكر أن السفاح قتل يوم وصل الرئيس جمال عبد الناصر إلى الباكستان.وكانت فرحة...وكانت عنوان جريدة الأخبار الرئيسي.مصرع السفاح عبد الناصر في باكستان اليوم.

استقالة صلاح سالم في 31 أغسطس سنة 1955

في 31 أغسطس قدم الصاغ صلاح سالم وزير الإرشاد القومي استقالة من الوزارة وصدر بيان من مجلس قيادة الثورة بقبولها ولكن لم يشر البيان إلى أسباب هذه الاستقالة.

ويلاحظ أن هذه الاستقالة ترجع في ظروفها وملابساتها إلى سياسة صلاح سالم في السودان ذلك أنه قام برحلة إلى جنوب السودان برفقة اللواء عبد الحكيم عامر وزير الحربية بتكليف من الرئيس جمال عبد الناصر ثم عرض عليه نتيجة السياسة التي انتهجها في السودان لاسيما وقد علم الرئيس عبد الناصر بأن هذه السياسة أغضبت السودانيين وأدت إلى الفرقة بين صفوف المؤيدين للوحدة مع مصر بل كانت هذه السياسة من شأنها إلغاء الاتفاقيات التي أبرمت بشأن السودان.

وقد تخللت الرحلة بعد الحوادث المثيرة وسجلت أحداثها في فيلم سينمائي ظهر في وزير الإرشاد القومي عاريا كما ولدته أمه في غابة جنوب السودان نيمولي.

وعند عودته حضر اجتماع مجلس الوزراء لعرض نتيجة رحلته وبعد أن سرد وقائع الرحلة ناقشه الرئيس عبد الناصر فيما علم به من الانتقادات التي وجهت إلى الصاغ صلاح سالم وفيما اقترن بالرحلة من ظروف.

وكان من رأي صلاح سالم أن يعمل ما في وسعه لإرضاء السودانيين تارة بالتنازل عن ممتلكات مصر في السودان وتارة بتوزيع الملايين من الجنيهات على بعض رجال الأحزاب وزعماء القبائل لكي يملأ عيونهم. ولكن الرئيس عبد الناصر انتقد بعضا من هذه الأساليب.

وشعر صلاح سالم بعد الثقة به خاصة وأنه ناقشة في بعض الأمور التي حدثت في جنوب السودان مناقشة تفصيلي كما أن الرئيس كان قد بعث معه اللواء عبد الحكيم عامر وهنا غضب سالم وقال: إنني أعتبر نفسي مستقيلا..

ورد عليه الرئيس عبد الناصر في التو واللحظة قائلا:

لقد قبلت استقالتك.

وفي الواقع أنه لم يكن ثمة استقالة بالمعنى المفهوم ولكن كان الأمر إعفاء وصدر البيان وبقبول استقالته. وأذكر بعد وفاة المرحوم صلاح سالم أن أهدى الرئيس جمال عبد الناصر إلى اسمه قلادة النيل وهي أرفع الأوسمة التي حصل عليها أعضاء مجلس الثورة بعد ذلك وقد توجهت أنا والفريق محمد رشاد حسن كبير الياوران، حيث سلمنا القلادة إلى أرملته.

اتهامي باغتيال الملك سعود

ترامي إلى علم الملك سعود أن أشقائه الأمراء يتآمر عليه وأن ثمة اجتماعات تعقد بمنزلي لتدبير مؤامرة لاغتيال جلالته وكان الرئيس عبد الناصر يحضر هذه الاجتماعات وقد رشحتني الإشاعات لتنفيذ مؤامرة الاغتيال.

وعلم بهذه القصة الملك سعود في الولايات المتحدة الأمريكية أثناء زيارته لها. وكان الملك يرتاع عند ذكر اسمي أمامه وحاولت جاهدا وقد علمت بهذه الشائعة.وضحكت منها أن أتحاشي لقاء جلالته أثناء زيارته للقاهرة.

ولكن حدث ذات يوم بقصر القبة... وكنت الوحيدة به أن دخل الملك القصر وكان لزاما على أن أرافقه إلى المصعد الوحيد بمكتب الرئيس والذي لا يسع إلا لشخصين وقدمني إلى الملك المرحوم الشيخ يوسف ياسين الذي كان لا يعلم بالإشاعة قائلا:

أقدم لجلالتكم صلاح الشاهد.. كبير الأمناء.وما إن سمع الملك أسمي حتى أصابه هلع كبير ودار برأسه يمينا ويسارا وتجسم أمام عينيه شبح الاغتيال.وأدركت دقة الموقف واستطعت أن أتكلم لأقول لجلالته.

يا جلالة الملك إن من يحاول الوشاية بينكم وبين الرئيس عبد الناصر يضع الفريق بين بلدين شقيقين وأخين كريمين.أمامي جهتي فأقسم بكتاب الله أنني لم أذبح ولا أجرؤ على أن أذبح دجاجة فكيف أفكر في اغتيال إنسان ومن جهة أخرى لم أطلق الرصاص أبدا طوال حياتي ولا أيا من النبال.

واستطعت أن أقنع جلالة الملك بمنطقي واطمأن إلى صحبتي وعلم أن من أطلق هذه الشائعات رجل مغرض لا يستحق احترامه.

تبرع معالي السيد حشن الشربتلي واعتقال عم عبد الناصر

لما خطب الرئيس جمال عبد الناصر في الكلية الحربية سنة 1956 وطالب بالتسليح وجمع التبرعات جمعنا من المصريين تبرعات بلغت ثلاثة عشر مليونا، من الجنيهات.

وتألفت في المملكة العربية السعودية لجنة برئاسة معالي السيد حسن الشربتلي وزير الدولة لجمع التبرعات وافتتحها جلالة الملك سعود رحمه الله بمائتي ألف ريال سعودي وتبرع السيد الشربتلي بمائة وتسعة وتسعين ألفا وكان معاليه يجوب الشوارع لجمع التبرعات حاثا السعوديين بأن الحسنة بعشرة أمثالها بل إنه كان يأخذ من الفقير.

ريالا ثم يرسل له في اليوم التالي عشرة وجمع حوالي مليون جنيه.وأرسل له الرئيس عبد الناصر دعوة لزيارة مصر وأهداه وسام الجمهورية من الطبقة الأولى.وبعد أيام ظهرت صورة في الصحف المعالي السيد حسن الشربتلي وبجانبه الحاج خليل حسن عم الرئيس جمال مكتوب تحتها أنه سيتعاون تجاريا مع الوزير السعودي.

فأمر الرئيس جمال بوضع عمه في السجن ولم يفرج عنه إلا يوم وقفه العيد وحيث كنا في طريقنا إلى الهند، حيث طلب أعضاء مجلس قيادة الثورة أثنا التوديع في المطار ضرورة الإفراج عن خليل حسين فرفض الرئيس فشددوا في الإلحاح عليه فأمر بالإفراج عنه.

وعندما عدنا زارني معالي السيد حسن الشربتلي بمنزلي ومعه شنطة وأبلغني أن بها هداية للرئيس جمال وطلب مني حملها للرئيس ففتحتها فرأيت أنه جمع كل المجوهرات التي في محل شيفلد بالقاهرة وعلى كل قطعة ماس ورقة بالثمن، مثلا خاتم سولتير بخمسة وعشرين ألف جنيه وإسورة بأربعين وبروش بخمسين والمجموع حوالي ثلثمائة ألف جنيه وأربعة جنيه وإسورة بأربعين وبروش بخمسين والمجموع حوالي ثلثمائة ألف جنيه، وأربعة أقلام سيفرز من الذهب الخالص فقلت لمعالي الشربتلي إن الرئيس جمال سيعتذر عن الهدية ولن يقبل سوى قلم واحد.

فقال: ما على الرسول إلا البلاغ وهذه أمانة في عنقك أرجو توصيلها للرئيس وترك الشنطة وغادر المنزل. فأخذت الشنطة لغرفتي وأحضرت المسدس الذي لا أعرف طريقة استعماله وأضأت نور المنزل جمعية وأدرت راديو الصالون وبقيت ساهرا ومعي الشنطة.

وفي الثامنة صباحا قصدت منزل الرئيس وقابلته في غرفة نومه فانزعج من حضوري المبكر فرويت له ما حدث وعندما شاهد المجوهرات سألني عن الحوار بيني وبين معالي حسن الشربتلي وكان من بينه قولي له:

إن الرئيس لو قلت الهدية وظهرت إحدى سيدات أسرته بأي منها سيقول الناس.إن جمال عبد الناصر سرق مجوهرات الملك فاروق وأعطاها لها.فأخذ الرئيس القلم ورد الباقي.ولما عدت لمعالي حسن الشربتلي أفرغ المجوهرات وملأ الشنطة أوراق بنكنوت من فئة عشرة جنيهات وجملتها أربعة وعشرون ألفا وقال لي أعطها للرئيس ليتصدق بها على الفقراء.

فقلت له إن الرئيس سيعيدني أيضا فقال: ما علي الرسول إلا البلاغ فأخذت الأول فيه شكر لمعالي الشربتلي لتبرعه بأربعة وعشين ألف جنيه للاجئين الفلسطينيين في غزة.والثاني للفريق المرحوم يوسف العجرودي الحاكم الإداري للقطاع مشيرا إلى التبرع الذي يتضمنه شيك مرفق بالخطاب.

وذهبت للرئيس بالخطابين فأبدي سروره وقع الخطابين وكلفني حمل خطاب معالي حسن الشربتلي إليه. ومع ذلك لم تسلم أموال معالي السيد حسن الشربتلي في مصر من التأميم والمصادرة في عهد الرئيس الراحل.

ديك الرئيس تيو

وفي أول زيارة للرئيس جوزيف برونتيتو للقاهرة سنة 1956 دعاه الرئيس جمال عبد الناصر للنزهة في القناطر الخيرية يوم الخميس 5 يناير سنة 1956 ثم لتناول طعام الغداء بحدائق القناطر. وكان يتولى الإشراف على الطعام الذي يقدم للرئيس تينو ضابط طبيب مرافق له يشرف على طهو الطعام من أوله.

وبعد تناول السمك قدم ديك فيومي طهو الشرق للضيوف وخرج من الأوفيس خمسة عشرة سفرجيا يحملون أطباقا عليها 15 ديكا فيوميا من بينها الديك الذي أشرف على طهوه مرافق الرئيس تيتو الخاص. وفي أقل من لمح البصر هبطت حدأة لتخف ديك المارشال وساد المجتمعين الضحك ونظر المرافق للرئيس تيتو نظرة معناها الامتناع عن تناول أي ديك.

توقيع الاتفاق الثلاثي بين المملكة العربية السعودية وسوريا ومصر

في مارس سنة 1956 وصل دولة سعيد الغزي رئيس وزراء سوريا إلى مطار ألماظة الحربي وكان معه رئيس الأركان شوكت شقير حث استقبلها الرئيس في المطار واجتمع رئيس الوزراء السوري بالرئيس عبد الناصر بمنزله مساء نفس اليوم تمهيدا لعقد مؤتمر ثلاثي من المملكة العربية السعودية وسوريا ومصر لإعداد الجهة العربية إعدادا يكفل القضاء على إسرائيل.

وفي يوم الاثنين 5 مارس وصل فخامة الرئيس شكري القوتلي وأقام له الرئيس مأدبة عشاء بنادي الضباط بالزمالك.وفي صباح الثلاثاء 6 مارس جاء إلى القاهرة جلالة الملك سعود وأقام له الرئيس مأدبة عشاء بنادي الضباط.

وفي الساعة العاشرة من صباح 7 مارس اجتمع الأقطاب الثلاثة.وما إن دخل الأقطاب أمسك بيدي الرئيس شكري القوتلي وقبلني وقال موجها الخطاب للرئيس عبد الناصر.

معرفتي بالأخ صلاح ترجع إلى العصر الذي كنت فيه لاجئا بالإسكندرية وكثيرا ما لقيته في الحفلات التي كنت أقيمها وشكرت الناس باشا مرات عديدة لأنه عرفني بالأخ صلاح وتوالت الاجتماعات صباحا ومساء في خلال الفترة من 7 مارس إلى أن وقع الاتفاق في الساعة الحادية عشرة من يوم 12 مارس سنة 1956

وكان يوم الجمعة 9 مارس يوما مشهودا عندما تحرك الركاب الأقطاب الثلاثة في طريقهم إلى الأزهر لأداء صلاة الجمعة وكان استقبال الشعب لهم استقبالا حافلا والكل يتساءل عن ما وراء هذا الاجتماع.

على هامش مؤتمر لندن سنة 1956

كان انعقاد مؤتمر لندن بعد تأميم شركة القناة في أغسطس سنة 1956 من أبرز مظاهر التحدي والتحكم وسيلة للضغط على مصر وتهديدها باستعمال القوة المسلحة وآية ذلك أن المؤتمر برغم انعقاده للنظر في مسألة قناة السويس لم يستشر مصر بل لم تدع إلى المؤتمر من جانب بريطانيا إلا بعد مشاورة فرنسا وأمريكا ولم يدع لحضور سوى الدول التي رأت بريطانيا دعوتها وكان المفروض أن تدعى الدولة التي وقعت على اتفاقية الآستانة سنة 1888 شأن حياد قناة السويس ولكن كثيرا من الدولة لم تلق الدعوة لحضور المؤتمر بالرغم من أنها كانت من الدولة الموقعة على الاتفاقية المشار إليها.

وعلاوة على ذلك فقد دعيت للمؤتمر بعض الدول كاندونيسيا وسيلان سري لانكا والهند باكستان وإيران وأثيوبيا وهي دول لم توقع على معاهدة سنة 1888.

وقد تعمدت بريطانيا عدم دعوة الصين والمملكة العربية السعودية وباقي الدول العربية والخلاصة أن المؤتمر كان مقصورا على دول حلف شمال الأطلنطي ودول الكومنولث وأخيرا مصر.

وأذكر أن مجلس الوزراء اجتمع برئاسة الرئيس عبد الناصر في 11 أغسطس سنة 1956 وقرر عدم الاشتراك في المؤتمر كما امتنعت اليوناني عن الحضور وكان المؤتمر يمثل اثنين وعشرين دولة.

وفي الجلسة الافتتاحية قدم جون فوستردالاس وزير الخارجية الأمريكية مشروعا بتدويل القناة وقد قبل المشروع بأغلبية ثماني عشرة دولة ورفضه الاتحاد السوفيتي والهند وأندونسيا وسيلان. ورفض الرئيس عبد الناصر الاقتراح

وكانت الدولة المحبة للسلام قد قررت الإضراب يوم 16 أغسطس سنة 1956 بمناسبة عقد المؤتمر في الساعة عشر ظهرا ولمدة خمس دقائق.وتم الإضراب وتوقفت وسائل الحياة والمواصلات في مصر وغيرها. وأذكر أن الرئيس عبد الناصر وقف أيضا في مكتبه خمس دقائق مشاركة في الإضراب.

بعثة منزيس

وقرر المؤتمر عرض مقترحاته على الرئيس عبد الناصر بوساطة لجنة خماسية برئاسة مستر منزيس رئيس وزراء أستراليا وذلك بجلسته يوم 23 أغسطس سنة 1956 ووصل مستر منزيس وبعثة القاهرة يوم 2 سبتمبر وأقاموا في فندق سميراميس واتصل بي سفير استراليا لتحديد موعد يقابل فيه رئيس الوزراء واللجنة الرئيسية جمال عبد الناصر وكانت اللجنة مؤلفة من مندوبين عن حكومات: أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية وأثيوبيا وإيران والسويد.

وأذكر أن الرئيس جمال عبد الناصر قابل منزيس بمفرده قبل اللجنة وكان الرئيس قد قال لي: الضغط على الجرس مرتين معناه أن تدخل فورا وتطلب من منزيس مغادرة مكتبي إيذانا بانتهاء المقابلة. وظللت أفكر فيما سوف أقوله في هذا الموقف ومترقبا سماع الجرس خصوصا وأنه كان من الشائع في هذا الموقف أن منزيس يطلق عليه البغل الأسترالي.

وحمدت الله أنني لم أسمع الجرس وحضر بقية البعثة وتمت المقابلة بسلام.وتكررت في نفس اليوم في تمام الساعة السابعة مساء وكذلك في يوم الثلاثاء 4 سبتمبر تمت المقابلة الثالثة في الساعة السادسة مساء ودامت بعض الوقت وفي نهايتها أبلغني مستر اردولان وزير خارجية إيران وقتئذ رغبته في مقابلة الرئيس على انفراد.

وفعلا تحدد له الساعة الثانية عشرة ظهرا يوم الأربعاء 5 سبتمبر وتمت المقابلة بين الرئيس ووزير الخارجية بمفرده خلافا لما يجري عليه العرف حيث يصحب السفير عادة وزير الخارجية في مثل هذه المقابلات. ثم اجتمعت اللجنة للمرة الرابعة مساء ذات اليوم وخرج الجميع بعد الاجتماع إلى قصر محمد لتناول العشاء في الحفل الذي أقامه الرئيس وكان العشاء في حدائق القصر.

وبعد الانتهاء تجول الجميع داخل القصر ووقفوا مشدوهين أمام غرفة نوم الأمير محمد علي إذ كان غرفة داخل غرفة مبنية بالسلك الرقيق المانع من الناموس ولها باب من السلك أيضا وبداخلها سرير الأمير.

وقد علق البعض على ذلك فقيل إن الأمير كان لا يحب الناموسية ولكنه كان يخشى الناموس ولذلك صممت غرفة النوم على هذا النحو. وفي يوم الأحد 9 سبتمبر قابل الرئيس وزيرا خارجيته أثيوبيا في الساعة الواحدة على انفراد وفي مساء نفس اليوم اجتمعت اللجنة الخماسية للمرة الأخيرة.

أسرة الرئيس عبد الناصر في منزلي

أثناء حرب السويس 1956 والطائرات الإنجليزية تقصف المطارات المصرية طلب الرئيس عبد الناصر إعداد فيلا سمو الأميرة عين الحياة بالزمالك لإقامة أسرته طوال مدة الحرب بعد أن ترددت بعض الأنباء بأن منزل الرئيس في منشية البكري سوف يكون هدف الطائرات المغيرة.

وكانت الغارات شديدة والقاهرة في ظلام دامس.وقد بذلت قصارى جهدي محاولة لإعداد الفيلا لإقامة أسرة الرئيس في فترة وجيزة لاتتجاوز يوما واحدا.ولكن هذه المحاولة لم تتحقق في الموعد المحدد لها بسبب أن الفيلا ظلت مهجورة طوال سنوات أربع وأصبحت في حالة لا تسمح بالنزول فيها.

وحضرت أسرة الرئيس وكنت أقيم بالزمالك في شارع يقع إلى جانب الشارع الذي فيه الفيلا فدعوت أفرادها للبقاء في منزلي ريثما ينتهي إعداد الفيلا.وطفقت أشرف على العمل بهمة لا تعرف الكلل إلى أن أصبحت الفيلا في حالة تسمح بأن يعيش فيها أسرة الرئيس.

وانتقلت الأسرة للإقامة فيها وكانت السيدة حرم الرئيس مسرورة بالفيلا وحسن روائها.وكان همي أن أبلغ الرئيس بما تم فأخبرت أحد سكرتيري الرئيس بمحل إقامة الأسرة. ويبدو أن السكرتير نسي، أو تناسى لسبب أو آخر أن يخبر الرئيس أين نزلت أسرته.

وفي صباح اليوم التالي.. قابلت الرئيس وكنت على يقين أن الرئيس سوف يكون عالما بما حدث وأنه سوف يشكرني على ما تحملت من آلام.ولكن بدلا من ذلك كان الرئيس غاضبا وناقما.وكنت لا أدري سببا لهذا الغضب أو النقمة.وصاح الرئيس في وجهي

أنت أب لبنتين فيما أعلم.فقلت مندهشا:أجل يا سيادة الرئيس ولكن لماذا؟فاستمر هادرا كيف تكون أبا، وتعرف طعم الأبوة وأنا لا أعلم أين أولادي وزوجتي؟أين ذهب الجميع هل هذه رجولة.. ؟ يا ناس حرام عليكم. كان عبد الناصر الأب هو الذي يتكلم بكل مشاعر رب الأسرة الذي يبحث عن فلذة أكباده وأجبت: لست أفهم ماذا تقصد يا سيادة الرئيس؟

فقال محتدا:بل أنت تفهم هل تفهم أين أولادي وزوجتي إنني لم أرهم منذ الأمس ولا أعرف عنهم شيئا هل هذا الكلام مفهوم؟فقلت مبتسما:يا سيادة الرئيس إنني أب وأقدس الأبوة بكل مشاعرها ولقد أخبرت فلان سكرتير سيادتك بعد دقائق من نزول الأسرة للفيلا وظللت وزوجتي وأولادي مع الأسرة إلى ما بعد منتصف الليل. إن رجل المراسم الإنسان والأب لا يمكن بحال أن يغفل المشاعر الإنسانية ولا أدري ما حدث للسكرتير الفاضل.

القبض على السفير الأمريكي في دورة المياه

أثنا الاعتداء الثلاثي سنة 1956 على مصر السفير الأمريكي مستر. بادو مقابلة الرئيس مقابلة عاجلة.وتحدد المقابلة في القيادة العامة بمجلس قيادة الثورة في منشية البكري ووصل السفير الأمريكي في الموعد المحدد واستقبله على السلم أحد سكرتيري الرئيس العسكريين محمود الجيار.

ويبدو أنه فهم على سبيل الخطأ أن السفير يريد الذهاب إلى دورة المياه قبل أن يقابل الرئيس. فقاده السكرتير العسكري إلى هناك حيث أغلق عليه الباب ومرت الدقائق على السفير في دورة المياه عشر دقائق ربع ساعة . نصف ساعة.. ساعة إلا ربعا والسفير هين دورة المياه.

ولما طال الوقت على احتجاز السفير بدورة المياه وخشي السكرتير العسكري أن يكون قد أصاب السفير الأمريكي مكروه فتح الباب عليه ووجده واقفا مذهولا وبدون كلام صحب السكرتير العسكري السفير الأمريكي إلى مكتب الرئيس وقص السفير على مسامع الرئيسي ما حدث فأغرق الرئيس في الضحك ومن الطريف أن السفير قال للرئيس:

إنني قد تصورت أن الأوامر قد صدرت بإلقاء القبض علي فاستسلمت لها ولكن الرئيس جمال عبد الناصر اعتذر للسفير عن سوء الفهم

مدفع رشاش

أثناء عدوان 1956دخلت مكتب قائد الجناح علي صبري مدير مكتب جمال عبد الناصر وسلمني مدفع رشاش ودهشت جدا لأنه لم يحدث في حياتي أنني أمسكت مدفعا.. قلت له.

قلت له:ماذا عساي أن أفعل بهذه البلوي؟قال: يجب أن يكون عندك واحد زي دي لكي تدافع به عن نفسك فقلت: ولكني لا أعرف كيف أستعمله.فقال: ضابط الحرس يعلمك كيفية استعماله لأنه ربما تستعمله لو نزل أحد من الأعداء بالبارشوت.. وأخذت المدفع وصندوق الذخيرة إلى منزل وفي حجرة نومي. وبعد أكثر من عام أمسكت حرمي بيدي وأخذت تهزها بعصبية شديدة واستيقظت من نومي مذعورا وقلت:

ماذا جرى؟ردت في همس:فيه حرامي بالمنزل.فقلت لها:لا .. لا .. إنها أوهام.قالت:لقد سمعت وقع أقدامه..قلت لها:ليفعل اللص ما يشاء ... فالحجرة مغلقة أبوابها.. والأولاد والمربية اعتادوا إغلاق الغرفة والمنزل مؤمن عليه ضد الحريق والسرقة فلا تخشى شيئا فردت: أنت ناسي إن عندك مدفع رشاش يمكنك استعماله؟ فقلت لها: هو ده مش حرام أقتل نفسا.. ثم إنني أعرف كيف يستعمل ولو أخذته معي وأخذ ينطلق ولا أستطيع إيقافه ماذا يتم؟

فأصرت سامحها الله على أن أفتح الباب وأوجه اللص وجها لوجه.وكان هذا أقسى موف وقفته في حياتي ولكن لم أجد أحدا والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.وبعد هذا سلمت المدفع الرشاش للحرس الجمهوري حتى لا تعتمد زوجتي عليه.

مؤتمر القمة الرباعي

وفي 24 فبراير سنة 1957 عقد بالقاهرة مؤتمر ضم جلالة الملك سعود ملك المملكة العربية السعودية والملك حسنين ملك المملكة الأردنية الهاشمية ودولة السيد صبري العسلي رئيس وزراء سوريا والرئيس جمال عبد الناصر رئيس جمهورية مصر.

وكان المؤتمر أول مؤتمر أقيم بقصر القبة الذي ظل مهجورا منذ قيام الثورة حتى هذا التاريخ. وكانت الفترة التي أعد فيها القصر لا ستقابل الضيوف وجيزة جد فالموعد المحدد كان بعد يومين ولم يكن بالقصر إلا جناحان لا يسمحان بنزول أكثر من اثنين من الضيوف ومعهما الحاشية وكان الجناحان مخصصين للملك فاروق والملكة ناريمان والأميرات.

وكان من المتعين إعداد القصر لاستضافة الضيوف الثلاثة مما دعا إلى تغيير بض الغرف ونقل ما فيها إلى مكان آخر وتجهيزه للمبيت وخصص جناح الملك فاروق لإقامة الملك سعود وجناح الملكة نريمان لإقامة الملك حسين أما بالنسبة لدول صبري العسيلي فقد خصص لإقامته الدور الثاني أيضا وأصبحنا في حاجة إلى مزيد من الغرف لرجال الحاشية واضطررنا لإخلاء بعض الغرف.

والمعروف أنه لابد أن تقيم حاشية الضيف بجواره وكان لابد من إخلاء بعض الغرف لنزول رجال الحاشية مثل غرفة كانت تضم مجموعة من المصاحف والآيات القرآنية المدونة في لوحات جميلة داخل إطارات بالخط الكوفي والفارسي وغيرها.

وقمنا بتخزين بعض المصاحف وتعليق بعضها الآخر في ممرات القصر وخصصت هذه الغرفة لإقامة ياوران الملك سعود.

كما أخليت غرفة الآلات الموسيقية العالمية لإقامة رئيس جمال عبد الناصر أن تكون المائدة مستديرة تفاديا للحساسيات وكلفني الرئيس أن أكتفي بأن أقول للضيوف تفضلوا ويجلس كل ضيف في المكان الذي يروق له.

أما غرفة الطعام فقد أعدت دون مراعات المراسم التي تقتضي بأن يتولى خدمة كل ضيف سفرجي خاص ولم يكن لدينا في القصر المهجور واحد منهم، فاستعنا ثلاثة من السعاة المختصين لتقديم المشروبات بمجلس الوزراء واضطررنا بالرغم من ذلك إلى وضع الطعام بأكمله على المائدة قبل دخول الضيوف وتركنا لهم حرية اختيار أماكنهم.

وبالرغم من قلة الضيوف بالمأدبة فقد كانت هذه المأدبة أصعبها حيث خالفنا كافة القواعد المراسيمية. ومن الطريف أنني عندما دخلت قصر القبة للإشراف على إعداد هذا المؤتمر فوجئت بشرذمة من جنود بلوكات النظام يحمل كل منهم لوحة زيتية نادرة لكبار الفنانين العالميين ليضعها في سيارة لوري كبيرة تتبع البلوكات فجن جنوني وسألتهم بلهفة: إلى أين أنتم ذاهبون؟

فقالوا:

كلفنا الصاغ مجدي حسنين بحمل هذه اللوحات إلى قصر عابدين لبيعها في المزاد العلني. ولم أتمالك إلا أن أحول بينهم وبين ذلك وكلفتهم بإعادتها إلى أماكنها.

وجدير بالذكر أن المرحوم الأستاذ عطا عفيفي بك وكان رئيسا لجمعية الفنون الجميلة زارني يوما بالقصر ورأى هذه اللوحات وأدرك قيمتها الغالية وعرض علي أن وأبلغ الرئيس جمال عبد الناصر باستعداده لنقل هذه اللوحات تحت إشراف الدولة وبيعها في الخارج بما لا يقل عن مليونين من الجنيهات الاسترلينية ولكن أبلغ الرئيس جمال عبد الناصر باستعداده لنقل هذه اللوحات تحت إشراف الدولة وبيعها في الخارج بما لا يقل عن مليونين من الجنيهات الاسترلينية ولكن الرئيس جمال عبد الناصر رفض هذه العرض وأمر بإبقاء الحالة التي كانت عليها.

وأذكر أن السيد عبد اللطيف البغدادي اعتاد عند دخوله الصالون الملحق بقاعة الاجتماعات أن يقف طويلا متأملا إحدى هذه اللوحات البديعة النادرة مبديا إعجابه لما يتبدى فيها من فن رفيع.

سجائر أكرم الحوراني

أثناء رحلة الرئيس إلى الاتحاد السوفيتي في المرة الأولى سنة 1958 لحضور احتفالات العمال في أول مايو، وكان برفقة الرئيس السيد أكرم الحوراني الذي كان يشغل وقتئذ منصب نائب رئيس الجمهورية بعد إعلان الوحدة في 22 فبراير سنة 1958 وفوجئت أثناء الليلة الأولى بنائب الرئيس السوري هائجا ومائجا كالعاصفة وصاح بي:

أريد سجائر عربية.وقلت بهدوء.وأني لنا ذلك الآن.. ونحن في الاتحاد السوفيتي ولا يوجد في الاتحاد سجائر عربية؟ ولكن ثورة نائب الرئيس لم تهدأ ...أريد سجائر عربية.. أريد جاير ماسبيرو..فضحكت فمثل هذاالنوع من السجاير يوجد في القاهرة وبين القاهرة وموسكو آلاف من الأميال.

