حقائق مسلسل الجماعة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حقائق مسلسل الجماعة

بقلم أ‌.د/ إبراهيم البيومي غانم


مسلسل الجماعة

يعبر مسلسل "الجماعة" الذي عرضته الفضائيات في رمضان الماضي أصدق تعبير عن "بؤس الدراما المصرية"، التاريخية منها والاجتماعية، وقد ذكَّرنا هذا المسلسل بكتاب قرأناه منذ زمن بعنوان:

"بؤس الفلسفة" لكارل ماركس، ولكن بالمقلوب، فماركس كان يدعو في هذا الكتاب إلى التغيير وتجديد النظر للعالم، أما وحيد حامد كاتب سيناريو "الجماعة" فيدعو إلى المحافظة على الوضع القائم، وتسليح المبارزين الجدد بسيوف قديمة في الصراعات الراهنة بين القوى السياسية المصرية.

مسلسل "الجماعة دراما تاريخية، وهو كأي عمل درامي له إيجابيات وسلبيات يختلف تقديرها باختلاف زوايا النظر إليه، والحبكة الدرامية في رأينا هي أهم الإيجابيات، والأرجح أن محصلتها النهائية ستكون في صالح الجماعة؛

لأن هذه الحبكة ستحبب الشيخ وجماعته للأجيال الجديدة من الشباب المتحمس، فالمسلسل أظهر لهم حسن البنا في صباه نشيطًا ذكيًّا، وفي شبابه قويًّا غيورًا يرتدي زي الجوالة، وأحيانا زيًّا حربيًّا، ويشرف على تدريبات شبه عسكرية، وفي أواخر أيامه رأوه مظلومًا محاصرًا، ومثل هذه القدوة يفتقدها الشباب في الواقع الراهن، ولن يقلل من ذلك كثيرًا أن السيناريست وحيد حامد أبكى الشيخ دون سند من حقائق التاريخ، وسيرة الرجل في حضرة بعض مسئولي الحكومة، وذلك ليظهره منهارًا ضعيفًا لا حول له ولا قوة، ومن ثم يخدش شخصيته "الكاريزمية"، ويزيح بعض البريق المحيط به.

وفي رأينا أن التركيز على انفصال الإسلام عن السياسة، وإدانة الجماعة و مؤسسها من هذه الزاوية بشكل منظم ورتيب عبر جميع حلقات المسلسل بلا استثناء، وكذلك التركيز على أحداث العنف، وتأصيل هذه النزعة عند الجماعة ومؤسسها، والإلحاح عليها في أغلب الحلقات، هما أهم رسالة إدانة وجهها المسلسل إلى الجماعة، دون أن يكون لديه أدلة موثوقة من أدبيات الشيخ والجماعة، ولا وقائع من سجلات الأحداث التي شهدتها مصر في الثلاثينيات والأربعينيات.

سنقدم في المقالات التي نبدأها اليوم أدلةً تاريخيةً من السجلات والوثائق الرسمية تبرهن على أن المسلسل من حيث صلته بالوقائع التاريخية الموثقة ضعيف جدًّا، وأن مضمونه الدرامي فقير جدًّا، وأنه قد ذبح التاريخ بسكين باردة، كان واعيًا بما فعل أم لم يكن.

الأستاذ وحيد حامد في برنامج "واحد من الناس" (16/9/2010) قال إن مسلسل "الجماعة" "أعاد للدراما المصرية مجدها"، والواقع أنه فوَّت هذه الفرصة، وجاء المسلسل الذي يتناول شخصية مؤسس الإخوان المسلمين، وتدور أحداثه في فترة من أخصب فترات تاريخ مصر الحديث سياسيًّا، وثقافيًّا، وفنيًّا، وأدبيًّا خلال الربع الثاني من النصف الأول من القرن العشرين، جاء فقيرًا شديد الفقر في مضمونه الدرامي ومشاهده التي تحاول أن تحاكي الواقع، إلى جانب أنه جاء مضطربًا في مساره التاريخي العام، وزاد على هذا أنه ألقى في روع كثيرين من مشاهديه أن الدراما باتت "في خدمة السلطة"، بدلاً من أن تكون في خدمة المجتمع، بالطريقة نفسها التي باتت بها "الشرطة في خدمة القانون"، بدلاً من أن تكون في خدمة الشعب.

من شاهد مسلسل "الجماعة"، وقرأ كتاب "حسن البنا: متى وكيف ولماذا" لرفعت السعيد، وكتاب "الإخوان والتنظيم السري" لعبد العظيم رمضان، وهما من ألد خصوم الجماعة ومنهجها الفكري، سيكون من السهل عليه جدًّا أن يكتشف أن أغلبية مادة السيناريو الذي كتبه الأستاذ وحيد حامد مأخوذة من هذين الكتابين،

وهما أسوأ ما في بضاعة رفعت السعيد وعبد العظيم رمضان، فهما لم يتركا مجالاً للشك في أن حسن البنا كان من جنس الشياطين، وأنه "رجعي" عتيد، وإن صح هذا وإن صح أيضًا ما ذهب إليه رفعت السعيد في كتاب آخر له عن أحمد حسين زعيم مصر الفتاة أنه "فاشي عنيد"؛

فمعنى ذلك أنه لم يكن أحد قلبه على مصر في الثلاثينيات والأربعينيات إلا "هنري كورييل" اليهودي مؤسس الحركة الشيوعية التي انتمى إليها عبد العظيم رمضان لفترة، ورفعت السعيد دومًا، على حد ما قاله صديقنا الماركسي المرحوم الدكتور أحمد عبد الله رزة.

وقوع وحيد حامد في أسر الكتابين المذكورين هو السبب الأساسي وراء كثرة الأخطاء التاريخية التي غص بها المسلسل، أما بقية قائمة الكتب والمصادر التي ظهرت يوميًّا في نهاية تتر المسلسل، فالأرجح أن الأستاذ وحيد لم يستفد منها إلا بأقل القليل، بما في ذلك كتابي المعنون "الفكر السياسي للإمام حسن البنا"، وبقية الكتب والمذكرات التي ذيل بها حلقات المسلسل.

لا تكمن مشكلة وحيد حامد فقط في أنه وقع أسير "رفعت السعيد"، و"عبد العظيم رمضان"، وإنما وقع أيضًا أسير رؤيته الأيديولوجية، وهو يكتب مسلسلاً دراميًّا تاريخيًّا، وكانت النتيجة أنه صوَّر "الجماعة" على أنها "ضد" على طول الخط، لقد أظهر الجماعة ومؤسسها في صورة "ضد" لكل شيء، حتى إنها صارت "ضد" ذاتها، وضد الإسلام، إضافة إلى ضديتها للمجتمع والدولة والقانون، وهذا غير معقول، ولا دليل عليه لا من وقائع التاريخ ولا من حقائق الواقع، فقط إنها لعنة "الأيديولوجيا" التي هي أعدى أعداء الدراما الناجحة، فهما ضدان لا يلتقيان:

"الأيديولوجيا" تنتمي لعالم "اليوتوبيا" غير المتحقق، والدراما تنتمي لعالم الواقع الإنساني المترع بالصراع بين الخير والشر، ولسنا نشك أن الأستاذ وحيد يعرف هذا الفرق جيدًا.

وقد وجدت في نفسي القوة والعزم على الكتابة حول ما قدمه المسلسل وما أثاره من جدل، بعد أن انتهى عرض جزئه الأول في شهر رمضان الماضي، وبعد أن استكملتُ مشاهدة بعض حلقات كانت فاتتني، وبعد أن قرأت أغلب ما أثير حوله في وسائل الإعلام والمدونات والمواقع الإلكترونية،

ودفعني للكتابة سببان:

السبب الأول:

هو أن الأستاذ وحيد حامد وضع عنوان كتابي "الفكر السياسي للإمام حسن البنا" ضمن قائمة طويلة من الكتب والمذكرات والبحوث التي من المفترض أنه قرأها، واستعان بها في كتابة سيناريو هذا المسلسل، وبعد أن شاهدت المسلسل وجدت أن مضمونه لا صلة له بمضمون كتابي، وتساءلت: لماذا إذا وضعه في قائمة مراجعه؟ هل فعل كما يفعل بعض طلابنا في الدراسات العليا عندما يزينون رسائلهم للماجستير أو الدكتوراه بعناوين مراجع لم يطلعوا عليها، أو اطلعوا ولم يستفيدوا منها، ويضعونها فقط للإيهام بالجدية والموضوعية؟.

