حسن الهضيبي الإمام الممتحن

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حسن الهضيبي .. الإمام الممتحن

بقلم/ الأستاذ جابر رزق الفولي

إهداء

إلى من قدم لنا أعز ما يقدمه المؤمن لأبنائه وهي العقيدة الإسلامية الصحيحة.

وإلى من فتح عيوننا على قيمة العمل لدعوة الإسلام ومنزلة العاملين عند الله.وإلى من تعلمنا منه الصبر والمصابرة والاحتساب لله , وأن هذا خلق أصيل لمسلم الحق .

وإلى من غاب عنا بجسده .. لكنه لم يغب عنا بروحه وتوجيهاته.

إلى والدنا لحبيب الذى اختاره الله عزوجل فى دار البقاء , حيث اللقاء مع الأبرار من حملة الرسالات والدعوات ... إليه تهدي هذا الكتاب..

أيمن ... أشرف ... أحمد

جابر رزق


تقديم الأستاذ مصطفى مشهور

بسم الله الرحمن الرحيم

فى الشدائد تعرف معادن الرجال , وهكذا كانت حياة الإمام حسن الهضيبي رحمة الله – مع دعوة الإخوان المسلمين , قاد السفينة بحكمة وثبات وسط صخور متشابكة من داخل الصف ومن خارجه , أكثر من عشرين عام بقليل تعرضت خلالها الجماعة إلى محنتين قاسيتين متتابعتين أو متداخلتين على يد عبد الناصر الذى جرأ غيره من حكام بلادنا الإسلامية على البطش والتنكيل بالإسلاميين عموما والإخوان المسلمين بصفة خاصة أمثال حكام سوريا وليبيا والعراق وتونس والصومال وغيرها.

لقد كان توفيق الله حليف الجماعة حين وقع الإختيار على الإمام الهضيبي كمرشد عام لها بعد اغتيال الإمام الشهيد حسن البنا . لم يكن معروفا بين الإخوان ولكن أقدار الله كانت وراء اجتماع الكلمة عليه , وما أن مر عام أو يزيد قليلا بعد اختياره حتي حدث انقلاب 23 يوليو وظن الناس وكثير من الإخوان خيرا ولكن الإمام بنظرته الثاقبة كان على غير ذلك. وحاول عبد الناصر إثارة الفتنة فى صف الإخوان ضد مرشدها ولكنه فشل ثم كانت تمثيلية المنشية وما أعقبها من اعتقالات وتعذيب ومحاكمات صورية وإعدامات تحت التعذيب وعلى أ‘واد المشانق وحكم على الإمام الهضيبي بالإعدام ولكن خفف الحكم إلى المؤبد ودخل معنا ليمان طره ولبس سلسلة الحديد فى رجليه , وكان رمزا شامخا للثبات والاستخفاف بالمحنة رغم قسوتها ثم نقل من الليمان إلى سجن مصر ثم أفرج عنه , وكانت توجيهاته للإخوان بالسجون تصلهم بانتظام وتوصيهم بالصبر والثبات وما أن أتم الإخوة المحكوم عليهم بعشر سنوات وبدءوا فى الخروج من السجون حتي بدأ عبد الناصر المحنة الثانية فى عام 56 وأعتقل فيها الإمام الهضيبي مرة ثانية وتعرض للمحاكمة وحكم عليه بثلاث سنوات قضاها فى ليمان طره ثم نقل إلى المعتقل مع الإخوان فكان قدوة للإخوان فى الصبر والثبات رغم تقدمه فى السن وضعف صحته.

ثم كان له دور هام فى حسم قضية التكفير التي اعتنقته بعض الإخوة وكان للبحث الذى أعده الإمام الهضيبي الأثر الكبير فى عدول الكثير ممن تلبس عليهم هذا الفكر عنه والتزام الفكر الصحيح للإخوان المسلمين . وهذا البحث هو الذى طبع فيما بعد تحت عنوان " دعاة لا قضاة " ثم فاصل المصرين على هذا الفكر مفاصله واضحة بأن يبحثوا لهم عن لافتة غير لافتة الإخوان ليعملوا تحتها وبعد موت عبد الناصر الذي كان يصر على استمرار المعتقلين والمحكوم عليهم وراء الأسوار إلى البد ولكن السادات بدأ فى الإفراج التدريجي للأخوة جميعا واستمر الإمام الهضيبي يقود الجماعة ويتحرك بها داخل مصر وخارجها حتي لقي الله فى عام 73 وكان الجو العام الذى تعيشه الجماعة فيه من التضييق ما جعل الإمام الهضيبي يلقي الله دون جو من الإعلام اللائق به وهكذا قضي الإمام الهضيبي بقيادة أهم مرحلة من مراحل الدعوة , مرحلة الامتحان والابتلاء حيث خرجت الجماعة من تلك المحن أصلب عودا مرحلة وأكثر تماسكا وامتدت رقعتها رغم المحن خارج مصر فى دول عربية وغير عربية و ويرجع الفضل بعد الله سبحانه وتعالى فى ذلك إلى التربية التى اهتم بها كلا من الإماميين البنا والهضيبي ثم إلى الحكمة والصبر والثبات التي تميز بها الإمام الهضيبي خلال فترته التي اشتدت فيها المحن على الإخوان.

أما الأخ الكريم جابر رزق رحمه الله الذى كتب فله فى القلب مكانة عزيزة حيث كان رمزا لرجل الإعلام الإسلامي الذى كان يد أكثر من مجلة بكتاباته , كما ألف الكتب حول المحنة ومذبحة طره وها هو يكتب عن الإمام الهضيبي الإمام الممتحن وقليلون من كتبوا عنه فجزي الله الأخ جابر خير ورحم الله الجميع وجمعا بهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فى الفردوس الأعلى ... اللهم أمين ..

مصطفى مشهور

مقدمة

جرت سنة الله فيمن يصطفهم لحما رسالته وفيمن يختارهم لتبليغ دعوته وهداية خلقه أن يصنعهم على عينه ويكلأهم بعنايته ورعايته فيحفظهم من كل ما يشنيهم ويهيئ لهم من الأحوال والظروف والفرص ما يجعلهم بين أقوامهم أولي من غيرهم للاصطفاء والاختيار ..

هذا ما تؤكده سيرة أنبياء الله ورسله والرواد المصلحين والأئمة المجتهدين , والدعاة المجاهدين , وهذا ما سنراه فى سيرة الإمام الممتحن حسن الهضيبي المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين الذى تولي قيادة الجماعة فى أخطر مراحل تاريخها فجاهد فى الله حق الجهاد فصبر وصابر وصمد وثبت ثبوت الشّم الرواسي ... لم يضعف ولم يهن ولم ينهزم ولم تلن له قناة ولم يهتز أما إعصار الطغيان وكان القدوة الحسنة والنموذج الفذ للرجال المؤمنين ( الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)..

نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله , وإن من حق الإمام حسن الهضيبي ومن قبله الإمام الشهيد حسن البنا أن يكون كل منهما أسوة وقدوة ومناورة على طريق العاملين المخلصين..

جابر رزق


أربعة لقاءات

أربعة لقاءات لى مع الإمام حسن الهضيبي رحمه الله عليه محفورة فى ذاكرتي مضي على أول هذه المذكرات أكثر من ثلث قرن لكن صورة اللقاء لازلت أذكرها وكأنها حدثت بالأمس القريب .

اللقاء الأول

كان الوقت بعد صلاة المغرب على سطح العمارة التى كانت تواجه المركز العام للإخوان المسلمين بميدان الحلمية الجديد وكان بها مكتب إداري القاهرة .

أما عن تاريخ اللقاء فكان عقب أحداث احتلال المركز العام للإخوان المسلمين واقتحام منزل المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي من قبل بعض أفراد النظام الخاص ويتحريك من عبد الناصر عن طريق بعض الشخصيات التي كانت له صلة بها .. بهدف إبعاد الأستاذ الهضيبي عن قيادة الجماعة لأنه كان بمثابة العقبة الكئود أمام جمال عبد الناصر .. ولكن خاب التدبير . وفشلت المؤامرة .. وصمد الإمام الهضيبي ورفض رفضا جازما الاستقالة تحت المقتحمين لمنزله , واستطاع جناح آخر من الجماعة أن يجلي المحتلين للمركز العام ويعيد المر إلى نصابه وـأكيدا لاستقرار الأوضاع جددت البيعة للإمام الهضيبي...

كان تاريخ هذا اللقاء هو ديسمبر سنة 1953 , وكنت وقتئذ تابعا لشعبة كرداسة قريتي التي كانت تتبع منطقة بين السرايات , وقد طلبنا عن طريق المنطقة واجتمعنا على السطح وكان المقرئ الذى افتتح اللقاء بتلاوة بعض الآيات هو الشيخ صلاح أبو إسماعيل وقتها كان لا يزال شابا فارع الطول أقل كثيرا فى الضخامة عما هو عليه الآن ..

رأيت الإمام الهضيبي أول ما رأيته يرتدي طربوشه .. ومعطفه الأسود ووقف شامخا .. صامدا .. ساكنا هادئا .. وقورا . ووقف بجانبه الدكتور عبد العزيز كامل وكان فى ذروة تألقه كأحد رجال الدعوة الإسلامية .. فأخذ البيعة للإمام الهضيبي من جميع الحاضرين .. وكانت بيعة للرجل بقيت فى رقبتي حتى لقي ربه..

اللقاء الثاني

كان اللقاء الثاني بالإمام الهضيبي بمنطقة الزيتون فى مناسبة إسلامية ربما كانت ذكرى الهجرة .. أ و ذكري مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ... وأقيم الحفل بجوار صيدلية حداد بالقرب من محطة القطار ...وحضر الإمام الهضيبي وكان يرافقه الشهيد سيد قطب ووقف الإمام الهضيبي يلقي كلمته وكان هذا اللقاء أيضا عقب أحداث الفتنة التي وقعت فى أواخر عام 1953 .. وقف أحد الشباب من الذين أوقفوا عقب أحداث احتلال المركز العام واقتحام منزل المرشد , وبدون استئذان قال للإمام الهضيبي : نريد أن نعرف من قتل سيد فايز ؟

[وسيد فايز هذا هو الأخ الذى قتل عن طريق طرد من المواد الناسفة مخفي فى علبة حلوي , وقد اتهم فى قتله قادة النظام الخاص وحصر الاتهام فى الاستاذ أحمد عادل كمال وقتئذ وإن كان الأستاذ محمد حامد أبو النصر المرشد الرابع للإخوان كتب فى مذكراته أن الذي قتل سيد فايز هو أنور السادات...]

كان السائل مستفزا... فحدث هرج.... ومرج , وبالطبع لم يجب الإمام الهضيبي... ولم يلق بالا للسائل ولا للسؤال وسيطر الإخوان المنظمون للحفل على النظام ... وبعد أن ألقي الإمام الهضيبي كلمته تبعه الشهيد سيد قطب فألقي كلمته..

وانتهي الحفل.

اللقاء الثالث

كان فى عام 1966 فى السجن الحربي ....أخرجونا لنتسلم " الإدعاء" علينا فى قضية 1965 قبل المحاكمة بأيام قليلة ... كان الوقت عصرا .. ,كنت المتهم الثاني فى القضية الثانية " تنظيم القاهرة " وكان عددنا أربعة وأربعين متهما , وأثناء تسلمنا للإدعاء نظرت خلفي فرأيت رجلين كبيرين أحدهما الإمام الهضيبي أما الثاني فكان الشيخ محمد الأودن رحمه الله رحمة واسعة وكانا فى القضية الخامسة.

اللقاء الأخير

أما لقائي الأخير بالإمام الهضيبي فكان فى سجن ليمان طرة بعد انتقالنا من السجن الحربي إلى سجن ليمان طره بعد هزيمة يونيو 1967 وقد أودعونا " عنبر الإيراد" وهو أسوأ مكان فى سجن ليمان طره, وقضينا فيه سبعة عشر شهرا لا نتصل بأحد ولا يتصل بنا أحد , وكنا نقيم كل سبعة فى زنزانة عرضها متران وطولها متران وثمانون سنتيمترا وبالطبع معنا فى الزنزانة جردلان أحدهما " للبول " والآخر "" للماء" الذى نشربه ...

كنا ننام فى ضيق شديد " خلف خلاف " كل واحد بجوار أخيه رجلاه عند رأس أخيه ورأسه عند رجلي أخيه!..

المهم كان باب العنبر مغلق علينا طول اليوم وليس هناك وسيلة للخروج من العنبر إلا الذهاب للمستشفي , وكان الذهاب للمستشفي يتم بالدور , وكثيرا ما كان الخروج للمستشفي لا يكون للعلاج ولكن لرؤية الإمام الهضيبي والأستاذ عمر التلمساني ومن معهما من الإخوان الذين كانوا يعالجون فى المستشفي وكان الإمام الهضيبي والأستاذ عمر التلمساني يرحمهما الله رحمة واسعة ينتظران الإخوان وكان الأستاذ عمر نشيطا جدا ونحيفا جد , لا تخلو يده من كتاب , وكان الإمام الهضيبي يجلس فى حديقة الليمان..

فى هذا اليوم خرجت إلى المستشفي وكان معي بعض الإخوان أذكر منهم الأخ إبراهيم شرف عندما خرجنا قصدنا مباشرة إلى الإمام الهضيبي .... كان يجلس فى وسط الحديقة , تناولنا يده وقبلناها وقبلنا جبهته , وكانت ابتسامته تضي وجهه.

أجلسنا حوله وأخذ يسألنا عن أحوالنا داخل العنبر ويسأل عن حال إخواننا .. عشنا لحظات ملأت وجدننا عزما وثباتا وحبا لمرشدنا وقائدنا .. رمز الثبات والصلابة والشموخ .. لن أنسي أبدأ هذه اللمسة التي لمست قلبي ... وقلوب الجميع الإخوان وهى هدية الإمام الهضيبي للإخوان داخل العنبر ... وهي عبارة عن باقة من زهرة التمر حنة جمعها الإمام الهضيبي بيديه ليهديها إلينا.. إلى جميع الإخوان داخل العنبر .. جزاه الله عنا خير الجزاء..

ولد الإمام حسن الهضيبي فى ديسمبر سنة 1891 م فى إحدي قري محافظة القليوبية تسمي" عرب الصوالحة " لأسرة ذات أصول عربية عريقة .. محافظة ومتدينة عرف عن رجالها أنهم أصحاب نجدة وكرم وكان والده شخصية كبيرة مشهورة ووالدته من عائلة كريمة متعلمون وعرب أصلاء ... وكان الأستاذ الهضيبي أكبر ثلاثة من الأبناء الذكور بالإضافة إلى أربع شقيقات. تعلم فى كتاب القرية كبقية أبناء جيله , وحفظ القرآن صغيرا وكان والده يريده- كمعظم آباء ذلك الجيل – أن يكون من علماء الدين فألحقه بالأزهر فدرس فيه عاما واحدا تحول بعده إلى المدرسة الابتدائية فأتم بها دراسته ثم التحق بعدها بمدرسة الخديوية الثانوية حيث نال منها شهادة البكالوريا بعد حصوله على البكالورية التحق الأستاذ الهضيبي بمدرسة الحقوق الخديوية وحصل منها على ليسانس الحقوق سنة 1915 وقد ذكر الأستاذ الهضيبي أنه لم يكن طالبا متفوقا هلال دراسته وكان يتنجب المشاركة فى أية مظاهرة باستثناء مشاركته فى تشيع جنازة الزعيم مصطفي كامل .

وقد انضم الأستاذ الهضيبي إلى جمعية سرية كان قد كونها الزعيم محمد فريد خليفة الزعيم مصطفي كامل للاغتيالات السياسية.

وقد انفرط عقد هذه الجمعية بعد اغتيال إبراهيم الورداني بطرس غالي باشا رئيس وزراء مصر إلا أنه ( كان واضحا أنه يمج العنف واستخدام القوة وقد ظل هذا الجانب فى شخصيته واضحا خلال حياته داخل الجماعة ) وكان يعتقد إن من حق الشعب عندما يحتله جيش أجنبي ان يقاومه بالرصاص ولكنه لا يوافق على أن يقتل الناس خصومهم فى الرأي.

أثناء دراسته فى مدرسة الحقوق الخديوية كان من بين الطلاب الذين صدرت ضدهم قرارات بالفصل لمدة عام واحد بسبب عدم حضورهم إلى مدرسة الحقوق لاستقبال السلطان حسين كامل , كما أنه رافق وفد الطلاب الذين ذهبوا لمقابلة سعد باشا زغلول وكيل الجمعية التشريعية وقتئذ ليطالبوه بالتدخل لإلغاء قرارات الفصل التي صدرت ضد الطلاب الذين لم يحضروا لاستقبال السلطان حسين كامل احتجاجا منهم عليه لقبلوه الحكم تحت حماية المستعمرين الإنجليز.

عمل الأستاذ الهضيبي بعد تخرجه من مدرسة الحقوق الخديوية بالمحاماة وقضي سنوات التمرين فى مكتب الأستاذ كامل حسين رحمه الله وكان من كبار المحامين فى ذلك الوقت وفى مكتب الأستاذ حافظ رمضان المحامي الشهير.

بعد فترة التمرين فتح مكتبا له فى مدينة القناطر ولكن م يحالفه النجاح فى هذه المدينة فانتقل إلى مدينة سوهاج ولم يكن يعرف فيها أحدا وقد حقق نجاحا كبيرا فى هذه المدينة النائية عن قريته فحقد عليه أحد المحامين فاستأجرا أحد الأشقياء ليقتل الأستاذ الهضيبي , وتربص الشقي بالأستاذ الهضيبي فضربه ضربة بالسيف تلقاها عنه وكيله المسيحي مفتديه بنفسه , وقد أصيب الوكيل المسيحي فعلا .

تردد الأستاذ الهضيبي فى قبول الوظيفة القضائية التي جاءته دون سعي منه فى أول الأمر ولكن أحد زملائه المحامين أشار عليه بقوله :

أنت لست محاميا عاطلا... ,تستطيع أن تترك الوظيفة فى أى وقت تشاء إذا لم تعجبك وتعود محاميا ناجحا مرة ثانية ..

فقبل الوظيفة ... وكان ذلك عام1924 تقريبا.. بدأ قاضيا فى مدينة قنا ثم انتقل بعد ذلك إلى نجع حمادي ثم إلى المنصورة ثم إلى المنيا ثم انتقل إلى أسيوط فالزقازيق فالجيزة عام 1933 حيث استقر سكنه بعد ذلك فى القاهرة .

تدرج فى مناصب القضاء فكان مديرا إدارة النيابات فرئيس التفتيش القضائي فمستشارا بمحكمة الاستئناف فمستشارا بمحكمة النقض .

ومما يروي عن الأستاذ الهضيبي رحمه الله رحمة واسعة انه كان أول من كسر تقاليد الانحناء بين يدي الملك عند حلف اليمين القانونية التي يؤديها القضاة أمامه قبل تولي مناصب المستشار إذ كانت دفعته حوالي عشرة سبقه منهم خمسة لم يترددوا فى الانحناء عند حلف اليمين رغم تهامسهم بالتذمر من هذا التقليد المهين , حتي إذا جاء دور الأستاذ الهضيبي الواهن البنية الصامت اللسان فاجأ الجميع بأن مد يده لمصافحة الملك وأقسم اليمين منتصب القامة مرفوع الجبين بصورة أنعشت الإباء فيمن يعده فأدي يمينه قائما عالي الرأس وهو يقول لنفسه :

- إذا شنقوا الهضيبي فليشنقوني بعده!

وتبعها سائر المستشارين فصافحوا الملك وأقسموا اليمين دون خضوع أو انحناء ثم حدث بعد ذلك أن جاء محمد صبري باشا أبو علم وزيرا للعدل وذكر لبعض المقربين إليه أنه يريد أن يعاونه فى الوزارة رجل محايد يستطيع أن يصحح أى اتجاه يصدر من وزير العدل متأثرا بحزبيته كسكرتير لحزب الوفد .

وقد أجمع من استشارهم فى هذا الأمر على اختيار الأستاذ الهضيبي كرجل محايد ومستقل الرأى لا تأخذه فى الحق لومة لائم ولا يخش أحدا إلا الله.


بين الإمام الشهيد حين النبا والمستشار حسن الهضيبي

بعث المستشار حسن الهضيبي برسالة إلى الإمام الشهيد حسن البنا . وذلك تعقيبا على مقاله الذى نشر تحت عنوان " ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد" وقد جاء فى هذه الرسالة :

حضرة صاحب الفضيلة المرشد العام الأخ الشيخ حسن البنا... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... وبعد

فقد قرأت اليوم – 3 ديسمبر 1947 – مقالكم الثاني " ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد" وقد استوقفني منه عبارة جاءت فى مقام الرد على اعتراض افترضتموه من يجهل حقيقة الإسلام وما فيه من مرونة فى الأحكام تتسع لما يجد من الأحداث ومؤدي هذه العبارة أن تاريخ التشريع الإسلامي يحدثنا أن ابن عمر رضي الله عنه كان يفتي فى الموسم فى القضية من القضايا برأي ثم تعرض عليه فى الموسم القابل فيفتي برأي آخر فيقال له ذلك فيقول :" ذلك ما علمنا , وهذا على ما نعلم .. الخ".

كما يحدثنا أن الشافعي رضي الله عنه وضع بالعراق مذهبه القديم , فلما تمصر وضع مذهبه الجديد نزولا على حكم البيئة وتمشيا مع مظاهر الحياة الجديدة من غير أن يخل ذلك بسلامة التطبيق على مقتضي القواعد الإسلامية الكلية .. الخ.

وقد يتوهم من هذه العبارة أن ابن عمر والشافعي رضي الله عنهما أخضعا حكم الدين لأحكام الزمان ومعاذ الله أن يكون الأمر كذلك . فإن أحداث الزمان يجب أن تخضع لكتاب الله وسنة رسوله مهما تراءى للناس أن الدنيا لا تحتمل هذا الإخضاع فالدين هو السنة التي وضعها الله للناس كما وضع السنن الكونية الأخري كالشمس والقمر والحيوان وكل ما فى السماء وما فى الأرض وما عليها .

وفى ظني أن ابن عمر لم يغير فتواه نزولا على حكم الحوادث بل لأنه ازداد بصرا بحكم الدين فى المسألة لذلك قال : ذاك على ما علمنا وهذا ما نعلم " كما أظن من استقراء سابق لى بسبب تغير رأي الشافعي بين قديمه وحديثه أنه حين جاء إلى مصر سمع من رواة الحديث بمساجد الفسطاط ما لم يكن قد سمع بالعراق فأقام عليه رأيه الجديد وكان رضي الله عنه يقول :" إذا صح عندي الحديث فهو رأيي".

هذا ولا منازعة فى أن على المسلمين أن يجتهدوا فى استنباط أحكام لم تكن من قبل ؟ بل لكل مجتهد أن يستنبط ما يهديه الله من أحكام الدين لجميع الحوادث جديدها وقديمها . وهذه هى المرونة التي جعلها الله من خصائص الدين الإسلامي ولله الحمد والمنة .

فبودّى أيها الأخ الكريم لو أعدت النظر فى هذه الجملة بما يزيل الشبهة أو لعلي مخطي , وأنتم بذلك أعلم مني بلا ريب .

ولقد كنت أود أن أفضي إليكم بهذا الحديث فى زيارة لولا أن انحراف صحتي فى الأسبوع الماضي لازال منه بعض الأثر . وأسأل الله تعالي أن يعينكم وأن يهدي أمة محمد إلى العمل بكتاب الله وسنة رسول الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

من المخلص حسن الهضيبي

وقد عقب فضيلة الإمام حسن البنا على رسالة الأستاذ المستشار حسن الهضيبي فى العدد رقم 488 من جريدة الإخوان والصادر بتاريخ 4 ديسمبر 1947 م فقال :" إنا لنشكر لحضرته هذه الغيرة الجليلة على دين الله والدقة الجميلة فى البحث والتمحيص . وجميل جدا أن نري من كبار رجال التقنين المصريين من يحمل مثل هذا القلب المؤمن والذهن الصافي المستنير مع الدأب على الدرس والإلمام بكل أطراف الموضوع فجزي الله الأستاذ حسن الهضيبي عن الدين والحق والعدالة خير الجزاء وأكثر فينا من أمثاله وما ذكره فى خطابه حق لاشك فيه , والذي أردته بكلمتي هو الإشارة إلى مرونة التشريع الإسلامي.

إن العرف والاجتهاد قاعدتان من قواعده فيما لا نص فيه . أما حيث يكون النص فلا اجتهاد معه طبعا.

حسن البنا

الهضيبي فى ركب الإخوان المسلمين

" لا يعلم إلا الله متي أعود إن قدر لى أن أعود , فإن احتجتم فى غيابي إلى رأي فالتمسوه عند حسن الهضيبي المستشار بمحكمة النقض فإني أحسبه مؤمنا هادئا صائب الرأي"

اصطبغت شخصية الأستاذ الهضيبي بالصبغة الإسلامية منذ صباه الباكر , فقد حفظ القرآن فى كتاب القرية وهو ابن العاشرة كما سبق أن ذكرنا وهيأه لذلك للالتحاق بالأزهر الذى لم يكن يقبل وقتئذ غير حافظي القرآن, وبقي فى الأزهر عاما واحدا تحول بعده إلى الدراسة فى المدارس المدنية ولكن من الصعب أن نتصور أن الفتي حسن الهضيبي قد أدار ظهره للقرآن بعد تركه للأزهر لأن حفظ القرآن عند أبناء جيله كان أمرا عظيما لا يفرط فيه بسهولة والمحافظة عليه لم تكن أمرا صعبا خاصة على من كان يعيش فى مثل بيئة الفتي حسن الهضيبي...

بل إن حياة الأستاذ الهضيبي كلها تدل دلالة قاطعة على أن الرجل كان مولعا بالقرآن ... يتلوه ... ويتدبره ... ويتفهمه .... ويجيل النظر فيه ... يتمثله فى خلقه وسلوكه.. يدل على هذا كثرة استشهاده بآياته وما كتبه فى مجلة " الإخوان المسلمون" من مقالات تحت عنوان " هذا القرآن" على مدي عامل كامل , والمر الذى يؤكده كل الذين عرفوا الأستاذ الهضيبي قبل اتصاله بجماعة الإخوان المسلمين وتعرفه على الإمام الشهيد حسن البنا , . أنه لم بكن فقط مسلما فى نفسه بل كان أيضا من المهتمين بقضايا الإسلام والمسلمين ,ويبذل قصاري جهده من أجل تطبيق شرع الله والانتصار له.. وللرجل مواقف تؤكد هذا يرويها شهود ثقاة ويحفظها له تاريخه فى القضاء .

وقد كان هذا الأمر بمثابة العامل المشترك الذى جمع بينه وبين الإمام الشهيد حسن البنا على الصورة التي عرفت عنهما رغم فارق السن بين الرجلين فقد كان الإمام الهضيبي يكبر الإمام الشهيد حسن البنا بخمسة عشر عاما تقريبا . فهو من مواليد عام 1891م فى حين أن الإمام الشهيد حسن البنا من مواليد عام 1906م وكذلك الفارق الاجتماعي , فالإمام الهضيبي كان علما من أعلام القضاء فى حين أن الإمام الشهيد حين البنا كان مدرسا ابتدائيا ولكن هذا كله لم يحل دون إقبال الإمام الهضيبي على ألإمام البنا ... هذا الإقبال المنفرد بهذه العاطفة التي لا علم لها مثيلا إلا تلك التي تربط بين الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله وبين الإمام الشهيد حين البنا.

عرفته من غرس يده

يقول الإمام حسن الهضيبي حول علاقته بجماعة الإخوان المسلمين والإمام الشهيد حسن البنا :

عرفته أول ما عرفته من غرس يده , كنت أدخل المدن والقري فأجد إعلانات عن الإخوان المسلمين " دعوة الحق والقوة والحرية فخلت أنها إحدي الجمعيات التي تعني بتحفيظ القرآن والإحسان إلى الفقراء ودفن الموتي, والحث على العبادات من صوم وصلاة وإن هذه قصاراها من معرفة الحق ... والقوة ... والحرية فلم أحفل بها..

ويضيف رحمه الله :

ثم التقيت يوما بفتية من الريف أقبلوا على – على غير عادة الأحداث مع من هم أكبر منهم سنا ومركزا – يحدثونني . فوجدت عجبا ! فتية من الريف لا يكاد الواحد يتجاوز فى معارفه القراءة والكتابة يحسنون جلوسهم مع من هم أكبر منهم فى أدب لا تكلف فيه ولا يحسون بأن أحدا أعلى من أحد , ويتكلمون فى المسألة المصرية كأحسن ما يتكلم فيها شاب متعلم مثقف, ويتكلمون فى المسائل الدينية كلام الفاهم المتحرر من رق التقليد ويبسطون الكلام فى ذلك إلى مسائل مما يحسبه الناس من صرف المسائل الدنيوية , ويعرفون من تاريخ الرسول – وتاريخه الرسالة – ما لا يعرفه طلاب الجامعات.

فعجبت لشأنهم وسألتهم :

- أين تعلمتم كل هذا؟

- فأخبروني بأنهم من الإخوان المسلمين وأن دعوتهم تشمل كل شئ وتعني بالتربية والأخلاق والسياسة والفقر والغني والاقتصاد وإصلاح الأسرة , وغير ذلك من الشئون صغيرها وجيلها.

من ذلك الوقت تتبعت حركة الإخوان المسلمين وصرت أقرأ مطبوعاتهم وأتصل بهم دون أن أعرف الداعية إلى ذلك ... ولكني عرفته من غرس يده قبل أن أعرف شخصيته .

كان يوم خرجت أنا وبعض زملائي لمشية العصر على حافة النيل فوجدنا جميعا من الجوالة سألناهم ن شأنهم فعلمنا أن حسن البنا سيلقي خطبة فى حفل الليلة فوافينا الحفل وسمعنا حسن البنا . وقد تعلقت أبصارنا به ولم نجد لأنفسنا فكاكا من ذلك وخلت – والله – أن هالة من نور أو مغناطيسيا بوجهه الكريم فتزيد الانجذاب إليه .

خطب ساعة وأربعين دقيقة وكان شعورنا فيها شعور الخوف من أن يفرغ من كلامه وتنقضي هذه المتعة التي أمتعنا بها ذلك الوقت.

كان كلامه يخرج من القلب إلى القلب شأن المتكلم إذا أخلص النية لله.

وما أذكر أني سمعت خطيبا قبله إلا وتمنيت على الله أن ينتهي خطابه فى اقرب وقت .(( يقول الإمام الهضيبي : لقد استمعت فى حياتي لكثير من الأحاديث وفى كل مرة كنت آمل أن ينتهي الحديث أو الخطبة سريعا إلا أنني فى هذا المرة كنت اخشي أن ينهي حسن البنا خطبته , ومرت مائة دقيقة وقد جمع فى راحتي يديه قلوب المسلمين المنصتين وكان يهزها كيفماء شاء , وانتهت الخطبة وأعاد إلى مستمعيه قلوبهم فيما عدا قلبي الذي بقي فى يده )).

هذا ما قاله الإمام الهضيبي رحمه الله عند بدء معرفته بجماعة الإخوان المسلمين وتعرفه على الإمام الشهيد حين البنا ومعاشرته له مما يدلنا على عميق الصلة التي ربطت بين الرجلين وإن لم يعلم بها إلا أفراد قليلون ممن كانوا لصقين بالرجلين كالأستاذ إسماعيل الهضيبي نجل الإمام الهضيبي ذكر أن رأي الإمام الشهيد حين البنا مرات وهو يتردد على منزلهم للقاء الإمام الهضيبي وذكر الأستاذ جمال فوزي رحمه الله أن الإمام الشهيد حين البنا أرسله أكثر من مرة برسائل سلمها للأستاذ الهضيبي والتقي الإمامان البنا والهضيبي بمنزل الخ جمال لمدة تزيد على الساعة .

وروي الأستاذ صلاح شادي أنه رافق الإمام الشهيد حين البنا كان يلتقي بالإمام الهضيبي ويقضي معه أياما عديدة فى قريته " عرب الصوالحة" فة شبه " أسرة" إخوانية يتدارسان فيها الإسلام وقضايا المسلمين , ومشكلات الدعوة الإسلامية ويتناقشان معا ول قضايا الساعة .

وكان الإمام البنا يطلع الإمام الهضيبي على مختلف الأنشطة داخل الجماعة والجهود التي يبذلها فى الأقاليم والمشكلات التى تواجه جماعة الإخوان المسلمين وهناك ما يدلنا على أن الإمام الشهيد حين البنا قد أفضي للإمام الهضيبي برأيه فى كثر من الشخصيات الإخوانية داخل الجماعة وكأن الرجل – الإمام الشهيد – كان يعد الأستاذ الهضيبي ليكون حليفته إذا ما قدر الله ذلك .

وفى الشهور العصبية التي عاشها الإمام الشهيد حين البنا بعد الحوادث الفردية التي قام بها بعض أفراد من النظام الخاص على غير ما أراد الإمام الشهيد كحادث الخازندار وحادث النقراشي ,والمواجهة الشرسة التي قامت بها حكومة السعديين واعتقال جميع الإخوان الذين يحيطون بالإمام الشهيد , وتركه وحيدا محروما من أقرب الناس إليه تهيئة لمسرح جريمة اغتياله. كان الشخص الوحيد الذى يلتقي به يستشيره ويستفصحه هو الإمام حسن الهضيبي , وكان كثيرا ما يتم لقاء الرجلين فى جمعية الشبان المسلمين تحت سمع وبصر رجال الشرطة وجواسيسها.

وقد جاء فى شهادة الأستاذ محمد الليثي رئيس قسم الشباب بجمعية الشبان المسلمين أمام محكمة الجنايات فى أثناء نظر قضية اغتيال الإمام البنا :

ولما أحس البوليس السياسي بأن الشيخ البنا يتردد على الجمعية أخذ يراقبه لمعرفة المتصلين به .... وكنا قد اتفقنا على رموز للتفاهم بها حتي ن حدث أن حضر الأستاذ الهضيبي ونظرا لعدم معرفتي به أنكرت معرفتي بالشيخ البنا لاعتقادي أنه من البوليس السياسي و وعرفت أخيرا من الشيخ البنا أنه هو الأستاذ الهضيبي".

وجاء فى شهادة الأستاذ مصطفي مرعي المحامي فى ذات القضية وأمام نفس المحكمة عندما وجه الأستاذ عبد القادر عودة أحد أعضاء هيئة الدفاع فى قضية الإمام الشهيد حسن البنا سؤالا إلى الأستاذ مصطفي مرعي :

- ألم تفهم الأسباب التي من أجلها كان الشيخ البنا يمهلك فى الرد عليك؟

- مصطفي مرعي : كان لديه مستشار .

- المحكمة : من المستشار ؟

- مصطفي معي : الأستاذ الهضيبي.

ويقول الأستاذ محمود عبد الحليم فى كتابه " الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ " الجزء الثاني :

" فلقد قرأنا فى ثنايا أحداث الأيام السوداء من عهد إبراهيم عبد الهادي أن الأستاذ الهضيبي كان الرجل الوحيد الذى كان بجانب الأستاذ الإمام فى أشد الأيام حلوكة وأن الأستاذ الإمام قد اتخذه صفيه ومستشاره وموضع سره فقد كانا يجلسان معا فى دار جمعية الشبان المسلمين على انفراد ويبدو أن الأستاذ الأمام قد أفضي إليه بكل ما نده وشرح له جميع المواقف وحلل له كل الشخصيات بدليل أنه منذ أول يوم فوتح فيه فى خلافه الأستاذ الإمام تحدث ن بعض شخصيات الإخوان حديث العليم الخبير مع انه لم يسبق له الاتصال بهم !

- بل إن الإمام الشهيد حين البنا قد أوصي الإخوان بالرجوع إلى الإمام الهضيبي فى حالة غيابه ليستشيروه...

يقول الأستاذ حسن العشماوي رحمه الله:

- " كنت عام 1949 وكيلا للنائب العام بالمنيا فى صعيد مصر وقدمت من مقر عملي إلى القاهرة يوم 2 فبراير سنة 1949 بناء على طلب الإمام الشهيد وكان رحمه الله فى ذلك الوقت ضعيفا مرهقا ومع ذلك كان مستبشرا ينتظر – كما قال – إحدي الحسنين إما نصرا بانفراج الأزمة التي وقع فيها الإخوان أو شهادة يلقي بها الله راضيا مرضيا .

- وجلست إليه جلسة طويلة ذكر فيها عزمه على السفر وطلب إلى أن أستعد للاستقالة من عملي والاشتغال بالمحاماة وانهي حديثه قائلا:- لا يعلم إلا الله متي أعود إن قدر لى أن أعود فإن احتجتم فى غيابي إلى رأي فالتمسوه عند حسن الهضيبي المستشار بمحكمة النقض فإني أحسبه صادقا صائب الرأي ويضيف الأستاذ حسن عشماوي رحمه الله:

- وكان وداع – استشهد بعده بعشرة أيام وعلمت بالخبر فعدت فورا إلى القاهرة عاقدا العزم على ألا أعود إلى عملي . وكيف أعمل لحكومة قتلت رجلا ا، يقول ربي الله!

- عدت إلى القاهرة فلقيت منير" الدلة" وصال" أبو رقيق" وعبد القادر" حلمي" وكان ثلاثتهم مصطفي السراح وكانوا رغم الحادث الخطير متمالكين لأعصابهم كما بدا لى... واتفقنا على أن أقابل المستشار حسن الهضيبي ألتمس عنده الرأي فى أمور ثلاثة :

- ماذا نفعل ؟

- وكيف نتصل بالمسئول عن الانفاق على عائلات الإخوان المعتقلين؟

- وهل أستقيل الآن من عملي فى النيابة العامة كوصية الإمام الشهيد ؟وكان أول لقاء لى مع المستشار إذ فاجأته بالزيارة فى منزله مساء يوم 17 فبراير عام 1949 وقدمت نفسي كوكيل للنائب العام , وزميل لابنه و وواحد من الإخوان .

لم أكن قد التقيت به من قبل وإن كنت رأيته على منصة القضاء صامتا مسندا ذقنه إلى كفه . منصتا إلى المتخاصمين لا ينم وجه عن شئ , وسمعنا عنه كثيرا وقرأنا أحكامه. وكان لقاءا عسيرا دخل على – وهو لا يعرفني من قبل – مرتديا عباءته .. وجلس جلسته التي رأيته عليه فى المحكمة .. واستمع إلى حديثي ثم أصدر حكمه فى نقاط محددة :

- إنه ليس عضوا فى جماعة الإخوان المسلمين .

- إنه صديق محب لحسن البنا يقدره ويعتبره مجدد الدعوة الإسلامية لهذا القرن .

- إنه يعتبر قتل حسن البنا جريمة فى حق الإسلام سيحمل وزرها من فعلها ومن أرادها ومن رضي عنها .

- إنه ليس على استعداد للحديث معي أو غيري فى أى أمر من الأمور بل إنه يعجب كيف دخلت منزله وأنا موظف حكومة برغم أن منزله مراقب منذ استشهاد المرشد؟!

وعبثا حاولت أن أحمله على الحديث او على مجرد الثقة بى فاستأذنت فى الانصراف وذكرت له – وأنا واقف على السم – حديثا جري بينه وبين المرشد حين زاره يوم أول فبراير .. فأمسك بيدي التي بسطها مسلما وقال :

- من أعلمك هذا الحديث؟

- أعلمني إياه الإمام الشهيد ..

- صدقت ... لقد كنا وحدنا... اجلس ماذا تريد ؟...

- وجلست وأعدت أسئلتي ..

- وسمعت إجاباته – كما اعتاد على ما يبدو – أحكاما موجزة قاطعة :

- المسئول عن الإنفاق على العائلات ( فلان) وسأبلغه ان يتصل بمن ذكرت وسيتعاون معه .

- لا تستقل الآن وإلا لفت إليك الأنظار وأضررت بنفسك وبغيرك ممن لا نعرف ولم تفد دعوتك شيئا. - ألزموا الهدوء , وإياكم والتهور.

- لا تلجوأ الجريمة بالجريمة .

- ووجدت نفسي أسأله – دون مقدمات – ترى من يخلفه رحمة الله؟

- فأطرق ثم أجاب :

- فى الليلة الظلماء يفتقد البدر إن الدعوة أوسع نطاقا من مصر ... لماذا ألا يكون واحد مثل عمر الأميري مثلا!!

- على كل.. البركة فيكم .. وعليكم بشخص من صفوفكم

- وسألته متطفلا :

- أتحملها أنت ؟

- فأجاب:

- لا... ليس مثلي لها .

- وتركته وانصرفت .. وأنا أردد " هو لها ... ليته يقبلها ... أو يحمل على قبولها حملا"

- ولقيت من أوفدوني فأعلنت لهم ما رددته فى نفسي ... ولكن لم يكن ذلك الوقت بما فيه من هول وإشفاق – وقت تفكير فى اختيار مرشد – كان لابد أولا من الاتصال بمن فى السجون والمعتقلات نحاول تخفيف الوطأة عليهم وعلى أنفسنا ومنع الفرقة بيننا وبينهم .

- تختم هذه الفقرة بالتأكيد على أن صلة الأستاذ الهضيبي بجماعة الإخوان المسلمين لم تكن عادية , وإن لم تأخذ الصورة التنظيمية التي حالت الوظيفة القضائية دونها بل يقينا ا، العلاقة التى كانت تربط بين الإمام الشهيد حسن البنا والأستاذ حسن الهضيبي كانت علاقة خاصة جدا بلغت من العمق الدرجة التي لم تبلغها أية علاقة أخرى جمعت بين الإمام البنا وأى أحد آخر سواء داخل الجماعة أو خارجها أا الذين كانوا يعرفون هذه العلاقة فهم قليلون , وكان الأستاذ حسن العشماوي والأستاذ منير دلة رحمهما الله من بين هؤلاء الذين يعرفون عمق هذه العلاقة ويقدرون شخصية الأستاذ الهضيبي حق قدرها يعرفان مدي ثقة الإمام الشهيد حين البنا بإيمان الرجل ورجاحة عقله وعميق فهمه وصدق نصيحته وحسن شورته.

الهضيبي خليفة البنا

" إننا نعلم ما تعانيه , ولكن الدعوة ا‘ز علينا وعليك من أن نتركها بلا قيادة وقد اتفقنا على أن تكون قائدها , وإذا كنا قد بايعنا على افتدائها فتفتديها انت كذلك, والله قادر على شفائك إذا استجبت لدعوته , ولن نخرج من هذا المكان إلا بنزولك على رأي الإخوان الممثل فينا"

يوسف طلعت بعد ارتكاب جريمة العصر التي خططت لها القوي الصليبية الاستعمارية وانجلترا وفرنسا وأمريكا , واتفق سفراء انجلترا وفرنسا والقائم بالأعمال الأمريكي فى اجتماعهم بفايد وانتهوا إلى قرار بالقضاء على جماعة الإخوان المسلمين وأبلغوا قرارهم إلى رئيس لوزراء السعدي وقتئذ محمود النقراشي الذى أصدر قرار بحل جماعة الإخوان المسلمين واعتقل جميع الإخوان جميع الإخوان خاصة المجموعة لتي كانت تحيط بالإمام حسن البنا وتركه وحيدا حتي يكون صيدا سهلا, لكن شاء الله أن تكون نهاية النقراشي قبل نهاية الإمام البنا وبدون علم منه فخلفه فى رئاسة الحزب وفى رئاسة الوزارة وفى حمل وزر تنفيذ الجريمة إبراهيم عبد الهادي , وقام بالتنفيذ مجموعة من شرار خلق الله من ضباط ومخبري وزارة الدخلية عاش الإخوان المسلمون أول محنهم الكبري التي استمرت عشرين شهرا كاملة قضوها بدون مرشدها ربما كانت " أحلك أيام قضتها الجماعة على الإطلاق فى تاريخها الطويل وهو تواجه بضراوة وشراسة تستهدف استئصال شافتها واقتلاعها من الجذور, فجلّ الإخوان المسلمين فى السجون والمعتقلات .. حتي المجاهدين منهم الذين سطروا أروع البطولات وتصدورا للعصابات الهصيونية الصهيونية على أرض فلسطين لم يسلموا من الإعتقال فقد جمعوا من الميدان ووضعوا فى معسكر اعتقال هناك ... وأمام المحاكم أكثر من قضية متهم فيها الإخوان بسبب حوادث فردية ارتكبها أفراد من النظام الخاص ..

لم يكن هناك – والإخوان على هذا الحال – وقت للتفكير فى اختيار مرشد جديد يخلف الإمام الشهيد حسن البنا وإن اشرأبت رءوس بعض الإخوان مستشرفين اختيار الإخوان واحدا منهم ليكون مرشدا جديدا للجماعة.

كان الأستاذ حسن العشماوي رحمه الله هو أول من فكر فى شخصية الأستاذ الهضيبي ليخلف الإمام البنا بخمسة أيام فقط , وكان رد الأستاذ الهضيبي على هذا العرض قوله :

-لا... ليس مثلي لها..

لكن الأستاذ حسن العشماوي رحمه الله خرج من عند الأستاذ الهضيبي وهو يردد فى نفسه : هو لها .. ليته يقبلها .. أو يحمل على قبولها حملأ.

وعندنا رجع من عند الأستاذ الهضيبي إلى من أوفدوه إليه يومئذ وهم : الأستاذ مني دلة رحمه الله و والأستاذ صالح أبو رقيق والأستاذ عبد القادر حلمي أعلن لهم ما ردده فى نفسه ولكن لم يكن الوقت وقت تفكير فى اختيار مرشد جديد لأن الإخوان كانوا لا يزالون فى السجون والمعتقلات وكانت المحنة لا تزال فى عنفوانها...

وفجأة.. فى صيف 1949 سقطت حكومة إبراهيم عبد الهادي و وبدأ الإفراج عن المعتقلين , واستمرت عملية الإفراج حتى أغلق المعتقل أبوابه فى فبراير عام 1950 ومن خروج الإخوان من المعتقل وهم يجتمعون ويتباحثون ويتساءلون :

- من سيكون مرشدا؟!

- كان هناك أربعة من الإخوان مرشحين لتولي منصب " المرشد " هم: الأستاذ عبد الرحمن البنا شقيق الإمام الشهيد حسن البنا.

- الأستاذ صلح عشماوي – رحمه الله – وكان وكيلا للجماعة واحد قادة النظام الخاص.

- الأستاذ عبد الحكيم عابدين – رحمه الله – وكان سكرتير عام الجماعة وهو زوج أخت الإمام الشهيد .

- الشيخ أحمد حسن الباقوري الذى كان الإمام الشهيد قد كلفه برعاية شئون الإخوان طالما هم فى المعتقلات.

- دعا الأستاذ منير الدلة – رحمه الله – الإخوان الأربعة : الأستاذ عبد الرحمن البنا, والأستاذ صالح عشماوي والأستاذ عبد الحكيم عابدين , واالشيخ احمد حسن الباقوري للقاء فى منزله وطلب منهم أن يختاروا واحدا منهم أو من غيرهم لكي يقدموه إلى الإخوان مرشدا جديدا خلفا للإمام الشهيد حسن البنا حتى لا يكون هناك مجال لاختلاف وسط الإخوان .

- وفى نهاية اللقاء ظهر بوضوح أنهم لم يتفقوا على واحد منهم وعلى أثر ذلك اقترح عليهم الأستاذ منير الأستاذ المستشار حسن الهضيبي وعرفهم بعلاقته بالدعوة من قديم وصلته الوثيقة بالإمام الشهيد وأوضح لهم أسباب عدم ظهوره فى تنظيمات الإخوان .