ويبدو أن نائب الرئيس كان يطلب مني أن أمتطي بساط الريح لأحضر له السجائر وسألته:وأين سجايرك؟لقد نفذت..كيف تنفد ونحن لم نزل في ليلتنا الأولى، وأفهم أن السجاير لا تنفد في الليلة الأولى على الأقل. ولكنه لم يقتنع فأخذت أضحك وقلت له:

إني معي سجاير ماركة البستاني أحضرتها كهدايا.. وربما يحلو لك تدخينها.. ولكنه رفض.ودخل الرئيس عبد الناصر على ثورة نائبه السوري، واستمع إلى الحديث طويلا ثم ما لبث أن أضحك بصوت عال لا يخلو من رنة الاستخفاف وقال:يا صلاح سجاير البستاني إحنا جبناها علشان الغدا بتاعنا، لا تعطي أحد منها ولا تتصرف فيها.

ولا تتصرف فيها.والتفت إلى أكرم الحوراني وقال له: أكرم بك أنصحك بتدخين سجاير روس فهمي جيدة ولا تخف منها.بقى شيء واحد هو أن نائب الرئيس بقي يدخن السجاير السوفيتية طوال الرحلة التي استمرت 17 يوما.. ولعله استمتع بنكهتها واستمرأ طعمها كما أوصاه الرئيس المصري.

الويسكي والكونيال والفودكا.. والسياسة..

وأذكر أنه أثناء هذه الرحلة إلى الاتحاد السوفيتي أن زار الرئيس عبد الناصر كييف عاصمة إحدى الجمهوريات حيث قام رئيس هذه الجمهورية بإلقاء كلمة ترحيب بقدوم الرئيس المصري والوفد المرافق له.

وكان لابد أن يردي الرئيس عبد الناصر على كلمة الترحيب ولكنه فاجأ المجتمعين على المأدبة التي أقيمت على شرفه بأن أناب عنه الأستاذ الكبير فكري أباظة باشا لإلقاء كلمة جمهورية مصر.

وأجفل الأستاذ فكري أباظة للمفاجأة ولكنه ما لبث أن سيطر على الموقف وعاد إليه شبابه حيث بدأ خطابا يتميز بخفة الروح والدعابة التي امتازت بها أحاديثه وقال بصوت جهوري وكأنه يخطب في جمهور النادي الأهلي:

أيها السادة إننا نشكر لكم جميل لقائكم وأشهد أنني عندما كنت في لندن وكنت أحتسي الويسكي، كان الويسكى ممزوجا في فمي بدم الشعوب المستعمرة وعندما ذهبت إلى باريس وشربت خمورا باريس المعتقة سواء من الكونياك أو النبيذ أحسست بالمتعة والترف والبذخ ومعاصر العنب في الجزائر وداء الشهداء في كافة أنحاء المغرب العربي ولكني عندما هبطت إلى دياركم وتجرعت الفودكا كان طعم الفودكا في فمي شهيا لأنه طعم الصداقة والمحبة التي تربط بين قلوب شعبينا.

وانتهت كلمة الأستاذ الكبير بين التصفيق وكان موفقا في التخلص من هذا المأزق الذي أراد أن يوقعه فيه الرئيس عبد الناصر.

انقلاب العراق 1985

كنا في بريوني...وكان محددا لرجوعنا يوم 14 يوليو سنة 1958 وهو اليوم الذي أطاح فيه الجيش بالحكم الملكي في العراق.

وقد وصلت أخبار الانقلاب الدموي عندما كنت نتناول الغداء على الباخرة الحرية المحروسة سابقا وكان الرئيس قد أقامه تكريما للرئيس اليوغسلافي جوزيب بروز تيتو والسيدة قرينته.

وقد رجا الرئيس تيتو بحرارة الرئيس المصري البقاء في بريوني حتى تتكشف أبعاد الموقف الملتهب في الشرق الأوسط أثر أحداث العراق ونزول جنود الأسطول الأمريكي في لبنان واحتلال القوات البريطانية لجزء من الأردن.

ودام اجتماع الرئيسين أكثر من ساعتين في صالون الباخرة وكان الرئيس يتيو يحذر الرئيس المصري من السفر بسبب أخبار قد وصلته عن طريق المخابرات اليوغسلافية بأن مؤامرة تدبرها بعض الدول لضرب الباخرة التي تقل عبد الناصر وإغراقها ومن عليها وكان في لهجة الرئيس اليوغسلافي الخوف والتحذير ولكن الرئيس المصري لم يعبأ بالمخاطر وصمم على مغادرة يوغسلافيا وطمأن الرئيس اليوغسلافي أن الباخرة تحرسها طرادتان هما: الناصر والقاهر ولرد أي اعتداء وأمر الرئيس اليوغسلافي.

بإعداد بارجتين يوغوسلافيتين لحراسة الباخرة المصرية.وأبحرنا في رعاية الله..ومضت الباخرة الحرية في طريقها إلى الإسكندرية بعد أن صدرت الأوامر بإطفاء الأنوار وإعلان حالة الطوارئ عليها.

وكانت الباخرة تضم أفراد عسكريين ما عدا ثلاثة مدنيين هم: الدكتور، محمود فوزي وزير الخارجية والأستاذ هيكل رئيس تحرير جريدة الأهرام وأنا، وأطلقت صفارة الإنذار على سبيل التجربة لكي يأخذ كل منا مكانه في قارب الإنذار بما فيهم الرئيس وأسرته عند وقوع أي غارة على الباخرة وكان قاربي يحمل الرقم (4)

وعلى مسمع من الرئيس عبد الناصر قلت لقائد السفينة:هل هذا معقول إنه عندما تغرق الباخرة أبحث عن قارب رقم (4)؟ بل إنني سأركب أول قارب على اليمين.فقال:هذا القارب للرئيس وأسرته.. فقلت: وأنا من أسرته فضحك عبد الناصر.وانتهت التجربة وعدنا كلنا إلى أماكننا والأنوار مطفأة .. وحاولت أن أستفسر من بعض الضباط عني كيفية ضرب البواخر في عرض البحار

فقال: في منتصف الباخرة وعلى سطح المياه...وقمت بمعاينة رسم الباخرة.وهالني أن حجرتي تقع في منصف الباخرة تماما وأنها أيضا على سطح الماء وأيقنت أنني سوف أكون الضحية الأولى أو شهيد الحرية في حالة الاعتداء على الباخرة وحاولت أن أهون على نفسي فسألت الضابط:من هو آخر من يلقى مصرعه من الركاب؟

فقال: قائد الباخرة..وصممت على أن أكون الشهيد الأخير ونقلت أمتعني إلى غرفة القائد.ولكن الليلة مرة دون أن نذوق للنوم طعما.وفي الصباح الباكر وصلت برقية من يوغسلافيا إلى الطرد اليوغسلافي المرافق تتضمن بأن الاتحاد السوفيتي يطلب ذهاب الرئيس عبد الناصر إلى موسكو وأنه قد أعدت طائرة خاصة وسوفيتية نقل الرئيس إلى العاصمة الروسية.

وقرر الرئيس أن يعود إلى بريوني على طراد يوغسلافي بسرعة لكي يستقل الطائرة إلى موسكو.ودعنا الرئيس عبد الناصر بتأثر شديد وأوصاني خيرا بأسرته وأولاده.وسافر الرئيس وبصحبته الدكتور فوزي وهيكل وحسن صبري الخولي.وتوالت البرقيات بأن الباخرة في طريقها إلى الإسكندرية دون تغير مسارها.

وعليها الرئيس عبد الناصر والفود بينما كان طريقنا إلى بريوني. وتوقفت الباخرة خارج المياه الإقليمية حتى لا يراها أحد وعاد الطراد في الحال إلى المياه الإقليمية خفية.ووصلت الحرية إلى بريوني ونزلنا في لنشات سراي في فيلا بريونكا دون أن يرانا أحد لدرجة أن الرئيس تيتو كان يتوجه يوميا إلى الفيلا وسيارته محملة بالطعام لطهيه في الفيلا وحظر علينا فتح النوافذ أو النزول إلى الحديقة أو خروج أحد الخدم حتى لا تنتشر الأخبار في الجزيرة بعودتنا إليها.

وقضينا في هذا السجن أربعة أيام.وفي خلال فترة الاعتقال كان الرئيس قد وصل إلى موسكو ومنها إلى دمشق حيث أعلن عن وصوله إلى الأرض السورية سالما.وأفرج عنا وخرجنا إلى الجزيرة بين دهشة سكانها لوجود غرباء لا يعرفون واقعة اعتقالهم.

واتصل بي من دمشق الدكتور حسن صبري الخولي وطالبني بالعودة في اليوم التالي بطائرة خاصة إلى القاهرة وطلب تكتم الخبر وعجبت لماذا التكتم والطائرة لابد لها من وقود وتموين للطعام.

وتحركت الطائرة حسبما أراد حسن صبري الخولي ووصلت إلى مطار أبو صوير في يوم 22 يوليو عام 1958 بعد أن فقد الرئيس عبد الناصر كل أمله في بقائنا على قيد الحياة لأنه كان قد أصدر تعليمات بوصول الطائرة الساعة الثالثة.

واضطر عبد الناصر أن يبرح منزله لإلقاء خطاب بمناسبة أعياد الثورة وقد فقد الأمل في بقاء أفراد أسرته أحياء. وبلغ عبد الناصر باللاسلكي أمام مسرح الجمهورية بعودتنا سالمين. وتنفس الرئيس الصعداء وألقى خطابه وعاد إلى منزل إلى أسرته.

خطبة فجائية

أثناء زيارة الرئيس عبد الناصر للسودان سنة 1959 كان البرنامج المعد للزيارة يتضمن حضور حفل تقيمه الخرطوم بحدائق المجرن ولم يكن يتضمن البرنامج خطابا للرئيس عبد الناصر كما لم يتضمن خطابا للفريق إبراهيم عبود رئيس مجلس قيادة الثورة التي كانت تتولى الحكم في السودان.

وفجأة انبرى الفريق عبود ليخطب مرحبا بالرئيس عبد الناصر وارتكبت سكرتارية الرئيس فقد قدمنا ولم يكن الرئيس عبد الناصر معا خطابا بهذه المناسبة وما كنا نوقع خطاب الرئيس السوداني.

وخافت السكرتارية ...ولكني لم أجفل وتحملت مسئولية رد رئيس الدولة عند زيارة دولة أخرى وهو أمر تنظمه قواعد المراسم تنظيما دقيقا وطلبت إلى الرئيس أن يتكلم.

فوقف عبد الناصر وخطب وحيا السودان وشعبه وحكامه ومرت الليلة بخير وعلى أحسن وجه. وفي المساء دخلت على الرئيس عبد الناصر في حجرة نومه لأعتذر عن الخطأ الذي لم يكن لي دخل فيه، بل كان يرجع إلى الفريق عبود الذي ألقى خطبة فجأة كالسكتة القلبية.

وضحك عبد الناصر .. وقال.هون عليك...فقد طلبوا إلي الكلام فتكلمت. لكن سكرتاريته سيادتك هاجت وماجت وزلزلت الأرض زلزالها.. لا تهتم فالمسألة قد مرت، والحمد لله.

وفي هذه المناسبة يجدر أن أذكر أنه في أثناء زيارة رئيس دولة يجب أن يحصل مدير مراسم رئيس الجمهورية الزائر على نسخة من الخطاب الذي يلقيه رئيس الدولة المضيف لكي يعد للأمر عدته ويرد على الخطاب ردا لائقا يتناسب ومراسم الزيارة ولكن حادث خطاب الفريق عبود المفاجئ لم يكن الأول من نوعه أو حادثا فريدا فقد وقعت مثل هذه الحوادث عند زيارة بعض رؤساء الدول لمصر ويبدو أن هذه السنة قد ابتدعها دول العالم الثالث ويرجع ذلك في رأيي إلى عدم رسوخ تقاليد المراسم في هذه البلاد وعدم تطبيقها تطبيقا صارما، كما هو الحال في الدول الغربية العريقة في نظم المراسم وتقاليدها.

ذكرياتي في نيمولي

وفي أثناء زيارتنا الجنوب وكان برفقتي المرحوم حسني الحديدي، زرنا نيمولي وهي بلدة أهلها يعيشون على الفطرة عرايا كما ولدتهم أمهاتهم..وكان سائق سيارتنا شخصا ظريفا اسمه: بنايوتي..وقد جرت العادة على أن يغير الشخص اسمه كلما راق له اسم آخر استهواه أو أسدى إليه جميلا أو معروفا ونفحت السائق جنيها قائلا له:

لتشرب يا بنايورتي الليلة كما تهوى.وجديد بالذكر أن القبائل في جنوب السودان لا تعرف نظام النقد بل تسير في معاملتها على نظام اقتصادي بدائي هو نظام المقايضة وسأل بنايوتي:كم يساوي هذا الجنيه لزجاجات البيرة.

فقال له حسني الحديدي:عشرين زجاجة على الأقل.. وها صديقنا بنايوتي القدر الذي سوف يحصل عليه من الزجاجة وانتشى بنايوتي في هذه الليلة.ولابد أنه أيقن أن كاتب هذه الذكريات شخص أسطوري أو بطل أو وزير.. وأعجبه شخص كاتب الذكريات.

وفي الصباح ناديت على نبايوتي باسمه.ولكنه لم يرد .. فسألته عن السبب.فقال: إنني لست بنايوتي.. فقلت له: ومن أنت إذن؟أنا صلاح الشاهد..وصعقت ولكن بنايوتي أخرج لي بطاقة شخصية تثبت أن اسمه هو اسم صلاح الشاهد وعلمت أن بنايوتي هرع في الصباح المبكر حيث غير اسمه إلى اسمي.

عندما زار عبد الناصر الولايات المتحدة

كانت الزيارة الأولى والأخيرة التي قام بها عبد الناصر إلى الولايات المتحدة في سنة 1960 بمناسبة إلقائه خطابا في الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك وألقى الرئيس خطابا.

وقابل هناك بعض رؤساء الدول كان من بينهم الجنرال دوايت إيزنهاور رئيس جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية الذي كان ينزل بفندق والدروف أستوريا.

وقبل موعد الزيارة ذهبت برفقة السيد ممدوح سالم وكان وكيلا للمباحث العامة في هذا الحين واللواء سعد الدين متولي كبير الياوران وقتئذ لتفقد المبنى والاستعداد للزيارة.

وهالني ما أرى في مدخل الفندق ضابطان يبدو أنهما عربيان يجلسان في وضع غير لائق ويضعان أرجلهما في وجه الداخل في منظر منفر.

كما شاهدت على رصيف الفندق شخصا عربيا يدخن أحد السجائر بعصبية ظاهرة وقلق كأنه قادم على ارتكاب شيء.

وأشرت إلى الصديقين ممدوح سالم وسعد الدين متولي بمخاوفي ولكن السيد ممدوح سالم لم يكترث بالأمر وقال لي: لا تهتم ..

واتصل السيد ممدوح سالم برجال الأمن الأمريكي ولكنهم لم يفعلوا شيئا وسري إلى نفسي الخوف. ولكن ما إن دنت قافلة الرئيس عبد الناصر من الفندق حتى أخرجت الأرض أربعة رجال من جوفها لا أعلم من أين أتوا انقض اثنان منهم على الرجل الذي يدخن السيجار واقتاده دون حراك. وضرب الاثنان الآخران بقدميهما على الضابطين فوقفا في أثناء دخول الرئيس عتبة الفندق.

وصعد الرئيس لمقابلة الرئيس الأمريكي .. ودامت الزيارة ساعة.. ونزل الرئيس ولكن هذه المرة نزل من سلم آخر إلى طريق آخر خلاف الطريق الذي أتي منه أول مرة .. ولم يحس الرئيس بشيء من هذا ..

وكانت عيون الأمن الأمريكي يقظة أكثر مما كنا نتوقع.

التقاليد والمراسم

رجل المراسم بطبيعته معرض لكثير من المواقف المحرجة التي لابد أن تسعفه فيها بديهته الحاضرة أو يقظته أو أن يلطف الله فيما جرت به المقادير وإلا وصل الأمر إلى حد الأزمة التي إلي يعرف عواقبها إلا الله جل وعلا .

وأذكر على سبيل المثال أنه عندما قام الرئيس عبد الناصر بزيارة اليونان سنة 60 زيارة رسمية وبصحبته السيدة الجليلة قرينته، كانت القواعد التي تضعها المراسم تقضي بأن تضع حرم الرئيس يدها في ذراع جلالة الملك المضيف وأن تضع جلالة الملكة يدها في ذراع الرئيس عبد الناصر في أثناء نزولهم إلى قاعة العشاء وأن يمروا بين المدعوين لتحيتهم في طريقهم إلى المائدة.

ولكن الرئيس رفض الإذعان لقواعد المراسم. وأصر على الرفض إصرارا كبيرا جعلني ألجأ إلى مدير المراسم الملكية أخبره بقرار الرئيس.

ويبدو أن مدير المراسم لم يجد متسعا من الوقت لإبلاغ رغبة الرئيس إلى جلالة ملك اليونان. وحدث أن صعد الملك والملكة الكي يصطحبا الرئيس وحرمه إلى المأدبة حسما تقتضي قواعد المراسم.

ونزل الجميع وكان الأمر مربكا بشكل كبير إذ كلما أراد الملك أن يجعل حرم الرئيس تضع يدها في ذراعه يري حرم الرئيس تزور عنه.. وكذلك عندما كانت تريد الملكة أن تضع يدها في ذراع الرئيس أجفل الرئيس وارتبك وحاول أن يتملص

وكنت أضع يدي على قلبي خشية أن يلحظ الناس المسألة وأن تثير لغطا خاصة في القصر الملكي حيث تتبع قواعد المراسم بدقة وحرفية على الطريقة البريطانية. وانتهت الليلة على خير... وقال لي عبد الناصر بعد ذلك.وأنا رجل صعيدي رجعي في بيتي لا أطيق أن أرى زوجتي تضع يدها في ذراع آخر ولو كان ملكا.

عندما سقطت مريضا بسبب الإرهاق

في 7 أغسطس سنة 61 كان سمو الشيخ راشد بن مكتوم حاكم دبي يزور القاهرة وكنت أتولى الإشراف على الزيارة التي كان يقوم بها سمو الحاكم للرئيس في استراحة المعمورة بالإسكندرية وكان الجو قائظا وكنت مرهقا بشكل لم يسبق له مثيل بسبب العمل ومتاعبه الجسمية.

ويبدو أن الإرهاق كان مسيطرا على حواسي جميعا.إن عندما قابلت السيد على صبري وزير شئون الرئاسة صحت فيه بعد أن لاحظ إمارات التعب بادية على وجهي .. قائلا..

ومن الذي لا يتعب في العمل معكم؟ لقد قمتم بالثورة في شهر يوليو وهو شهر شديد الحرارة ثم إننا لا نسترد أنفاسنا حتى نفاجأ بزيارة كبير أو مسئول للقاهرة وكأن القاهرة لا تريد أن تعترف بأن هناك فترات راحة أو استجمام يمكن للبشر أن يقضوها.. وأراد على صبري أن يهون على الأمر ولكني استطردت قائلا:

إن الرئيس عبد الناصر يريد قتل ثلاثة أشخاص بالإرهاق فسألني مستفسرا عن هؤلاء.فقلت: أحدهم أنت شخصيا والآخر السيد محمد أحمد سكرتير الرئيس الخاص أما الثالث فهو العبد لله.وضحك علي صبري بصوت عالي ولم تتوقف ضحكاته إلا عندما دخل الرئيس عبد الناصر الحجرة وسأل علي صبري:

يبدو أن صلاح الشاهد قد ألقى نكته ظريفة .. أرجو ألا تحرموني من سماعها؟فقال علي صبري:إن صلاح الشاهد لم يقل نكته بل قال حقيقة قاتلة.وقص عليه ما قلت.. فابتسم الرئيس وقال:

أنني أرى عليك سيماء الإرهاق بدون خفاء واعتبر نفسك في إجازة طوال شهر أغسطس على أن تصبحني في أول سبتمبر إلى مؤتمر عدم الانحياز في بلغرد.ومضيت إلى منزلي ولكن المسألة كانت أخطر وأفدح، إذ سقطت مريضا وعلم الرئيس عبد الناصر بمرضي وأرسل لي كبار الأطباء في أمراض القلب في الإسكندرية لعيادتي مثل الأستاذة الدكاترة: محمود صلاح الدين وحافظ غانم وأحمد السيد درويش ونعيم.

وكان معي الدكتور أحمد طلعت خطيب كريمتي راندة وأسفر الكشف الطبي عن إصابتي بجلطة قاتلة في الشريان التاجي.. وكان شفائي ميئوسا منه، بل إن الدكتور نعيم أطلق علي لقب الشهيد.

ويبدو أن مرض قد أثر في الرئيس تأثيرا شديدا وخاصة أنه وقع بعد ساعات قلائل من اتهامي إياه بقتلي ولم يكف الرئيس عن السؤال عن صحتي يوميا وبانتظام بل إنه في خلال هذه الفترة كان نجله:

عبد الحميد مريضا بالحمى الشوكية وكان يتولى علاجه الأطباء الذين يعالجونني ولم يكد يراهم الرئيس حتى يستفسر منهم عن صحتي وكان يزورني في المنزل والسيدة قرينته كما كان يتفضل بالزيارة السيد الرئيس أنور السادات الذي كان يصعد إلى الدور الخامس بالسلم لعدم إتمام تركيب المصعد.

وكان الرئيس السادات وافيا دائما كعادته لأصدقائه وزملائه من عهد الدراسة ولم ينس أبدا من عملوا معه أو زاملوه.وقد ترتب على مرضى نتيجة هامة هي أن القاهرة قد استراحت من استقبال الزوار في أثناء شهور الصيف واعتبرت هذه الشهور إجازة من الاستقبالات والاحتفالات


وأذكر أنه أثناء المباحثات الثلاثية التي تمت بين مصر وسوريا والعراق سنة 1963 كان الرئيس عندما تدق الساعة العاشرة مساء يرسل ورقة يطلب فيها مني مغادرة المكتب إلى المنزل للراحة.

لماذا أريد إخراج الدكتور استينو من الوزارة

رفعت المخابرات تقريرا إلى الرئيس عبد الناصر تضمن أن الدكتور كمال رمزي استينو وزير التموين يعطي تصريحات على هواه وكما يشاء باستيراد الأقمشة الحريرية من فرنسا مخالفا بذلك القانون وطلبت المخابرات في نهاية التقرير إخراج الدكتور استينو من الوزارة لهذا السبب وقرأ الرئيس التقرير.

واستدعاني وأعطاني قطعة من القماش مكتوبا عليها بحروف أفرنجية صنع في فرنسا وقال لي إن هذا القماش يباع بمحل في شارع قصر النيل وأطلعني على إعلان بجريدة الأهرام يبين أن المحل المذكور يبيع أقمشة مستوردة وطلب مني أن أتحرى الأمر بطريقتي الخاصة.

وبعد الظهر ذهبت إلى المحل وكان صاحبه يعرفني فرحب بي وطلبت منه قماشا حريريا يصلح فستانا من الأقمشة الفرنسية الموجودة بالمحل حسب قطعة القماش التي أخذتها من الرئيس عبد الناصر.

ولكن صاحب المحل قال لي:إننا لا نبيع قماشا فرنسيا مستوردا..وسألته: ولكن القماش مكتوب عليه مصنوع في فرنسا فكيف يكون ذلك.وفسر لي صاحب المحل الأمر جميعًا وهو أنه يحصل على الحرير المصري الخام ثم يتولى تصديره بواسطة الجمارك إلى فرنسا حيث يتم تجهيزه ويصبغ ويطبع ويعود إلى مصر.

ورجعت إلى الرئيس وقلت له ما انتهى إليه البحث وذهل الرئيس وقال:

إننا نعاني أزمة في الأخلاق لقد ساءت الأخلاق قل لي بربك هل أحضر ملائكة لأعمل منهم ضابطا للمخابرات يقولون الحق ولا يقعون في الظلم ويظلمون الآخرين لغرض في نفوسهم إن الضابط صاحب التقرير يستحق العقاب. ولكني لا أعلم حتى الآن ما انتهى إليه مصير هذا الضابط.. هل نقل أو جوزي أو رقي إلى منصب أكبر من مناصب الدولة.

إخراج الباقوري من الوزارة

تربطني مع فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري صداقة طويلة ومودة خالصة ترجع إلى زمن ليس بالقصير وطالما طلبت منه أن يصرف على بعض المستحقين من خيرات وقف أما حسين وكان يطلق عليها فضيلته وقف جدة الشاهد.

وكنت أزوره يوما بمكتبه ودخل علينا ضابط من المخابرات يصطحب فتاة صارخة الجمال وطلب إليه أن يصرف لها من خزانة الأوقاف شهري مبلغ خمسة وعشرين جنيها بسبب فقرها وحاجتها ولم تكن علامات الفقر أو الحاجة تبدو عليها وهي تنفجر أنوثة وأناقة وظرفا وحيوية.

وأذكر أن فضيلة الباقوري أجاب الضابط بقوله:

تزوجها على بركة الله فأموال المسلمين لا تنفق على السفه والنزوات بل تصرف للفقراء من المسلمين والمساكين حسب الموارد الشرعية.والتفت إلى السيدة الطالبة وقال لها:أما أنت فعليك بالحشمة فالحشمة تاج المرأة. ويبدو أن الدرس كان مؤلما للضابط وانقضت عدة شهور ووصلت دعوة إلى الرئيس لحضور عقد قران كريمة فضيلة الشيخ الباقوري ولكن الرئيس قابل الدعوة بفتور وقد ذكرته بأن العادة جرت أن ترسل هدية باسم رئيس الجمهورية في مثل هذه المناسبة ولكن الرئيس أشار بأنه لا داعي لذلك.

ولم أدر لذلك سببا.ثم حضر الرئيس حفل القران مكتفيا بإرسال باقة من الورد إلى العروس.وبعد أقل من أسبوعين صدر قرار بإقالة الشيخ الباقوري دون سبب وانطلقت الشائعات تملأ البلاد حول أخلاق الشيخ تنسب إليه مسائل وأحداثا كان صانعوها ومر وجوها ودعاتها رجال المخابرات وعملاءهم في أنحاء البلاد واستمرت الشائعات معربدة تنال من كرامة الشيخ وتنهشه.

ولما كان الناس تبعا للزمان كما يقول الشاعر العربي، فقد انفض الناس عن الباقوري ومجلسه إلا اثنين ظلا مقيمين على الود هما: المهندس أحمد عبده الشرباصي والدكتور نور الدين طراف عضوا مجلس الرئاسة وقتئذ.

وانجلت الحقائق بعد ذلك وسوف تكشف الأيام أن الباقوري كان ضحية لتقرير رفعة إلى رئيس الجمهورية ضابط موتور أراد أن يجعل أموال المسلمين مشاعا لإحدى الساقطات وعندما يرفض الوزير يكون مآله التشهير والإخراج من الوزارة.

وقد أخرت الرئيس عبد الناصر بالواقع كما شاهدتها وكما سمعتها أذناي وعرف عبد الناصر الحقيقة وعاد الباقوري إلى الحياة العامة التي ظل مبعدا عنها وبعيدا عن أضوائها لسبب بسيط هو أنه أراد أن يحافظ على أموال المسلمين.

الدكتور محمد حلمي مراد.. والهدايا

عندما كان الدكتور محمد حلمي مراد وزيرا للتربية والتعليم وجهت إليه دعوة لزيارة الكويت والبحرين في أواخر شهر إبريل سنة 1969 وذلك لتفقد معاهدها ومدارسها ودارسة أحوال البعثات التعليمية التي ترسلها الوزارة إلى هذه البلاد.

ولما كانت هذه الدول لا تتبع نظام الأوسمة التي تهدي لكبار الزائرين فقد أهدى الدكتور حلمي مراد طاقما للشاي المصنوع من الفضة من حكومة الكويت كما أهدى ساعة من البلاتين المرصع بالماس من طراز بياجيه وعقد من اللؤلؤ من حكومة البحرين.

وعندما قفل الدكتور حلمي مراد راجعا إلى مصر اتصل بي معلنا عدم قبوله مثل هذه الهدايا وأنه سوف يبعث بها إلى الرئيس جمال عبد الناصر، ولكني أفهمته بأسلوب لبق أن مبدأ تبادل الهدايا من المبادئ المستقرة والمعمول بها بين كافة الدول وأنه لا حرج عليه في قبول هذه الهدية.

ولكن الدكتور حلمي مراد كان حنبليا فأصر على عدم قبول الهدايا بأية صورة من الصور.وطلعت جريدة الأهرام بخبر نشره كمال الملاخ بتاريخ 19/ 5/ 1969، بشير إلى رفض الدكتور مراد للهدايا بإباء وشمم.

وأرسل الدكتور حملي الهدايا إلى ديوان كبير الأمناء وحاولت التملص بمنتهى اللباقة من قبولهم ولم أتمكن فرفعت إلى السيد رئيس الجمهورية مذكرة من ثلاث صفحات ضمنتها خلاصة الرأي في هذه الحالات وتطبيق مبدأ قبول كبار الزائرين من الشخصيات لهدايا الدول وأن هذا المبدأ معمول به في كافة دول الأرض جميعا ملكية كانت أم جمهورية رأسمالية كانت أم شيوعية وعرضت على الرئيس القصة بأكملها من الألف إلى الياء.

ويبدو أن الرئيس قد استاء وأذكر أنه هز هز رأسه وقال مستنكرا:

يعني أننا عندما ما نقبل الهدايا لصوص وإلا يعني الدكتور حلمي عنده أخلاق واحنا لا لما نشوف.

وكان الرئيس محنقا وأشار علي بإيداع الأشياء بمخزن الهدايا برئاسة الجمهورية.