والسبب الثاني:

هو واجبي في المشاركة في أداء الأمانة العلمية باعتباري باحثًا أكاديميًّا، وأن أشارك في تصويب بعض الأخطاء التي تناولها المسلسل، بشأن قضايا سبق أن أشبعتها بحثًا، وقرأتها في مصادرها الأولية، خاصة المقالات التي كتبها الشيخ نفسه (وإجمالي عددها 1030 مقالة منشورة في ثمانٍ من الصحف والمجلات التي صدرت في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي)، وكذلك رسائله ومذكراته والخطب والتسجيلات الصوتية وهي مجموعة ومنشورة، إلى جانب الوثائق الرسمية للجماعة من قوانين ولوائح تنظيمية، وسجلات ومحاضر اجتماعات ومؤتمرات دورية، ومحاضر تحقيقات رسمية في قضايا مختلفة، وتقارير أجنبية محفوظة في الأرشيف البريطاني المعروف اختصارًا بـ(F.O)، هذا فضلاً عن البحوث والدراسات الأكاديمية التي تناولت تاريخ الشيخ والجماعة في تلك الفترة، بما فيها قائمة المراجع التي أوردها الأستاذ وحيد في نهاية "تتر" المسلسل، وزيادة على كل ذلك، كان لي حظ فتح المكتبة الخاصة للشيخ حسن البنا أثناء إعداد دراستي الجامعية عنه سنة 1989 م، بعد أن ظلت مغلقة أربعين عامًا متواصلة، وقمت بجرد محتوياتها، وتصنيفها تصنيفًا عامًّا، وكتبت عنها دراسة وافية لم يقبل نشرها إلا المرحوم غالي شكري رئيس تحرير مجلة (القاهرة)، والدراسة منشورة في عددها الصادر في ديسمبر سنة 1993 م (ص18- 62).

الفكرة المركزية في فن "الدراما" هي أن الخير والشر يتواجدان ويتصارعان في النفس الإنسانية، وفي وقائع الحياة اليومية، وأنه لا دراما تقوم على الخير والنقاء فقط، ولا على الشر والفساد فقط، بل لا بد من هذا وذاك باعتبار أن الدراما هي أعلى مراحل التحقق الإنساني بخيره وشره في الواقع الاجتماعي.

والهدف الأساسي للفن الدرامي هو اكتشاف الطريق إلى الحرية، ومن ثم فإن الدراما بمعناها الصحيح لا بد أن تكون في خدمة المجتمع؛ ولكن مشكلة وحيد حامد في هذا المسلسل هي أنه وضع الدراما في خدمة السياسة والصراع حول السلطة، مشكلته أنه حوَّل الدراما إلى طريقة للتفكير بدلاً من أن تكون وسيلة للعمل من أجل الحرية، وهنا بالضبط فقدت دراما "الجماعة" وظيفتها الفنية في الدلالة على أنسب الطرق إلى الحرية.

الأستاذ وحيد أكد في مقالاته وحواراته حول المسلسل، أن الدراما لا تعني "غسل" الشخصيات من الذنوب، ونحن نوافقه على ذلك تمام الموافقة، ونرى أن معه الحق كله في قوله هذا؛ ولكن من الحق أيضًا أن الدراما لا تبيح للدراماتست أن يضيف من عنده سيئات أو ذنوبًا لم يرتكبها الشخص، ولا أن يحذف من حسناته ما يشاء، ووقائع المسلسل تؤكد أنه قد أضاف الكثير من السيئات إلى صحيفة حسن البنا، وإلى صحائف سيئات الجماعة، وحذف من حسناته وحسناتها الكثير أيضًا، وهو ما سنبرهن عليه إن شاء الله.


قصة النظام الخاص ودراما تقبيح الحسن

هدفان لا ثالث لهما، نشأ من أجلهما النظام الخاص سنة1939 على أرجح الروايات التاريخية: الهدف الأول هو مقاومة الاحتلال البريطاني في مصر، والثاني هو التصدي للخطر الصهيوني في فلسطين، وإزاحة أية عقبات قد تعترض قيام الجماعة بهاتين المهمتين.

هذا ما تشهد به وثائق تأسيس النظام، وسجلات أعماله، كما تشهد مذكرات كبار رجال الإخوان الذين انفصلوا عنهم والتحقوا بنظام عبد الناصر مثل الشيخ أحمد حسن الباقوري. وتشهد الوثائق أيضًا بأن بعض أفراده قد انحرفوا عن هذا التوجه الأساسي، وقاموا بارتكاب بعض الجرائم بدافع الحمية والشطط، وليس بدافع التوجيه والأوامر التنظيمية.

ولعل أكثر الصفحات غموضًا والتباسًا في تاريخ الجماعة، هي صفحة هذا "النظام الخاص". والغموض هنا ناتج عن "سرية" هذا التنظيم، من جهة، وفقدان الموضوعية في التأريخ له حتى الآن من جهة أخرى؛ سواء من جانب المتعاطفين مع الجماعة، أو من جانب خصومها، ونادرًا ما نجد دراسة محايدة حول هذا الموضوع الشائك.

اختار الأستاذ وحيد أن يقف خارج دائرة الحياد العلمي وغلبته نزعة تسييس التاريخ، وتسخيره في خدمة الدراما والأيديولوجيا، وهو يتناول قصة النظام الخاص، وقد صوَّر هذا "النظام" في المسلسل من الحلقة رقم 20 إلى الحلقة رقم 28 بصورة غير تاريخية، ونزعه من سياقه نزعًا؛

فأسقط كل مساهماته في القضية الوطنية المصرية، وقضية فلسطين، وأبقى فقط على قضايا العنف والاغتيالات التي تورط فيها بعض أعضائه دون أوامر من قيادته، وخلطها مع تلك التي تمت بأوامر واستهدفت الاحتلال الإنجليزي و الصهاينة في فلسطين ومصالحهم في مصر.

وأضاف على هذا الخلط جرائم لم تثبت سجلات القضاء تورطهم فيها مثل اغتيال أحمد ماهر باشا سنة 1945، ولو كانت ثمة شبهة في تورطهم باغتياله لما خلت منها أوراق الدعوى "محكمة الشعب" التي حوكم فيها الإخوان بتهمة محاولة اغتيال عبد الناصر، وقد اتهمتهم تلك الأوراق بكثير من الجرائم قبل الثورة وليس منها جريمة اغتيال أحمد ماهر (انظر: كتاب "محكمة الشعب" في جزئه الأول الخاص بمحاكمة محمود عبد اللطيف في قضية المنشية سنة 1954 م، فيه من ص34- ص38، سرد لجميع حوادث الاغتيالات والنسف والتفجير والأقوال التي نسبت للإخوان والجهاز الخاص قبل سنة 1952 م، ولا إشارة فيها لمقتل أحمد ماهر).

كان وحيد حامد أمينًا في عرضه لأهداف النظام الخاص في الحلقة رقم 20 من المسلسل وهي: شن حرب على الاستعمار البريطاني، وحماية الدعوة، وإحياء فريضة الجهاد؛ ولكنه أسقط مهمة أساسية وهي مواجهة الخطر الصهيوني، والمشاركة في الدفاع عن فلسطين.

وأغلب المصادر التاريخية تتحدث عن أن هذه المهمة كانت من الأسباب التي شجعت الشيخ والجماعة على تكوين جهاز عسكري مسلح إبان الحرب العالمية الثانية، خاصةً بعد أن ذاعت الأنباء عن استعدادات العصابات الصهيونية بالسلاح والتدريب لتنفيذ وعد "بلفور" فور انتهاء الحرب، وكذلك فإن وقائع تلك المرحلة وحوادثها ووثائقها تؤكد أن الاستعداد لمواجهة الخطر الصهيوني كان دافعًا لنشأة النظام العسكري للإخوان؛ وتشهد بهذا أيضًا محاضر التحقيقات في القضايا الكبرى وأهمها قضية السيارة الجيب، وسجلات محكمة الثورة، وسجلات محكمة الشعب، التي تلت قيام ثورة يوليو.

تشير الوثائق التاريخية إلى أن نهاية الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1939م توافقت مع نشوب الحرب العالمية الثانية في السنة نفسها، وأن الاتصالات بين الشيخ حسن البنا والحاج أمين الحسيني كانت قد توثقت، وعرف منه أن ما ينقص الفلسطينيين هو السلاح والمال والتدريب العسكري.