- لم يرفض الإخوان الأربعة اقتراح الأستاذ منير دلة ولكنهم أرجئوا البت وإبداء الرأي حتى يلتقوا بالأستاذ الهضيبي ويتعرفوا عليه ويدرسوه من قرب , وانتهي اللقاء عند هذا الحد وتمت عدة مقابلات بين هؤلاء الإخوان الأربعة وبين الأستاذ الهضيبي مجتمعين فى صحبة الأستاذ منير ثم منفردين للتعرف عليه ومعرفة علاقته بالدعوة دون أن يفاتحوه فى الغرض من هذه الزيارات والمقابلات.

يقول الأستاذ حسن العشماوي رحمه الله:

- لازلت أذكر سؤالا وجهه إلىّ الشهيد محمد فرغلي يوما إذ قال أسألك بالله : أيهما اقدر عليهما محمد العشماوي أ حسن الهضيبي ؟ فقلت : يعلم الله أنه ليس على وجه الأرض أحبّ إلى من أبي وليس عندي منزلة أكبر من منزلة المرشد العام , ولكني أشهد الله أن الهضيبي أقدر عليها .

- فقال : اذا لا محل للتفكير فى غيره وجزاك الله خيرا.

- وعقد الاجتماع موسع فى منزل الأستاذ منير الدلة رحمه الله ولم يكن هناك مرشح غير الأستاذ الهضيبي واتفق المجتمعون على البدء فى الخطوتين التاليتين:

1- الحصول على ترشيح الهيئة التأسيسية له رسميا .

2- الحصول على موافقة الأستاذ الهضيبي.

وفعلا وافق جميع أعضاء الهيئة التأسيسية على ترشيح الأستاذ الهضيبي مرشدا عاما للإخوان المسلمين .

وذهب الأستاذ منير الدلة ومعه أربعة من مكتب الإرشاد يحملون قرارا من مكتب الإرشاد , وموافقة الهيئة التأسيسية ويعرضون عليه الأمر . فرفض الأستاذ الهضيبي وأصر على الرف واعتذر لحالته الصحية وشاع نبأ رفضه بين الإخوان فراحوا يتوافدون على الأستاذ الهضيبي فى منزله جماعات أفراد يلحون عليه أن يقبل ويبايعونه رغما عنه لكنه أصر على الاعتذار وكان لهذا أسوأ الثر فى نفوس الإخوان.

وشاء الله أن تلتقي مجموعة من الإخوان من مختلف المحافظات بمدينة الإسكندرية وكان الوقت صيفا وكان الأستاذ الهضيبي يقيم فى منزل بالمندرة , وكان عدد الإخوان هؤلاء غير قليل فقد كانوا نحو العشرين من بينهم الأستاذ عبد العزيز عطية والشهيد عبد القادر عودة والأستاذ محمود عبد الحليم والشهيد يوسف طلعت والدكتور عبد العزيز كامل , وقد ذهبوا جميعا إلى الأستاذ الهضيبي واستقبلهم هو وأبناؤه بالترحاب ثم أخذوا فى الحديث معه فتكلم الأستاذ عبد العزيز عطية والشهيد عبد القادر عودة وسرحا الظروف المحيطة بالدعوة وشدة حاجتها إلى قيادة وتحدث كثير من الحاضرين من مختلف المحافظات معبرين عن رغبة إخوانهم فى قيادته.

ثم تكلم الأستاذ الهضيبي فشرح حجته وأنه لا يستطيع أن يتسلم قيادة دعوة أقرب معاونيه فيها متفرقوا القلوب والأهواء . ثم إنه مريض ولا يستطيع تحمل مسئولية دعوة كهذه وهو فى الحالة التى عليها.

يقول الأستاذ محمود عبد الحليم الذى حضر تلك الجلسة :

" وكانت بعد ذلك هدأة هى هدأة الخيبة واليأس التي أحس الجميع بمرارتها فى حلوقهم وإذ بنا نسمع ونحن فى هذا الحال نسمع صوت أخ لنا ينطلق صارخا باكيا هو الأخ الكريم يوسف طلعت يقول للأستاذ الهضيبي : إننا نعلم ما تعانيه ولكن الدعوة أعز علينا وعليك من أن نتركها بلا قيادة وقد اتفقنا على أن تكون قائدها وإذا كنا قد بايعنا على افتدئاها فلتفتديها أنت كذلك. والله قادر على شفائك إذا استجبت أنت لدعوته .ولن نخرج من هذا المكان إلا بنزولك على رأي الإخوان الممثل فينا".

وقد كانت لكلمات الأخ يوسف طلعت ولدمعه المنهمر فعل السحر فى قلب الأستاذ االهضيبي وقلوب الحاضرين حيث انهمرت دموعهم ووجدا أنفسهم قد انتقلوا فى جو روحي غامر لم يملك معه الأستاذ الهضيبي إلا أن يبتسم والدموع قد انتقلوا فى جو روحي غامر لم يملك معه الأستاذ الهضيبي إلا أن يبتسم والدموع تترقرق فى عينيه ويقول :" لقد نزلت على رأيكم وأسأل الله أن يعنني".

وقمنا جميعا نعانق كل منا أخاه ,وكانت جلسة قصيرة عابرة ولكنها كانت جلسة تاريخية فاصلة لها ما بعدها"

" قلت لعبد الناصر: نحن علي يقين من أن الأستاذ الهضيبي رجل طاهر وعظيم , وشخصية ليست بالسهولة التي تستطيع أن تغيرها, لأنه ليس رئيس مصلحة حكومية تستطيع أن تغيره بقرار".

الأستاذ محمد حامد أبو النصر المرشد العام الرابع للإخوان المسلمين

الأستاذ محمد أبو النصر المرشد الرابع للإخوان المسلمين من مواليد منفلوط بأسيوط عام 1913, تعرف على الإمام الشهيد حسن البنا فى عام 1933, وبايعه على المصحف والمسدس, وكانت بيعته هى أول بيعة للإخوان المسلمين فى صعيد مصر . وتدرج فى العمل من خلال صفوف الجماعة إلى أن اختير عضوا بمكتب الإرشاد عن منطقة الصعيد لمدة عشر سنوات أيام الإمامين الشهيد حسن البنا والأستاذ حسن الهضيبي وكان – أمد اله فى عمره – أحد ثلاثة شاركوا فى الحوار الذي تم بين الإخوان المسلمين ورجال حركة يوليو [ هو والشهيد محمد فرغلي والشهيد عبد القادر عودة].

وقد أعتقل الأستاذ محمد حامد أبو النصر فى عام 1954 عقب تمثيلية المنشية وحكم عليه بالإعدام , ثم خفف الحكم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة , وكان من آخر الإخوان الذين خرجوا من السجون فى السبعينات .

وعقب وفاة المرشد الراشد الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله – فى رمضان عام 1406هـأجمعت قواعد الإخوان المسلمين وقياداتها فى مصر والعالم أجمع على اختيار الأستاذ محمد حامد أبو النصر – بصفته أكبر أعضاء مكتب الإرشاد سنا – ليخلف الأستاذ التلمساني فى قيادة دفة الجماعة .

قلت للسيد محمد حامد أبو النصر : أرجو أن تحدثني عن متي وكيف تعرفت بالأستاذ الهضيبي رحمه الله...

فقال: بعد استشهاد الإمام حسن البنا أخذ الإخوان يبحثون عمن يخلف الإمام حسن البنا ويتولي منصب المرشد العام , ولما كنت أقيم فى الصعيد ( فى منفلوط محافظة أسيوط) فلا أعرف تفاصيل الأحداث التي انتهت إلى اختيار الأستاذ الهضيبي رحمه الله ولكن جاءني أحد الإخوان وقال لي:

نحن نأخذ بيعة من الإخوان للأستاذ الهضيبي مرشدا وخلفا للإمام حسن البنا ولم تكن لى أية صلة بالأستاذ الهضيبي قبل اختيار الإخوان له مرشدا ولكني عرفت أنه كان على اتصال وثيق بالإمام الشهيد حسن البنا . فقد كان الإمام الشهيد حسن البنا على صلة بشخصيات كبيرة ولم يكن البنا يعرف هذه الشخصيات وكان الإمام الشهيد حسن البنا لا يذكر أسماء هذه الشخصيات الكبيرة خاصة تلك التي تتوالي مراكز حساسة فى الدولة لحكمة يراها . وكان الأستاذ الهضيبي إحدي هذه الشخصيات غير المعروفة لدي الإخوان .

عندما عرض على أمر اختيار الأستاذ الهضيبي توقفت قليلا وقلت :

إنني لا أعرفه حتي أبايعه .. لابد أن أعرفه ثم أبايعه . وفعلا تمت المعرفة وتمت البيعة مني له, وإن كنت واحدا من أواخر الإخوان الذين بايعوا الأستاذ الهضيبي وقد علم الأستاذ الهضيبي بموقفي هذا , ووافق على ضرورة التعرف والتثبت من حقيقة الشخص الذي سيبايع حتى تكون البيعة صحيحة.

ويضيف السيد محمد حامد أبو النصر:

قبل تولي الأستاذ الهضيبي قيادة الإخوان كنت عضوا فى مكتب الإرشاد لمدة لا تقل على عشر سنوات ولكن فى الفترة الأولي للأستاذ الهضيبي لم أكن عضوا فى مكتب الإرشاد , واخترت عضوا فى مكتب الإرشاد ابتداء من ديسمبر عام 1953.

وقد حدث فى تلك الفترة مشاكل داخل الجماعة ومشاكل خارجها , ولاحظت على مواقف الأستاذ الهضيبي أنه كان عطوفا على الإخوان ورءوفا بهم يفتح قلبه لهم ويعطيهم الفرصة لمراجعة أنفسهم . وطبعا عرف الإخوان الضغوط التي مورست عليه كى يستقيل وحادث احتلال منزله واحتلال المركز العام لتحقيق هذه المؤامرة وقد شكل من لجنة تضم : الشهيد محمد فرغلي والأستاذ عمر التلمساني .... وأنا , وتحدثنا مع الإخوان الذين شاركوا فى هذه المؤامرة , ووضعنا النقاط على الحروف ,وعرفنا الأشخاص الذين كانوا وراء تدبير هذه المؤامرة وقد صفح الأستاذ الهضيبي عن الجميع.

ولكن هذه العملية أعطت فرصة لخصوم الإخوان ليختاروا من بين الإخوان بعض المناوئين للأستاذ الهضيبي وحاولوا احتواءهم وقد لعب جمال عبد الناصر الدور الأكبر فى هذا ولكن الله سبحانه رد كيده إلى نحره لأنه سبحانه أقوي من كل قوي . وبقيت الجماعة قائمة رغم الانسلاخات التي تمت بسبب كيد عبد الناصر للأستاذ الهضيبي وسرعان ما التأم الصف وظلت الجماعة بقوتها ووحدة تماسكها وعظمتها حتي حلت المحنة بالإخوان ...

سألت السيد محمد حامد أبو النصر عن موقف الأستاذ الهضيبي من حركة الجيش ... فقال :

" لقد بدأت أحداث حركة الجيش فى الفترة الأولي من تولي الأستاذ الهضيبي قيادة الجماعة ولم أكن – كما سبق أن قلت – عضوا فى مكتب الإرشاد فى تلك السنوات فلم أكن قريبا من الأحداث ثم عندما الاعتقال الأول فى يناير عام 1954 اعتقل نصف أعضاء مكتب الإرشاد مع الأستاذ الهضيبي وبقي النصف الآخر لم يعتقل وكنت واحدا منهم.

وكذلك لم يعتقل الشهيد عبد القادر عودة , وسعي الشهيد عبد القادر فى الاتصال بجمال عبد الناصر للتعرف على أسباب الاعتقال , وحدد جمال عبد الناصر موعدا للشهيد عبد القادر عودة وقال له " أحضر معك أبو النصر ".

صاحبت الشهيد عبد القادر عوده فى ذهابه لقاء جمال عبد الناصر باعتبار أنني" بلدياته " وخرجنا من لقاء عبد الناصر ونحن على يقين من نقمة جمال عبد الناصر على الأستاذ الهضيبي ورغبته الشديدة فى تغييره.

قلت لجمال عبد الناصر: تغيير المرشد أمر مستحيل لأن المرشد ليس مرشدا للإخوان المسلمين فى مصر وحدها ولكنه مرشد الإخوان المسلمين فى العالم كله . ولسنا نحن فقط الذين يستطيعون تغيير المرشد أو تبديله فهذا أمر لابد أ، تكون له مبررات قوية . فماذا فعل الأستاذ الهضيبي حتى نقف منه هذا الموقف ؟!

- فقال جمال عبد الناصر :" علشان هو اتصل بالإنجليز".

فقلت:" إن كان الأستاذ المرشد اتصل بالإنجليز فاعرض القضية بأكملها أمام الهيئة التأسيسية , وإذا تأكدنا من أن مرشدنا ليس أهلا ليكون مرشدا لنا فسوف نحل مشاكلنا بأيدينا نحن. ولكننا على يقين من أن الأستاذ الهضيبي رجل طاهر وعظيم , وشخصية ليست بالسهولة التي تستطيع أن تغيرها . لأنه ليس رئيس مصلحة حكومية تستطيع أن تغيره بقرار تصدره.

- قال عبد الناصر : أنا سأحاكمه وأحاكم الإخوان

- قلت : حاكم من تريد لكن أن نترك الرجل ونتخلي عنه بدون وجه حق فلن يحدث هاذ لأن الرجل نظيف ويسلك بنا المسلك الطيب, وسلوكه معكم أ،ت أيضا وربما وصلتك معلومات غير دقيقة ولا تمثل الواقع فتطلب منا أن نغير المرشد وإذا غيرنا المرشد تصبح الجماعة فى يدك . نحن مستمسكون بالمرشد إلى أقصي مدي وقلت لعبد الناصر : إن أى اعتداء على المرشد لن نسكت عليه وإذا أصيبت فيه شعره لن نسكت , فابتسم عبد الناصر ابتسامته الصفراء المشهور بها ثم أخذ يتحدث عن بعض الشخصيات الكبيرة فى الجماعة ويجرحها, وكان يهدف من حديثه هذا تشويه صورة هذه الشخصيات فى أذهاننا بهدف التشكيك فى الجماعة ذاتها.

- ثم قلت لجمال عبد الناصر : الأفضل أن نتعاون معا ونسير.

فقال جمال عبد الناصر : ان نتعاون إلا إذا خلعتم الهضيبي .

فقلت : مستحيل أن نخلع المرشد . هل سيحول المرشد بينك وبين تنفيذ مشاريعك؟! إننا يمكن أن نبحث عن صورة للتعاون خصوصا وأن الإخوان قد أدوا واجبهم تجاه المعركة .

- فسألني عبد الناصر : هل لك اقتراحات معينة ؟

قلت : يمكن أن تشكل لجنة من ثلاثة أنت تختارهم من أعضاء مكتب الإرشاد بشرط أن يوافق عليهم المرشد , ويكون هؤلاء الثلاثة حلقة الإتصال بينك وبين الجماعة . وطبعا المشاريع التي لا تتعارض مع الإسلام سوف يوافقون عليها , وتترك الإخوان يربوا الأجيال الصاعدة من أبناء الشعب ويبشروا بالدعوة.

- فقال عبد الناصر : أوافق على هذا الاقتراح ولكن بشرط إقالة المرشد .

- قلت : لماذا إقالة المرشد ؟! هذا غير ممكن .. المرشد هو التاج الذى نضعه على رؤسنا والرجل لم يقل فيه أحد شيئا . إنك متهم المرشد فما هو دليلك على هذا الاتهام ؟!

- فقال : إن رجال السفارة البريطانية جلسوا يضحكون ويقولون إن الهضيبي بكرة يأتي للوزارة.

- فقلت: مالنا ونحن ورجال السفارة ... وقولهم أن الهضيبي سيشكل الوزارة؟!

- نحن لسنا طلاب حكم ... نحن نريد أن نربي الشعب وأن نرجعه إلى الالتزام بالإسلام والشعب قادر على أن يختار حكامه , والحكم ليس بغيتنا.

- قلت للأستاذ أبو النصر : ما رأي الأستاذ الهضيبي فى حركة 23 يوليو ؟

- فقال : فى ذلك الوقت علمت أن بعض قادة الجيش أرادوا القيام بحركة ضد جمال عبد الناصر ولكن الأستاذ الهضيبي قال: نحن لا نريد أن نساهم فى إقامة مجزرة نتحمل فيها المسئولية وكل أملنا أن يحفظ الله هذا البلد , وكان الأستاذ المرشد يؤكد دائما على مسامع كل المحيطين به هذه العبارة أنا برئ من دم جمال عبد الناصر.

وعن الأستاذ الهضيبي داخل السجن يقول السيد محمد حامد أبو النصر:

التقيت به فى ليمان طره بعد المحاكمات فكان مثالا رائعا للثبات وعدم الإكتراث بالأحداث وكان الإخوان يترسمون خطاه ويقتدون به فى اللام وتعففه عن طلب أى شئ من إدارة السجن كان كالجبل الأشم شامخا عالي النفس مرفوع الرأس . كان بعض الإخوان يطلبون منه أن يقول كذا أو يطلب كذا ... لكنه كان يقول خلينا بعيدين . نحن دخلنا السجن فى سبيل الله وعلينا أن نصبر ونتحمل كل ما نصاب به فى سبيل الله فكان مثلا عاليا لجميع الإخوان.

ويضيف السيد محمد حامد أبو النصر:

أعتقد أن اختيار الأستاذ الهضيبي مرشدا للإخوان فى هذه الفترة كان من تدبير الله وحكمته ورحمته فقد اختار الله الإمام حسن البنا ليضع الأساس ويربي جيلا من الإخوان يقيم صرح الجماعة على أكتافه .

ثم اختار الله الأستاذ الهضيبي لهذه الفترة العصبية لصلابته وثباته وحكمته واتزانه ونزاهته ولو قدر أن اختارا الإخوان شخصية أخري من الشخصيات المتهافتة لكانت الجماعة قد انتهت وعفا عليها الزمن .

لقد كان الأستاذ الهضيبي رجلا مؤمنا غاية الإيمان , فلم يتزحزح عن الموقف الإسلامي قيد أنملة , وهذه أكبر نعمة أنعمها الله على الإخوان المسلمين أ، مرشدهم قوي وحازم وصلب أمام الأحداث لا يتضعضع ولا يضعف ولا يلين . رحمه الله وتقبله فى الصالحين..

الحقيقة أن الأستاذ الهضيبي كان قاضيا فى كل ما يتناوله من أمور ... عندما تعرض عليه مشكلة من المشاكل ينظر إليها بعين القاضي وكانت العدالة صفة من صفاته البارزة ... وكان عميق التذوق للحق , وكان موقفه دائما مع الحق مهما أوذى فى سبيله ..."


اللواء صلاح شادي

الأخ اللواء صلاح شادي واحد من الرعيل الأول الذى رباه الإمام الشهيد حسن البنا وتوليي قسم الوحدات الذى كان يشرف على الإخوان فى جهاز الشرطة والفنيين فى الجيش , وهو واحد من رجال الصف الأول الذين كانوا قريبين من الإمام الشهيد حن البنا حتي استشهاده , وكان أيضا ن القريبين للإمام الهضيبي.

دخل الأخ اللواء صلاح شادي السجن عام 1955 وحكم عليه بالإعدام , وثم خفف إلي السجن المؤبد [25سنة]. أفرج عنه عام 1975 وكان واحدا ممن ثبتهم الله فصبروا ولم يعطوا الدنية فى دينهم .. ولا زال بفضل الله على الطريق وهو واحد من (... رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه , فمنهم من قضي نحبه , ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.

قلت للأخ صلاح شادي :

متي و كيف تعرفت على الإمام الهضيبي؟

فقال: كان أول تعرف بالإمام الهضيبي رحمه الله رحمة واسعة – من خلال زيارة له فى صحبة الإمام الشهيد حسن البنا فى بلدة الأستاذ الهضيبي ( عرب الصوالحة) وكان يقام هناك معسكر الإخوان, وكانت هذه هى المرة الأولي التي رأى فيها الأستاذ الهضيبي وقد وضح لى من خلال الزيارة أ، الإمام الشهيد يري فى الرجل خيرا كثيرا وأنه متفهم للدعوة الإسلامية تفهما كاملا ويعي جيدا ما تفرضه هذه الدعوة على من يتصدي لحملها ويدرك أن جماعة الإخوان هي التي تضطلع بهذا العبء الكبير ,وأنه يعتبر نفسه جنديا ن جنود هذه الدعوة وقد نذر نفسه لله عزوجل والعمل على إعلاء كلمته وفى بداية اللقاء كنت أظن الرجل منطلق الحديث بمعني أنه يملأ المجلس بحديثه , لكن تبين لى أن الرجل قليل الكلام فى بساطة , ولكن فى عمق وأصالة وقد كان الإمام الهضيبي مختلفا عن الإمام البنا فى ظاهر الأمر , فعلي حين الإمام البنا خطيئا مفوها ومحدثا بملك القلوب كان الإمام الهضيبي قليل الكلام يسمع أكثر مما يتكلم وقد كان هذا الاختلاف أحد المتاعب التي واجهت الإخوان فى الأيام الأولي التي اختير فيها الإمام الهضيبي مرشدا للإخوان , ولكن بعدها توالت الأحداث وكشفت المواقف عن شخصية الإمام الهضيبي . سرعان ما تربع على قلوب الإخوان فألفهم وألفوه ودرجوا على أن يروه على هذه الصورة وأن يتعاملوا على ما يرونه منه. وأذكر فى هذا المجال أن الإخوان كانوا باستمرار يقارنون بينه وبين الإمام البنا فكانوا يقولون له : كان الإمام البنا فى مثل هذا الموقف يفعل كذا ويقول كذا, الإمام الهضيبي يقول لهم : أنا حسن الهضيبي ولست حسن البنا !

ولكن المنطلق الذى كان ينطلق منه الإمام الهضيبي هو ذات المنطلق الذى ينطلق منه الإمام حسن رغم اختلاف الشخصيتين . فهما نموذجان فريدان للرجل وللدعاة !!

واعتقادي ان الله سبحانه وتعالي قد اختار الإمام حسن البنا فى مرحلة معينة يكن يصلح لها إلا هو وادخر الإمام الهضيبي لمرحلة لم يصلح لها إلا هو أيضا, كان الإمام الشهيد حين البنا يري فى الإمام الهضيبي رجلا فيه أصالة , وفيه إدراك سليم للأمور , وفيه عمق البصيرة وعلى بصيرة , ولم يخطر على خاطري فى هذا اللقاء أن يدخر هذا الرجل ليقود الدعوة فى حقبة من أخطر الحقب التي مرت بها الجماعة ولقد أخبرني الإمام الشهيد حسن البنا أن الإمام الهضيبي كان يحضر أحاديث الثلاثاء بالمركز العام للإخوان بصورة منتظمة , وأحيانا يصعد إلى حجرة الإمام البنا ليسلّم عليه , وكنا نراه بعد ذلك . وكان الإمام يستقبله ويسلم عليه بحفاوة كبيرة .

ولأن الإمام الهضيبي كان يعمل فى سلك القضاء ,وكان محظورا عليه الارتباط بأى حزب سياسي أو أية هيئة شعبية فلم يكن الإخوان يعرفون الإمام الهضيبي , وقد كان الإمام الشهيد حسن البنا يعتبره جنديا مجهولا , ومن الأخفياء الأتقياء.

كيف اختير الإمام الهضيبي مرشدا للإخوان المسلمين ؟

يقول اللواء صلاح شادي :

عندما استشهد الإمام حسن البنا كان هناك أربعة أشخاص مرشحين لتولي قيادة الجماعة هم الأستاذ عبد الرحمن البنا شقيق الإمام الشهيد والأستاذ صالح عشماوي وكيل الجماعة والأستاذ عبد الحكيم عابدين سكرتير الجماعة, والشيخ أحمد حسن الباقوري الذى كان الإمام البنا أوكل إليه أمور الجماعة أثناء المحنة . ولكن الأربعة لم يستطيعوا الإتفاق على اختيار أحد منهم , مما جعل كبار الإخوان يفكرون فى البحث عن شخص يلتقي عليه جميع الإخوان , ولا يكون موضع تنازع أو اختلاف . وهنا عرض مكانته منه ويعرفون طريقة الأستاذ الهضيبي فى تناوله للأمور كما يعرفون شجاعته وموافقة فيما يتصل بعمله . ولم يكن جمهور الإخوان يعرفون الأستاذ حسن الهضيبي , ولا يعرفون علاقته بالإمام الشهيد حسن البنا ولكن القريبين من الإمام حسن البنا هم الذين كانوا يعرفون الأستاذ الهضيبي ويعرفون مكانته من الإمام الشهيد ويعرفون أمانته وثقته فى ربه وشجاعته , وكان الاختيار موفقا فقد اتضح انه أصلح الأشخاص للقضاء على الفرقة والتنازع داخل الجماعة , ولما طرح اسمه على الإخوان كان هناك أخذ وعطاء بين الإخوان حول اختيار الرجل وحول الفائدة التى يمكن أن تعود على الجماعة من وجود شخص مثل الأستاذ الهضيبي قائدا لها ومن فضل الله أن ترشيح الأستاذ الهضيبي قوبل من جموع الإخوان بشئ من الرضا , فبعد أن شرح للإخوان وجهة نظر الإخوة الذين اختاروا الأستاذ الهضيبي , شرح الله صدور الإخوان لهذا الاختيار , ولما فوتح الأستاذ الهضيبي فى هذا الأمر استقبله استقبال الإنسان الأمين الذى لا يري فى نفسه الكفاءة لشغل هذا المكان فاعتذر لمرضه وكان يقول : أنا لا أستطيع أن أتحمل هذا العبء لمرضي . فقيل له يكفينا أن تكون أنت العلامة التي نجتمع حولها وعلى الإخوان حتي لا يحدث أى لون من ألوان الفرقة والاختلاف . ثم أخذ الأمر شكله القانوني فاختير الأستاذ الهضيبي مرشدا للجماعة وقبل الرجل هذا الأمر وهو يظن أن دوره سيكون فى الإطار الذى حدده الإخوان من كونه رمزا للجماعة ولم يكن يتصور أن المتاعب تنتظره بهذه الصورة التي لم يتوقعها . وقد كشفت هذه المتاعب عن آفاق جديدة فى شخصية الرجل لم أكن أدركها من قبل .

وبعد شهرين أو ثلاثة حضر الأستاذ الهضيبي اجتماع الهيئة التأسيسية للإخوان ووقف يخطب , وكنت مندهشا لأني لم أكن أنتظر منه وهو فى حالته المرضية هذه أن يستطيع أن يتحدث إلى الإخوان بهذه الصورة وأن يستمر حوالي ساعة يتكلم . وأكثر من هذا فقد اكتشف الإخوان فى الرجل كفاءة عجيبة فى معالجته للأمور مما أثلج صدورنا جميعا .

وبدت صلابة الرجل وشجاعته وجراءته ورباطه جأشه فى حادث احتلال منزله ومحاولة إرغامه على الاستقالة وثباته ورفضه وإصراره على الرفض رغم وجوده وحده وسط هؤلاء الشباب المدفوعين وتهورهم وتجازوهم حدود الأدب معه . وتنتهي العملية وتفشل المؤامرة عليه ويقف موقفه الصلب بعد أن أدرك ابعاد الموقف وعرف من وراءه . وكنت أتصور أن هذا الحادث سوف يدفعه إلى ترك الجماعة , ولكن ما حدث كان عكس هذا . وجدت الرجل يزداد إصرارا على موقفه ويزداد إيمانا بتحمل واجباته تجاه دعوته وجماعته .


موقف الإمام الهضيبي من انقلاب 23 يوليو سنة 1952

وعن موقف الإمام الهضيبي من انقلاب 23 يوليو سنة 1952 يقول صلاح شادي:

حجر الزواية فى هذا الموضوع هو ان الأستاذ الهضيبي عندما رأى تنكر جمال عبد لناصر ومن معه لنا تعهدوا به من قبل أثناء اللقاء معهم فى منزل الأستاذ صلاح أبو رقيق وسأل الهضيبي جمال عبد الناصر ليستوثق منه عمّا قيل له بخصوص تعهداته للإخوان فقال جمال عبد الناصر : أنا لم أتعهد لأحد بشئ.

هنا حدد الرجل موقفه وموقف الجماعة من الانقلاب على أساس أن هذه الحركة ليست سوي حركة تدعي الإصلاح.

لقد كان جمال عبد الناصر قد قرأ الفاتحة مع عدد من الإخوان الذين كانوا حركة الصلة بينه وبين الأستاذ الهضيبي قائد الجماعة بأن تكون الحركة إسلامية. أضف إلى هذا أن جمال عبد الناصر وآخرين معه كانوا أفرادا فى الجماعة يلتزمون بأوامرها وأضاعها حتى قيام الانقلاب..

وقد كان معروفا أن جمال عبد الناصر فرد فى تنظيم على رأسه الصاغ محمود لبيب الذى كان وكيلا لجماعة الإخوان.

فعندما تنكر جمال عبد الناصر لقيمه ولعهوده كان الأستاذ الهضيبي فى غاية الاتزان والحكمة , وكانت تصريحاته للإخوان فى هذا الوقت رفيقة بهم لأن الإخوان كانوا يتصورون أن الحركة حركتهم وأ،ها أمل من آمالهم تحقق.

فلم يرد الإمام الهضيبي أن يصدم الإخوان , ولكنه تدرج فى الأمر حتي لا يؤزم العلاقة مع ضباط الانقلاب .

ولكن فى نفس الوقت حرص أن يكون الرائد الذى لا يكذب أهله , وأن يكون أمينا على جماعته ودعوته . فكان يقول للقاعدة العريضة من الإخوان : إن أقصي ما يمكن قوله فى حرة الضباط أنها حركة إصلاحية!!

وهو بهذه السياسة وهذا التوازن يكشف عن حنكة سياسية لا تصل بالأشياء إلى حافة الهاوية وفى نفس الوقت لا يفرط أدني تفريط فى الأمانة المنوطة به ووقوفه بصلابة فى الحق ... وموقفه من الشيخ الباقوري عندما قبل أن يكون وزيرا فى حكومة عبد الناصر مخالفا بذلك قرار مكتب الإرشاد فلم يقبل الأستاذ الهضيبي من الباقوري إلا أن يستقيل من الجماعة وكذلك موقفه من الأستاذ عبد الرحمن السندي وحسمه وحزمه معه وتنحيته عن قيادة التنظيم الخاص , وما كان يمكن أن يترتب على هذا الموقف من المتاعب . لم يمنعه هذا كل من المواجهة واتخاذا القرار الحاسم لعلاج الموقف مع الأستاذ عبد الرحمن رغم ما بدا فى الجو وقتئذ من محاولة جمال عبد الناصر من الإستفادة من هذا الجو واستقطابه لبعض أفراد من الإخوان ليفجر الجماعة من الداخل .

ويضيف اللواء صلاح شادي : والحقيقة أن الأستاذ الهضيبي كان قاضيا فى كل ما يتناوله من أمور عندما تعرض عليه مشكلة من المشاكل ينظر إليها بعين القاضي وكانت العدالة صفة من صفاته البارزة ... كان عميق التذوق للحق , وكان موقفه دائما مع الحق مهما أوذي فى سبيله لا يغير كلمة على الإطلاق . وكان إدراكه للمسئولية إدراكا عميقا وحرصه على آداء الأمانة عميقا جدا .

وكان شجاعا فى وقوفه فى جانب الحق الذى يراه ..

كان الناس يرونه عملاقا فى مواقفه لكنه كان ينظر هو لنسفه على أنه جندي فى آخر الصف ما كان يري نفسه كما يراه الناس أبدأ .. كان متوكلا على ربه توكلا كاملا لا يري فى نفسه القدرة غلا بالله , ولا يري لنفسه حول ولا قوة إلا بالله ..ورضى الله عنه ... وتقبله فى الصالحين ... آمين ..

" سمعته يقول لحمزة البسيوني يوم ترحيله من السجن الحربي إلى منزله : من قال لكم أني أريد أن أخرج من السجن ؟ أنا آخر واحد يخرج... فليخرج كل الإخوان قبلي !


الأستاذ جمال فوزي

الأستاذ جمال رحمه الله واحد من رجال الرعيل الأول الذين رباهم الإمام الشهيد حسن البنا , ومن مجاهدي الإخوان , وأنموذج فذ من الرجال الذين جاهدوا فى الله فصدقوا وصبروا وثبتوا .. إذ عاني مما عانته الجماعة من محن , وقدم للمحاكمة فى أكثر من قضية وتعرض لأنواع من التعذيب لم يتعرض لها إلا القليلون فما لانت له قناة , وكان مثالا للقوة والشجاعة والجرأة فى الحق .

والأستاذ جمال فوزي كان ممن لهم صلة مباشرة بالإمامين حسن البنا وحسن الهضيبي وكان بمثابة همزة الوصل بينهما , وبعد اختيار الإمام الهضيبي لمنصب الإرشاد كان الأستاذ جمال الحارس الخاص له حتي دخول الإخوان محنة 1954م.

تقبلهم الله جميعا فى الصالحين .


متى عرفت الإمام الهضيبي؟!

سألت الأستاذ جمال : متى عرفت الإمام الهضيبي؟!

أجاب بقوله : الحقيقة أن الحديث عن الإمام الهضيبي حديث ملئ بالأعاجيب لقد عرفت الرجل بحكم الجوار ودون سابق علم بصلته بالإمام الشهيد حسن البنا , فقد كان منزلنا قريبا من منزله بالروضة وبحكم جنديتي فى جماعة الإخوان فقد كنت أرافق الإمام الشهيد حسن البنا فى بعض تحركاته وفى واحد من هذه الأيام رأيت الإمام الشهيد يقوم بزيارة الإمام الهضيبي ولم أكن أعلم السبب لهذه الزيارة وأعتقد أن تلك الزيارة كانت فى عام 1946 / ولم ألق بالا لتلك الزيارة إلى أن عادوها الإمام الشهيد مرة أخرى وكان فى منزلنا يزور والدى خلال مرضه فاتصل بمنزل الإمام الهضيبي تليفونيا ثم ذهب إلى زيارته للمرة الثانية ولم تمض أيام على هذه الزيارة الثانية حتي كلفني الإمام الشهيد حسن البنا بتوصيل رسالة فى ظرف مغلق إلى الإمام الهضيبي فاتجهت إلى منزل الإمام الهضيبي وسلمته رسالة الإمام الشهيد وبعد ذلك بعدة أشهر حضر الإمام الشهيد حسن البنا إلى منزلنا وسألني: هل لديك ضيوف فى بالمنزل أم لا يوجد غير الوالد والوالدة فقط ؟

فقلت له : ليس عندنا ضيوف .. وأخي مسافر ولا يوجد فى المنزل سواي .

فقال : إذن .. اذهب إلى الأستاذ الهضيبي وقل له إني فى انتظاره بمنزلك . وأنا لا أذكر اليوم أو التاريخ , وذهبت إلى الإمام الهضيبي وأبلغته رسالة الإمام الشهيد وحضر فعلا إلى منزلنا وتم اللقاء بينه وبين الإمام الشهيد دون أن أحضر الحديث الذي دار بينهما أو أعلم منه شيئا . ولما كان الإمام الهضيبي وقتئذ مستشارا بالنقض فقد اعتقدت أن هناك بعض القضايا التي تتعلق بالإخوان التي يريد الإمام الشهيد أن يأخذ رأيه فيها وقد استغرق هذا اللقاء بينهما أكثر من ساعة .

وفى الأيام التالية لاحظت أن الإمام الهضيبي إذا لقيني صافحني مصافحة حارة استشعر فيها الحب وكان قليل الكلام ولكنه كان معي يتحدث.. ثم بعد ذلك أرسلني الإمام الشهيد حسن البنا برسالة أو رسالتين إلى الإمام الهضيبي كل هذا تم وأنا أعلم أنه رجل محب ولا أعلم أكثر من هذا عن صلته بالإمام الشهيد .. حتى كانت الأحداث التي سبقت حل الجماعة على يد النقراشي عام 1948 . فبعد صدور قرار الحل , وكنت وقتها ضمن كتائب الإخوان فى فلسطين وكنت قد نزلت فى أجازة قصيرة إلى القاهرة فالتقيت بالإمام الهضيبي قدرا .ز فكنت أركب الترام الذى يمر من " دير النحاس" إلى " الجيزة" فى الدرجة الثانية ,لم أفطن لوجود الأستاذ الهضيبي وقد التقيت فى الترام مع صديق لم يكن من الإخوان وقد حدثني حديثا أثارني واستفزني فأغلظت له القول وتوعدته .. وبعد أن نزل الصديق من الترام وجدت من يضع يده على كتفي فالتفت فإذا هو الأستاذ الهضيبي فقال لى كلاما لمست فيه روح الأمر بالا أكون متسرعا وأ، هذا ليس وقت الكلام .. وقد ترك هذا التوجيه أثرا كبيرا فى نفسي ..

ومرت الأحداث .. أحداث محنة 1948 .. واغتيل الإمام الشهيد رضوان الله عليه ودخلنا السجون ... وسقطت حكومة عبد الهادي ... وأفرج عن الإخوان وعادت الجماعة بعد مجئ حكومة الوفد .. ودخل الإخوان محنة أخري محنة من لون جديد .. محنة داخل الصف ..ز أقصد الظروف التي أحاطت باختيار مرشد جديد بعد استشهاد الإمام البنا .. فقد كان اختيار الأستاذ الهضيبى مرشدا فيصلا لأمور كثيرة ... والأستاذ الهضيبي لم يكن يعلم عنه أحد شيئا إلا خاصة الخاصة من الإخوان ... وكان الخلاف بين الإخوان قد شاع وسط الجماعة فقد تطلع كثيرون إلى تولي قيادة الدعوة خلفا للإمام البنا .. كل يجد نفسه أحق من غيره فى أن يكون مرشدا عاما للإخوان .. كان الأستاذ عبد الرحمن البنا شقيق الإمام الشهيد طامعا أن يكون مرشدا عاما للإخوان وكان له جولات فى هذا المجال ... وكان الأستاذ صالح عشماوي رحمه الله ! وكانت له جولات ... وكان عبد الرحمن السندى رحمه الله كان على رأس النظام الخاص ... وغير هؤلاء .. أيضا.. ورأى الإخوان خروجا من هذه الصراعات ... اختيار رجل من غير هؤلاء جميعا ... والقاعدة الشرعية تقول أن طالب الولاية لا يولي وهذا أمر مقطوع به.. إذن يجب أن يختار شخص آخر من غير المتصارعين ... ودار البحث عن هذا الرجل الذى يخرج بالجماعة من هذا المأزق الذى تمر به .. وكان هناك بعض الأخوة الذين هم مكانتهم داخل الجماعة لم تكن لهم مطامع وكانوا على علم بالصلة التي تربط الأستاذ الهضيبي بالإمام الشهيد حسن البنا أعمق مني وربما حضروا معهما جلسات فى مقدمة هؤلاء الأستاذ منير الدلة رحمه الله رحمة واسعة فرشحوا الأستاذ الهضيبي ليكون مرشدا عاما للإخوان .. وقد كان.. ولمّا عرض الأمر على الأستاذ الهضيبي رفض وأصر على الرفض ولكن تحت الإلحاح الشديد للإخوان وتحت ضغط الظروف الصعبة التى كانت تعيشها الجماعة والتي توجب وجود قائد من نوع خاص ... قبل الرجل رغم الظروف الصحية التي تحيط بالجماعة من الداخل ( الصراعات والاختلاف وقضايا النظام الخاص) وتحيط بها من الخارج من جانب الحكومات والمستعمرين المتربصين بالجماعة .. والمتآمرين عليها .. وقد واجه الإمام الهضيبي هذه الظروف كلها بحكمته وجراءته وحزمه وحسمه وصبره وصلابته وجلده وثباته حسن تقديره للأمور ونفاذ بصيرته ورجاحة عقله..

وكانت بداية الفتن .. وما تناقله المرجفون .. ومرضي القلوب وتقولوه على الإمام الهضيبي .. من أنه يحارب فكرة " الجهاد" ... وقد أحدثت تلك الأقاويل ضجة فى صفوف الإخوان ولكن سرعان ما ظهرت الحقيقة واكتشف الإخوان معدن الرجل من خلال جملة اللقاءات التى تمت بين الإخوان والإمام الهضيبي وقد تطاول البعض منا على الأستاذ الهضيبي متهما إيّاه بأنه يريد أن يلغي فريضة الجهاد من منهج الجماعة .. ولكن بمرور الأيام تبين للإخوان زيف هذا الاتهام وكذبه .. وندمن على هذا الظن السئ..

ولعلنا جميعا- من هم فى مثل سنى – نذكر فتنة اقتحام منزله ومحاولة إرغامه على الاستقالة ثم احتلال المركز العام وهذه الأحداث تعد نياشين على صدر الإمام الهضيبي فقد ظهرت صلابة الرجل فى هذا الموقف وثباته واستمساكه بالحق...


رأي الإمام الهضيبي فى انقلاب يوليو عام 1952؟

سأل الأستاذ جمال فوزي عن رأي الإمام الهضيبي فى انقلاب يوليو عام 1952؟

فقال : لقد كان الأستاذ الهضيبي يصارح برأيه فى الانقلاب يوليو فى قوة وشجاعة نادرة.

سئل مرة من بعض الإخوان : ألا تكون حركة الضباط بمثابة تقدم للدعوة مائة عام إلى الأمام؟!

فأجابه الأستاذ الهضيبي بقوله: ولم لا تقول أنها أخرت الدعوة مائة عام إلى الخلف !!

وفى المركز العام وبعد صدور الحكم على إبراهيم عبد الهادى أبدى بعض الإخوان سرورهم بالحكم الذى صدر على إبراهيم عبد الهادى ... فقال الأستاذ الهضيبي لهؤلاء الإخوان : لا تفرحوا كثيرا . فسوف يأتي الدور عليكم قريبا !!

ويضيف الأستاذ جمال فوزي : كان الأستاذ الهضيبي يتميز بالصمت .. وهذه الميزة التى تنبئ عن صلابة عجيبة فى الرجل ولولا هذه الصلابة لكنّا فى وضع آخر !! وعن شخصية الأستاذ الهضيبي مهيبا .. قوى الشخصية حتى أن إدارة السجن سواء السجن الحربي .. أو السجون المدنية كانوا يخشون أن يلقوه .

لقد رأيت حمزة البسيوني مدير السجن الحربي فى محنة 1954 يطلب من الأستاذ الهضيبي ألا يجري مع الإخوان ولكن الأستاذ الهضيبي لم يطعه وأصر على أن يجري أمام الإخوان لتشجيعهم ورفع روحهم المعنوية إعطائهم من نفسه القدوة والمثل فى الصبر والثبات والتحمل ..[ مرة أخري رأيت حمزة البسيوني يطلب من الأستاذ الهضيبي أن يتحدث إلى الإخوان منتقدا تصرفات الجماعة فأبي ورفض ...].

كان الأستاذ الهضيبي يقيم فى مستشف السجن الحربي وكان دائم السؤال عن الإخوان داخل السجن وأحوالهم والصحبة ويحاول بكل الطرق أن يطمئن على الجميع وذهبت مرة إلى المستشفي وعن طريق جندي من بلدي استطعت أن أدخل على الأستاذ الهضيبي فلما صافحته سألني :

هل اقتنع الإخوان أنني حريص على الاستمرار فى الجهاد أم لا؟! وهل هناك أحد من ألإخوان يتألم من تصرفاتي ويعتربها أنها هي التى وصلتنا إلى ما نحن فيه ؟!

فنفيت هذا كله نفيا كاملا وقلت له : إن الموقف قد اتضح وضوحا كاملا لجميع الإخوان حتى أن أحد الإخوان الذين كانوا يعارضونك يوما ما ... بكي نادما واعترف قائلا أنه لم يكن يعرفك..

ويضيف الأستاذ جمال فوزي: ثم سألت الأستاذ الهضيبي عن ابنه إسماعيل... فبعد أن كان يحدثني هاشا باشا إذا به يثور على قائلا : لماذا إسماعيل ؟!! .. كلكم عندي إسماعيل ... والله لم أنسي هذه العبارة وهذه اللفتة الكريمة منه التي لمست قلبي وأذكر يوم ترحيله من السجن الحربي إلى منزله وكانت زنزانتي بجوار زنزانته وكان يسكن معي بعض الأخوة أحسست بالحركة فى الخارج وأحسسنا بوجود كبير فإذا به حمزة البسيوني ومعه بعض الضباط ففتحوا الباب على الأستاذ الهضيبي فسمعته يقول لهم :

من قال لكم أني أريد أن أخرج من السجن ؟! أنا آخر واحد يخرج .. فليخرج كل الإخوان قبلي..

ووجه ألفاظا فى غاية القسوة . مما يدل على أنه يجابه الظالمين فى قوة وشجاعة وصراحة وحسم غير هياب .

وفى محنة 1965 وفى مقتل مزرعة طره كان هناك ... وكثيرا ما كان يجلس خارج المستشفي على كرسي فى الشمس, وكان رجال المباحث يحيطونه ويراقبون كل من يتصلون به وكان يتحدث مع كل من يتصل به عن الصبر والثبات وهو يعلم أن ما يقوله سيصل إلى جميع الإخوان .

فى الأعياد التي مرت بنا ونحن فى المعتقل كان الأستاذ الهضيبي رحمه الله رغم ظروفه الصحية يقف ويعانق كل أخ , فإذا اطمأن إلى عدم وجود رجال المباحث ألقي بعض الكلمات إلى الإخوان يثبتهم بها ويصبرهم فكان الرجل قويا ثابتا جعل من نفسه قدوة لجميع الإخوان فى الصبر والثبات .. رحمه الله رحمة واسعة وتقبله فى الصالحين ... آمين.

" كان رحمه الله يعالج الأمور بعقلية القاضي , فيهتم أولا بموضوع الحق ويبحث عن الدليل ويسمع من الطرفين , ويزن المؤثرات ثم يقول مهما كانت النتائج , ولا يسمح لاحتجاجات المحتجين "


الأستاذ عبد البديع صقر

الأستاذ عبد البديع صقر هو أحد الإخوان الذين عاشوا بالقرب من الإمام الشهيد حسن لمدة اثني عشر عاما كما أنه أحد الذين عايشوا الإمام الهضيبي وشاركوه فى الدعوة والجهاد .

ولقد عاش الأستاذ عبد البديع لدعوته وبذل فى سبيلها جهده وماله , وتنقل بها ولها من مكان إلى مكان حيث بشر بها ودعا إليها , وكان نموذجا لذلك الجيل الذى تربي فى مدرسة الإخوان المسلمين .

وهنا يتحدث عن الإمام حسن البنا الهضيبي المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين .

متي تعرفت على فضيلة المرشد الثاني الأستاذ حسن الهضيبي ؟

تعرفت عليه فى الاجتماع الذى عقد برئاسته لأول مرة عقب اختياره مرشدا عاما وكان ذلك بالمركز العام بالحلمية ( لا أذكر السنة ) .

ما هى معلوماتك عن علاقته رحمه الله بجماعة الإخوان وبالإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله ؟

أنها معلومات قليلة – وعندي وعند غيري فيما أحسب – فلقد كان المرشد الأول رحمه الله حريصا على تجميع الناس على دعوة الله – من كل الفئات – وكان يتصل بمن يتوسم فيهم الخير يدعوهم للمساندة أو للعمل . ولكن النظام السائد فى تلك الأيام كان يحرم على بعض فئات الموظفين أن يتصلوا بالجماعات والأحزاب والهيئات من هؤلاء رجال السلك الدبلوماسي والسلك القضائي ورجال الجيش والبوليس .ز الخ – ولما كان الهضيبي رحمه الله يعمل فى السلك القضائي فقد كان اتصاله بالدعوة ومرشدها فى حدود السرية التامة .