وبدأت العلاقة تتردى بين الرئيس والدكتور حلمي مراد منذ هذا اليوم حتى يوم 6يوليو سنة 1969 يوم اجتماع مجلس الوزراء.وحضر الوزراء.ثم حضر الرئيس وسألني هل حضر السادة الوزراء؟فأجبت بالإيجاب.فقال: وهل حضر الدكتور حملي مراد؟فأجبت بالإيجاب فقال: وهل حضر الدكتور حلمي مراد؟ فأجبت بالإيجاب.

ويبدو أن الرئيس لم يرقه حضور الدكتور حلمي مراد المجلس في هذا اليوم ودخل الاجتماع مكفهرا عابسا مقطب الجبين.ولم تمض دقائق حتى انفض اجتماع مجلس الوزراء وخرج الرئيس مسرعا غاضبا في طريقه على السلم الرئيسي ليركب سيارته.

وعند وصوله منزله بمنشية البكري واتصلت بي سكرتارية الرئيس وطلبت مني إبلاغ سامي شرف وشعراوي جمعة وأمين هويدي بعدم استعداد الرئيس لمقابلة أحد منهم هذه الليلة لأنه متعب وصعد إلى الدور العلوي ليستريح.

أما الدكتور حملي مراد فقد وقف مع بعض الوزراء في حديقة القصر يتكلمون وفي يوم 10 يوليو صدر القرار الجمهوري بإعفاء الدكتور محمد حلمي مراد من منصبه وفي رأيي أن واقعة الهدايا كانت السبب الرئيسي لخروج الدكتور محمد حلمي مراد من الوزارة.

كادت تحدث أزمة بسبب السلاطة

دعا الرئيس جمال عبد الناصر رؤساء الوفود العربية في أثناء اجتماع مجلس جامعة الدول العربية بالقاهرة إلى حفل عشاء في قصر القبة. وكان عدد المدعوين يزيد على مائتي شخص.

وكان على أن أعد قائمة طعام للوفود وقد اخترت بين القوائم التي تعد لهذا الغرض قائمة راعيت فيها أن تضم ألوان الطعام بأسماء عربية تتفق وهذه المناسبة مثل حمل على الطريقة السعودية ديك على الطريقة الشرقية حساء لبنان، قهوة اليمن إلى آخره وأن توضع القوائم بأسماء ألوان الطعام.

وكلفت المختص بالإشراف على المائدة ويبدو أنني أنصرف على عجل للقيام ببعض المهام الأخرى. وقبل موعد الحفل بربع ساعة نزلت إلى الحديقة للمرور على المائدة وتفقد ماتم وتصفحت قائمة الطعام ولكن تسمرت عيناي أمام لون من الطعام ولا أغالي كثيرا أنني أصبت بشيء كبير من الذهول ولو لم أتمالك نفسي لأصابني إغماء.

فقد وجدت أن السلطة قد أطلق عليها في القائمة اسم سلطة راشيل وهي سلاطة من الخفاش الصغير المسلوق بالليمون واسم راشل كما لا يخفى اسم يهودي قديم ودارت الدنيا أمام عيني ما الذي حدث لو جاء رؤساء وفود عربية يحاربون إسرائيل ويجتمعون ساعات طويلة لوضع الخطط لمحاربتها والوقوف في وجهها ومطامعها ليجدوا اسم راشيل في النهاية موجودا في قائمة الطعام وكأنه يذكرهم بإسرائيل بل كأنه يسخر منهم ويهزأ من اجتماعاتهم

وبكل هدوء بل بكل ما أتيت من اتزان طلبت شفرة حلاقة وبدأت أكشطج بيدي الألف وجزءا من اللام من كلمة راشيل لتصبح رشيد.ولله الحمد أن هداني الله إلى ذلك.

ورشدي بلد من بلاد الدلتا المصري مشهور أهله بالظرف وحب النكتة والقفشة والواقع أن هذا الحادث كان ظريفا وبالرغم من ذلك فقد كان الدليل على أن رجل المراسم يجب أن يكون دقيقا في كل ما يعهد إليه من عمل كبر شأنه أو صغر ويجب عليه أن يؤدي ما أنيط به بحذافيره لا يترك شاردة ولا واردة ولا يترك أية مسالة للمصادفات.فما الذي كان يحدث لو بقيت سلاطة الوفود العربية تحمل اسم راشيل.

المرحوم الملك محمد الخامس

أذكر أثناء زيارة المغفور له جلالة الملك محمد الخامس ملك المملكة المغربية طيب الله ثراه للقاهرة سنة 1960 للاشتراك في الاحتفالات التي أقيمت لبدء العمل في السد العالي لأسوان وذلك لمدة ثمانية أيام.

وأنه كان من عادة الملك الراحل أن يستيقظ من النوم قبل طلوع الفجر ليذهب إلى أحد المساجد وليستمع إلى تلاوة القرآن ثم يصلي الفجر حاضرا دون احتفالات أو مراسم مكتفيا باصطحاب السفير المغربي المرحوم عبد الخالق الطريسي تشبها بالسلف الصالح من عظماء المسلمين وكانت صلاة الملك الراحل تقربا لله جل وعلا دون ضجة أو ضجيج ولكن كان لاعتبار الأمن مفهوم آخر إذ كان الملك في زيارة رسمية للجمهورية وكان لابد من تشديد الحراسة على جلالته فاتصل بالسفير المغربي في القاهرة وطلب إليه أن تمدنا السفارة بأسماء المساجد التي يريد جلالته إقامة شعائر الصلاة فيها.

وبالفعل كان المرحوم الطريسي يخبرني مسبقا برحلة الملك إلى مساجد القاهرة يوميا وكنت أعد الترتيبات لكي يتولى تلاوة القرآن في هذه المساجد أشهر القارئين أمثال محمود الحضري وعبد الباسط عبد الصمد ومصطفى إسماعيل.

وكان جلالة الملك يستمع إلى القرآن وهو في نشوة بالغة.وقد سألت جلالته عند انتهاء الزيارة.لعلا جلالتكم أعجبتم بالقاهرة فأجاب:

لقد أعجبت بالقاهرة كثيراأما إعجابي البالغ فهو تلاوة القارئين في القاهرة لكلام الله بالطريقة الرائعة التي تتم عن حس دقيق وفهم عميق لعبارات القرآن الكريم وإشاراته ومما أذكر أن المرحوم الطريسي وكان صديقا حميما أعتز بصداقته كان يتعجل نهاية زيارة الملك وكان السفير خفيف الروح حلو الدعابة إذ كان يقول لي:

أنا عمري ما صليت الظهر أبقى كل يوم أصلي الفجر حاضرًا متى يرح سيدنا فأتخلص من هذا الواجب لكي أنعم بالنوم العميق حتى الضحى؟

أصناف مغربية

في أثناء زيارة جلالة الملك الحسن الثاني ملك المغرب سنة 1953 وكان وليا للعهد أقام حفلا للاستقبال في آخر أيام الزيارة بقصر القبة دعا إليه كبار رجال الدولة.

وأذكر أنه طلب مني استدعاء كبير لطهاة بمحلات جروبي الشهيرة لإعداد قائمة الطعام كبير الطهاة. وبدأ الملك يناقش في التفاصيل الدقيقة للمأدبة المراد إقامتها وكان جلالته يلم إلماما دقيقا بكل أصناف الطعام وألوانه بل إن جلالته بدأ يشرح لكبير الطهاة طريقة طهي أطباق مغربية لذيذة بدقة الأستاذ المتخصص وعلمه.

وقد أقيمت المأدبة وقدمت ألوان شهية من الطعام المغربي ولكن لم تكن في روعة المأدبة التي أقامها جلالته بمناسبة مؤتمر القمة سنة 1969 للزعماء العرب.

وكانت قاعة الطعام عبارة عن خيمة كبيرة مجهزة بوسائد ومقاعد على الطريقة المغربية وإلى جوار الخيمة نصب وفيه عليه ألوان شتى من الطعام.

وبدأت المأدبة بأن أخذ كل مدعو طبقا وملأه بما يشتهي وجلسنا على الوسائد الشلت والصواني أمامنا، وبدأنا نستعد لتناول الطعام فإذا بنا نفاجأ بقطيع من السفرجية الأشداء في شبه غارة اجتاحت الخيمة وانقضت على الأطباق التي أمامنا وانتزعها انتزعا ولم تمض ثوان حتى قدمت لنا ألوان أخرى من الطعام عبارة عن أوي محاط بالدجاج والجمام والأوز على الطريقة المغربية ولم نكد نشرع في التهام هذا الطبق اللذين حتى انقضت قبيلة السفرجية لترفعه من أمامنا ونحن في حسرة ودهشة ما بعدها حسرة أو دهشة.

وأعيدت الرواية فصولا وقدم إلينا لون آخر من ألوان الطعام ثم انتزع من بين أيدينا في دقائق واستمر الحال على هذا المنوال لأكثر من خمسة وعشين لونا من الطعام.

وقد سألت عن سبب ذلك كله وعلمت أن مرجع ذلك هو الرغبة الملكية في أن نتذوق أكبر عدد من ألوان الطعام الشهي.وأذكر أن المرحوم عبد الخالق الطريسي سفير المغرب في القاهرة أخبرني يوما أن المطبخ المغربي متعدد الألوان إذ يقوم بطهي الدجاج في أكثر من 60 صنفا.

ومن العادات التقليدية في المغرب أن يقدم أول ما يقدم للضيف التمر والحليب وفي منتصف الطعام يقدم الشاي الأخضر ليساعد على هضم الطعام اللذيذ

ومن الطرائف الجديرة بالذكر أنه في أثناء زيارة جلالة الملك الحسن للقاهرة وكان يقيم بفندق هيلتون وفي معيته طاهي القصر أراد أن يولم وليمة على نمط الولائم المغربية فأوقد الطاهي نارا لشوي أحد الخرفان وبدأت رائحة الدخان تتسرب إلى الفندق الكبير فقلق النزلاء وسال لعابهم لرائحة الشواء. وكانت هذه الخرافات أجمل ألوان الطعام الطيب السائغ للآكلين.

مع جلالة الملك الحسن الثاني

قلت إنني تشرفت بمقابلة جلالة الملك الحسن الثاني ملك المغرب عندما كان جلالته وليا للعهد وكان قد حضر لزيارة القاهرة بمناسبة احتفالات الثورة في عيدها الأول عام 1953وكان لي شرف مرافقة سموه أحيانًا.

وأذكر أنه طلب أن يزور متحف عابدين لكي يشاهد تحف الملك فاروق ومخلفاته الفخمة وقد تمت الزيارة. ومنذ ذلك الحين نشأت بين جلالته وبيني أواصر الصداقة والمحبة والتقدير.ثم توج بعد ذلك ملكا على المغرب ولم تنقطع علاقتي بجلالته بل ازدادت توثيقا وكان جلالته بأسلوبه الرقيق دائم المداعبة والظرف.

وتفضل فدعاني لزيارة المغرب ولكن كانت ظروف العمل وارتباطي به تحول دون ذلك للأسف الشديد وكرر جلالته دعوته أكثر من خمس مرات.وأذكر في أثناء زيارة الوزير حمدي عبيد وزير الحكم المحلي على رأس وفد مصري للتهنئة بعيد الاستقلال أن أبلغه جلالة الملك برغبته إلى الرئيس عبد الناصر لكي يوفدني في زيارة رسمية إلى المغرب.

ولكن هذه الزيارة لم تتم بسبب متطلبات العمل.ولا يفوتني أن أذكر بهذه المناسبة أنه في أثناء انعقاد مؤتمر القمة في الرباط سنة 1969 أن دعانا جلالة الملك لتناول ألوان الطعام على مأدبته بحديثة قصر البديع وما إن تقدمت لمصافحة الملك حتى أمسك بذراعي متلطفا ووجه الخطاب إلى الرئيس عبد الناصر قائلا:

يا فخامة الرئيس لقد وجهت الدعوة أكثر من مرة للأخ صلاح الشاهد لزيارة المغرب ولكنه امتنع عن الحضور.فلم يتوان الرئيس عبد الناصر عن الإجابة على الفور.اقبض عليه جلالتك لتضمن بقاءه طرفكم كما ترغبون.

ولم تمالك نفسي من الرد على الرئيس الراحل:يا سيادة الرئيس هل تتنازل عني بمثل هذه السهولة؟فقال ضاحكا:ليس لأكثر من ستة شهور فقط.ثم وجهت كلامي إلى جلالة الملك المعظم قائلا:يا صاحب الجلالة هذه الدعوة كما يقول المثل العامي المصري عزومة مراكبية.

أي دعوة في عرض البحر لرجل على الشاطئ وجلالتكم تعلمون أنني لا أستطيع ترك الرئيس عبد الناصر بمفرده وخاصة أننا سوف نتوجه إلى الجزائر وليبيا في طريقنا للقاهرة.

ويبدو أن تصوير دعوة جلالته بأنها عزومة مركبية جعلته يغرق في الضحك فاستطردت إلى القول: ولأجل أن تكون الدعة ملكية حقا فإنني سوف أحضر حرمي وأنا لزيارة المغرب في وقت قريب.

وأذكر أنه في أثناء المأدبة الملكية التقى الجنرال محمد أو فقير وزير الداخلية وقتئذ وطلب منه أن يرافقه لنزهة في المساء.ويبدو أن الأستاذ هيكل لم يكن يطمئن لصحبة الجنرال الخطر إذ قال بصوت عال:

يا سعادة الجنرال، أنا لا أمانع أن أرافقك في هذه الجولة بشرط أن أخبر الرئيس عبد الناصر وجلالة الملك الحسني أنني متوجه بصحبتك حتى إذا لم أعد يكون معلوما لديهما أنني كنت وفقتك.وخرجا معا في المساء ثم عاد الأستاذ هيكل.

هذا وأذكر بالفضل أن جلالة الملك الحسن الثاني وجه الدعوة لشخصي الزيارة المغرب الحبيب بعد استقالتي عن طريق سعادة عبد اللطيف العراقي سفير المغرب في القاهرة. وأرجو أن تسنح لي الفرصة لزيارة في المستقبل القريب.. بإذن الله..

من أحداث اليمن

بعد إعلان الوحدة بين مصر وسوريا سنة 1958 أجرى الاستفتاء عليها وعلى رئيس الجمهورية العربية المتحدة وتم الاستفتاء في إقليمي مصر وسوريا وأسفر الاستفتاء عن إقرارا الناخبين للوحدة بين الإقليمين وانتخب جمال عبد الناصر رئيسا ولقد عقد ما سمي اتحاد الدول العربية في أثناء قيام الوحدة بين اليمن والجمهورية العربية على أن هذا الاتحاد ظل نظريا فقط فقد لاحظ المراقبون أنه لم يقم بين اليمن والإقليمين أي تعاون حقيقي ما عدا وقوف اليمنيين إلى جانب القاهرة وسائر الحكومات العربية في القضايا الدولة ولكن في غير ذلك المجال العام لم يبد أثر لتعاون بين دول الاتحاد الرمزي وبقي الاتحاد جسدا بلا روح.

والملاحظ أن الإمام أحمد ظل على سياسة الريبة والشك ونوايا القاهرة ولم تبد منه أية علامة على الثقة بل إن الإمام داخل الاتحاد انكمش انكماشا كبيرا وبدأ في مناسبات كثيرة على قدر من الحذر والحيطة بل إن ممثل اليمن في الاتحاد كان يوم إعلان الانفصال الشهير في سبتمبر سنة 1961 مغتبطا بشكل ظاهر.

وكان يقول لرجال السلك الدبلوماسي العربي:

إن بقاء الاتحاد نفسه لم يعد له مبرر ما دام أحد طرفيه قد انشق عليه.ولكن الإمام برغم شعوره هذا وأمارات الشماتة البادية عليه لم يتخذ أي خطوة عملية بعد الانفصال على أن الاتحاد تجمد أكثر فأكثر أما القاهرة من جانبها فلم تفصح عن نواياها وأثرت أن تترقب ما تتمخض عنه الأيام.

وأراد الإمام أن ينفذ المظاهر فاقترح على الرئيس عبد الناصر أن يزور الإمام البدر ولي العهد القاهرة ذرا للرماد في العيون والواقع أن الأيام التي تلت الانفصال كانت شديدة الوقع على القاهرة.

وتمت زيارة البدر ضيفا في قصر الطاهرة وكان قادما من الاتحاد السوفيتي ومر في أثناء عودته على تشيكوسلوفاكيا وجنيف.وكنت مندوبا عن الرئيس في استقباله بالمطار.ووصل الأمير في ساعة متأخرة من الليل ورافقته في السيارة إلى قصر الطاهرة وتجاذبنا الحديث وسألته عن زيارته لهذه الدول فقال:

إنه لا يدري كيف يعيش على أرض اليمن بعد أن شاهد العالم الخارجي وما عليه من تقدم كبير.وقابل الرئيس عبد الناصر.وكانت الزيارة فاترة لم تسفر عن أي شيء سوى أن الأمير طلب من الرئيس عبد الناصر أن يصحبه الطبيب مصطفى بهجت طبيبا خاصا له والياور المقدم حسن رفعت ياورا له في اليمن.

ووافق الرئيس.وكلفني بنقل رغبة الأمير إليهما..ولكنهما رفضا الذهاب بل أصرا على الامتناع حتى ولو أدى الأمر إلى استقالتهما ثم قرر الرئيس عبد الناصر حل الاتحاد بعد هذه الزيارة وبعد أن خرج الإمام أحمد بقصيدة شعرية تتضمن هجاء للرئيس المصري والاشتراكية.

وأذكر أن مجلس الاتحاد كان يصدر في أثناء انعقاده بحضور وموافقة مندوب اليمن بعض القرارات ويبعث بها إلى صنعاء وتعز لكي يصدق الإمام عليها ولكن صنعاء وتعز لم تكونا تخرجان بالصمت عن (لا- أو – نعم) بل كان الإمام لا يوافق أساس على اتجاه القاهرة في التأمين وسياستها في مهاجمة الدول العربية وارتمائها في أحضان الكتلة الشرقية.

وعادت الأوضاع إلى ما كان عليه الحال قبل الاتحاد الوهمي وعين سعادة عبد الرحمن بن عبد الصمد أبو طالب وزيرا مفوضا ومندوبا فوق العادة للمملكة المتوكلية اليمنية حتى قام الانقلاب (26 سبتمبر سنة 1962 زارني صباحا سعادة الوزير المفوض في منزلي وكان يحمل هدية قوامها ستة جوالات من البن هدية من الإمام البدر إلى الرئيس عبد الناصر وجوال بن لي بمناسبة ولايته حكم اليمن.

وفي أثنا تناول الوزير القهوة علمت من مدير مكتبي أن ثورة قامت في اليمن وأطاحت بحكم الإمام البدر الذي قيل إنه لقي مصرعه..وكنت مرتبا حائرا لا أدري ماذا أفعل بهدية الإمام المقتول..وكتمت أنفاسي وتمالكت نفسي عندما قتل للسفير.

أرجو يا سعادة السفير أن تذهب بنفسك إلى منزل الرئيس لكي تقدم الهدية وترك السفير وكان يعمل بما وقع من أحداث هديتي وتوجه إلى منزل الرئيس بمنشية البكري.وعاد إلى السفارة وعلم بالانقلاب فاتصل بي في قصر القبة يطلب استفسارا عن حقيقة الأوضاع في اليمن وعن مصرع الإمام البدر.فأخبرت السفير أن الإمام البدر قد نجا بحياته وهرب إلى خارج البلاد وأن عبد الله السلال هو قائد الحركة.

بيني وبين الإمام أحمد

وفي الرحلة التي قام بها الرئيس جمال عبد الناصر إلى جدة لمقابلة المغفور له الإمام أحمد إمام اليمن والملك سعود ملك المملكة العربية السعودية جرت العادة على أن أكون في مقدمة الركب لترتيب الاستقبالات عند وصول الملك والرئيس جمال عبد الناصر.وكان المفروض أن يكون الإمام أحمد بالمطار ولكنه لظروفه الصحية وكبر سنه كان في الانتظار بمدخل القصر.

وكان رئيس بعثة الشرف التي رافقته معالي السيد عبد الرحمن الطبيشي وزير الدولة السعودي وقتذاك وقد اختير معاليه لهذه المهمة بسبب متانة جسمه وقوة ذراعيه حتى إذا ما تعلق به الإمام استطاع أن يحمله لأن الإمام كان مصابا بشلل الأطفال.

وعندما وصلت حييت معالي وزير الدولة ولكن دخل في روع الإمام أن القادم هو جمال عبد الناصر وفي ثواني وجدته يعانقني عناقا شديدا رهيبا وقال:

أهلا.. أخي جمال.ولم أستطع أن أحتمل ثقل جسمه وألجمت الدهشة وزير الدول السعودي الذي جعل يضحك على هذا الموقف الطريف وقد حاول أن يفهم الإمام أنني لست جمال عبد الناصر وأخيرا أدرك وقام بتقديمي إليه معالي وزير الدولة وتكررت المأساة مرة أخرى وعانقني قائلا:أهلا.. أخي صلاح.

أحباب الله

لم تستغرق مراسم توقيع الاتفاق اليمني المصري في المملكة السعودية طويلا إذ تم التوقع على هذا الاتفاق بعد اجتماع المؤتمرين يوم السبت 21إبريل سنة 1956.

وكان الجانب المصري ينزل في جناح بقصر الضيافة الكبير بجدة وإلى جانبه في جناح آخر ينل الوفد اليمني.وأراد الرئيس عبد الناصر أن يبادر بزيارة جلالة الإمام أحمد في جناحه الخاص لأسباب منها أن جلالة الإمام كان مصابا بالشلل وأنه كان يكبر الرئيس المصري في العمر.

وقد أبلغت الإمام برغبة الرئيس في زيارته وحدد لهذه الزيارة صباح الأحد 22 إبريل سنة 1956 (11 رمضان سنة 1375ه)

وفي الصالون الرئيسي الملحق بجناح الإمام أحمد جلس الرئيس عبد الناصر إلى يمين الإمام وبعد برهة وجيزة حدث شيء طريف لا يمكن للإنسان أن يتصوره بأي خيال إذ تسلل من تحت المقاعد حوالي أربعين طفلا لا تزيد سن كل منهم على عشر سنوات وساد الهرج وتصايح الأطفال من حولنا مهللين يلعبون وكأن الأمر لا يعنيهم في كثيرا أو قليل وعقدت الدهشة ألسنتنا وألجمتنا وافتر ثغر الرئيس عبد الناصر عن ابتسامة صغيرة أراد أن يداري بها دهشته في حضرة الإمام الرهيب.

وأمام مجموعة الأطفال يمرحون قال الإمام للرئيس عبد الناصر: هؤلاء أحباب الله. وقد علمنا فيما بعد سر هؤلاء الأطفال الذين التفوا حول الإمام وكانوا أطفالا لآباء صدرت ضدهم في عهد الإمام أحكام بالقتل أو السجن أو النفي أو التعذيب كما كان بعض الأطفال لا عائل لهم، وبعضهم رهينة لديه ولله خلقه شئون.

قصة الباخرة الحرية...والإمام

كان الإمام أحمد إمام اليمن يزمع السفر إلى إيطاليا للعلاج وطلب من الرئيس عبد الناص أن تقله الباخرة الحرية ف هذه الزيارة فوافق وغادرت الباخرة المصرية السويس إلى اليمن ولكن لم يسمح لها بالدخول ميناء تعز وبقيت خارج الميناء ونفذت المياه العذبة والطعام والسولار.

وعلم أن الإمام أحمد لا ينتوي الذهاب بالباخرة خشية أن يقتل بالسم أو تدبر له مؤامرة تود بحياته وهو على الباخرة وسافر الإمام إلى إيطاليا عادت الباخرة إلى مصر بأمر من الرئيس جمال عبد الناصر بعد أن ساءت حالة البحارة وطاقم السفينة.

واتصل بعد ذلك سفير المملكة اليمنية المتوكلية وطلب مني إبلاغ الرئيس بعد الناصر طلب الإمام في أن يعود بالباخرة من إيطاليا بعد مداواته.واتصل بعد ذلك سفير المملكة اليمنية المتوكلية وطلب مني إبلاغ الرئيس عبد الناصر طلب الإمام أن يعود بالباخرة من إيطاليا بعد مداواته.

ووافق الرئيس عبد الناصر شريطة أن يعود الإمام بالفعل عليها وإعطاء الجمهورية تأكيدا مسبقا بهذا الالتزام.وتعددت البرقيات والمكالمات ولكن لم تستطع مصر الحصول على تأكيد بأن الإمام أحمد سوف يعود على الباخرة.

وعلمنا أن الإمام قد استقل الباخرة سدني وأنه سوف يمر عبر المياه المصرية عن طري قناة السويس في طريقه إلى اليمن.وقد استعد الرئيس عبد الناصر لاستقباله في بور سعيد وقابله على ظهر الباخرة في الصالون الملحق بها ووجد على الباب حراسا مدججي السلاح وشاهري المدافع الرشاشة.

ودخل وحيا الإمام وجلس إلى جواره وقد دخل الحراس إلى الصالون حاملين السلاح أيضا.ومن الملاحظ أن هذه هي المرة الأولى في تاريخ العالم الحديث والقديم أن يتقابل رئيسا دولتين صديقتين في ظل المدافع الرشاشة وطلب مني الرئيس عبد الناصر اختيار هدايا للإمام وزوجته.

وذهب إلى القاهرة وانتقيت الهدايا وعدت إلى كبريت لمقابلة الإمام وبعد الاتصال اللاسلكي سمح لي بالصعود على ظهر الباخرة وقابلني أحد أنجاله وكان يدرس بإيطاليا وجلس معي مدة طويلة حاولت فيها إقناعه بضرورة أن أتشرف بمقابلة الإمام لأنني موفد من قبل الرئيس عبد الناصر.

وأخيرا وبعد طول مفاوضات سمح لي بالمثول أمام جلالة الإمام.ودخلت صالونه في حراسة شديدة بل هي أشد وأقسى من الحراسة عند زيارة الرئيس عبد الناصر ووجدته راقدا على مرتبة على أرض الصالون وحييته وسلمته الهدايا وتقبلها شاكرا.وهبطت من الباخرة وهي تسير في طريقها من السويس.

الاعتراف بالصين الشعبية

وفي يوليو سنة 1965 استدعت وزارة الخارجية المصرية الدكتور هونج شان رئيس البعثة الدبلوماسية لحكومة الصين الوطنية وكان وقتئذ عميدا للسلك السياسي ومن أصدقائي القدماء الذين أعتز بصداقتهم.

وقد أبلغ سعادته بقرار الحكومة المصرية بسحب اعترافها بحكومة الصين الوطنية واعترافها بحكومة الصين الشعبية.وبناء على ذلك أنزل علم الصين الوطنية من فوق مبنى السفارة بالقاهرة وأغلقت أبابها ونزعت اللافتة التي كانت تحمل اسم الصين الوطنية.

وقد استعد السفير وأعضاء البعثة للرحيل نهائيا من مصر.وقد تمثل الاعتراف بالصين الشيوعية في كون مصر جزءا من كيان قومي يمتد في القارتين الآسيوية الأفريقية وهذا الكيان القومي ليس شعارا سياسيا بل حقيقية واقعة كما كان من الطبيعية وقد شاهدت الفترة التالية لمؤتمر بانودنج تعاونا وتضامنا وثيقين بين الحكومات الأفريقية والآسيوية في مجال العلاقات الدولية وامتد هذا التعاون والتضامن إلى الاعتراف بالصين الشعبية فقد كان أقطاب مؤتمر باندونج ثلاثة هم:

شواين لاي ونهرو وجمال عبد الناصر.ولقد كانت ردود الفعل بالنسبة لاعتراف مصر بالصين الشعبية متباينة فقد اعتبرت الدوائر السياسية في الولايات المتحد الأمريكية أن هذا الاعتراف كان ردا قاسيا وأعلن جون فوستردالاس وزير الخارجية الأمريكية أسفه الشديد لهذا الاعتراف من جانب عبد الناصر الذي ساع على قيام فرنسا على قيام فرنسا بتزيد إسرائيل بالسلاح

أما الصحافة العالمية فقد رأيت في الاعتراف بالصين الشعبية هزيمة نكراء للدبلوماسية الغربية كما توقعت أن تتدفق الأسلحة الصينية على مصر في حالة رفضا الولايات المتحدة الأمريكية تسليح مصر أو صدور قرار مجلس الأمن بعد الإخلال بالتوازن في الشرق الأوسط باعتبار أن الصين الشعبية ليست عضوا في الأمم المتحدة، ومن ثم فلا تلتزم بقرارات المنظمة العالمية.

وكان عبد الناصر في أثناء حفل تخريج طلبه من الكلية الحربية في 19 مايو سنة 1956 قد صرح بالشاعر الذي رفعه وظل يردد بعد ذلك:نسالم من يسالمنا ونعادي من يعادنا ويبدو أن هذا الشعار كان تمهيدا لإعلان الاعتراف بالصين الشعبية.

وفي الساعة الثانية عشرة ظهرا من يوم الأحد 22 يوليو سنة 1956 قدم صاحب السعادة شان شيا كانج أوراق اعتماده كأول سفير للصين الشعبية.وكانت البلاد تستعد للاحتفال بأعياد الثورة واستمر الاحتفال بتقديم أوراق الاعتماد زهاء أربعين دقيقة تبودلت فيها كلمات التحية من سفير الصين الشعبية والرئيس المصري.

وكان الرئيس قد طلب مني أن أحدد موعدا للمستر داج همرشلد الأمين العام للأمم المتحدة لكي يقابل الرئيس الساعة الثانية عشرة والنصف في اليوم نفسه أي 22 يوليو 1956.

وأغلب الظن أن الرئيس عبد الناصر قد قصد ذلك متعمدًا لكي يحيط الأمين العام للمنظمة العالمية بأن مصر قد بادرت بالاعتراف بالصين الشعبية بالرغم من أن الصين الشعبية ليست عضوا بها والصين دولة كبرى لا يمكن أن تكون بمعزل عن المنظمة العالمية إلى الأبد والمعروف أن المنظمة لا تعترف إلا بأعضائها ولا تعترف بها إلا أعضائها ويجب أن تضم الصين إلى عضوية المنظمة. وقد ضمت الصين الشعبية فعلا إلى الأمم المتحدة في السبعينيات.