وكانت ظاهرة القمصان الملونة (الزرقاء للوفد، والخضراء لمصر الفتاة، والسوداء للحرس الملكي الحديدي) منتشرة في مصر رغم صدور قرار وزاري بمنعها سنة 1937 م، وكانت أطماع الصهيونية في فلسطين تتزايد، وكانت مواقف الحكومة المصرية ترتخي، وتلين.

هنالك نبتت فكرة تكوين قوة مسلحة لمواجهة هذا الخطر، إلى جانب الاستعداد لمواجهة الاحتلال الإنجليزي.

ولدينا ما نعتبره البيان التأسيسي للنظام الخاص، وهو عبارة عن رسالة رسمية وجَّهها البنا إلى رئيس الوزراء محمد محمود باشا سنة 1938 م، بمناسبة صدور الكتاب الأبيض البريطاني الذي كان يبحث عن طريقة لإخماد الثورة الفلسطينية؛ لأن غيوم الحرب العالمية كانت تتجمع آنذاك، وتريد بريطانيا أن تتفرغ لمواجهة هتلر وأطماعه.

وجاء الكتاب الأبيض مخيبًا لآمال الفلسطينيين، ومنحازًا للعصابات الصهيونية المعتدية، فوصفه الشيخ البنا في رسالته تلك بأنه "كتاب مشئوم"، وكتب- ما نعتبره مرة أخرى- البيان التأسيسي للنظام الخاص، فقال:

"منذ قامت الثورة الإسلامية في فلسطين والإخوان يسهمون مع جنود تلك الثورة الرائعة بأموالهم.. وكنا نحاول دائمًا أن نهدئ من ثائرتهم، آملين أن تصل الحكومات العربية لحل يحقق للمسلمين آمالهم وللعرب حقوقهم..

ولقد شجعنا على انتهاج سبيل التهدئة ما كنتم تصرِّحون به رفعتكم أن مصلحة القطر الشقيق تقتضي سير المفاوضات في جو هادئ، ولقد كنا متوقعين برغم ذلك أن الإنجليز واليهود لن يفهموا إلا لغة واحدة هي لغة الثورة والقوة والدم، ولكن تحاشينا أن نتعجل الحوادث حتى لا يكون لأحد حجة علينا، إن اضطرتنا الحوادث فيما بعد إلى أن نسلك السبيل الذي ترضاه ضمائرنا.

والآن (سنة 1938) وقد جاهر الإنجليز واليهود في كل أنحاء العالم، حتى يهود أمريكا التي تتخذ الحياد شعارًا لها في كل مشاكل العالم (لاحظ أنه يتحدث سنة 1938م)، الآن وقد جاهر الإنجليز واليهود المسلمين العداء، أصبح لزامًا على كل أخ مسلم أن يؤدي واجبه بما يرضي الله ورسوله، وبما يحفظ للإسلام كرامته، وللدين قداسته، ولذلك الجزء الطاهر من الوطن الإسلامي حريته".

وفي رسالة أخرى منه إلى الشعب الفلسطيني وهي طويلة جدًّا- ناقش خدعة التمييز بين معتدلين ومتطرفين (حرفيًّا كأنه يتحدث اليوم)، التي يمارسها الإنجليز ، وقال مخاطبًا الفلسطينيين:

"لا يكون متطرفًا من يطلب الحياة لنفسه، ولا معتدلاً من يطمئن للذبح" (مجلة النذير- العدد 15- السنة الثانية، 11 ربيع الثاني 1358هـ)؛ ذلك هو البيان التأسيسي للنظام الخاص، وكل الروايات التاريخية تؤكد أنه نشأ في سنة 1939 م أي بعد وقت قليل من تاريخ كتابته.

وقد عثرت في المكتبة الخاصة للشيخ البنا على نسخة من كتاب ابن الساعي المسمى "الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير"، ولاحظت أنه وضع خطوطًا في ص228 عند الفقرات التي تتحدث عن "نظام الفتوة" الذي ظهر في القرن السابع الهجري في زمن الناصر لدين الله،

وكان نظامًا حربيًّا يتكون من خلايا، بكل منها عشرة أفراد، وعليهم "عريف"، وعلى كل عشرة عرفاء نقيب، وعلى كل عشرة نقباء "قائد"، وعلى كل عشرة قادة "أمير"، وكان لهم زى حربي متميز، وقويت هذه التنظيمات لما ضعفت الدولة العباسية عن مواجهة الفوضى الداخلية والهجمات الخارجية.

وأغلب الظن أن التشكيل التنظيمي للنظام الخاص قد بدأ في ذهن الشيخ من تلك السطور، وكل المصادر التي تحدثت عن الهيكل العام للنظام الخاص تؤكد أنه لا يختلف كثيرًا عن تلك التنظيمات التي تحدث عنها ابن الساعي، وقرأها الشيخ البنا وعلم عليها بقلمه في نسخته الخاصة من الكتاب؛ ومن المؤكد أنه تأثر بظاهرة "القمصان"، وبضغوط الواقع وتحدياته، وأنه أيضًا طوَّر فكرة "الفتوة" وعدلها، وأضاف إليها..

وفي كل الأحوال لا يصح إغفال هذه الواقعة من قصة نشأة النظام الخاص.

أما المسلسل فقد أظهر قصة النشأة معزولة عن تلك الملابسات، وصورها على أنها رغبة عدمية في ممارسة العنف، وهذا غير صحيح، ومحض خيال، ولا صلة له بأصول كتابة الدراما التاريخية.

وثائق تلك المرحلة وقضاياها تشير إلى خطأ المسلسل في تصويره لدور النظام والأخطاء الفردية التي ارتكبها بعض أفراده، وأسقط وحيد حامد تمامًا دور النظام في قضية فلسطين، وأيده في ذلك بعض كتاب المقالات، وهنا سنورد مقتطفات من شهادات الحاج أمين الحسيني، مفتى فلسطين آنذاك، واللواء أحمد فؤاد صادق، واللواء أحمد المواوي وكانا قائدين لحملة الجيش المصري في حرب فلسطين سنة 1948 م، وكذلك شهادة الصاغ محمود لبيب، وكل هؤلاء كانوا من كبار الشهود في قضية السيارة الجيب وشهاداتهم تبين بعض معالم الحقيقة التاريخية لدور النظام الخاص في فلسطين.


شهادات تبين بعض معالم الحقيقة التاريخية لدور النظام الخاص في فلسطين

1- من شهادة الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين الأكبر آنذاك- في قضية السيارة الجيب:

س: هل كان لجماعة الإخوان المسلمين حركة مشاركة في حرب فلسطين؟

ج: الحاج أمين: نعم كان للإخوان المسلمين حركة مشاركة في حرب فلسطين منذ البدء، وقاموا بدعاية لها، ثم شاركوا بأنفسهم في سنة 1936 م في أثناء الجهاد هناك، وجمعوا أسلحة وذخيرة، وذهب فريق منهم إلى الجهاد هناك، واستمروا على ذلك يعنون بهذه القضية ويخدمونها بأنفسهم وبجهودهم وبكل ما يستطيعون حتى النهاية".

س: هل كان بعض رجال الهيئة العربية العليا (لإنقاذ فلسطين) كالمرحوم عبد القادر الحسيني أو غيره يستعينون ببعض الإخوان في جمع الأسلحة وشرائها؟

ج: نعم كان عبد القادر الحسيني بك وغيره يستعينون بالإخوان المسلمين في شراء الأسلحة والذخيرة، ويدفعون ثمن هذه الأسلحة.

س: هل تعرف أن من بينهم محمود الصباغ؟ (وهو عضو بارز في النظام الخاص وصاحب كتاب حقيقة التنظيم الخاص، وكتاب التصويب الأمين لما نشره بعض القادة السابقين، واعتمده وحيد حامد مرجعًا لمسلسله).

ج: نعم، قد كان أحد الذين كلفوا من قبل عبد القادر بك الحسيني وغيره لشراء الأسلحة...".