فكان الإخوان يسمعون من المرشد عبارات تنم عن هذه الصلة كقوله " لقد استشرنا بعض إخوانكم – الأتقياء الأخفياء – من القضاء فقالوا كذا وكذا".. وكقوله مثلا " لا تخافوا من قسوة الأحكام على إخوانكم فى هذه القضية .. فقد بذلنا الجهد مع من نعرف من المسئولين .. وما يعلم جنود ربك إلا هو ".

وباعتباري كنت موظفا بدار المركز العام لعدة العام لعدة سنوات كما كنت عضوا بالهيئة التأسيسية فقد سمعت منه اسم الهضيبي مرارا وهو يتحدث عن الإشكالات القانونية التى كانت تثيرها الحكومات المتتابعة أمام الجماعة – وكان يثني عليه ثناء عاطرا ويصفه بالأناة والتقوي مع مع رجل آخر أظنه " أحمد كامل" ولعل أحدهما هو الذى اقترح على الجماعة إنشاء " أقسام البر الخدمة الاجتماعية " حتى تخلص من قانون الأحزاب السياسية .


ما هي الظروف التي جعلت الإخوان يفكرون فى اختيار الأستاذ الهضيبي مرشدا للإخوان ؟

بعد خروج الإخوان من معتقل الطور والمعتقلات الأخري بعد فتنة النقراشي وإبراهيم عبد الهادي وبعد استشهاد حسن البنا بقيت الجماعة فترة بدون رئيس شرعي فلما هدأت الأحوال قليلا فكروا فى اختيار مرشد ثان . وكان هناك عدد من الإخوان يقومون بتدبير شئون الجماعة أذكر منهم الأستاذ صالح عشماوي ( وكيل الجماعة والأستاذ عبد الحكيم عابدين ( سكرتير الجماعة ) والأستاذ أحمد حسن الباقوري والأستاذ عبد الرحمن الساعاتي والأستاذ عمر التلمساني ( من أعضاء مكتب الإرشاد) – وقد رشح الأربعة الأوائل أنفسهم لمنصب المرشد وربما رشح البعض الشيخ محمد الغزالي السقا أيضا ..

وعقد اجتماع عام لأعضاء الهيئة التأسيسية من كل أنحاء مصر والخارج – تم فيه اختيار حسن الهضيبي لهذا المنصب بالإجماع . وكان توفيقا عجيبا من عند الله سبحانه نعم لقد ثارت اعتراضات فى مقدمة الاجتماع عن عضويته السابقة وتكلم ناس بما ذكرته أول هذا الموضع – ولكن المجتمعين لم يلتفتوا إليها وطالبوه بالاستقالة من منصبه الحكومي كمستشار بحكمة النقض العليا فاستقال فى اليوم التالي وانقطع للدعوة


من الذى رشحه لهذا المنصب .. وكيف كان موقفه من هذا العرض ؟

لا أدري – لكنه نزل عند رأي الإخوان باختياره مرشدا .


ما رأيك فى طريقة علاجه لمشاكل الجماعة الداخلية ؟

فى جلسة لى مع بعض الإخوان بدار المركز العام – كنا نتدارس وضع المرشد الجديد وكيف أن هناك برودا فى العاطفة بين بعض افخوان وبينه .

فقد تعودوا من المرشد الأول كثرة الحركة والنشاط وتدفق العاطفة وتأليف القلوب وكان بالنسبة لهم الوالد والمربي والأخ والمتفضل ( حتي فى شئون الحياة الخاصة ) وكأنهم لم يلمسوا مثل ذلك من المرشد الجديد – فهو رجل لم يعرفهم ولا يتكلم إلا قليلا ولا يحضر إلا بميعاد ولا يداني سابقه فى الخطابة والحيوية وكان أكبر سنا من الإمام حسن البنا . قال الأخ أحمد نار رحمه الله " أن من شروط البيعة لأى قائد جديد أن يسلم الجنود له كل ما كان بينهم وبين القائد السابق من أسرار وأموال وجهود وحتي عاطفة الحب – فإن أخروا عنه عاطفة الحب فلم يصدقوه البيعة ".

وقال الأخ عبد الحليم الوشاحي " هذا حق – ولعل المرحلة الحالية تحتاج هذا الالتفاف حوله أكثر من أى وقت مضي – وعذره أنه كان بعيدا عن تنظيم الجماعة يوجب علينا الاقتراب منه ". وقال الأخ سعد الوليلي - "لقد كان الهضيبي من أخطب الناس وأنشط الناس لولا المرض الذى أصابه فثقل لسانه وأمره الأطباء بترك الإجهاد".

وقال آخر :" إذن علينا أن نقدم أنفسنا إليه ونكثر من التردد عليه حتى يتم تبادل الثقة " وفعلا كنا نذهب أحيانا أنا والوشاحي وحسن دوح – وكانت مساكننا قريبة من منزله فى الروضة – نذهب كل يوم تقريبا لنسلم عليه ويقول كل منا " أنا أخوك فى الله فلان " إلى أن قال " خلاص يا جماعة عرفتكم .. والله عرفتكم"

كان رحمه الله يعالج الأمور بعقلية " القاضي" فيهتم أولا بموضوع الحق ويبحث عن الدليل ويسمع من الطرفين ويزن المؤثرات ثم يقول الرأي المدروس ويثبت عنده مهما كانت النتائج ولا يسمع لاحتجاجات المحتجين .

بينما كان الإمام حسن البنا يعالج الأمور بعقلية " الوالد" أو " المصلح" فيهتم أولا بقضية " التجميع " والتأليف – مع احترام الحق – ويحاول أن يداوي دون أن يجرح – فما أشبه سياسة الأول بمنهاج أبي بكر وسياسة الثاني بمنهاج على بن أبي طالب رضي الله عنهما .

كان حسن الهضيبي غير راضي عن " النظام الخاص" فى الجماعة وكذلك كان حسن البنا فى أواخر أيامه كان عبد القادر عودة أيضا .

وكان رأيه أن فكرة الجهاد تكون علنية لا سرية – وأن يلزم بها الكبير والصغير وأن يمارس التدريب فى كل مكان ومن خلال أجهزة الدولة – ولا داعي لوجود تلك الثنائية داخل أجهزة الجماعة – ومن أجل ذلك قال بضرورة عزل عبد الرحمن السندي رئيس الجهاز الخاص وعزله فعلا وكان هذا من أبواب الفتن التي فتحت عليه البنا يتحاشاها .

كان الهضيبي يميل إلى استبعاد فكرة المشاركة فى الحكم لدى الجماعة – ولفترة طويلة حتي يتم تكوين جيل واعد وقاعدة عريضة لحماية هذا الحمل الثقيل – وأذكر أن الهيئة التأسيسية انعقدت نحو ثلاثة أيام متتالية للبحث فى ما عرضه محمد نجيب من مشاركة الإخوان بثلاثة وزراء مع الثورة 1952 وقد مال الكثيرون من الإخوان لقبول هذا العرض لا ميلا إلى الدنيا ولكن لرفع سمعة الدعوة عند الناس ورفع معنوية الإخوان أنفسهم الذين لم يخرجوا من سجن إلا إلى سجن – فجاهد الهضيبي جهادا لإقناعنا برفض هذه الفكرة وكان من قوله " إن الحكومة وضعت قانون الإصلاح الزراعي مثلا وهو قانون نافع لكنه يجعل كل فلاح وكل مالك للأرض مرابيا لمدة لا تقل عن عشرين عاما . فلو رفضناه رفضا مشروعا نافعا وعارضنا الأمة ولو قبلناه التفريط فى مبادئنا .

وإن الحكومة ( ثورية) ومعني هذا أنها ستتخذ إجراءات عنيفة لا تقرها مبادئ الإسلام للتخلص من تاريخ مغلوط معقد – وبدونه لا يمكن أن تنجح الثورة ..

فلنتركها تبوء بهذا كله وننشغل نحن بتسديدها ن بعيد دون مسئولية .ز الخ وعندما أقرت الهيئة وجهة النظر هذه رأيته والله يرفع يديه إلى أعلا ويقول " هذا حل من السماء – اللهم لك الحمد ".

ولقد صدم الهضيبي بتصرفات بعض الإخوان – وهم مجموعة كبيرة من المصريين من بيئات مختلفة يقيمون على رقعة واسعة من الأرض – وعندما كلمناه فى ضرورة الحزم واتخاذ قرارات صارمة ضد المخطئين منهم قال " عندما قبلت هذا المنصب ظننت أني بمجموعة من الملائكة – ولم أكن أعتقد أن أخرج من محكمة لأدخل فى محكمة . ثم لماذا تباشروا بينكم واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".

ولقد حاصره بعض المنتمين للجماعة – حاصروه فى داره , وطلبوا منه توقيع تنازل عن رئاسة الجماعة وكانوا جملة من الشباب المتحمس القوي , وهو رجل فوق الستين – منفردا فى بيت صغير بالطابق الثالث .. وهددوه – فما استطاعوا أن يظفروا منه بطائل وقال لهم فى هدوء " ارجعوا إلى الذين كلفوني ليقولوا ذلك وأكون شاكرا لكم" فانقسموا على أنفسهم ثم ردهم الله عنه وانصرفوا بعد أن احتلوا المركز العام – وكان ذلك بتوجيهات من الجهات الحاكمة .. أنها الصلابة فى الحق مع الصبر والإقتناع لعل آلاف الإخوان يؤمنون مثلي بأن الله سبحانه وتعالي هو الذى يختار لهذه الدعوة فقد كان حسن البنا هو الرجل الأنسب لمرحلة الدعوة والتكوين كما كان حسن الهضيبي هو الرجل الأنسب للمرحلة الثانية .


الهضيبي وحركة يوليو

ما موقف الهضيبي من حركة يوليو وما هو رأيه فى شخصياتها وبالذات جمال عبد الناصر؟

لقد قابل الإخوان حركة يوليو بحماس شديد خصوصا بعد ما أذاع بعض الذين كانوا على صلة بالضباط ن لهم اتجاهات إسلامية - وبالنظر إلى ما كان معلوما لدي الجميع من انحراف فاروق وتدهور أحوال البلاد وفساد النظام الحربي فلم يكن أمرا واضحا ولا معروفا لنا على الأقل ..

وكنا نسمع من الهضيبي كلمات قليلة تفيد وجوب التحفظ وعدم الاندفاع فيقول مثلا :" طولوا بالكم لما نشوف " أو يقول " الثورات لا عقل لها .., وعندما تأزمت الأمور وبدأ وجه الثورة العنيف وتصرفاتها فى مثل" قطار الرحمة " الذى كان يقوم برحلات فى الأرياف لجمع التبرعات للفلسطنين حاملا أعدادا من الممثلين والممثلات والراقصات وصناديق الخمور أسابيع وتبيع الممثلة القبلة بخمسين جنيها للأغنياء على الرصيف عندما وصلت الأمور إلى هذا الحد كان الرجل يتمثل بقول الشاعر :

دعوت على عمرو فمات فسّرني

بليت بأقوام بكيت على عمرو

أما رأيه فى جمال عبد الناصر فلم يكن يصرخ به – لأنه كان رجلا عف اللسان... وكان يحسب للغيبة ألف حساب ويحذرنا من الخوض فى الناس بقوله " هل نسيتم أن الغيبة من أكبر الكبائر؟" ولكن عندما كانت تعرض قضيته من الفتن الداخلية لتحطيم الجماعة ويتضح ارتباطها بوزارة الداخلية يقول لنا – " جمال ليس كما تخليتم "


كيف تطورت علاقة الإخوان بالحركة ؟

قد أجد صعوبة فى الإجابة الدقيقة على هذا السؤال فهو موضوع كتاب كامل ويحتاج لوثائق – وقد هاجرت من مصر فى منتصف عام 1954 ونسيت كثيرا أني لم فى موضوع مسئولية – لكن الذى أذكره بوجه عام هو الموضح فى العناصر الآتية :

1- إن الإخوان – كجماعة منظمة مرتبطة بدستور إلهي ثابت – لم يتغير رأيي ولم تتغير وسائلها المحددة بقانونها الأساسي لخدمة الإسلام ... ولكنها تعرضت للأذى من عناصر كانت تثق بها – سواء من داخل الجماعة أو من خارجها والأمثلة عن ذلك كثيرة فمثلا:

بعض الشبان من أعضاء الجماعة أمكن لرجال السلطة أن يتصلوا بهم وتحرضهم على احتلال المركز العام – وعلى محاصرة المرشد الثاني ومحاولة انتزاع استقالة منه ولولا لطف الله لتم لهم ذلك.

2- بعض أعضاء الجماعة كانوا يميلون لفكرة قبول الاشتراك فى الحكم وجاء قرار الهيئة التأسيسية برفض المبدأ تغيظا لهم – فقبل بعضهم الاشتراك واستقال وبقيت جيوب معينة يداعبها هذا الخاطر ( وهو لخمة الإسلام فى ظنهم ) فوثقوا برجال السلطة وساروا معهم أشواطا وأفضوا إليهم ( بحسن النية) بمعلومات كانت سببا فى نكبة طويلة عريضة – نزلت بهيكل الدعوة وأعضاء الجماعة .

3- ولم يكن الضباط الذين قاموا بالحركة – على حد علمي – من الإخوان الرسميين إذ لم يكن ذلك ممكنا شكلا ولا موضوعا . ولكنها مجموعات صغيرة كان بعض الدعاة يتألفونهم على خدمة الإسلام فى ظل هذه الجماعة – وربما التقي المرشد الأول ببعضهم مرة أو مرتين لتثبيت هذه الصلة – لا أكثر ولا أقل - فلما كانوا فى فلسطين – ودرسوا هناك دراسات أخري – جمعهم جمال عبد الناصر فى ( الفالوجا) – كما شهد بذلك زميلهم يوسف صديق فى إحدي المحاكمات التي عقدت لبعض الضباط الضباط فى القاهرة عام 1954 – وهذا ثابت فى محاضر الجلسات . وعرض عليهم مبادي جديدة تختلف عما تعلموه من دعوة الإخوان فانقسموا قسمين – قسم الذين وافقوه على الفكر الجديد ( بالضباط الأحرار) وأهمل الباقية أو استبعدهم .

4- ومعني ذلك " أنهم أحرار عن الارتباط بمبادئ الإخوان – أو أحرار عن القيود التقليدية ".. فبقي الإخوان يعتبرونهم منهم – بحكم العلاقة القديمة بينما كانوا هم يسكتون عن هذا الوهم لا يصححونه ويعتبرون أنفسهم " أحرارا" ولعل هذا هو التفسير الصحيح لكل ما حدث ...

وقد حدثنا بهذا الشهيد عبد القادر عودة فى السجن الحربي عند اعتقالنا الأول 4 يناير عام 1954 عندما استدعي للمحكمة كشاهد فى القضية المذكورة .

5- ولقد ظهر العداء لدعوة الإخوان منذ اليوم الثاني لنجاح الانقلاب – فالبرغم من أن أهم الشخصيات التي قامت بالانقلاب ومساندته من الإخوان أو من اتجاههم على الأقل فقد استبعدوا جميعا عن الدخول فى مجلس قيادة الثورة – دون سبب معلوم للناس . وعين بعضهم ( مؤقتا) فى مناصب جانبية ثم استبعد ( بتهمة ) بعد قليل وحكم على الباقية بالإعدام أو السجن المؤبد فى الوقت المناسب وعاشوا مشردين .

وهنا يبدو سؤال هام " إذا كان ذلك كذلك – فلماذا عرضت ثلاثة مناصب وزارية على الجماعة ؟"

يقول بعض العارفين إن ذلك كان خدعة حمي الله دعوته فيها – فربما كان المراد منها ايقاع الإخوان فى تناقضات داخلية تؤدي لقسمة الجماعة أو تؤدي بهم إلى التناقض مع مبادئهم بالاشتراك فى إقرار القوانين المخالفة للشرع أو عمليات العنف التي تصاحب الثورات عادة .

وربما كان المراد منها تحقيق كسب مؤقت للحركة فى مبدأ قيامها ثم يسهل طرد هؤلاء الوزراء فى أى تعديل قادم وبتهم شنيعة.

وربما كان هذا الطلب حاصلا تحت ضغط معين فى داخل جماعتهم ورؤى أن يستجاب له – ولو إلى حين.

6- ويخطئ من يظن أن المرشد الثاني كان سببا أو طرفا فى تطور سوء العلاقة بين الإخوان والثورة – فقد كان رحمه الله مثالا للرئيس المنضبط ولقد سمعته كثيرا بقول لأعضاء مكتب الإرشاد " أنا يتعبني السهر فاسمحوا لى بالانصراف وبلغوني قراراتكم لأنفذها .. فأنا دائما تحت أمر الجماعة ".

إنما كانت الأمور تتطور من الجانب الآخر فقط – فهو الجانب الأقوي وهو الحاكم وهو الذى تتفاعل عنده المؤثرات الداخلية والخارجية ونحن صابرون لاستقبال أقدار الله لا نملك لشئ الدفع – ولا نملك حتى لافتراء دفاعا .. واستمر ذلك طوال عهد عبد الناصر – ولم تستطيع جماعتنا ولا أحد من أفرادها ولا غيرنا من الجماعات أن يمسك بقلم أو يفتح فما إلا بعد وفاته ... كما هو معلوم .

7- ولقد تقدم الإخوان للحكومة الجديدة بنصائح كثيرة ومذكرات شتي فى موضوع قانون الإصلاح الزراعي – من ناحية صياغته لا من ناحية المبدأ – فقد كانوا هم أول من طالب بتحديد الملكية الزراعية – لكنهم فى صياغته جعلوا المالك والفلاح مرابي لمدة ثلاثين عاما مثلا – وجعلوا فكرته مستمدة من ( فكر مستورد) وليس من طبيعية البنية المصرية . وقدم الإخوان مذكرات بصدد اتفاقية تأميم القناة – واستنكروا مشروع الاتفاقية بشدة لأنه يربطنا باستعمار جديد وقيود شديدة فى الوقت الذى كانت بريطانيا تعتزم الرحيل لمصلحتها وبموجب اتفاقية 1936.

وقدموا مذكرات تتصل بالأخلاق وتدهورها فى مثل " حفلات الأندلس" التي كانت تقام للفاحشة فى شهر رمضان المعظم بحديقة الأندلس بالقاهرة ومثلها بالأقاليم ولم يتركوا واجبهم فى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - وكان بعض الإخوة يذهبون بنياتهم الطيبة لمقابلة الرئيس جمال ليذكروه بالحلال والحرام والحق والباطل بحكم صلاتهم التاريخية به ( من هؤلاء منير دله وسعيد رمضان وصلاح شادي وحسن عشماوي ومحمد فرغلي – وعبد القادر حلمي وطاهر الخشاب وعمر التلمساني وعبد القادر عودة) فكان يبذل الوعود تارة ثم يخلفها وتارة أخري يغلظ لهم القول ويعلن رفضه لوصاية أحد على الثورة .

حدثنا الشهيد الشيخ محمد فرغلي رحمه الله – وهو أحد أعضاء مكتب الإرشاد العام – أنه عندما احتل المركز العام من قبل شباب الإخوان وكان ذلك فى يوم الجمعة وهو يوم عطلة الأسبوعية – ذهب للاتصال بالداخلية لمنع هذا العدوان – فلم يجد مدير الأمن العام بمكتبه – فاتجه لوكيل وزارة الداخلية فلم يجده بمكتبه فاتجه لمكتب وزير الداخلية ففوجئ بجمال عبد الناصر يقوم بعمل وزير الداخلية فى نصف الليل وينظم الاتصال مع هؤلاء الشبان – وكلم فوجد منه صدودا وحملة شديدة علي الأستاذ الهضيبي فرجع ولم تصنع له الدولة شيئا حتي جاءت وفود الشباب من أنحاء القاهرة وطردت هؤلاء الشبان من المركز العام.

8- وليس أدل على أن روح العداء للإخوان – وللإتجاه الإسلامي – كانت مبيتة منذ قيام الحركة – إن التهم التي أدت للإطاحة بكبار الشخصيات المرتبطة بالثورة مثل محمد نجيب ورشاد مهنا وعبد المنعم عبد الرءوف وأبو المكارم عبد الحي وغيرهم – كان أساسها التعاطف مع الإخوان المسلمين .

وأيضا ما ورد فى مذكرات بعض رجال الحركة من استفتاء حصل فى الأيام الأولي بين الضباط – ( هل تسير الحركة إسلامية أو مدنية غير مقيدة بتعاليم الإسلام فكان الاتفاق على الرآى الثاني – وهو ما صدقته الأيام .

مواقف داخل السجن

ما هي أهم مواقف الأستاذ الهضيبي فى محنة 1954؟

كان هذا الرجل يمتاز ( بالثبات) الثبات على أخلاق المسلمين . والثبات على الغني والفقر . والثبات على الرأى الراجح عنده .. والثبات على ما عاهد الله عليه . أو قل : هو خلق الصدق مع النفس ومع الغير .

ولقد سبق أن ذكرت أنني خرجت من مصر ( إلى قطر ) فى سبتمبر 54 أى قبل حادث المنشية – الذى كان سبب المحنة الكبيرة – بنحو ثلاثة أشهر فلم أشهد ما صار للإخوان ولم أحضر مرحلة التعذيب .

لكني حضرت فترة السجن الحربي الأول عندما كان محمد نجيب هو الرئيس وكنت فى العنبر رقم 1 الذى يضم الهضيبي وكبار رجال الإخوان – بالرغم إني لم أكن من كبار الإخوان – ولكنه رحمه الله كان قد كلفني أن أصلي إماما بأفراد العنبر رقم 4 إذا أمكنت صلاة الجماعة وأن أساعد الإدارة فى توزيع الطعام على الزنزانات وشاء الله أن يطيعني الإخوان وتنتظم الأمور فى هذا العنبر فزعمت المخابرات أنني من الزعماء ونقلت مع ( كبار المجرمين !!) ووضعت فى الزنزانة رقم 8 وبدأت أدور فيها مع الحيطان كالنمور التي فى حديقة الحيوان – واستطعت أن أقرأ ست وصايا مكتوبى بسن قلم رصاص لستة من ضباط الثورة تم إعدامهم – فتفاءلت خيرا – ولم أكلف نفسي كتابة وصية إذ ليس عندي ما يستحق ذلك.

وذات يوم أصابني ( مغص شديد) فطلبت نقلي إلى " الشفاخانة" أى العيادة الداخلية – وهو اسم يطلق فى مصر على العيادة البيطرية حيث تعالج الأبقار والحمير وفى الشفاخانة وجدت الهضيبي وعبد الحكيم عابدين وعبد القادر عودة ( كلهم أصابهم هذا المغص ) وفى هذا المكان أملي علينا المرشد الثاني خطبا موجها إلى رئيس مجلس قيادة الثورة – وهو الخطاب المشهور الذى نعترض فيه عى مصادرة الحريات ونطالب فيه ببعض الإصلاحات فى نظام الحكم ووقعه الهضيبي.

لقد كتب هذا الخطاب من ثلاث نسخ أرسلت نسخة لمحمد نجيب والثانية عندنا والثالثة لجريدة ( المصري ) وقيل للجريدة لا تنشروه إلا بعد ثلاثة أيام حتي يصل أولا للسيد الرئيس..

لقد الخطاب فاتحة شر على جريدة المصري ومحمد نجيب وبعض الضباط السجن الحربي ب والشعب المصري أيضا..

فلقد ظهر أن ( نائب رئيس الوزراء ) جمال عبد الناصر له مخابرات على محمد نجيب فأخذوا الخطاب فلم يصل إليه ... ونشرت جريدة المصري الصورة التي عندها بعد ثلاثة أيام فأرسل محمد نجيب يعاتب الهضيبي فقال له وصلت إليك النسخة قبل ثلاثة أيام من النشر وعرف الرجل أنه محاصر ووقعت الواقعة بينهما وعوقب بعض الضباط بما فيهم الذين حملوا الخطاب .

وصودرت جريدة المصري وجميع أموال أحمد أبو الفتح وأخوه محمود أبو الفتح وأحكمت القبضة على الشعب المصري.

أما النظرة للإخوان ومرشدهم فهي من قبل .


ما هي أهم صفاته الشخصية ؟

كان رحمه الله هادئ الصوت بطي الكلام قليل الانفعال حتي تضايق بعض الإخوان من الفارق بين هذا المرشد والمرشد السابق وقتا ما , ولكنهم ما لبثوا أن قدروه وأحبوه حبا شديدا وصار مطاعا فيهم – فلم نذكر أن أ؛دا خالف له أمر خصوصا بعد عرفوا مواقفه الشجاعة من الأحداث التي عرضت له فى أول عهده .

وكان رحمه الله عف اللسان واليد – فلم يقبل أن يتناول قرشا واحدا من مال الجماعة بل كان يدفع اشتراكه العادي ممن رزقه المحدود وهو المعاش الذى قدر له من الدولة وحتي هذا ( المعاش) جاء ناقصا نحو 15 جنيها شهريا بسبب استقالته قبل سن التقاعد بعدة أشهر .

ويذكرون عنه أنه عندما كان موظفا لم يكن يستحيل أن يكتب خطابا خاصا على ورقة من الأوراق البيضاء التي تحت يده – وكان يجتهد قد الطاقة أن يطبق روح الشريعة الإسلامية على القضايا التي تعرض عليه – ولكنه كان ضيق الصدر بمهنته أساسا.

وكان _ إذ خلا إلينا - يعصر قلبه الهم والأسي على فريق من المسلمين لم يستطعيوا أن يحققوا فى أنفسهم معاني الإسلام وآدابه العملية مثل التبين قبل إبداء الرأي . ومثل التزام الصدق والأمانة فى القول والعمل .. ومثل وجوب ترك الغيبة والتعفف عن نقل المعلومات الضارة . ومثل الاقتصاد فى القول والإنفاق .. ومثل الحرص على الصلاة والتزام الجماعة .. ومثل تصحيح العقيدة وفهم دقائق التوحيد . وبالجملة كان يجب أن تتحول أفكار الإسلام إلى سلوك عملي فعال .

هل لديك أقوال أخري عن المرشد العام الثاني للإخون المسلمين ويختتم الأستاذ عبد البديع صقر حديثه بقوله :

إن من علامات التوفيق للإنسان ان يؤثر فى بيئته الأولي وهي الأهل والجيران تأثيرا حسنا .

فقد عهدنا عددا من الدعاة والعلماء لم يوفقوا فى هذا أى توفيق فهذا صاحب فضيلة وولده شيوعي أو ابنته خليعة وهذا صاحب دعوة لكنه سيئ الخلق – أو متورط فى حرام ... الخ.

ولكن الحسن الهضيبي كان وقورا فى نفسه وأهله – داعيا إلى الله بقوله وعمله مؤثرا فى الأقربين . كانت زوجته تقود الدعوة فى أترابها وصديقاتها من زوجات المستشارين وغيرهن تدعوهم لندوات إسلامية أسبوعية وتطلب منهم الإسهام فى الخير بالمال والرأى السديد.

وكان أولاده ولا زالوا – بنين وبنات – على مستوي جيد من الخلق والدين وكان أقاربه ( فى عرب العلاقات وحينه) من العاملين للإسلام كذلك وقد استشهد منهم نحو أربعة منهم أحد المستشارين .

عاشا صابرا ومات صابرا – وترك تاريخا مشرفا وإن كانت المحنة قد أعجلته وحجبته عن المجتمع سنين طويلة لكن حريته كانت درسا وسجنه كان درسا يستطيع أن يتكلم عنه الذين شاركوه إياه .

ولازلت أذكر ونحن معه فى السجن الأول - أن التقينا أمام دورة المياه فقال لى : فى كم تختم القرآن ؟ قلت : كل 15 يوما .

قال : وما يمنعك أن تختم ككل ثلاثة أيام ؟ أقرأ جزئين بعد كل صلاة وأنت على وضوء – هذه فرصة لن تتكرر.

وقد اتهمناه بالخيانة ذات مرة – عندما رأيناه جالسا فى الشمس على كرسي وبجوار عسكري فقلنا : ما داموا ميزوه علينا فقد حصل اتفاق خاص لكنا لم نلبث أن رأينا الدكتور محمود البوز والدكتور عصام الشربيني جلوسا بجوار فى الشمس بعد أيام ثم ظهر أن طبيب السجن يصرف روشتة مكتوب فيها ( ربع ساعة شمس) لمن يشكون من الروماتيزم.

رحم الله الإمام حسن الهضيبي وأسكنه الله فسيح جناته وألحقنا به على خير وعلى إيمان وثبات..

" اذكر أنه عندما ساءت حالته الصحية فى السجن نصحنا بنقله إلى المستشفي , وإذا به يبكي وهذه أول مرة أراه يبكي – ويقول : أنني أرفض أن أنقل إلى المستشفي .. أني أريد أن أموت هنا بين الرجال .. لا أريد أن أموت بين أهلي بالبيت !"


الدكتور أحمد الملط

الدكتور احمد الملط واحد من الرعيل الأول رباه الإمام الشهيد حسن البنا وانتظم فى صفوف الجماعة وجاهد تحت رايتها وشارك فى ساحات الجهاد التى اقتحمتها الجماعة وسطرت صفحات من نور بدماء شهدائها فى فلسطين .. وعلى ضفاف القناة ..

عاش الدكتور أحمد الملط محن الإخوان جميعها.. واعتقل وعذب فى كل العهود .. عذب فى عهد إبراهيم عبد الهادي .. وعذب فى عهد جمال عبد الناصر .. وقد ثبته الله فى كل ما مر بالإخوان من محن ... فكان يخرج من كل محنة أقوي إيمانا .. وأشد ثباتا .. وأمضي عزيمة وأكثر تصميما على مواصلة السير فى طريق الدعوة والجهاد . أسأل الله أن يختم لنا وله بالصالحات وأن يرزقنا وإياه إحدى الحسنين النصر أو الشهادة .


متي وكيف عرفت الإمام المرشد حسن الهضيبي؟!

قلت للدكتور أحمد:

أريد أن أسألك عن متي وكيف عرفت الإمام المرشد حسن الهضيبي؟!

فقال : فى الواقع أنا تعرفت على الإمام المرشد حسن الهضيبي رحمه الله بعد أن أختير مرشدا للإخوان المسلمين .. فأنت تعرف أنه بعد استشهاد الإمام المرشد حسن البنا كانت هناك جهود كبيرة تبذل لإيجاد مخرج من المشكلة من يخلف الإمام الشهيد حسن البنا فى قيادة الجماعة ؟ وقد تطورت هذه المشكلة كثيرا .. وكان هناك من يسعون إلى هذه المكانة ... كل يريد أن يكون مرشدا للجماعة .. ولكل واحد من هؤلاء مدرسة وأنصاره وحواريوه .. وقد حاول إخوانا أعضاء الهيئة التأسيسية تخليص الجماعة من هذه الورطة وملء الفراغ الذى نشأ ن غياب مؤسس الجماعة ومرشدها الأول الإمام حسن البنا وفى ظل الظروف الصعبة وفى هذا الوقت الحرج من تاريخ الدعوة حيث كانت الجماعة تعيش المحنة الكبري التي بدأت بقرار الحل فى 8 ديسمبر عام 1948 على يد محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء ورئيس الحزب السعدي ووصلت المحنة ذروتها حين اغتيل الإمام حسن البنا مرورا باعتقال جميع الإخوان ومصادرة أموالهم ومؤسساتهم وتلفيق العديد من القضايا وتقديم العشرات للمثول أما القضاء .. فى هذه الظروف الصعبة التى أحاطت بالجماعة كان المخلصون من أعضاء الهيئة التأسيسية يبذلون جهدهم للخروج من هذه المحنة .. كانوا يبحثون عن " الرجل " الذى يكون أهلا لتولي هذا المركز الخطير .. ليقود الجماعة فى هذه الظروف الصعبة .. ليخرج بسفينة الإخوان من خضم الأحداث إلى شاطئ الأمان .. كانوا يبحثون عن رجل تكون صفته الأولي التي تتسم بها شخصيته صفة " الاتزان" حتي يستطيع أن يزن الأمور فى هذا الوقت.

الحرج الذى تمر به الدعوة .. ويقدر كل مسألة قدرها ... خاصة وأن جزءا كبيرا من أعضاء الجماعة فى غياهب السجون أضف إلى هذا وجود انقسامات داخل الجماعة نفسها التي تجسدت فى حادث احتلال المركز العام .. واحتلال منزل الإمام الهضيبي بعد ذلك ... كانت الجماعة فى حاجة إلى " الرجل " الذى يستطيع أن يحسم الأمور بعد أن يقدر لكل أمر قدره .. ولم يكن أى من الذين سعوا لتولي مركز الإرشاد يصلح لهذا الأمر .. كان لابد من وجود " الرجل" الذى لا يكون له صلة بهذه الانقسامات التي تمزق الجماعة وقتئذ ...

وبعد فترة من البحث استمرت طويلا استقر الرأى على أن أنسب رجل هو هذا الرجل الذى لا يعرفه أحد من بين صفوف القاعدة العريضة لجماعة الإخوان المسلمين ولكن قلة من الإخوان – من رجال القضاء والقانون – هم الذين كانوا يعرفون " الرجل" أقصد الإمام الهضيبي عليه رحمة الله ..

كما قلت لك .. كان تعرفي على الإمام الهضيبي بعد أن اختير مرشدا .. وبعد توليته قيادة الجماعة .. وقد تم هذا التعارف بعد عودتنا من فلسطين بفترة كبيرة أراد الإمام الهضيبي أن يتعرف على القاعدة الحقيقية للإخوان .. وهنا كان اتصالي به رحمه الله ...

صلة الإمام الهضيبي بجماعة الإخوان المسلمين قبل توليه مركز الإرشاد ؟!

سأل الدكتور أحمد الملط:

ما معلوماتك عن صلة الإمام الهضيبي بجماعة الإخوان المسلمين قبل توليه مركز الإرشاد ؟!

أنا أعرف أنه كانت له صلة قديمة بالإمام الشهيد حسن البنا بدأت صداقة شخصية تحولت رويدا رويدا إلى أخوة , وكنت أري الإمام الهضيبي وهو يحضر دروس الثلاثاء متخفيا وما كنا نعرف من هو ... وكان يجلس فى الصفوف الأولي ... وكان يلتقي بالإمام الشهيد وفى مرات قليلة كنت أجده فى المركز العام مع الإمام الشهيد خاصة أيام أ، كنا نعد للسفر إلى فلسطين وقد رأيته أكثر من مرة مع الإمام الشهيد فى المكتب وحدهما فكنت أحس أن هناك علاقة خاصة بينه وبين الإمام الشهيد رضوان الله عليهما.

قلت للدكتور أحمد الملط:

من الذى اقترح اسم ألإمام الهضيبي لتولي قيادة الجماعة؟!

قال : مجموعة من الإخوة الكرام منهم الأستاذ حسن عشماوي رحمه الله والأستاذ منير الدله رحمه الله والأستاذ حسني عبد الباقي والأستاذ عمر التلمساني وآخرون من أعضاء الهيئة التأسيسية.

سألت الدكتور أحمد الملط:

كيف واجه الإمام الهضيبي الظروف التي أحاطت بالجماعة داخليا وخارجيا ؟

قال الدكتور أحمد الملط  : يحضرني فى هذا كلمة قالها الإمام الهضيبي لى فى عيادتي السابقة التي كانت فى ميدان الروضة :

الاضطرابات داخل الجماعة كثيرة ... والصراعات الداخلية بين النظام الخاص .. وبين الدعوة العامة وبين أعضاء النظام وبعضهم وبين المسئولين عن لدعوة لعامة وكلهم من الرؤءس الكبيرة الذين كانت لهم مكانتهم المميزة فى الجماعة وقد كشفت المحن عن معادن الرجال .. ولم يصمد البعض أمام الفتن .. وثبت الكثيرون ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ويدرك أن الجماعة كم كبير ولكنها من الداخل ممزقة .. وقد استطاع بحكمته .... وحنكته ... وصبره ... وصلابته حسمه تدريجيا أن يوحد الصف ويلم الشمل ... ويجبر لكسر .. ويصدر الصدع ... لقد استطاع الخروج بالجماعة من محنة انقسام النظام الخاص .. وطغيان قيادته وقد ظن المرحوم عبد الرحمن السندي الذى كان يرأس النظام وقتئذ أنه المرشد الحقيقي للإخوان وكان الإخوان يعرفون بأنه الرجل رقم واحد .. وقد حسم الإمام الهضيبي أمر النظام الخاص .. هذا هو الواقع الذى دخل عليه الإمام الهضيبي .. ولكنه حسم هذه الأمور سريعا وفصل بعض الإخوان الذى دخل عليه الإمام الهضيبي .. ولكنه حسم هذه الأمور سريعا وفصل بعض الإخوان ممن كانوا مرتبطين بشخصية عبد الرحمن السندي .. والتأم الصف واجتمع الشمل بفضل حكمة الرجل .. واتزانه ... ورجاحة عقله ... وصبره .. وثباته .. وصلابته وحسمه وحزمه ..

وعن موقف الإمام الهضيبي من انقلاب 23 يوليو 1952 يقول الدكتور أحمد الملط: فى الأيام الأولي للإنقلاب الذى أطلق عليه اسم " الحركة" صدرت التعليمات بمساندتها وكان دورنا كإخوان حماية المنشآت العامة وكان لى بعض النشاط فى هذا المجال وكنت مسئولا عن حماية كباري الجيزة وكانت التعليمات تصدر من قيادة التنظيم أقصد من عبد الرحمن السندي وليس من المرشد العام ولكن بعد أن نحي عبد الرحمن وأعيد النظام الخاص إلى وضعه الطبيعي فى الجماعة حيث يأخذ تعليماته من المرشد العام نفسه .. ولكن الخلافات بين الإخوان ورجال الانقلاب بدأت مبكرا وظهر للإخوان إن جمال عبد الناصر يريد أن يبتلع جماعة الإخوان ... وأن يقضي عليها وكان الإمام الهضيبي بثاقب نظره منذ الأيام الأولي للانقلاب وبعد لقائه بجمال عبد الناصر مرات يقول :

أخشي أن تزول أسرة محمد على لتأتي أسرة عبد الناصر , وقد كان ..جاء جمال عبد الناصر بنظامه .. وكان أسوأ من حكم أسرة محمد علي . فقد كان فى ظل أسرة محمد على بعض الحريات أما فى ظل حكم عبد الناصر فلم يكن غير القهر والإذلال!!

كان الإمام الهضيبي فى اللقاءات التي كان يلتقي فيها بجمال عبد الناصر كان يخرج بنتيجة هي أن جمال عبد الناصر ليس صافي النية تجاه الإخوان .

وكان يقول :" ربنا يخلصنا من الحركة دي لأن مستقبلها مظلم على الأقل إن لم يكن بالنسبة لنا .. فبالنسبة للإسلام ..".

وكان هذا تعبيرا مباشرا عن راية فى رجال الانقلاب .. وكان هذا هو رأي الإمام الهضيبي وقد أثبت الأيام فراسة الرجل ونفاذ بصيرته .. ورجاحة ..


الهضيبي فى المحنة

قلت للدكتور أحمد الملط:

كيف رأيت الإمام الهضيبي خلف جدران السجون ؟!

قال : والله يا أخي يكفي أن أعطيك صورة بسيطة للإمام الهضيبي أثناء محنة 1954 وقت أن كان جمال عبد الناصر ورجاله أشرس من الذئاب الجائعة فى معاملتهم للإخوان فى السجن الحربي ... بعد أن حكم بالإعدام على سبعة من الإخوان وكان بينهم الإمام الهضيبي وهذه الحادثة التي أرويها لك حادثة تبين لك وتدلك على مدي ثبات ( الرجل) وكيف أنه كان ( كالجبل الأشم) كان زبانية السجن الحربي يأخذوها يوميا ويصفوننا صفوفا كثيرة ويجبروننا على أن نغني أغنية أم كلثوم :

ياجمال يا مثال الوطنية
أجمل أعيادنا الوطنية

بنجاتك يوم المنشية

ردوا عليه ........

وكنا نرد عليه والسياط تلهب ظهورنا وكل أجسامنا وكنا نقف صفوفا متراصة ويقف على رأس كل صف أحد المحكوم عليهم بالإعدام يشتغل " كالمايستروا" ويهز يديه علشان تنتظم النغمة !! والزبانية يتوسطون الصفوف ويلهبون ظهور الإخوان بالسياط يستحثونهم على الغناء مرددين كلمات الأغنية .. وقد استمرت هذه العملية تتكرر يوميا وعلى مدي أكثر من شهرين يوميا يأخذوننا ويجلسوننا القرفصاء أحيانا ونستمر فى الغناء كلما انتهت الأسطوانة يعيدوها مرة .... ومرة... ومرة ..... ونحن جالسين القرفصاء والمحكوم عليهم بالإعدام الإمام الهضيبي – والشهيد عبد القادر عودة ... والشيخ محمد فرغلي والشهيد يوسف طلعت ... والشهيد إبراهيم الطيب [ وكان محمود عبد اللطيف وهنداوي دوير معزولين بعيدا عن الإخوان ] وافقين يشيرون بأيديهم كالمايستروا لينظموا نغمة الترديد وراء أم كلثوم ... وفى واحدة من هذه المرات كنت أقف فى الصف الأول من الطابور وكان يقف أمامي مباشرة الإمام الهضيبي وهو يرتدي " بدلة " الإعدام وهو يشاور بيديه كالمايستروا وينظم النغمة ونحن نجأر إلى الله بقلوبنا ونصرخ مرددين كلمات الأغنية ونحن على هذه الحال مر جلاد السجن الحربي حمزة البسيوني وكلابه الثلاثة ... فقد كان عنده ثلاثة كلاب كالذئاب الكاسرة بسيرون معه أينما ذهب ... مر حمزة البسيوني هو وكلابه بين الصفوف وهو يمسك بيده " الكرباج" يلهب به ظهور الإخوان حتي وصل أمام الإمام الهضيبي ووقف أمامه وقال :

عجبك هذا يا هضيبي ؟! مبسوط من صوت الإخوان يا هضيبي !! النغمة منتظمة يا هضيبي ؟! فنظر إليه الإمام الهضيبي – رضوان الله عليه بجنب عينه وقال له :

إسمع.. أذهب إلى عبد الناصر بتاعك وقل له أن كل هؤلاء الإخوان أرواحهم فى يد من خلقهم وليست فى يده ... وأنهم برءاء من دمه براءة الذئب من دم ابن يعقوب !!... إمش.

وإذا بحمزة البسيونس ينسحب وكلابه معه دون أن ينبش بكلمة ... وظل الإمام الهضيبي رحمه الله يواصل تحريك يديه ينظم النغمة ... وكأن لم يحدث شئ ..

لاشك أن هذه الحادثة تعطيك صورة لقلب هذا الرجل ولإيمان هذا الرجل ... ولثباته ولصبره ولجلده ولشجاعته ولجرأته فى هذه المحنة وفى الأيام التي كان ينتظر فيها حبل المشنقة...

وموقف آخر .. للإمام الهضيبي .. يرويه الدكتور أحمد الملط فيقول :

بعد أن تم تنفيد حكم الإعدام فى الشهداء الستة يتقدمهم الشهيد عبد القادر عودة .. والشهيد محمد فرغليي وقد خفف الحكم عن الإمام الهضيبي واستبدل به السجن المؤبد وكان الإمام الهضيبي فى زنزانة انفرادية وأصيب بذبحة قلبية .. وكان اليوم يوم الجمعة وحمزة البسيوني غير متواجد فى السجن وكان هناك بدلا منه أحد الضباط وكان " مسيحيا وعندما أصيب الإمام الهضيبي بالذبحة ذهب العساكر الحراس وبلغوا الضابط" النوباتجي" ولم يكن أطباء غيري .. والدكتور عبد الفتاح شوقي فأرسل الضابط إلينا فى السجن الكبير فذهبنا إلى الإمام الهضيبي فوجدناه فى أزمة حادة ... نوبة أزمة قلبية فقسمنا ضغطة فوجدناه ضغطا منخفضا جدا .. ووجدنا نبضه ضعيفا جدا وفى حالة قريبة من الموت .. فنصحنا بنقله بسرعة إلى المستشفي وإلا سيحدث له أمر خطير .. قلنا هذا الكلام أما الإمام الهضيبي وإذا به يبكي .. وهذه هى أول مرة أراه يبكي فيها ويقول :

إنني أرفض أن أنقل إلى المستشفي... أنني أريد أن أموت هنا بين الرجال أريد أن أوت بين أهلي فى البيت .. أنا أعرف أن هذه خطوة للإفراج الصحي عني أنا لا أريد أن أخرج من هنا حتي يخرج آخر واحد من الإخوان وأن أردتم أن تخرجوني بالقوة فسوف أقاوم بكل ما في قوة ... تركناه وخرجنا ... وقلت للضباط لابد من نقله إلى المستشفي وإلا ساءت حالته أكثر ونحن لا نملك من علاجه شيئا لأننا معتقلون وليس فى وسعنا أن نفعل له شئ .. وشاء الله أن يصرف عنه هذه الأزمة فى هذا اليوم ولم ينقل إلى المستشفي فى حينها ولكنه نقل إلى المستشفي بعد ذلك .

ويضيف الدكتور أحمد:

كان الرجل فى صمته .. ونظرته للإخوان وهم وقوفا يرددون الأغنية المشئومة والسياط تلهب ظهورهم مثالا للثبات والصبر والاحتساب .. وكان كثيرا ما يهدئ من ثائرة الإخوان بصورة غير عادية .. حين تأخذهم الحماسة وتجتاح نفوسهم الثورة كان كثيرا من الإخوان المتحمسين يقولون :

نحن الآلف .. ألا نستطيع أن نميل على الحراس ونخلص عليهم ونخلص أنفسنا من هذا الجحيم الذى نحن فيه ؟!

وبلغ الإمام الهضيبي هذا القول فكان رده : الذي يقوم بمثل هذا العمل لا يكون من الإخوان أن ظفر أى واحد من هؤلاء الآلاف أغلي من رقبة عبد الناصر نفسه حذاري ان يعطي واحد منكم هذه الفرصة لهؤلاء الكلاب ليتخذوها فرصة للقضاء على هذه الفئة المؤمنة احرصوا على أنفسكم .. واصبروا وصابروا واثبتوا حتى يأتي الله بأمره .. هكذا كان الرجل ..


الإمام الهضيبي أثناء محنة 1965

سألت الدكتور أحمد الملط عن الإمام الهضيبي أثناء محنة 1965 فقال : فى محنة 1965 لم ألتق بالإمام الهضيبي إلا فى معتقل طره وكان فى نفس المستوي الإيماني الرائع .... بصيرة... وثباته .... وصلابته وشجاعته التي كنا نعتز بها وتقر بها أعيينا ونقول لأنفسنا :

هذا هو الرجل ... الذى يحق له أن يكون قائدا للإخوان المسلمين

" هذا الرجل اسمه ينم فعلا عن تصرفاته وسلوكه وأخلاقه ومفاهيمه ..."

الأستاذ حمزة الجميعي

الأستاذ حمزة الجميعي أحد الأوائل الذين تعرفوا على دعوة الإخوان المسلمين وعملوا لها . وهو أحد قلائل من الإخوان كانوا على صلة بالإمام الهضيبي – بكم طبيعة العمل بوزارة العدل – وذلك قبل أن يتولي منصب الإرشاد . إذ عمل معه فى الأربعينات وتعرف على شخصيته وسلوكه وخلقه قبل أن يخلف الإمام الشهيد حين البنا فى قيادة دفة الجماعة.

وهنا يتحدث الأستاذ حمزة الجميعي – أمد الله فى عمره – عن الإمام الهضيبي كما عرفه ...