السفير الذي أبكى عبد الناصر

في 28 سبتمبر سنة 1961 وقع الانفصال السوري عن الجمهورية العربية وكانت كارثة شديدة الوقع على الرئيس عبد الناصر لأسباب لا محل للخوض فيها ثم تدهورت العلاقات بين مصر وسوريا ووصلت إلى حد الاتهام بتدبير المؤامرات ثم رجعت العلاقات بين البلدين الشقيقين إلى شيء من الصفاء وأعيدت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

وفي يوم الأحد 16 إبريل سنة 1967 قدم الدكتور سامي الدروبي رحمه الله وتمت مراسم تقديم أوراق الاعتماد ويقضي العرف الدبلوماسي أن يلقى السفير كلمة قصيرة يقدم بعدها أوراق الاعتماد إلى رئي الدولة ووقف الدكتور سامي الدروبي وارتجل الكلمة التالية أمام الرئيس عبد الناصر في صوت متهدج تكاد تغمره العبرات.

سيادة الرئيس

إذا كان يسعدني ويشرفني أن أقف أمامكم مستشرف الرجولة والبطولة فإنه ليحز في نفسي أن يكون وقفتي هذه كوقفة أجنبي كأنني ما كنت في يوم مجيد من أيام الشموخ مواطنا في جمهورية أنت رئيسها إلى أن أستطاع الاستعمار متخالفا مع الرجعية أن يفصم عرى الوحدة الرائدة في صباح كالح من أصباح خريف حزين يقال له 28 أيلول صباح هو في تاريخ أمتنا لطخة عار ستمحي ولكن عزائي عن هذه الوقفة التي تطعن في قلبي يا سيادة الرئيس والتي كان يمكن أن تشعرني بالخزي حتى الموت أنك وأنت تطل على التاريخ فترى سيرته رؤية نبي وتصنعه صنع أبطال قد ارتضيت لي هذه الوقفة خطوة نحو لقاء مثمر بين قوى تقدمية ثورية تصنع أمتنا في طريقها إل وحدة تمتد جذورها عميقة في الأرض فلا انتكاس وتشمخ راسخة كالطود فلا تزعزعها رياح ذلك عزائي يا سيادة الرئيس وذلك شفيعي عندك وشفيعي عند جماهير أمتنا العربية التي لا تعترف بالانفصال إلى جريمة وشفيعي لدى من ندبوني لهذه الوقفة ثوارا شجعانا يقفون في معركة النضال العربي الواحد على خط النار ويؤمنون بلقاء القوى الثورية العربية ولا بديل للوحدة معاذ الله بل خطوة نحوها.

وكان السفير بليغا مؤثرا.. وكان الموقف يحفه جلال ما دونه جلال يثير في النفوس حلو الذكريات ومرها وعظم التجربة الرائدة وما انتهت إليه.وبعد أن ألقى السفير كلمته سلم أوراق اعتماده إلى الرئيس عبد الناصر الذي سلمها إلى وتسربت الدموع إلى مآقي الحاضرين.

وبكي عبد الناصر وكنا جميعا نبكي على صبري والفريق سعد الدين متولي كبير الياوران وأنا. وانعقد لسان عبد الناصر الذرب في مثل هذه المواقف لتتكلم دموعه حسرة وألما ولا أنسى ما حييت أن هذه هي المرة الأولى في تاريخ المراسم في العالم أجمع التي كان رئيس الدولة يبكي وهو يتسلم أوراق اعتماد أحد السفراء.

هدية علي صالح السعدي لراقصة في صحاري سيتي

في أثناء مباحثات الاتحاد الثلاثي بين مصر وسوريا والعراق سنة 1963 كان السيد علي صالح السعدي يسهر كل ليلة في صحاري سيتي يسرف في تناول الخمر ويصل قصر القبة بعد هذا الإسراف قرب الفجر وينام حتى المباحثات الصباحية في الحادية عشرة.وذات يوم قال إنه نوي الزواج وخطب آنسة عراقية.

وطلب مني الرئيس عبد الناصر شراء هدية وتقديمها إليه بهذه المناسبة فضحكت وقلت إن هديتنا ستقدم إلى راقصة في صحاري سيتي وأحسن طريقة نرسل الهدية إلى الملحق العسكري في سفارتنا في بغداد ليقدمها للخطيبة وتكون مفاجأة

فضحك الرئيس وقال:

أعطها له هنا لأنه لو أعطاها للراقصة فهي مصرية على كل حال وزواجه لن يدوم وكانت الهدية طاقم شاي من الفضة في علبة مكسوة بالقطيفة الحمراء. وتحققت نبوءتي فقد علمت أن علي صالح السعدي أخذ الهدية مساء إلى صحاري سيتي وأنا واثق أن هذا الطاقم موجود الآن لدى الفنانة الراقصة المصرية في منزلها

جلالة الملك فيصل المعظم

في الثامن عشر من مارس سنة 1958 وصل صاحب السمو الملكي الأمير فيصل ولي عهد المملكة العربية السعودية إذ ذاك إلى القاهرة في طريقه إلى تونس على رأس وفد بمناسبة إعلان استقلالها للتهنئة يوم 20 مارس 1958.

وشاء سموه أن يتفضل بزيارتي في منزلي ويحبوني بهذه الزيارة السامية التي كان سموه كلما مر بالقاهرة يطوق عنقي بها. وكان السفير السعودي عبد الله الفضل رحمه الله قد اتصل بي لينقل لي الرغبة السامية بالزيارة وطلب مني أن أحدد موعدها.

وقد استكبرت ذلك وأبلغت سعادة السفير أن سمو الأمير هو الذي يتفضل بالزيارة وما علينا إلا الامتثال. ولكن أبت الإرادة الملكية العالية إلا أن أحدد موعد الزيارة مساء يوم 18 مارس 1958 وشرف الدار ومن فيها الأمير الجليل تحف بركابه المهابة والوقار فقد كان رقيقا وإنسانا عظيما.

وكان إلى جواري عند استقبالي للضيف العظيم سمو الأمير متعب بن عبد العزيز وهو إنسان كريم حبيب إلى النفس وأكثر من شقيق ورب أخ لم تلده أم وأذكر أن الرئيس عبد الناصر كان قد أولم مأدبة عشاء في الليلة نفسها تكريما للمسترداج همرشلد الأمين العام للأمم المتحدة وكان من المفروض أن أحضر هذه المأدبة ولكن مرت الساعات وكأنها دقائق في رحاب الأمير الكريم كان رقيق العبارة جميل الإشارة عف اللسان مترفقا بمن يتحدث عطوفا على من يسمع عاليا كالنسر فوق القمة الشماء ولم أستطع أن أقاوم سحر الحديث كان أشبه بخلفاء المسلمين في العصور الأولى للإسلام وقال لي إنه يكره حياة القصور ولا يطبق أن ينزل ضيفا بقصر القبة وطلب مني عند عودته من تونس أن يحجز له جناح في فندق شبرد وأن أنقل للرئيس عبد الناصر رغبة سموه في ذلك وقال ما نصه:

إذا كان فخامة الرئيس عبد الناصر يخاف مني فأنا على استعداد لأن أنزل في قصر القبة أما إذا كان فخامته يثق بي فلماذا تمانع ي أن أنزل بفندق شبرد؟

ثم تحدث جلالته عن السيد عبد الحميد السراح الذي كان وزير الداخلية السوري في أثناء الوحدة بين مصر وسوريا وكان السراج وهو رئيس للمكتب الثاني أي الاستخبارات يقرب إليه صحافيا لبنانيا اعتاد أن يتطاول على سمو الأمير فيصل وأن يسف في الهجوم والتشهير مقابل المصاري التي يقوم عبد الحميد السراج بدفعها إليه وكان هذا التطاول والهجوم والتشهير لا خدم القضية العربية، بل يضر بها إضرارا جسيما وقد أبلغت ذلك للرئيس عبد الناصر الذي تحقق من افتراءات الكاتب للأدب والذوق وأمر السراج بطرده فورا.

وقد تناول الحديث حكاية المليوني جنيه التي حولها الملك سعود رحمه الله إلى عبد الحميد السراج للتآمر على الرئيس جمال عبد الناصر.

وأذكر أن سمو الأمير قال:

إن جلالة الملك عرض عليه رئاسة لجنة التحقيق في هذه الحكاية ولن سموه لم يقبل إذ كان الملك سعود ضحية تآمر وقع فيه شخصيا عندما حاول هذا المبلغ إلى المغامرين الأفاقين.

ونقلت هذا الحديث إلى الرئيس عبد الناصر وبخاصة أن نبأ الزيارة التي تفضل بها سمو الأمير كان معروفا لجهات الأمن وأجهزة الرقابة على اختلافها ولقد نقلت للرئيس عبد الناصر مشاعر سمو الأمير فيصل الصادقة نحوه وعميق تقديره له وقد أخبر الرئيس عبد الناصر سمو الأمير المعظم عند مقابلتهما بكل ما ذكرته فاكتفى سموه بقوله إنه يعرفني منذ مدة طويلة.

وفي صباح الثلاثاء 19 مارس سنة 1958 غادر جلالته القاهرة وكان في وداع سموه السيد عبد اللطيف البغدادي نائب رئيس الجمهورية نائبا عن الرئيس عبد الناصر ثم قفل سموه عائدا إلى القاهرة في طريقه إلى بلاده بعد أن قام بواجب التهنئة يوم السبت 23 مارس وبناء على رغبته الكريمة نزل بفندق شبرد لمدة ثلاثة أيام ثم غادر القاهرة مودعا رسميا وكان في شرف وداعه المشير عبد الحكيم عامر نائبا عن الرئيس عبد الناصر.

قصر الملك فيصل بمصر الجديدة

في اليوم الذي كان محددا لأن يحلف وزير الصحة الدكتور عبده سلام اليمين الدستورية بمناسبة تعيينه وزيرا وكانت الساعة السادسة مساء دخل الرئيس عبد الناصر إلى مكتبه بقصر القبة وكنت وراءه فنظر إلي قائلا:

صاحبك بدأ يتآمر ضدي ولم أنكر هذا التآمر بل أيدت حق الملك فيصل في رد العدوان بعدوان مثله أخذا بقوله تعالى: العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص.

ولكني كنت على يقين أن الملك فيصل لا يعمد إلى أساليب الغدر أو الخيانة لأن طبيعته السمحة تأبى عليه ذلك. وقلت ذلك للرئيس ..فقال الرئيس:هل ابتدأت أنا بالعدوان؟فقلت:

نعم فقد بدأت بالهجوم الضاري على مقام ملك عربي كريم لم يسيء إلى مصر أو رئيسها ولا أدل على ذلك من أن الحكومة المصرية استولت على أرض له وأقامت عليها بناء على عقد مع إحدى الشركات الأجنبية (فندق شيراتون) عدوانا على حق جلالته ولكن جلالته لم يتكلم للآن

وقال الرئيس:أنت متحمس لصديقك وأنا أعلم مقدار المودة بينكما فقلت: أنها مودة ترجع إلى عهد طويل فلقد شرفني الملك فيصل أن أكون صديقا له، وآنست في الملك فيصل جميل المزايا وحول الشمائل فأحببته. فقال الرئيس:أنا مدرك لهذا ولكني لم أعتد أبدا على الملك.فقلت:

يا سيدي إن الحوادث تقول غير ذلك فقد قامت وزارة الداخلية بالاستيلاء على قصر تملكه زوجة جلالة الملك دون حق وأمسكت فيه الملك السابق سعود بعد عزله نكاية في الملك فيصل وماذا يصنع الإنسان عندما يرى عدوانا على زوجة ولا يملك له ردا.

فقال الرئيس: ولكن لا أعلم حكاية ملكية القصر .. لم يذكرها لي شعراوي جمعه.وانتهى الحديث ولكن عبد الناصر كان ساهما يفكر فيما قلت.واستدعيت الدكتور عبده سلاح وحلف اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية بحضوري وحضور الفريق سعد الدين متولي كبير الياوران وانصرفت إلى مكتبي. وبعد أقل من ربع ساعة جاءت الأخبار تحمل وفاة الملك سعود في أثينا بسكتة قلبية مفاجئة فدخلت على الرئيس أنبئه بالخبر.

فقال الرئيس:لقد حلت المشكلة.فقلت أي مشكلةفقال: مشكلة قصر الملك أخبر شعراوي جمعة بألا يدخل أحدا القصر وطلب مني أن أرسل للملك رسالة تحمل اعتذرا رقيقا لجلالته وأن المسألة قد وقعت دون علم من الرئيس عبد الناصر.وأرسلت الرسالة.

اتفاقية جدة وكتاب هيكل

لما رغب الرئيس عبد الناصر في السفر إلى جدة سنة 1965 لتوقيع الاتفاقية التي عرفت باتفاقية جدة، غادر الرئيس الإسكندرية بالطائرة إلى رأس بناس حيث استقل الباخرة الحرية المحروسة سابقا وبرفقته السيدان أنور السادات وذكريا محيي الدين وصحبنا الأستاذ محمد حسنين هيكل وغيره.

ولما وصلنا كان في الاستقبال جلالة الملك فيصل والرسميون وسط إجراءات أمن مشددة وكنا في رمضان ونزلنا قصر الضيافة وكان رئيس بعثة الشرف الأمير سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع.

واتصل بي جلالة الملك تليفونيا وأوصاني بكافة طلبات الرئيس عبد الناصر قائلا إن كل طلباته مستجابة لأني أريد أن يكون في منتهى الراحة وان الترتيب أن يتم الإفطار على المائدة الملكية وتتلوه المباحثات فاقترحت على جلالته أن يؤدي الجميع العمرة بعد الإفطار عسى الله أن يسهل الوصول إلى اتفاق فقال الملك:

كيف نصل إلى نتيجة مرضية ومن بين الوفد محمد حسنين هيكل الذي هاجمني وألف كتابا خاصا سماه الاستعمار لعبته الملك وذكر جلالته اسما آخر لكنه لم يركز عليه.

وبعد مناقشة وافق الملك وكان الترتيب الجديد أن يذهب الرئيس إلى قصر الملك للزيارة ويتم الإفطار في القصر ثم نعود لقصر الضيافة للإحرام ثم أداء العمرة وأبلغت الرئيس ما قاله الملك عن هيكل فاعتذر الرئيس بأنه لم يكن يعلم قصة الكتاب وأنه يرى أن يعود هيكل مع الشخص الآخر إلى القاهرة.

فأبلغت الملك اعتذار الرئيس وقراره فرفض الملك اقتراح الترحيل لأنهما في بلده بل في ضيافته. وانتهت المباحثات وتحدد يوم 23 من أغسطس لتوقيع الاتفاقية وفي أثناء حملي نص الاتفاقية لتوقيعه وصلت من القاهرة برقية تفيد انتقال الزعيم الخالد الذكر والسيرة مصطفى النحاس باشا إلى جوار ربه وما إن تم التوقيع حتى أبلغت الملك والرئيس الخبر فأمر الملك معالي الأخ أحمد عبد الوهاب رئي المراسم الملكية بإرسال برقية عزاء ملكية على أسرة فقيد مصر وإبلاغ السفير السعودي بالقاهرة بالاشتراك في الجنازة نائبا عن جلالة الملك.

كما أمرني الرئيس بإرسال برقية مماثلة وتكليف الدكتور نور الدين طراف الاشتراك في الجنازة نائبا عنه.ولم أشهد تفاصيل الوداع الأخير من شعب مصر لزعيمه ولكنني سمعت عنه الكثير.وكان من نتيجة هذا الوداع الشعبي اعتقال عدد من الأشخاص لمدة زادت على عامين دون مساءلة قضائية أو محاكمة.

رحم الله الأستاذ علي قشاشة السكرتير الخاص للمرحوم النحاس باشا الذي توفي في السجن بعد اعتقاله يوم تشيع الجنازة.

الملك فيصل يحذر الرئيس السادات

في فبراير 1971 التمست من السيد الرئيس أنور السادات الإذن لي بالحج فوافق سيادته وطلب إبلاغ جلالة الملك فيصل بضرورة حضوره في زيارة لمصر

وعندما تشرفت بمقابلة جلالته أبلغته رغبة السيد الرئيس فوافق ثم طلب مني إبلاغ الرئيس ما يتردد عن قيام بعض قوى مضادة بتدبير حركة ضد الرئيس وقال:

قل لي خللي بالك من علي صبري وشعراوي جمعة وسامي شرف ومحمد فوزي وضياء الدين داود ولبيب شقير وعبد المحسن أبو النور ومحمد فائق.ولما عدت خشيت إبلاغ السيد الرئيس حيث كانت مقابلتي الأولى في مكتبه بقصر عابدين وغرفة المكتب بها جهاز تسجيل. وكانت أمانة الرسالة الإبلاغ في أول دقيقة أرى فيها الرئيس فأبلغته همسا غير مسموع فضحك وقال: طيب حنشوف.

من أساليب التجسس في الاتحاد السوفيتي

في آخر زيارة قام بها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لموسكو أقام في فيلا على ربوة تحيط بها حدائق الكريز وفواكه أخرى رغبة في أن يتمتع بالهدوء بدلا من النزول في الكرملين.

وبينما كنت أسير في الحديقة وأقطف بعض ثمار الكريز التقيت بالرئيس وفي أثناء حديثنا أخذت أبدي معارضة شديدة لسياسة الاتحاد السوفيتي وقادته فقال لي الرئيس.كل اللي بتقوله بيتسجل. فعجبت وأبديت أنه غير معقول في خلال تام. أنت تركت البالطو بتاعك خارج غرفة نومك.فلما أجبت بالإيجاب قال:

طيب شوف الزراير وستجد أن أحدها قد تغير وفي داخله ميكروفون وكل كلامك قد سجل الآن وبعد كده أبقى خد البالطو معك غرفة النوم.وفوجئت بأن الزرار قد تغير .. فأخذت أشكر الاتحاد السوفيتي وساسته.

أمير من أسرة محمد علي يطلب أي عمل

ذات يوم اتصل بي أحد أمراء أسرة محمد علي وأبلغني سوء حالته المالية حيث إن المرتب المخصص له شهريا لا يكفيه لأيام قليلة وأنه يتقن عددا من اللغات ويستطيع أداء أي عمل يسند إليه مهما كان هذا العمل ليستطيع بما يتقاضاه من مرتب بعض الموازنة في مصروفه وأنه لا يستطيع إيجاد هذا العمل إلا بموافقة الحكومة وأنه عجز نهائيا في هذا المجال عن الحصول على أي عمل

وطلب إبلاغ الرئيس جمال عبد الناصر رجاءه.فأبلغت الرئيس الذي قال إن هناك عملا يستطيع أداءه دون إذن من الحكومة فلما استفسرته قال: ما يشوف له أي شغله يا أخي.

هل كان الرئيس عبد الناصر شيوعيا

يوم 20/ 7/ 1970 وصلني خطاب من وزير الخارجية بالنيابة السيد محمد فائق يفيد أن وفدا من كوريا الجنوبية سيزور عددا من الدول العربية وسيبدأ بالمملكة الأردنية الهاشيمة ثم المملكة العربية السعودية ثم الجمهورية العربية المتحدة جمهورية مصر العربية.

وسيصل القاهرة يوم 28 يوليو 1970 حيث يقضي يومين يغادرها بعدها إلى ليبيا ثم على دول أخرى فرفعت مذكرة إلى الرئيس جمال عبد الناصر مقترحا أن يستقبل الوفد أحد الوزراء وأن يقيم وزير الخارجية لهم مأدبة عشاء وأن يأذن الرئيس بتحديد موعد لمقابلة الوفد.

واستندت في لمذكرة إلى سابقة مماثلة مع وفد من كويا الجنوبية زار القاهرة عام 1969. وفوجئت يوم 23 يوليو بأن معظمهم سكرتارية الرئيس يسألونني عن مسألة كوريا فاندهشت وقلت إن المسألة في العرض على الرئيس.

ثم اتصل بي السيد سامي شرف يسألني عما تم في خطاب وزير الخارجية بالنيابة عن وفد كوريا الجنوبية . فأبلغته أن مذكرة في هذا الخصوص في العرض على الرئيس وأنني أرسلت صورة منها للسيد حسن التهامي وزير شئون رياسة الجمهورية.

وفي الثالثة صباح 24 يوليو أيقظني السيد محمود فهيم السكرتير الخاص المساعد للرئيس جمال ليقترح على أن أبعث برقية إلى سفارتنا في جدة لإلغاء قدوم الوفد للقاهرة فضحكت ساخرا وقلت له:

خللي هذا الاقتراح لك. هل هذه تعليمات الرئيس فقال إنه مجرد اقتراح شخصي بدل حدوث أزمة.فضحكت ثانية وقلت له اعرض مذكرتي على السيد الرئيس وأحب أن تلاحظ أنني أختتمتها بعبارة في انتظار ما يأمر به الرئيس.

وأردت إبعاد التليفون عن غرفة النوم منعا لإقلاق آخر.وفي أثناء نقلي التليفون دق الجرس وإذا بالسيد حسن التهامي يسألني إيه مسألة كوريا.فأبلغته بأني أرسلت صورة من مذكرتي للرئيس على مكتب فطلب مني مقابلته في مكتبه في التاسعة صباحا

فلما قابلته وشرحت له الموقف قال:

إن سامي شرف ومحمد فائق وعبد المجيد فريد اتخذوا مني ومنك مخلب قط فاستوضحته فقال:

إنهم قالوا للرئيس أنني وأنت دبرنا أن نضع الرئيس أمام الأمر الواقع باعتبارنا تابعين للأمريكان وأن سفير كوريا الشمالية كان بالأمس يقابل عبد المجيد فريد بمكتبه.

فقلت للسيد حسن التهامي أنا لا علاقة لي بكوريا الشمالية أو كوريا الجنوبية ولا بالأمريكان ولكن ما دام الرئيس اعتقد هذا فأنا مستقيل ولن أباشر عملي سأبقى بمنزلي.وغادرت القصر.

وفي مساء 29 يولي وصل فجأة الرئيس معمر القذافي وتوجه رأسا إلى قصر القبة مع الرئيس جمال وأبلغني أحد رجال الياوران وجود الرئيس بالقصر وستقام مأدبة عشاء ولابد من حضورك فاعتذرت.

وفي الثالثة صباحا اتصل بي السيد محمود فهيم وأبلغني أن أقابل الرئيس عبد الناصر في الثامنة صباحا بالقصر ومعي الأمناء الموجودين بالإجازة بالإسكندرية وكان الأمناء العاملون موزعين واحد مع الرئيس رشيد كرامي وآخر مع بعثة روسي والثالث كان في إجازة في استانبول.

وذهب للقصر قبل الموعد وسألت عن الرئيس القذافي وعلمت أنه تناول الإفطار وفي انتظار حضور الرئيس جمال ووصل الرئيس فدخلت معه وقد جرت العادة ألا يدخل عه مكتبه سواي عند حضوره وقلت له: صباح الخير فرد صباح النور.. الرئيس القذافي جاهز.. فقلت له: هو موجود في مصر.. فقال:

أنت كبير الأمناء ومش عارف.. آه افتكرت آه أنت كنت زعلان ومستقيل.معلهش دول ولاد.. ونطق لفظا لا أستطيع كتابته وتابع قائلا.أنا عرفت الحقيقة وما تزعلش.فقلت له: سيادتك شيوعي؟فقال: أيوه شيوعي..شيوعي.

فقلت له: ما افتكرش سيادتك ممكن تكون شيوعي.. إنما يمكن تكون شيوعي بالقراءة.فقال: يعني أنت أمريكاني؟ فقلت:لا أنا مصري مسلم ولا علاقة لي بالأمريكان ولا الشيوعيين بس كان لازم سيادتك تفهم إني بعد المدة الطويلة التي عملت فيها معك أو بالأصح الوحيد الذي ظل معك من أول رئاستك للآن لا يمكن وقوعي في هذاالخطأ فقال: خلاص تطلع للرئيس القذافي واعتر الموضوع منتهيا.

وسافر الرئيس القذافي ووصل فجأة الملك حسين عاهل المملكة الأردنية الهاشمية وسافر الملك والرئيس بالقطار الخاص إلى الإسكندرية حيث نزل الملك في قصر رأس التين وأقيمت مأدبة عشاء كان بين المدعوين فيها وزير الإعلام الأستاذ محمد حسنين هيكل.

وتقابل هيكل معي ومع السيد حسن التهامي والفريق أول سعد الدين متولي كبير الياوران وحياني هيكل ثم قبلني قائلا:هذه قبلة إعجاب وتقدير.ولما سألته عن المناسبة قال:لقد كانت استقالتك مشرفة وعرف عبد الناصر أن دسيسة رفعت إليه للوقيعة بينه وبينك هو مش كلمك دوغري.

فقلت له: النهارده الصبح فقط فقال: لازم انشغل.وقبل العشاء استدعى الرئيس السيد التهامي لمكتبه بالقصر وسمعت من وراء الباب المغلق أصواتا عالية.ولما خرج السيد حسن استفسرته فقال: خير وترك القصر. وسيأتي وقت قريب يروي فيه السيد حسن التهامي في كتاب بصدر عنه ما دار في هذه المقابلة.

مؤتمر القمة سنة 1970 ووفاة عبد الناصر

أذكر أن الجلسة الختامية للمؤتمر كانت الاجتماع الوحيد للملوك والرؤساء وكانت كافة الاتصالات ثنائية حتى يوم 27 سبتمبر 1970 حيث عقد هذا الاجتماع العام اليتيم في فندق هيلتون.

وكان الرئيس القذافي قد اشترط لمقابلة الملك حسين أن ينشر الأستاذ هيكل في الأهرام وفي صدرها بالخط الأحمر أنه قبل هذا اللقاء بناء على إلحاح الرئيس جمال عليه ولم ينشر الخبر واستاء الرئيس القذافي ووصل إلى غرفته في الفندق حاملا مسدسا ثم فض البقاء في الفندق (مقر الملوك والرؤساء) لأن به خمور مما يتنافى مع الإسلام وأصر على النزول في قصر القبة فكان الوحيد هناك ثم حضر من القصر وصعد إلى غرفته في الفندق ورفض النزول للاجتماع لأن هيكل لم ينشر الخبر الذي طلبه.

فقلت له:

يا سيادة الرئيس عندنا اثنين هيكل ..ووزير الإعلام ثم رئيس تحرير الأهرام وسيادتك زعلان من أي منهما إحنا عندنا الصحافة حرة وتستطيع الذهاب إلى رئيس تحرير الأهرام وتوجه له اللوم أما هيكل وزير الإعلام فلا يستطيع إرغام الأهرام على النشر.فأصر على موقفه.

فأبلغت الرئيس جمال فتضايق وكلفني العودة إلى الرئيس القذافي وعدت أبلغه أن الرئيس في انتظاره فأصر على الرفض.وأبلغت الرئيس فاصفر وجهه وأخرج منديلا ومسح عرقه وطلب مني العودة وعدم الحضور بدون الرئيس القذافي فذهبت.

وقلت للرئيس القذافي إن الملوك والرؤساء في انتظارك والرئيس جمال يرجو النزول للاجتماع فوافق. وحضر ووضع رجليه على منضدة الاجتماع وصوره المصرون لكن الرئيس جمال أمر بإتلاف الأفلام.

ومما يذكر أن السيد ياسر عرفات دخل قاعة الاجتماع حاملا مترليوز ولما اعترضت على ذلك رفض اعتراضي.ووصل جلالة الملك حسين مرتديا بدلة عسكرية وحاملا مسدسا.ولما أبلغت الرئيس جمال أن حمل أي سلاح في مثل هذه المناسبة مخالف لمبادئ المراسم قال:

دعهم فكلا منهم لا يعرف كيف يستخدم السلاح.وانتهى الاجتماع بعد التوقيع على الاتفاق وتوجه الرئيس القذافي إلى قصر القبة وصعد الملوك والرؤساء إلى أجنحتهم في هيلتون. ولم يمض نصف الساعة حتى وصلت إشارة عاجلة من قصر القبة بأن الرئيس القذافي في طريقه إلى المطار للسفير الأمر الذي اضطر الرئيس جمال إلى سرعة النزول من جناحه حتى إن سائق سيارته قادها إلى المطار حافي القدمين.

وودعه الرئيس وعاد إلى منزله في الحادية عشرة مساء.وكانت الساعة العاشرة من صباح 28 سبتمبر 1970 موعد توديع الرئيس اللبناني سليمان فرنجية الذي كان قد حضر بعد بدء المباحثات عندما تسلم سلطاته الدستورية ومن بعد ذلك كان توديع جلالة الملك فيصل رحمه الله في طريقه إلى جنيف للعلاج.

وتتابع توديع الباقين وكان الوداع لصاحب السمو الأمير صباح السالم الصباح أمير الكويت. وكان الإجهاد ظاهرا على الرئيس جمال بل إنه كاد يقع على الأرض وهو في طريقه مع سمو الأمير إلى الطائرة لولا أن سنده الفريق أول سعد الدين متولي كبير الياوران.وفي الخامسة مساء انتقل إلى جوار الله. رحمة الله عليه. وانطوت صفحات من تاريخ مصر.

كارثة 5 يونيو 1967

ذهبت إلى ساوثهمبتون في أواخر مايو سنة 1967 للعلاج وكان برنامج العلاج يبدأ يوم 5 يونيو لكن الطبيب المختص دكتور جونسون أخبرني أن الحرب بدأت بين مصر وإسرائيل صباح ذلك اليوم فتركت المستشفى فورا واتصلت بمكتب شركة مصر للطيران لعودتي إلى القاهرة فعلمت أن الطيران إلى القاهرة موقوف بوجه عام.