وتمضي التحقيقات على هذا النحو، وفيها تحدث الحاج أمين عن عزم الشيخ البنا إرسال عشرة آلاف من الإخوان إلى فلسطين ليشتركوا مع المجاهدين، وعن علم النقراشي باشا بأن الإخوان كانوا يجمعون السلاح لتزويد الهيئة العربية العليا لإنقاذ فلسطين، وأكد أن أهداف "المرحوم الشيخ حسن البنا والإخوان كانت لمصلحة المسلمين خاصة، ولخيرهم ولإنقاذهم مما هم فيه من ذل وبلاء، وقال:

"ولا أعتقد أنها تعمل أي شيء يخالف الشرع من العنف والقتل والإرهاب".. وختم شهادته بالرد على السؤال التالي:

س: ألم تفهموا من حديث النقراشي باشا أن الأسباب التي دعت حكومته للاستيلاء على أسلحة الهيئة العربية- التي كان يجمعها الإخوان- هي الخوف من تسرٌّب الأسلحة في حوادث داخلية بمصر؟

ج: لا، لم يذكر لي شيئًا من هذا (وعند انصراف سماحته حياه الإخوان أعضاء النظام الخاص في قفص الاتهام في قضية السيارة الجيب بالهتافات:

دماؤنا فداء فلسطين.. فلسطين عربية وستعود عربية). 2- من شهادة اللواء أحمد فؤاد صادق- قائد عام الجيش المصري في حملة فلسطين 1948 م: س: نريد أن نعرف رأي سعادتكم بصفتكم قائدًا عامًّا لحملة فلسطين عن موقف الإخوان المسلمين المتطوعين في هذه الحرب وفي ميدانها؟

ج: كانوا جنودًا أبطالاً، أدوا واجبهم على أحسن ما يكون.

س: هل يسمح الباشا أن يذكر لنا وقائع معينة تدل على البطولة؟

ج: نعم سمعت بعد وصولي لرئاسة القوات من قلم المخابرات العسكرية أن اليهود يبحثون دائمًا عن مواقع الإخوان ليتجنبوها في هجومهم، فبحثت عن حالتهم من الناحية الفنية وأمرت بتمرينهم أسوة بالجنود، ودخلوا مدارس التدريب، وأصبح يمكن الاعتماد عليهم في كثير من الأحوال التي تستدعي بطولة خاصة، مثلاً: أرسلتهم من دير البلح إلى ما يقرب من 100 كيلو إلى الجنوب لملاقاة الهجوم الإسرائيلي على العريش، فاستبسلوا وأدوا واجبهم تمامًا، واشتركوا أيضًا في حملة الدفاع عن موقع 86 في دير البلح، وأعطيتهم واجبًا من الواجبات الخطرة، فكانوا في كل مرة يقومون بأعمالهم ببطولة استحقوا من أجلها أن أكتب لرياسة مصر أطلب لهم مكافأة بنياشين، وذكر لبعضهم للشجاعة في الميدان، وبعضهم ذكر اسمه في الأوامر العسكرية، واتصلت بالحكومة في ذلك الوقت (حكومة النقراشي)، وطلبت منها مساعدة هؤلاء بأن يعطوهم أعمال (أعمالاً) عندما يعودوا ويعاونوا (يعودون ويعاونون) أسرهم، والحكومة ردت ووافقت وأرسلت تأخذ معلومات عنهم، وكان هذا تكريم الحكومة لهم.

س: هل نفذت الحكومة هذا الوعد؟

ج: ما أعرفش، ولكن عندما طلب مني اعتقالهم، رفضت، ووضعتهم تحت حراستي الخاصة.

س: هل زرتم معسكر الإخوان بفلسطين؟

ج: "كثيرًا".

3- من شهادة اللواء أحمد علي المواوي بك، قائد عام حملة فلسطين- قبل اللواء صادق:

س: عند دخول الجيوش النظامية أرض فلسطين بقيادتكم، هل كان فيها متطوعون من الإخوان المسلمين؟

ج: نعم، لأنهم سبقوا بدخولهم القوات النظامية.

س: هل استعان الجيش النظامي ببعض الإخوان لبعض العمليات الحربية أثناء الحرب كطلائع ودوريات وما إلى ذلك؟

ج: نعم، استعنا بالإخوان المسلمين واستخدمناهم كقوة حقيقية تعمل على جانبنا الأيمن.

س: ما مدى الروح المعنوية بين الإخوان المسلمين؟

ج: الواقع أن كل المتطوعين من إخوان وغيرهم كانت روحهم المعنوية قوية جدًّا وقوية للغاية.

س: هل تعرف عدد المتطوعين من الإخوان؟

ج: بلغ عدد المتطوعين من الإخوان وغيرهم ما يقرب من عشرة آلاف.

س: هل تعلم أن متطوعي مصر معظمهم من الإخوان؟

ج: أنا أعرف أن الإخوان كانوا أكثر من الفئات الأخرى.

- في شهادة الصاغ محمود لبيب، نجده يؤكد أن حكومة النقراشي فتحت لهم معسكرًا للتدريب في الهايكستب، وعينت لهم مدربين من الجيش المصري، وذلك تحت مظلة الهيئة العربية العليا لإنقاذ فلسطين التي كان يرأسها علوبة باشا، وكان صالح حرب وحسن البنا عضوين فيها، ونادت الهيئة بالتطوع، وكان أكثر المتطوعين من الإخوان المسلمين بنسبة 90%، وكان التسليح والتدريب يتمان بعلم الحكومة وتحت عينها وبصرها.

تلك بعض المشاهد والشهادات من قضية السيارة الجيب؛ ولكن الأستاذ وحيد حامد في المسلسل أظهر النظام الخاص في صورة شائهة، واختزله في صورة أداة مسلحة لممارسة العنف ضد الدولة وضد الخصوم السياسيين للجماعة وضد الشعب المصري أيضًا! ومثل هذا الصورة واهية الصلة بالحقيقة التاريخية.


وحيد حامد وتزوير علاقة الدين بالسياسة

ليس من حق منتقدي الأستاذ وحيد حامد أن ينكروا عليه إدراكه الخاص لانفصال الدين عمومًا والإسلام خصوصًا عن السياسة؛

ولكن أعتقد أن من واجبه هو أن يستمع ويحترم الآخرين الذين لهم وجهة نظر مختلفة، تؤكد ارتباط السياسة بالإسلام تحديدًا، وتشدد على أنه نظام شامل ومنهج حياة،

وهي صلب دعوى الإخوان ومؤسس جماعتهم، ومن واجبه أيضًا ألا يترك لأيديولوجيته الخاصة أن تتحكم في وقائع التاريخ، ولا أن يعطي لنفسه الحق في تغييرها أو اختلاق شيء منها.

ولكن ما حدث هو أن الأستاذ وحيد من أول المسلسل إلى حلقته الأخيرة ترك العنان لقناعته الخاصة بانفصال علاقة الإسلام عن السياسة؛ كي تهيمن على مجريات حياة الشيخ، وتحكم بالإدانة والتبشيع على الشيخ و الإخوان؛

لأنهم يخلطون- من وجهة نظره- الدين بالسياسة، ولهذا أظهرهم في المسلسل وكأنهم في أغلب الأحوال يرتكبون عملاً مؤثمًا، كونهم يهتمون بشئون السياسة والحكم ويدلون برأيهم فيها، ويعلنون مواقفهم منها، ولسنا نجادل الأستاذ هنا في خطأ أو صواب اعتقاده بانفصال الإسلام عن السياسة والحكم، فهذا اختيار فكري وموقف معرفي/ نظري، وليس هنا مجال مناقشته أو تفنيده.

ما نناقشه هو اتهام الأستاذ وحيد للشيخ وجماعته بأنهم يسعون لإقامة دولة دينية، ثيوقراطية، أو استبدادية، وأنهم ضد الدولة المدنية بل ومعادون لها، والإتيان بهذه التهمة على لسان النحاس باشا صراحة (أحمد راتب في الحلقة رقم 18 من المسلسل)، وهذه التهمة لا أساس لها من أفكار الشيخ، ولا من أفعال الجماعة، بل إن كل الوثائق الفكرية للرجل، والممارسات العملية للجماعة كانت ضد مثل هذا التوجه على طول الخط.

البنا في وثائقه الفكرية هو الذي قال:

"إن الإسلام قرر سلطة الأمة، وأكدها"، وأن من واجب الشعب مراقبة تصرفات الحكومة ومناقشتها الحساب، وأن على الحكومة أن تعمل لمصلحة الشعب، وتحترم الرأي العام، وأن "الأمة مصدر السيادة، وصاحبة السلطة" (مقالات ورسائل عديدة للبنا، منها مثلاً: مقالة بالجريدة الأسبوعية سنة 1936 م، وأعيد نشره بنصه في عدد 2 أبريل سنة 1946 م، ورسالة "إلى الطلاب" سنة 1939 م، مجموعة الرسائل ص313- 315)، وهو الذي قال وكرر القول:

"إن رجال الإسلام في كل عصر من عصوره إلى الآن لم يدعوا إلى أنفسهم سلطة أكثر مما يؤهلهم علمهم، ولم ينازعوا الأمر أهله بعضًا من الأيام.. فأين هذا من سلطان الإكليروس في أوروبا؟، وما ادعوه إلى أنفسهم من سلطان على قلوب الناس، وحياة الناس الدنيوية والأخروية" (مجلة التعارف العدد 4-9/3/1940م).