قلت للأستاذ حمزة الجميعي عضو الهيئة التأسيسية لجماعة الإخوان المسلمين ورئيس مكتب إداري دمنهور:

متي عرفت الإمام حسن الهضيبي ؟

قال : عرفته – رضي الله عنه وتقبله فى الصالحين – عندما كان رئيسا لحكمة المنيا الابتدائية وكنت وقتها أعمل خبيرا محاسبا فى محكمة المنيا الابتدائية ز.. فوجئنا يوما أنا ورئيس بدخول رئيس المحكمة علينا – وكان هو الإمام الهضيبي – يرغب فى أن يناقشنا فى عملنا ويحقق لنا مطالبنا , ويتعرف على مشاكلنا ويساعدنا فى حلها وكان هذا أول رئيس محكمة يتصل بنا كخبراء وييسر لنا سبل العمل , وكان الإمام الهضيبي يتعاون معا كخبراء فى المهمات التي تحال إلينا على أكمل وجه . أذكر أنه دخل علينا بابتسامته المعروفة وبدأ يمسك الدفاتر ويسأل:

كيف تباشرون عملكم ؟!

فشرحنا له كيف يسير العمل . وظل الرجل واقفا على رجليه ورفض أن يجلس وأخذ يستمع فى هدوء وفى صمت , ولم يضايقه طول الوقت وطول الشرح , وبعد أن استمع لنا بدأ يوجه ملاحظاته وتوجيهاته لنا بطريقة أشعرتنا جميعا أن هذا الرجل صنف جديد من رجال القضاء فى تحريه للعدل بكافة الطرق . وبعد ما انتهي وتركنا ولم أكن أعرفه من قبل سألت :

من هذا الرجل ؟!

فقيل لي: إنه حسن الهضيبي.... ويضيف الأستاذ حمزة معلقا

كلمة الهضيبي" نفسها عندما يسمعها الإنسان دون أن تري الشخص نفسه تلقي فى الذهن أهمية كبيرة للشخص تأتي من أهمية " الهضبة" بالنسبة للأرض المستوية فلهضبة تمثل الارتفاع .. السمو... الهدوء .... النقاء... ويوما قلت لزملائي :

هذا الرجل اسمه ينم فعلا عن تصرفاته وسلوكه وأخلاقه ومفاهيمه .. وقد شعرت بجاذبية خاصة تجاه الرجل ورغبت فى التعرف عليه وبعد أيام ذهب إليه نرد له الزيارة فاستقبلنا بترحاب وأبدي حسن استعداده لأى معاونة وأى طلبات نحن فى حاجة إليها.

ثم بعد فترة نقل الأستاذ الهضيبي من محكمة المنيا , ونقلت أيضا بعده إلى مدينة بني سويف ومن بني سويف نقلت إلى دمنهور عام 1945.

وقتئذ – فى عام 1945 – كنت رئيس خبراء وزارة العدل فى دمنهور وكان لى وكيل المكتب الزراعي الأستاذ محمد حسن ثابت الذي كن يمت بصلة المصاهرة للأستاذ الهضيبي فلما سألته :

أنت من منية أبو ثابت ؟

قال أنا من عرب الصوالحة.

فقلت أنت من بلد المستشار حسن الهضيبي؟

قال : عائلة ثابت أصهار لعائلة الهضيبي.

يقول الأستاذ حمزة:

بيني وبين نفسي أعتبرت محمد ثابت همزة وصل بيني وبين الأستاذ الهضيبي فقربته لى وتزاورنا وكان هدفي هو التعرف على الأستاذ الهضيبي أكثر .

كانت أهم المعلومات التي عرفتها عن طريق الأستاذ محمد حسن ثابت هى أن الإمام الشهيد حسن البنا – رضوان الله عليه – كان من برنامجه فى الأجازة الصيفية علاوة على رحلته إلى مدن وقري الوجه القبلي أن يزور الأستاذ الهضيبي فى عرب الصوالحة وكان الأستاذ الهضيبي يتصل بالإمام حسن البنا وكل منهما يبدي رغبته للأخر لهذا اللقاء .

وكان الأستاذ محمد حسن ثابت يخبرني بوجود الإمام حسن البنا عند الأستاذ الهضيبي أثناء لقائهما هذا .

واستمرت هذه اللقاءات فى أعوام 46,47 وإلى أن استشهد الإمام حسن البنا فى مساء يوم 12 فبراير 1949 . وكان الأستاذ الهضيبي خلال هذه اللقاءات يتعرف على الأنشطة المختلفة والجهود التي يبذلها الإمام البنا فى الأقاليم ويتعرف على المشاكل التى تواجهها جماعة الإخوان المسلمين. ويضيف الأستاذ حمزة:

إن مما استدعي انتباهي فى أحاديث الأستاذ محمد ثابت أن الأستاذ حين الهضيبي – رضوان الله عليه – كان بطبيعته ومنذ نشأته , ومنذ طفولته المبكرة إنسانا مسلما بمعني الكلمة وليست دعوة الإخوان المسلمين هى التي غرست الإيمان فى قلبه ولكنه نشأ منذ طفولته مستقيما غاية الاستقامة وكنا نحس هذا المعني عندما نستعرض أسماء أبنائه الذكور : محمد المأمون ... أسامة ... إسماعيل ... ولو رجعنا إلى تاريخ ميلاد أسامة لوجدنا أن أسامة ولد فى وقت كان يسيطر عليه الإلحاد وغياب الروح الإسلامية فى مصر وعندما تجد رجلا فى القضاء يسمي ابنه بهذا الإسم فإن ذلك يدلك على أن الرجل على صلة قويه بالإسلام وبرجالات الإسلام فى الصدر الأول . كان هذا فى وقت لم يكن له أى صلة بالحركة الإسلامية الممثلة فى جماعة الإخوان المسلمين .

وكان الناس فى هذه الحقبة نوعين :

نوع ليس لديه فكرة عن الإسلام ويعيش وفق هواه ,ونوع آخر قلق ومهموم مما يراه من واقع المسلمين ويحاول أن يتعرف على هذا الطريق .. وكيفية إنقاذ الأمة وكان الأستاذ الهضيبي من هذا الصنف الأخير الذى عرف الإسلام دون أن تكون لدعوة الإخوان المسلمين أى دخل فى هذا .

ويذكر الأستاذ حمزة الجميعي حادثة يلقي بها الضوء على شخصية الإمام الهضيبي رضوان الله عليه فيقول:

عندما كان الإمام الهضيبي رئيسا لمحكمة جنايات أسيوط وقد قص على هذه القصة احد كبار المحامين .. قال لى أن وزير العدل فى حكومة الوفد 1947 وكان من كبار المحامين وقد حضر يوما إلى أسيوط كمحامي للدفاع عن متهم قاتل أمام محكمة جنايات أسيوط التى كان يرأسها وقتئذ الأستاذ الهضيبي فعرض على زميلين له من لمحامين أن يذهبا إلى المحكمة ويسألا عما إذا كان رئيس الدائرة موجودا وحضر من القاهرة أم لا. فقيل لهما أنه موجود بحجرته يطالع بعض الأوراق الخاصة بالمحكمة فعرض عليهم المحامي الكبير أن يذهبوا لزيارته قبل أن تبدأ الجلسة وفعلا استأذنوا على الأستاذ الهضيبي فأذن لهم فدخلوا وسلموا وجلسوا واستدعي الأستاذ الهضيبي الحاجب وأمره بإحضار القهوة لكل من الزائرين . بعد انصراف الحاجب لإحضار القهوة بدأ المحامي الكبير يتحدث مع الأستاذ الهضيبي حديثا معناه أن الوفد سيعود إلى الحكم وأنه سيعود وزيرا للعدل . وألمح أنه يستطيع أن ينقل الأستاذ الهضيبي غلى القاهرة . بمجرد أن انتهي المحامي الكبير من حديثه ودخل الحاجب يحمل صينية القهوة فما كان من الأستاذ الهضيبي إلا أن أمر الحاجب بالخروج فورا دون أن يقدم القهوة لأحد من المحامين الزوار وأمره بالانصراف وأغلق الباب خلفه . ثم اتجه الأستاذ الهضيبي إلى المحامي وقال له: " أنا مضطرا ألا اقدم لك هذه لتحية ولا لزملائك لأنه لا يجوز من محامي سيقوم بالدفاع أمامي فى قضية منظورة اليوم ويلوح قبل نظر الدعوي بأنه سيكون رئيسا لى قريبا . هذا أمر لا أقبله ولهذا اضطررت رغم أنفي أن أمتنع عن تقديم التحية لكم فما السبب!! فاعتذر المحامون وخرجوا من عنده .

هذه القصة تدلك على مدي إحساس الرجل بالاستقلال التام فى إبداء الرأى والبعد عن أى تأثير خارجي يكون له تأثير فى إصدار الحكم .


قصة الاختيار

قلت للأستاذ حمزة الجميعي:

كيف أختير الأستاذ الهضيبى مرشدا للإخوان ؟

قال : عقب استشهاد الإمام حسن البنا وعقب إسقاط حكومة إبراهيم عبد الهادي والإفراج عن الإخوان من معتقل الطور أجريت الانتخابات وعاد الوفد إلى الحكم وبدأ التفكير فى عودة الجماعة ظهر أربعة كبار الإخوان كل منهم يريد أن يكون مرشدا هم : الأستاذ عبد الرحمن البنا شقيق الإمام الشهيد حسن البنا , والأستاذ عبد الحكيم عابدين, والأستاذ صالح عشماوي , والأستاذ أحمد حسن الباقوري , وكان لكل منهم وجهة نظره فى أحقيته بهذا المنصب وبالذات هؤلاء الأربعة , وهؤلاء القلة من الإخوان المسئولين كانوا يعدون على أصابع اليد الواحدة وهذا الاتجاه كان غير واضح بين الإخوان لعدم العثور على هذا الإنسان الذى يمكن أن يختار . وكان من بين هؤلاء القلة الأستاذ حسن عشماوي المحامي , وأذكر أنه حضر إلى سوهاج مع والده محمد باشا العشماوي المحامي للدفاع فى قضية قتل أمام محكمة جنايات سوهاج فقابلني وتحدث معي فيمن يكون مرشدا للإخوان , وكان يريد التمهيد لاختيار مرشدا بعيدا عن هؤلاء الأربعة, وانا شخصيا وافقت على هذا المبدأ باعتبارى عضو فى الهيئة التأسيسية , وباعتباري رئيس مكتب إداري دمنهور, وقتها فهمت أن فى ذهن الأستاذ حسن واحد معين لكنه لم ينص إلىّ اسمه ففوجئت أن كشف الإختيار الذى مرر على بالهيئة التأسيسية وبصفتي أحد أعضائها مرر على ووقعت بالموافقة على اختيار الأستاذ الهضيبي , والذين احضروا لى كشفا أسماء أعضاء الهيئة التأسيسية لأوقع عليه سألتهم:

كيف وصلتم إلى الأستاذ الهضيبي ؟

فقالوا : كان مصدر التفكير فى اختيار الأستاذ الهضيبي الأخ المستشار منير الدلة والأخ الأستاذ حسن العشماوي والأخ منير الدلة كان – بحكم منصبه الفضائي – اعرف الإخوان المسئولين بالأستاذ الهضيبي.

فى بادئ الأمر اعتذر الأستاذ الهضيبي وتكرر العرض وتكرر الاعتذار وفي خلال هذه الفترة استعان الإخوان بالأستاذ صالح حرب باشا والأستاذ محمد العشماوي باشا رحمهما الله فى رجاء الأستاذ الهضيبي أن يقبل وبعد موافقة الأستاذ الهضيبي على اختيار الإخوان له مرشدا عاما دار حديث بينه وبين زوجته رحمها الله فقال لها :

هل تعرفين ثمن هذا الاختيار ؟!

فقالت: ما هو الثمن ؟!

فأشار إلى رقبته !!

فقالت : الأستاذ البنا استشهد , وأنت عندما تمشي على نفس الطريق ربما استشهدت أيضا ...

وبعد رجاء وإلحاح قبل الأستاذ الهضيبي بشرط موافقة المائة وخمسين عضوا الذين تتكون منهم الهيئة التأسيسية ويكون له حق فى الاعتذار إذا امتنع عضوا واحد على الموافقة على اختياره , وفعلا وافق الجميع حتى الأربعة الذين كانوا مرشحين قبله .

ومما كان يحببني فيه ويزيدني ثقة به هو أنه كقاضي يحب أن تكون رؤيته للأشياء واضحة تمكنه من أن يحكم بالحق قدر الإمكان لذلك كان لا يصدر أى حكم ما لم يكن كل شئ واضح أمامه وليس فيه أى غموض أو خفاء أو أسرار وهذا ما يتفق مع جوهر الإسلام .

" كان رحمه الله يتسم بالصبر والثبات ولم يكن له داخل السجن مال خاص . وكان لا يتزحزح عن موقفه مهما حدث له , مما جعل الجميع يحترمونه ".

الشيخ حسن عليان

الشيخ حسن عليان واحد من الرعيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين ومن بلدة الإمام الهضيبي " عرب جهينة" ومن الذين ابتلوا فصبروا وثبتوا ... حكم عليه فى محاكمات 1954 بالسجن لمدة خمسة عشر عاما .. وبعد أن قضاها كاملة حول إلى المعتقل وعاش فيه حتي أفرج وخرج مع آخر دفعة خرجت من المعتقل وكان من بينها أيضا الإمام الهضيبي.

يقول الشيخ حسن عليان :

عندما كان الأستاذ الهضيبي يزور دور الإخوان فى منطقة العرب كان حديثه للإخوان يدور دائما حول " الثبات" على الحق والإخلاص فى الدعوة .. والعمل لله سبحانه وتعالي , وكان دائما يدعو إخوانه إلى أخذ الأمر مأخذ الجد .

ويضيف الشيخ حسن :

الإصرار ... والثبات .... صفات طبيعية فى عائلة الإمام الهضيبي كان أخواله من طبيعتهم الإصرار والعناد .. وقد أصّل هذه الصفات فى نفس الإمام الهضيبي علاقته بالإمام الشهيد حسن البنا , فكانت أبرز صفات الإمام الهضيبي إيمانه , وإخلاصه , وثباته , وقوة شخصيته .. وقد اختاره الله لفترة معينة تحتاج لمثل هذه الشخصية التي أكرمنا الله بها .

ويضيف الشيخ حسن قائلا:

عائلة الأستاذ الهضيبي ذات أصول عربية محافظة متدينة رجالها كرام أصحاب نجدة وكان والد الأستاذ الهضيبي يعتبر شخصية كبيرة مشهور عنها الكرم والمروءة والشجاعة ومعروفة على مستوي محافظة القليوبية كلها ووالدته من عائلة كبيرة ورجالها متعلمون وعرب أصلاء جدا جدا , ولهم طباعهم الكريمة . وقد أخذ الأستاذ الهضيبي أكرم هذه الصفات . كان ولا أزكيه على الله مسلما مؤمنا ثابتا .


الهضيبي داخل السجون

وعن الإمام الهضيبي داخل السجون يقول الشيخ حسن عليان:

الأستاذ الهضيبي لم يبق فى السجن فى محنة 1954 فترة طويلة فقد حكم عليه بالإعدام ثم خفف الحكم إلى المؤيد ورحل من السجن الحربي إلى سجن مصر وندما أدخل السجن استقبله الإخوان المعتقلون والمسجونون استقبالا عجيبا...

انتظروه على أبواب الزنازين, وأخذوا يدعون له , ويشدون من أزره مما جعل إدارة السجن تدرك تأثيره فى نفوس الإخوان وأنه مصدر تقوية ورفع للروح المعنوية للإخوان وكان من عادة الأستاذ الهضيبي أن يجلس فى الزنزانة واضعا رجلا على الأخرى – عادة العرب – وفى أحد الأيام دخل عليه صلاح الدسوقي الششتاوي أركان حرب وزارة الداخلية عندما كان عبد الناصر وزير الداخلية ومحافظ القاهرة فيما بعد فبقي الأستاذ الهضيبي جالسا كما هو ... لم يقم , ولم يغير جلسته مما أشيق صلاح الدسوقي الششتاوي رجل عبد الناصر فقال مخاطبا الأستاذ الهضيبي : يعجبك ما أنت فيه؟

فأجاب الأستاذ الهضيبي: نعم ... يعجبني ما أنا فيه .

فقال الششتاوي : هل يعجبك وضع هؤلاء ؟ وأشار إلى الإخوان. فقال الأستاذ الهضيبي: هل اشتكي أحد منهم لك؟! عندما يشتكي أحد منهم لك تعال وأخبرني ..

وكان رد الأستاذ الهضيبى لصلاح الدسوقي الششتاوي مفحما , ,لم يكن الششتاوي متوقعا أن يسمع هذا الذى قاله الأستاذ الهضيبي له .

فى نفسي اليوم وبعد ساعات قليلة جاء أمر بنقل الأستاذ الهضيبي إلى السجن الحربي من جديد لأنه مصدر تقوية للروح المعنوية للإخوان .

لم يبق الأستاذ الهضيبي فى السجن الحربي طويلا فقد أصيب بالذبحة وأفرج عنه إفراجا صحيا , وذهبوا به إلى منزله فعرفنا أنه سجن نفسه فى المنزل , إذا عاش بمشاعر المسجون يشارك الإخوان المسجونين مشاعرهم .

ويضيف الشيخ حسن :

أحيانا كانت تصلنا وصاياه عبر الأهل الذين يزورنا وفى إحدي المرات أرسل إلينا هذه الآية التي يقول فيها ربنا جل وعلا ( والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدأرون بالحسن السيئة أولئك لهم عقبي الدار ) فكانت نعم التوجيه إذ أثلجت صدورنا وثبت الله بها قلوبنا وقرت بها أعيينا.

ويقول الشيخ حسن عليان:

إن الإمام الهضيبي لم يعط الدنية من نفسه , ولم يتنازل عن شئ من الحق الذى يؤمن به ويعتقد . ولم يساوم أو يماليء , ولم يهن أو يضعف . وبقي ثابتا إلى أن ألقي القبض عليه عام 1965 وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات .. ثم أفرج عنه صحيا ليموت فى بيته كما كان يتمني الطاغية عبد الناصر, ولكن الله خيب ظنه وشفي الله الإمام الهضيبي فأعادوه مرة أخري إلى معتقل مزرعة طره فكانت رحمة من الله وتدبيرا من تدبير الله .

ويضيف الشيخ حسن عليان :

لم ألتق بالأستاذ الهضيبي إلا بعد أن قضيت مدة الحكم الذى صار ضدي [ خمسة عشر عاما ] رحلوني بعدها من سجن قنا إلى معتقل مزرعة طره حيث يقيم الإخوان المعتقلون منذ عام 1965 والذين قضوا مدة حكمهم التي صدرت ضدهم عام 1954 وبعد أن قضوها حوّلوا إلى المعتقل .

عندما وصلت غلى المعتقل كانت أول مرة أري فيها الأستاذ الهضيبي منذ خمسة عشر عاما فسلمت عليه وكان موضوع " التكفير" هو الموضوع الذي يشغل الإخوان وكنت أعرف أن هذا الفكر ليس فكر الإخوان المسلمين فلم نعرفه من قبل ولا نفهمه .. فأردت أن اسمع رأي الأستاذ الهضيبي , فلما قابلته قلت له: أريد أن أعرف حقيقة هذا الأمر فسمعت منه عموم الناس مسلمين ونحن لا نصدر أحكاما على أحد لأنه ليس لنا أن نحكم على الناس إلا أنهم مسلمون مؤمنون بالقرآن ... هذا الكلام سمعته منه.

وبعد الانتهاء من موضوع " التكفير" والفصل فيه بكتابه " دعاة لا قضاة" ثارت قضية التظلمات " من الاعتقال فسألت الأستاذ الهضيبي عن رأيه فى هذا الأمر فقال :

أنا شخصيا لن أرفع قضية تظلم لأنه بيني وبين الله عهدا ألا أسأل مخلوقا شيئا وهذا ليس عنادا لكنه عهد بيني وبين الله .. لن أطلب حاجة من غير الله . يفرج عني ... يفرج عني.. يبقيني فى السجن يبقيني.. إنما الباب مفتوح أمام الإخوان فمن أراد ان يتظلم فليتظلم , ومن لم يرد فله ما يري , لكن بشرط ألا يتبرأ أحد من دعوة الإخوان المسلمين لأن التبرؤ منها " ردة" ولا يوافق على ظلم الظالمين لأن هذا له حكم شرعي , والذي يتجنب هذين الأمرين يختار لنفسه .. وهو أدري بظروفه لخاصة وقدرته وطاقته ... أنا أ‘رف أن إسماعيل ابني راح تظلم... وأن مأمون لم يتظلم ... كل واحد أدري بظروفه الخاصة ... لكن لا نتبرأ من الدعوة لأن التبرؤ من الدعوة " ردة ". ويضيف الشيخ حسن عليان :

كان موقف الإمام الهضيبي يتسم بالصبر والثبات ولم يكن له داخل السجن مال خاص . كل مال يصله يسحب كله.

كان لا يتزحزح ن موقفه مهما حدث له مما جعل الجميع يحترمونه .

عندما حضر إلى معتقل المزرعة ذهب إليه كل من فى المعتقل وسلم عليها وقبل على يده حتى اليهود الذين كانوا معتقلين معنا قبلوا يده إعجابا بثباته وصبره .

وكان الأستاذ الهضيبي يقول : إذا تخلي الجميع ولم يبق سوي أخ واحد فسأكون معه .. وأشهد أن الأخ صلاح شادي هو أيضا كان يقول نفس الكلمة عليه رحمه الله وقتها كنا معا فى سجن الواحات وقد رأيت رؤية... رأيت أن الإخوان مقبلين على بحر فوقع بعض الناس ... وابتلت ملابس بعض آخرين , وفئة ثالثة لم تبتل ملابسهم ... واستيقظت من النوم وأنا خائف من هذه الرؤية لأن البحر يمثل ظلم الظالم , وتملكني الخوف على الجماعة .. وبعد هذه الرؤية حدث موضوع تأييد بعض الإخوان لجمال عبد الناصر من أجل الخروج من السجن , وفعلا جرح بعض الإخوة الذين أيدوا الطاغية فتعبت أكثر وازداد خوفي على الجماعة ... وكنا نجلس فى السجن نقرأ فى كتاب لابن القيم , وكان الأخ صلاح شادي معنا هو ومجموعة كبيرة من الإخوان فقلت للأخ صلاح شادي: إنني أخاف أن يترك الإخوان الجماعة ويؤيدوا الحاكم الظالم .. أنا لا يهمني سمعة الجماعة ولكن سمعة الجماعة , ولكن أخاف أن يقال أن الإسلام لم يستطيع أن يربي ناسا مثل الذين رباهم فى العصر الأول , فيملأ هذا نفوس الناس باليأس من المستقبل .. يجب أن يصبر المسلم إلى أن يلقي الله حتي لو كانت النهاية الإعدام لو بقي واحد فقط على هذا سألقي الله وأنا راض .. وأنا يا أخ صلاح خائف من ألا يثبت واحد من الإخوان حتي النهاية .

هنا بسط الأخ صلاح شادي يده وأمسك بيدي وقال : أعاهد الله على ا، أكون ذلك الرجل .

فكان الأخ صلاح شادي هو الرجل الثاني الذى سمعت منه هذه الكلمة ثم سمعتها بعد ذلك من الأستاذ الهضيبي .

قيل الإفراج عنا رأيت رؤية وهى أني أكنس سجن مزرعة طره كله , ولم أكن أعرف ماذا تعني هذه الرؤية فرأيت الأستاذ الهضيبي يقف أمامي فى وسط السجن وحوله الإخوان وجاء أمر الإفراج عن الدفعة الأخيرة , وكان أول من خرج من هذه الدفعة هو الأستاذ الهضيبي ,وكنت أنا آخر واحد يخرج من باب المعتقل . وقبل الخروج رحت أصلي خلف الأستاذ الهضيبي, وبعد أن جمعنا حاجياتنا وأنا أقول لنفسي : فرصة أصلي وراءه... فإذا به يقول ولى : صلي بنا جماعة.

قلت له : حسن ممكن طبعا هذه فرصة , ولازم تصلي بالجماعة هذه المرة.

فقال: ليكن هذا لك .

وبعد أن فرغنا من الصلاة قلت للأستاذ الهضيبي :

أمر عجيب .. حدث سأقوله لك ولن أقوله لغيرك : أنا يوم أن دخلت السجن كان معي مبلغ من المال فى جيبي وتركت مع أبي بالمنزل مبلغا آخر بسيطا ومحدودا... اليوم وأنا خارج من السجن وجدت أن المبلغ الذي معي الآن هو مجموع المبلغ الذي كان فى جيبي يوم دخلت السجن بالإضافة إلى المبلغ الذى تركته مع والذى بالتمام لم ينقص منه مليم واحد .

فقال لى الأستاذ الهضيبي:

حسنا أرجو الله أن يحفظ عليك إيمانك كاملا كما دخلت .

قلت له : إن شاء الله .. هو هكذا ..

قال لى مازحا: طيب تعالي أقول كلمة : أعطنا قرشين نروح بهم سويا .. قلت لنفسي ربما هو يريد أن يقول لى : انظر أنت معك نقود وأنا ليس معي نقود .

وكانت ملاحظة فى غاية الكمال , وانصرفنا إلى منازلنا ونحن أعز ما نكون وأحسن ما نكون , وإن شاء الله سوف نلقي الله أعز ما نكون وأحسن ما نكون ...

" ما كان الأستاذ حسن الهضيبي يقبل هذا المنصب الخطير ويتولي شئون الإخوان ... حتي أحس الإخوان جميعا – إلا من رحم الله – أنهم ألقوا ما على أكتافهم على كتف هذا الكهل الضعيف المرشد الجديد !!"


الأستاذ أحمد البس

الأخ الكبير الأستاذ أحمد البس واحد من رجال الجيل الذي واكب مسيرة جماعة الإخوان المسلمين منذ بزوغ فجرها ..

تعرف على الدعوة والتحق بركبها فى عام 1939 ورافق الإمام البنا فى إقامة صرح الجماعة شامخ وواصل المسيرة مع الإمام الممتحن حسن الهضيبي .. وعاش كل محن الجماعة وقضي فى سجون مصر سواء فى العهد الأسود لإبراهيم عبد الهادي رئيس وزراء مصر فى أواخر الأربعينات أو فى عهد الطاغية جمال عبد الناصر قرابة ربع قرن من الزمان فكان فيها صابرا محتسبا ... آمنا مطمئنا ... لم يهن ولم يضعف ... ولم يعط الدنية فى دينه ... وبقي على العهد ثابتا حتى اليوم وإلى أن يلق ربه – إن شاء الله-

ثبتني الله وإياه على الحق حتى نلق ربنا وهو راضي عنا آمين .

يتحدث الأستاذ أحمد البس عن الإمام حسن الهضيبي فيقول :

فى الحقيقة أني لم أتعرف على الأستاذ حسن الهضيبي إلا بعد استشهاد الأستاذ حسن البنا والتفكير فى اختيار من يخلفه ..ز الهم إلا تعريف بسيط ذكر فى مجلة الشهاب عنه ضمن الشخصيات الإسلامية التي كانت تكتب فى آخر المجلة وقد دعيت فيمن دعوا إلى السفر إلى الإسكندرية حيث كان الأستاذ حسن الهضيبي يصطاف كل عام لحمله قبول منصب المرشد العام وأذكر أنه رحمه الله كان يحاول جاهدا ألا يكون فى هذا المكان ويقول أنا منكم ومعكم ولكن كفرد عادي نظرا لسني وصحتي ولأني لم أشترك فى إدارياتكم, وقد شاع بين الإخوان من أفواه من يعرفون الأستاذ حسن الهضيبي معرفة تامة أن الأستاذ حسن البنا رحمه الله كان يلتقي به مرارا ويتحدث معه فى شئون الدعوة والمسلمين وأنه كان يري منه نضجا تاما ورأيا صائبا وإخلاصا واضحا.

وقد سمعت أن الأستاذ حسن الهضيبي عرف الإخوان عن طريق شباب عائلته فعندما كان يتحدث مع من له صلة بالإخوان يجده ذا فهم كامل لجميع الأمور فسألهم عن مصدر معرفتهم فقالوا نحضر للأستاذ البنا دروسه ومحاضراته وتوجيهاته فاشتاق لمعرفته وسماعه ويقال أنه استمع إليه لأول مرة ثم قال بعد المحاضرة لقد أخذ حسن البنا قلوب السامعين وهو يتحدث إليهم ولم يردها لهم إلا بعد أن فرغ من حديثه ومن العجيب أنه رد قلوب السامعين إليه ولكنه لم يرد إلىّ قلبي فقد احتفظ به.

وتم اقناع الأستاذ حسن الهضيبي بقبول منصب المرشد العام بعد زيارات متكررة له من قادة الإخوان وأفرادهم وبويع بدار الإخوان بالظاهر وأذكر أنه تمني أن الأستاذ الشهيد عبد القادر عودة يكون وكيلا له وقد كان فى الجلسة نفسها .

وكان المعروف أن الأستاذ حسن الهضيبي ( المعروف عنده وعند من بايعه) أنه سيكون مشرفا على سير العمل إشفاقا على صحته وسنه وأن جمع الإخوان سيقومون بجميع الأعمال صغيرها وكبيرها وكفي أن الأستاذ حسن الهضيبي ملأ الفراغ وحل الأشكال – لأن بعد استشهاد حسن البن المم يوجد الأخ الذى يملأ فراغه .

. ولكن ما كاد الأستاذ حسن الهضيبي يقبل هذا المنصب الخطير ويتولي شئون الإخوان حتي أحس الإخوان جميعا – إلا من رحم الله – أنهم ألقوا ما على أكتافهم على كتف هذا الكهل الضعيف المرشد الجديد , ومن هنا واجه حسن الهضيبي كل التبعات صغيرها وكبيرها دقيقها وعظيمها أنه لابد أن يجد لكل أمر حلا حتى الخطابة والحديث الذى كان من طبيعة حسن الهضيبي القاضي الذى يستمع الساعات من المحامين فى المرافعات ولا ينطق إلا بكلمات الحكم الأخير فى القضية ... هذا الراجل الصامت دعته دعوته أن يتحدث الساعات وأن يواجه الناس وأن يتنقل بين المحافظات والمراكز والرقي والنجوع ليشرح دعوة الإخوان والقضايا التي تواجه الناس .

وقد أخذ بعض الكبار من الإخوان وراءهم كثير من الأفراد يتبني الآاء والاتجاهات التي تعوق سير الدعوة وتنحرف بها فصمد لهم حسن الهضيبي وقارعهم الحجة بالحجة بل ق قد اضطر فى بعض المور أن يقترح إقصاءهم بعيدا عن الدعوة وقد ثبت لهؤلاء الإخوان ولأتباعهم نقاء حسن الهضيبي وصفاء اتجاهه وحسن تفكيره فرجعوا إليه استسمحوه ولقد نمت الإخوان , وازدهر علي يديه واتسعت رقعتها وقامت من عندنا بعد استشهاد مرشدها ومؤسسها الأول , فأخذ يجوب البلاد ويعقد المؤتمرات ويشجع الأنشطة جميعا التي كانت تمارس أيام حسن البنا رحمه الله .


موقف الإمام الهضيبي من حركة يوليو 1952

وعن موقف الإمام الهضيبي من حركة يوليو 1952 يقول الأستاذ أحمد البس :

لقد جاءت حركة 23 يوليو 1952 , وتحدث الإخوان الذين لهم صلة بالحركة إلى فضيلة المرشد وذكروا له أنها ستعمل للإسلام ورتبوا لقاءا للأستاذ مع جمال عبد الناصر وخرج حسن الهضيبي من هذا اللقاء مقتنعا أن هذه الحركة ليس لها صلة ما بالإسلام ولا بأهله اللهم إلا صلة التعويق والمحاربة وركز حسن الهضيبي بفراسته وحنكته ومعرفته بالرجال على جمال عبد الناصر ويقال أنه قال ويل لمصر والإسلام من هذا الأصفر , وقد كان .

ذهب فريق يقول نسير مع هذه الحركة أين ما سارت وفريق على رأسه حسن الهضيبي يحذر ممن الاندماج فيهم نعاونهم فى الخير ولكن لا نندفع وراءهم لأنهم ليسوا خلص للإسلام ولا هم أهله بل سمتهم بعد أن تولوا الحكم ودانت لهم البلاد – الغطرسة والتفاخر والعجب والقهر .

ولقد فرح كثير من الإخوان حينما أدانت الحركة إبراهيم عبد الهادي وسجنت صغار من اشتركوا فى قتل حسن البنا ولكن حسن الهضيبي وحده من هذا الفرح وقال ستدور عليكم الدائرة وقد كان كل ما تنبأ به وأكثر فقد أنزلت هذه الحركة فقد أنزلت هذه الحركة بالإخوان العظيم من البلاء بقصد استئصالها من جذورها ومحوها من على الأرض ( أرض مصر بل أرض الإسلام كلها) وأني لهم ذلك [ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون].

ولقد كان لصمود حسن الهضيبي الأثر الواضح فى بقاء هذه الدعوة شامخة عالية فقد صمد حسن الهضيبي وأهله رجالا ونساءا للسجن والشنق والتعذيب والاضطهاد

ولما حكم على حسن الهضيبي بالشنق أوعزوا إليه أن يطلب العفو فلم يقبل فأرسلوا إلى زوجته رحمها الله أن تطلب العفو عن زوجها فقالت هو عندكم له أن يطلب بنفسه أو يرفض .


موقف مع الهضيبي

ويذكر الأستاذ أحمد البس موقفا له مع الإمام الهضيبي يقول:

ولما التقيت معه فى السجن عام 1968 وكان قد بقي له على انقضاء مدة الحكم ثلاثة أيام أو أربعة جري فيها الحديث الآتي :

قلت تحب تذهب إلى بيتك بعد انقضاء مدة السجن أو تذهب إلى المعتقل بمزرعة طره فقال أحب أن أذهب إلى المعتقل حيث الإخوان أشاركهم معتقلهم – وقد استجاب الله له فارتفعت الروح المعنوية فى الإخوان وحل كثيرا من مشاكلهم .

وقلت له أيضا هل عندك حل لمشاكل البلد أقصد مصر فقال : إن كل مشكلة لها عند الله حل ولكن الحكومة لا تحب أن تحل مشاكلها كهدى الله – فإذا هداها الله وحلت مشاكلها كما يريد الله لسعدت وسعد الناس – [ ولو أن أهل القري آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ] وفى يوم رحيله من السجن إلى المعتقل لبس بذلته وأخذ البالطو على كتفه وترك جميع ملابسه الداخلية والدواء والغذاء ولما قلنا له خذها معك كما يفعل الإخوان قال إن كل مكان تذهب إليه ستجد فيه غذاءك ودواءك وما تلبس وأمرنا أن نوزع ما تركه على الإخوان .

ويقارن الأستاذ أحمد البس بين الإمام الشهيد البنا والإمام الهضيبي فيقول لقد أدي حسن البنا دوره فى ظروفه التي قام فيها يدعو إلى الله وأدي حسن الهضيبي دوره فى ظروفه التي تولي فيها أمر هذه الدعوة وقد أجاد كل منهما دوره والله أعلم حيث يجعل رسالته .

والذى يمكنني أن أقوله أن حسن البنا أدي دوره وجاهد فى سبيل الله وهو فتي مكتمل الصحة وأدي حسن الهضيبي دوره كاملا وجاهد فى الله حق جهاده وهو كهل مشيب لم يمنعه سنه ولم تعوقه صحته أن يؤدي دوره كاملا والحمد لله فجزاهما الله خير الجزاء وعوضنا خيرا....

" كان دائما الترديد لدعاء يوسف عليه السلام مبينا للإخوان حقيقة الدنيا وخلاصتها بعد التدرج فى شتي صورها من غاية الجب إلى بيت العزيز , إلى السجن إلى الحكم وبعد ذلك كله ماذا طلب يوسف من ربه ؟

" رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض , أنت ولي فى الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين "

الدكتور أحمد العسال

الأخ الدكتور احمد العسال هو أحد الذين تربوا فى أحضان هذه الدعوة من نعومة أظفارهم وشبوا فيها وشاركوا فى حمل لوائها والجهاد فى سبيلها .

ولا زال الدكتور أحمد العسال – بفضل الله – يعطي لدعوته أينما حل , ويبشر بها بين طلابه ومحبيه , ثبتنا الله وإياه على الحق , وجمعنا وإياه فى مستقر رحمته , آمين .

يقول الدكتور أحمد العسال :

كلما فكرت فى الحديث عن الإمام المجاهد حسن الهضيبي رضي الله عنه وأحسن نزله شعرت بالعجز والضآلة وكأنني أقف أمام جبل شامخ أشم لا أستطيع ان أدرك قمته أو أحيط بضخامته , وكلما رجعت البصر كرة أو كرتين انقلب إلىّ البصر خاسئا وهو حسير , فليس كل عظيم يمكن الكتابة عنه أو ذكر مناقبه و فما بالك إذا كان هذا العظيم مما لا يتكرر كثيرا فى الحياة ..

ومهما تحدثنا عن الإمام الهضيبي قلن نصل غلى أن نوفيه حقه وننهض بقدره فإن القمم الشامخة تتراءى لمن ينظر إليها كل على قدر استيعابه وحدة نظر ودقة إدراكه بقدر ما يري الكاتب أو يعي أو يحيط من الجبل الأشم الذى يقف الكاتب خاشعا عند قدميه عاجزا عن الإحاطة بحجمه وكنهه..

وحديثي هذا لن يقدر له أن يكون موفيا على الغاية أو محيطا بالمناقب ولكنها قطرة من يجر ذاخر أو محيط غامر , وعذري فى التقصير عجزي عن الإحاطة , ورغبتي المخلصة فى أن أودي بعض حق إمامنا المجاهد ومرشدنا الراسخ وقائدنا الثابت الصادق.... وتخليد لبعض مواقفه وبعض صفاته وطبيعته وتعريفا بها لمن لم يتح لهم أن يعاشروه عن قرب وأن يعيشوا معه تلك الظروف العصيبة التى عاشها تارة وحده في عزلة عن الإخوان وتارة معهم ف داخل السجون والمعتقلات وتارة أخري خارجها لفترات قصيرة إذا قيست بفترات الابتلاء والشدة ... وهي ليست تاريخا لحياته وجهاده فإن ذلك يحتاج لى جهد يفوق جهد الفرد وطاقته , ولكنها مجرد إلمامة وجيزة ولمحة خاطفة ..

ويضيف الدكتور أحمد العسال قائلا:

لم يكن الإمام حسن الهضيبي رضي الله عنه وأرضاه معروفا لعامة الإخوان فى عهد سلفه الإمام حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين ومرشدها الأول – فقد كان له من وضعه كقاضي ومستشار فى المحكمة العليا المصرية ( النقص والإبرام)

ما يحول بينه وبين الظهور فى المحافل العامة حيث كان يأخذ نفسه بصرامة القاضي العادل الورع فكل وقته لعمل , وإذا كان لديه فضل من وقت أو جهد فمع كتاب الله وأحكامه وتأمله ومع شريعته الغراء يستكنه مستورها ويستجلي حكمها ويسير أغوارها بنظرته الصائبة وفطرته السليمة وروحه الصافية وقلبه الملهم ..

وقد بدأت معرفته لسلفه وصلته بالدعوة حين كان الإمام حسن البنا فى احدي جولاته بعواصم الوجه البحري يدعو الناس إلى الله ويفتح أيعنهم على الحقيقة , ويوضح لهم أسرار ما خفي عليهم من كتاب الله وسنة رسوله فى أسلوب ساحر وبيان يأخذ بمجامع القلوب والألباب , وكان الإمام الهضيبي يجلس مغمورا بين المستمعين لا يشعر به أحد أو يحس به , ولكن كلام الإمام حسن البنا وصل إلى عقله وقلبه وروحه فتعلق به وتعرف إليه , ومن وقتها كانت بينهما جلسات ومدارسة والأرواح جنود مجنده ما تعرف منها إإتلف .. وصدقت فراسة المرشد الأول فى المرشد الثاني فقدمه إلى الإخوان فى باب التعارف من مجلة الشهاب التي كان يصدرها الإمام الشهيد وكأنه يشير إليه من طرف خفي بأنه خليفته وحامل اللواء من بعده , ولم يعرفه معرفة اتصال إلا نفر قليل من خاصة الإخوان المسلمين وممن كانوا فى سلك القضاء .

فلما جاء أمر الله واستشهد الإمام حسن البنا برصاص البغي والإثم والخيانة فى قلب القاهرة وعلى مرأي ومسمع من الناس فى 12 فبراير 1949 والإخوان فى محنة الحل الأولي تمت بقرار من محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء 8/ 12/ 1949.

تذكر خاصة الإخوان إشارة غمامهم الشهيد وتلميحه حين عرف الخ الأستاذ حسن الهضيبي فى تقديمه فى باب التعارف , فطرقوا بابه وعرضوا عليه خلافه الإمام حسن البنا فى قيادة الدعوة , فأشفق منها وتأبي وأعرض عنها , وقال لهم عندكم من هو أولي بها وأجدر مني من تلاميذ الإمام الشهيد وأصفيائه وذكر لهم من الأسماء ما يعرف وألحوا عليه وأثقلوا فى الطلب والرجاء حتي ظنوا أنه يمتنع عن رغبة ويتعزز فى الاستجابة لهم , فنفي ذلك عن نفسه وقال لهم إن سبب رفضه أنه لا يري فى نفسه المقدرة على ملء الفراغ الذى تركه الإمام الشهيد حسن البنا فصحته وسنه لا تحتمل هذا العناء ولا تسمح له بهذا الجهد وعزوته عن الكلام وقصده فيه نتيجة حياته كلها كقاض لا يجعل منه خطيبا شعبيا , فلم يزدهم رفضه إلا إصرار وتصميما , ولما يئس منهم صارحهم بأنه لا يستطيع حمل هذا العبء الثقيل بعد أن جاوز الستين من عمره وهي السن التي يخلد الناس فيها إلى الراحة والدعة والاستجمام من عناء الحياة وشدتها خصوصا إذا كان من هذا الطراز الذى لا يعرفه الهوادة ولا التسامح مع نفسه فى أداء الواجب .

ومع ذلك أصروا وتمسكوا به ولم يجد مناصا من النزول لى رغبتهم وقبول المسؤولية التي ألقيت عليه فى عام 1950 وبذلك فات وقت الراحة والهدوء , والاسترخاء بعد سن المعاش ...

وأقبلت الأعباء ثقيلة متماسكة متلاحقة ..

وواجهته العواصف والمشاكل من داخل صفوف الجماعة وخارجها ولكنه بدأ كالطود الراسخ لا يتزحزح ولا تزعزع ولا يميل ولا يلين ولا يهاون ولا يفرط حتي لقي ربه راضيا مرضيا..

ثم ازدادت المشاكل إلحاحا عليه وعلى الجماعة وتدافعا لكنه عرف كيف يقود السفينة وسط الأمواج والأعاصير والأنواء بمهارة ربان متمرس مقتدر لا يجرفه تيار ولا يخدعه سراب ولا يستدرج إلى أحيوله أو تجوز عليه حيلة .


الإمام الهضيبي وانقلاب 1952

وعن علاقة الإمام الهضيبي بانقلاب 1952 يقول :

كان إنقلاب يوليو 1952 بداية اختيار لحكمته السياسية , وصلابته فى الحق واستعلائه على المغريات وتأبيه على الخضوع لغير خالقه وبارئه...

ونشأ الخلاف بينه كمعبر عن وجهة نظر الإخوان وبين ممثلي السلطة الفعلية وكان سبب هذا الخلاف فى أغلب الأحوال ناتجا عن التزام المرشد العام بمبادئ الإسلام واستمساكه بها وعدم استعداده للتحول عنها أو التفريط فى شعرة منها ولو كان الثمن الذى يدفع فى ذلك هو الحرية الشخصية بل ولو كان الحياة ذاتها .

وبدأت تسوء نية الحكومة بالنسبة للإخوان ومرشدهم خصوصا بعد أن لمسوا صلابته التي لا تلين ولا تهاون ولا تتزعزع.. فعمد ضباط الانقلاب إلى الكيد للمرشد من داخل الإخوان باستمالة بعض الإخوان لهم وتحريضهم على مرشدهم ,ولما فشلت هذه المناورة عمدوا إلى البطش والتنكيل مشيعين أن المرشد يريد فرض وصاية على الثورة وأن الثورة لا تقبل وصاية عليها . وأن المرشد قد اتصل بالإنجليز وتفاوض معهم من وراء ظهرهم وبدون علمهم وهذه جريمة يعاقب عليها القانون بالإعدام إلى غير ذلك من المزاعم التي دأب الطاغية عبد الناصر على ترديدها بمناسبة ودون مناسبة لترددها بعدة أبواق جوفاء مثل تخزين أسلحة فى عزبة حسن العشماوي بالشرقية ,.....و.....و ولم يكن بوسع الإخوان أن يردوا بسبب سيطرة الحكومة على أجهزة الإعلام والنشر...

وفى سبيل الكيد للإخوان وتنفيذ للمخطط المرسوم والمؤامرة المدبرة اعتقل المرشد ومعه عدد من الإخوان فى السجن الحربي فى يناير 1954 ولم يكن تحت يد الحكومة القائمة دليل واحد على صحة ما يزعمون ضد الإخوان المسلمين وكان مطلوبا من الحكومة يومئذ أن تبطش بالإخوان بطشة تقضي عليهم قضاءا مبرما حتي لا تقوم لهم بعدها قائمة أو يلتئم شمل أو ينتظم عقد ... فأفرجت عن الإخوان لحين إتمام إحكام المؤامرة ضدهم بحيث تأخذ شكلا مثيرا فتتاح للحكومة فرصة بطش والتنكيل والقضاء عليهم دون أن يجرؤ أحد على التدخل أو الشفاعة .. وتنفيذا لذلك افتعلت حادثة المنشية التي صورت على أنها مشروع فى تقل جمال عبد الناصر أثناء إلقاء خطابه السياسي بميدان المنشية يوم 26/10/ 1954 وتكون هذه الحادثة المفتعلة إشارة انطلاق لشياطين النقمة وأبالسة الحقد من عقلها فتهب مسعورة ضاربة وتنزل البطش والنكال وتصب العذاب على الإخوان عامة وعلى المرشد خاصة , فيجمعون جميعا فى السجن الحربي الذى يخلي من نزلائه الذين أعد لهم وهم جنود الجيش الذين يرتكبون جرائم عادية أو عسكرية ويحكم عليهم بمدد بسيطة استعداد الإستقبال نزلائه الجد من الإخوان المسلمون وهم مدنيون لا صلة بينهم وبين السجن الحربي , ولم يعد لأمثالهم المدنيين قط , ولكن جميع القوانين والأعراف تخالف ليحل على الإخوان ومرشدهم غضب الحاكم وظلمه على نحو لم يعرف له مثيل أو يسبق له وجود اللهم إلا فى عهد محاكم التفتيش التي شكلت لاقتلاع شأفة الإسلام من أسبانيا بعد هزيمة المسلمين هناك , فلم يكن هناك قانون أو إنسانية أو رحمة بل تشف وقتل وتعذيب وغبادة والله وحده يعلم لحساب من كانت تجري هذه المجزرة الرهيبة !!

وإذا كان الإخوان المسلمون قد قاسوا من ذلك شيئا رهيبا لا يكاد يصدق أو يحتمل فإن الإمام الهضيبي رضي الله عنه كان الهدف الأول لهذه الحملة الوحشية بقصد قتله أو إصابته بعجز نفسي أو بدني يجعله غير صالح للقيام بعمله كمشد للإخوان المسلمين أو لإظهار أمام الإخوان بمظهر الضعف والعجز والخور فيفقد ثقتهم واحترامهم ويكون ذلك أول فصول فى هدم الإخوان وتفريق كلمتهم وتشتيت شملهم تمهيدا لزوالهم وتلاشيهم كما حدث بالنسبة للأحزاب التى كانت قائمة قبل الإنقلاب العسكري عام 1952 حين ذابت وتلاشت إلى غير رجعة بمجرد صدور قرار حل الأحزاب بالدولة ...