ووجدت أماكن لي ولأسرتي على أحدى طائرات الخطوط الجوية البريطانية متجهة إلى طرابلس التي وصلتها يوم 8 يونيو وغادرتها إثر ذلك إلى بني غازي وكان التجول فيها ممنوعا في الليل.

وحاولت الاتصال بالسفارة المصرية ثم خرجت إلى ساحة المطار فوجدت خمس سيارات من سيارات رئاسة الجمهورية العربية المتحدة مصر وعفني سائقوها وأبلغوني أنهم نقلوا السيد طار يحيي رئس وزراء العراق ووفدا كان يرافقه من القاهرة إلى بني غازي ليعود إلى بغداد.

كما وجدت خمسة من ضباط الشرطة المصريين كانوا في بعثة في الولايات المتحدة وعادوا إلى بني غازي وكذلك الولاء طبيب منجي جعيصة قائد الخدمات الطبية بالجيش المصري سابقا.

فأخذت السيارات وصحبني الجميع معنا اللواء علي أبو الغيط مدير مكتب شركة مصر للطيران إلى فندق بني غازي بالاس حيث لقينا من الترحيب والعناية الكثيرة واعتذر صاحب الفندق عن قبول أي أجر لسكن الجميع.

وعلمت حكومة جلالة لملك السنوسي بوصولي فأفدت سيارة لاسلكي وموتسيكلا رافقانا في تنقلاتنا حتى غادرنا الفندق صباح 9 يونيو في طريقنا إلى السلوم بسيارات رئاسة جمهوريتنا.

وعند وصولنا إلى الحد الاشتراكي في السلوم بوجودي فطالبني بحضور اجتماع الوحدة ليحملني رسالة الأعضاء التي تطالب الرئيس بالعدول عن الاستقالة فوعدته بالإبلاغ الرسالة واعتذاري عن حضور الاجتماع بسبب وجود أسرتي وأن الجميع مجهدون ووصلنا مرسى مطروح فجر 10 يونيو واستأنفنا الرحلة حتى القاهرة فوصلناها الخامسة بعد الظهر.

طائرات مغربية جزائرية وإضراب العمال الليبيين عن تموين الطائرات البريطانية

وقد شاهدنا في مطار بني غازي طائرات عسكرية بعث با الملك الحسن الثاني ملك المغرب وأخرى بعث بها العقيد هواي بومدين رئيس جمهورية الجزائر وهي في طريقها إلى مصر وكنا نصفق لها ويشاكنا الأخوة الليبيون بعد أن يقوم عمال المطار بتزويد الطائرات بحاجتها.

وابتداء من يوم 8 يونيو امتنع كل من في مطار بني غازي عن تقديم أي خدمة من الخدمات لطائرات الخطوط الجوية البريطانية حيث كان قد أذيع في القاهرة أن سلاح الجو البريطاني قد شارك إسرائيل.

كوسيجين في القاهرة

وصباح11 يونيو قصدت مكتبي منتظرا حضور الرئيس جمال عبد عدوله عن التنازل ووصل معه مستر كوسيجين رئيس وزراء اتحاد الجمهورية الاشتراكية السوفيتية وسألني الرئيس: هل كنت في مصر وقت تنازلي. فقلت له: كل شيء يسير بإذن الله والمهم أن تحافظ على صحتك.

عبد الحكيم عامر حاول الانتحار في بيت الرئيس عبد الناصر

لم تكشف أمر مجموعة الضباط التي أحاطت بالمرحوم المشير عبد الحكيم عامر وهيأت له ضرورة العودة إلى قيادة الجيش الذي كانت غالبية ضباطه تكن للمشير كثيرا من الحب والتقدير ورأي المرحوم الرئيس عبد الناصر وضع حد لذلك قرر أن يجمع الباقون في العمل مع أعضا مجلس قيادة الثورة لمحاكمة المشير عامر واجتمعوا في بيت عبد الناصر واستدعي المشير عامر للمثول أمامهم كهيئة محاكمة لم يكن بينها الرئيس جمال.

وصدرت الأوامر بتفتيش منزل المشير عامل وسيارته التي حضر بها إلى منزل الرئيس جمال.وقام حرس الرئيس بتفتيش السيارة حيث عثر فيها على قنابل يدوية ومدافع رشاشة كما قامت فرقة خاصة بتفتيش المنزل وضبط الأسلحة المخزنة فيه وفي أثناء محاكمته خرج المرحوم المشير عبد الحكيم عامر من غرفة التحقيق وطلب كوب ماء وأفرغ فيه علبة دواء منوكم هوال (دوريدون) وشرب الكوب وتهامس الحاضرون وصدرت التعليمات إلى المرحوم الدكتور أحمد ثروت الطبيب الخاص للرئيس عبد الناصر بإنقاذ المشير عامر من الانتحار وفعلا قام الدكتور ثروت بغسل المعدة والأمعاء للمشير دون معارضة منه.

وبعد المحاكمة وضبط أسلحة المنزل والسيارة قرر مجلس المحاكم أن يقيم المشير عامر في قصر الطاهرة.. ثم كان بعد ذلك ما هو معروف.

سفر عبد الناصر للسودان

وكان مقررا سفر الرئيس عبد الناصر إلى السودان في اليوم التالي وأصدر تعليماته إلي بألا يكون أي فرد في وداعه بالمطار.

وفي المطار وقبل وصول الرئيس فوجئت بالسيد فريد طولان الذي كان محافظا لإحدى المحافظات ثم نقل إلى ديوان الوزارة ومن قبل ذلك كله كان وكيلا لإدارة المخابرات قد وصل إلى المطار فتوجهت إليه طالبا إليه مغادرة المطار فرفض

ودار في ذهني أنه حضر ليذكر الرئيس به فقد يعيده إلى المخابرات مديرا لها بعد عز صلاح نصر. وأبديت الأمر كله للمرحوم اللواء محمد الليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري فأيد وجهة نري وتوجه إليه وكرر طلب مغادرته المطار.

وفي أثناء الحديث وصل السيدان محمد الليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري فأيد وجهة نظري وتوجه إليه وكرر طلب مغادرته المطار.وفي أثناء الحديث وصل السيدان عباس رضوان وعبد المحسن أبو النور فأبلغتهما تعليمات الرئيس بخلو المطار من أي مودع.

وأثناء ذلك وصل الرئيس جمال بمفرده وبادرني قائلا: أنت ما بتنفذش التعليمات ليه؟ فقلت: لقد حاولت لكنهم لم يستجيوا.

ولم يصافحهم وتوجه إلى الطائرة ويهمني في هذه السطور أن أشيد بموقف الرجولة والشهامة والأمانة الذي قام به اليد عباس رضوان بين الصديقين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر فبرغم أنه عمل مع عبد الحكيم وحاز ثقته إلا أنه حول جاهدا تلطيف حدة الموقف ولكن الظروف كانت أقوى من كل المحاولات.

الناس معادن

وقد كانت تربطني بالمشير عامر وشائج محبة وصداقة منذ عرفته مديرا لمكتب الرئيس محمد نجيب في بداية الانقلاب ولمست فيه الوفاء والخلق الطيب.وربما كان على حالي كل من عرف عبد الحكيم عامر عن قرب.وكان منزله بجوار منزلي وبينما كنت عائدا من الإسكندرية ذات يوم وجدت سيارة بوليس نجدة أمام منزله.

وما عن دخلت المنزل حتى وجدت الأميرة سعاد الصباح حرم الأمير عبد الله المبارك الصباح تبلغني تليفونيا وفاة عبد الحكيم عامر.وبعد ذلك ذهبت إلى مجلس الوزراء حيث يعقد إحدى جلساته وكنت شديد الحزن ودخل الرئيس جمال والدمع يكاد يتساقط من عينيه.

وتقدم أحدى سكرتارية الرئيس واحتضنني وهو يضحك سخرية ويقول:عقبال إلي عندك فسألته من يقصد فقال: أفهم أنت بقى فقلت له لابد أن تكون قد حدثت لك لوثة اللي عندي إما زوجتي وبناتي أو الأمناء من مرؤوسي فمن مهم تود قتله أو موته أنت شامتان في عبد الحكيم الذي فعل لك الكثير وآخره توصية الرئيس بإعادتك إلى السكرتارية بعد أن نحالك، وعدت لتشمت في موته.

ثقي أنني سأبلغ الرئيس الذي أثق بأنه أكثر الناس حزنا على وفاة صديقه وزميله وصهره. وفي هذه الأمسية شاهدة الكثيرين الذين كانوا يتسابقون في إحضار علبة السجاير من سيارة عبد الحكيم إليه يسارعون إلى التشنيع عليه ويرون القصص حتى إن أحدهم طلب إلى المشرف على جراج الرئاسة مصادرة سيارة خاصة بالأخ مصطفى عامر شقيق عبد الحكيم عامر (بوبك ريفيير جديدة) بحجة أنها دخلت مصر بطريق غير شرعي وبالتهريب.

وسألته هل أمر الرئيس بالمصادرة ؟ فنفي. فقلت له: إذن أنت تتطوع هل نسيت أفضال عبد الحكيم عليكم وكم كان حزن زميلي الفريق أول سعد الدين متولي كبير الياروران شديدا ونحن نشهد هذا الشريط السينمائي من هيئة المنتفعين في الرئاسة ضد عبد الحكيم وكنا أقل الناس استفادة وأكثر المدافعين. أنها محنة أخلاق وعدم وفاء... والناس معادن.

وفاة عبد الناصر وتشيع الجنازة

ودع الرئيس جمال عبد الناصر الرئيس السوداني جعفر محمد نميري صباح 28 سبتمبر 1970 بعد أسبوع من العمل والجهد المرهق في مؤتمر القمة كما أوضحت وعدت إلى قصر القبة غاية في الإرهاق وتناولت غدائي وركبت السيارة حوالي الساعة الثانية النصف وطلبت الذهاب إلى المطار كما أذكر ولأول مرة في حياتي نمت في السيارة في أثناء سيرها.

وفوجئت بالسائق يوقظني أمام منزلي فنبهته إلى أنني طلبت الذهاب إلى المطار فقال: بل طلبت المنزل. ونظرت إلى ساعتي فوجدتها الثالثة ومعنى هذا أن توديع صاحب السمو الأمير صباح السالم الصباح أمير الكويت قد حل ومنزلي بجوار كوبري الجامعة ولا فائدة فصعدت إلى المنزل وخلعت الجاكتة ونمت بملابسي الباقية.وصحوت في الساعة السادسة وذهبت أزور كريمتي.

وفي السابعة والنصف اتصل بي الفريق أول سعد الدين متولي وأخبرني باجتماع مجلس الوزراء واللجنة التنفيذية العليا وبالتوجيه إلى الرئاسة فورا. فذهب إلى منزلي وارتديت ملابسي وقصدت قصر القبة فولت في الثامنة والنصف.

وسألت الحرس: هل الرئيس وصل؟ وقالوا: وصل لكنني لم أجد أي سيارة من سيارات احرس في فناء القصر. وصعدت إلى مكتبي وكل شيء عادي.ووجدت في الصالون السادة كمال رفعت والدكتور صفي الدين أبو العز وزير الشباب والصديق حميد عاشور وحييت الجميع وقلت للدكتور أبو العز أهلا بوزيرنا فأنا شاب وأنت وزير الشباب.

واندهش الصديق حمدي عاشور وأدرك أنني لا أعرف الخبر الكبير فطلب مني تناول قرص مهدئ قدمه إلى قائلا طيب خذ القرص ده ولما استفسرته عن السبب قال: البقية في حياتك الرئيس مات.ووجدتني أتساءل بصوت عالي.. مين قتله؟

فقال: مات بالسكتة القلبية... وأعطاني القصر ووجدت الدموع تنهمر من عيني ووجهت إلى مكتبي فوجت وجيه أباظة محافظ القاهرة وشعراوي جمعة يبكيان وتوافد الوزراء وأعضاء اللجنة وطلب منا إعداد مقترحات تشييع الجنازة.

لجنة إجراءات تشيع الجنازة

تكونت من الفريق أول محمد فوزي وزير الحربية والفريق أول سعد الدين متولي كبير اليوران ومني لترتيب تشيع الجنازة واشترك معنا عدد من ضباط الجيش الذين سمعت منهم العجب العجاب من الاقتراحات.

فريق يقترح بدء الجنازة من مقر مجلس قيادة الثورة القديمة في منشية البكري وبخاصة أنه قريب من المدفن ولم نوافق عل الاقتراح وآخر يرى بدءها من الجامع الأزهر حيث ألقى الفقيد خطابه في أثناء العدوان الثلاثي سنة 1956 وقلنا إن في ذلك استحالة لبعد الأزهر عن المدفن. وفريق آخر قال: من مجلس قيادة الثورة بالجزيرة.

وكنت والفريق سعد الدين نعارض ذلك حيث لا يمكن ضبط شعور الجماهير في جنازة رسمية شعبية. واقترحت ضرورة فصل الجنازة الرسمية عن الشعب بمعنى وصول جميع وفود المعزيين الرسمين إلى قصر القبة بطريق كورنيش النيل حتى الأميرية ثم إلى القبة.

وأن تبدأ الجنازة الرسمية من داخل القصر حتى الباب الرئيسي والمسافة تبلغ حوالي ثالثة كيلومترات ويكفي بذلك رسميا ثم تترك الجنازة الشعبية فيما بعد باب القصر في شارع مصر والسودان ثم تتجه شمالا في شارع رمسيس حتى المدفن.ولم يوافق الفريق أول محمد فوزي ولا الصديق حمدي عاشور الذي انضم إلينا في أثناء اجتماع اللجنة بمكتب وزير الحربية.

وانتصر الرأي القائل ببدء الجنازة من الجزيرة فحذرتهم بأنها لن تكون لائقة ولم يؤخذ بتحذيري. وقد كان ما كان من فوضى حتى إن بعض الأشخاص خطفوا الأوسمة من على صدر الرئيس بوكاسا رئيس أفريقا الوسطى والصليبي الذهبي الكبير لرئيس جمهورية قبرص المطران مكاريوس. وغير ذلك.

الملك الشجاع

وفوجئت أمام فندق هيلتون بمتظاهرين يهتفون ضد الملك حسين عاهل المملكة الأردنية الهاشيمة فصعدت إلى جناحه ورجوت جلالته عدم النزول بعد أن اختلط الحابل بالنابل.

لكن الملك الشجاع المؤمن رفض فكرتي وصمم على المشاركة في الجنازة وقال: لقد حضرت للمشاركة في تشييع الجنازة ولابد من المشاركة وغادرة الجناح وبرفقة جلالته ضابطان من الحرس الجمهوري المصري وسار في اتجاه الجنازة وسط خضم بشري تسرى بين جموعه هتافات بأن قاتل عبد الناصر هو حسين

عبد الناصر الإنسان

لدي الكثير عن عبد الناصر الإنسان فقد كان ذا قلب كبير يقدم للفقير والمحروم كل ما يستطيع من نفوذ ليخفف أزمة أو يزيل حرمانا. وقد مر فيما سلف من الذكريات بعض هذه اللمسات.

ونشرت أخبار اليوم يوم 10/ 10/ 1970 حديثا لي عن بعض الذكريات خلال 18 عاما مع الرئيس الراحل وشاركتها الأهرام بحديث آخر.

ونشرت الجمهورية يوم 29 سبتمبر 1971 حديثا ثالثا:

كما نشرت القوات المسلحة يوم 28 سبتمبر 1972 لمحات لي من حياة الزعيم الراحل. ويهمني أن أسجل هذه الأحاديث في نهاية هذه الذكريات.

جمال يتحدت عن عمال كوم امبو

زار جمال عبد الناصر مدينة كوم أمبو وكان من لفت نظره ما يلي: رأيت العمال في فترة الغداء كان العامل يأكل رغيف عيش شمسي وبصل رأيتهم يأكلون بهذا الشكل هل هذه حياة نرضى بها وهل هذه حياة يقبل أحد أن يعيش فيها.

الاشتراكية واحدة هي العلمية

في أحد الاجتماعات السياسية ثار جدل طويل حول تفسير اشتراكية عبد الناصر وتطوع أستاذ جامعي ليدلل على أن ما يجري في بلادنا شيء غريب وجديد فريد نحن الذين نحدده ونضع له المقاييس التي ترضينا ثم قال إنني أسميها الاشتراكية العربية وتصدي له جمال عبد الناصر يقول:

ليست هناك اشتراكية فارسية وإنما هناك اشتراكية واحدة هي الاشتراكية العلمية.وبعد ذلك تجري تطبيقات مختلفة لهذه الاشتراكية حسب ظروف كل بدل وطاقاته وإمكانياته.وفي سنة 1962 صدر الميثاق وحرص عبد الناصر على أن تتضمن نصوصه أن الاشتراكية العلمية هي الصيغة الملائمة لإيجاد المنهج الصحيح للتقدم.

وكان عبد الناصر في غالبية خطبة يلح على أن الثورة الاشتراكية في حاجة إلى مزيد من الثورية الاشتراكية.

رأي عبد الناصر في السياسيين القدامى

كانت حصيلة لقاءات جمال عبد الناصر إثر الانقلاب سنة 1952 مع السياسيين القدامى تتلخص في رأيه كما قال:

ذهبنا نلتمس الرأي من ذوي الرأي والخبرة من أصحابها ومن سوء الحظ لم نعثر على شيء كثير. كل رجل قابلناه لم يكن يهدف إلا قتل رجل آخر وكل فكرة سمعناها لم تكن تهدف إلى هدم فكرة أخرى.

ولو أن أحدا سألني في تلك الأيام ما هو أعز أمانيك لقلت له على الفور أن اسمع مصريا يقول كلمة إنصاف في حق مصري آخر. أن أحس أن مصريا قد فتح قلبه للصفح والغفران والحب لإخوانه المصريين.

كانت كلمة أنا على كل لسان كانت هي الحل لكل مشكلة وهي الدواء لكل داء وكثيرا ما كنت أقابل كبراء أو هكذا تسميهم الصحف من كل الألوان والاتجاهات وكنت أسأل الواحد منهم في مشكلة التمس عنده حلها ولم أكن أسمع إلا أنا.

مشاكل الاقتصاد هو وحده يفهمها أما الباقون جميعا فهم في العلم بها أطفال يحبون مشاكل السياسية وهو وحده الخبير بها أما الباقون جميعا فما زالوا في (ألف باء) لم يتقدموا بعدها حرفا واحدا.

وكنت أقابل المرحوم من هؤلاء ثم أعود إلى زملائي فأقول لهم في حسرة: لا فائدة هذا رجل لو سألناه عن مشكلة صيد السمك في جزء هاواي لما وجدنا عنده إلى كلمة أنا.

في الجزائر

تفضل الرئيس الجزائري هواري بومدين فوجه لي وزوجتي دعوة شخصية لزيارة الجزائر ووصلت يوم 8 مايو سنة 1967 إلى الجزائر وأنا فخامة الرئيس مدير المراسم بالقصر الجمهوري للحفاوة بي.وأقام فخامته مأدبة عشاء تكريما لي حضرها الوزراء ورجال السلك الدبلوماسي المعتمدون لدى جمهورية الجزائر الديمقراطية الشعبية وعقيلاتهم.

وبدأ العشاء بأطباق شوربة وسمك وما إن أخذنا بعض ملاعق الشوربة وقليلا من السمك حتى فوجئت من يدعوننا ويقول اتفضلوا وكنت شديد الجوع فعجبت لكنننا استجبنا للدعة إلى صالة مملوءة بالخراف المشوية وتحتها كميات من الفجل الأحمر والبصل وأكلنا وغسلنا أيدينا ودعينا مرة أخرى إلى غرفة مائدة الشوربة والسمك لنجد على المناضد طيورا مختلفة وأكلنا ما استطعنا..

وقد نلت من شرف تكريم الرئيس هواري بومدين لي وعقيلتي الكثير.وغادرت الجزائر إلى لندن بعد أسبوع حافل بالفضل والكرم.

الرئيس يوكارنو

عرفت الرئيس أحمد سوكارنو عن كثب ودرست شخصيته وعاداته واستطعت أن أجزم بأن كل ما تردد حوله من شائعات وأقاويل لا نصي له من الصحة فقد أشيع عن الرئيس الأندونيسي أنه يعاقرا لخمر وأنه لا يفيق من الراح في الغدو والرواح وهذه أقوال ظاهرها البطلان إذ يمكن لي أن أؤكد أن الرئيس الأندونيسي لم يذق الخمر في حياته بل كان مولعا بعصير التفاح الطازج.

وما أكثر الأقاويل التي تثار حول المشاهير والزعماء وما أقل من أن تكون صادقة ومعبرة عن حقيقة هؤلاء. ولكن الرئيس الأندونيسي رحمه الله كان شغوفا بشيء أخر هو حضور المجتمعات وولوعا بالرقص الشرقي ولعا خاصا.وأذكر أن السفير الأندونيسي عند زيارة الرئيس سوكارنو للقاهرة نقل إلي رغبة الرئيس في أن ينزل بفندق هيلتون النيل. وتم تنفيذ هذه الرغبة.

ولكن السفير لم يكتف بذلك بل أفصح أن هناك رغبة أخرى هو أن يشهد الرئيس رقصا شرقيا من ثلاث راقصات حددهن بالاسم واعتذرت عن تلبية هذه الرغبة إذ لم يجر العرف على ذلك من ناحية كما أن المخصصات المالية لا تسمح لنا بدفع أجور هؤلاء الراقصات لهز البطن أمام الرئيس الأندونيسي وعلى السفارة أن تتولى هذا الأمر وفعلا أقيمت حفلة تكفلت بنفقاتها السفارة واستمرت إلى الصباح وحققت رغبة سوكارنو في رؤية الراقصات والتلذذ بإشباع هوايته الطريفة.

ومما أذكره أن الرئيس سوكارنو كان قادما على جناح طائرة أمريكية خاصة بان أمريكان وصمم على أن يستضيف مضيفات الطائرة الجميلات بالفندق والاستمتاع بالوجه الحسن والخصر النحيل بل إن فخامته جاوز ذلك وأصر على اصطحاب جميلتين تؤنسانه صمن بعثة الشرف المرافقة لفخامته. كان شغوفا بالنساء.

وعلى الجانب الآخر كان الرئيس الأندونسي آية في التواضع وإنكار الذات وأذكر أنه في أثناء مأدبة عشاء أقامها الرئيس عبد الناصر تكريما له ألقى الرئيس المصري كلمة أشاد فيها بالضيف الكبير وأضفى عليه آيات التمجيد ووصفه بأنه بطل استقلال بلاده بل رمز الكفاح في قارتي أفريقيا وآسيا.

ورد الرئيس سوكارنو على كلمة الترحيب ثم قال موجها الخطاب إلى الرئيس عبد الناصر: إنني يا صديقي الشاب آخذ عليك وصفي بالبطولة فلست بطلا إذ أن قوتي أو بطولتي إنما تستمد من قوة شعبي وبطولته.. إنني لم أصنع شيئا لبلادي حتى أستحق أن أكون بطلا فالشعوب هي الخالدة أما الأفراد فإنهم فانون لا محالة.

ثم قال محاولا تغيير جو البطولة الفردية الذي ساد المأدبة:

إنه اجتمع أخيرا باللواء عبد الكريم قاسم في العراق وكان في غاية الحرج سبب سوء العلاقات بين القطرين الشقيقين مصر والعراق.والواقع أن الرئيس الأندونيسي أحمد سوكارونو كان يتمتع بذاكرة خارقة ففي زيارته الأولى للقاهرة كان برفقة سيادته الأستاذ أحمد فؤاد تيمور أمين رئاسة الجمهورية كبير الأمناء الآن ثم حضر الرئيس أكثر من مرة لزيارة القاهرة وم إن رآني في إحدى الممرات حتى ابتدرني بالسؤال عن أحمد فؤاد تيمور وكان ينطق اسمه كاملا إذ لم يره منذ أمد طويل فأجبته:

إن الأستاذ تيمور مريض في المستشفى.وفي اليوم الثاني بعث الرئيس سوكارنو بمدير المراسم يحمل باقة من الورد لعيادة الأستاذ تيمور وينق إليه تمنياته بالشفاء.

ملك اليونان يرفض ركوب الطائرة

بمناسبة مرور 1250 عاما على إنشاء دير سانت كاترين في سيناء وهو دير عريق يضم تحفا وأثارا جليلة لا تقدر ثمن أقامت الحكومة المصرية في هذه المناسبة التاريخية حفلا كبيرا ووجهت الدعوة إلى ملك اليونان السابق قسطنطين، وكان شابا غض الإهاب كما وجهت الدعوة إلى الأسقف مكاريوس رئيس جمهورية قبرص وكذلك إلى أكثر من ثمانين من كبار رجال الدين المسيحي في كافة أنحاء العالم

وقد قبل الملك قسطنطين الدعوة وحضر بملابس التشريفة العظمى والسيف وعصا الماريشالية. وكانت وسيلة الوصول إلى الدير هي الطائرة الهليكوبتر من مطار القاهرة إلى مطار أبو رديس.ولكن الملك رفض ركوب الطائرة ولم تفلح وسائل إقناع جلالته أو تصوير مشقة الطريق وعناء السفر إذا استعمل وسيلة أخرى من وسائل الركوب.

وأصر جلالته على ركوب السيارة من مطار القاهرة إلى الدير.وبدأت رحلة العذاب أخال أن الملك لن ينساها وهي رحلة استغرقت ثمانية عشرة ساعة تحمل الملك فيها ألوانا من المشاق.ووصل جلالته إلى الدير قبل الاحتفال بساعة، في حالة من التعب والإعياء لا توصف أما الرئيس مكاريوس فقد آثر الطائرة حيث وصل فخامته إلى الدير في ساعتين وبدأ الاحتفال التاريخي الكبير.

وعندما آذان الحفل بالانتهاء بدأت إجراءات عودة المدعوين إلى القاهرة ومن الطريف أن الملك رجع عن قراره الأول بعد ركوب الطائرة بعد رحلة الآلام وعاد بالطائرة.

ورئيس ليبريا السابق

كان الرئيس تابمان رئيس جمهورية ليبريا هو الوحيد الذي احتفل بمرور ربع قرن على رئاسته للجمهورية. ومما يذكر أنه كان يخشى على حياته من ركوب الطائرة لأن السحرة في بلاده حذروه بأنه سوف يلاقي ربه إذا امتطى متن إحدى الطائرات وأن مصرع رهين بحادث طائرة. وامتنع الرئيس عن ركوب الطائرات مهما كانت الظروف

ولكنه لم يمت بحادث طائرة كما قال السحرة بل كان بسبب مرضه في أحد المستشفيات بلندن. ولم يتحقق من النبوءة إلا شيء واحد وهو أن جثمانه نقل بالطائرة ليدفن في ثرة بلاده.

عصا الدكتور نكروما

أما الدكتور كوامي نكروما رئيس جمهورية غانا السابق فقد كان برغم ثقافته الواسعة وأفقه الرحب وإطلاعه الكبير يؤمن بشيء واحد هو ألا يترك عصاه من يده.

وكان سبب ذلك سحرة غانا الذين أفهموه أنه إ ذا ظل ممسكا بعصاه فلن ينال من أعداؤه وإن كثروا. وبقي نكروما وعصاه رمزا حتى أطيح به، وهو بالصين ومات في المنفى ثم نقل جثمانة إلى غينيا حيث وري التراب.

نارجيلة (شيشة) لرئيس جمهورية فنزويلا

ومن أطرف ما أذكر..أنه عندما كان الأخ أمين شاكر سفير ا لجمهورية مصر لدى فنزويلا جرت مقابلة بين السفير المصري ورئيس جمهوري فنزويلا في جو من الود والترحيب.

وقبل الانتهاء من المقابلة فوجئ السفير بطلب طريف من رئيس الجمهورية ويتلخص هذا الطلب في أن رئيس الجمهورية عرض على السفير المصري صور كارت بوستال لمواطن مصر يدهم نارجيله بانسجام تام ويبدو أن منظر المواطن المصري قد استهوى رئيس جمهورية فنزويلا كما أعجبته هذه الآلة التي يمسك بها.

وبدأ سفيرنا يشرح للرئيس هذه الآلة التي يطلق عليها اسم النارجيلة أو (الشيشة) وخصائصها في التدخين وتاريخها الذي يرجع إلى العصر العثماني ومزاياها.. إلخ..

وانتهت المقابلة برغبة من جانب رئيس الجمهورية في الحصول على نارجيلة مماثلة للنارجيلة التي يدخنها المواطن المصري في الصورة.ووعد السفير و.وأرسل لي أمين شاك رسالة بما حدث

وأرسلت له (النارجيلة) المطلوبة التي قدمها لفخامة رئيس الجمهورية فنزويلا هدية من الجمهورية العربية المتحدة.وما زال السؤال يلح علي وهو: هل استعمل فخامة الرئيس النارجيلة فيما أعدت من أجله وهل استمتع بالطباق التركي أم يا ترى احتفظ بها تذكار فريدا يحمل معالم مصر.

عندما تحول كاسترو إلى جاويش

وصلت برقية من هافانا تتضمن أن الدكتور فيديل كاسترو سوف يحضر إلى مصر للمشاركة في احتفالات الثورة يوم 23 يوليو سنة 1966.

وقمت بعمل الترتيبات اللازمة وعهدت بالمهمة إلى أحد الأمناء والياوران وضابط كبير من ضباط المباحث واختير أحد الوزراء رئيسا لبعثة الشرف لاستقبال الرئيس الكوبي الذي تحدد موعد وصوله مساء 24 يوليو.

وعلمت أن الرئيس كاسترو هبط إلى القاهرة وفي طريقه إلى مشاهدة الاحتفالات التي كانت تقام بإستاد القاهرة.وكان عبد الناصر يشهد هذا الاحتفال.وفوجئت بضباط المباحث يخبرني بوصول الرئيس كاسترو وأبلغت الخبر على الرئيس عبد الناصر.