وهو الذي قال: "إن رجال الدين غير الدين نفسه" (رسالة نحو النور، ص86)، وإن قواعد نظام الحكم الإسلامي ثلاثة هي: مسئولية الحاكم، واحترام إرادة الأمة؛ لأنها مصدر السلطة، ووحدة الأمة، وأعلن موقفه وموقف جماعته من النظام النيابي الدستوري بعبارات واضحة، ومنها، "إن نظام الحكم النيابي الدستوري أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام، ونحن نسلم بالمبادئ الأساسية للحكم النيابي الدستوري باعتبارها متفقة، بل مستمدة من نظام الإسلام" (رسالة المؤتمر الخامس، ص192، 193)، وهو الذي أدان الخلافة العثمانية؛ لأنها لم تكن شرعية بالمعنى الكامل، "فكثير من الشروط كان مفقودًا فيها.." (مجلة النذير عدد 4- السنة الثانية 22 محرم 1358هـ).

وبناء على هذه الرؤية أُعلن "قبول الإخوان دستور 1923 م، وأن القواعد الأساسية له لا تتنافي مع الإسلام"، ولكن فيه بعض الغموض، وركز نقده على المفارقة بين نصوصه والممارسات الحزبية المتهرئة في ذلك الحين، (مقالة بمجلة النذير، بعنوان "القرآن والدستور"، عدد 31 السنة الأولى 11 من ذي الحجة 1357).

لم يلتفت مبدعنا وحيد حامد إلى شيء مما ذكرناه، وأصر إصرارًا غريبًا على اتهام الشيخ بأنه داعية دولة دينية "ثيوقراطية"، وراح يبحث عن أدلة على صحة اختياره الأيديولوجي هو أي وحيد حامد، الذي يفصل الإسلام عن السياسة وشئون الحكم، وهنا خرج مرةً أخرى عن منطق الدراما ووظيفتها التنويرية، فهو قد راح يؤكد عبر كثير من تفاصيل المسلسل أن الإخوان تحوَّلوا في أواخر الثلاثينيات من "جماعة دينية إلى جماعة سياسية واقتصادية لها طموح في الحكم"، ولكن هذه الدعوى غير صحيحة، ليس فقط لأنها مخالفة لوقائع التاريخ كما سنوضح، وإنما أيضًا؛

لأنها مخالفة لأصل الرؤية التي انطلق منها الشيخ البنا عن "الإسلام الشامل" الذي لا فصل فيه بين دين وساسة، أو مصحف وسيف، أو اقتصاد ومجتمع.

وعندما يقوم وحيد حامد بإدانة اقتناع الجماعة ومؤسسها بشمولية الإسلام وارتباط السياسة به، فإنما هو يقيم من نفسه ليس معارضًا لأفعالهم فقط، وإنما وصيًّا فكريًّا عليهم، وحارسًا لرؤية العلمانية لعلاقة الإسلام بالسياسة، مثل حراس الكهنوت الكنسي القديم، وهو قد فعل هذا وذاك، واضطرته هذه المهمة التي ليست له إلى أن يغير بعض حقائق التاريخ، أو يصورها في غير صورتها، وكان أهم أخطائه في هذه النقطة أنه تصور وجود مرحلتين في تاريخ الشيخ وجماعته:

مرحلة الجماعة الدينية، ومرحلة الجماعة السياسية، بينما وقائع التاريخ، وأصول الوثائق الفكرية للشيخ وجماعته تؤكد أن رؤية الإسلام الشاملة للدولة والمجتمع كانت واضحة منذ البداية الأولى لتأسيسه الجماعة، بل إنه ما فكر في تأسيسها إلا لأن الفهم الجزئي للإسلام لم يعجبه ولم يقتنع به!، وظلت معه إلى آخر نفس، ولم يراجع نفسه في أواخر حياته إلا في جدوى الجمع بين ممارسة الدعوة وممارسة السياسة في كيان تنظيمي واحد، وحتى هذه المراجعة أظهرها المسلسل بصورة خاطئة، عندما صور الشيخ وكأنه يندم على فهمه الشامل للإسلام، مرددًا في الحلقة الأخيرة "ولذلك خلق الله الندم".

ونحن مع المؤلف في أن الشيخ قام بالمراجعة، وهذه حقيقة تاريخية لا يمكن إنكارها، ولكنها كانت في جوهرها مراجعة وظيفية وليست معرفية، كانت حركية تنظيمية وليست أصولية عقائدية، وقد توقفت بموت البنا، وفشلت جماعة الإخوان المصرية في القيام بها منذ ذلك الحين إلى اليوم كي تميز مهمة القيام بالمشاركة السياسية، عن أداء مهمة الدعوة الإسلامية.

لم تبدأ جماعة الإخوان دينية، ثم تحولت سياسية طامحة للحكم، كما يصورها المسلسل، بل كانت من يومها الأول جماعة شاملة، تعمل في السياسة بمعناها الواسع الذي يتجاوز مجرد التنافس الحزبي على السلطة، مثلما كانت تعمل في الدعوة والإصلاح الاجتماعي، وكان التدرج سمة أساسية من سمات منهجها الحركي،

فانتقلت من الدعوة والتعريف بفهمها للإسلام، إلى جمع الأنصار وتكوين الكوادر، إلى خوض معارك الإصلاح والتغيير، بما فيها المعارك الحزبية والانتخابية، والقول بغير ذلك يساوي القول بأن الطفل حديث الولادة يجب أن يعدو فور ولادته، أو ما يساوي القول إن الجماعة في سنة 1928 م، أو 1930 م مثلاً كان عليها أن تنظم المظاهرات، وتخوض الانتخابات، وتواجه قوات الاحتلال الإنجليزي، وتعارض الملك، مثلما فعلت هذا وأكثر منه بعد ذلك بدءا من أواخر الثلاثينيات، وهذا ما لا يقول به أحد.

وفي نظرنا أن الجماعة ارتكبت خطأً تاريخيًّا، بإصرارها منذ بداية تكوينها على أنها لا تسعى إلى السلطة، ولا تتطلع للمشاركة في الحكم، وكأن مثل هذا المسعى سبة أو تهمة، ولا تزال سادرة في هذا الخطأ إلى اليوم، بينما هي منشغلة بقضايا الإصلاح السياسي والتغيير، تدفعه إلى الأمام حينًا وللخلف أحيانًا، الأمر الذي سهَّل على خصومها اتهامها باستمرار، بأنها تُظهر غير ما تبطن، وتستغل الدعوة الدينية لتحقيق مآرب سياسية.

لو رَجع الأستاذ وحيد حامد إلى سجلات التاريخ سيجد أن للجماعة نظامًا أساسيًّا/ قانونًا صدر سنة 1931 م، وفيه رؤية واضحة لشمول الإسلام للسياسة والحكم وجميع شئون الحياة، وأنها عقدت أربعة مؤتمرات عامة من سنة 1933 م إلى سنة 1936 م، بمعدل مؤتمر كل سنة، وكانت منتظمة، بينما كان الوفد أكبر الأحزاب عاجزًا عن عقد مؤتمره العام بشكل دوري، وسيجد في محاضر تلك الاجتماعات قرارات إنشاء شركات اقتصادية وإعلامية، ومشروعات للخدمة الاجتماعية، ومناقشات مستفيضة لقضايا السياسة والحكم في مصر، وقضايا العالم الإسلامي، وتحديد موقف واضح من الأحزاب السياسية، وتحديد وإعلان رؤية الجماعة من الأفكار القومية، والوطنية، والأخوة الإسلامية، وإعلان صريح برفض معاهدة سنة 1936 م، وإدانتها، والدعوة إلى إلغائها، في الوقت الذي كان حزب الوفد يسميها "معاهدة الشرف والاستقلال".

وسيجد مادة غزيرة تثبت أن الشيخ وجماعته أيدوا الثورة الفلسطينية الكبرى، ابتداءً من سنة 1936 م، وتقارير المخابرات البريطانية عن تلك الفترة تؤكد ذلك.