مــــواقف

ويروي الدكتور أحمد العسال بعض المواقف التي لا ينساها للإمام الهضيبي فيقول:

كان الإمام الهضيبي عند حسن ظن الإخوان به بل فوق ذلك بدرجات كثيرة وآفاق بعيدة فزاد حب الإخوان واحترامهم وطاعتهم له... وخاب ظن البرابرة وأ‘داء الإنسانية فى إخضاعه وإذلاله رغم كل ما حل به من عذاب وضغط لا يتناسب مع سنه وصحته وإن كان دون إيمانه وصلابته .

وكان يقوم على التعذيب عصبة ضارية من الجنود وجنود الصف والضباط تحت إمرة الضابط المعتوه حمزة البسيوني الذى أخذ على عاتقه مهمة القضاء على الإخوان ومرشدهم جهلا وحقدا زلفي وكان عاقبة أمره خسرا.

فقد كان كل جندي بالسجن الحربي يحمل فى يده إحدي أدوات التعذيب من سياط وأسلاك كهربائية وعصي غليظة من الخيزران أو الخشب , وكان مصرحا لهم أن يضربوا من يشاءون ومتى يشاءون وحيث يشاءون دون رقيب أو حسيب بل لقد كانت تلك هي الأوامر الصادرة إليهم من كبيرهم حمزة البسيوني ولو أدي الضرب إلى العاهة أو القتل أو الجرح فجميع الجرائم مباحة بالسجن الحربي كما كانت هناك الكلاب الشرسة التي يدربها حمزة البسيوني على الفتك بالإخوان وأشهر هذه الكلاب الكلبة " توسكا".

كما كانت هناك " العروسة" التي يصلب عليها الإخوان وتثبت أطرافهم عليها وتربط رقابهم ثم ينهال الضرب والعذاب عليهم ...

وكانت هناك زنازين المياه التى أعدت لتملأ بالمياه المثلجة فى قر الشتاء ليقضي فيه من يريد الزبانية قتله بردا , فيقضي ليالي وأياما بلا طعام ولا لباس ولا نوم ولا راحة حتى تخور قواه ويفقد الوعي إما مؤقتا أو إلى الأبد .....

وكان الإمام الهضيبي يري ذلك كله ويشجع الإخوان بنظراته الثاقبة الثابتة أثناء طوابير العذاب اليومية ... وكان الطابور يستغرق ثلاث ساعات أو تزيد بين العذاب والسياط والسباب ولم يكن يستثني من الجري والتعذيب الشيوخ ولا المرضي ولا العجزة , فقد كان الإمام فوق سن الستين ورغم ذلك كان يجري أمام كتائب الإخوان طوال الوقت دون كلل او ضعف , وكان ذلك أكبر حافز للإخوان لى الصبر والجلد... بل لقد كان الإخوان يلبسون ملابسهم الخاصة عدا المرشد أكرمه الله وأعزه وأفسح له فى جنته – فقد أصر حمزة البسيوني على أن يرتدي بدلة السجن الزرقاء مما يكسبه المحكوم عليه من الجنود وكان الوحيد الذى يرتديها ... وكانت هذه البدلة تحمل على صدرها وظهرها رقم ( 369) ولا زالت أذكر هذا الرقم التاريخي الفريد. ولم يكن ذلك مما يستحق إهتمام المرشد أو يستحوز على شئ من تفكيره .. بل أكثر من ذلك فقد بلغ الهزر والسخف بضابط السجن حمزة البسيوني أنه كان يذيع اسطوانة غنائية لأم كلثوم تتحدث ن حادث المنشية ونجاة عبد الناصر منه ثم يؤمر الإخوان بالترديد كل مقطع من مقاطعها والويل كل الويل لمن لا يردد الغناء فقد كانت لدي الحرس تعليمات من حمزة البسيوني بأن ينهالوا بالسياط عليه , وكان يطلب من المرشد أن يقف أمام الإخوان ويقوم بعمل المايسترو من الفرقة أثناء الغناء وهو يبتسم فى سخرية واستخفاف بهذا الصغار والإسفاف ومن البلية ما يضحك..!!

وقد أراد حمزة البسيوني يوما أن يلهو كما كان يحلو أن يفعل بين الجراح والأنين والألم وأن يسجل لنفسه موقفا بطوليا فطلب إلى بعض كبار المسئولين من الإخوان المسلمين أن يتكلموا فى مواضيع حددها لهم تتعلق ببعض نظم الجماعة ومنهجها فاستجابوا له , ثم بعد ذلك توجه إلى إمامنا الراحل رضوان الله عليه وطلب منه أن يتكلم مستنكرا جريمة الشروع فى قتل جمال عبد الناصر فوقف الإمام فى وجهة وقفة تحد وعزة ويداه فى خاصرته وقال له :

" إذا أردتني أن أخاطب الإخوان فإنني أخاطبهم بما أحب أن أقوله لهم لا بما تريده أنت علما بأنني لا صلة لى بجريمة الشروع فى قتل جمال عبد الناصر فلم أعلم ولم أحرص ولو أنني اقتنعت بوجوب قتل جمال عبد الناصر لقلت ذلك وأعلنته.

وظل حمزة البسيوني السجان يتوسل إلى المرشد السجين ويرجوه أن يكون كلامه قاصرا على مجرد استنكار الجريمة فأبي إلا أن يقول ما يريد قوله , إزاء هذا الإصرار في هذا الموقف الشديد الذي كانت فيه إرادة حمزة البسيوني السجان نافذة ولم يكن هناك قانون ولا حقوق عدل حمزة وتراجع عن طلبه ونفذ الإمام إرادته ..

ثم أريد للجماعة أن تغيب عن الوجود السياسي وأ، تختفي عن المسرح العام وطلبت أمريكا ذلك رسميا من عبد الناصر فبيت الأمر وأضمر الأشر وأظهر الغدر وأجلس بعد أعوانه.

وكان نظرا غريبا ن يكون الخصم هو الحكم , والمجني عليه هو المحقق , والقاضي والمنفذ وصدرت القرارات التي أرادها عبد الناصر وهي إعدام سبعة من الإخوان الكبار وأولهم مرشدهم الإمام حسن الهضيبي المستشار السابق بمحكمة النقض والإبرام أعلي هيئة قضائية فى الدولة والرجل الذى لم يعرف عنه فى حياته القضائية على طولها وخصوبتها أنه جامل أو حابي أو لاين أو راجي ولكنه كان كالسيف صرامة وحسما وعدلا ورحمة ..

ومما يذكر عنه وهو قاض فى إحدي عواصم الصعيد أنه حضر للمرافعة أمامه فى إحدي القضايا محام كبير من القاهرة وكان وزير للعدل فى وزارة الأمة ... وكانت هناك انتخابات تجربها وزارة محايدة معروف فى قاموس السياسة المصرية وقتئذ أن الانتخابات إذا أجرتها وزارة محايدة فإن الوفد فيها يكون مؤكدا ..

فزاره المحامي بغرفة المداولة للسلام والتحية فرحب به الإمام الراحل وطلب له فنجالا من القهوة كضيف له... وإذا بالمحامي الكبير يسأله عما إذا كان مستريحا لبقائه فى هذه المدينة النائية أم أنه يرغب فى أن ينقل إلى القاهرة بعد أن يصبح المحامي وزيرا للعدل عقب الانتخابات التي كانت جارية عندئذ , فإذا بهذا الإنسان الوديع الهادئ المضياف ينقطب جبينه ويقول لهذا الوزير المنتظر للعدل , إنه رحب به كزميل وضيف عليه وإذا كان قادما للمرافعة فى قضية أمامه فكيف يجرؤ على أن يعرض عليه هذا الأمر ( نقله إلى القاهرة) ؟ إنه لا يقبل هذه الرشوة منه .. وطلب إليه مغادرة الغرفة وأمر الحاجب أن يعيد القهوة التي أحضرها له....

هذا هو حسن الهضيبي القاضي الورع صاحب الكرامة والعزة والورع ... هذا الرجل يقف بعد ذلك بسنوات طويلة وبعد بلوغه سن المعاش متهما بمخالفة القانون الذي لا يستطيع أن يخالفه ولا يمكن أن تحدثه نفسه بمخالفته لحظة لمجافاة ذلك لطبيعته وفطرته وتفكيره ثم يحكم عليه بالإعدام مع ستة من أعز أصحابه وأقربهم إلى نفسه فلا يزيد على ابتسامة ساخرة هازئة فهو يؤمن أنه لن يموت حتي يستوفي أجله ورزقه فماذا يخشي وماذا يرهب !!!

وينفذ الحكم فى الستة الأبرار بالإعدام ويخفف عنه إلى الأشغال الشاقة المؤبدة فلا يسره ذلك, كما لم يسؤه حكم الإعدام فالحكم لله من قبل ومن بعد...

ويذهب إلى السجن ليقضي العقوبة وهو فى الخامسة والستين من عمره ولا يتكلم ولا يتألم أو يتأفف بل يمضي بكل شئ ويتقبل كل شئ ... ماذا يضيره وهو صاحب رسالة وقائد دعوة...

أليس الجهاد طريق الرسل والابتلاء محل الإيمان ؟ فكيف لا يكون صابرا محتسبا راضيا راسخا!! ثم يخرج من السجن إلى بيته بعد بعد مدة فلا يفقد صلابته, ولا يرهبه شبح السجن أو الإعدام بل يظل صامدا كالصخرة الشماء لا يتزعزع ولا يمالي ولا يهادن بعمل فى صمت ويدبر فى قوة ويوجه فى حسم أعمال الجماعة ونشاطها .

خطة للقضاء على الإخوان

ثم يدور الفلك دورته ويأتي عام 1965 وهو العام الذى تتآمر فيه الشيوعية الملحدة مع جمال عبد الناصر على تصفية الإخوان المسلمين تصفية كاملة حتي تمحو وجودهم وأفكارهم . وتنفيذا لذلك يشكل جمال عبد الناصر لجنة عليا لدراسة واستعراض الوسائل التي استعملت والنتائج التي تم الوصول إليها بخصوص مكافحة جماعة الإخوان المنحلة ولوضع برنامج لأفضل الطرق التي يجب استعمالها فى قسمي مكافحة جماعة الإخوان المسلمين بالمخابرات العامة والمباحث العامة لبلوغ هدفين:

أولا : غسل مخ الإخوان من أفكارهم .

ثانيا : منع عدوي أفكارهم من الانتقال لغيرهم .

وشكلت لجنة فعلا من رئيس الوزراء وقائد المخابرات وقائد المباحث الجنائية والعسكرية ومدير المباحث العامة ومدير مكتب المشير وعقدت عشرة اجتماعات متتالية فى مبني المخابرات العامة بكوبري القبة وبعد دراسة التقارير والبيانات والإحصائيات التي بين يديها أمكنها تلخيص المعلومات المتجمعة فى الآتي:

1- تبين أن تدريس التاريخ الإسلامي فى المدارس للنشء بحالته القديمة يربط السياسة بالدين فمالا شعور كثير من التلاميذ منذ الصغر ويسهل تتابع ظهور معتنقي الأفكار الإخوانية .

2- صعوبة واستحالة التمييز بين أصحاب الميول والنزعات الدينية وبين معتنقي الأفكار الإخوانية وسهولة فجائية تحول الفئة الأولي إلى الثانية بتطرف كبير .

3- غالبية أفراد الإخوان عاش على وهم الطهارة ولم يمارس الحياة الاجتماعية الحديثة ويمكن اعتبارهم من هذه الناحية ( خام).

4- غالبيتهم ذو طاقة فكرية وقدرة تحمل ومثابرة كبيرة على العمل وقد أدي ذلك إلى تفوقهم فى المجالات العلمية والعملية التى يعيشونها وفى مستواهم العلمي والفكري والاجتماعي بالنسبة لأندادهم رغم أن جزءا غير بسيط من وقتهم موجه لنشاطهم الخاص بدعوتهم المشئومة.

5- هناك انعكاسات إيجابية سريعة تظهر عند تحرك كل منهم للعمل فى المحيط الذى يقتنع به .

6- تداخلهم فى بعض ودوام اتصالهم الفردي ببعض وتزاورهم والتعارف بين بعضهم البعض يؤدي إلى ثقة كل منهم فى الآخر ثقة كبيرة .

7- هناك توافق روحي وتقارب فكري وسلوكي يجمع بينهم فى كل مكان حتي ولو لم تكن هناك صلة بينهم .

8- رغم كل المحاولات التي بذلت منذ عام 1936 لاتهام العامة والخاصة بأنهم يتسترون خلف الدين لبلوغ أهدافهم السياسية إلا أن احتاكهم الفردي بالشعب يؤدي إلى محو هذه الفكرة عنهم رغم أنها بقيت بالنسبة لبعض زعمائهم .

9- تزعمهم حروب العصابات فى فلسطين عام 1948 والقنال عام 1951 سبب فى أفكار الناس صورهم كأصحاب بطولات وطنية عملية وليست دعائية فقط بجوار أن ألأطماع الإسرائيلية والاستعمارية والشيوعية فى المنطقة لا تخفي أغراضها فى القضاء عليهم .

10- نفورهم من كل من يعادي فكرتهم جعلهم لا يرتبطون بأي سياسة خارجية سواء عربية أو شيوعية أو استعمارية وهذا يوحي لمن ينظر إلى ماضيهم بأنهم ليسوا عملاء .

وبناء على هذا رأت اللجنة أن الأسلوب الجديد فى المكافحة يجب أن يشمل أساسا على بندين متداخلين :

أ‌- محو فكرة ارتباط السياسة بالدين الإسلامي .

ب‌- إبادة تدريجية بطيئة مادية ومعنوية وفكرية للجيل القائم فعلا والموجود من معتنقي الفكرة .

ت‌- وممكن تلخيص أسس الأسلوب الذى يجب استخدامه لبلوغ هذين الهدفين فى الآتي:

أولا: سياسة وقائية:

1- تغيير مناهج تدريس التاريخ الإسلامي والدين فى المدارس وربطه بالمعتقدات الاشتراكية كأوضاع اجتماعية واقتصادية وليست سياسية مع إبراز مفاسد الخلافة الإسلامية خاصة زمن العثمانيين وتقدم الغرب السريع عند هزيمة الكنيسة وإقصائها عن السياسة.

2- التحري الدقيق عن رسائل وكتب ونشرات ومقالات الإخوان فى كل مكان ثم مصارتها وإعدامها .

3- يحرم بتاتا قبول الإخوان وأقربائهم حتى الدرجة الثالثة من القرابة الانخراط فى السلك العسكري أو البوليس أو السياسي مع سرعة عزل الموجودين من هؤلاء عن هذه الأماكن أو نقلهم إلى أماكن أخري فى حالة ثبوت ولائهم لنظام النظام الحكم القائم .

4- مضاعفة الجهود المبذولة فى سياسة العمل الدائم على فقدان الثقة بينهم وتحطيم وحدتهم بشتي الوسائل وخاصة عن طريق إكراه البعض على كتابة تقارير عن زملائهم بخطهم ثم مواجهة الآخرين بها مع العمل على منع كل من الطرفين من لقاء الآخر أطول فترة ممكنة لتزيد شقة الخلاف وانعدام الثقة بينهم .

5- بعد دراسة عميقة لموضوع المتدينين من غير الإخوان المسلمين وهم الذين يمثلون الاحتياطي لهم وجد أن هناك حتمية طبيعية عملية لالتقاء الصنفين فى المدي الطويل ووجد أن الأفضل أن يبدأ بتوحيد معاملتهم بمعاملة الإخوان قبل أن يفاجئوا كالعادة باتحادهم معهم علينا – ومع افتراض احتمال كبير بوجود أبرياء كثيرين منهم إلا أن التضحية بهم خير من التضحية بالثورة فى يوم ما علي أيديهم , ولصعوبة استحالة التمييز بين الإخوان والمتدينين بوجه عام فلابد من وضع الجميع ضمن فئة واحدة ومراعاة ما يلي معهم:

أ‌- تضييق فرص الظهور والعمل أمام المتدينين عموما فى المجالات العلمية والعملية .

ب‌- محاسبتهم بشدة وباستمرار على أى لقاء فردي أو زيارات أو اجتماعات تحدث بينهم .

ت‌- عزل المتدينين عموما من أى تنظيم أو اتحاد شعبي أو حكومي أو اجتماعي أو طلابي أو عمالي أو إعلامي .

ث‌- التوقف عن السياسة السابقة فى السماح لأي متدين بالسفر إلى الخارج للدراسة أو العمل حيث فشلت هذه السياسة فى تطوير معتقداتهم وسلوكهم وعدد بسيط جدا منهم هو الذى تجاوب مع الحياة الأوربية فى البلاد التي سافروا إليها أما غالبيتهم من هبط منهم فى مكان بدأ ينظم فيه الاتصالات والصلوات الجماعية والمحاضرات لنشر أفكارهم .

ج‌- التوقف عن استعمال المتدينين فى حرب الشيوعية واستعمال الشيوعيين فى حربهم بغرض القضاء على الفئتين حيث ثبت تفوق المتدينين فى هذا المجال ولذلك يجب أن تعطي الفرصة للشيوعيين لحربهم وحرب أفكارهم ومعتقداتهم مع حرمان المتدينين من الأماكن الإعلامية .

6- تشويش الفكرة الموجودة عن الإخوان المسلمين فى حرب فلسطين والقنال وتكرار النشر بالتلميح والتصريح عن اتصال الهضيبي وقيادة الإخوان بالإنجليز حتي يمكن غرس فكرة أنهم عملاء للاستعمار فى ذهن الجميع .

7- الاستمرار فى سياسة محاولة الإيقاع بين الإخوان المقيمين فى الخارج وبين الحكومات العربية المختلفة وخصوصا فى الدول الرجعية الإسلامية المرتبطة بالغرب وذلك بان يروج عنهم فى تلك الدول أنهم عناصر مخربة ومعادية لهم وانهم يضرون بمصالحهم وبهذا يسهل محاصرتهم فى الخارج أيضا.

وقد شفعت اللجنة ذلك برأيها فى حل المشكلة بأن شبهت الإخوان بالسرطان فى جسم الأمة فقالت :

سياسة استئصال السرطان الموجود الآن

بالنسبة للإخوان الذين اعتقلوا أو سجنوا فى أى عهد من العهود يعتبرون جميعا قد تمكنت منهم الفكرة كما يتمكن السرطان من الجسم ولا يرجي شفاؤه ولهذا تجري عملية استئصالهم كالآتي :

المرحلة الأولي:

إدخالهم فى سلسلة متصلة متداخلة من المتاعب تبدأ بالاستيلاء أو وضع الحراسة على أموالهم وممتلكتهم ويتبع ذلك اعتقالهم .

وأثناء الإعتقال يستعمل معهم أشد أنواع الإهانة والعنف والتعذيب على مستوي فردي ودوري حتي يصيب الجميع الدور . ثم يعاد وهكذا . وفى نفس الوقت لا يتوقف التكدير العام الجماعي بل يكون ملازما للتأديب الفردي ... وهذه المرحلة لو نفذت بدقة ستؤدي إلى ما يأتي :

بالنسبة للمعتقلين : اهتزاز المثل والأفكار فى عقولهم وانتشار الاضطرابات العصبية والنفسية والعاهات والأمراض فيهم.

بالنسبة لنسائهم : سواء كن زوجات أو أخوات أو بنات فسوف يتحررتن ويتمردن بغياب عائلهن وحاجتهم المادية قد تؤدي إلى انزلاقهن.

بالنسبة للأولاد : تضطر العائلات لغياب عائلها وحاجتها المادية إلى توقيف الأولاد عن الدراسة وتوجيهيهم لحرف والمهن وبذلك يخلو جيل الموجهين المتعلم القادم ممن فى نفوسهم حقد أو ثأر أو آثار من افكار آبائهم .

المرحلة الثانية :

إعدام كل من ينظر إليه بينهم كداعية ومن تظهر عليه الصلابة سواء داخل السجون والمعتقلات أو بالمحاكمات ثم الإفراج عن الباقي على دفعات مع عمل الدعاية اللازمة لانتشار أنباء العفو عنهم حتي يكون ذلك سلاحا يمكن استعماله ضدهم من جديد فى حالة الرغبة فى العودة إلى إعتقالهم حيث يتهمون بأى تدبير ويوصفون بالجحود المتكرر لفضل العفو عنهم وهذه المرحلة إن أحسن تنفيذها باشتراكها فى المرحلة السابقة ستكون النتائج كما يلي:

1- يخرج المعفو عنهم إلي الحياة فإن كان طالبا فقد تأخر عن أقرانه ويمكن أن يفصل من الدراسة ويحرم من متابعة تعليمه.

2- وإن كان موظفا أو عاملا فقد تقدم زملاؤه وترقوا وهو قابع مكانه ويمكن أيضا أن يحرم من العودة إلى وظيفته أو عمله .

3- وإن كان تاجرا فقد أفلست تجارته ويمكن أن يحرم من مزاولة التجارة .

4- وإن كان مزارعا فلن يجد أرضه حيث تكون قد وضعت تحت الحراسة أو صدر عنها قرارا استيلاء .

وسوف يشترك جميع المعفو عنهم فى الآتي :

1- الضعف الجسماني والصحي والسعي المستمر خلف العلاج والشعور المستمر بالضعف المانع من أية مقاومة .

2- الشعور العميق بالنكبات التي جرتها عليهم دعوة الإخوان وكراهية الفكرة والنقمة عليها .

3- عدم ثقة كل منهم فى الآخر وهي نقطة لها أهميتها فى انعزالهم عن المجتمع وانطوائهم على أنفسهم .

4- خروجهم بعائلاتهم من مستوي اجتماعي إلى مستوي أقل نتيجة لعوامل الإفقار التي أحاطت بهم .

5- كثرة الديون عليهم نتيجة لتوقف إيراداتهم واستمرار مصروفات عائلاتهم. وهناك إلى جانب ذلك نتائج جانبية لهذه السياسة وهي :

1- الضباط والجنود الذين يقومون بتنفيذ هذه السياسة سواء من بالجيش أو البوليس سيعتبرون فئة جديدة ارتبط مصيرها بمصير هذا الحكم القائم حيث عقب التنفيذ سيشعر كل منهم أنه فى حاجة إلى هذا الحكم ليحميه من أى عمل انتقامي قد يقوم به الإخوان كثأر.

2- إثارة الرعب فى نفس كل من تسول له نفسه القيام بأي معارضة فكرية للحكم القائم .

3- وجود الشعور الدائم بأن المخابرات تشعر بكل صغيرة وكبيرة وأن المعارضين لن يتستروا وسيكون مصيرهم أسوأ مصير.

4- محو فكرة ارتباط الدين بالسياسة .

وبهذا انتهي عمل اللجنة واشر عليه جمال عبد الناصر بالموافقة والتنفيذ... فانطلقت الوحوش الآدمية تعد أدوات التعذيب والبطش من إنشاء المعتقلات فبني معتقل أبي زعبل وأخلي سبيل مزرعة طرة مما فيه وحصرت أسماء المطلوب إنزال العذاب بهم , وفى أغسطس عام 1965 بدأ تنفيذ هذا المخطط الإجرامي الرهيب الذى قصد به أن يقرض جماعة الإخوان من جذورها وأن يستأصل شأفتها فأعلن جمال عبد الناصر فى موسكو نبأ اكتشاف مؤامرة للإخوان المسلمين لقلب نظام الحكم وأنه عفا عنهم مرتين ولن يعفو عنهم مرة ثالثة . وكان هذا إرضاء لسادته ونزولا على رغبتهم وطلبا لتأييدهم فقبض على عدة أشخاص وتلمست أجهزة الإرهاب فى الدولة الأسباب لإيجاد مبرر لإجرامهم ووجدوا هذا المبرر فى واقعة لا تكاد تذكر لتفاهتها , وذلك أن أحد جنود المظلات الذين أرسلوا إلى اليمن لقتل المسلمين هناك بناء على أمر من عدو الإسلام والمسلمين جمال عبد الناصر – عاد من اليمن ومعه قنبلتان يدويتان بقصد إطلاقهما فى حفل زواجه الريفي على عادة أهل الريف , ثم عاد إلى اليمن ليتابع عمله هناك فى قتل الأبرياء من النساء والولدان . وترك القنبلتين عند شقيقه المدرس بالقرية والمدمن للمكيفات فاحتاج هذا المدرس إلى علبتين من السجائر ولم يجد عند البقال القريب منه استعدادا لإعطائه العلبتين دون دفع ثمنهما ولم يكن يملك الثمن فعرض عليه القنبلتين كرهن عنده على أنهما بطارتين لراديو يحتفظ بهما عنده لحين دفع ثمن السجائر فى أول الشهر .فصدقه البقال وأخذهما ووضعهما فى درج مهمل عنده لحين دفع الثمن ثم أغلق المحل لأنه كان يجري عملية ترميم وبياض المحل – وقد علم أن جندي المظلات أحضر من اليمن قنبلتين لتفجيرهما فى حفل عرسه فنشطت الجهزة وراءها ووجدتا فى محل البقال المغلق للإصلاح – ووجدت تلك الأجهزة فى هذه المناسبة العابرة فرصة لا تعوض لاستغلالها فى تنفيذ مخططها الإجرامي السابق فهبت مسعورة لتنسج حول هذه الوقعة البسيطة أكذوبة كبري فزعمت – كما نشرت الصحف – أنها ضبطت لدي الإخوان المسلمين بحيث عثر صناديق من القنابل والمفرقعات كانت مكدوسة بغرض إحداث انقلاب مسلح وقبض على عدد من الناس واستعملت معهم أبشع أنواع العذاب المادي والأدبي ومنهم من قضي نحبه من التعذيب وكلهم أصبح فى عداد الموتي .

ويصدر رئيس الجمهورية فى 6/ 9/ 1965 قرارا باعتقال كل من سبق اعتقاله من الإخوان المسلمين ومن تري المباحث الجنائية العسكرية القبض عليه وخولت سلطة رجال الضبطية القضائية فأصبحت تقبض وتحقق وتفتش وتفعل كل شي مهما خالف القانون .

ويعتقل بموجب هذا القرار البربري الذي لم يعرف له مثيل فى التاريخ زهاء خمسة وثلاثين ألف من الإخوان المسلمين وملئت السجون والمعتقلات منهم وحشروا حشرا حتى لم يكن المكان يتسع لجلوسهم أو نومهم – وحسب القارئ أن يعلم أن الحجرة التي مساحتها 40 متر مربع كان يحشر فيها أكثر من مائة شخص أى أن المتر المربع 20×20 سم وقد وصل الأمر أحيانا كثيرة أن كان يخص الشخص 29 سم أى أقل من بلاطة ونصف وكما أن الحيز لا يسمح لرجل أن ينام فيه فقد كان المعتقلون يرصون أنفسهم فيه بطريقة تجعل أكثر اتساعا لهم فينام كل منهم فى وضع معكوس اى رأس أحدهم بجوار قدمي من يجاوره – فالمكان لا يتسع للصدور المتجاورة , ولكنه قد يسمح بالصدور والأرجل إذا تلاصقت.. وكان الجو فائظا حاءا والهواء لا يسعف الناس للتنفس فكانت تضيق أنفاسهم ويغش على الكثير منهم .

وكان هذا يحدث فى معتقل " ابي زعبل السياسي" الذى بني خصيصا لتنفيذ الخطة الإجرامية ومعتقل طره السياسي الذى أخلي من نزلائه تجار المخدرات المحكوم عليهم والمخازن التى كانت فيه .. والقلعة والفيوم والسجون المركزية وأقسام البوليس ففي كل منها مكان لحجز المشتبه فيهم والمراقبين .

وفى هذه الأماكن الفاسدة القذرة الشيقة كان يوضع الإخوان المسلمون ومنهم صفوة الأمة ورجاؤها من أطباء ومهندسون ومستشارين وقضاة وأعضاء نيابة وأساتذة جامعات ومديري شركات وكبار الموظفين فى الدولة . والتجار والصناع والفلاحون وجميع طوائف الأمة كانت ممثلة فى هذه المحنة القاسية الرهيبة . أما السجن الحربي فقد كان مجزرة بشرية بشعة لا يمكن وصفها أو تصورها وإن الإنسانية لتقشعر والفضيلة لتنتحب والقانون لينخزي والحريات لتقتل حين يتاح لها أن أن تقف على ما كان يجري فى هذا المكان البغيض الذى خصبته دماء الأبرياء وزهقت فيه أرواح الشهداء وهتكت فيه أعراض النساء .....

ومن آيات الله وعظاته أن ينزل فيه كل من ساهم فى هذه المحنة الرهيبة عدا اثنين فقط أحدهما البسيوني الذى صدمته سيارة على الطريق الزراعي فقطعته أشلاء ومزقته إربا ثم اشتعلت فيه النار حتى تفحم هو وشقيق له فى صبيحة يوم عيد .... والثاني جمال عبد الناصر رأس الفتنة وإمام الضلال .. ولعل ما هو فيه الآن أشد هؤلاء وأكثر نكرا ولكل درجات ودركات ....

امتحان جديد

وكان نصيب الإمام الراحل أن حل بالسجن الحربي وكان عمره أنفذ قرابة الثمانين , ومارحموا سنه وضعفه البدني . فأذواقوه ألوانا من العذاب فما وهن لما أصابه ولا شكا ولا استكان . فقد قيدوه ووضعوه فى مكان مظلم مغلق لا يري النور ولا الهواء ,, ووضعوا معه فى هذا المكان بضعة كلاب . وما أكثر الكلاب فى السجن الحربي .. تأكل معه وتنام معه وتقضي حاجتها معه , وكانت هذه الكلاب تزحمه فى مكانه الضيق وملائه بفضلاتها القذرة النتنة حتى كانت الكلاب تعوي من ضيق المكان وقذراته وتهبش باب الزنزانة المظلمة بمخالبها علها تفتح فتخرج هذه الكلاب إلى النور والهواء والانطلاق ... ولكن الجلادين كانوا أبعد عن إجابة رغباتها كبعدهم عن إجابة رغبة الآدميين المظلوميين ...

وظلت الكلاب فى هذا المكان نحو شهرين حتي أصيبت جميعا بالشلل وأصبحت لا تستطيع أن تمشي على أرجلها الخلفية بل تجر نصفها الخلفي جرا إذا مشت .. وأصبحت رائحتها أشد من الجيفة النتنة .

ولما رأي الجلادون أ، الإمام الراحل أقوي من ذلك كله لا يشكو ولا يموت أطلقوا سراح الكلاب فخرجت تجر أنصافها الخلفية جرا عسيرا ولم يطق الجند رائحتها فكانوا يجرونها بالحبال وأيديهم على أنوفهم وأمعائهم ورغم ذلك بقي الإمام الراحل راسخا شامخا أبيا كريما ...

ونفس هذا الأسلوب اتخذ مع رجل آخر فاضل شيخ كبير هو الشيخ محمد الأودن الذى كان هو الآخر فوق الثمانين من عمره ... وقد أريد لهما أن يموتا دون أن تكون فيهما آثار تعذيب أو جروح ولكن خاب ظن الجلادين فقد عاشا حتي رأيا مصارع البغاة وإذلالهم وقصاص العدالة الإلهية منهم....

ثم تمخضت الجرائم التي جرت والتي أسموها تحقيقات كان بطلها المظفر وفارسها المغوار هو العميد شمس بدران مدير مكتب المشير وحامي حمي الدولة . يساعده فى معركته الكبيرة أركان حربه الهمام سعد عبد الكيم قائد المباحث الجنائية العسكرية وحفنة من ضباط المباحث الجنائية من أشباه الرجال وكلاب الصيد الذين يلهثون لإرضاء السادة ولو كانوا أبالسة أو شياطين وكلهم طمع فى كلمة شكر أو رتبة أو مال ....

تمخضت هذه التحقيقات الإجرامية عن شئ أسموه قضايا وتهما ونسب إلى الإمام الراحل أنه عمل على إحياء جماعة الإخوان المسلمين وتمويلها وحوكم أمام عدد من الضباط الذين اختارهم جمال عبد الناصر تحت رئاسة الفريق الدجوي الذى سلم قطاع غزة غلى اليهود فى عام 1956 وسلم نفسه وجيشه لهم وأذاع من إذاعتهم أن مصر تحكم حكما دكتاتوريا وأ، الجيش المصري لا يصلح للحرب وان الشعب المصري لا يصلح للحياة ..

هذا الضابط الخائن يكمل سلسلة خيانته ونذالته بمحاكمة الإخوان المسلمين ومرشدهم ويحكم على سبعة منهم بالإعدام وبالأشغال الشاقة المؤبدة على عدد كبير منهم ومن شمن من يحكم عليه بالشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة امرأتان كريمتان هما السيدة زينب الغزالي والسيدة حميدة قطب .

ويحكم على الإمام الهضيبي بالسجن ثلاث سنوات يقضيهما فى ليمان طره صابرا صامدا ... وتنتهي هذه المدة عام 1968 فلا يخرج إلى بيته ولكن ينقل إلى نعتقل طره ليمكث به حتى عام 1971 ولا يخرج إلا بعد أن يخرج جمال عبد الناصر من الدنيا ... فقد كانت تعليماته ألا يخرج الأستاذ المرشد إلا إلى القبر .

ولكن شاءت إرادة الله وقضاؤه أن يسبقه هذا الظالم إلى نهايته وأن يشهد الإمام مصرعه ويقضي فى الحياة حقبة بعده .

ولقد كانت حياته مع الإخوان فى السجن والمعتقل نعمة من الله كبيرة فعرفه عن قرب من لم يكن يعرفه ورآه من لم يتح له أن يراه ... بسيطا فى كل شئ عظيما فى كل شئ لا يتكلف أمرا ولا يخش ومع الله أحدا ... رجل على الفطرة السمحة فى غباء يزلزل الجبال ويميت الطغاة.. ما تخلي عن إبائه وعزته ولا عن بساطته وفطرته – كان قدوة الشباب فى الصبر والجلد والاحتمال لم يشك ضيقا أو يضيق بشدة ويحض الإخوان على ذلك ...

وإذا شكا أمامه أحد الإخوان ضيقا أو هما أمره أن يكتم ذلك حتي لا يشمت به عدوه , فإن عدوهم يفعل بهم ذلك حتي يضعفوا أو يشكوا فلا يحسن أن يري عدوهم منهم ضعفا ولا هوانا .. بل عزة واستعصاما وتأبيا على الظلم ونوازع النفس ..

وكان كثيرا ما يتضح الإخوان بالصبر والثبات و يقول لهما طالما أن الظالم لا يستطيع أن يحول بيننا وبين الله فلسنا بخاسرين فالله معنا حيث كن والعاقبة للتقوي .

وكان دائم الترديد لدعاء يوسف عليه السلام مبينا للإخوان حقيقة الدنيا وخلاصتها بعد التدريج فى شتي صورها فى غيابة الجب إلى بيت العزيز إلى السجن إلى الحكم وبعد ذلك كله ماذا طلب يوسف من ربه ( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث , فاطر لسموات والأرض أنت ولي فى الدنيا والآخرة توفني مسلما والحقني بالصالحين ).

تلك كانت نظرته إلى الحياة بخيرها وابتلائها وحلوها ومرها , لا نبطره النعمة ولا يزعزعه البلاء , وبعد هذا وذاك لا يطلب من الله تبارك وتعالي إلا أمرين اثنين " توفني مسلما ... والحقني بالصالحين". هنيئا لك أيها الإمام المجاهد الصابر الورع هنيئا ل كفى جوار ربك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.... هنيئا لك ما قدمت وجاهدت وصبرت وصابرت وأوذيت واحتملت ... وسلام عليك أيها الصادق الأمين يوم ولدت ويوم مت ويوم تبعث حيا ..

وإنا لنسأل الله جلت قدرته وعظمت رحمته ان يعوضنا فيك خيرا , وأن يعوض الإسلام والمسلمين فيك خيرا , وأن يفسح لك فى جنته , وأن يكرم نزلك وأن يلحقنا بك فى الصالحين .

وإن الله بالغ أمره ومنفذ وعده وناصر جنده ( حتي إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين)....

..... والله أكبر ولله الحمد....

" كان الإمام الشهيد حسن البنا يتردد على منزلنا , وبعد حل الجماعة فى 8 ديسمبر عام 1949 كثر تردده على والدي , وأذكر أنه حضر قبل استشهاده بأيام وقال لوالدي : إنهم سيقتلونني!!!"


الأستاذ إسماعيل الهضيبي

لم أنجح فى الحصول على حديث عن " الإمام الهضيبي" من ابنه الأستاذ المستشار محمد المأمون ....رفض أن يتحدث عن والده وقال :

- غيري أقدر مني فى الحديث عن والدي .. أنا لا أستطيع أن أتحدث عنه .. وأصر على الرفض .... أما الأخ الأستاذ إسماعيل الهضيبي فقد استجاب بعد إلحاح مني .. ولكنه لم يسهب فى الحديث عن والده كنت أنتزع المعلومة منه انتزاعا...

قال : والدي من مواليد 1891 تقريبا .. من قرية عرب الصوالحة مركز شبين القناطر.... كان أكب ثلاثة ممن الذكور وكان له أربع أخوات.

تعلم فى كتاب القرية كالمعتاد فى ذلك الزمان ... وحفظ القرآن صغيرا .. والتحق بالأزهر ... ولكنه لم يواصل الدراسة فيه وتحول إلى التعليم المدني .. فانتقل إلى المدرسة الابتدائية.

بعد حصوله على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية التحق بمدرسة الخديوية الثانوية .. وبعد انتهائه من مرحلة الدراسة الثانوية التحق بمدرسة الحقوق الخديوية حوالي عام 1911 ... وتخرج منها عام 1915.

بعد تخرجه اشتغل بالمحاماة ... قضي فترة تمرينه فى مكتب كامل حسين رحمه الله وكان من كبار المحامين وحافظ رمضان المحامي الشهير. فتح مكتبا له فى مدينة القناطر ( وهو نفس المكتب الذى شغله الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله بعده) ولكن والدي لم يوفق فى مكتب شبين القناطر .. فانتقل إلى سوهاج " ولم يكن يعرف فيها أحد وقد حقق والدي نجاحا كبيرا فى سوهاج أدي إلى أن حقد عليه أحد المحامين فى مدينة " سوهاج" وتآمر على قتله واستأجر أحد الأشقياء ليقتله وذهب هذا الشقي لقتل والدي فعلا فضربه بالسيف ولكن وكيل والدي – وكان مسيحيا – تلقي الضربة مفتديا والدي بنفسه وقد اصيب وكيل المكتب فعلا .

التحق والدي بالسلك القضائي عن طريق الخطأ .. فهو لم يتقدم بطلب للألتحاق بالقضاء .. ولكن يبدو أنه كان هناك نوع من تشابه الأسماء فعين .. وعندما علم بذلك تردد فى قبول الوظيفة التي جاءته دون طلبها ولكن أحد زملائه قال له:

أنت لست محاميا عاطلا .. أنت وقت ما تحب ترك القضاء ... ترجع محامي ثانية .

كان ذلك حولي عام 1923 أو 1924 ... وروب المحاماة الذى أرتديه وأنا هو ذات الروب الذى كان يرتديه هو ... مكتوب عليه اسمه وعام 1922.

بدأ قاضيا فى سوهاج ثم انتقل بعد ذلك ... دخل النيابة كرئيس نيابة ثم مدير إدارة النيابات ..ز ثم رئيس التفتيش القضائي .. ثم مستشارا بمحكمة الاستئناف بالقاهرة ... ثم مستشارا بمحكمة النقض .

ترك والدي القضاء عام 1950 بسبب انتخابه مرشدا عاما للإخوان المسلمين وكان قبل تركه للقضاء فقد أصيب وهو مستشار بمحكمة النقض " بجلطة فى المخ" كان لها تأثير كبير على صحته .. صحيح لم يكن لها أثرا واضح لكن دائما من يصاب بهذا المرض لابد أن يلتزم بأسلوب معين فى الحياة ... ولابد أن يقتصد فى الجهد المبذول ... وفى حديث لى مع الدكتور أبو بكر نور الدين قال لى أن من يصاب بجلطة فى المخ لا يستطيع الحياة أكثر من عشرين عاما .. ولا يزال كما تراه..

وعن ارتباط الإمام الهضيبي بدعوة الإخوان المسلمين .. يقول ابنه الأستاذ إسماعيل ..

الارتباط بالإخوان له صورتان .. ارتباط بالفكرة ... وارتباط بالجماعة كتنظيم والارتباط بالجماعة كتنظيم كان يعد عملا سياسيا محظورا على رجال سلك القضائي والانخراط فى العمل السياسي ... أما ارتباط بالفكرة فقد كان والدي من وقت مبكر يعتقد بوجوب الحكم بالشريعة والتمسك بها بكل فرعياتها .

ولوالدي موقف مشهور .... مسجل فى الأعمال التحضيرية للقانون المدني فعند مناقشة القانون فى البرلمان كان والدي واحدا ممن استدعوهم لسؤالهم عن ملاحظاتهم على القانون المعروض .. وقد كان جواب والدي هو ضرورة أن تكون الشريعة الإسلامية هى مصدر القانون .

ويضيف الأستاذ إسماعيل الهضيبي :

أما الارتباط بالجماعة كتنظيم طبعا لم يكن هناك ارتباط بحكم العمل الوظيفي لكت كان لوالدي صلة قوية بالإمام الشهيد حسن البنا .. كان والدي دائما يلتقي بالإمام الشهيد فى خطب الجمعة ... وفى الأيام الأخيرة من حياته الإمام الشهيد حسن البنا ...

وكان الإمام يتردد على والدي فى منزلنا وكثر ترداد الإمام الشهيد حسن البنا على والدي بعد قرار حل الجماعة فى 8 ديسمبر عام 1949 الذى أصدره محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء وقتئذ زعيم الحزب السعدي ... كان الإمام الشهيد يأتي كثيرا إلى والدي فى البيت .. وحضر إلى والدي قبل استشهاده بأيام قليلة وقال له :

إنهم سيقتلونني!!...

سألت الأستاذ إسماعيل الهضيبي :

هل رأيت الإمام الشهيد حسن البنا أثناء تردده على والدك فى منزلكم ؟!

فقال : نعم رأيته...

سألت الأستاذ إسماعيل : كيف اختير والدك مرشدا لجماعة الإخوان المسلمين ؟!

فقال : غيري من الإخوان يعرف أكثر فى هذه الحادثة لأن عمري وقتها كان لا يزيد عن سبعة عشر عاما ... ولكن مدي علمي أن الإمام الشهيد حسن البنا قد أوصي الإخوان بوالدي ... لقد عرفت هذا من الإخوان الذين كانوا يترددون على والدي فيما بعد.... وأنا لم أعرف هذا من والدي مباشرة .. لأنه كان قليل الكلام معي فى هذه الأمور ولم يعودني أن أسأله عن أشياء لم يقلها هو لي كما أنه كان لا يسألني عن نشاطي أنا أيضا فى الإخوان ... وهو عودنا ألا نسأل كثيرا ...وقبل توليه تردد عليه إخوان كثيرون منهم الأستاذ منير دله والأستاذ سعيد رمضان والأستاذ حسن عشماوي والأستاذ صالح عشماوي والأستاذ فهمي أبو غدير ... هؤلاء أذكرهم يقينا .. وقد كان والدي رافضا منصب " المرشد" لفترة طويلة لأنه كان يري للمنصب أعباؤه ... وربما لا تساعده صحته فى القيام بهذه الأعباء على الوجه الأكمل ... وهي أمانة ظل الإخوان يترددون عليه مدة طويلة تي شرح الله صدره ووافق وكان ذلك فى عام 1950.

وقدم استقالته بعد اختياره مرشدا للإخوان ..

سألت الأستاذ إسماعيل الهضيبي: ما هي التغيرات التي حدثت فى حياة والدك بعد اختياره مرشدا للإخوان المسلمين ؟!

نوع الانشغال تغير ... لأن رجل القضاء بطبيعة عمله مشغول دائما .. وقد زاد انشغال والدي أكثر بعد اختياره مرشدا ... كثر سفره ... كثر خروجه ... ازداد عدد الزائرين لمنزلنا ... قسم منزلنا نصفين ... كان نصف البيت مخصص للقاءات الإخوان .

لكن لم يحدث أى تغيير فى المعيشة نفسها .. قلت لقاءات والدي بالعائلة ... خاصة بعد أن كبرنا جميعا ولم يكن بيننا وبينه العلاقات التى تأخذ منه وقتا طويلا ...

ويضيف الأستاذ إسماعيل الهضيبي :

عندما حدثت عملية احتلال المركز العام ... وأرادت قيادة النظام الخاص ... الذى كان عبد الرحمن السندي رحمه الله على رأسه – أن تزعم والدي على تقديم استقالة رفض ... وأصر على الرفض ... فقد ذهب بعض الإخوان الموالين للسندي إلى منزلنا وطلبوا من والدي أن يستقيل ولكنه لم يستجب بطلبهم ثم أعقب ذلك عملية احتلال منزلنا ... وقطعوا سلك التليفون ... وحاولت مجموعة إجبار والدي على الاستقالة ولكنه رفض ... وأصر على الرفض ... رحمه الله رحمة واسعة ...

" أذكر أنه قال لمن أراد أن يستفتيه فى الترخيص لتأييد عبد الناصر : إن الدعوات لا تقوم على الرخص وعلى أصحاب الدعوات أن يأخذوا بالعزائم , والرخص يأخذ بها صغار الرجال ....."


الحاجة زينب الغزالي

الحاجة زينب الغزالي هى أشهر داعية إسلامية قضت جل عمرها الذى ناهز السبعين عاما فى العمل الإسلامي والدعوة الإسلامية .. وكان لها جهد مشكور فى تنظيم الإخوان المسلمين عام 1965 الذى سمي بتنظيم " سيد قطب " وكان لها دور فعال فى الحركة الإسلامية فى أواخر الخمسينات وأوائل الستينات .. دخلت السجن فى أغسطس عام 1965 وعذبت فى السجن الحربي أشد التعذيب , وروت تجربتها فى كتاب عنوانه " أيام من حياتي" وحوكمت أما محكمة الدجوي وحكم عليها بالسجن لمدة خمسة وعشرين عاما قضت نها أكثر من سبع سنوات , ولا تزال تعمل للدعوة الإسلامية وتستجيب للدعوات التي توجه لها من أقطار إسلامية وعربية مختلفة ومن الجاليات الإسلامية فى أوربا وأمريكا , تقبل الله منها .

قالت لى الحاجة زينب الغزالي:

الحديث عن شخصية الإمام حسن الهضيبي ليس بالأمر السهل لأن شخصيته شخصية فذة من التاريخ وهو من القلة القليلة التي يستطيع الإنسان أن يقول عنه إنه " الرجل" الذى حمل الأمانة بأمانة وصدق وإصرار على الوصول بالسفينة إلى شاطي الأمان . ولقد حمل الإمام الهضيبي أمانة الدعوة فى ظرف دقيق وخطير تحملها بصدق وإخلاص وبروية.

لقد قاد الإمام الهضيبي جماعة الإخوان المسلمين فى فترة حرجة أشد الحرج ورفض أن يجامل عل حساب دعوته ... أصيب فى سجنه بعد محنة 1954 بذبحة صدرية , وأخرجه جمال عبد الناصر كي يموت فى بيته , ولكن الله أخلف ظن الطاغية فعوف يفأ‘اده مرة ثانية إلى السجن .

لقد عاش الإمام الهضيبي خليفة للرجل العظيم الإمام الشهيد حسن البنا ..ز أمينا على ما أتمن عليه ... رغم كل ما تعرض له من المحن .