وهرع الرئيس عبد الناصر لمقابلة ضيفه والترحيب به.وكان الضيف يرتدي زيا عسكريا متواضعا. وأجلس الرئيس عبد الناصر ضيفه إلى جواره.وبدأ الحديث.

وكانت دهشتي بالغة عندما استدعاني الرئيس عبد الناصر إلى مكتبه وقال:من الضيف الذي حضر أمس إلى الأستاذ؟إنه الرئيس كاسترو.هل أنت متأكد؟وكيف لي أن أتأكد، وقد علمت ذلك من ضباط المباحث المكلف بحراسته وقال الرئيس ساخرا.

ولكن هذا الرجل ليس كاسترو.. إنه جاويش بالجيش الكوبي جاء يعتذر من عدم حضور الرئيس كاسترو. وقلت دون تردد إذا كنت سيادتك لم تعرف كاسترو فكيف لي أن أعرفه..كاسترو ملتح وهذا ملتح ولم تجر العادة أن أطالب ضيفا بهويته الشخصية.

وضحك الرئيس. هوايات رياضية للملوك والرؤساء

للملوك والرؤساء هوايات رياضية كباقي البشر، يمارسونها في أوقات الفراغ وبوصف كاتب هذه الذكريات رياضيا فإن له بعض الملاحظات والطرائف على هوايات الملوك والرؤساء الرياضية.

ويأتي في المقدمة جلالة الملك حسين ملك المملكة الهاشمية الأردنية ولجدلته منزل خاصة في نفس ومكانة كبيرة منذ أن تشرفت بمقابلته عند زيارته الأولى سنة 1953 بعد أن تولى عرش الأردن.

ومنذ ذلك الحين أسبغ جلالته على شخصي آيات العطف والود، وما من مرة زار فيها القاهرة إلا وتفضل بإهدائي فاكهة من الحدائق الملكية وهي فاكهة نادرة وبديعة. والمعروف أن جلالته من أكبر هواة السباحة والتزحلق على المياه، وهو يمارس هذه الهواية في أوقات فراغه ومكانه المفضل قصر المنتزه عند شاطئ سميراميس.

وينزل جلالته للاستحمام ويدعو كافة مرافقيه مصريين كانوا أو أردنيين لمشاركة هذه الهواية وتبدأ رياضة السباحة وتتخللها مداعبات الملك وعطفه ورعايته لكل المرافقين وجلالة الحسين طيار ماهر.

كما أذكر أن سعادة مدير مراسم دولة ماليزيا أبدع رغبته عندما كنا نشترك في وضع برنامج زيارة جلالة الملك ماليزيا للقاهرة أن نخصص وقتا من الزيارة لكي يمارس جلالته لعبة الجولف التي يولع بها منذ شبابه.

وحجزنا جلالته لعبة الجولف التي يولع بها منذ شبابه.وحجزنا جلالته ملعب نادي الجزيرة الرياضي.وبدأ الملك اللعب كأحسن اللاعبين نشاطا ودقة وامتيازاوقد أعجب جلالته بنظام النادي وشكر المشرفين عليه وفي مجال لعبة الجولف يبرز اسم (لي كوان يو) رئيس وزراء سنغافورة الذي يعتبر من أبرز هواة هذه الرياضة.

وفي المرات التي كان يزور فيها القاهرة كان يذهب إلى نادي الجزيرة حيث يرضى هوايته المفضلة. أما الرياضة الأثيرة لدى جلالة الإمبراطور هيلاسلاسي برغم تقدم سنة فهي المشي وكان جلالته يبدأ رياضته ويرهق أقدام المرافقين له في رحلة السير الطويلة.

وأذكر أنه دخل مرة في حديقة النباتات بقصر القبة وبدأ في سؤال المهندسين الزراعيين المشرفين على الحديقة عن دقائق الأشجار والمزروعات والنباتات.وبدا أن الإمبراطور يتمتع بذاكرة قوية وبدقة الملاحظة إذ سأل المشرفين عن نبات كان قد رآه في زيارة سابقة بالقصر.

وبدت الدهشة على وجه المشرفين إذ كان الجواب على سؤال الإمبراطور أن النبات قد رفع من موضعه منذ مدة تزيد عن سنتين.ويشارك الإمبراطور في الهواية نفسها رئيس جمهورية ألمانيا الديمقراطية المرحوم والتر أولبرخت إذ كانت هوايته رياضة المشي.

وكان معتادا أن يجمع بعثة الشرف المرافقة له بعد تناول طعام العشاء ليبدأ المسيرة بطريقة عسكرية منتظمة حتى يصل إلى الباب الخارجي في قصر القبة ذهابا وإيابا وهي رحلة تبلغ أكثر من ثلاثة كيلو مترات. أما في الصباح الباكر فقد كان يستيقظ ليمارس المشي بمفرده ويقطع نفس المسافة.

وأذكر أنه في أثناء زيارته لجمهورية مصر تقابلت مع في منتصف الطريق الخصوصي ونزلت من سيارتي لتحيته وسرنا معا فسألني:هل تحب رياضة المشي؟فأجبته: نعم

وكانت الإجابة بالإيجاب تعني في قاموس الرئيس الألماني، المشي معه صباح كل يوم وتوثيق بيننا أواصر الصداقة ودعاني لزيارة برلين ثلاث سنوات متوالية وذهبت إلى برلين في رحلة من أجمل الرحلات في حياتي.

وجمال والنحاس باشا

لما استمع الزعيم مصطفى النحاس باشا إلى خطاب الرئيس جمال عبد الناصر يوم 26 يوليو 1956 الذي أعلن فيه قرار تأمين شركة قناة السويس صفق النحاس باشا وقال: ربنا يخلي هذا الشاب الذي عمل ما لم نستطيع نحن عمله.

ولما علمت بذلك أبلغت الرئيس الراحل فأبدى سروره وقال إن هذا الموقف من النحاس باشا يدل على أنه زعيم وطني صادق، ثم سألني عن معاشه فلما أبلغته أنه مائة وخمسة وعشرين جنيها أصدر أمره بصرف مبلغ أربعمائة جنيه شهريا لإكمال نفقات حياة وعلاج النحاس باشا.

وبعد وفاته استمر إرسال هذا المبلغ إلى المرحومة قرينته زينب هانم الوكيل حتى توفيت. وكثيرا ما كان علاج قرينة المرحوم النحاس باشا يتم في الخارج حيث سافرت عدة مرات وكنت في كل مرة أحمل إليها قيمة نفقات العلاج نقدا بالعملة الصعبة مع رسالة شفوية من الرئيس جمال مضمونها أنه بالرغم من سماعه شتائمها ضده في مجالسها الخاصة فإنه تقديرا منه لجهاد ونزاهة الزعيم مصطفى النحاس فإنه يرى مواصلة تسليمها المعاش الإضافي (400 جنيه) وما تحتاج إليه لنفقات علاجها بالخارج. وجه صاحب الزعيم 18 عاما.


حديث أجراه الأستاذ عدلي جلال. ونشرته الأهرام يوم 10/ 10/ 1970

طوال 18 عاما وهو يعيش على مقربة من الزعيم يعرض عليه المواعيد والمقترحات للقاءات العديدة مع المسئولين وملوك ورؤساء العالم سواء في مجلس قيادة الثورة أو في مقر مجلس الوزراء أو في القصر الجمهوري بالقبة

وخلال ال18 عاما أغلى ما في حياة صلاح الشاهد وأعز سنوات عمره رأى وسمع وانفعل بالمواقف واللمسات الإنسانية التي كان يفيض بها القلب الكبير في صدر الزعيم الإنسان.

وهو اليوم يحاول أن يغالب الحزب ليسترجع شريط ذكرياته الحي مع الراحل العظيم الذي ودعته مصر كلها بالأمس القريب.وصلاح الشاهد يعرفه كل ملوك ورؤساء الجمهوريات ورؤساء الوزارات في العالم أجمع ولديه في منزله بالجيزة 160 صورة لمائة وتسنين من الملوك والأباطرة ورؤساء الدول وكلها موقع عليها بإمضاءاتهم هدية لصلاح الشاهد.

لقد طلبت منه هيئة المعارض في فرنسا هذه المجموعة الهائلة من صور الملوك والرؤساء التي عنده لعرضها لمدة شهر في فرنسا والتأمين عليها بمبلغ كبير ولكن صلاح الشهد رفض هذا العرض خوفا على هذه المجموعة الفريدة التي لا يمكن لأي شخص في العالم أن يقتنيها مالم تتوفر له ظروف صلاح الشاهد ولطول مدة خدمته مع أعظم شخصية عالمية لم يظهر مثلها في التاريخ المعاصر سوى زعيم الهند الكبير المهاتما غاندي وصلاح الشاهد عمره الآن 55 عاما أب لابنتين .. وجد منذ 7 سنوات ويكلل رأسه شعر بدأ يكتسب لون الفضة منذ 14 عاما منذ العدوان الثلاثي عام 1956.

وتولي صلاح الشاهد منصب كبير الأمناء منذ وفاة أول كبير للأمناء في عهد جمال عبد الناصر السيد علي رشيد الذي يعد والدا وأستاذا لصلاح الشاهد ولكل أمناء الرياسة الخمسة: أحمد فؤاد تيمور وعبد الحميد ألحاج وعادل مراد وإبراهيم رشيد ونبيل فتح الباب.

وكان الرئيس جمال عبد الناصر قد طلب من كبير الأمناء الأسبق تعين نجله إبراهيم رشيد أمينا في رياسة الجمهورية فور تخرجه من الكلية مباشرة وفعلا عين إبراهيم رشيد أمينا منذ ذلك الوقت.

وصلاح الشاهد يعمل في رياسة مجلس الوزراء منذ يوم 4 فبراير عام 1942 كانت وظيفته تشريفات مجلس الوزراء وعملي مع رؤساء الوزراء مصطفى النحاس وحسين سري وعلي ماهر ثم مصطفى النحاس مرة ثانية ونجيب الهلالي ثم حسين سري مرة أخرى ثم نجيب الهلالي حتى قامت ثورة 23 يوليو.

كيف التقيت بجمال

ويقول صلاح الشاهد:

رأيت جمال عبد الناصر أول مرة في عام 1952 بعد أن قام بثورة الهائلة وكان قد قدم إلى مجلس الوزراء ليقابل علي ماهر الذي كنت أعمل معه كتشريفاتي لمجلس الوزراء..وفي أول مايو عام 1953 بعد أن عملت معه في حكومة الثورة توفي شقيقي الدكتور محمود الشاهد وفوجئت بحضور جمال عبد الناصر.

وتدمع عينا صلاح الشاهد وهو يقول:

لقد كان لهذا العطف والحنو أثر الغ في تخفيف آلامي وعرفت أن لعبد الناصر قلبا كبيرا كله رحمة وحنان... كنت أكبره بثلاث سنوات، ولكنه كان أبا لي وكان قلبه ينزف رحمة بي وبكل من عمل معه، بل بكل فرد في الأمة العربية كلها.
لقد عملت معه منذ أن عين رئيسا للوزراء ثم رئيسا للجمهورية ولم أفارقه منذ ذلك التاريخ حتى يوم رحيله.

حنان يغمر الجميع

وسألته كيف كانت علاقتك الشخصية بجمال عبد الناصر، وكيف كان يعاملك ؟ وكيف تطورت هذه العلاقة؟وتحولت عينا صلاح الشاهد إلى صورة للرئيس الراحل تعلو مجموعة من صور رؤساء الدول وقال في أسى.

لقد كان حنانه جارفا لكل من عمل معه بلا استثناء.. ولما مرضت زوجتي عام 1957 وسافرت إلى لندن لإجراء عملية جراحية بمفردها بسبب ارتباطي بالعمل معه، كان يسأل عنها كلما رآني ويسأل عن أخبارها.. وفي مرة قلت له:

الحمد لله يا سيادة الرئيس فقد اطمأننت عليها منذ 3 أيام بالتليفون وغضب الرئيس وقال: لماذا لا تتصل بها يوما وهي بمفردها هناك؟قلت: إن المكالمة تكبدني الكثير.فأمر الرئيس بأن أتصل بها مرتين في اليوم على حسابه الخاص وقال:

إن صوتك وصوت أولادك سوف يكون عاملا هاما في شفائها.ويقول صلاح الشاهد بأن عاطفة الرئيس نحو النبوة كانت جياشة بشكل واضح.

يفرح لأفراحنا

ويقول صلاح الشاهد:

لقد أصبت بذبحة صدرية يوم 7 أغسطس عام 1961 بالإسكندرية فبعث الرئيس إلي بالأطباء والمعالجين ونبه عليهم بعدم أخذ أجر مني وكان يسأل على 3 مرات يوميا وبعد شفائي زرته في منشية البكري يوم 8 أكتوبر فاحتضنني وقبلني وقال إنه يشعر بالسعادة لشفائي وطلب مني ألا أجهد نفس ولا أنزل سلم قصر القبة لاستقباله وألا أعمل بعد الساعة 8 مساء بأي حال من الأحوال وكان إذا رآني مأدبة رسمية طلب مني مغادرة المكان فورا والذهاب للمنزل للراحة.. وأرسلني عدة مرات إلى الخارج للعلاج مع أنه كان هو يرهق نفسه أيما إرهاق.

وفي شهر مايو عام 1962 تزوجت ابنتي الكبرى ودعوت الرئيس ليكون شاهد عقد هو والسيد أنور السادات دون أن أدعوه إلى الحفل الساهر الذي أقيم في المساء بفندق الهيلتون وبعد الزفاف ذهبت إلى الرئيس في منشية البكري لأشكره على حضوره إلى منزلي وحضور حفل عقد القران وقال الرئيس لي فجأة:

ولماذا لم تدعني في المساء حتى أبعد عن متاعب العمل قليلا.ارتبكت وقلت لسيادته:رأيت أن أجنب رئيس الجمهورية حضور مثل هذه الحفلات فقال الرئيس:كنت أحب أن أشارك أفراحك للنهاية.

وفي زواج ابنتي الثانية في عام 1968 لم يحضر الرئيس الحفل لأنه كان قد قال بأنه لن يحضر أفراحا أو أي احتفالا إلا بعد إزالة آثار العدوان ثم علمت أنه طلب من أعضاء اللجنة التنفيذية العليا والوزراء جميعا مشاركتنا في أفراحنا.

وعلم الرئيس مرة أن حرم المصور السينمائي الراحل حسن مراد كانت مريضة في عام 1965 بذبحة صدرية وهي سيدة ألمانية تبلغ حوالي 58 عاما فأمر سيادته بعلاجها على حساب الدولة وذهبت لإبلاغها أمر الرئيس فأخذت تبكي من لمسة حنان الرئيس وكانت أول شيء عملته بعد خروجها من المستشفى أن أشهرت إسلامها. وقالت إن الدين الذي يعتنقه جمال عبد الناصر لابد أن أدين به.

القلب الكبير

صلاح الشاهد و 18 عاما مع عبد الناصر..

حديث أجراه الأستاذ عبد العاطي حامد ونشرته أخبار اليوم يوم 10/ 10 1970 كان جمال عبد الناصر أول رئيس دولة يخصص ميزانية لعلاج المواطنين كان لا يبخل على أبناء الشعب بالعلاج ولو احتاج الأمر للعلاج في الخارج كان يوافق فورا وكان يقول دائما إن واجبي هو رفع الظلم وجميع مكاتبي الداخلية تبحث الشكاوي وتعرضها على.

وعلى مدى 16 عاما أمضاها صلاح الشاهد كبير الأمناء برئاسة الجمهورية قلت لكبير الأمناء برئاسة الجمهورية لو أردت أن تتحدث عن بعض مواقف الفقيد العظيم فأي موقف تريد أن تبدأ الحديث عنه؟

أجاب صلاح الشاهد:

أتحدث عن عبد الناصر الإنسان وقد كان للفقيد مواقف إنسانية رائعة:قلت: ماهر أول مرة رأيت فيها عبد الناصر يبكي متأثرا؟أنها قصة عجيبة.... في أحد الأيام اتصل بي شخص أعرفه جيدا وقال لي أبلغ سيادة الرئيس محمد محمود قد مات قلت له: أنا أعلم أن محمد باشا محمود قد مات منذ زمان فلماذا أبلغ الرئيس بهذا الخبر الآن وما قصدك من ذلك فقال لي:

لا أقصد محمد محمود باشا أقصد محمود الحلاق ووضعت سماعة التليفون وأنا مستغرب حائر.. هل هي مداعبة ولكن الذي يحدثني شخص معروف ولا يمكن أن يداعبني بهذه الطريقة ثم ذهبت إلى محمود الجيار وكان مديرا لمكتب الرئيس للشئون الداخلية وأخبرته بالمكالمة التليفونية.. ورد الجيار يا خبر أسود .. أرجوك ألا تبلغ سيادة الرئيس بهذا الخبر . إنه سيحزن جدا على هذا الرجل.

ولكني وجدت من واجبي أن أبلغ الرئيس ودخلت عليه وقلت له يا أفندم أنا آسف بأن أبلغك هذا الخبر. وقال جمال عبد الناصر: خيرا..قلت له: محمد محمود الحلاقي تعيش أنت.. وبمجرد سماعه الخبر انفجر جمال عبد الناصر بالبكاء بشدة واستمر يبكي فترة وبعد أن أفاق من البكاء قال لي أذهب بنفسك وشيع جنازته بالنيابة عني.

أنني أخشى أن أسير في الجنازة لأنني لن أتمالك نفسي وأقم له صوانا كبيرا في السيدة زينب وباشر رعاية أولاده حتى يكملوا تعلميهم وقدم لهم كل شهر مرتبا من جيبي الخاص.وقال لي الرئيس الراحل يومها وكنا في عام 1954 اسمع يا صلاح أنت المسئول عن أي تقصر أو إهمال نحو هذه الأسرة.

وهكذا وطوال 16 عاما وأنا أتابع أسرة الحلاق الراحل محمد محمود وكان الرئيس حريصا على أن يسألني كل أسبوع عن الأسرة وهذا العام تخرجت صفية أصغر بناته في كلية التجارة والتحقت بالعمل فعلا.

ويكمل صلاح الشاهد القصة فيقول: في إحدى المرات سألت الرئيس: لماذا يا سيادة الرئيس كل هذا الاهتمام بهذا الرجل؟فأجاب المغفور له جمال عبد الناصر:إن هذا الرجل حلاقي الخاص.. كان مثل الوفاء وكان حافظا لأسراري ففي أثناء الحلاقة كنت أتكلم معه وفي أكثر من مرة أخبرته ببعض الأخبار والأسرار ولم يذع الرجل أي سر قلته له أبدا كما كان سياسيا قديما وكنت أقيس به حكم رجل الشعب العادي على رئيس الجمهورية.

ثم ضحك الرئيس وقال ولا تنسى أنه الرجل الوحيد الذي يعطيه الواحد رقبته، ولا يبخل عليه بها. في أحد أيام عام 1955 جاء شاب طويل القامة ثائرا وطلب مقابلة الرئيس وأصر على طلبه وأخذت أهدئ من روع الشباب وطلبت منه أن يروي لي حكايته قبل أن يدخل للرئيس فقال الشاب ثائرا كنت أريد أن أعاتب سيادته...

أنني أول البكالوريا ولوفاة والدي اضطررت للعمل بوزارة الزراعة حتى أنفق على أخواتي ودرست حتى نلت ليسانس الحقوق بدرجة جيد جدا تقدمت إلى مجلس الدولة لكي ألتحق بوظيفة فرفض المجلس بحجة أن عمري واحد وثلاثين سنة وأن أقصى سن للتعيين بالمجلس 30 سنة ويقول الشاب أنهم رفضوا تعييني والرئيس يقول في خطبه إن الدولة تشجع الكفايات فكيف لا يشجعونني على العمل ويتركونني في الشارع بحجة أن عمري 31 سنة ويكمل صلاح الشاهد القصة فيقول.

ودخلت إلى الرئيس وشرحت له موضوع الشاب فاتصل على الفور بالمستشار السيد علي السيد رئيس مجلس الدولة في ذلك الوقت وبحثنا القانون فلم نجد به نصا بمسألة السن والتعيين فأمر سيادته بتعيين الشاب فورا وفعلا تسلم الخطاب للتعيين وهو جالس في مكتبي.

وبعد ذلك طلب الرئيس أن يدخل له الشاب وعندما دخل قال للرئيس:

أريد أن أقول لك بعض الكلام أنني لا أريد أن أشكرك أو أقبل يديك أو أنحني أمامك أو أبكي بين يديك فأنت الذي علمتنا أن نرفع رءوسنا أنت قلت أرفع رأسك يا أخي..

ونحن لن نحني رءوسنا أبدا ولكن الذي عملته سيادتك الآن كان يمكن أن يتم دون أن نزعجك فأنت رئيس الجمهورية وليس لديك وقت لكل هذا.ورد عليه الرئيس: إن واجبي هو رفع الظلم وجميع مكاتبي الداخلية تبحث الشكاوي وتعرضها علي، فرئيس الجمهورية الآن فرد من أبناء الشعب.وخرج الشاب من مكتب الرئيس والدنيا لا تكاد تسعه من الفرح.

واقعة ثالثة

جاء شاب ساقاه مقطوعتان يسر على قدمين من الخشب وقال إن وزارة العمل رفضت تعيينه موظفا بها مع أنه حاصل على الليسانس بتقدير جيد جدا

ويقول صلاح الشاهد:

وعرضت الأمر على الرئيس... في اليوم نفسه تصادف أن كان سفير كندا يقدم أوراق اعتماد كانت قدماه صناعيتين.. ويومها قال الرئيس إذا كانت كندا توافق على أن يمثلها سفير بأرجل صناعية فهل من المعقول ألا نوافق على تعيين شاب بهذا الشكل صرفت عليه البلد الكثير من أجل تعليمه ما ذنبه لابد أن يعين فورا فالعبرة ليست بالعاهة ولكن بالفكر والإنتاج والعمل.

وتستمر القصص والمواقف الإنسانية التي تعكس عظمة القائد الراحل ويستمر صلاح الشاهد كبير الأمناء برئاسة الجمهورية في حديثة:ضمن آلاف القصص أذكر هذه القصة فتاة في العشرين من عمرها أصيبت بمرض في عينيها وحضرت إلى مكتبي وأعطيناها من رئاسة الجمهورية عشرين جنيها وحولناها إلى مستشفى المعادي وعولجت الفتاة هناك وفوجئت بالمستشفى يقدم فاتورة يطلب فيها 200 جنيه.

وهنا اضطررت أن أعرض الأمر على الرئيس وعلى الفور أمر بأن تعالج من جيبه الخاص ودفع لها المبلغ المطلوب وطلب مني أن أداوم على رعايتها.ويقول صلاح الشاهد إن جمال كان رحمه الله هو أول رئيس دولة في مصر خصص مبلغا من ميزانية الدولة لعلاج المواطنين في الخارج وكان لا يبخل على علاج أحد وكنا نرسل المريض إلى مستشفى القوات المسلحة بالمعادي وإذا رأى المستشفى سفره للخارج يسافر دون أي مانع.

جانب آخر من عبد الناصر معاملته للناس الذين عملوا معه في البيت أو في القصر أو في مجلس الوزراء أنها قصة مليئة بالإنسانية والعطف والحب الكبير.

عم داود . كان يعمل حاجبا في مجلس الوزراء من عام 1905 وعمل مع الرئيسي كحاجب له في عام 1960 ثم وصل الرجل إلى سن الستين وأحيل إلى المعاش وعندما علم عبد الناصر بذلك أمر بأن يستمر عم داود ويأخذ الفرق بين المعاش والمرتب وكان الرئيس يخجل من أن يقدم له عم داود القهوة لكبر سنه قال له يا عم داود أرجو ألا تتعب نفسك في تقديم القهوة والطلبات كل ما أطلبه أن تحضر يوميا حتى أراك وفعلا استمر الرجل يحضر يوميا للرئيس لكي يراه وعندما مات الرئيس مرض عم داود وحزن عليه حزنا شديدا.وكما كان عطوفا على الذين يعملون معه كان أيضا حريصا على صحتهم

يقول صلاح الشاهد:

عندما كانت تجري المباحثات بين مصر وسوريا والعراق حدث أن امتدت جلسات المباحثات إلى ما بعد منتصف الليل.. وبرغم انشغال الرئيس في المباحثات أرسل لي ورقة كتب فيها: عم داود على رشيد رشاد حسن ينصرفون فورا إلى منازلهم لأننا سنتأخر بعض الوقت.

وعم داود كان حاجبه الخاص.وعلى رشيد كبير الأمناء.. ورشاد كبير الياوران.. وكانوا جميعا من كبار السن.والكلام لا يزال لصلاح الشاهد كبير الأمناء برئاسة الجمهورية.في هذه الواقعة تعرضت لغضب الرئيس .. كان هناك حاجبان يتناوبان تقديم الشاي والقهوة للرئيس هما عكاشة وعبد الحليم وغاب عكاشة ثلاثة أيام لم يره الرئيس خلالها.

وعندما حضر سأله: أين كنت يا عكاشة؟فأجاب الرجل لقد كنت مريضا يا سيادة الرئيس.وسأله الرئيس: وماذا فعلت؟ فأجاب: ذهبت للطبيب فكتب لي الدواء وأخذ مني جنيهين للكشف ودواء تكلف 3 جنيهات وذهب له ثاني يوم، وطلب أن آكل صدر دجاجة يوميا..وسأله الرئيس: وهل أعطاك صلاح الشاهد شيئا؟

وخشي الرجل أن يغضب مني الرئيس فقال له: نعم يا سيادة الرئيس أعطاني عشرة جنيهات وعندما سألت عكاشة عن غيابه قال لي إنه كان مريضا وأن الرئيس علم بمرضه وسأله هل أعطاك صلاح الشاهد شيئا فقال له كذبا أعطاني 10 جنيهات حتى لا يغضب الرئيس مني وطلب مني الرجل إذا سألني الرئيس أن أقول له هذا الكلام لأنه لا يحب الكذب.

ويقول صلاح الشاهد: ثم استدعاني الرئيس وقال لي: يا راجل حتروح من ربنا فين الرجل الغلبان يمرض ويروح للدكتور، ويدفع فلوس ويصف له الدكتور كل يوم صدر دجاجة يأكلها وأنت تعطيه 10 جنيهات ماذا يفعل بهذا الجنيهات العشرة وأنت تعلم أن الفرخة ب 45 قرشا وكيلو اللحم ب 65 قرشا هذا عدا الدواء.. هو أنا لازم آخذ بالي من كل حاجة وأعمل كل حاجة بنفسي ولا إيه؟؟

وقال لي الرئيس: إذا كنت عاوز ترضيني ابسط الراجل الغلبان ده.. أكرمه شوية.. مثال آخر لوفائه للعاملين معه.. في أحد المؤتمرات الشعبية في المنيا لمح الرئيس أحد الرجال وكان يعمل معه جنديا في الفالوجا عام 1948 وأحضر الرئيس الرجل وأخذه معه في القطار إلى القاهرة.. وصل معه الرجل واسمه سعيد.. وبعد أشهر مات سعيد بالسكتة القلبية.

وعندما علم الرئيس طلب من محمد أحمد سكرتيره الخاص أن يرافق جثمانه إلى المنيا .. وأن يقوم بمصاريف الجنازة... وأن يعمل الواجب ويتقبل هو بنفسه العزاء نيابة عن الرئيس....والحديث عن المواقف الخاصة بوفاء عبد الناصر الإنسان لا يمكن أن ينتهي ولا يمكن حصر هذه المواقف.

وعن أحدها يقول كبير الأمناء برئاسة الجمهورية حدث أن أصيب فؤاد تيمور الأمين الأول بالرئاسة باحتباس في صوته قدم الرجل على أثره استقالته.. وعندما علم الرئيس رفض الاستقالة وكان سيادته يرفض أن ينقل موظف في الرئاسة دون أن يعرض عليه الموضوع شخصيا وقال عبد الناصر بالحرف:

هذا غير معقول... أن نأكل الراجل لحما ونرميه عضما لا بد أن يعالج فؤاد تيمور إلى أن يعود له صوته وفعلا سافر فؤاد إلى أمريكا وبريطانيا وكان الرئيس يكلفني أن أسأل عليه يوميا بالتليفون طل مدة علاجه في الخارج.

وعاد فؤاد تيمور بعد أن عاد إليه صوته وعين مرة ثانية في الرئاسة كما كان أنا شخصيا أصبت بخلطة في قدمي وأمرني الرئيسي بأن إلى الخارج للعلاج، وفعلا سافرت وكان يأمرني أن أستريح مبكرا.

وقال لي مرة وهو يضحك: والله إذا لم تسترح يا صلاح.. سأسجنك 24 ساعة وعندما علم بأن ابنتي ستتزوج وأن الموعد قد حدد في يوم 10 مايو وكان الرئيس على موعد هام ولم أتوقع أن يحضر.. وفوجئت بجمال عبد الناصر يلغي ميعاده.. ويحضر ليشاركني فرح ابنتي.

وكان يوجد خط واضح بفصل بين عبد الناصر الإنسان وعبد الناصر رئيس النظام والقائد السياسي ولكن المواقف الإنسانية عند جمال عبد الناصر يستوي فيها الجميع بما فيهم السياسيون القدامى والعسكريين أيضا.

وعندما كان يعلم بأن أحد السياسيين القدامى قد مرض كان سيادته يأمر بعلاجه وعندما كان يعلم بديونهم برغم مخصصاتهم التي تصرف لهم كان يأمر بتسديد هذه الديون..

وفي أحد الأيام اتصل بي أحد السياسيين القدامى وقال لي إن ابن شقيقته وعمره 14 سنة يريد أن يزور والده المريض في لندن والذي قرر الأطباء أن حالته ميئوس منها طلب الأب المريض أن يرى ابنه الصغير ولكن هذا الابن ممنوع من السفر..