وسيجد الباحث الجاد أيضًا سلسلةً من المقالات كتبها الشيخ البنا آنذاك في إصلاح السياسة التعليمية في المدارس المدنية وفي الأزهر الشريف ومعاهده جريدةالإخوان المسلمون الأسبوعية أعداد سنة 1935م، وسيجد مقالات أخرى طالب فيها بتوحيد نظام القضاء، وإلغاء المحاكم المختلطة والامتيازات الأجنبية.

وسيجد كل ذلك مسجلاً ومنشورًا في أعداد جريدةالإخوان المسلمون الأسبوعية من عددها الأول بتاريخ 21 صفر1352هـ / 15 يونيو 1933م إلى عددها الأخير بتاريخ 12 رمضان 1357هـ/ 4 نوفمبر 1938 م، وهي بالمناسبة محفوظة في دار الكتب المصرية بكورنيش النيل).

ليس وحيد حامد هو أول من اخترع دعوى تحول الإخوان من جماعة دينية إلى جماعة سياسية جديدة، ولا حتى رفعت السعيد، ولا عبد العظيم رمضان، ولا غيرهم من المؤرخين اليساريين، أو العلمانيين خصوم الشيخ وجماعته، فأول ورود صريح لهذه الدعوى جاء في حوار نشرته مجلة (المصور) بتاريخ 2 مايو 1947 م مع الشيخ حسن البنا، وقد فند الشيخ الدعوى بقوله "إن الإخوان يرون العمل بالسياسة "أداء للواجب الوطني الذي يفرضه الدين".

ثم ظهرت الدعوى نفسها بعد أقل من عامين من حوار (المصور) معه، وذلك في نص المذكرة التي كتبها عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية؛ ليبرر قرار الحاكم العسكري بحل الجماعة في ديسمبر 1984 م (المذكرة منشورة في ملاحق الجزء الأول من كتاب:

"محكمة الشعب"، (1954 م) إعداد كمال كيرة، طبعة شركة النيل، ب. ت. ص218). وتناقلتها أقلام المؤرخين والكتاب منذ ذلك الحين إلى اليوم.

اللافت للنظر أن تهمة التحول من جماعة دينية إلى جماعة سياسية ترددت بكثرة أيام البنا نفسه، ورد عليها الشيخ البنا بنفس القدر في حينها، ولا يزال كل فريق متمسكًا برؤيته، ولم يتقدم الحوار حول هذه القضية خطوة واحدة إلى الأمام منذ ما قبل ثورة يوليو إلى اليوم، ومسلسل الجماعة أعاد إنتاج القضية من جديد دون أن يقدم حلاًّ.

إن إصرار وحيد حامد في مسلسله على مقولة تحول الإخوان من جماعة دينية إلى جماعة سياسية، هو عمل أيديولوجي بحت، ولا صلة له بالدراما ولا بحقائق التاريخ ووثائقه المنشورة، ولا بالرؤية الفكرية للجماعة ومؤسسها، وبذلك أعطى الأستاذ وحيد لخصومه من الإخوان، والرعونة تغلب على بعضهم الفرصة لاتهامه بأن هدف المسلسل هو صناعة صورة انتهازية بشعة للشيخ وجماعته؛ كي ينفر الجمهور منها (راجع مثلاً حوار سراج الدين باشا مع الشيخ حسن البنا في الحلقة رقم 23 من المسلسل؛ حيث يورد السيناريو على لسان البنا كلامًا مختلقًا، يؤكد أن جماعته دينية وهم رجال دين وفقط، وأن جماعته هي جماعة المسلمين، والخروج عليها هو خروج على الإسلام،..إلخ)، ومثل هذه الدعاوى ليس لها سند فكري ولا تاريخي صحيح، وخطورتها على الأجيال الجديدة أنها دعاوى تؤدي إلى تشويه التاريخ، وتشتيت الفكر، ولا تسهم في ترسيخ تقاليد قوية ومنطقية للحوار ومبادلة الحجة بالحجة.


وقع وحيد حامد أسيرًا لإغواء "الدولة المدنية"

بمعنى محدد يجعلها مرادفًا للدولة "العلمانية" التي تفصل الدين عن السياسة، وراح يردد حجة من أوهى الحجج التي يرددها علمانيو أيامنا هذه، تقول إن "السياسة تفسد الدين، والدين يفسد السياسة".

وهذا القول يثير أكثر من تساؤل في أذهان كثير من الشباب مفاده:

إذا كنا نتحدث تحديدًا عن الإسلام، وإن صح أن السياسة تفسده، فكيف يصح في الأذهان أنه يفسدها هو؟ وإذا كان الفساد كامنًا في سوء استخدام السياسيين للإسلام، فأين بالضبط يكمن الفساد القادم من جهة الإسلام؟! وبعيدًا عن هذه المعضلة التي تكشف تهاوي هذه الحجة وتناقضها المنطقي، فقد اعتدى وحيد حامد على أصول الدراما التاريخية بهذه المناسبة، وفي مناسبات أخرى، سنذكرها عندما وضع هذه الحجة على لسان أناس لم ينطقوها، ولم تكن من مفردات ثقافتهم، ولا من قضايا أيامهم.

وضعها تارة على لسان النحاس باشا والوفديين عمومًا، باعتبار أنهم كانوا يتهمون البنا بأنه "ضد الدولة المدنية" (في الحلقتين 17 و18 مثلاً)، وتارة على لسان الشيخ طنطاوي جوهري (الحلقة 18). الصورة التي ظهر بها النحاس باشا وسراج الدين باشا في المسلسل تبرهن على أن وحيد حامد قد خرج من ساحة الدراما التاريخية، إلى الدراما غير التاريخية، أو الاصطناعية التي يكون فيها للمؤلف الحق في السير وراء خياله الفني والإبداعي؛ لتوصيل رسالته التي يدافع عنها، وليس لتقديم وقائع تاريخية تبدأ بقراءة الوثائق، ولا تستبيح تجاوزها إلا لضرورات فنية بحتة.

فليس في سيرة النحاس أو سراج الدين ما يشير إلى أنهما كانا أرعنين، فاقدي الأعصاب، أو مزدريين للآخرين، كما صورهما وحيد في الحلقة رقم 18 مثلاً، وأغفل وحيد حامد أو إنه لم يعلم أن النحاس باشا كان يحترم البنا، قبل أن يراه، وأنه عندما زاره في منزله ب[:تصنيف:إخوان الأسكندرية|الإسكندرية] في صيف سنة 1936 م بمناسبة مطالبة حكومة محمد توفيق نسيم باشا بأن تعتني بالتعليم الديني في المدارس المصرية، ظنه النحاس "أحد العمد" الذين يتألف منهم الوفد الذي زاره!. ثم كانت الزيارة الثانية في فندق مينا هاوس، بناءً على طلب النحاس بمناسبة ترشح الشيخ للانتخابات في الإسماعيلية سنة 1942م، وقابله بكل احترام وتقدير كما تقول الصحف آنذاك.

وعندما أمر النحاس بإغلاق شعب الإخوان في كل أنحاء البلاد ما عدا المركز العام تحت ضغط السفارة البريطانية، تذرع الإخوان بالصبر، ولم يمض أكثر من ثلاثة أشهر حتى راجع النحاس نفسه، وأرسل وفدًا وزاريًّا من حكومته لزيارة المركز العام للإخوان، وحضر إلى دار الإخوان كل من:

معالي فؤاد سراج الدين باشا وزير الزراعة، ومعالي عبد الحميد عبد الحق وزير الشئون الاجتماعية، ومعالي محمود سليمان غنام وزير التجارة، ومعالي أحمد حمزة وزير التموين، والأستاذمحمد صلاح الدين، سكرتير مجلس الوزراء، وتحدثوا بكلام طيب، وأعلنوا تأييدهم لفكرة الإخوان الإصلاحية، وبادلهم المرشد العام التحية، وعادت المياه إلى مجاريها، كما نقلت صحف ذلك الوقت ومنها صحيفة (الإخوان) النصف شهرية بتاريخ 12 يونيو 1943 م، وفيها أيضًا نص كلمة الشيخ حسن البنا بمناسبة زيارة وزراء الوفد دار الإخوان، ومما ورد في كلمته تأكيده على شمول الإسلام للسياسة وغيرها، وخصائص منهج الجماعة التدريجي في الإصلاح، وعدم تحزبهم لا للوفد ولا ضده، وترحيبه بتصفية الأجواء والخلافات مع الوفد...إلخ).