تضيف الحاجة زينب الغزالي :

التقيت بالإمام الهضيبي فى يناير عام 1953 لأستأذن فى السفر إلى فينا لحضور أحد المؤتمرات فسألني :

هل تعتقدين أنك ستخدمين الإسلام بسفرك هذا؟!

فقلت له : نعم...

فأذن لى بالسفر , وكان هذا أول لقاء لى بالإمام الهضيبي . ثم التقيت به للمرة الثانية بعد عودتي من فينا .

ثم التقيت به بعد ذلك عام 1956 ,1957 بعد ن أفرجوا عنه إفراجا صحيا وتحدثت معه عن أحوال أسر الإخوان المسجونين وما تعانيه هذه الأسر من ضيق فى العيش بسبب غيبة عائلها خلف جدران السجون وكنت غاضبة وثائرة ولكن نظر إلى بهدوء وثبات وقال :

لماذا هذه الثورة ؟... ولماذا هذا الغضب ؟.... تقدمي وتحمليّ أمانة هذا الأمر ... إن ثورتك هذه ...وغضبك لا قيمة لهما إن لم تفعلي فعلا إيجابيا ... وصمت الرجل ...ز ففكرت فيما قال ...

واقتنعت بأن ما قاله هو الحق ... وقلت له:

إنني جندية من جنودك أسمع وأطيع .....

فلم يجيبني إلا بقوله : انتهينا !

وبدأت بعون الله أعمل .. وأعمل ... حتي أدخلنا السجن عام 1965 .. وعلمت أنه الحق بنا فى السجن وكنت أسكن الزنزانة رقم 3 بجوار زنزانة الأستاذ" رشاد مهنا" عضو لجنة الوصاية على عرش الملك أحمد فؤاد وأحد العسكرين الشرفاء .

وفى أحد الأيام أحسست بخطي أقدام خارج زنزانتي .. فوقفت على أقدامي الممزقة وتعلقت بباب الزنزانة وإذا بي أري الإمام الهضيبي وبجانبه السجان فقلت مخاطبة إياه:( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس...)

فأومأ إيماءة خفيفة برأسه , ومن يومها أراه كلما مر أمام زنزانتي وكنت استزيد من رؤيتي له عزما وثباتا على الحق الذى نؤمن به .

وذات مرة أدخلت على الابنة الحبيبة علية حسن الهضيبي , وكانت حاملا فى شهورها الأخيرة وأدخلت معها الابنة " غادة عمار" زوجة الأخ الطيار يحيي حسين الذى هرب إلى السودان قبل إلقاء القبض عليه فاحضروا زوجته غادة " التي تركت طفلتها " الرضيعة" وطفلتها المفطومة" وعندما جاء الوقت الذى يمر فيه الإمام الهضيبي أمام زنزانتي أشرت إلى " عليه " ابنته أن تنظر من " نظارة الزنزانة لتري أباها , وكذلك فعلت غادة عمّار لتري إمامها ومرشدها .. وتلوت الآية التى كنت أحييه بها .

وتضيف الحاجة زينب الغزالي:

كان الإمام الهضيبي كالجبل الأشم , شامخا لا تحركه العواصف ولا توهنه الجراح .. أذكر أن " رسالة " جاءت من سجن الواحات أرسلها الأستاذ عبد العزيز عطية رحمه الله رحمة وسعة إلى الإمام الهضيبي يستفتيه فى عددا من الإخوان يريدون أن يترخصوا ويؤيدوا جمال عبد الناصر بغية الخروج من السجن . فرد عليه الإمام الهضيبي بقوله :

" إن الدعوات لا تقوم على الرخص . وعلى أصحاب الدعوات أن يأخذوا بالعزائم . والرخص يأخذ بها صغار الرجال وأنا لا أقوم بالأخذ بالرخص , ولكن أقول لكم خذوا بالعزائم فاثبتوا وتشبثوا بالعزائم ".

وتضيف الحاجة زينب الغزالي :

كان الإمام الهضيبي يعتقد أن ما وقع فى 23 يوليو 1952 كان انقلابا عسكريا وليس بثورة , وكان يعتقد أن رجال هذا الانقلاب يعملون لإقامة حكم علماني , ومن هنا كانت مواقف الإمام الهضيبي قبل رجال الانقلاب...

بعد الإفراج عن الإمام الهضيبي إفراجا صحيا فرضت عليه الإقامة الجبرية فى منزله فكان يقضي وقته فى القراءة , وكان دائم التفكير فى الإخوان داخل السجون وفي خارجها خاصة المشردين خارج مصر ..

كانت القضية الإسلامية هى شغله الشاغل ورجاءه وأمله , وكان يعتز بكل من يجد فيه عزما وثباتا ..

أذكر عندما اشتريت المنزل الذى أقيم فيه ذهبت إليه لأخبره ولأدخل السرور على قلبه فقال لى :

نحن الآن يجب ألا نشتري بيوتا , ولا ننشغل بمثل هذه الأمور لأن أملنا أكبر من هذا .

ذهبت إليه مرة أشكو له مواقف بعض كبار الإخوان من تنظيم عام 1965 التي صادفتني أنا والشهيد عبد الفتاح إسماعيل فقال لي:

قولي لعبد الفتاح عبده إسماعيل : لا تغتروا برسوم الرجال ولا بشهرتهم , ولا بأسمائهم ولا تنظروا إلى الخلف , بل انظروا إلى الأمام ... إلى المستقبل ...

ثم قال :

لا تتحدثي معي مرة أخري فى مثل هذه الأمور ... حلّوها بأنفسكم ... رحم الله الإمام الهضيبي , وجمعنا وإياه ف مستقر رحمته ... آمين ..


قالوا عن الإمام الهضيبي

مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين

حسن إسماعيل الهضيبي مرشد الإخوان المسلمون

الأستاذ : عمر التلمساني

على مشارف الزمن , رجال اصطفاهم ربهم , فأتاهم من فضله ما لم يؤت غيرهم ومن البشر خلق ينساهم الناس قبل أن يواروهم التراب ... وثمة رجال هم والزمن صنوان فى الخلود, لن ينساهم الناس أجمعون . ومن هؤلاء فضيلة مرشدنا السابق الأستاذ حسن إسماعيل الهضيبي , رضي الله عنه , وصلي عليه ( هو الذى يصلي عليكم وملائكته ).

زاول مهنة المحاماة حينا فكان مثال الشرف والصدق والأمانة والتحرز لدينه واستأثر به القضاء فكان المعلم المشرق فى جنباته , معتزا بدينه وخلقه وكرامته اختاروه مستشارا وذهب إلى السراى الملكية ليحلف اليمين المعهودة فكان أول مستشار يحلف اليمين ثم يخرج مواليا الملك ظهره , وكانت مفاجأة ما كان للملك ولا لرجاله عهد بها من قبل . إذ كان الذى يؤدي اليمين يخرج متراجعا حتي يصل إلى الباب, وكادت تحدث أزمة ... لولا معرفة الجميع بصلابة الرجل واعتداده – بعد الله- بنفسه.

ثم شاء القدر أن ينتخبه الإخوان المسلمون مرشدا لهم فصادف الاختيار صاحبه وملأ الرجل مكانته .. لأنه كان إخواني النزعة منذ معرفته للإمام الشهيد حسن العام مرشد الإخوان المسلمين وكان يحضر بعضه أحفالهم , واذكر أنني كنت أتحدث فى محفل إخواني . وكانت فاتحة كلامي أننا فى أحفالنا هذه نطهر ألسنتنا من مهاجمة أحد أو النيل منه . واسترسلت فى الكلام , وجرفني حماس الموقف , وبدرت مني عبارة رأها فضيلته ماسة ببعض الناس فأهاب بى من مكانة أن أفي بما بدأت به كلامي , فأكبرته لأنه أهدي إلى عيوبي .... فجزاه الله عن الحق خيرا .. وكان بقبوله لمركز المرشد شهادة قضائية لحقيقة الإخوان المسلمين وإلا لما قبل مكان الإرشادية , لو رأي فى الإخوان أو في دعوتهم وأسلوبهم مأخذا.

ودعاه الملك فاروق لمقابلته فى قصر عابدين , دون أن يطلب هو المقابلة فلما خرج سأله الصحفيون عن المقابلة فكان الرد المهذب الصادق لمثل ذلك الموقف وفى تلك الملابسات ... قال رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه " مقابلة كريمة لملك كريم" ولكل كلمة مدلولها ومؤداها . لم يقل تشرفت أو سعد بالمثول بين يدي الملك الكريك ولكن قال إنها مقابلة , وكلمة مقابلة وفى هذا المجال تدل على المجادلة فى اللقاء والمساواة بين الرجلين , وما كان ليقول غير ذلك .... ووصفها بأنها مقابلة كريمة لأنها تمت فى جو من المحافظة على العزة والكرامة وليست سامية ولا ملكية ولكنها كريمة لأنه هو المدعو للقاء . وما كان لمواطن أن يرفض مقابلة الحاكم إذا دعاه لا إذا استدعاه ووصف الملك ب أنه كريم , لأن الحفاوة التي استقبله بها الملك ,والمكانة التي أحلها إياه مستطلعا ومستبشرا . لا تصدر إلا موصونة بهذا الوصف السليم , مهما كانت أخلاق الدعي فى غير ذلك الموقف فالوصف كان متسقا تمام الاتساق مع ما يجب أن يقال فى مثل ذاك المقام .

حل عيد الأضحي مرة وهو فى أزمة مالية , حكي لى حكايتها فقال : جاء العيد وليس عندي من مظاهره ما احتفل به وفى مساء يوم الوقفة جاءه أحد أقاربه وذكر الاسم وكان يعمل فى المجال القضائي – جاء ليستقرض من قريبه – فابتسم الأستاذ الهضيبي وكانت بسمة أوضح من مئات الدلالات وأدرك قريبه حقيقة الموقف فخرج متجها إلى بلدة المرشد وقال لوالده . وكان ميسور الحال . أتترك ابنك على هذه الحال وفى أيام العيد!!... وقال فضيلته , وما أدهشني بعد صلاة فجر العيد إلا قرعا على الباب , ورجل يسحب خروفا ومعه العديد من الجنيهات . وموضع الاستشهاد بهذه الحادثة وقوله لى أن الذى كان يشغل باله ويحضه أن خادمته لن تفرح بالضحية والعيدية كمثيلاتها فى تلك الضاحية أى أن حاله وحال أولاده وزوجته, لم تكن ذات بال يشغله , ولكنها الخادمة البعيدة عن والديها وأترابها ... والتي لم تكن لتجد ما يعوضها عن ملهاتها فى الريف البعيد المشاعر القريب المسافة , وتلك ناحية من نواحي النبل الأخلاقية التى تهتم بالغير أكثر من اهتمامها بنفسها , وهكذا كان مرشدنا الراحل رضوان الله عليه فى كل مناحي حياته الحافلة بشتي المشاعر والأحاسيس المحببة إلى القلوب . وكانت زوجة الفاضلة رحمها الله صورة من الصور الرائعة فيوم أن أذاع المذياع نبأ الحكم بالإعدام على فضيلته من المحكمة العسكرية التي شكلها عبد الناصر , الذي رضي لنفسه أن يكون الخصم والحكم ... فى تلك اللحظة صرخت الخادمة وولولت فنهرتها السيدة الكريمة قائلة لها لا تصرخي فهو شهيد , والشهداء يهنأ أهلوهم وذووهم , لأنهم نالوا مالم يحظ به الكثيرون .... أنهم يغبطون ولا يناح عليهم وجاءت المحن , وسأتبدل الإعدام بالسجن المؤبد , ودخل فضيلته السجن رغم تقدم سنه وحالته الصحية ... كانت منحة فى مظاهر محنة وقديما قال علماء اللغة العربية أن الكلمات المركبة من حروف واحدة كثيرا ما تتفق فى المعني فأنت إذا قلت نيل فهو النهر يروي الأرض ويمدها بالنماء بإذن الله , وإذا قلت نيل فقد ضمنت الأماني ونلتها .

وكان الله سبحانه وتعالي قد أعده لقيادة الإخوان المسلمين لما علمه فيه من حكمة وجلد واحتمال وصبر على المكاره ز ليكون الأسوة المثلي لم بايعوه على الوفاء والتضحية والسمع والطاعة فى غير معصية .

المتمكن من حقه يركن إلى الحجة قبل القوة , ولكن من خلا وفاضه من الحق يعلم تماما إلا برهان لديه . ولكن القوة المادية بين يديه فيصول ويجول كما كان يفعل دون كيشوت مع طواحين الهواء .

وكان فضيلته موضع الدهشة والإعجاب من كل من فى السجن .. ضباط , وأطباء .... ونزلاء ... الكل كان يعجب كيف يتسم هذا الرجل وفى وجه تلك المحنة !! كيف كان ينام قرير العين من بعد صلاة العشاء حتى أوقات السحر ليتهجد . كيف كان يأكل العدس بالحصا ... أو الحصا بالعدس... عدس محصول أم حصا معدس, وقل هذا عن الفول المسوس أو السوس المفول , وقل هذا عن اللحم الذى تأنف نه قطاط السجن .

كل هذا كان سهل هين , وما كان يطلب إلا رضاء الله , وأسأله تعالي أن يكون قد وهبه إياه فقد كان من دعائه يا صاحب الفضل أهلني لرضاك .

كان صلب أسارير الوجه لا تعرف أراض هو أم غاضب لا تستطيع أن تستشف دخيلته مما كان يبدو على أسارير وجهه من لا يعرفه يظنه غاضبا وهو راض ومن يعرفه يظنه راض وهو غاضب , فهو متعال عن المحنة , لم يضعف أمامها ولم يخف استعلاؤه عليه .

كان يتعامل مع الجميع وكأنه مستو على منصة القضاء بكل ما فيها من هيبة ووقار , ينزل الكل على احترامه , حتي إذا ما احتوته جوانب الزنزانة مع زملائه فيها انطلق الرجل كأظرف ما يكون جناسا فى العبارات مع محديثه , يسري عنهم جميعا وكأنه واحد من الجنود . وليس قائد الرايات والبنود يروي لنا شذرات من المحاماة ومواقف القضاء ومحاورات مع العامة ممن لا يعرفون حقيقته ومكانته وكأنه واحد منهم لا يفضلهم فى شئ وهو الذكي الأريب اللماح .

اتهمه عبد الناصر بالعمالة فى يناير 1954 ثم أفرج عنه فى مارس من السنة نفسها وذهب إلى داره مهنئا ومعتذرا وهكذا يرغم الحق المبطلين على النزول عند حكمه مهما كان منصبهم واستعانتهم بالقوة الزائفة الزائلة,

لقد كان مجلس الثورة كله على وجه التقريب زوارا فى داره , وكانوا جميعا أشبه شئ بالتلاميذ فى حضرة أستاذ عظيم كانوا مسلحين بقوتهم المادية وكان مسلحا بقوته الروحية المعنوية وكان الله معه وكان خير الناصرين لأن من ركن إلى الله فقد أوي إلى ركن شديد معترفين بفضله وبعد نظره لقد كان هو ورجل أخر ما يزال على قيد الحياة الوحيدين اللذين لم يتوقعا خيرا من جمال عبد الناصر من أوائل أيام الانقلاب وأثبتت الأيام والأحداث أنهما كانا على حق دون غيرهما من الناس أجمعين .

إن أكبر ما كان يستثير عبد الناصر انه كان يخاطبه بغير الأسلوب الذى شوه مواقف عبد الناصر نتيجة للبطانة التي أوحت إليه أنه فريد عصره وأوانه , ولو أن الناس عرفوا أن الله قد خلقهم أعزة أحرارا , لما استطاع الظالمون أن يبطشوا أن يتألهوا , ولكن الناس معادن لا تظهر جواهر كيانهم إلا أذا صهرتها نيران المحن ..

ولما ضاق بعض الشباب بألوان العذاب التي أوقعها بهم زبانية عبد الناصر تحت سمعه وبصره وقدروا أن هذه الأفعال لا يرتكبها مسلم وحكموا بكفرهم لما حصل هذا أباه عليهم ولم يرضه لدينهم وأقنعهم بالحجة والدليل أن الحكم بالتكفير شئ غير يسير ورجع البعض منهم وبقي البعض على ما هم عليه ولو كان يعمل لنفسه ويرضي لها صغار الانتقام لوافقهم على رأيهم .... ولكنه كان فوق ذلك وأكبر ..

بعض الذكريات التي هومت بالخاطر , وأن أكتب عن شخصية من أكبر الشخصيات التي ظهرت على مسرح الأحداث التاريخية فى القرن العشرين.

إن الإحاطة بالرجل ومواقفه الباهرة وصبره العجيب ورجولته النادرة تستوعب صفحات مجلدات ولكن من لى بعلم عالم أو ذكاء كاتب حتي أوفي هذه الشخصية الباهرة حقها من الإجلال والإكبار وعلى فهو فى غير حاجة إلى مديح أو ثناء فحسبه ربه أولا , وحسبه إثارة ومواقفه التي حفظت لدعوة الله استمرارها . لقد أديت ووفيت يا فضيلة المرشد[ إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا ]..


فكــرة ..الأستاذ : مصطفى أمين

أعجبت بصموده . انهالت على رأسه الضربات فلم يركع , حاصرته المصائب فلم ييأس تلقي الطعنات من الخلف والإمام فلم يسقط على الأرض كان يحلم وكل من حوله يائسون كان قويا وأنصاره ينفضون ويستضعفون .

رأيته فى محنته أكبر منه فى مجده سقط من المقعد واقفا وغيره يجلس فوق المقعد راكعا . رأيته يستعذب الحرمان وغيره لا يستعذب إلا السلطان .

الرجل كالمعادن لا تظهر قيمتهم الحقيقية إلا إذا وضعوا فى النار . هنا يظهر الفرق بين الرجل الحديدي والرجل القش . بين الذى يموت واقفا والذي يعيش راكعا بين الذي يكبر من الشدائد والذى يتضاءل فى المحن والأزمات.

رايته يستقبل المحنة بابتسامة كأنه يستقبل النعمة ينام على الإسفلت وكأنه ينام على مرتبة من ريش النعام . يأكل الخبر الممزوج بالتراب ويحمد الله كأنه تناول الطعام على مائدة ملكية . تعرضه فلا يغضب وتناقشه فلا يحقد يتقبل النقد بصدر رحب ويتقبل الثناء بخجل وحياء . لا يجحد الفاضل فضله , ولا يذكر إنسانا بسوء  ! إذا جاء ذكر من طعنه بخنجر فى ظهره لا يلعنه ولكن يقول " سامحه الله ".

عشت معه سنوات طويلة كان بين زنزانته زنزانة واحدة كنت أراه كلما فتحوا باب زنزانتي , وكانت بينه وبين بعض المسجونين السياسيين ناقشات طويلة كانوا عددا ن المسجونين الذين عذبوا وصلبوا وضربوا وأهينوا وانتهكت أعراضهم . كانوا يصرون على الثار والانتقام من معذبيهم بعد أن يخرجوا إلى الحرية سيفعلون بهم ما فعلوه فيهم ... سيذيقونهم من نفس الكأس الذى أرغموهم على تجرعها كان يعارضهم ويقول لهم هذه مهمة الله وليست مهمتنا ... نحن دعاة ولسنا قضاة ... كانوا يحتدون فيهدأ , ويشتدون ويلين , ويرفعون أصواتهم ويخفض صوته , ويهاجمونه فيبتسم ... ويتطاولون عليه فيقول لهم هذا حقكم . لا ألوم المجلود إذا صرخ من ألم السياط ... لا أعاتب المطعون بالسيف إذا وقع على بعض دمه على ثيابي . لا أطلب منكم أن تعفوا وإنما أرجوكم أن تتركوا الأمر لله فهو المنتقم الجبار . عذاب الله على الظالم أقسي من كل ما تستطيعون من عذاب . لا أريد أن نتساوى نحن المظلومين مع الذين ظلمونا ... بطشوا فنبطش بهم ... ظلموا فنظلمهم ... واجبنا أن نقابل الظلم بالعدل والقسوة بالرحمة والجبروت بالتسامح .. والعدوان بالصلاة .

كان متمسكا بدينه بغير تعصب .. مؤمنا بالعدل كارها للظلم . يرفض العنف ويقول ما حاجتنا للمسدس ولنا لسان ! ما حاجتنا للقنبلة ودوي صوت المظلومين أعلى من انفجار الديناميت!

كان اسم هذا الرجل هو حسن الهضيبي ... عليه رحمه الله ..


اللواء محمد نجيب ورجل مصر العظيم

زار اللواء أركان حرب محمد نجيب رئيس جمهورية مصر السابق منزل الأستاذ الهضيبي معزيا عندما بلغه خبر وفاته , وقد ترك للأسرة بطاقة سجل عليها ما يلي:

إلى السيد إسماعيل الهضيبي

حضرت لرفع واجب العزاء فى رجل مصر العظيم ...

رجائي المعذرة فقد أخرني انحراف مؤقت فى صحتي فلم أعلم إلا متأخرا عزائي للأسرة الكريمة جميعا .. والله يتولي الجميع برحمته ..

المخلص : اللواء أ.ح محمد نجيب


أحمد حسين رئيس الحزب الاشتراكي المصري يرثي حسن الهضيبي

الأستاذ احمد حسين , زعيم حزب مصر الفتاة ومن بعد رئيس الحزب الاشتراكي المصري لم يستطع أن يؤدي واجب التعزية بالأستاذ الهضيبي فكتب هذه الرسالة وأوفد ابنته لتؤدي واجب العزاء لأسرة الهضيبي... وسنورد نص الرسالة دون أى تعليق ... تقول الرسالة :

بسم الله الرحمن الرحيم

أعزائي أسرة المغفور له الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين لم أعلم إلا الأمس فقط أن سيدنا قد لحق بالرفيق الأعلي , ولو لأم أكن عاجزا مشلولا لسعيت إليكم سعيا , أما الآن فأرجوا أن تقبلوا عذري وأني أرسل ابنتي نيابة عني .

أعزائي.....

لقد عرفت الفقيد فى حياتي الخاصة والعامة . عرفته ندما كنت محاميا فتشرفت بالمرافعة أمامه .. وعرفته فى الحياة العامة عندما اختاره الإخوان المسلمون ليرفع لواء الدعوة الإسلامية فرفعها عالية خفاقة فى غير خوف أو تردد .

لقد ضمنا السجن الحربي فى مارس 1954 وأشهد أنه كان معي كريما وبي عطوفا ... وأحسب أن أعظم تكريم له هو فى تكريم الإخوان المسلمين ولقد سألني صحفي قال أنه سينشر حديثي فى مجلة " الجديد" سألني ما رأيك فى دور الإخوان المسلمين فى معركة فلسطين فأجبته بأنه كان أعظم الأدوار حتي لقد كانوا هم الذين أنقذوا الجيش المصري من الوقوع فى كارثة عندما حموا مؤخرته وهو يتراجع ..

ولقد وعدني الصحفي بنشر هذا الكلام فعسي أن يصدق لتعرف الدنيا كلها مني أنا أن من حارب الفقيد وحارب الإخوان المسلمين بالحديد والنار إنما كان يفعل ذلك لحساب الشيطان .

ولا تظنوا يا أحبائي أنني أقول هذا الكلام الآن فقط فقد غادرت مصر عام 1955 احتجاجا على ما حل بالإخوان وكان أخر لقاء بيني وبين عبد الناصر يدور حول هذا الموضوع .

أنني أكتب لكم فى لحظة تاريخية نصرنا فيها الله لأننا عدنا إليه , وكم أثلج صدري ان يرسل الرئيس أنور السادات مندوبا من لدنه , وليس ذلك إلا أول الغيث فكلما استفاق المجتمع كلما عرفت الحقائق . وبعد فإن شهيدكم وشهيد الإسلام إذ ينعم الآن بالحياة إلى جوار ربه يسجل له التاريخ إنه كابن حنبل رفض أن ياسووم أو يتزحزح عما يتصوره حقا أرجو إذا كان باستطاعتي أن أفعل شيئا أو أقدم أى خدمة أن تسعدوني بذلك – ودمتم للمخلص ,

أحمد حسين


يا مرشد الجيل

شعر : يوسف الدين أبو هلاله

وددت والله لو لم يصدق الخبر

حتي نري دعوة الإسلام تنتصر

يا مرشد الجيل للجلي الكفاح أتي

والأسد تزار والإيمان ينتظر

فكيف ودعتنا يا فخر دعوتنا

ورحت عنا ببطن الأرض تستتر

يا صارما بظلام السجن غيّبه

عشرين عاما شقي مجرم أشر

سليل فرعون كيف غدا

بذبحهم يتسلي داعر قذر

ليل الغواية وأوراها مذممة

ف لفحها يكمن الإلحاد والخطر

والوعة القلب للإخوان مهما أسود جانبه

سينقضي وعن الدنيا سينحسر

هل أكتم الجرح فى قلبي ليسحقه

وعن رثاء الهضيبي كيف اعتذر

تبكيك دعوتنا والجرح يؤلمها

وقد كستها جراحات الهوي الكثر

فنعيك اليوم ناقوس يذكرها

بكل من الجنان الخلد قد عبروا

بكل محتجز فى السجن مرتهن

بكل ليث بحبل الموت قد جزروا

عواهر حكمت أوطاننا وعلي

أيديهمو اجتاحنا الخذلان والخور

فصاحب الإفك والبهتان محترم

بشرعهم والتقي الشهم محتقر

قالوا نهدم تقواه بفتنته

وعن عقيدته بالسوط يندحر

فامطروا بلاء قاتما ومضت

يالهوال من فوقه الأحقاد تنفجر

هيهات أن يحني الضرغام هامته

لمجرم برداء البطل متزر

يقينه الفذ أو هي مكرهم فغدت

على لظاه صنوف الكيد تنصهر

هى القلوب التقيات التي احتملت

فى جانب الله مالا يحمل الحجر

ودعوة الحق لما غاتيل قائدها

وجلجلت فوقها الأهوال والنذر

" لم يؤثروك بها إذ قدموك لها

لكن لأنفسهم كانت بك الأثر"

علمتنا كيف يفدي الحر دعوته

وكيف للهزل المخذول يحتقر

هلا سكت على تكفير أمتنا

وقد نما عارها واستسلم البشر

والعابثون قد اقتادوا أزمتها

والظلم يشدو بها والعدل ينحر

لمذبح الموت ساقوها مكبلة

ذليلة لكؤوس الحزن تهتصر

اما سكت فجل الناس قد سكتوا

وداهنوا اللص وارتاحوا بما امروا

فلو تلونت كالحرباء كنت على

خزائن الحكم تحويها وتدخر

وتقطع العمر متخوما بعافية

وفي إهابك يبدو التيه والبطر

يا أيها الراحل الغالي الذى ظعنت

رحاله وشجانا ذكره العطر

عهدا إلى الله أنا لن نذل و لن

نلقي القياد لم ضلوا ومن كفروا

وروض إيماننا مهمة عليه عدا

عشف الطغاة سيبقي مورق نضر

نمضي على الدرب فى جد وفى ثقة

مهما أدلهم الدجي وأحلو لك الخطر

فى موكب رائع يزهو اليقين به

تشدو بساحاته يوم الوغي السور

شعارنا رغم أنف الكائدين لنا

شعار دين به نزهو ونفتخر

أما إلى الله فى أفياء جنته

أو أن يخالفنا التوفيق والظفر


رئيس وزراء أندونيسيا الأسبق يعزي بوفاة الهضيبي

تقلت جمعية الاصلاح الاجتماعي برقية تعزية فى وفاة الأستاذ المرشد العام للإخوان المسلمين رحمة الله عليه من دولة وزراء اندونيسيا الأسبق الدكتور محمد ناصر وهذا نص البرقية :

" بلغوا تعازينا ومسلمي اندونيسيا لأسرة الفقيد الأستاذ حسن الهضيبي فقيد الإسلام تغمده الله برحمته ..

محمد ناصر


المصاب العظيم برجل الدعوة والجهاد حسن الهضيبي

للشيخ: عبد الفتاح أبو غدة

لقد هز نبأ وفاة والدنا الأستاذ المرشد الغالي قلوب المؤمنين , فقد آثره الله إلى جواره الكريم , ورحل عن هذه الدار بعد أن ترك فيها أجل الآثار بجهاده وجلاده المشهود له به , وعز المصاب بفقده على كل نفس مؤمنة فى ديار الإسلام وكانت خسارة المسلمين برحيله جسيمة وفقد نذر حياته للذود عن الإسلام صدقا فى القول وإخلاصا فى العمل وتربية للمؤمنين وإعداد للمجاهدين ورعاية لشباب الجيل فى رحاب الإيمان .

ولقد علم الأجيال , عزيمة البطال , وثبات الرجال , وكانت حياته صورة دعوته إيمانا وصبرا ورعاية للحق وجهرا به , وثباتا عليه , دون مهادنة أو مساومة مع التعذيب الشديد والأذى العاتي الذى ناله بسبب صلابته التي لحقته - من جراء التعذيب والإيذاء – وصاحبته طوال المحنة القاسية فلله النفس المؤمنة الصابرة المحتسبة المسلمة المجاهدة المؤثرة لما عند الله , الطالبة لثواب الله ورضوانه بالصبر على ما تلقاه من تعذيب الطغاة والظالمين , التي لقيت ألوان العذاب فى سبيل الله وما انحرفت ولا ضعفت ولا استكانت لغير الحق , حتي لقيت وجه ربها راضية مرضية إن شاء الله .

ولقد أكرمني الله تعالى وعددا وافرا من أبنائه ومحبيه , الذين رباهم ورعاهم بلقائه في رحاب بيت الله الحرام فى حج العام الفائت , بعد غياب طويل ولهفة وحنين وسعدت القلوب بلقياه , واطمأنت النفوس بمرآه , وشهدت العيون بالنظر إليه – بعد صبره وجلاده وصدور الحكم عليه من الظالمين بالإعدام وإبقاء الله له بعد زوال رأس الطغيان والطغاة – شهدت رجل الصبر والقوة والبسالة النادرة العظيمة الذى إذ يكون لقاؤنا به لقاء الوداع , فلا راد لمشيئة الله وقد رضينا بما قدر الله وقضاه , وإننا – بعون الله سبحانه – على العهد لثابتون , وعلى نهجه لسائرون حتي نلحق ويجمعنا معه اللقاء الذى لا فراق بعده فى كنف رحمة الله وفضله إن شاء الله , مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .

رحم الله فقيدنا الكبير وإكرام مثواه وجعل الجنة مأواه وأعلي مقامه فى منازل الأبرار والأخيار وجزاه عن جهاده جميل الصبر وحين العزاء وإنا لله وإنا إليه راجعون .


الجماعة الإسلامية فى باكستان تعزي بوفاة الأستاذ الهضيبي

تلقت جمعية الإصلاح الاجتماعي برقية تعزية من الجماعة الإسلامية فى باكستان بوفاة الأستاذ الشيخ حسن الهضيبي رحمه الله وهذا نص البرقية :

" الأستاذ عبد الله العلي المطوع أمين عام جمعية الإصلاح الاجتماعي المحترم – الكويت . تنعي ببالغ الآسي وفاة المرشد الشيخ حسن الهضيبي.

لقد كنت وفاته خسارة كبيرة للحركة الإسلامية . لقد كان مصدرات للتوجيه والإرشاد لجميع أنحاء العالم الإسلامي .

تغمده الله برحمته وألهم آله وأتباعه الصبر والسلوان لتحمل هذا المصاب الأليم .

أبو الأعلي المودودي وطفيل محمد أمير الجماعة الإسلامية فى باكستان ورحمه الهي الأمين العام للجامعة الإسلامية وخليل أحمد الحامدي مدير دار العروبة لاهور"

وقد بعثت جمعية الإصلاح الاجتماعي الجواب الآتي :

" الأستاذ الفاضل الشيخ طفيل محمد أمير الجماعة الإسلامية المحترم – لاهور – باكستان. تلقينا برقيتكم التي تعزوننا فيها بوفاة الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله فنشكركم جزيل الشكر على ذلك ونسأل الله عزوجل أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته وأن يهيئ للجماعة الإسلامية من يقودها بعده لتواصل مسيرتها فى خدمة الدعوة الإسلامية إنه سميع مجيب .

عبد الله المطوع أمين عام جامعة الإصلاح الاجتماعي


سلام عليك يا من قلت : أقيموا دولة الإسلام فى صدوركم تقم دولة الإسلام على أرضكم

بقلم : أحمد محمد عبد الله

السنون تخط على جبينه آثارها الممتدة وتشعل رأسه شيبا .. لكنه يتحرك هنا وهناك .. شأن من لم يأنس الراحة أبدا .. وبعينين أسرفت الأوراق فى سلب نورهما..

فاختفيا وراء منظار يساعد على الرؤية حتي لا يذهب ما بقي من نور ..

وعصا عليها يتكئ بعد أن هدت الأيام من احتمال العظام ... وغدت واهنة بعد أن التصق الجلد عليها ... وقليل من ثياب ... لكن ما أدرك ما ما فى الثياب وما بين حنايا العظام وما يحويه هذا الجلد .. أو ما قاساه الجلد واحتمله !!

تلك صورة له فى أيامه الأخيرة بل والسابقة على هذه الأيام الأخيرة

وجاءا النعي مطرقا .. حسن الهضيبي .. إلى رحمة الله ... وتمتمت ... إلى رحمة الله ... ودعوت له بما أحسن من دعاء ..

ومرت بذهني صورة كبيرة ... ومشاهد متعددة ... هكذا ... يموت حسن الهضيبي المرشد العام لأكبر حركة إسلامية شهدها العصر الحديث , وإن ندت من بعض العيون الدموع وانفطرت من البعض الآخر القلوب .. لكني تساءلت : ماذا يعني ذلك ؟!

هل يعني ذلك ... أن الحزن رفيق ... وأن التوجع والتفجع ميزة لأزمة لكل من يجزن على مفارق .. رحماك ربي ... لعبدك الضعيف .. حسن الهضيبي.

الرجل الذى قاسي وتحمل قسوة السياط وهي تنهال على جسده الواهن دون أن تنتزع منه أنة أو يحاول أن يلتفظ بكلمة استعطاف لجلاديه كي يخففوا عنه شيئا من نارهم وسياطهم ...

كانت نفسه أكبر من أن يخضع أو يركع لأنه يعرف لمن يكون الخضوع والركوع .. وكانت نفسه أكبر من أن يهادن أو يسلم القياد لعبيد الدنيا وظلال الباطل !

وكانت نفسه أكبر كذلك من أن يترك ممن التزموا جادة الحق يتهاونون فى نصرة الحق إزاء ما يوجهون من تلف لأعصابهم من شدة ما تجرد به أكف الطغاة من صفع وقمع !! كان يكبر الهمة فى الرجال .. لأنه رجل .. رجل صنعته الشدائد .. وعركته الأحداث وجرب عراكها ... فعرف أن فيها اختبار المعادن فصمد صمود حامل الحق دائما ... لا تهزه صرخة جبار فاسد فاسق ... بقدر ما ترتسم على شفتيه ابتسامات السخرية من المعتز بسلطانه والرثاء الحزين لعبد تنكر لا صلة .. ونسي خلقه .

منذ أن سيطر الإسلام على حسه ... ومنذ أن تشرب العقيدة عن إيمان ويقين وصدق عرف أن الحق بنوره محاصر من جيوش الظلام ... وهجوم هذه الجيوش متوقع فى كل آن ... إلا أن النور هازم الظلم .. وما حق الظلم ... وأن كان ليل الظلم والظلام عند ضعاف الناس طويل !!حسن الهضيبي .. الذى ووري جثمانه الثري .. ليس كمن يأتون ويذهبون .. بمعني انه ليس ممن أتوا إلى الدنيا فقبلت الدنيا راحاتهم فاستراحوا ... كما أني لا أريد أن أقول كما قال المسرفون فى حياة الآخرين وهم يخلعون عليهم أبهة المعالي وزيوف الكلمات والألفاظ .

فحسن الهضيبي – رحمه الله – كان رجلا يعيش بالإسلام وللإسلام .. وبهدوء ما شهد الناس فى عصرنا الحاضر هدوءا مثله .. ذلك يؤمن بالعمل..... والعمل الجاد .. ويعرف أن الحق ... لا يرتبط بكثرة الكلام ما يستلزمه مصاحبة الأنصاف للإخلاص من قبل المخلصين المصنفين .

جاءه رجل وقد ضاق ذرعا بما عليه الناس من بعد عن الإسلام وخاطبه بلهجة المتسائل المتردد : متي تقوم دولة الإسلام والمجتمعات تنهار والناس فى ضياع ؟!!

أجابه بهدوء وتؤدة ولكلمات بسيطة ... لكنها كبيرة .. أقيموا دولة الإسلام فى صدوركم ... تقم دولة الإسلام على أرضكم .

نعم .. بهذا اليقين وبهذا الصفاء .. وبهذه الكلمات النقية المملؤة بالأمل والتفاؤل يعرف الرجل المسئول كيف يلقي شعاع اليقين فى صدور الرجال ... فليس الإسلام عبثا ولا هما دنيويا ... وإنما هو رسالة خالدة سامية وحياة مباركة زاكية ... لا مكان فيها للمتردد والمتخاذل لبناتها وأساسها .. تلك القواعد الصلبة من الرجال المؤمنين باليقين الحق .. والذين لا ينال منهم غرض الدنيا وهوي النفس منالا يبعدهم عن حقيقة ما آمنوا به

هذه الصدور العامرة بالإيمان. الممتلئة باليقين الصادق الوهاج , هذه الصدور التي تحط فيها كل بشائر الخير ... وتفرغ منها كل نذر الشر ... والتي تقبل كل حق وترفض كل باطل ... هي التي تتصور الإسلام عقيدة لا تزعزعها شهوات البشر ولا تطغي فيها ماديات الحياة الدنيا ..

كان يعرف كيف يخاطب الناس ... وكان يعرف كيف يحمل أمانة الكلمة .. مع إخلاصه لعقيدته ودينه وصبره على كل مكروه نزل به ... فلم يتراجع ولم يتراجع ولم يتوان ولم يعرف الخنوع ولا السجود لغير الله ..

وحسن الهضيبي ... رحمه الله رحمة واسعة .

العظام التي شربت كل أحقاد الطغاة ..ز والدماء التي تقبلت كل زفرات الغيظ ولم يتوقف بل ظهرت تسيل حمراء قانية لتعلن للعيون النهمة الجاحظة إنها ما زالت دماء تروي وتمد هذا الجسد الذي برته سنوات العمر المديد إلى جانب سنوات العذاب تمده بمدد يحيا به ويعيش .

وحسن الهضيبي ... الرجل الذى تمثل الصبر فيه رجلا ... والصمود الصامت الذى آثاره كل كوامن الحقد والغيظ فى مبغضيه ومبغضي دعوة الحق قبله .. فتهشمت أحقادهم على صخرة صمودة العاتية .. كل دعاوي المبطلين تحطمت على هذه الصخرة وسقطت رايات المنافقين أمام صبره وتحمله !!.. وانقضت عدة الصابرين .. ليتنفسوا الهواء قليل ...!!

يا أيتها الروح المطمئنة ... فى علياء الباري الكريم .. يا أميرا ككل الغار رأسك ما كان افتراؤهم عليك ... أيها الحبيب الراحل .. إلا اعترافا بفضلك وقدرك وعلو مقامك ومنزلتك ... وما كان ذلك إلا إظهار لكل نوازع الشر المتغلغلة فى أعماقهم ... فأفرغوها بأسلوبهم المعتاد .. ويظن الناس أن سنوات العذاب ... مع الصبر ... حزن يطول... وتقول أنت ... أنها مدرسة وطالب العلم لابد له من الصبر على التعلم !!

وتضرب الأمثال بالأنبياء والرسل الكرام .. وتعرج على رجال الدعوة فى كل زمن وما كان منهم من جلد وقوة بأس ورباطة جاش .

وتظل تردد .. إنهم يهدونني أعظم ما أتمناه وما يناله صابر ... ويبقون لأنفسهم.... بل يستزيدون ما ينصب على عاق .. أشرب فساد التصور والاعتقاد .. فاعتدي وطغي وبغي!!

وتنفخ فى شباب الأمة .. روح الإسلام الشاب دائما .. الذى لا يعرف التراجع.. وتطلعه على أزكي صوره وأنبل مواقفه .. وعندما أترحم عليك كلما ذكرتك .. أو ذكرت.. أشعر بأن فى السماء نجما جديدا ينادي : أن .. يا أنصار الحق ... أمانة فى أعناقكم هذا الدين فالتزموه وانتهجوا طريقه .. وإن ... يا أنصار الحق ..ز أمانة فى أعناقكم هذا الإسلام العظيم .. فلا تفرطوا فيه أبدا..

وأن... يا أعداء الباطل ... لا يغرنكم زيف ما ترون فإنه أمر أمامكم حائل ..ز لكنه ظل زائل؟!..

وأن... يا شباب الأمة .. ليس رجل مسلم عامل عن الدنيا .. إلا شعور بحمل التبعة من بعده فانهضوا فما أنتم بجانب عز ما جانبتم طريق دينكم .. وما أتم بموقع كرامة ما لم يكن هذا الكتاب العزيز قبسكم ورائدكم .. والمصطفي الأمين قدوتكم وقائدكم ...

كلمات هى حقا .. لكنها .. ليس للقراءة !!

وتحذير وتوصية.. ولكنه ليس للعاطفة الفوارة .. بقدر ما هو للتدبر والاتزان والعمل .. ويمضي الركب دوما دون توقف فما كانت القافلة يوما بباقية فى مكان ...

أيها الحبيب الراحل .... سلام عليك فى الصالحين والأبرار والمتقين ...

وإننا أن نتعز اليوم فإنما نعزي أنفسنا بأنا نجد فى صدورنا وميض هذا الشعاع وجذوة ذلك العمل الحار الذى حملك على التحمل بكل ما أتاك ربك من قدرة وصبر ...

ونسأله الله العزيز .... لك الرحمة والرضوان .... ورحمة ربك خير ..

ونسأله سبحانه وتعالي الصبر والثبات واليقين الصادق والسير على الصراط المستقيم ....

الهضيبي....


معلم الصمت الشامخ

بقلم : محمد أحمد الراشد

يخطئ زعماء الأحزاب السياسية العرفية , وقادة الأفكار الأرضية , والحاكمون أجساد الناس بقوانين خطأ عظيما حين تقديرهم مدي النجاح الذى يحققونه يفهمون أن تسلطهم وقمعهم للمخالفين يصفانهم بالنجاح التاريخي ويؤهلاتهم لاستمرار وتأثير .

وليس أمرهم كما فهموا أو زعموا , فإن مبلغ زعامتهم وفكرهم وحكمهم لا يتعدي نهاية غلبتهم وبداية سطوة منافس لهم من أنفسهم جديد تذروهم ريح الأيام ويظل قادة دعوة الإسلام أقوي منهم دوما فإن الناجح من ملك العصر , وحكم القلوب وكانت له النهايات .

قد يكون القائد المسلم سجينا , ممنوعا بضيق الجدران وأثقال الحديد عن الحركة لكن روحه التي بين جنبيه تظل أوسع من عوالم سجانه .

وقد لا يؤثر عنه حرف مقابل كل خطبة يخدع بها الطاغية اتباعه لكن صمته يظل قوي من بلاغة الباطل . أنه الصمت عن حروف اللين يهب القائد المسلم قوته ..

ويومها فى زمن التابعين فخر المحدث الفقيه إبراهيم التميمي بمنقبة الربيع بن خثيم فرواها للأجيال وقال :" أخبرني من صحب الربيع بن خيثم عشرين عاما ما سمع منه كلمة تعاب ".

بفخر أن صان الربيع لسانه عشرين عاما من أعوام العافية والرخاء

واليوم نفخر نحن دعاة الإسلام , بمنقبة الهضيبي ونرويها للأجيال : إن قائدنا خبرناه عشرين عاما , من أعوام المحنة والسجن , ما سمعنا منه كلمة من اللين أو حرف يعاب .

وهذا هو الصمت الصعب لا صمت الزهاد . كانت حاجة المعركة إلى قائد يعلم الدعاة الصمت الشامخ والاستعلاء على كلمة العيب . ولم تكن الحاجة إلى قائد خطيب وكاتب .

كانت الحاجة إلى : الرجل الكامل . فالكتب " إنما هي صواب أو خطأ ينتهي إلى العقل ولكن الرجل الكامل صواب ينتهي إلى الروح وهو فى تأثيره على الناس أقوي من العلم إذ هو تفسير الحقائق فى العمق الواقع "

وكان الهضيبي رحمه الله ذلك الكامل . كان صوابا ختم له بموقف ثبات صواب سيظل ينتهي إلى أرواح دعاة الإسلام فى كل مكان وكل جيل يمدها بالثبيت.

ولم يكتب الهضيبي إلا كلمات , لكنه كان أقوي من العلم وكتابات الكتاب فى التأثير بما خلف من مواقف صلابة تفسر حقائق المعركة الإسلامية مع صور الجاهلية الحديثة .

كان كمالا لم تنقض منه أنصاف الحلول فاصل و وحفظ للدعوة معسكرها المستقل وأبي كل محاولة للتقريب .

وأدرك أنه الوادي السحيق يقوم بيننا وبينهم ذلك الوادي الذى يجب أن تشير إليه خواطر الدعاة وتبين عمقه واستحالة نصب الجسور بين جانبيه . الوادي الذى رآه بديع الزمان النورسي وصفه فى مثانيه العربية , يبين من خلال صفة فقه ثبات أمثال الهضيبي من القادة على المفاصلة المستعلية .

نداء عربي ينبعث من جبال تركيا خاطب محذرا : أيها الدعاة :" لا تتقربوا إلى المدنيين بالمسامحة الدينية والتشبه ظنا منكم أنكم تصيرون سرا بيننا وبينهم وتملؤون الوادي نبتا . كلا إن المسافة بيننا فى غاية العمق لا تملؤونه , بل تلتحقون بهم أو تضلون سلالا بعيدا "

يدعوهم بالمدنيين , هؤلاء أهل الجاهلية جريا مع الاصطلاح القديم فى نظرته فى المفاصلة واضحة أيام اشتداد جبروت أتاتورك .

يري التقرب والتسامح خطوة التحاق بالكفر لا محالة ولذلك لها كان ذاك الوادي الذى فى غاية العمق حقيقة: وحب من يشرف عليه جبل فى غاية الشموخ كجسد العمق .

القلب الجبل الذى لا يزيله شئ . أول القلوب التي وصفها السري السقطي فإنه رأي أن ( القلوب ثلاثة):

قلب مثل الجبل لا يزيله شئ , وقلب مثل النخلة , أصلها ثابت والريح تميلها وقلب كالريشة , يميل مع الريح يمينا وشمالا".

فكان قلب الهضيبي تلك وذاك الجبل, لم يزله عن جوهر الدعوة الذى عرفت به تهديد أو حبال تلف مرة حول أعناق الذين معه , ولم تم ل به ريح إغراء أو تقذفه اليمين والشمال .

وقد يربأ البعض بأنفسهم عن ميل غير منتظم كميل غير منتظم كمكيل الريشة حين تطير بها الريح فى الفلاة وتقعد , ويرون الفضيحة فى ذلك الصعود والهبوط الذي لا تضبطه الموازين فيفلسفوا صعودا وهبوط تنظمهما مقاييس الهندسة فى منظر جميل من الدوران, مبررا مقننا لكنه يبقي دورانا ليس بثبات.

ولذلك أباه الهضيبي أيضا , واختار لنفسه المحل الواحد الثابت , وكان المركز لم يشأ أن يتناقله صداع الهواء والأماني والرخص , ولا أن يصيبه دوار الدوران .