ويقول صلاح الشاهد:

عرض الأمر على جمال عبد الناصر وفي الحال قال لي أنت بنفسك مسئول عن سفير هذا الشاب الصغير قم حالا لإعطائه تأشيرة الخروج احجز له على أول طائرة مسافرة إلى لندن ولو أدى الأمر أن ينزل أحد الركاب. وفعلا سافر الشاب الصغير في نفس اليوم . ثم عاد بعد يومين مع جثمان أبيه بعد أن رآه وودعه.... وسأل الرئيس الراحل عن الولد وأبيه وأخبرته أن الطفل عاد هو والجثمان..

ولحظتها قال جمال: الحمد لله أن الولد سافر.. لو كنت عرفت متأخرا ولم أستطع أن أفعل شيئا من أجله كيف كنت سأنام الليل؟وكان رحمة الله لماحا...حدث في أثناء مفاوضات الرئيس مع رئيس جمهورية ألمانيا وكان المترجم، موجود مترجم أن يكون الرئيس مشغولا بعض الشيء بالسؤال والاستماع للترجمة.

وبرغم هذا الانشغال نادي على الرئيس وعندما ذهبت إليه قال لي أن أحد السعاة في آخر القاعة يحمل الصينية والجوانتي الذي في يده مقطوع وأصبعه يطل من الجزء الممزق في (الجوانتي) كيف حدث هذا

ويقول صلاح الشاهد:

ووجدت المسافة كبيرة.. وتعجبت كيف لمح الرئيس الساعي عبد الغفور من بعيد.وكان الفقيد العظيم ذكيا.. يفهم ما نقصده دون لف أو دوران وكثيرا ما كان يقول لنا مش عيب إن الواحد يخطئ .. الذي يعمل لا بد أن يخطئ .. ولكن العيب أن يداري الإنسان الأخطاء وإهماله بالكذب والتضليل.

وكان الرئيس يقرأ بسرعة جدا .. كان يقرأ الصفحة الفولسكاب في لحظة ويناقش فيها بعمق.كما كان مؤدبا جدا... يحترم كبار السن.. يحادثهم وعيناه في الأرض.. ويكلم كل إنسان باحترام .. وكان يقول كلنا بشر.. ومصيرنا جميعا إلى التراب ويتساوى رئيس الجمهورية مع أصغر خفير..وعندما بداية أي اجتماع كان جمال يقرأ الآية الكريمة.. (ربنا آتنا من لدنك رحمة هيئ لنا من أمرنا رشدا..)

وكان الرئيس الراحل يحرص على أن يرانا جميعا في منزله بعد صلاة العيد ويسلم علينا فردا فردا.. ويسألنا عن الصحة وعن الأولاد .. وإذا وجد واحدا منا حزينا يسأله عن سبب حزنه ويحاول مساعدته بقدر ما يستطيع.

وكان رحمه الله بسيطا وأذكر آخر حديث له معي يوم الوفاة.. في الساعة الواحدة إلا الثلث وكان يودع الملوك والرؤساء وأخذ يكلم كل واحد فينا التفت إلى الفريق سعد الدين متولي كبير الياوران وقال له:

أنت ليه وزنك بيزيد يا سعد لازم تخس شوية خليك رشق زي صلاح.إنه كان رجلا إنسانيا يكفي أن كل طفلة عاشت في ملجأ وكبرت وتزوجت منذ عام 52 حتى اليوم شارك جمال عبد الناصر في دفع نفقات زواجها وأهدى لها باقات الورد.

ذكريات مع عبد الناصر

حديث أجراه الأستاذ عبد الرحمن فهمي.

ونشرته الجمهورية يوم 9/ 9/ 1971

أجمل ما في أي إنسان هي أخلاقه الحميدة وأجمل خلق هو الوفاء..

وممارسة الوفاء قد تكون صعبة في بعض الأحيان.. وفي أحيان أخرى تصل إلى درجة الاستحالة لذلك يعتب بعض الحكماء أن الوفاء هو قمة الأخلاق ومعلوماتي عن هذا الرجل أنه من أوفى الناس جميعا وعندما دخلت بيته راعني أنه لا يمارس الوفاء سلوكا علنيا مهما كانت الظروف فحسب، بل هو يسجله أيضا على جدران بيته.

وأتجول ببصري بين مجموعة الصور النادرة التي تمثل تاريخ مصر الحديث ثم أنظر إلى صاحب المجموعة فيقرأ الرجل الدهشة البادية على وجهي ويقول لي:

كل صورة من هذه الصور سواء كانت لملك أو رئيس جمهورية أو رئيس وزراء أو وزير سواء حكم مصر أو جاء إليها في يوم من الأيام كل هذه الصور عليها إهداء شخصي لي بخط اليد ومذيلة بالتوقيع .. وأنا أحب كل هؤلاء ووفي لكل هؤلاء وليس وفائي بمساعدة أقاربهم فقط، بل أيضا يجيب أن يكون لذكراهم وبصمت صلاح الشاهد برهة وهذه عادته إنه لا يرسل الكلام على عواهنة فهو رجل البروتوكول في مصر لذلك تجد كلامه يخرج بالطريقة الإملائية لكي يعطي فرصة للكلام أن يمر على عقله قبل أن يخرج من فمه إنه يزن كل كلمة يقولها.

أقول.. بصمت صلاح برهة .. ثم يقول:

منذ أيام .. زارني أحد المسئولين عن السياحة في فرنسا، وعرض على أن يأخذ كل هذه الصور في طرد كبير ليقيم معرضا في فندق جورج الخامس أفخم فندق في باريس على أن يستضيفني أنا وزوجتي لمدة أسبوعين في نفس الفندق...قلت لسيادته: إنها مجموعة نادرة ولكن معناها أكثر ندرة في هذه الأيام

فيقول صلاح الشاهد:

تحب أقول لك حكاية لا يعملها أحد.. تعرف أن سر علاقتي القوية بالمرحوم الرئيس جمال عبد الناصر هي وفائي لرؤسائي السابقين.. ففي الشهر الأول من الثورة سمع سيادته حوارا بيني وبين أحد رجال الأمن وكان لي موقف معين وكانت هذه البداية سببا في أن أكون أقرب شخص لسادة الرئيس طوال تواجده في مكتبه

قلت لصلاح الشاهد: إن هذه الصور ستسهل مأمورتي قطعا هناك قصة وراء كل صورة. فقال الرجل الوقور الأنيق ليس بالضرورة كل صورة ولكن ثم صمت ونظر نحو صورة فيها مانزيس رئيس وزراء أستراليا وقال لي:

في يوم 3 سبتمبر 1956 جه مانزيس مصر علشان يتفاوض بشأن قناة السويس بعد تأميمها وكانت الحالة متأزمة والوضع حرجا جدا خصوصا مع بريطانيا وفرنسا وكان المرحوم الرئيس يخشى أن تتطور المناقشة أكثر من اللازم.

فقال لي:

اسمع يا صلاح لو ضربت لكل الجرس مرتين متتالين أدخل بسرعة وقل للضيف تسمح تتفضل تخرج بره لقد انتهت المقابلة ثم تصحبه إلى باب سيارته.وجلست يومها في مكتبي مرهف السمع. الموضوع خطير يتعلق بالبلد كلها.. لذلك رفضت أن يدخل على أحد قط حتى لا أنشغل أي شيء ورفعت سماعة التليفون حتى لا يرن ولكن المقابلة انتهت بسلام.

ويضف صلاح الشاهد قائلا:

لقد كان الرئيس عبد الناصر وطنيا يفيض وطنية، بحيث أنه كان مستعدا أن يفعل أي شيء من أجل رفع شأن البلاد لذلك كان حازما حاسما بل عنيفا أيضا مع أعداء البلاد أمثال مانزيس وغيره ولكن تعالى نرى الجانب الآخر م شخصيته كان فيه مصور عندكم في الجمهورية اسمه عزت، وكان الرئيس يعرفه شخصيا, بل كان يفكر في إلحاقه بالرئاسة كمصور خاص وفجأة يوم 29 نوفمبر 1956 انفجرت طائرة دمشق في الجو التي كان يركبها عزت فمات وما إن علم الرئيس جمال بالخبر حتى أمسك كتفي وقال لي هامسا وهو حزين.

قال ل: ما نصه بالضبط (شوف أمه وأولاده وإخواته وأبعت لهم نقود)وبعد ثلاث سنوات بالضبط في يوم ذكرى وفاة عزت ولا أدري كيف تذكر سيادته هذا اليوم بعد مرور ثلاث سنوات وكان يومها يزور القاهرة الفريق عبود رئيس جمهورية السودان سألني في أثناء حفل العشاء إيه أخبار أسرة عزت: فقلت له: عزت مين.. كنت نسيت الموضوع فقال لي المصور عزت الذي مات في الطائرة فقلت له: لا أدري بالضبط أحنا من ثلاث سنوات صرفنا لهم مبلغا كبيرا بأمر سيادتك.

فقال لي لا .. لا فكرني بكرة نصدر لهم قرار جمهوريا بمعاش استثنائي مدى الحياة.. ولا أدري كيف تذك يوم وفاته بعد ثلاث سنوات..هل كان يرجع من آن لآخر لنوتته الخاصة أم هي ذاكرته غير العادية. .المهم أن المرحوم كان عنده وفاء غير عادي لذلك عندما جاءني شقيق عزت بعد أن حصل على الثانوية العامة وكان يريد أن يدخل كلية الشرطة عملت على تحقيق رغبته فورا لعلمي أن هذه رغبة الرئيس شخصيا..ويسرح صلاح الشاهد ويمسك شاربه الأبيض ويمشطه بأصبعه بحركة لا إرادية ثم يروي لي هذه القصة.

مره الملك حسين كان معزوما على العشاء عند الرئيس في بيته وكنت كالعادة أمشي أمامها إلى أن يصلا إلى الصالون ولكن الرئيس لاحظ أنني أمشي أزك على رجلي وقال لي: أنت بتعرج النهاردة ليه: فقلت له: أنا عندي جلطة قديمة في رجلي والنهاردة بدأ الألم يعاودني مرة أخرى فقال لي:

جلطة وساكت عليها أنت لازم تسافر وتعالجها فورا فقلت له أمام الملك حسين معلهش يا فندم في الصيف لما سيادتك تأخذ أجازة أبقى أسافر.. فقال لي: لا.. لا لازم تسافر فورا وأصدر أوامره فسافر إلى ألمانيا في ظرف 23 ساعة حيث دخلت مستشفى هناك وتم علاجي على الوجه الأكمل على نفقة الدولة.

ويجتر صلاح الشاهد ذكرياته العديدة وهو يتألم لفقدان الرجل ويقول لي: في السنة الأخيرة قبل وفاته لمحني المرحوم وأنا أجري أو قل أهرول لنداء عاجل لي في مكتبي فقال لي مداعبا: أنت م يوم ما بقيت رئيس نادي الترسانة وأنت بقيت شباب قلت: يا فندم الترسانة في حالة يرثى لها النادي مديون لشوشته ومش لاقين ندفع أجور العمال ولا نور ولا مياه.. المورد الوحيد كان الكورة وانقطع.

فتضايق الرئيس عبد الناصر وقال: إزاي ما تدفعوش أجور؟ لا وفي اليوم التالي أمر بصرف أربعة آلاف جنيه إعانة عاجلة للترسانة وكانت الترسانة أول نادي يأخذ إعانة نقدية مباشرة من الدولة وفجأة وسط عشرات الذكريات قلت لملك البروتوكول في مصر.بروتوكول يعني أيه؟

اندهش صلاح الشاهد من السؤال المباعت، واتسعت حدقتا عينيه وكأنه يصحو من إغفاءة لذيذة كان يحلم فيها بذكريات الماضي القريب، ثم ابتسم وكعادته في التفكير قبل أن يتكلم وبدأ يقول لي: أنت أول صحفي يسألني هذا السؤال برغم أهميته..ثم صمت فترة وعاد يقول:البروتوكول: كلمة لاتينية معناها الحرفي قواعد المجاملة وهي ليس لها مراجع معينة ولكنها تكيف حسب بيئة كل بلد.

قلت له: ما هي الشروط التي يجب أن تتوافر في رجل المراسم؟ فقال: إتقان شغله المراسم هبة من عند الله قبل أي شيء آخر فإذا كان الشخص موهوبا في هذه الناحية يمكن بعد ذلك تعليمه فالتحدث مع الجماهير فن، بشاشة المقابلة فن، واحد يجي يطلب المستحيل ثم يخرج وهو سعيد دون أن تجيبه إلى طلبه لأنه مستحيل هذا فن أيضا ثم يجب أن يلبس باستمرار بدلة كاملة ولونها غامق وتذك دائما أن البني مهما كان ليس لونا غامقا ويجب أن يكون مرآة لرئيس الدولة...

ويجب أن تكون لرجل المراسم أيضا لياقة وقوة وإقناع وبال طويل وسرعة بديهة وسرعة تصرف مع ذاكرة لا تخيب أبدا..ثم حكاية مهمة جدا.. يجب ألا يخطئ ولكننا بشر وكلنا نخطئ لذلك يجب على رجل المراسم ألا يعترف بخطئه فإذا أخطأ يجب أن يفلسف خطأه يجب أن يبرره.

واستطرد صلاح الشاهد يقول:

اسمع الحكاية دي كان مرة رئيس جمهورية تشيكوسلوفاكيا عندنا وعملنا له عشاء رسميا وكان المفروض أن يجلس المرحوم الرئيس عبد الناصر في الوسط وإلى يمينه رئيس تشكيوسلوفاكيا ثم نائب الرئيس بتاعه وإلى يسار الرئيس نائب الرئيس التشيكي ثم وزير الخارجية التشيكي وكنا عملنا الترتيب على هذا الأساس السليم وفجأة عندما دخل الجميع إلى المائدة فوجئت بأن الترتيب تغير وجلس نائب رئيس الجمهورية تشيكوسلوفاكيا بجوار وزير الحربية وجلس وزير الخارجية التشيكي بجوار الرئيس مباشرة على يساره تجننت إيه اللي حصل..

ثم اتضح أن أحد الأمناء وجد أن المكان الموجود فيه المائدة الرئيسية حار جدا فأحضر مروحة والهواء طير كارتين ولما أعاد السفرجي وضعها أخطأ استدعاني المرحوم الرئيس وقال لي:إيه إلي حصل إيه الخبطة اللي حصلت في الجلوس إمبارح.

فقلت له: أبدا يا أفندم ما فيش لخبطة أنا جالي مدير المراسم التشيكي وقال لي إن نائب الرئيس التشيكي يرجو أن يتناقش مع وزير الحربية أثناء العشاء لأنه أيضا وزير حربية فلبيت له طلبه.

وعندما عدت من مكتب الرئيس إلى مكتبي وجدت مفاجأة مذهلة وجدت مدير المراسم التشيكي في انتظاري فسألني عما حدث أمس فقلت له: أبدا لم تحدث لخطبة وزير الحربية طلب مني أن يجلس نائب الرئيس بتعكم بجواره فلبيت له طلبه لكي يتحدثا معا على صفقة السلاح أثناء فترة العشاء.

فقلـت له: هل رافقت المرحوم الرئيس في كل سفرياته ؟ فقال لي:طبعا هذا من صميم عملي ولكن سفريه واحدة بس لم أرافقه فيها كانت أول سفريه للرئيس كان مسافرا إلى مؤتمر باندونج ولكن المطار وفي آخر لحظة المرحوم جمال سالم قال للمرحوم الرئيس:

ما تشيب صلاح الشاهد معايا فوافق الرئيس ونزلت الشنط من الطائرة ولكن لما سافر الرئيس ووجدهم يسألون عن رئيس التشريفاتية في كل بلد ينزل فيها لكي يعملوا معه الاستعدادات الخاصة بالحفلات والتنقلات قرر الرئيس ألا يسافر بدوني قط بعد ذلك وقد كان جلست مع الرجل الذي عاشر عبد الناصر 18 عاما كاملة عمر طويل

تزوج خلالها بنات الرئيس فأشرف الرجل على حفلاتهن، وتزوج خلالها أيضا بنات الرجل فكان المرحوم عبد الناصر هو شاهد العقد لهن جلست معه حتى منتصف الليل.

نتجول بأبصارنا بين 126 صورة ولكل صورة قصة ولكن النوم داعب عيون الجل وهو يقاوم من باب اللياقة فأنا ضيفه وهو ملك البروتوكول في مصر صناعته الأدب فخجلت من نفسي وقمت على موعد لقاء آخر

لمحات من حياة الزعيم عبد الناصر

حديث أجراه الأستاذ محمد عويس

ونشرته القوات المسلحة يوم 28/ 9/ 1972

ما هي صورة عبد الناصر في حياته اليومية؟ وما هي اسعد لحظات حياته؟وهل كانت له كأي إنسان عادات خاصة وهوايات محببة إلى نفسه؟ باختصار ما هي ملامح صورة عبد الناصر الإنسان هذه الأسئلة وغيرها كانت مدار الحديث الذي تقدمه في السطو التالية مع واحد ممن عملوا مع عبد الناصر وعاشوا بالقرب منه قرابة 18 عاما أنه السد صلاح الشاهد كبير الأمناء برياسة الجمهورية.

كان موعد مع السيد صلاح الشاهد، في منتصف النهار بمكتبه في الطابق الأرضي من قصر عابدين وكنت حريصا من البداية على أن أكون مركزا أبعد تركيز أسئلتي فمدة المقابلة كما اتفقنا ستكون خمس عشرة دقيقة لأن كبير الأمناء كان مشغولا بإعداد خمس حفلات تقديم أوراق اعتماد بعض السفراء في اليومين التاليين..

ومع ذلك فقد تجاوز الحديث ما كان مقررا في زمنه.. واستمر الحوار لأكثر من ساعة فهو حديث الذكريات وأي ذكريات إن العمر الزمني لهذه الذكريات القادمة في السطو التالية يبلغ 18 عاما هو عمر مدة العمل التي اقترب فيها السيد صلاح الشاهد بالزعيم الراحل وعمل تحت قيادته فكان أول لقاء لصلاح الشاهد بالزعيم الراحل بعد يوم 26 يوليو 1952وبالتحديد بعد سفر الملك السابق فاروق ومغادرته البلاد وهنا ومن هذه النقطة يأخذ كبير الأمناء طرف الحديث ويقول:

في البداية كانت نظرتي إلى عبد الناصر هي النظرة إلى رجل ثائر والرجل الثائر بطبيعة الحال يتسم بسمات القوة والشدة ولكن هذه النظرة تغيرت بسرعة بل إنها تلاشيت ولم يعد أمامي سوى حقيقة عبد الناصر عبد الناصر الإنسان إنني كتبت كثيرا عن عبد الناصر وإنسانيته كلما لمستها فيه عن قرب طوال 18 عاما والحقيقة أنني لم أكن في يوم من الأيام رجل سياسة برغم منصبي هنا الذي مر عليه الآن 30 عاما فأنا بعيد كل البعد عن السياسة ومن هنا فقد درست عبد الناصر من الناحية الإنسانية التي لمستها فيه.

قلت لكبير الأمناء وكيف لمست في الزعيم الراحل هذا الجانب الإنساني.أجاب سيادته: الحقيقة أن هذا الجانب يحسه كل من يعمل مع عبد الناصر أنني أذكر في إحدى المرات أن مرضت ابنتي وأبلغوني بالتليفون أن حرارتها مرتفعة فقمت بطلب الدكتور ورجوته الذهاب إلى بيتي لفحص ابنتي ولكنني حين دخلت على الرئيس لاحظ أن شيئا ما يشغلني ويضايقني واستفسر عن السبب فأوضحت لسيادته ما حدث لابنتي .

وهنا قال لي: يا أخي إزاي تعرف تشتغل وبنتك عيانه.. روح أقعد معاها. وذهبت بالفعل إلى منزل ولم تمض دقائق إلا وعدد كبير من الأطباء أرسلهم الرئيس إلى بيتي لعلاج ابنتي

الحياة الخاصة

واتجهت بحديثي مع كبير الأمناء إلى ذكرياته عن الحياة الخاصة لعبد الناصر الحديث في عاداته .. حياته اليومية... اللون المحبب إلى نفسه.. الهواية التي يفضلها..

الرياضة التي كان يفضل ممارستها الهدايا التي كان يحتفظ بها والحقيقة أن الحديث هنا كان ظريفا ولم يتكلم صلاح الشاهد إلا بعد فترة تأمل وتفكير انتهزتها لأطوف بناظري فاحصا تلك الحجرة الكلاسيكية في كل شيء أثاثها ومفروشاتها لا يوجد فيها شيء حديث سوى جهاز تكييف الهواء ومع ذلك فهناك في أحد أركانها توجد المروحة القديمة ولم يدم تأملي طويلا فقد بدأ الرجل حديثه، قائلا:

كان الزعيم الراحل يحب الأكل الخفيف وكان يميل دائما إلى الملابس الداكنة اللون أما الكرافتان فكان يحب النوع المقلم.وما هو اللون الذي كان محببا إلى نفسه؟اللون الأصفر على ما أعتقد وبصفة خاصة في فوط الوجه، فجميعه خاصة كانت صفراء اللون في البيت أو المكتب أيضا كان يحب اللون الأبيض بالنسبة للقمصان.وما هي هواياته المفضلة؟كان يمارس لعبة التنس ويهوى لعب الشطرنج وكان يحب الاستماع إلى اسطوانات أم كلثوم.

وهل كان يحفظ في حجرة مكتبة بنوع من الانتيكات أو التحف أو الهدايا الخاصة؟الحقيقة أنه لم يكن يهوى تحفا معينة وكان فقط يحتفظ في جيبه بمصحف بسلسلة فضة أما الهدايا فإنه لم يكن يحتفظ بها بل كان يوزعها دائما وحين يتلقى هدية فإن أول من يدخل عليه تكون الهدية من نصيبه.

ثم يبتسم صلاح الشاهد ابتسامة خفيفة فقد تذكر شيئا طريفا في هذه المناسبة وعاد إلى الحديث قائلا: أذكر أن المستمر يوجين بلاك حين استقبله الرئيس بمكتبه أحضر له هدية ماكينة تصوير بولارويد تلتقط الصور وتحمضها وتطبعها في الحال وكنت أنا والأخ محمود الجيار نتصارع على من ستكون من حظه هذه الماكينة وبينما كنا نتناقش معا دخل أحد السادة نواب الرئيس المكتب وخرج من عنده وهو يحمل الماكينة...

وقصة طريفة أخرى أذكرها بهذه المناسبة فقد زاره في مكتبه أستاذ هندي من جامعة أمريكية وقدم له هدية طاقما من أقلام الحبر والرصاص الباركر ومكتوب على كل قلم اسم الرئيس ناصر بالإنجليزية وبعد أن رافقت الضيف إلى الخارج طلبني الرئيس وأعطاني الهدية ولكني قلت للرئيس..

أنها هدية زي قلتها فقال لي الرئيس يعني أيه فقلت إنني لا أستطيع استعمالها فهي تحمل اسم سيادتك فضحك وقال لي: طيب اشتري لك طاقم تاني وكمان خذ الطاقم الهدية وفعلا أعطى لي ثمن طاقم الباكر علاوة على الطاقم الآخر.

الموقف الصعب

كان من اللازم أن أتحدث مع كبير الأمناء.. عن مواقف صعبة صادفها في عمله مع الزعيم الراحل خاصة أن منصب كبير الأمن من المناصب الحساسة التي لا يسمح فيها بأدنى خطأ فالخطأ معناه على الفور أزمة دولية ولكن هل هناك بشر كما يقول صلاح الشاهد معصومون من الخطأ وفي هذه النقطة قال كبير الأمناء:

الحقيقة أن مهنتي شاقة للغاية بفعل الحساسية المفرطة في أداء واجباتها ولا تعجب بعد ذلك من أن 99٪ ممن يشغلون هذا المنصب في دولة العالم يموتون بالسكتة القلبية فالخطأ ونحن بشر غير مسموح به في مهنتنا وحين يحدث الخطأ فلا بد أن أقدم سببا معقولا للغاية يبرر الخطأ .. ويجعله صوابا المهم هو المبرر المعقول .. وستر ربك يا أخي..

الأبوة ونقطة الضعف

وعدت أسأل كبير الأمناء عن لمحات أخرى من حياة الزعيم قلت له ما هي بحق أسعد اللحظات في حياة هذا الرجل؟ قال صلاح الشاهد أنها بحق هي تلك اللحظات التي كان يقضيها مع أولاده ومن بعدهم حفدته وأكاد أقول نقطة الضعف التي كان يلين عندها عبد الناصر هي الأبوة والحنان الأبوي إننا حين كنا نقدم له أي طلب لأي شخص يرغب في علاج ابنه أو حفيده فإن كان يستجيب لهذا الطلب على الفور ودون نقاش حتى لو كان هذا الشخص عدوا له ... وهناك مئات الحالات أمر بسفرها إلى الخارج حين عرف أن الأب كان يريد السفير لعلاج ابنه.

هجر الأفراح بعد الهزيمة

وفي هذا المجال أذكر أنني دعوت سيادته لحضور فرح ابنتي يوم 20 فبراير 1969 ولكنه قال لي إنه اتخذ قرارا بعدم حضور أفراح منذ هزيمة يونيو 1967 ومع ذلك كان جميع نواب الرئيس والوزراء سيحضرون الفرح وفي هذا اليوم تصادف أن ابن أحد نواب الرئيس سيتزوج وطلب النائب من الرئيس الحضور ووافق الرئيس على الحضور تحت شرط أساسي وهو عدم السماح بالتصوير أو نشر الخبر في الصحف حتى لا أحس أنا شخصيا بضيق والأكثر من هذا أن والد العريس حين حاول تصوير الحفل بكاميراته الخاصة منعه الرئيس من ذلك وقد قال لي نائب الرئيس هذه الواقعة بتفاصيلها وفهمت من أعضاء هيئة الوزارة أن الرئيس طلب منهم جميعا الحضور ومشاركتي أفراحي مع ابنتي.

من ذكرياتي مع الصحافيين

كنا مجموعة ألف الود والحب بين قلوبهم لا يفترقون إلا قليلا من الليل وكانت الشهور الخمسة التي تقضيها الوزارة ببولكلي تزيد من ألفتنا ولقاءاتنا في ليل الإسكندرية الجميل.

كان يجمعنا السبق في الحصول على الأخبار ودراسة الحالة خاصة أثناء رئاسة المغفور له صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس للوزارة في عامي 1950، 1951 ويناير 1952 ثم التسلية البريئة الهادئة.

وكانت هذه المجموعة تضم أربعة أصليين أو في حكم المؤسسين لهذه الأخوية المرحوم الأميرالاي عميد محمد وصفي قائد حرس الوزارة والمرحوم الأستاذ عبد الحليم الغمراوي المحرر الأهرام والمرحوم البكاشي رشاد مهنا مساعد الأميرالاي وصفي والأستاذ عوض قنديل المحرر في المصري وكانت هذه الذكريات وكان ينضم إلينا في بعض السهرات الصاغ حسني شعير عضو مجلس الشعب الآن، والصاغ صلاح التاودي مدير فندق أطلس الذي كانا نقضي في منزله في جليمونوبولو ليالي لطيفة إذا أرادنا تغيير مكان السهرة وهو مسكن الأميرالاي وصفي.

وكان الأستاذ الغمراوي ينسلخ منا في كثير من الليالي ليقضي سهرات في فندق ناسيونال بالقاهرة أو أحد ملاهي الإسكندرية وكان يساعده في عمله بالإسكندرية الأستاذ ممدوح طه رئيس قسم الأخبار في الأهرام فيما بعد.

وكان الصراع بين الغمراوي وعوض قنديل على السبق في الأخبار حادا وكل يوم وكان الفوز في الغالب من نصيب عوض قنديل لكثرة عدد أصدقائه ومعارفه ومن رجال السياسة والوزراء ولأنه الابن الروحي للمرحوم محمود غزالي باشا رجل الأمن العتيد الوثيق الصلة بالسفارة البريطانية ووزير الزراعة في وزارة المرحوم نجيب الهلالي باشا مارس 1952 وبعد أن تزوج الدكتور زكي بعد المتعال شقيقة حرم غزالي باشا صار صديقنا عوض قنديل يحصل منه على رول جلسة مجلس الوزراء وينشره في المصري صباح يوم الجلسة ويشكو الغمراوي ولا من يسمع حتى أنني سمعت المرحوم عبد اللطيف محمود باشا يجب الصحفيين عقب إحدى الجلسات بأن المجلس بحث ما هو منشور في المصري.

ولما استطاعت الولايات المتحدة استصدار قرار من الأمم المتحدة بمشاركة بع الدول في حرب كوريا تحت علم الأمم المتحدة ودعيت مصر لهذه المشاركة حرصت الأهرام على إيفاد الأستاذ عبد الحميد الإسلامبولي صديق الدكتور محمد صلاح الدين باشا وزير الخارجية الإسكندرية يوم اجتماع مجلس الوزراء لمساعدة الغمراوي وممدوح طه.

وقد خرج الوزراء بعد الجلسة يعلنون أنه لم يتخذ قرار وأن المجلس سيعقد اجتماعا أخر لكن الموقف السياسي كان في درجة الغليان لأن الولايات المتحدة تحرص على تجمع أكبر عدد من الدول للوقوف إلى جانبها ضد الاتحاد السوفيتي في حرب كوريا.

وعند المساء اتصل بي المرحوم محمد وصفي قال لي إنه غير مقتنع بأن المجلس لم يتخذ قرارا خاصة وأن الاجتماع دام ثلاثة ساعات ونصف ساعة والمعروف أن النحاس باشا أب لجميع الوزراء فلا مجال للخلاف.