هل ثمة ضرورة فنية درامية لحذف مشهد زيارة رجال الوفد ووزرائه في المسلسل للمركز العام للإخوان؟ أليس هذا مشهدًا رائعًا في دلالته على انفتاح الوفد، وليبراليته، مثل دلالاته على احترامه لخصومه السياسيين؟. أليس في إحياء مشهد كهذا عبر دراما الجماعة ما يسهم في رأب الصدع الحاصل بين حزب حاكم وجماعة شعبية، أم أن هذا ليس من أهداف الدراما التاريخية؟!. وما هدفها إذن؟.

وحيد حامد وهو يدافع عن مفهومه للدولة المدنية استباح أيضًا في مسلسله تاريخ الشيخ طنطاوي الجوهري وشوهه عندما وضع على لسانه مقولة أن "السياسة تفسد الدين والدين يفسد السياسة"، وهو ما لا أثر له في مؤلفات الشيخ طنطاوي، ولا في سيرته، ولا في أي بحث كتب عنه إلى اليوم.

اهتم المسلسل بإلصاق تلك المقولة للشيخ طنطاوي، بينما أهمل الأهم وهو أن الشيخ رحمه الله كان عضوًا بالجماعة، وكان أكبر من الشيخ حسن البنا سنًّا، وأكثر علمًا ومقامًا لكنه بايعه، ورفض أن يتولى منصب المرشد العام عندما عرضه عليه البنا في بدايات تأسيس الجماعة، وتولى رئاسة تحرير أول جريدة للإخوان هي "الجريدة الأسبوعية" مدة خمس سنوات، منذ عددها الأول في 21 صفر 1352هـ إلى عددها رقم 21 من السنة الخامسة، وأغلقت بعد أن صدر العدد رقم 31 من السنة نفسها 1937 م، وكان الشيخ طنطاوي يلقب بـ"حكيم الإسلام"، وظل على رأيه إلى أن لقي وجه ربه، وهو يدعو إلى إقامة الحكم الإسلامي على أساس الشورى، ويدعم أطروحات الشيخ البنا في أن الإسلام دين وسياسة (انظر مقالات الشيخ طنطاوي الافتتاحية بجريدة الإخوان الأسبوعية ومقالاته في صحف ومجلات أخرى، منها مجلة المعرفة الجزء التاسع السنة الأولى/ 1932 م، بعنوان "الخلافة الإسلامية"، وفيها أكد أن الشورى أساس نشأة الخلافة، ويجب أن تظل الخلافة محكومة بها لا حاكمة عليها، وأن ما وقع من انحرافات في تاريخ الخلافة إنما كان عقابًا على ترك الشورى المنصوص عليها في القرآن".


المزيد من دراما تقبيح الحسن

نظلم وحيد حامد لو قلنا إنه أنهى صورة النظام الخاص وقضية السيارة الجيب على هذا النحو الشائه، الذي ظهر في المسلسل ولن يرجع إليه، فقد يتناول في الجزء الثاني بقية القصة، خاصة أن التحقيقات في قضية السيارة الجيب استمرت سنتين وبضعة أشهر، منذ نهاية عام 1948 م، وانتهت وصدر الحكم فيها نهائيًّا بتاريخ 17 مارس 1951 م، ونص الحكم وحده يقع في 224 صفحةً من ورق الـ"فولسكاب".

فقد نرى مثلاً في حلقات الجزء الثاني مشاهد من المحاكمات فيقضية "الجيب" لأولئك الشهود، الذين ذكرناهم وهم ينصفون الجهاز الخاص والشيخ والجماعة، وقد يأتي وحيد حامد بمشهد ختامي لتلك المحكمة والقاضي ينطق بالأحكام على المتهمين أو يعرض بعض حيثيات الحكم الذي أصدرته، من يدري؟ وقد نرى إبراهيم عبد الهادي، الذي اغتيل الشيخ البنا في عهده، وأظهره المسلسل رجلاً حريصًا على أمن مصر ومصلحة الشعب، واقفًا أمام محكمة الثورة برئاسة عبد اللطيف البغدادي سنة 1953 م، ونسمع الاتهامات التي وجهت إليه وحكم عليه بسببها بالإعدام، ثم خفف للمؤبد، ومنها أنه أتى بأفعال من شأنها إفساد أداة الحكم، وذلك أنه في خلال عام 1949 م هيأ لأعوانه الأسباب، التي يسرت لهم قتل المرحوم حسن البنا، وعمل على تضليل التحقيق بقصد إفلات الجناة من العقاب؟ (ص64 من الجزء الأول من محكمة الثورة، أشرف على إعداده للنشر أمين حسان كامل).

وقد يأخذ الأستاذ في بقية أجزاء المسلسل بحكم القضاء الذي ميز بوضوح بين انحراف بعض أعضاء الجماعة، وبين أصولها الفكرية ورسالتها وتوجيهات قيادتها برئاسة الشيخ حسن البنا، وقد يقول كما قالت المحكمة: إن الجماعة "ترمي إلى تطهير النفوس..

وإنشاء جيل جديد من أفراد مثقفين ثقافةً رياضية عالية، مشرَّبة قلوبهم بحب وطنهم والتضحية في سبيله بالنفس والمال"، وكما قالت أيضًا: "ولما وجدوا أن العقبة الوحيدة في سبيل إحياء الوعي القومي في هذه الأمة هو جيش الاحتلال الإنجليزي الذي ظل في هذا البلد قرابة سبعين عامًا.. ولم تنته المفاوضات والمجادلات الكلامية إلى نتيجة طيبة، ثم جاءت مشكلة فلسطين وما صحبها من ظروف وملابسات. لما كان كل هذا، اختل ميزان بعض أفراد شباب جماعة الإخوان، فبدلاً من أن يسيروا على القواعد التي رسمها زعماؤهم عند إنشاء الجماعة، والتي كانت تؤدي حتمًا إلى تربية فريق كبير من الشعب وتثقيفهم وإعلاء روحهم المعنوية..

بدلاً من ذلك أرادوا أن يختصروا الطريق، ظنًا منهم أن أعمال النسف تبلغ بهم أهدافهم من سبيل قصير.. وحيث إنه من هذا تبين للمحكمة أن أفراد هذه الفئة الإرهابية لم يحترفوا الجريمة، وإنما انحرفوا عن الطريق السوي، فحق على هذه المحكمة أن تلقنهم درسًا حتى تستقيم أمورهم ويعتدل ميزانهم..

على أن المحكمة تراعي في هذا الدرس جانب الرفق، فتأخذهم بالرأفة تطبيقًا للمادة 17 عقوبات نظرًا لأنهم كانوا من ذوي الأغراض السامية التي ترمي أول ما ترمي إلى تحقيق الأهداف الوطنية لهذا الشعب المغلوب على أمره"، (انتهى ما نقلناه من الوثائق الرسمية للمحكمة في قضية السيارة الجيب).

وهل سنرى أيضًا هيئة المحكمة وهي تصدر حكمها ببطلان قرار النقراشي باشا بحل جماعة الإخوان، وتأمر باستعادة وضعها القانوني واسترداد كل ممتلكاتها، التي صودرت بموجب قرار الحل؟، وهي إدانة واضحة للإجراءات التعسفية لحكومتي النقراشي وعبد الهادي، اللتين هلل لهما المسلسل كثيرًا!.

قد يتغلب وحيد حامد المبدع الدرامي، على وحيد حامد الأيديولوجي المسيس، فيرسم تلك المشاهد في بقية المسلسل، فيسهم في تعريف الأجيال الجديدة ببعض حقائق تلك المرحلة من تاريخ مصر.. وأنه سيحترم نفاذ بصيرة المحكمة، التي دققت في تفاصيل القضية؛ لأنها لم تستسلم للاتهام، الذي كان موجهًا إلى الجماعة برمتها في قضية السيارة الجيب، وهو أنها تسعى إلى قلب نظام الحكم، وأن الأداة التي أعدوها لهذه الغاية هي جماعة إرهابية سميت "النظام الخاص"، وقالت المحكمة بالحرف الواحد:

"وهذا الذي صوَّره الاتهام فيه خلط بين أمرين:

الأول التدريب على استعمال الأسلحة وحرب العصابات، والأمر الثاني ذلك الاتجاه الإرهابي، الذي انزلق إليه بعض المتطرفين من أفراد تلك الجماعة، وكان من أثر هذا النظر أن انتهى الاتهام إلى القول بأن النظام الخاص بجملته نظام إرهابي؛ وحيث إن المحكمة ترى التفرقة بين الأمرين، فالنظام الخاص يرمي إلى إعداد فريق كبير من الشباب إعدادًا عسكريًّا تطبيقًا لما دعا إليه مؤسس هذه الجماعة في رسائله المتعددة من أن الأمر أصبح جدًّا لا هزل فيه، وأن الخطب والأقوال ما عادت تجدي، وهذا الإعداد إنما قُصد به تحقيق ما ورد صريحًا في قانون الجماعة من أن من بين أهدافها تحرير وادي النيل والبلاد الإسلامية، وهذا النظام الخاص بحكم هذا التكوين، لا يدعو إلى الجريمة، ولا يعنيه أن فريقًا من أفراده كونوا من أنفسهم جماعةً اتفقوا على أعمال القتل والنسف والتدمير".