ينفذ وصيه صاحبه عبد الوهاب عزام فى مثانيه :

فأثبتن , والزمان بالناس ماض وألزم القطب لا يصبك الدوار

فلزم القطب الثابت , والضعفاء من حوله يدورون

والتزم القطب الكاتب والبعض لدقيق حروفه لا يفهمون .

ثم أتم ثباته فى القطب بإغماض الجفن فإن المكوث فى المركز ير كاف للوقاية من الصداع ومجرد النظر ورؤية الدوران تدير الرأس أيضا وتأتي بالدوار.

فثالثة كانت المثاني تناديه , كان القدر ناسب بين المرشد القائد الثاني ونصائح مختلف المثاني , لكنها المثاني الفارسية هذه المرة :

إن يدع الحرص ويقنع ويزهد ويغمض جفنه عن عرض الدنيا ومتاعها , فإن الصدف لا يحفل باللؤلؤ الثمين ما لم يغتمض.

ولقد لبي الهضيبي رحمه الله وأغمض جفنه فى بدايته عن الزوائل , وزهد حق الزهد , وخاف الله ولم يخف طاغية , فغمض جفنة فى نهايته على ثبات ومفاصله وكلمة صلبة عالية.

وبقي على من يخلفه فى القيادة أن يواصل هذا الثبات المغتمض الصامت فى شموخ أمام وادي المفاصلة العميق , وأن يردد مع سيد:

أخي ستبيد جيوش الظلام

ويشرق فى الكون فجر جديد

فأطلق لروحك أشواقها

تر الفجر يرمقنا من بعيد

فذلك الذى أكده هرقل لأبي سفيان رضي الله عنه حين قال :" سألتك: كيف كان قتالكم إياه ؟ فزعمت أن الحرب سجال ودول كذلك الرسل , تبتلي ثم يكون لهم العاقبة ".

وكذلك أيضا أتباع الرسل فى كل قرن أيضا , يبتلون ثم تكون لهم العاقبة بل هو الابتلاء طريق التمكين , كما قرر الشافعي لما سئل :" أيما أفضل للرجل : أن يمكن أو يبتلي ؟".

كأن دعوة الإسلام وصلت يوما ما بلا تمحيص وتدريب وراء القضبان وتحت المشانق وفوق أمشاط الحديد. فقال الشافعي:" لا يمكن حتي يبتلي"

حتما مفروضا . قد يطول هذا الابتلاء وسير الظلماء أو يقصر كيفما شاءت حكمة الله لكن المهم أن يقوم فى هذا الطريق مؤذن بعد مؤذن يهدون الناس ممشاهم.

كلما أظلم الطريق واعيا وتاجت بيأسها الركبان أبصر الركب للمنازل نارا وهداهم إلى الديار أذان

ولقد رفع الإمام حسن البنا رحمه الله صوتا عاليا بأذان أيقظ النيام وخلفه الأستاذ الهضيبي رحمه الله فوفي وصدع بأذان ثان أزال عن القلوب وحشة الطريق .

وكأنه لمثل هذا اليوم كان نداء داعية اليمن القاضي محمد محمود الزبيري رحمه الله قتيل طريق الابتلاء هذا يريد أذانا ثالثا:

يا دعاة الإسلام تاريخكم ضخم

ولكن ها فيكم من يعيده؟

ورنت من نوافذ الزمن الخالي

إليكم عيونه وشهوده

فلقد أخذ الهضيبي مكانه بجدارة فى هذا التاريخ الضخم المشرف . وأن العيون للتطلع إلى هذه الدعوة الرائدة المباركة اليوم بعد نصف قرن من مولدها :

هل فيها من بعيد تاريخ قادتها؟

ذلك المأمول أن شاء الله ويعونه , فإنها دعوة معطاءة وهبت رجالها لفلسطين وللقنال ولمعركة الحرية فى مصر , وأيسر من ذلك أن تهب ثالثة رجلا للصمت الشامخ يفتح الله على يديه.


الهضيبي"قضي نحبه" وجاء دور " من ينتظر"

الأستاذ : عمر بهاء الأميري

نشرت جريدة الأهرام القاهرية فى زاوية صغيرة لا تلفت النظر من ركن الوفيات فى عددها الصادر يوم السبت 16 من شوال 1393 – 31746 خبرا صغيرا قد يكون جل الذين يطلعون على الجريدة و ولا سيما فى أنحاء العالم العربي لم يلتفتوا إليه وهذا هو الخبر بنصه :

.... فقيد الإسلام والعروبة ... ودعت أسرة الهضيبي بعرب الصوالحة أمس عميدها المرحوم المجاهد الكبير الأستاذ حسن الهضيبي واقتصر العزاء على تشييع الجنازة تحقيقا لرغبة الفقيد ..ز وإنا لله وإنا إليه راجعون..

وهكذا مر الخبر دون أن تتحدث عنه الإذاعات وتكتب عنه كبريات الصحف والمجلات العناوين الضخمة فى صفحاتها الأولي ولولا الصدفة لما أطلعنا على هذا الخبر الصغير فى ألفاظه الكبير جدا فى معناه العظيم فى موضوعه ومغزاه !!

حسن الهضيبي هو المرشد العام للإخوان المسلمين الذي خلف الإمام الشهيد حسن البناء مؤسس الجماعة وأول مرشد عام لها. وقد ولد فى مدينة عرب الصوالحة من منظمة الشرقية القريبة من القاهرة . من أسرة دين ووجاهة . ومحيط كرم وشهامة وقد بدأ دراسته فى بلدته . ثم انتقل إلى القاهرة وفيها درس الحقوق . ونال أجازتها بتفوق وعين قاضيا حيث لبث يرتقي فى مناصب القضاء معروفا بشدة النزاهة والتحري فى إحقاق الحق , محفوظا بالتقدير والإكبار من زملائه ورؤسائه حتى ارتقي إلى مرتبة مستشار ممتاز, وهو المنصب الذي كان يشغله – حيث انتخب وبويع مرشدا عاما للإخوان المسلمين واستمر يشغل يشغل هذا المقام حتي انتقل إلى الرفيق الأعلي رضي عنه وأرضاه.تاريخ دعوة الإخوان المسلمين كبري الجماعات الإسلامية خلال ربع القرن الأخير , تاريخ خطير كبير لا تستوعبه سطور ولا تفيه لو جزءا يسير من حقه معالجة سريعة بمناسبة هذا الفقد الأليم . ولابد للأقلام مع الأيام أن تنصف الحق وتسجل بتحر وصدق هذه الحقبة من تاريخ الدعوة الإسلامية وجهادها المقدس –وإننا لنرسلها بهذه المناسبة إهابة مخلصة ملحة إلى كبار أبناء هذه الدعوة البررة للمبادرة بالقيام بهذا الواجب وإصدار موسوعة دعوة الإخوان المسلمين يسهم فيها كل من أعضاء الجماعة بما عده من حقائق ووثائق.

والذي نريد أن نسجله اليوم – مع أصدق دعاتنا إلى الله أن يجزي الراحل الغالي أحسن الجزاء عن جهاده الصادق وأن يعوض الأمة الإسلامية عنه خيرا – اعتراف بالحق وشهادة لا نبتغي فيها إ لا وجه الله , وتسجيل المواقف البطولية والإيمان الصابر المثابر والحكمة العاقلة العاملة , وحسن التدبير , والرضي والشكر لله جل جلاله فى السراء والضراء والسلامة واللاواء , مما هو من أخلاق رجال الله الصالحين والصديقين الصامدين, وإن كل ذلك كان يتحلي به المرشد الفقيد الأستاذ حسن الهضيبي أكرم الله مثواه .

كان حسن الهضيبي رحمه الله مقدرا مرموقا , مستريحا لعمله فى القضاء , مستشارا فى أرق ناصب الدولة . وكان سعيدا بوثامه مع أسرته ونجابة أبنائه , والكفاية الكريمة فى رزقه, وقد كان صديقا حميما ومستشارا ناصحا حكميا للأستاذ الإمام الشهيد حسن البنا شخصيا دون أن تكون له سابقة علاقة أو انتساب لجماعة الإخوان المسلمين... وهي عنفوان نفوذها وتسابق كبار الناس على خطب ودها والاعتزاز بإعلان الإنتماء إليها بشكل أو بآخر . بيد أن الأستاذ الهضيبي لبث فى أجوائه الخاصة . مؤثرا أن يعمل لله من خلال أسرته ووظيفته فى بيئته وعزلته ولما وقع اختيار الإخوان المسلمين عليه .

وفاوضوه فى قبول مقام الإرشاد العام , اعتذر بعدم معرفته السابقة بتشكيلات الجماعة وبما يعتقده فى نفسه من عدم الجدارة وما هو فى طبيعته من العزوف عن المواقع العامة وبما يعتقده فى نفسه من عدم الجدارة وما هو فى طبيعته من العزوف عن المواقع العامة والجماهيرية التي هى بالضرورة من مستلزمات قيادة الجماعة الإسلامية.

ولما أصر عليه كبار الإخوان وطالبوه بأن يقبل الإطلاع بمهام هذا المقام لإلحاح الحاجة إليه ولأداء حق الله فيه مهما كلفه ذلك من تضحيات استجاب لداعي الله وترك ما كان فيه من حياة مطمئنة مستقرة لا عنت فيها ولا إرهاق وقال : إني أعلم أنني أقدم على قيادة دعوة استشهد قائدها الأول قتلا واغتيالا , وعذب أبناؤها وشردوا وأوذوا فى سبيل الله , وإني على ما أعتقده فى نفسي من عدم جدارة بان أخلف إماما مصلحا مثل حسن البنا رحمه الله لأقدم وأنزل عند رغبة الإخوان أداء لحق الله جل وعلا ولا ابتغي إلا وجهه ولا أستعين إلا بقدرته وقوته.

كانت قوي البغي والطغيان بمختلف أجنحتها من صهيونية واستعمار صليبي غربي , وماركسي شرقي قد أدركت أن دعوة الإخوان المسلمين هى الخطر الحقيقي الأكبر على بغيها وعدوانها لأنها امتداد من أصالة الإسلام على سنن الراشدين والمصلحين وإن فيها روحا من سلفية ابن تيمية وابن عبد الوهاب , فاجمعوا كيدهم على محاربتها والقضاء عليها هكذا بدأ المرشد العام حسن الهضيبي حياته الجديدة فى مكايده لا تهدأ والقضاء عليها وهكذا بدأ المرشد العام حسن الهضيبي حياته الجديدة فى مكايدة لا تهدأ ومعاناة لا تنقطع ثم بذلك بالأشغال الشاقة وأجبر على مارستها فعلا وهو يسمع ويري إعدام وتعذيب كبار أعوانه وإخوانه وابنائه وأحبائه وقد رغب إليه أن يتهاون فى حق الدعوة أو يهادن وهو فى ذرة المحنة فرفض بإباء وصبر فى مضاء ومرض بالذبحة الصدرية فاخرج للعلاج ثم اعيد للإحتجاز....

ومرت فترة المحنة الأولي فأطلق سراحه وعاد إلى العمل الجاد والجهاد الصادق وجرت معه مفاوضات ليتراضي ويلين , فما زاده ذلك إلا ثباتا فى الحق وإمعانا فى الجهاد يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة لم يهن ولم يستكن ولم يبدل تبديلا.

وكانت المحنة الثانية فجاءت أشد ضراوة وأكفر عداوة, وكان قد شاخ واضر به المرض ومشقة السعي فى طريق محفوفة بالمعارك والمواثر وحكم عليه من جديد بالسجن وبالأشغال الشاقة وأعدم وعذب ا‘وانه وإخوانه بين سمعه وبصره وهو هو كالطود الذي لا يتزعزع واشتد عليه المرض فطلب إليه إطلاق سراحه استثناء فأبي وطلب أن يعم الإنصاف سائر المعذبين والمعتقلين من أبناء الجماعة المؤمنة الصابرة .

ودار الدهر دورته وأخذ الله من قضي عدله أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر وأطلق الهضيبي وجماعته فوجا بعد فوج , وكان إعدام العلماء الأعلام والمجاهدين الصادقين أمثال عبد القادر عودة , ومحمد فرغلي وسيد قطب وما لقيه الإخوان من اضطهاد وتعذيب وما كان منهم من صبر واحتساب وصمود أكبر عامل على نشر الدعوة وتعلق الشعب المصري بإهداب الإسلام , وإقباله على الله ومطالبته لحكامه أن ينطلقوا به من قواعد دينه وإيمانه وساعد على ذلك ما وجده الناس فى الإخوان وقادتهم من أسوة حسنة وما وقع فى الأمة الإسلامية وبمصر من نكبات فى ظل الحكم الذي حجز الإسلام عن المعركة حيث كانت النكبات لا فقط فى فلسطين بل فى كل دنيا العروبة والإسلام يوم استبعد الله من الميدان ولم يمكن جنوده المؤمنون من خوض الحرب.

وفى عام 1392هـ كتب الله لحسن الهضيبي أن يعد بالحج والتقي بمحبيه ومكبريه فى رحاب المشاعر المقدسة وقد أنهكته الشيخوخة وترك العذاب والمرض فى جسمه أقوي .

الآثار وأصبح مجرد فكر وقاد , وروح مشرق ومثل حي لمجاهد المؤمن الأبي .. وكان يحمل إلى مجالس محبيه ومريديه منه بالتحية المباركة والكلمة الطيبة والدعاء الصالح .. وعاد إلى مصر من حجة المبرور يربض فى عرينه كالأسد الهصور لم تفارقه البسمة ولا خبت إشراقات روحه وفكره ساعة .. وكانت معرة رمضان المبارك .. وأكرمه الله أن يسعها تخاض بجند الله وفى سبيل الله ونشيدها وترديدها : العزة لله والله أكبر ولله الحمد . وفى يوم الجمعة وبدر شوال فى كبد السماء يصل بنوره بين رءوس الشهداء ومنازل الأنبياء فاض الروح الطهور , وانطلق حسن الهضيبي إلى الرفيق الأعلي يهلل له ويتلقاه فى أعلي شهداء المسلمين فى الفردوس العلي فى مقعد صدق عند مليك مقتدر ..

وفى الأرض يأبي حسن الهضيبي أن يقام بمناسبة وفاته أى عزاء إلا تشييع الجنازة وفق السنة الشرعية ويجري العمل بوصيته ونحن على يقين أنه لو فسح المجال وخلي بين أبناء هذا الجيل من المؤمنين الصادقين وما يريدون لما تخلف منهم واحد عن أن يشيع هذا الجثمان الغالي , ولكن هكذا كانت رغبة الفقيد وهكذا تم الأمر ووصل إلينا النبأ صدفة عن طريق إعلان صغير فى ركن الوفيات من جريدة الأهرام ..

إنها أخلاق الأئمة الشهداء والصديقين الصالحين ففي كنف الله ورحمته ورضوانه أيها الأخ الكبير الحبيب والمجاهد الجليل العظيم , وفي حمي الله وتسديده وتأييده دعوة الإسلام .. وعزاء يا رجال الدعوة ومضاء مضاء ... نرفع بالتي هى أحسن وندعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة . لا يلتوي بنا درب يا إخواني أبناء الفقيد وأسرته ,وإننا جميعا لأبنائه وأسرته , ووداعا أبا إسماعيل إلى أن نلتقي على وعد الله وعهده...

وإنا لله وإنا إليه راجعون......


قادة الحركة الإسلامية فى باكستان ينعون رائد الحركة الإسلامية فى الشرق الأوسط

إعداد : دار العروبة الإسلامية – لاهور – باكستان

فى غاية من الحزن فوجئنا بنبأ وفاة الأستاذ حسن الهضيبي بواسطة جريدة " المجتمع الكويتية. واستغربنا وصول هذا النبأ بعد وفاة الأستاذ الجليل بأسبوع تقريبا.

يالصحافة العربية !! لا تدع أى نكرة يموت فى ركن مهمل من أركان الأرض إلا ونشرت خبر موته فى أعمدة مثيرة وصفحات بارزة.

ولكنها لم تعر عنايتها – ومن يرد الله به خيرا يسلبه التوفيق – ولم تهتم بوفاة رجل ينطبق عليه تعبير سيدنا المسيح عليه السلام ( ملح الأرض ) أو تعبير شاعر عربي – بنيان قوم – أو المثل السائر عندنا :" موت العالم موت العالم ".

نعم أن الموقف الذى وقفته الصحافة العربية من هذا الحادث موقف لا يستثني منه حتي الصحف التي كنا نظن فيها خيرا والتي تدعي – بتمثيل الإسلام – اللهم إلا صحيفة ( المجتمع) الكويتية و( الشهاب) البيروتية . فتقدم إليهما - ومشاعر الامتنان إليهما – بأصدق عبارات التقدير والإستحسان والحب والولاء لما رأينا فيهما من همة عالية وروح سامية فى الجهر بالحق والجهاد فى سبيل الله بدون أن تخافا لومة لائم أو قسوة باطل أو لطمة تيار من التيارات المعادية حتي فى أحلك الأيام وأمرها وسوف يحنو عليهما مؤرخ المستقبل إكبارا لهذه الجرأة وتقديرا لهذا الدور . ويصدق عليهما قول الشاعر الهندي غالب : لم يبرز الحلبة سوي قبس . فهل كانت البادية عقيمة ضيقة أو ضيق عين الحسود إلى هذا المدي .

لقد هزت هذه الفاجعة الإسلامية الكبيرة المسلمين فى باكستان عامة ورجال الحركة الإسلامية خاصة حزنت لها القلوب ورقرقت لها العيون : عيون الشباب والشيوخ والفتيات والسيدات فهل يعبر قولنا : بأ، الأستاذ الهضيبي قمة شاهقة من قمم العقيدة والسلوك ومثال رائع من الخلق والجهاد , عن عظمة دور الهضيبي فى الحياة كلا!! إن هذه العبارة لا تغطي ما يستجيش فى القلوب من عواطف ومشاعر ولا تصور ما وصل إليه الأستاذ الهضيبي من الإستعلاء فى الإيمان والسمو فى العقيدة والسلوك. ودعنا نترك هذا الأمر لمؤرخ المستقبل لكي يكشف لمعاصريه عمل الهضيبي وجهاده وصموده وليس لنا إلا أن نقول ما قاله الشاعر الفارسي الحافظ الشيرازي ومعناه بالعربية :

" لن يموت من حي قلبه بحرارة الشوق شوق الحقيقة مع الهدف والغاية " لأنه نقش على صفحة التاريخ خلود هذا الطراز من الرجال كنقش العبارة على الحجر .

وعقدت الجماعة الإسلامية فى مركزها العام بلا هور حفلة تكريم الأستاذ الهضيبي القي فيها رجال الجماعة كلمات ملؤها الحزن والأسي وأحاديث تناولت جهاد الإخوان المسلمين ومواقف الهضيبي وخطبا تضمنت تقدير هذا الرجل العظيم وصموده وإباءة أمام الطواغيت . فما كان لعين إلا لتعزز دموعا. وما كان لقلب إلا أن يفتت حزنا وبدأت الحفلة بتلاوة آيات من الذكر الحكيم تلاها المقرئ الشيخ معين الدين " من داكه – باكستان الشرقية" من آية ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا...) إلى آخر أية ( فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين) . ثم قام الشيخ كلزار أحمد الأمين العام لجمعية اتحاد العلماء وأعرب عن مشاعره الجياشة نحو هذا المصاب الجلل قائلا:

إن الأستاذ المرحوم كان منارا للهداية اهتدي به الملايين من الشباب المسلم لا فى الشرق الأوسط بل فى العالم كله من خلال مواقفه البطولية الرائعة ومن خلال صموده الذى جدد تاريخ الأبطال من الأسلاف الصالحين إنه المسلم الذى أعاد إلى الإسلام كرامته ومجده بمواجهة المحن القاسية والمتعب المتلاحقة كصبر بلال وبإستقامة كاستقامة أحمد بن حنبل و برحبة صدر ابن تيمية . وقد سار المرحوم فى حياته مسلكا جعل من موته حياة خالدة تكون للأجيال أسوة يحتذي بها ومثلا ينبع .

إنه المسلم الذي جعل مصباح الحق الذى كان الشهيد حسن البنا وزملاءه الأجلاء كعودة وفرغلي وطلعت أشعلوه بدمائهم ومهجهم جعل ذلك المصباح يواصل إضائته وبث نوره باستقباله أنواع المحن وألوان المتاعب وبثغرة باسمة ووجه طلق .

واستطرد الشيخ كلزار قائلا : لا يربطنا بالمرحوم وأواصر الجنس أو اللسان أو التراب أو المصلحة المادية بل الرباط الذى يربطنا به هو رباط الإيمان وآصرة الروح التي لا تعرف الانفصام والتي تهون فى سيبلها كل الروابط المادية . ومن روائع هذه الروابط أننا ايوم نشعر فى قلوبنا بموت المرحوم نفس ما يشعر به أخوننا فى مصر والبلاد العربية الأخري من حزن وآسي..

وقال : إن المرحوم برهن برفضه متاع الحياة الدنيا من منصب وسلطان ومن ذهب وفضة , وبتقلده مسئولية لا تجلب إلا المحنة والبلاء , مسئولية قيادة الحركة الإسلامية تجاه الحركات الهدامة وتجاه الطواغيت برهن بذلك أن المؤمن الحقيقي الذى عبأ الله قلبه بنور من جلاله وحبه لا يكترث بشئ فى الدنيا غير مرضاة الله . وكل همه أن يري رأيه الإسلام فوق سائر الرايات وقارن الشيخ كلزار احمد بين ما تم على أيدي حركة الإخوان المسلمين من بعث إسلامي رائع فى البلاد العربية وما تحقق من جهاد إسلامي ملئ بالبطولات والروائع فى معارك فلسطين وقناة السويس , وما تحمل زعماء الحركة فى سبيل الدعوة والجهاد من آلم ومتاعب بدأ من الشهيد البنا إلى حسن الهضيبي والشهيد سيد قطب قارن بين ذلك وبين ما قام به الأستاذ أبو على المودوي مؤسس الحركة الإسلامية فى القارة الهندية الباكسانية من حركة قوية لإحياء الإسلام وتطبيق نظامه وما لقي من المتاعب والمحن فى هذا السبيل .

ثم خلص إلى أن الدعوة التي دعا إليها الإخوان المسلمين هى نفس الدعوة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم كما ان دعوة الإخوان هى نفس الدعوة التي تجاهد لأجلها الجماعة الإسلامية .

ولذلك أن كل ما يصيب إخواننا المسلمين فى البلاد العربية من ألم وأوذي من الطبيعي أن نشعر نحن كذلك بمرارته وأثره .. وفى الختام دعا الشيخ كلزار للمرحوم بمغفرة من الله ورضوانه ودعا لذويه ولأتباعه بالصبر والسلوان ز

وتبعه الأستاذ ظفر احمد الأنصاري عضو البرلمان المركزي وأشار فى كلنته القصيرة إلى لقاءاته مع المرحوم الهضيبي إلى ما قبل عشرين سنة وكيف أن المرحوم بذل جهدا جبارا فى القضاء على الفتنة التي حاول بها الخصوم تمزيق صف الجماعة .

ثم ألقي الأستاذ خليل أحمد الحامدي مدير دار العروبة للدعوة الإسلاميى مقالا مفصلا تناول فيه ترجمة حياة المرحوم وقسمها إلى ثلاثة أقسام:

الهضيبي كقاض مسلم لا يؤمن إلا بشريعة الله.

والهضيبي كأسير صابر ضرب مثلا رائعا من الصبر والمصابرة والتمسك بالمبدأ تحت وقع الشياط وعلى كل هذا المقال كان حاولة ناجحة لعرض جهاد الهضيبي المرير فى سبيل أعلاء كلمة الحق وإعادة كرامة الإسلام.

ثم قام الأستاذ طفيل محمد أمير الجماعة الإسلامية فى باكستان وأشاد بدعوة الإخوان المسلمين وجهادهم لتحرير فلسطين وتحقيق الجلاء وكفاحهم لأجل إحياء الإسلام وتطهير المجتمع من شوائب الجاهلية والنفاق ومحاولاتهم فى إنقاذ الشباب العربي من الخليج إلى المحيط من جاهلية القرن العشرين وقال :

ما قامت به جماعة الإخوان المسلمين تحت قيادة مؤسسها الإمام البنا وتحت قيادة الشيخ حسن الهضيبي وزملائهما الأكارم هو حلقة متصلة من الحركات الإصلاحية التي نشأت فى مختلف عصور التاريخ الإسلامي متمثلة فى جهود الأئمة والفقهاء والمصلحين والمجددين والمجاهدين فى أقصي العالم الإسلامي إلى أقصاه وأشاد الأستاذ طفيل محمد بدور الشيخ الهضيبي بصفة خاصة فى هذا المضمار وشبهه فى الوقار والاتزان بالإمام أبى حنيفة وفى حماسه الملتهب والغيرة على الإسلام الإمام ابن تيمية وفى قيادته الحكيمة بالقائد الإسلامي المعروف صلاح الدين الأيوبي , وفى تحمله المشاق والآلام بالإمام الممتحن أحمد بن حنبل .

وأضاف قائلا: إن الأستاذ الهضيبي عرض بموافقة الحاسمة على الحركات الإسلامية المعاصرة نموذجا أعلى للتضحية والفداء والثبات على العقيدة ونزاهة السلوك وسمو الأخلاق ورحبة الصدر والجهر بالحق دون الاكتراث بالنتائج ومواصلة الدعوة إلى الله حتي فى زنزانات السجون وظلمات المعتقلات . وقال : أن هذا الدور العظيم يؤديه فى سبيل الإسلام وأمة محمد صلى الله عليه وسلم يجب أن يدرسه كل من ينسب نفسه إلى الدعوة الإسلامية ويدعي العمل لأجلها ليفهم جيدا أن الطريق الذى يريد أن يسلكه ليس طريقا مفروشا بالورود والأزهار ومتع الحياة الدنيا بل هو طريق محفوف بالأشواك والمكاره وليفهم جيدا معالم هذا الطريق ومسئوليات هذا الطريق كما قال الشاعر الهندي غالب :

" الذى يحرص على الحياة ويحب النفس لا يدخلن حي الحبيب أبدا.

وفى ختام الكلمة ناشد الأستاذ طفيل محمد رجال القانون والقضاء بصفة خاصة إلى دراسة الشيخ الهضيبي ليعرفوا كيف أن الرجل كان يعيش عيشا رغيدا ويكسب دخلا كبيرا ويتقلب فى فرش الحرير والسنجاب ضحي بكل ذلك فى سبيل الدعوة التي أقتنع بها ولأجل إقامة دولة العدل والقانون حيث تخلي عن حياة النعمة والرغادة والدعة والرفاهية إلى حياة الجد والكد والتقشف والمحنة باطنها فيه الرحمة – وظاهرها من قبله العذاب – فهل من دارسي القانون وطلاب الحقوق وأصحاب القضاء عندنا من يتخذ طريق الهضيبي سبيلا ويرضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ثم لا يبالي فى أى شق الله يكون مصرعه ؟! وختم الأستاذ طفيل كلمته الملتهبة بدعاء من الله سبحانه وتعالي أن يتقبل الهضيبي وجهاد زملائه ويعلي درجات فى جنات الفردوس الأعلي ويجعله كلمة باقية فى عقبه لعلهم يرجعون .

وأخيرا داء دور سماحة الأستاذ الكبير مؤسس الحركة الإسلامية فى القارة الهندية الباكستانية المجاهد الجليل أبو الأعلي المودودي وبدأ كلمته وهو جالس على الكرسي من مرض لا يسمح له القيام قائلا:

الحمد لله العلي العظيم والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين , وبعد أخواني الأعزاء..

من المصادفات التاريخية الرائعة أن الأيام التي بدأ فيها الأستاذ الشهيد حسن البنا رحمه الله بحركة البعث الإسلامي فى مصر هى نفس الأيام و على وجه التقريب فى القارة الهندية الباكستانية وليس هناك فرق بين عمر الحركتين إلا يسير جدا يكاد لا يتجاوز سنتين أم العصر الذى واجهته الحركتان فهو متجانس تماما . ثم بقينا لا نعرف عن الإخوان شيئا ولا يعرفون عنا شيئا لسنوات عديدة رغم وحدة الهدف ووحدة الطريق وبعد أن مضي على هذا الوضع مدة من الزمن قرع أسماعنا صوت بليغ يأخذ بمجامع القلب وينفذ إلى سويدائه فالتفتنا إليه فإذا هو صوت الإمام الشهيد حسن البنا ببيانه القوي وأسلوبه المشرق وحلاوته الربانية وإذا مصدره القاهرة التي كانت ترزح حينذاك تحت نير الحكم الملكي المستبد والإستعمار الانجليزي الغاشم وأدركنا أن هذا الرجل الملهم أنشاء حركة باسم" الإخوان المسلمون"التي تعمل لنفس الغايات والمبادئ التي تعمل لها الجماعة الإسلامية فى القارة الهندية الباكستانية كما أن الإخوان كذلك أدركوا بعد فترة من الزمن دعوة الجماعة الإسلامية وأهدافها وآمالها . ثم تلاقت الدعوتان وتعارفت الأرواح وتجانست القلوب وتوثقت عري الألفة والتعاون وتوحدت الآمال ولا شئ يفصل بينهما إلى اليوم من ناحية الغاية والهدف ومن حكمة الله البالغة وقدرة المقدور أن نال مؤسسي حركة الإخوان المسلمين ومرشدها الأول حسن البنا الشهادة فى سبيل الله . ثم جاء مرشدها الثاني وقام بواجبه أحسن القيام وها قد لقي ربه أخيرا أما الذي أنشأ الحركة الإسلامية فى القارة وقام بواجبه أحسن القيام وها قد لقي ربه أخيرا ز أم الذي أنشأ الحركة الإسلامية فى القارة بواجبه أحسن القيام وها قد لقي ربه أخيرا . أما الذي أنشأ الحركة الإسلامية فى القارة الهندية الباكستانية فهو باق على قيد الحياة ليتحمل آلام فقدان زميليه الجليلين أسكنهما الله فسيح جناته ونحن الآن فى صدد رثاء الشيخ الهضيبي . والعين تدمع والقلب يحزن وإنا بك أيها الشيخ الهضيبي لمحزونون .

وللأسف البالغ أن الذين يقدرون حركة الإخوان المسلمين وخدماتها حق التقديرهم قليلون جدا فى بلادنا لأن الدعاية التي قامت بها القوي المعادية للإسلام ضللت الكثير من الناس ولكن أولئك الذين عرفوا بهم جيدا هم يعلمون علم اليقين أن العمل الإسلامي الذى تم فى الفترة الأخيرة فى البلاد العربية بصفة خاصة وفى الدول الأخري بصفة عامة والجهود التي بذلت فيها بعث الوعي الديني والخلقي , ولتبصير المسلمين عامتهم وخاصتهم بالإسلام الصحيح كل هذه كانت ثمرة جهاد الحركة الإسلامية التي أنشأها الأستاذ الشهيد حسن البنا ونماها الأستاذ حسن الهضيبي وعبد القادر عودة وسيد قطب رضي الله عنهم .

أيها الأخوة الكرام لو قدر لأحدكم أن يتجول فى العالم العربي لرأي بأم عينيه من الخليج إلى المحيط أن أى رجل يتحمس للإسلام و يعض عليه بنواجذه ويتمتع بالفهم الإسلامي العميق والغيرة على دين الله والسلوك الإسلامي الحميد فهو من الإخوان المسلمين ينتمي إليهم أو يتأثر بدعوتهم أو على الأقل له صلة بهم حتى فى أمريكا وأوربا كل أولئك الذين تراهم مشبعين بروح الإسلام من الشباب العرب معظمهم من أتباع هذه الحركة إلى أن صارت " الإخوانية" – إن صح هذا التعبير – رمزا للإسلامية فأيما رجل التقت فيه الثقافة الحديثة بالتدين اعتبره الناس بدون بذل الكثير من الذكر أنه أخ من الإخوان ملتزما أو منتسبا أو متأثرا أو مستفيدا . ولهذا عندما أصيبت بعض البلدان العربية بداء اللادينية والقومية والأنظمة الأخري المعادية للإسلام أصبح الأمر فيها أن كل شاب رزي يتجه إلى الجامع , ويصلي بانتظام لاحقته المباحث وطاردته ولقد كان من فضل الله تعالى على البلدان العربية كبيرا إذ بدأت حركة الإخوان فى هذه المرحلة من التاريخ التي أخذت فيها البلدان العربية نصاب بأدواء العلمانية والقومية والإنحلال الخلقي ولا ندري ماذا سيكون أمر هذه البلدان بعد كل ذلك لو لم يقدر الله لحركة الإخوان أن تبرز إلى الوجود وتمسك بالموقف وتقف فى وجه التيارات المدمرة لكل قيمة فكرية أو خلقية .

وفى هذه المناسبة من الجدير بالإشارة إلى أنه من قبل 25 أو 30 سنة عندما كانت حركة باكستان فى قمة النشاط فإن جميع أولئك الذين كانوا متعرين من الشعور الإسلامي أو المتحمسين للقومية والعلمانية فى البلاد العربية كانوا من مؤيدي " المؤتمر الوطني الهندي" وزعيمه " المهاتما غاندي" الذى كان يحارب فكرة قيام باكستان ففي هذه الدوامة العاتية من الأفكار الزائفة والدعوات المنحرفة كان الإخوان المسلمون هم الوحيدون فى تأييد فكرة باكستان والدعوة إليها . بل هم لا يزالون يناصرون باكستان فى الملمات ويدافعون عنها فى كافة المجالات . لا نزال نذكر كلمة الدكتور مصطفي السباعي رحمه الله فى إحدي المؤتمرات الإسلامية : باكستان لا تحتاج إلى تعيين سفرائها فى البلاد العربية فإننا معشر الإخوان نعتبر أنفسنا سفراء لباكستان : الدولة التي قامت على الإسلام . ومع هذا فقد كان غريبا أنه عندما تتابعت على الإخوان حلقات متصلة من الاضطهاد والتنكيل لم نر هنا إلا قلة من الناس تعاطفت معهم وتألمت بالآمهم وأغلب الناس قد تظللوا بدعاية الأعداء من افتراءات ملفقة واتهامات كاذبة ألصقت بهم وعندما صبت على الإخوان تلك الضربات القاسية الضربات التي اقشعرت منها الجلود وتندي لها جبين الإنسانية حيث ذهب ضحيتها خيرة قادتها وخيرة شبابهم لم يفقد هذا البلد – باكستان من حبذ هذه الإجراءات وبار القائمين بها .

وندعو الله تعالي بإخلاص وصدق أن يغمر الله تعالي الشيخ حسن الهضيبي بفضله وحنانه ويعلي درجاته فى جناته ويجزل مثوبته لما قام به من تضحيات وخدمات وينتقم بمحض عدله من الذين اضطهدوا واضطهدوا زملاءه طيلة عشرين سنة ويكتب للإخوان أجرا حسنا لما صبروا واستقاموا وتحملوا من المصاعب مالا يتصوره الإنسان وخدموا الحركة الإسلامية فى غياهب السجن والمعتقلات .

وندعو الله تعالي أن يعلم درجات المجاهدين من الإخوان الذين قاتلوا اليهود فى حرب فلسطين فاستبسلوا وقاموا ببطولات رائعة حتي الجيوش المصرية وجيوش الدول العربية كما خافوا هؤلاء المجاهدين الأبطال فالذين نالوا الشهادة فى هذه الحركة نسأل الله أن يتقبل شهادتهم . والذين جاهدوا وحققوا ما عاهدوا عليه أعطاهم خير ما يجزي به عباده المجاهدين .

نسألك اللهم أن ترفع درجات الإمام حسن البنا فى الملأ الأعلي وأن تجعله من المقربين لك. لأنه هذا هو المجاهد الذى أنشأ حركة الإخوان الإسلامية وغير مجري حياة ألوف مؤلفة من الناس ونفخ فى روعهم حب الجهاد والاستمانة فى سبيلك وأنشأ منها جيلا مؤمنا صامدا صابرا لم يستطيع العدو أن يميل به عن جادة الحقة أو يمحو آثار الحركة الإسلامية رغم ما صب عليها من الظلم والعدوان والعذاب .

اللهم ربنا تقبل بفضلك وكرمك خدمات الذين شنقوا فى سبيلك كالأستاذ عبد القادر عودة والشيخ محمد فرغلي والأستاذ يوسف طلعت وزملائهم وسيد قطب وزملائه عبد الفتاح إسماعيل ومحمد هواش واكتب لهم ما كتب للشهداء الأبرار من أجر وعطاء وأجعلهم من الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .. وحسن أولئك رفيقا .

وأخيرا أتقدم إلى جميع الإخوان فى العالم وأقارب الأستاذ الهضيبي وأسرته الكريمة بأحر التعازي داعيا المولي الكريم أن يلهمهم الصبر . والله مع الصابرين.....

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..


الهضيبي .. فقيد الدعوة الإسلامية

الأستاذ محمد الصباغ

فجع المسلمون عامة والدعاة منهم خاصة بالقائد الإسلامي الفذ الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين و رحمه الله رحمة واسعة .

إن الحسرة تملأ قلوبنا ونحن نودع قائدنا وقد فقدنا قبله بأيام معدودة المفكر الإسلامي مالك بن نبي وسبقهما إلى لقاء الله عدد من الدعاة المعاصرين الأفذاذ أمثال الشهيد حسن البنا والشهيد عبد القادر عودة والأستاذ مصطفي السباعي والشهيد سيد قطب وغيرهم رحمهم الله تعالي وجزاهم عن الإسلام خير الجزاء .

وفقد الأستاذ المرشد رزء يجل عن الوصف ولكنه لا يمكن أن يزلزل ثقتنا بنصر الله ولا يمكن أن يصرف جنود الفقيد الكبير عن متابعة خطواته الهادفة الحقة .

إن من الوفاء لهؤلاء الدعاة الإعلام أن يصمم جنود هذه الدعوة على المضي فى الطريق دون وهن ولا تردد و لأن الدعوة لم تكن فى يوم من الأيام متوقفة على استمرار حياة رجالها , وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول أثر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيها الناس من كان يعبد محمد فإن محمد قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ".

ولا يزال أهل الحق ظاهرين حتي تقوم الساعة , وما خلت الساحة يوما من بطل يتناول الراية من بطل تقدمه , ولم ترهب الدعاة إلى الله المخاوف ولا قعدت بهم العقبات والنكبات بل كانوا يتقدمون الصفوف على الرغم من ذلك كله مجاهدين صابرين حتي ينالوا احدي الحسنين : إما النصر وإما الشهادة .

توفي الأستاذ الهضيبي بعد أن قضي أكثر من ثمانين عاما داعية موفقا ومجاهدا صابرا .. وستكون أحداث حياته موضع اهتمام ودراسة لعدد من تلامذته المقربين والباحثين المنقبين وسيتاح لنا فى المستقبل أن نقف على كثير من صفحات حياته المباركة المطوية لنستخلص منها دروسا نافعة , ومن أجل ذلك فلن أتحدث فى هذه الكلمات عن شئ من ذلك وإنما سأحصر كلامي عنه بصفته رجل العقيدة الصامد المجاهد .

ولد الأستاذ الهضيبي فى مطلع القرن الهجري , وعاش حقبة انبهار الناس بالحضارة الأوربية وقد سقط فى هذه الحقبة عدد من المثقفين , وارتاب آخرون ورأي الأستاذ الراحل عوامل فتنة المسلمين عن دينهم قائمة وأسباب الزيغ نشيطة فانتظم فى جماعة الإخوان المسلمين التي تدعو الناس غلى استئناف الحياة الإسلامية من جديد حتي تقوم دولة الله فى الأرض ويحتكم الناس فى حياتهم إلى شريعة الإسلام وينقذوا أنفسهم من عذاب الله الشديد .. وكان جنديا مثاليا فى هذه الدعوة الرائدة .

ومرت دعوة الإخوان بأزمات متلاحقة كان من أقساها اغتيال القائد البطل الإمام حسن البنا وبلغت الأزمة عنفوانها عندما واجهت الدعوة اختيار الخلف والبديل ومن الله على هذه الدعوة وأخرجها من هذه الأزمة ظافرة بالأستاذ الهضيبي مرشدا عاما , وتسلم قيادة الجماعة فى ظرف حرج عصيب , وأوضاع صعبة فاستطاع تغمده الله برحمته و وأن يتابع السير بكل حزم وقوة وان يقود الحركة الإسلامية العظيمة إلى التقدير والتميز والانطلاق ... لقد حكم مقاييس الدعوة وصدر عنها , استبعد المصلحة الذاتية والمكاسب المؤقتة وترك المجاملة والمدارة على حساب الدعوة لا يفرق فى ذلك جورا على المباديء الإسلامية والقيم الخلقية المثلي , ومن هنا كان ثباته على المبدأ ولو كان فى ذلك السجن والتعرض للموت وإباؤه المسايرة ولو كان فى المسايرة المنصب والوزارة وهو بذلك يسلك طريق الدعاة الصادقين الذين دخلوا بسلوكهم هذا باب الخلود لأن كثيرا من اصحاب الألقاب وذوي السلطان يموت ذكرهم يوم يموتون .. أما أمثال الهضيبي من الذين يؤثرون الآخرة على الأولي ويحكمون منطق الدعوة فى حياتهم فسيبقون أحياء فى أذهان الأجيال القادمة من أبناء الدعوة وستبقي سيرتهم مجال تدبر واعتبار .

كان رحمه الله يمتاز بعمق الفكرة وسداد النظرة فلقد زار دمشق عام 1954 ووقف فى قاعة المحاضرات فى جامع دنكز كان يغص بالألوف من المسلمين وقف ليقرر أعمق رأي فى قضية فلسطين قال يوم ذاك ما فحواه :

إننا كثيرا ما نسير وفق المخطط الذي يرسمه لنا أعداؤنا , أنهم يوجدون لنا مشكلة تلح علينا حتي تنسينا المشكلة الكبري ويطرحون شعارا براقا فننادي به وننسي الشعار الأهم .. وكذلك كان الشأن بالنسبة إلى قضية فلسطين , إذ كنا ننادي سنة 1948 بطرد اليهود المحتلين من بلادنا واستعادة أراضينا ولكنهم شغلونا بقضية اللاجئين حتي صرنا ننادي بإعطاء اللاجئين حقوقهم وإعادتهم إلى أراضيهم ونسينا القضية الكبري قضية تحرير فلسطين – وقال : المسلم ينبغي أن يكون واعيا لذلك أتم الوعي ..ويذكرني هذا الموقف بالزيارة الضخمة التي قام بها الأستاذ الهضيبي لبلاد الشام فلقد استقبل استقبال الملوك , ولا أعلم أن سوريا استقبلت شخصية ليست لها صفة رسمية من بلد عربي أو أجنبي كما استقبلت الأستاذ المرشد . فقد خفت مئات المستقبلين إلى استقباله على الحدود , ودخل دمشق تحف به الدراجات النارية وتتبعه مئات السيارات. وكان موضع الحفاوة والترحيب فى كل مكان زاره فى بلاد الشام .

أما شجاعته النادرة فأستطيع أن أضرب لها المثل الآتي الذى شهدته بنفسي خلال زيارته هذه : عندما كان فى دمشق موضع التكريم البالغ أعلن حكام مصر المعاهدة مع انكلتر , وبعد أن درسها رآها قيدا يغل الشعب وذلا يلحق بالبلاد فأعلن موقفه الجرئ منها , وقرر أن توقيعها خياني لله والدين والبلاد وطالب بإلغائها فورا , لأن المعاهدة السابقة ستنتهي بعد اقل من سنتين وتوتو الجو بين الإخوان والحكومة ولكن ذلك لم يجعله يغير من عزمه على العودة إلى مصر , ولم يؤثر السلامة والبقاء حيث الأمن والتكريم , بل فضل طريق الدعوة من النصح للأمة ولأصحاب السلطة فيها والصبر على ما يصيبه من أذي فى الله . وقد حاول عدد من إخوته أن يثنوه عن عزمه فما استطاعوا لأنه رأي أن القائد ينبغي أن يكون قريبا من موقع المعركة حتي يتسني له أن يقودها على الوجه الأفضل , وعاد إلى مصر ليلقي السجن والتعذيب , وكان صابرا على ما لقيه فى سبيل الأفضل , وعاد إلى مصر ليلقي السجن والتعذيب , وكان صابرا على ما لقيه فى سبيل دعوته فلقد قضي العشرين سنة الأخيرة من حياته فى السجن , والإقامة الجبرية والاضطهاد , تحمل ذلك على شيخوخة متقدمة , ومرض عضال , لم يهادن , ولم يسقط فى الطريق كما سقط كثير من الضعفاء .

لقد قطع صلته بدنيا الناس , ووصل قلبه بالله تعالي , ولم يعد يبالي بما يلاقي ما دام مسعاه فى مرضاة الله عزوجل , وعلم أن الحياة الدنيا ابتلاء المؤمنين ومن أهم مظاهر هذا الابتلاء الترغيب والترهيب , وذلك بأن تعمد السلطة إلى الترغيب بالمغانم المادية والترهيب بالإهانة والتعذيب فمن استعلي فوق المغنم والمغرم لم تستبعده مصلحة ولم ترهبه قوة ولقد كان الأستاذ المرشد قليل النظير فى ذلك .

أما قيادته للحركة فقد كانت شيئا عظيما يدل على موهبة نادرة ذلك لأن قيادة النفوس البشرية تقتضي أن يكون لدي من يتولاها نصيب كبير من الذكاء والإخلاص والصبر وبعد النظر , والكرم والحلم والعفو والحزم , والورع والتقوي , والرحمة والجرأة وتتزايد صعوبة القيادة عندما تمر الحركة فى أزمة اضطهاد من السلطة وتضطر أن تكون سرية .. فى هذه الحالة تتضاءل الزواجر والروادع وتصبح الطاقة المعنوية والعاطفية للقائد هي عدته الوحيدة , وكلما طغت تيارات المنفعة والإرهاب كان الوضع أصعب .

وكل من عرف تاريخ ممارسة الأستاذ الهضيبي لقيادة أعظم حركة إسلامية ظهرت فى العصر الحديث عرف الوضع الحرج الذى تغلب عليه , والروح المعنوية الكبيرة التي كان يتمتع بها والمواهب الضخمة التي حباه الله بها .

وكان رحمه الله يريد أن يأخذ إخوانه أنفسهم بالجد فى التزام الإسلام فى حياتهم الشخصية حتي يكون سلوكهم دعوة حية وشاهدا ناطقا بعظمة فكرتهم وصلاحيتها للحياة فقد سمعت إنه كان يقول : أقيموا دولة الإسلام فى نفوسكم تقم فى أرضكم.

إننا إذ نودع أستاذنا وقائد دعوتنا لنعاهد الله على السير فى طريق الإسلام المتميز الواضح , وإن نتابع الخطي إلى آخر رمق حتي إذا وافانا الأجل المحتوم حملنا أبناءنا هذه الأمانة وجعلناها فى أعناقهم ليسلموها إلى الأجيال التي تليهم .. حتي يأتي ذاك اليوم الأغر الميمون يوم يعود للإسلام مجده وتعلو رايته خفاقة فى أرجاء هذه المعمورة .

غفر الله لفقيدنا العظيم وبلغه فى دار كرامته ما أعده للصديقين والشهداء وعوض المسلمين خيرا منه ... وإنا لله وإنا إليه راجعون .


نحن على العهد .. يا قائد الشهداء

بقلم : الأستاذ نبيه عبد ربه

الإسلام دين حياة , ولا حياة مطمئنة بدون نظام , ولهذا حرص الشارع الحكيم على تنظيم كل شئ فى حياة الفرد والجماعة و فنهي الفرد عن العزلة , دفعه للعيش والتعاون مع الجماعة و وأوصاه بعدم الخروج عليها ما دامت على الحق , ولكي لا تتضارب مصالح الأفراد أو تتصارع كان لابد أن يوجد نظام شؤون حياة الأفراد والجماعات , ويحدد لكل فرد ما له وما عليه و وأن يوجد قائد لكل جماعة يسهر علي تطبيق هذا النظام ويقف عند حدوده .