وبحثنا عن الغمراوي فلم نجد عنده جديدا وبحثنا عن عوض قنديل فلم نعثر عليه إلا الساعة الثانية عشرة والنصف حيث جاء يقول إن المجلس قرر الحياد في حرب كوريا والاعتراف بالصين الشعبية فصدق وصفي الخبر الأول ولكنه شك في الثاني لأنه يعلم من اتصالاته بالقصر الملكي الذي يحاول جذب مستر جيفرسون كافري سفير أمريكا إلى جانبه أن الملك لن يوافق على الاعتراف بالصين الشعبية

وستستجد في الموقف بين القصر والوزارة أزمة لا شك أن النحاس باشا حريص على عدم وجودها فقال عوض قنديل أن مصدره هو الدكتور زكي عبد المتعال باشا وزير المالية وأنه سمعه منه الساعة الثامنة مساء في مسرة للوزير مع قرينته على الكورنيش وأنه توجه إثر ذلك إلى مكتب المصري وكتب الخبر وسلمه للمرحوم محمود أبو الفتح فكان رأيه أن الخبر غير صحيح لأنه كان منذ ساعة مع صلاح الدين باشا وإبراهيم فرج باشا وقالا له إن المجلس لم يصدر قرارا.

فاقترح الصديق عوض قنديل أن يتصل زميله الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف المحرر بالأخبار الآن تليفونيا مع خاله وزير التموين مرسى فرحات باشا ويسأله سؤالا محددا هل أصدر المجلس قرارا بالحياد والاعتراف بالصين الشعبية.

وقد كان السؤال وكانت إجابة الوزير أن الخبر صحيح وعندئذ قال المرحوم محمود أبو الفتح للصديق عوض قنديل طيب هات الخبر أضيف على بعض الحواشي.

وصدرت المصري في الصباح بالخبر أما المندوب الخاص الأستاذ الإسلامولي فنشر أن المجلس اتخذ قرارا ولم يحدده وكان ما كتبه الغمراوي وممدوح طه أن المجلس سيعقد جلسة أخرى.

وفي ذات المساء كنت والصديق عوض قنديل ننتظر المرحوم محمد وصفي الذي جاءني بأن صديقه مستر سمسون ضابط المخابرات في السفارة البريطانية قال له هذه العبارة بالتحديد أثناء حديثهما إما أن تهدأ هذه المنطقة أو تضرب وتتحطم وكانت المفاوضات المصرية في حالة تعثر كامل.

وقال عوض قنديل إنه التقى بصديقه القديم المرحوم عوني عبد الهادي بك سفير المملكة الأردنية الهاشيمة مصادفة بعد ظهر هذا اليوم وكانا يسكنان ي غرفتين متجاورتين في فندق سان ستفانو ودعاه للأكل ال عاشوراء الملكية التي أرسلها قصر رأس التين إليه وبها النقود الفضية المعتادة بمناسبة مقابلته الملك فاروق في ذلك اليوم وأثناء حديثهما قال المرحوم عوني بك إنه عرض على الملك خدماته لدى السفارة البريطانية التي كان وثيق الصلة بها من أجل استئناف المفاوضات وأن الملك قال له لا تتعب نفسك وسنجعل الإنجليز يجرون وراءنا بعد أن جرينا وراءهم سبعين عاما.

وقال عوني بك لصديقنا إنه يشعر بالخطر على مصر وهي وطنه الثاني بعد فقد فلسطين وإنه ينصح بتنبيه الملك والنحاس باشا إل هذا الخطر واتفقنا على أن يبلغ صديقنا الأستاذ مرتضي المراغي بك محافظ الإسكندرية ليبلغ الملك ويخبرني لأبلغ النحاس باشا وقضينا سهرتنا على أحسن ما يكون الود والصفاء الصادق.

ولم يمض على ذلك أكثر من أسبوعين فيما أذكر حتى جاءنا الصديق عوض قنديل بخير جديد يروي فيه أنه كان جالسا مع المرحوم محمد أمين خليل وكيل وزارة الشئون الاجتماعية عندما دخل عليه سكرتيره السيد محمد عبيد وأبلغه أن الدكتور أحمد حسين وزير هذه الوزارة كان عائدا من جنيف حيث عقدت جلسات مؤتمر العمل الدولي على الباخرة أسبيريا التي كان عليها أيضا المحروم علي ماهر باشا وأنهم تفاهما على تخليص مصر من أزمتها مع أمريكا بمحاولة لزعزعة استقرار وزارة النحاس باشا وأن يستقيل الدكتور أحمد حسين وبعض أنصاره في الوزارة احتجاجا على تصرفات قيل إنها تمس نزاهة الحكم

فقال المرحوم محمد وصفي إنه يعلم أن هناك اتصالات بين السفير الأمريكي وعلي ماهر باشا وأن اتصالات الدكتور أحمد حسين برجال النقطة الرابعة الأمريكية معروفة وعلينا انتظار ما سيفعله الدكتور أحمد حسين.

وفعلا أعلنت أخبار اليوم استقالة الدكتور حسين وتمسكه بها رغم إلحاح النحاس باشا وبقيت الأزمة أياما والوزارة أياما والوزراء يعلنون رفض الاستقالة وإخواننا الصحافيون ينشرون تصريحات الوزراء.

وفوجئنا ذات صباح بأن الأهرام وأخبار اليوم تنشران قبولا الاستقالة بينما المصري تعلن استمرار الوزير وهو أمر غير الواقع.

وسألنا عوض قنديل ربما يكون لديه معلومات فقال إنه فوجئ بعد منتصف الليل بزميله موسى صبري وأحمد فهمي ابن أخت الأستاذ أبو الفتح يدخلان عليه غرفته في سان ستفانو ويطلان منه إبلاغ المصري قبول الاستقالة

والمعروف أن موسى صبري كان على علاقة وثيقة مع الدكتور أحمد حسين وأن أحمد فهمي انساق في هذا التيار وربما كان ذلك بموافقة الأستاذ أحمد أبو الفتح حيث إنه سال عوض قنديل في ذلك الصباح عن سبب تخلف المصري عن نشر خبر قول الاستقالة فقال له إنه عجب من حضور أحمد فهمي إلى غرفته في الفندق وكان يمكنه الوصول إلى مكتب المصري أ والاتصال بالقاهرة تليفونيا من الدور الأول في سان ستفانو.

وكان من بين مصادر صديقانا عوض قنديل وطني مصري هو الحارس الخاص للسفير البريطاني وكان يواليه يوميا بتفاصيل تحركات واتصالات السفير وكانت ال[[مصري تعلم ذلك وتدفع مكافأة شهرية رمزية وذات يوم جاء أحدهم ليقول للمرحوم وصفي إن الحارس التابع لك على صلة مريبة مع محرر في المصري فنهره وصفي وطرده من مكتبه. وكان صديقنا وثيق الصلة مع مستر تشابمان اندروز الوزير المفوض بالسفارة نتيجة صلاتهما مع غزالي باشا. وكان صديقنا يطلق على مستر تشايمان أن سكرتير لجنة الوفد في السفارة البريطانية نظرا لما كان يؤمن به من أن حكم الوفد هو أصلح حكم لمصر.

وكان واسع الصلات يحصل على الاختبار بسهولة نادرة وكان يستطيع قراءة أي ورقة على بعد يقرب من سنة أمتار وكنت كثيرا ما أحذر من يكون في مكتبي من المسئولين الذين يتصادف دخوله وهم عندي يعرضون بعض الموضوعات التي ستعرض على رفعة النحاس باشا فأسارع برفع ورقة مما أمامي وأقول له راجع في آخر الغرفة واقرأ ما فيها وكنت أقصد تنبيه ذلك المسئول.

وهو صديق قديمي للمهندس عبد المجيد بدر باشا وزير الشئون الاجتماعية في عهد السعديين وذات يوم دخل عليه في مكتبه وكانت أمامه مذكرة ستعرض على مجلس الوزراء بتعيين الاقتصادي الكبير المهندس أحمد عبود عضوا في المجلس الأعلى للعمال وكانت هناك معارضة في هذا التعيين كما كانت خلف مكتب الوزير مرآة فقرأ صديقنا الخبر ونشره وهاجت الوزارة.

وذات يوم وجدته مع عبد المجيد باشا وجاءنا المرحوم عبد الحليم الغمراوي وقال:

يا باشا أنت لسه بتعرف أخينا ده.. فرد عليه: هو الدم يبقى ميه والمعروف أنه ليست هناك أية صلة عائلية.وجاءنا صديقنا ذات يوم ليقول إن السفارة البريطانية تجرى اتصالات مع المرحوم أحمد نجيب الهلالي باشا بوساطة مستر كريزويل الوزير المفوض الذي خلف تشايمان اندروز بعد فشل المفاوضة مع النحاس باشا.

فقال المرحوم وصفي إن لديه تقريرا بأن مستر كريزويل زار نجيب باشا في منزله بالمعادي وكان يرافقه في سيارته الأستاذ على أمين أحد صاحبي أخبار اليوم رحمه الله

وكانت تجمعنا رابطة حبنا لزعيم الديمقراطية والحريات المرحوم مصطفى النحاس باشا لكن صديقنا كان متحازا بسبب وفائه النادر لوالده الروحي محمود غزالي باشا الذي زكي ترشيح الهلالي باشا لخلافة النحاس باشا لدي السفارة بعد فشل المفاوضة وعمل ما وسعه الجهد لذلك وكذلك بسبب صلاته الإخبارية على الأقل مع وزير المالية الدكتور زكي عبد المتعال المحسوب على الهلالي باشا.

وكان وقتذاك المحرر السياسي لمجلسة مسامرات الجيب، فوجه سياستها اتجاها هلاليا وضد رجال القصر أثناء تحقيقات الأسلحة الفاسدة وظهرت في المجلة نغمة هجومية ضد فؤاد سراج الدين باشا كان يعتز بها الدكتور زكي عبد المتعال ويرتاح لها الهلالي باشا.

وذا مساء فوجئت بصديقنا أمام فؤاد باشا في سان ستفانو وهو يقول له: أنا مانش عارف مجلة وفدية تتقلب على الوفد بالشكل ده إزاي. وكان صديقنا قد أصبح محررا في البلاغة الوفدية التي يشرف عليها فؤاد باشا وكان اختياره هذا يرجع إلى قدرته الإخبارية النادرة.

ولما انتهى من حديثه مع فؤاد باشا سألته عن الموضوع فقال إن وزارة الداخلية منعت الإعلانات الحكومية عن مسامرات الجيب وإن الأستاذ عمر عبد العزيز صاحب المجلة شكا من هذا المنع وأثره على إيراد المجلة وأنه حدث فؤاد باشا في هذا المكان رده السابق.

وبعد أسبوع أبلغني أن فؤاد باشا كلف سكرتيره الأستاذ أحمد البديني بالإشراف على تحرير المجلة وأنه باشر العمل وأن صديقنا امتنع عن العمل فيها واقتصر على المصري والبلاغ

وقبيل الثورة بحوالي شهرين وبينما كنت والأميرالاي وصفي والبكباشي رشاد مهنا نتناول الشاي في حديقة فندق بوريفاج جاءنا يقول أنه تقابل مع المرحوم محمد محمود خليل بك رئيس مجلس الشيوخ الأسبق والذي ظل يحلم برئاسة الوزارة سنوات وأنه قال له إذا لم تحدث تغيرات جذرية في شئون هذا البلد وسياسته فستكون هناك حالة خطيرة لا يعلم إلا الله مداها وأن ذلك تضمن حديثا معه أرسله إلى البلاغ لنشره في اليوم التالي ونشر الحديث فعلا.

ويوم تأليف وزارة الهلالي باشا التي أعقبتها حركة 23 يوليو 1952 كنا في الدور العلوي من المنزل نتخذ الإجراءات لتشكيل الوزارة وكان معنا من الصحافيين الأستاذ علي حمدي الجمال والأستاذ الصديق عوض قنديل وباقي الصحافيين في الدور الأرضي وقال لي الهلالي باشا إن هيئة الوزارة ستكون هي الهيئة التي تولت الوزارة الأولى ما عدا محمود غزالي باشا وزير الزراعة الذي سيحل محله المرحوم حسين كامل الشيشيني

وقد سبق أن أوضحت قبلا مسألة تعين إسماعيل شبرين بك وزيرا للحربية ونظرا لأنني أحب غزالي باشا وأقدره كأنزه موظف في هذه الدولة ولأنه باع ثلثمائة فدان ورثها عن والده للوفاء بنفقاته العائلية وتربية ابنة زوجته وابنها وما تتطلبه اتصالاته العالية من نفقات رغم ألوف الجنيهات التي كانت تحت يده من المصاريف السرية وهو مدير الأمن العام لسنوات عدة خلال الحرب العالمية الثانية لهذا سألت الهلالي باشا عن سب ترك غزالي باشا فقال: لأنه طلب من حسن سري باشا أن يشركه معه في الوزارة التي أعقبت وزارتنا السابقة.

فانتهزت الفرصة وقلت لصديقنا إن غزالي باشا لن يدخل الوزارة فامتقع وجهه وسكت وبعد أن تم الهلالي باشا تعليماته إلي بشأن إعداد مراسيم التشكيل وأخذت أستعد لنزول سبقني صديقنا حيث التقى بزملائه الصحفيين وقال لهم إن الوزارة ستشكل بهيئتها القديمة ما عدا محمد غزالي باشا الذي اعتذر عن الاشتراك فيها وعندما التقيت بهم سألوني صحة الخبر فانصرفت عنهم بضحكة ونكتة.

وتبعني صديق وركب معي وقال إن غزالي باشا سيتصل به في فندق سيسل في الثامنة مساء ليعرف منه موعد حلف اليمين كي يسارع بالحضور من القاهرة وقال إنه سيرد عليه بأنه اعتذر عن الاشتراك في الوزارة وأن الصحف ستنشر ذلك في الصباح التالي.

وعندما تحرك الجيش في القاهرة ووصل الهلالي باشا والوزراء إلى بولكلي وتجمع الصحافيون لم أجد صديقي بينهم وكنا قد جازنا منتصف الليل فطلبته تليفونيا في فندق سيسل وأيقظته من نومه وقلت له .

أنت نايم والبلد في ثورة فقال: إذن تحقق كلام محمد محمود خليل ثم جاءني ليقول لي: أنت عارف إني ساكن في الدور الثاني، وقد طلبت الأسانسير فجاءني من أعلى ووجدت فيه الدكتور فؤاد صروف وقد غادر الفندق مسرعا.

وكان صديقنا متشائما غاية التشاؤم. ومن بعد ذلك لم يكن يحضر إلى الرئاسة في القاهرة إلا لماما وانشغل صديقنا المرحوم محمد وصفي بما أبلغه به المرحوم علي ماهر باشا من أن هناك شكوكا لدى الضباط من اشتراكه في بعض عمليات الاغتيال التي قام بها رجال القصر، وفي مقتل مرشد الإخوان المسلمين. وتفرقت جماعتنا ووافى الأجل المرحوم وصفي حسبما ذكرت.

أزمة الرئيس محمد نجيب

وأثناء أزمة مارس 1954 والاعتداء على المرحوم الدكتور السنهوري وهتاف عمال النقل المشترك بقيادة صاوي أحمد صاوي ضد المحامين الجهلة والصحافيين الخونة الذين أيدوا الحرية والديمقراطية فوجئت بالصديق عوض قنديل والمرحوم على خليل اليرقاني وثالث لا أذكره وأن صديقنا يقول لي أنه سيعتصم في نقابة الصحفيين ويعلن الصيام حتى يجتمع رجال الرأي والحزبين لمناقشة الأوضاع التي وصلت إليها البلاد، وأيده في ذلك زميلاه وأعلنا مشاركته وغادروا دار الرئاسة وفي الصباح قرأت في الأهرام برقية يعلن فيها صيامه حتى يجتمع ذو الرأي ويقروا مستقبل الديمقراطية في مصر ولم يشاركه أحد من الصيام.

واتصل تليفونيا بالمرحوم أنبه وسألته إذا كان في حاجة إلى شيء فأجابني بأنه ترك له ما يلزمه من المال بكافية وقال له: عليك نفسك.واتصل به في النقابة وقلت له إنك لم تذكر الحزين فقال إن الزميل البير عمون سكرتير تحرير الأهرام حذفها وأنه يثق في تقدير هذا الزميل العزيز.

وكان أن أعيدت الرقابة على الصحف وعدل صديقنا عن صيامه وأصبح تحت رقابة صارمة من المباحث العامة بقيادة اللواء عبد العظيم فهمي وزير الداخلية فيما بعد.

أزمة نقيب الصحفيين1955

وكان العهد الجديد قد ألغى جدول الصحفيين العاملين، واستحدث جدولا جديدا للنقابة سنة 1955 وحدد شهر يوليو لانتخاب النقيب ومجلس النقابة الجديد، ورشح كل من الأساتذة جلال الدين الحمامصي، وحافظ محمود، وحسين فهمي نفسه لمنصب النقيب ونظرا لحب واحترام صديقنا للأستاذ الحمامصي حيث عمل معه في صحيفتي الكتلة، والزمان في الأربعينيات فقد كان الداعية له بكل جوارحه بين زملائه.

وجاءني صاحبي يقول إن المرحوم صلاح سالم وزير الإرشاد وزير الإرشاد دعاه مع زميله المرحوم محمد صادق عبد الكريم مدير مكتب صوت الأمة بالإسكندرية والذي يعاون صلاح سالم في الشئون السودانية بلونه المماثل للسودانيين وهددهما بإلغاء النقابة إذا لم ينتخب حسين فهمي نقيبا.

وإن المرحوم مصطفى القشاشي سكرتير النقابة العتيد اتصل به وقال له أن السيد محمود الجيار مرافق الرئيس والسيد وجيه أباظة يعملان مع السيد صلاح سالم على نجاح حسين فهمي.

وقال صديقي إن الذي أكثر في تأييد الحمامصي أنه هو الذي جاء بالسيد حسين فهمي إلى المجال الصحفي في أواخر عام 1947 في جريدة الزمان وأنه تردد إن صدقا وإن كذبا أن حسين كان من أحد عوامل الخلاف بين صاحب الجريدة والحمامصي الذي آثر ترك رئاسة تحرير الجريدة ليعمل في أخبار اليوم ولم أجد مجالا للتدخل من جانبي فسارع صاحبنا يقول إنه لا يمانع في الاستجابة لتهديد صلاح سالم، أو محمود الجيار أو وجيه أباظة ولكن على هؤلاء أن يفرجوا عن صبري أبو المجد الذي اعتقل لأنه نشر استفتاء في المصور ينتزع إلى الديمقراطية وأن عليهم أن يحضر صبري الجمعية العمومية.

وبعد انتهاء عملية الانتخاب وفوز حسين فهمي قال لي صاحبنا إن الليلة السابقة للانتخاب كانت كلها اتصالات تليفونية من مسكنه بين المرحوم مصطفى القشاشي ومحمود الجيار ووجيه أباظة، وأن حسين فهمي حضر الجمعية العمومية للنقابة صباح اليوم التالي متأبطا ذراع صبري أبو المجد.

وعلل اختيار حسين فهمي من المسئولين أن الموجة اليسارية كانت قد بدأت تسلل إلى الجهاز الأعلى الحاكم وأن الزميل حسين ركب إحدى هذه الموجات وأن الدعاية ضد الحمامصي كانت الدعوى بأنه أمريكاني.

وإن المرحوم صلاح سالم اتجه بالإخوة السودانيين هذه الوجهة فكلف المرحوم محمد نور الدين والأستاذ الدكتور أحمد السيد حمد الأمين المساعد للجامعة العربية الآن والدكتور محيي الدين صابر مدير المنظمة العربية للثقافة لأن وحسن جبيلي والطيب خبر زيارة السفير السوفيتي في القاهرة وتمت الزيارة فعلا.

المرحوم على زين العابدين حسني

وكان صديقنا العالم الفاضل ورجل المفاوضات المصرية الإنجليزية منذ الأربعينات حتى اتفاقية أكتوبر 1954 يتابع صداقتنا ويزيدنا من ورد وكرم أخلاقه وذات يوم جاءني وهو وكيل وزارة الإرشاد وقال أنه يريد الاستفادة من خبرة صديقه وصديقي عوض قنديل في الشئون السودانية وبينما نحن في حديثنا إذا يواجهنا واتفقنا وبدأ العمل في الحكومة وانتقل إلى وزارة الخارجية وعمل في سفارتنا بالخارج وبينما كنت أوصي عليه سفيرنا بالكويت الأستاذ أحمد لطفي متولي قال لي إنه أخ وأكثر من صديق ومرءوس له.

حركة التصحيح في 14 مايو 1971

وصباح الجمعة 4 مايو 1971 كانت إحدى البرقيات المبكرة في تأييد الرئيس السادات والدعوة إلى عودة الحريات موقعة من 16 صحافيا بنيهم صديقنا عوض قنديل واضطر مجلس النقابة الموالي المراكز القوى إلى التأييد بمسيرة إلى قصر القبة ولم يتمكن السيد رئيس أنور السادات من مقابلتهم وأناب الأخ محمد أحمد

المعاهدة مع الاتحاد السوفيتي

ويوم إعلان توقيع الرئيس أنور السادات والرئيس بودجورني على المعاهدة بين البلدين فوجئت بصديقنا في مكتبي بقصر القبة مع زميل الدارسة وصديق وصديقه الأستاذ أنور حبيب رئيس ديوان المظالم الآن والثورة بادية على وجه عوض قنديل وانفجر يقول ما هذا الذي حدث؟

أما كفانا ما كان من تسلط الشيوعيين حتى تفتن صداقتهم بمعاهدة إن الواجب يقضي بأن تظهر معارضة في الاتحاد الاشتراكي أو مجلس الشعب وكان حاضرا الفريق أول سعد الدين متولي كبير الياوران فابتسم ابتسامته العريض فقلت لصديقنا:

اسمع الرئيس أنور السادات من المستحيل أن يصبح شيوعيا أو مؤيدا للشيوعية وأن المعاهدة أبلغ رد على المؤامرة. عاوز تجرب نفسك روح اعلم حزب شيوعي وسنرى ما يحصل لك وضحكنا جميعا واطمأن صديقي المريض بالحريات والديمقراطية

الجمهور المصري تنفرد بخبر لا أساس له

إثر استقالة المرحوم نجيب الهلالي باشا كان المرحوم [[عبد الحليم الغمراوي]] وبعض الصحافيين ومنم مندوب الجمهورية المصري الأسبوعية وكانت ستصدر صباح اليوم التالي. وسألني الغمراوي عمن سيكون رئيس الوزراء فقلت إنه بهي الدين بركات باشا ولم يكن لهذا القول أساس من المعلومات ولكنها رمية لسان.

وفي المساء وكنا بالإسكندرية فوجئت بصديقنا المرحوم وصفي يقول إن ما قلته في الصباح على غير أساس صار الآن حقيقة حيث كلف الملك حافظ عفيفي باشا باستدعاء بهي الدين باشا من القاهرة وقال صديقنا عوض قنديل إنها منارة من كريم ثابت للضغط على حسين سري باشا والدكتور محمد هاشم باشا لتعيين كريم وزيرا وأن صديقه الدكتور هاشم والذي كان معه منذ ساعة متأكد م أن سري باشا هو الذي سيؤلف الوزارة.

وانفردت الجمهور المصري وحدها بنشر الخبر الذي لم يكن له أساس وقت أن سمعه مندوبها مني في بولكلي. ووصل بهي الدين باشا وقابل الملك وكلفه تشكيل الوزارة وعاد إلى فندق سيسل يستشير أحمد لطفي السيد باشا وطلب من عاملة التليفون بالفندق أن يتصل بمنزل بالقاهرة.

وسارع عوض قنديل وأعطي العاملة جنيها وصعد إلى غرفته وكلفها بأن تسمعه حديث بهي الدين باشا مع أسرته واستمع إلى الحديث وجاءني في المساء يقول لي إن زوجة بهي الدين باشا لم تكن بالمنزل وإن التي ردت عليه ابنته وكانت صغيرة فقال لها قولي لماما إنني كلفن بتشكيل الوزارة.فردت عليه وأخذت وزارة إيه يا بابافقال: رئاسة الوزارة يا بنتي مع السلامة.

الاحتفال بارتداء الغمراوي بدلة ملونة بعد اتفاقية 1954

لم أرى عبد الحليم الغمراوي طوال السنوات العديدة التي عمل فيها محررا في المصري أو الأهرام إلا وهو لابس بدلة وجرافت سوداء ولما سألته عن ذلك ذات يوم قال إنه لن يخلعها إلا عند جلاء الإنجليز عن مصر.

وفي أكتوبر 1954 وقعت اتفاقية الجلاء وكان الأستاذ الغمراوي قد جاوز السبعين في عمره فأحضرت له بدلة ملونة وجرافت ملون واحتفلنا في رئاسة مجلس الوزراء بالقاهرة بارتدائه البدلة الجديدة.

ثور يقتحم المجمع اللغوي

وذات صباح اقتحم دار المجمع اللغوي بشارع القصر العيني ثور هائج وأحضر المسئولون في المجمع بعض جنود المطافئ لربطه بالحبال وجزارين من المذبح لذبحه.

وكان المرحوم الغمراوي قد قضي أجله في الحياة وصار الأستاذ ممدوح طه بعده مندوب الأهرام في الرئاسة.

وعند علمي بخبر الثور دخل علي ممدوح فقلت له فيه ثور اقتحم المجمع اللغوي فضحك وقال نكتة حلوة فقلت له: حلوة إيه فيه ثور صحيح في المجمع.فظن الأمر هزلا من أمثال مداعباتي له.

وفي اليوم التالي صدرت كل الصحف بالخبر ما عدا الأهرام وجاءني صديقي يقول أنت بهزارك ضيعت علي الخبر وواجهت لوما في الجريدة برغم أنني رئيس قسم الأخبار.وعقدنا معاهدة ألا أنديه باسمه ولا باسم الذي اقتحم المجمع وإنما أدعوه تيتل.

رب ضارة نافعة

وكان صديقنا فاقد السمع وقتها ويستعمل سماعة ودخل علي في اليوم نفسه فحركت شفتي دون كلام ولما لم يسمع قال إن يظهر إن البطارية فاضية فأخذت منه السماعة بحجة شراء بطارية وبعد ربع ساعة سلمته السماعة على أنها أصلحت ثم حركت شفتي مرة أخرى فقال إنها لا تزال تالفة ولكن أنقذ الموقف جرس التلفون.

وذات يوم كان المرحوم علي ماهر باشا يحادث الصحافيين وهو جالس في سيارته وهم ينقلون تصريحه وصديقنا مراسم السماعة داخل السيارة وينقل تصريح رئيس الوزراء وفاجأته بقطع السلك فغضب لأنه لم يسمع التصريح. وكانت هذه الحادثة سببا في أنه أجرى عملية أعادت إليه السمع الطبيعي

هذه الذكريات

وأجدني قد أطلت في الحديث عن صديقي عوض قنديل وعذري أنها صداقة عمر طويلة ومشاركة في الصغير والكبير من الأخبار والأحداث.

وعندما فكرت في نشر هذه الذكريات أتجه ذهني إليه ولم يتحول إلى غيره وعندما جمعتها سلمتها إليه في بداية عام 1974 وذهبنا معا على صديق عمري الدكتور إبراهيم عبده واتفقنا على ترتيب الأحداث وفوجئت بخطاب من صديقي المنتدب للعمل في سفارتنا بالخرطوم يخبرني بأنه سينتهي من المراجعة قبل إحالته إلى المعاش يوم 9 ديسمبر 1974 ودعوته إلى الوطن.

ثم عاد ولكنني افتقدته تماما وفي الصيف الماضي أعلنت في صحيفة الأخبار فقد الصديق والذكريات ورجوته الاتصال بي.ومن بعد علمت أنه كان يقضي الصيفي في جمصة مع صديقه الشاعر العوضي الوكيل الذي نبهه إلى ما نشر في الأخبار.

وبعد الصيف جاء واقترح تعديلات وأجراها وتم إعداد الذكريات على هذه الصورة. واتجهنا إلى الصديق الفاضل الدكتور السيد أبو النجا المشرف العام على دار المعارف في فبراير الماضي ولقيت من وده ما تعودت وكنت أتوقع صدور هذه الذكريات في مارس الماضي لكن زحام المعمل في هذه الدار الكبرى حال بين تحقيق رغبتي ووقعنا العقد يوم 9 فبراير 1976 ورجونا أن يصدر الكتاب قريبا.

وفوجئت في أوائل ماس بيان الأستاذ فؤاد سراج الدين في الأخبار وفيه من الأحداث ما جاء في هذه الذكريات. وسارع الصديق عوض قنديل يشير على هذا الأمر ولما استفسرته أجابني بأنه يستشعر الخشية من أن يظن البعض أننا ركبنا الموجة مع هذا البيان خاصة وإن الأساتذة الموفقين العاملين مع عالم الإدارة القدير الدكتور السيد أبو النجا يرون أن الجانب الأعز في هذه الذكريات عن زعيم الحريات والديمقراطية مصطفى النحاس وسياسته الوطنية.

وإنه ليسعدني أن أساهم في إنصاف خليفة سعد زغلول الذي ودعه شعب مصر يوم 23 من أغسطس 1965 وداعا رائعا حارا.

استقالتي من الخدمة

في أوائل إبريل عام 1973 رجوت السيد أنور السادات أن يتفضل بقبول استقالتي من منصب كبير الأمناء لكي أتفرغ لكتابة ذكرياتي حيث أرى من واجبي أن أسجل للتاريخ ما سمعت وشاهدت خلال عملي تشريفاتي الرئيسة مجلس الوزراء وأمينا أول لرئيس الجمهورية ثم كبيرا للأمناء خلال واحد وثلاثين عاما وشهرين.

وفي يوم 5 من إبريل 1973 تفضل السيد الرئيس فأصدر أمره بقبول الاستقالة وفي يوم 14 من إبريل 1973 تفضل سيادته وأهداني وسام الجمهورية من الطبقة الأولى. وكنت الوحيد في تاريخ الوظائف الذي استقال وأهدى إليه مثل هذا الوسام الرفيع أو أي وسام آخر.