ومما قالته المحكمة في حيثيات حكمها بالحرف:

"وحيث إنه مما يدل على أن النية لدى أفراد هذا النظام الخاص كانت متجهة إلى مقاومة جيش الاحتلال بعد ما ضبط في السيارة من أوراق، ومنها أوراق تحض على أعمال الفدائيين، أُشير فيها إلى أن الصداقة البريطانية المصرية مهزلة، وأن الإنجليز يظنون شعوب الشرق مسالمة ساذجة، ثم تحدث كاتب هذه الأوراق عن التدريب على استعمال زجاجة "مولوتوف"، وعرقلة المواصلات، وتعطيل وسائل النقل الميكانيكية والقوات المدرعة، وانتهى إلى القول في صراحة إنهم إنما يقاومون العدو الغاصب، كما جاء في أوراق أخرى ما يدل على هذا الاتجاه".

ثم قالت المحكمة: وحيث إن أثر هذا التدريب الروحي العسكري قد ظهر عندما قامت مشكلة فلسطين، وأرسلت الجماعة الكثير من متطوعيها للقتال، إذ شهد (بذلك) أمام المحكمة كل من اللواء أحمد بك المواوي القائد الأول لحملة فلسطين، واللواء أحمد فؤاد صادق باشا الذي خلفه بما قام به هؤلاء المتطوعون من أعمال دلت على بسالتهم وحسن مرانهم".

قارن الآن بين ما أوردته تلك الوثائق الرسمية الحكومية وحكم المحكمة عن النظام الخاص وحقيقته وقضية السيارة الجيب، وما جاء في حلقات مسلسل الجماعة لوحيد حامد، وستكتشف بسهولة أنه أخذ مادته من تقارير الأجهزة الأمنية، ومن اتهام النيابة، ومن كتابي رفعت السعيد، وعبد العظيم رمضان، وترك "عنوان الحقيقة" المتمثل في حكم المحكمة، وشهادات كبار قادة الجيش المصري، وقد أوردنا فقرات مطولة منها.

لم يكتف المسلسل بتبنِّي وجهة نظر الادعاء في قضية السيارة الجيب، وتعميم تهمة الإرهاب على النظام الخاص برمته، وهو ما فندته المحكمة كما ذكرنا، وإنما ألصق بالشيخ والجماعة تهمًا أخرى مختلقة ولا تقل بشاعة، ومنها: تقويل البنا إنه قال: "من يفشي سرًّا من أسرار النظام الخاص يحل قتله، وأنه لا مكان لوجود خائن في صفوف التنظيم الخاص، الخائن يقتل، وقتله مباح شرعًا".

(الحلقة رقم 20 من المسلسل)، وإظهار الشيخ البنا في المسلسل فرحًا راضيًا عن مقتل الخازندار والنقراشي، وإلصاق تهمة اغتيال أحمد ماهر إلى الجهاز الخاص بإيماءات بين البنا والسندي تشير بإصبع الاتهام إلى توجيه البنا له باغتياله (الحلقة رقم 24)، ثم بنسبة قاتله سرًّا للجهاز الخاص، وللحزب الوطني علنًا، واختلاق رواية تقول إن محمود عساف مستشار النظام الخاص هو الذي اقترح على الشيخ توجيه أعمال النظام سنة 1948 م ضد الإنجليز والصهاينة بعيدًا عن القتل الداخلي (!) وكأن النظام قام ليقتل المصريين، لا الإنجليز والصهاينة أصلاً (الحلقة 25)، وتصوير قرار حل الجماعة في ديسمبر 1948م على أنه رد فعل حكومي على أعمال عنف للجماعة واكتشاف السلاح المخبأ في عزبة الشيخ فرغلي (الحلقة 26)، وليس استجابةً لضغوط الاحتلال الإنجليزي والتدخلات الأمريكية والفرنسية، تلك الدوائر التي أزعجتها أخبار قوة متطوعي الجماعة في حرب فلسطين، وضغطوا على النقراشي لقبول الهدنة التي رفضها الإخوان.

ثم تصويرالبنا وهو يخبط رأسه في المكتب ويبكي بعد سماع قرار الحل (الحلقة 27)، ويعترف بأن جماعته ملأت البلد بالعنف (الحلقة 28)، وكل ذلك لا أساس له في مصادر التاريخ ووثائق تلك المرحلة، وهي مشاهد من صنع مؤلف السيناري، اعتمادًا على تهويمات رفعت السعيد وعبد العظيم رمضان أساسًا.

دور الشيخ والجماعة والنظام الخاص في القضية الوطنية أسقطه وحيد حامد تمامًا، وشطبه شطبًا حتى تستقيم روايته، التي تختزل علاقة البنا وجماعته بأطراف الحياة السياسية في العمالة للقصر حينًا، ولأحزاب الأقلية حينًا، وللمخابرات البريطانية حينًا، وممارسة العنف ضد الجميع في كثير من الأحيان!.

في كتابنا "الفكر السياسي للإمام حسن البنا"، عرضنا بإسهاب من خلال الوثائق لدور البنا والجماعة في القضية الوطنية منذ اعتراض الإخوان على معاهدة سنة 1936 م، إلى وصول القضية إلى مجلس الأمن أواخر عهد النقراشي، ثم المقاومة في مدن |القناة وقيام ثورة يوليو بدعم من الجماعة، وحقائق ما عرضناه أغفلها المسلسل، ووجدناه في (الحلقة رقم 24 مثلاً)، وهو يصور بعض الأعمال الفدائية للإخوان ضد معسكرات الإنجليز، يصورها على أنها لإثارة الإنجليز ضد حكومة النقراشي؛ كي تتم إقالتها لأنها تضايق الإخوان، وليس لأنهم ضد الاحتلال، وكأن الأستاذ وحيد لم يطلع على حكم محكمة السيارة الجيب، ولا قرأ حيثياتها في تلك القضية، ولا حتى قرأ كتابنا الذي وضعه ضمن مراجعه.

وكما أسقط دور الشيخ والجماعة في القضية الوطنية المصرية، حيث أسقط دورهم بجرأة على حقائق التاريخ في قضية فلسطين، وهو الدور الذي سجلته الوثائق منذ نشوب ثورتها الكبرى بدءًا من 1936 م، مرورًا بالاعتراض على مشروع التقسيم الأول الذي وضعته اللجنة الملكية البريطانية سنة 1937 م، وبتشكيل النظام الخاص، والاعتراض على حركة الهجرة اليهودية إلى الأراضي الفلسطينية أثناء الحرب العالمية الثانية، ورفض قرار التقسيم الذي صدر في نوفمبر 1947 م عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، ثم دخول حرب فلسطين والاستبسال في المقاومة بشهادة قادة الجيش المصري، وتقديم الإغاثات للاجئين بالتنسيق مع جلال فهيم باشا وزير الشئون الاجتماعية في حكومة النقراشي، ورفض قرارات الهدنة وغير ذلك مما عرضناه موثقًا في كتابنا "الفكر السياسي للإمام حسن البنا".

أسقط وحيد حامد كل هذه الإسهامات في القضيتين الوطنية والفلسطينية فجاء المسلسل فقيرًا في مضمونه كما قلنا، وما زلت أتساءل مع المتسائلين: إلى متى يظل تاريخ مصر عرضة للانتهاك والتشويه، ولمصلحة من الاستمرار في إهمال هاتين الصفحتين من تاريخ الشيخ والجماعة في أغلب الكتب التي أرخت للحركة الوطنية المصرية في تلك الفترة؟.


للمزيد عن "مسلسل الجماعة"

وصلات داخلية

كتب متعلقة

ملفات وأبحاث متعلقة

مقالات متعلقة

وصلات خارجية

مقالات خارجية

تابع مقالات خارجية

.

تابع مقالات خارجية

أخبار متعلقة

.

وصلات فيديو

.