والقيادة ركن من أركان كل جماعة مهما صغر حجمها , ولهذا قال عليه الصلاة والسلام إذا كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم " والقائد جزء من الدعوة , ولا دعوة بغير قيادة وعلى قدر الثقة المتبادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة وأحكام خططها ونجاحها فى الوصول إلى غايتها , وتغلبها على ما يعترضها من عقبات وصعاب " فأولي لهم طاعة وقول معروف " وللقيادة فى دعوة الإخوان حق الوالد بالرابطة القلبية والأستاذ بالإفادة العلمية والشيخ بالتربية الروحية والقائد يحكم السياسة العامة للدعوة ودعوتنا تجمع هذه المعاني جميعا , والثقة بالقيادة هى كل شئ فى نجاح الدعوات ".

لقد تولي الإمام الشهيد " حسن البنا" قيادة الحركة الإسلامية منذ 1928 وبقي يحمل لواءها ويسير بها من حسن إلى أحسن حتي أصبحت من القوة بمكان جعل أعوان الإستعمار والصهونية يجتمعون على حربها لأنها أصبحت عقبة كأداء فى وجه مخططاتهم الاستعمارية فى العالم الإسلامي , فدبروا اغتيال الإمام الشهيد على يد الطاغية فاروق عام 1949 وزجوا بجنودها العائدين من فلسطين فى غياهب السجون والمعتقلات ولكن ذلك ما كان يزيد هذه الدعوة إلا تماسكا وإيمانا ومضي الداعية الشهيد إلى ربه بعد أن أرسي قواعد هذه الدعوة وبني صرحها فأحسن البناء والتحق هذا القائد العظيم بمواكب الشهداء والصالحين .

ومنذ ذلك الحين وهذه الدعوة تقدم الشهداء تلو الشهداء , كل ذنبهم أنهم قالوا ربنا الله , وكل جرمهم أنهم قالوا لكل العملاء والمستعمرين الذين أرادوا هذه الأمة بقرة حلوبا تدر عليهم المال الوفير والخير العميم.

ولما كانت هذه الدعوة دعوة الله وهو جلت قدرته القوام عليها الحامي لها فقد قيض لها قائدا آخر اختاره جنودها من بينهم فحمل اللواء بحزم وإيمان وسار نحو الغاية بثبات ويقين , لا تفل فى عزمه العقبات ولا تثنيه عن الغاية الشدائد فكان خير خلف سلف ذلكم المجاهد الصابر " حسن الهضيبي " فبايعه أخوانه ولسان حال كل منهم يقول :

إذا مات منا سيد قام سيد

قؤول لما قال الكرام فعول

عمل الهضيبي رحمه الله قاضيا ثم مستشار حوالي ثلاثين عاما , وكان خلالها مثال العدل والنزاهة , كما كان شديد الالتزام بالقانون والنظام , يدافع عن الحقوق والحريات ويرسي دعائم الحق والعدل , وكان ينطلق فى كل ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد كان يفهم الإسلام فهما كاملا شاملا ويؤمن إنه لا نجاة لهذه الأمة مما هي فيه إلا بتطبيق شريعة الإسلام ومبادئه سأله يوما رئيس محكمة النقض والإبرام :

يا حسن الست معي أن أكثر أحكام التشريع المدني الحديث تقابل أحكاما مماثلة فى الفقه الإسلامي ؟! قال الأستاذ الهضيبي : بلي.

قال الرئيس : فما هو إذا الأساس الكبير والمطالبة الملحة من جانبك بالرجوع إلى الشريعة الإسلامية وتطبيق أحكامها ؟

قال : هو أن الله تعالي قال ( وإن أحكم بينهم بما أنزل الله ) ولم يقل أن أحكم بينهم بمثل ما أنزل الله , إن تحكيم شريعة الله فى عقيدة المسلم عبادة تؤدي امتثالا لأمر الله , وذلك هو مصدر بركتها وسر قوتها فى نفوس المؤمنين بها وفى كيان الجماعة المؤمنة .

وحين عرض مشروع تنقيح القانون المدني المصري عام 1945 على الأستاذ الهضيبي سجل كتابة أنه يرفض مناقشة هذا المشروع من حيث المبدأ " لأنه لم يقم أساسا على الكتاب والسنة "

وفى عام 1947 نشر الأستاذ الهضيبي رحمه مقالا فى جريدة " أخبار اليوم" المصرية وذلك حين عرض عليه تعديل مشروع القانون المدني المصري قال فيه : إن أحسن تعديل فى نظري هو سن قانون من مادة واحدة يقضي بتطبيق الشريعة الإسلامية فى الأحوال الجنائية والمدنية " وقال :

" ولقد أعلنت عن رأيي أمام لجنة تعديل القانون المدني فى مجلس الشيوخ فقلت : يجب أن يكون قانوننا هو القرآن والسنة فى جميع شؤون حياتنا وليس فى الشؤون التشريعية وحدها إن الإسلام دين متماسك متكامل غير قابل للتجزئة فيجب تطبيق جميع أحكامه فى كل أمة تدين به.

" هذه و الرأي الذى جاهر به , وسأظل أدعو إليه عن يقين واقتناع وأود أن أؤكد أنني قد انتهيت من مراجعة الشريعة الإسلامية ودراستها إلى أنه ليس فى تشريعات الأجانب وقوانينهم ما لا يتضمنه القرآن الكريم , والحلال بين والحرام بين وكلاهما واضح المعالم والحدود إلى يوم الدين .

هذا ما قلته أمام اللجنة وإنني على يقين أنهم لن يأخذوا به , ولكن لا حرج علي فى ذلك ما دمت مؤمنا بما أقول و ولكن ظني أنه بعد فترة قد تمتد إلى عشرين أو ثلاثين سنة سيتجه الرأى إلى الأخذ بما أقول , وكلما شرح الله صدور الناس بالقرآن قرب اليوم الذي يسود فيه هذا الرأي .

لقد {اينا أن جميع القوانين التي أخذناها عن الأجانب لم تصلح من حال بلادنا ولم تحقق ما كان يرجي منها فهذه السجون ملأي بالسجناء والجرائم تزداد والفقر ينتشر والحالة الخلقية والاجتماعية تسوء كل يوم عن سابقه, ولن يصلح الحال إلا إذا نظمنا علاقاتنا بالسنن الكونية التي تنزل الوحي بجملة أسرارها ومعالمها فى القرآن وإلا إذا عشنا فى بيوتنا وبين أهلينا وأولادنا ومع الناس أجمعين عيشة قرآنية " "

وفي العاشر من ديسمبر 1952 أعلن إلغاء الدستور المصري القديم وبعد يومين عين مائة عضو لوضع دستور جديد كان بينهم ثلاثة من الإخوان , ونشرت مجلة " الدعوة" مقالا تدعو الدستور على أسس إسلامية وطالب الهضيبي بالإستفتاء ليتبين لتختار مصر شرائع الإسلام أم شرائع الغرب , فإذا رأت أن تحكم بالإسلام كان على لجنة الدستور أن تنفذ ذلك , وإذا أرادت الأخذ بشرائع الغرب وهو رأي لا يمكن أن يقول به مسلم عرفنا أنفسنا وعلمنا الأمة أمر ربها وما يجب عليه .

كان البنا رحمه الله داعية ينزل الناس منازلهم ويختار الأسلوب المناسب لعرض الدعوة عليهم وكسبهم لطرفها , ومثل هذا الأسلوب كان يتبعه مع كبار الموظفين أمثال الأستاذ الهضيبي فقد كان حريصا على سرية ارتباطه بالدعوة, ولهذا كان الهضيبي يحضر مع البنا رحمهما الله الكثير من الأسر والجلسات الخاصة يستشيره فى الأزمات والمعضلات ويدخره ليوم عصيب ووقت رهيب , ويحدث إخوانه عنه فى جلساته الخاصة بكثير من الإعجاب والتقدير.

ويذكر الهضيبي رحمه الله أن علاقته بالإخوان قد بدأت منذ عام 1942 , وق اقتنع بهذه الدعوة بالطريق العملي قبل الطريق النظري , وذلك حينما لمسمن بعض أقاربه الفلاحين إدراكا لمسائل كثيرة فى الدين والسياسة ليس من عادة أمثالهم الإلمام بها وخاصة أنهم كانوا شبه أميين فلما علم أن ذلك يعود إلى الإخوان , أعجب بهذه الدعوة إنما أعجاب, وأخذ يحرص على حضور خطب الجمعة فى المساجد التي كان يخطب فيها الأستاذ البنا رحمه الله , وأخيرا تم لقاؤه مع البنا حيث اطلع منه مباشرة على أهداف الدعوة ومبادئها وبقيت علاقته بالبنا والإخوان سرية حتي أعلن عن انتخابه مرشدا عاما للجماعة عام 1951.

وفى الثاني عشر من شهر شباط 1949 اغتال فاروق الشهيد حسن البنا رحمه الله فشغر بذلك مركز المرشد العام للدعوة , ولما كانت القيادة ركنا من أركان هذه الدعوة وخاصة فى الظروف العصيبة التي كان يمر بها الإخوان فى ذلك الوقت فقد أخذ الإخوان يبحثون عن قائد أخر يقود سفينة الدعوة إلي شاطئ السلام ورشحوا لهذا المنصب أكثر من أخ من الإخوان العاملين إلا أن الأغلبية فى الهيئة التأسيسية للإخوان أجمعت على انتخاب " حسن الهضيبي "" مرشدا عاما وبقي الهضيبي رحمه الله يؤدي عمله سرا نحو ستة شهور كما أنه لم يترك العمل فى القضاء خلالها ولما سمحت حكومة النحاس باشا للهيئة التأسيسية للإخوان بالاجتماع طلب أعضاؤها من الهضيبي أن يرأس اجتماع الهيئة بصفته مرشدا للجماعة, ولكنه رفض طلبهم إذ اعتبر انتخابه من قبل الهيئة التأسيسية فى المرحلة السرية من الدعوة لا يمثل رأي جمهور الإخوان وطلب منهم أن ينتخبوا مرشدا آخر غيره , ولكن الإخوان رفضوا طلبه وقصدت وفود الإخوان من جميع مصر بيته والحث عليه بالبقاء كمرشد عام للجماعة , وبعد أخذ ورد وافق على مطالب وفود الإخوان , وقد استقالته من القضاء ليتفرغ للعمل لدعوة الله , وفى 17 تشرين أول 1951 أعلن حسن الهضيبي مرشدا لجماعة الإخوان المسلمين, ومع ذلك قام رحمه الله بجولة على جميع شعب الإخوان ليتأكد أن الوفود التي حضرت إليه تمثل رأي جميع الإخوان فى الشعب , وفعلا كان , فبايعه من التقي به من الإخوان .

لقد رأي أكثر الإخوان فى الهضيبي ضالتهم المنشودة لدعوتهم لما كان يتصف به رحمه الله من صفات تصلح لقيادة الدعوة فى مراحلها القادمة فالدعوة فى عهد النبا رحمه الله كانت تمر فى فترة التشير واختيار الأنصار وإرساء القواعد وتوضيح الأهداف والمبادئ, ولهذا كانت تحتاج إلى قائد عظيم كالبنا رحمه الله استطاع أن يقوم بهذه المهمة ويصل بالدعوة إلى مرحلة متقدمة من البناء والعمل والتربية , أما الفترة التي قيض الله الهضيبي لقيادة الدعوة فيها وإن كانت تعتبر استمرارا للفترة السابقة إلا أنها تتميز عنها بأنها مرحلة المجابهة السافرة مع الأعداء ,إعلاء صرح البناء وتفصيل أهداف الدعوة ومبادئها والسير فيها لتحقيق هذه الأهداف . كما ن المحنة الأولي التي أصابت الإخوان على يد إبراهيم عبد الهادي كان لها آثار خطيرة على جبهة الإخوان الداخلية كما أصبح العداء واضحا بين الإخوان وبين فاروق الذى حل جماعتهم وصادر ممتلكاتهم واغتال مرشدهم الشهيد حسن البنا , وبين فاروق الذى حل جماعتهم وصادر ممتلكاتهم واغتال مرشدهم الشهيد حسن البنا , ولهذا كانت تحتاج هذه المرحلة إلى قائد ذى صفات معينة يخرج بالدعوة فى هدوء وصمت مما هي فيه من المشاكل ويزيل من أمامها ما يعترضها من عقبات ويسير بها نحو أهداف الإسلام الكبري بحزم وإيمان ولهذا كانت الدعوة بحاجة إلى الصبر والثبات وحسن الإدارة وسعة الصدر والحنكة السياسية أكثر من حاجتها إلى الخطابة والضجيج وعرض العضلات وإن كانت هذه لا غني عنها , وفى وقت إدرك العالم الغربي خطورة أهداف هذه الدعوة على مصالحه فى العالم الإسلامي ولهذا رمتها دولة عن قوس واحدة حيث أعلن ممثلوا كل من انكلترا وفرنسا وأميركا الحرب على دعوة الإخوان حين اجتمعوا فى القاعدة البريطانية فى " فايد" على السويس عام 1949 .

لم يكن الهضيبي خطيبا كالبنا , ولكنه كان على علم تام بمبادئ الدعوة وأهدافها بل على العكس كان يغلب عليه قلة الكلام والصمت الذي كان يزعج أ‘داء الله ولكن بجانب ذلك كان متزنا إذا عمل لا يعرف الكلل ولا الملل ولا يخشي فى الله لومة لائم لقد تميز رحمه الله بالصبر والثبات وحسن الإدارة والحنكة السياسية وسعة الصدر , كما كان يؤمن بالشوري والنقد الذاتي البناء ويعتبرهما أسسا ضرورية لبناء الجبهة الداخلية للجماعة , أما الحكام فقد كان عنده لكل مقام مقال حيث تصلح اللياقة والدبلوماسية كما كان حازما شديدا حيث لا ينفع إلا الحزم والشدة فبينما كانت قوات الإخوان تضرب القاعدة البريطانية فى القنال عام 1951 وكانت الأحزاب الأخري تدعي لنفسها ما يعمله الإخوان , كان الهضيبي رحمه الله يقف فى المركز العام ليقول للإخوان " أيها الإخوان أوصيكم بتقوي الله وقراءة القرآن وعدم التدخل فى السياسة" أما الحقيقة فقد كان رحمه الله هو خلف جميع تنظيمات الإخوان فى القنال ويطلع بنفسه على كل صغيرة وكبيرة من أمالهم الذي يراجع كتاب " المقاومة السرية" يجد فيه تفصيل ذلك كله . ولما حاول الانجليز أثناء حرب افيقاع بين الإخوان والأقباط التقي الهضيبي رحمه الله ببابا الأقباط وتفاهم معه على كل شئ حتي يفوت الفرصة على أعداء الله وظهر المرشد العام للإخوان المسلمين فى اليوم التالي فى الجرائد المصرية يصافح زعيم الأقباط ويعلن اتفاقهما على مصلحة مصر . كما كان رحمه الله خير خلف لخير سلف وأنه قاد الدعوة فى الطريق الذى يجب أن يسير فيه , كما رفض أن تنحني دعوة الله أمام الهجمة الصهيونية الإستعمارية عليها فحفظ لهذه الدعوة شخصيتها وكرامتها إذ لم يعرف عنه رحمه الله أنه بالرغم من كبر سنه وقسوة السجن والتعذيب الذي يلاقيه أنه لانت له قناة او سمع منه السلطان وزبانيته إلا ما يجلب لهم الغم وما ينغص عليهم حياتهم .

ومنصب المرشد العام فى دعوة الإخوان تكليف وليس تشريفا وخاصة بالسبة لرجل تجاوز الستين من العمر ومع أن الهضيبي كان يدرك ويدرك أنه ورث تركة ثقيلة ودعوة كبيرة , وأعداء عددهم وعظيمة إمكاناتهم مع هذا كله واجه هذه الأعباء جميعها بقلب ثابت وإيمان صادق لا يعرف الملل ولا الكسل لقد كان عليه أن يجمع شمل الإخوان وينظم صفوفهم ويقوي جبهتهم الداخلية حتي يكونوا المنطلق الثابت والقاعدة القوية التي تنطلق منها دعوتهم لتحقيق أهداف الإسلام الكبري كما عليه أن يدفع عجلة هذه الدعوة إلى الإمام لكي تشق طريقها فى مصر خاصة والعالم العربي والإسمي بشكل عام كما كان عليه رحمة الله أن يواجه قوي الظلم والبغي والعدوان والتي رمت دعوة الله عن قوس واحدة وقررت خوض المعركة معها مهما تكن النتائج وبالرغم ا، فترة ولايته قبل المرحلة ولولا أن المؤامرة على دعوة الإخوان سنوات فقد حق الكثير من أهداف هذه المرحلة ولولا أن المؤامرة على دعوة الإخوان كانت مؤامرة عالمية جند لها أعداء الله كل جهودهم وهاجموها قبل أن تستعيد قوتها بعد المحنة الأولي , وقبل أن تستعد للنزال لاستطاع الهضيبي رحمه الله أن يصل بالدعوة إلى أهدافها المرسومة ولكن الله غالب على أمره ولا راد لقضائه.

لقد بدأ الهضيبي من حيث انتهي سلفه البنا رحمهما الله , والذي يراجع ما كتبه من مقالات فى مجلة " المسلمون" تحت عنوان " هذا القرآن وما كتبه فى مجلة " الإخوان المسلمون" وما أدلي به من أحاديث وتصريحات للمجلات المصرية والأجنبية وما كتبه إلى الملوك والرؤساء فى الدول العربية والإسلامية ليدرك تفهمه العميق للإسلام خاصة ولدعوة الإخوان بشكل عام لقد كان يدرك رحمه الله أن المرحلة الحالية هى مرحلة الانطلاق لتحقيق هدف الإسلام ألا وهو إقامة دولة الإسلام فى الأرض ولهذا نجد هذا الموضوع غالب على كل أحاديثه فى رسالته التي بعنوان " دستورنا" وفى أحاديثه مع الإخوان حيث كان يقول لهم " أيها الإخوان أقيموا دولة الإسلام فى صدوركم تقم فى أرضكم " ويقول :" دولة الباطل ساعة , ودولة الحق إلى قيام الساعة " وفى أول لقاء بينه وبين الإخوان فى دار المركز العام قال :" أيها الإخوان هذا أول لقاء بيني وبينكم , ويسعدني أن أوصيكم بتقوي الله وطاعته , والإقبال على الله بقلوب خاشعة ونفوس مخلصة وترتيل القرآن الكريم , وأن تستعدوا فى هذه الظروف التي تمر بها بلادنا والله معنا ينصرنا ويوفقنا وكتب افتتاحية العدد الأول من مجلة " الإخوان المسلمون " فى 20 أيار 1954 فقال :

" سيجد الناس أن الإسلام ليس دين عبادة وصوم وصلاة , ولا دين قطع الأيدي ورجم الزناة فقط , ولا دين الفضائل فحسب سيجدون أنه دين عبادة تطهر النفس وتزكي القلب وتصل العبد بربه حتي يكون قادرا على تحمل تبعات الحياة ومشاقها وسيجدون انه دين أقام الحياة الاجتماعية بين المسلمين على أكمل نظام وأوفاه بحاجات االناس وسيجدون أنه عالج الأخلاق والفضائل وأدب السلوك فأمر بالحسن ونهي عن القبيح وسيجدون أنه أوجب على المسلمين الجهاد إذا ما ديست أرضهم واحتلها العدو وسيجدون كيف عالج الإسلام مشكلات العمال وكيف نظر إلى ملكية الأرض بعدالة لا تعادلها عدالة , وكيف عالج شؤون الأسرة كما عالج شؤون الحكم فى قواعد العامة الثابتة التي لا تتغير وتترك التفصيل لاختلاف الظروف " وفى تصريح له لصحيفة" لوموند" الفرنسية فى شهر آب 1952 سأله مراسل الجريدة :

هل تسعون إلى أن تحكموا مصر بتعاليم الإسلام ؟

فقال الهضيبي : إن الذي يهمنا هو أن تحكم البلاد بالإسلام سواء أكان الحكم للإخوان أم لغيرهم . ولما سأله : ولكنكم لا تستطيعون إلا إذا تدرب رجالكم عمليا عليه ؟ فرد عليه الهضيبي قائلا : إن الإخوان منبثون فى كل مرافق البلاد ".

وفى تصريح له الجريدة " المصري " بتاريخ 18 آب 1953 قال :

" إن الشيوعية مذهب قام على نظم مادية بحتة , وهو ينكر الأديان جميعا ولا يجعل صلة بين الإنسان وشئ كما يجعلها بينه وبين لقمة العيش , وأما الإسلام فقد بني أول ما بني على توحيد الله وجعل الإنسان موصولا به دائما فى كل أعماله لا يقصد بعمله إ وجه الله , وبني على العبادات والأخلاق وتنظيم الحياة الاجتماعية تنظيما لا تطمع الإنسانية باحسن منه ولذلك نجد الفارق بين الشيوعية والإسلام عظيما وهي تتجافي مع عقائده وأدابه وأخلاقه ونظامه الاجتماعي ... وأما روسيا كدولة فليس بيننا وبينها ما يدعو للعداء , وأما كفكرة فلا نخشاها إذا عملنا بالإسلام على الوجه الصحيح وأخذنا بكل تعاليمه , ولابد لهذه التعاليم من أن تنتصر على فكرة أخري ".

وقال فى مجلة " المسلمون" : إن حكام المسلمين يدعون أنهم يحكمون بالقرآن وهم عن معانيه بعيدون, يحسبون أنه صلاة وصوم وحج لا يدركون أنه مع ذلك علم وفهم وتربية وأخلاق وجهاد فى سبيل الله , ومعاملة وتحقيق العدل الاجتماعي الذي كفله الله للناس على صورة لم يصل إليها الناس فى كافة عصورهم ".

وقال :" وليعلم المسلم أنه لا يكون مسلما حقا إلا إذا أصبحت عقيدته جزءا لا يتجزأ من أخلاقه وسلوكه , فيكون عادلا مع الناس جميعا , ويحذر نوازع الهوي أن تميل به عن هذا العدل مع أقرب الناس إليه فلا يذكر إخوانه بسوء ولا يغتابهم ولا يلمزهم فإن أكثر الشرور إنما ينشأ عن مثل ذلك"

كما أصدر رسالة بعنوان " دستورنا" تناول فيها بإيجاز ما يتضمنه هذا الدستور الإلهي من شؤون العبادات والمعاملات والعقوبات وتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وأحكام التربية والجهاد , والأحوال الشخصية لغير المسلمين وأجاب على سؤال يتردد على كثير من الألسن : هل الحكم بالقرآن فرض ؟ كما وضح أن الإخوان فى دعوتهم متبعون وليسوا مبتدعين حين قال " فنحن حين نطالب بالعمل حسب كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم لا نبغي من وراء ذلك تطبيق الأحكام الواردة فى القرآن فحسب ولكننا نرجو أن يجعل المسلمون منهاجا يسيرون عليه فى الحياة ويطبقونه بحذافيره , وهو أفضل لنا من أى دستور أخر لأن القرآن هو الدستور الكامل الشامل الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة فى بناء الأمة إلا عالجها تارة بالتفضيل وتارة بالإجمال تاركا لها أن تمضي فى التفصيل على ما تقتضيه مصالحها ولا يتعارض مع الأصول التي وضعها ".

والمشكلة الخارجية الرئيسية التي واجهها الإمام الهضيبي أثناء ولايته قبل حل الجماعة هى " علاقة الإخوان بالثورة المصرية" والتي بدأت بالوفاق وانتهت بالخلاف وأعتقد أنه لم يكن هناك اتفاق رسمي بين الإخوان ورجال الثورة ولكن الاتفاق بينهم كان عرضيا وضد الخطوط الرئيسية للفساد الذي كان مستشريا فى مصر والذى لا يختلف فيه اثنان من المصريين مثل فساد فاروق , والاحتلال البريطاني , والفساد الاجتماعي , وليس معني اتفاق الإخوان مع الثورة على تحقيق الأهداف أن الأتفاق بينهم كان ضمن خطة معينة تنباها الطرفان إذ ليس من المعقول أن يتعاون الإخوان مع أشخاص عسكريين مجهولين فى انتمائهم مختلفين فى اعتقاداتهم وميولهم الحزبية .

لقد تم الاتفاق بين الصهيونية والإستعمار لضرب الإخوان منذ عام 1949 على أثر اجتماع عقده سفراء كل من بريطانيا وأميركا وفرنسا فى القاعدة البريطانية فى لقنال , وكانت محنة الإخوان الأولي على يد فاروق ولكن هذه المحنة لم تزد الإخوان إلا قوة وشعبية , مما أكد لهذه الدول أن فاروق أضعف من أن يستمر فى عملية التصفية وقد أفرج فعلا عن الإخوان بضغط شعبي عام 1951 ,والذى يقرأ الكتب التي كتبها عملاء المخابرات الأمريكية فى الوطن العربي يدرك أن الهدف من الانقلاب المصري عام 1952 هو إيجاد القيادة الحازمة القوية التي تستطيع ضرب الإخوان وتصفيتهم .

لقد شهد الصهاينة والمستعمرون أن دعوة الإخوان هو العدو الحقيقى الذى يتهدد أطماعهم فى العالم الإسلامي والتي يهدف إلى التصدي لك حركة إسلامية تعمل على تجنيد الإسلام فى كيان سياسي حتي يبقي العرب والمسلمون ضعفاء متفرقين يسهل استغلالهم واستعمارهم ولهذا واجه الإخوان عام 1954 دولا كبري لها إمكانيات ضخمة ومخابرات منظمة, أما العساكر الذين تصدوا للإخوان فلم يكونوا سوي قفازات تنبش خلفها الأيدي الخفية لقد واجه الإخوان فى هذه المحنة كل قوي الشر فى العالم من يهودية وشيوعية وصليبية وشعوبية سواء تمثلت بأسماء عربية أو أجنبية .

بدأت علاقة الإخوان بالانقلاب المصري بالإنفاق فى وجهات النظر على الصعيد الوطني مثل إخراج الانجليز وإصلاح الحكومة والجيش وإخراج فاروق , دون أن يوافق الإخوان على الزج بهم فى معركة ليست فى مخططهم وكان الأستاذ " حسن عشماوي" هو حلقة الوصل بين الإخوان ورجال الثورة وقبل قيام الانقلاب المصري بيومين اتصل أحد أعضاء الانقلاب بالأخ " حسن" وأبلغه بعزم الضباط على القيام بانقلابهم ولما كان الهضيبي رحمه الله يعلم أبعاد الظروف الراهنة فى مصر فلم يكن متفائلا لا مخدوعا , ولهذا لما أبلغه الأخ " حسن" بالخبر وتم البحث فى مدي تأييد الإخوان للانقلاب قال المرشد لقيادة الإخوان " إن تنفيذ الانقلاب على يد الجيش معناه السير فى طريق الحكم العسكري والديكتاتورية وهذا لا يحقق رغبات الشعب المصري ولا يتماشي مع أصول الإسلام لأن الحرية

الفردية هى أساس من أسس الإسلام " ولما أخبره العشماوي بأن الجيش سيقوم حتما بالانقلاب قال له المرشد أنه لن يمنع الإخوان من تأييد حركة الجيش وأنه سيأمرهم بمعاونته إذا ما حاولت قوات الانجليز فى منطقة القناة التدخل لعرقلة حركة الجيش المصري , ثم انتهي المرشد من حديثه بأنه سيظل يؤيد حركة الجيش طالما تسعي إلى تحقيق آمال الشعب , واعتبر العشماوي ذلك تأييدا من المرشد للحركة فصدرت الأوامر لشعب الإخوان بتاييد الوضع الجديد "

لقد اشترط المرشد العام رحمه الله أن الإخوان سيؤيدون حركة الجيش إذا ما حاولت القوات البريطانية التدخل ولما لم تتدخل هذه القوات اقتصر تأييد الإخوان لحركة على المحافظة على الأمن كما اشترطت أيضا أن الإخوان سيؤيدون الحركة طالما بقيت تعمل على تحقيق آمال الشعب و أما ما كان يجري خلف الكواليس فلم يكن الإخوان على علم به , وقد تم الاصطدام بين الإخوان ورجال الانقلاب لأنهم حادوا بالحركة عن تحقيق آمال الشعب المصري , وقد حاول الإخوان فى بداية الأمر تفادي هذا لصدام حفاظا على المصلحة العامة للأمة إلا أنهم تأكد لهم بعد ذلك أن الصدام هو جزء من معركة الحق والباطل وأنه لابد مما ليس منه بد , ولهذا كان الصدام شديدا وعنيفا ضحي فيه الإخوان بدمائهم وأوراحهم فى سبيل دين الله ولتحقيق مصلحة شعبهم .

وحين أصدر رئيس وزراء مصر قرار بحل جماعة الإخوان المسلمين عام 1954 م بعث إليه الأستاذ حسن الهضيبي بالرسالة التالية :

" وقرار حل الإخوان , وإن انزل اللافتات عن دورهم فإنه لم يغير الحقيقة الواقعة وهي قرار أن الإخوان المسلمين لم يمكن حلهم لأن الرابطة التي تربط بينهم هى الاعتصام بحبل الله المتين وهى أقوي من كل قوة , ولا تزال هذه الرابطة قائمة وستبقي كذلك بإذن الله , ومصر ليست ملكا لفئة معينة ولا يحق لأحد أن يفرض وصايته عليها ولا يتصرف فى شؤونها دون الرجوع إليها والنزول على إرادتها لذلك كان من واجب الواجبات على الإخوان المسلمين أن يذكروكم بأنه لا يمكن أم يبت فى شؤون البلاد فى غيبتهم وكل ما يحصل من هذا القبيل لن يكون له أثر فى استقرار الأحوال ولا يفيد البلاد بشئ ".

ومهما يكن من أمر فقد صدق حسن الهضيبي فى خط رجال الثورة فقد قادوا الشعب المصري إلى الهاوية والفقر والهزيمة والديكتاتورية , ولم يكن بإمكانهم ذلك لو لم تكن الأسد مكبلة فى غياهب السجون والمعتقلات , وإذا كانت المعارك تقاس بنتائجها بمقدار تحقيق الطرف المهاجم لأهدافه التي حددها مسبقا قبل المعركة فإنه يمكن القول أن أعداء الله قد فشلوا فى تحقيق هدفهم ا النهائي ألا وهو القضاء على الإخوان المسلمين فقد أثبتت تقارير المخابرات الاستعمارية إن المحن لم تزد الإخوان إلا قوة وثباتا , كما لم زد دعوتهم إلا اتساعا وانتشارا , وكثيرا ما سمعنا الحكام يتكلمون عن " الثورة المضادة" وعن التحرك المضاد" للرجعية الإسلامية " وذهب الطغاة وبقيت دعوة الله عالية اللواء رافعة الجبين.

وأما أنتم يا أتباع الهضيبي فقد غاب عنكم الأخ الكبير الذى طالما وسعتكم محبته ورعايته , والقائد الفذ الذي حمل لواء دعوتكم وصبر على ذلك وصابر , والمرشد الأمين الذي أنار عليكم الطريق غلى النصر , والداعية المؤمن الذى حافظ على كرامة دعوتكم وبقي يقول للطغاة " لا" رغم كبر سنه وضعف جسمه وعمق الجروح والقروح فى جسده , وثبت على ذلك ثمانية عشر عام حتي قضي نحبه مقبلا غير مدبر, فمد من جسمه جسرا تعبرون عليه إلى النصر إن شاء الله, ولئن مات الهضيبي فإن عزاءنا أن دعوة الله باقية شامخة , وأنه ضرب لنا أروع الأمثال فى الصبر عند اللقاء والثبات على الحق , وما علينا إلا أن نحذوه وننسج على منواله . فإلى جنة الخلد يا قائد الشهداء وسنبقي على العهد نحتضن راية الله بقلوبنا ونفدي دعوته بأرواحنا حتي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.


حسن الهضيبي ... الشهيد على فراشه

إمام الجهاد .... والصدق .... والثبات والصبر

بقلم : الأستاذ عبد الحكيم عابدين

من غير جلبة ولا ضجيج , وبكل تواضع واستخفاء , عبر كلمات خافتة فى زاوية من جريدة الأهرام , وقعت العيون على نبأ وفاة المرشد المرشد العام للإخوان المسلمين أخي وأستاذي فى الله حسن الهضيبي رحمه الله ...

وأشهد ما كدت أتلقي هذا النعي الأليم حتي أضاءت ملء خاطري وتلألأت فى كل ما حولي هذه الآية الكريمة من سورة الأحزاب , كأنما تنزل الساعة عليها جلال الوحي , رحمانية الجرس , ملائكية النبرات , خالية الترتيل , ذلك بأن الراحل العزيز كان فيما علمت وشهدت تفسيرا حيا لهذه الآية , وكان سيرته واقعا محسوسا لما تحمل من شمائل وما ترسم من مثل ومحامد , وما تبشر به من مثوبة ورضوان .

فى صباه الباكر فى شبابه الفض فى رجولته السوية فى كهولته الواعية , وفي شيخوخته الوقور كان حسن الهضيبي الصادق الذى لا يكذب العف الذى لا يترخص المستقيم الذي لا يداهن الأبي الذى لا يخنع الشجاع الذى لا يدبر الجلد الذى لا يتذمر, بل كان – كما قال العربي من قبل – لا يمل حتي يمل النجم ولا يهاب حتي يهاب السيل , ولا يظمأ حتي يظمأ البعير ! وكان فوق ذلك جذوة من الإيمان والجهاد لا تسكن إلى دعة ولا تهادن على مبدأ عنوانا على الخلق والترفع لا يستنزله عنهما إسفاف حاسد أو سلاطة منابذ جبلا فى الثبات على ما يؤمن به ارعدت القواصم أم أبرقت المغانم منهلا للإيثار يمنع الري نفسه وأهله حتي يشبع به ذوي الحاجة الأباعد , داعية لا تخطيء فى أحد ممن يدخل فى ولايته سلطان دعوته الغالب , وتلك خصيصة لا يشتد بخير فيها أزر المصلح المجاهد ولا يبلغها من قادة الدعوات غلا الصفوة القلائل وحسبك أن يمتدح بها القرآن الكريم أكثر من نبي فى مثل قوله تعالي ( وكان يأمر أهله بالصرة والزكاة وكان عند ربه مرضيا).

ويقودني الإلمام بهذه الخصيصة من شمائل المرشد الراحل إلى التحدث عنه طيب الله ثراه فى اثنين من أبرز النواحي التي تميزت بها شخصية ومعالم سيرته ومنهاجه أولاهما الوحدة بين مبادئه وسلوكه متمثلة فى نماذج من مواقفه وأخلاقه.

والأخري : سلطان دعوته على أهل بينه ومن تشملهم ولايته .

وقبل الاسترسال فى عرض هاتين الناحيتين , تقتضيني الأمانة والإنصاف أن أسارع إلى القول بأن روائع الإيمان والألمعية التي يشرق بها تاريخ الهضيبي كانت لازمة بارزة فى نفسه وعمله قبل التحاقه بدعوة الإخوان المسلمين وبعد ان تولي قيادتها خلفا لسلفه العظيم الشهيد حسن البنا عليهما رضوان الله . لا يخطئ هذه الروائع فيه عابر طريق ولا معاشر لصيق !


حسن الهضيبي فى مواقف وأعمال وأخلاق

أعترف أن المقادير لم تهيئ لى فرصة التعارف المباشر إلى الراحل الجليل إلا وقد جاوز الخمسين من عمره قبل ثلاثين عاما حينما كان مستشارا بمحكمة النقض " التميز" المصرية ولم يجاوز تأثري به يوم ذاك شعور الإعجاب بألمعي من رجال القانون يبلغ هذه الدرجة من الفقه الصحيح للشريعة والفرح برجل فى هذا المنصب الرفيع يتدفق إيمانا برسالة الإسلام الخالدة وقدرتها – دون سواها من المبادئ والدعوات – على علاج مشاكل العصر والوفاء بكل ما يتطلبه بناء الدولة الحديثة على أفضل وجه بل بما يكفل سعادة البشرية من كل لون وجنس.

بيد أنه منذ تولي قيادة الإخوان المسلمين , بدأت تفد إلى أوفر الأنباء من رفاق عمره أقطاب القانون والقضاء , عما خفي على من تاريخ حياته و وراح أريج سيرته يعطر السماع والقلوب فى قصص تشبه الأساطير عما ألزم به نفسه وذويه من مثالية السلوك فيما يفعل وما يترك وما يقول.

الأنس بالقرآن

عرف عن حسن الهضيبي ولوعة بكتاب الله منذ الحداثة يكثر القراءة فيه والغوص على معانيه ويزن عمله وسلوكه بأوامره ونواهيه ويبادر إلى إلزام نفسه بما قد تغفل عنه من أحكامه وتوجيهاته وكانت هذه الصحبة مع القرآن مصدر شمائله والأساس الذى لم تنفك عنه شخصيته طوال عهده بالدنيا فلئن استظهر الكثير الكثير من أجزاء القرآن فى صدره – كما تدل على ذلك كثرة استشهاده بآياته – لقد شارف الغاية من استيعابه حقائق فى خلقه وصراطا لجياته , وكان يبلغ من غيرته على القرآن وإعظامه لمسؤولية حامله وتاليه أن يشتد نكيره على مثل إذاعات لندن وموسكو وإسرائيل وباريس حين تستهل ناهجتها بتلاوة القرآن – وهي لا تؤمن به – فتنزل بقدره إلى رتبة الأغنية أو الأنشودة التي تتملق بها مشاعر السامعين , وفى ذلك كل الاستخفاف بالمسلمين مع ما للقرآن من حرمه تفترض فى مذيعه والمنصت إليه أن يكون جنديا صادعا بأمره مقلعا عن كل ما ينهي عنه .

الورع عما يستبيحه الكافة

انفرد الأستاذ الهضيبي أو كاد برتبة عالية فى الورع عما تعرف الناس على إباحته من توافه الأشياء التي تضعها الدوائر الحكومية والمؤسسات التجارية فى خدمة موظفيها كالأوراق والأقلام وغيرها من المهملات إذ كان يحرم على نفسه وذويه استعمال شئ منها فى شأن خاص وكان يعود من المحكمة - وهو قاض أو محقق – وفى حقيبته أكداس من ورق التسويد الرخيصة " الخرطوش" ليخطط عليها مشروعات القرارات والأحكام القضائية فلا يسمح لنفسه قط باستعمال ورقة منها ولو كانت دون الأصبع فى أمر يخصه أو يخص واحد من أهله , فإذا رآها واحد من أولاده فى غرفته وطلب ورقة منها لبعض حاجته أنكر عليها أبو ه وأعطاه قرشا يشتري به ما يحتاج إليه من الورق ثم لقنه أمام إخوته الدرس الذي لم ينسوه بأن أوراق الحكومة ملك لها لا يحل لأحد أن يستخدمها فى شان خاص به.

مع خلطائه المسيحيين

وكانت باكورة ولايته القضاء فى مدينة جرجا من صعيد مصر حيث تعلو فى الطبقة المثقفة نسبة المسيحيين الذين تهيئ لهم مراكزهم وثقافتهم الاختلاط بقاضي المدينة ونظرائه من كبار الموظفين فلفت نظر هؤلاء الأخوة عزوف القاضي الجديد عن مشاركة أنداده غشيان مواطن اللهو المباح فضلا عن الحرام , وراعهم منه أنه – خلافا لأمثاله – لا يحلف ولا يعمد إلى ثتبيت قوله ورأيه بيمين استنادا إلى أن من لا يصدق بلسانه لا يصدق بيمينه بالإضافة إلى إيثاره الجد من غير تزمت والبشاشة فى غير تبذل فإذا بهم يلتفون حوله , ويحيطون بفيض من مشاعر الحب والتقدير ويعلنون أنهم يحسدون عليه إخوانهم المسلمين ويتمنون لو كان فى طائفتهم مثله ليقيموا له النصب والتماثيل.

الجبين المرفوع ... أمام الملك فاروق

حدثني " باشا" مري من أعلام القضاء – كان يليه مباشرة فى ترتيب القضاة والمستشارين – أن الهضيبي كان أول من كسر تقاليد الانحناء بين يدي الملك عند حلف اليمين القانونية التي يؤديها القضاة أمامه قبل تولي مناصب المستشارين إذ كانت دفعته حوالي عشرة سبقه منهم خمسة لم يترددوا فى الانحناء عند حلف اليمين رغم تهامسهم بالتذمر من هذا التقليد المهين , حتي إذا جاء دور الهضيبي الواهن البنية الصامت اللسان فاجأ الجميع بان مد يده لصافحة الملك وأقسم اليمن منتصب القامة مرفوع الجبين و بصورة أنعشت الإباء فيمن بعده – وأولهم محدثي الباشا" س.ر" فأدي يمينه عالي الرأس , وهو يقول لنفسه " إذا شنقوا الهضيبي فليشنقوني معه " وتبعهما سائر المستشارين فصافحوا الملك وأقسموا اليمين دون تخاضع أو انحناء .

لا زلفي لجبار ... ولا شماتة بمنهار

أ‌- أما الجبارين :

ومنذ برز اسم الهضيبي فى القمة بين زعماء ودعاه الملك إلى الاجتماع به دون طلب – خلافا لكل السوابق المألوفة يوم ذاك – راحت التعليقات والتكهنات تتكاثر وتتضارب حول " الثمن" الذي سيتكلفه الهضيبي وجماعته – فيما توهم الناس – لهذه البادرة التكريمية التي خص بها مليك البلاد المرشد العام للإخوان المسلمين !

أما الهضيبي المؤمن الصديق الموصول أبدأ بملك الملك فلم يزد على أن نقل سلام الملك الذى حمله إياه إلى إخوانه فى الجماعة ثم استأنف طريقه فى الدعوة محرر الإباء نمن كل ما يمت بسبب إلى هذه المقابلة , بل معتصما بحكمته وإيمانه من أن تلحق بمثالية الجماعة منها أية شبهة! وإليك ,مما وقفت عليه بنفسي هذه الأمثلة الثلاثة :

1- اتصل به كبيران من أعوان الملك يسألانه موعدا لزيارته , فما حدد لهم الوعد – وكان بعد ثلاثة أيام – حتي أخبراه بأنهما سيحضران معهم صورة الملك لتعليقها فى دار الإخوان . وقبل الموعد ببعض ساعة هتف إلى من داره يكلفني بصرف الرجلين إذا سألاني عنه , ولما ذكرته رد مثلهما بهذه البساطة سيورطنا فى أزمة صارحني – وكنت لا أعلم سبب الزيارة – بألا مفر من ردهما بأية وسيلة لأنهما سيطلبان منه تعليق صورة الملك بالمركز العام , وهذا لا يفعله ولو قطعت يمينه !

وألهمني الله أن أقول له سأرسلهما إليك بالمنزل ولا حاجة لهذا الجفاء , وما عليك إلا أن تعتذر لهما بأن الإخوان متزمتون يحرمون التصوير , وسأبادر الآن إلى رفع صورة الإمام من غرف المركز العام حتي يستقيم الاعتذار وما هو إلا أن سمعه حتي قال : يرحم الله أباك افعل وأنا لهما فى الانتظار !!

2- بعد أن اعتمد مكتب الإرشاد العام الصياغة التي أعدت بها مذكرتنا التقليدية لوزارة الدكتور على ماهر بعد حريق القاهرة سنة 1952 وكلفني بطبعها وتوقيعها من المرشد العام دعاني إليه وقبل على آخر سطر منها يتضمن أماني التوفيق " فى ظل جلالة الملك المعظم فضرب بقلمه على عبارة " فى ظل جلالة الملك" غير ملتفت لتنبيهي بأن مكتب الإرشاد قد اعتمدها ولا إلى كون هذه العبارة تقليدية , ولا إلى أن خلو الكتاب منها يثير نقمة القصر الملكي مجيبا على كل ذلك بقوله " احذفها على مسؤوليتي وحسبنا والملك والوزارة أن تكون فى ظل الله وحده".

3- وفى ربيع العام نفسه , إذ كان طفلي هشام يعالج بمستشفي الدكتور عبد الوهاب مورو" باشا" قدم المرشد العام مشكورا لزيارته لما هم بالانصراف بعد جلسة طويلة غمر فيها هذا الطفل ببره وعطفه , أشرت عليه بزيارة رئيس الديوان الملكي وكان يعالج بنفس المستشفي فلما فوجئت بإعراضه عن الفكرة وشرعت أعدد له محاسنها ومحاذير تركها , ولا سيما بعد أن رؤي فى نفس المستشفي , لأنه لا تكاد تمر لحظة دون أن يغص صالون رئيس الديوان بمجموعات من الأمراء ورؤساء الوزارات والشيوخ والنواب وكبار العلماء والوزراء ورجال الصحافة والأعمال ورحت أقنعه بأن زيارة الرجل مجاملة للملك , وهي عيادة مريض على كل حال , إذ به يصافحني مودعا وهو يقول :" لقد قصدت الله تعالي بعيادة ولدنا هشام ولم أقصد الملك بزيارة رئيس الديوان "!!

ب‌- لا شماتة بالمدبرين

ويتمم هذه العظمة فى خلق الرجل أنه كان مثال النبل والترفع فى مواقفه إزاء من أدبر عنهم السلطان , وانقلبت أحوالهم من عز إلى هوان , ولو كان فيهم من أسلف إليه أو إلى جماعته البغي والعدوان والأمثلة التالية أصدق شاهد وبرهان .

1- محنة الملك المخلوع:

على الرغم من مواقف الأباء التي التزمها الهضيبي تجاه الملك فاروق فى أوج سطوته وسلطانه وحين كانت أعلي الهامات تتفاخر بالانحناء بين يديه وأمضي الأقلام تتباري فى نسبة القداسة العبقريات إليه , رأينا هؤلاء جميعا لا يلبثون عندما تحل نكبة الخلع والإبعاد به أن ينقلبوا فى مثل لمح البصر إلى هجائين حداد الألسنة , شتامين مقذعي البذاءة يصبون كل ذلك فى غير حياء من ماضيهم القريب ماضي اليوم والساعة على ذلك المخلوع الذي أصبح لا يملك حولا ولا طولا , ولا يستطيع لأحد نفعا ولا ضرا.

أما الهضيبي الذى رأينا مناعته فى وجه الملك ومطالب حاشيته فقد ارتفعت به أصالة خلقه عن أن يتأثر بهذا التيار , وملكه سلطان التعفف والترفع فلم ينزلق ولا سمح لإخوانه أو صحفه بالانزلاق بالسباب إلا ما تأباه المروءة , وما نهي عنه الهدي النبوي ن إتباع المدبر والإجهاز على الجريح !

2- محنة الزعماء المعتقلين :

ومن معين هذا الخلق الأصيل حرص الأستاذ الهضيبي على مواساة الزعماء الذين اعتقلتهم الثورة بعد قيامها بأسابيع وأصبح الاتصال بهم مجلبة ضرر ونقمة حملت أقرب الناس إليهم على التنصل من كل صلة بهم . بينما حرص الهضيبي على تفقدهم بمجرد أن سمح لهم باستقبال الزوار , فزار – وكنت فى معينه – السادة أحمد نجيب الهلالي " باشا" وأحمد عبد الغفار " باشا" وأخرين لا أذكرهم الآن ممن كانت قيادة الثور الحاكمة تعتبر زيارتهم ومواساتهم من كبائر السيئات وما كان أحب إلى المرشد فى تلك الأيام تعتبر زيارتهم ومواساتهم من كبار السيئات وما كان أحب إلى المرشد فى تلك الأيام ان يتفادي غضب رجال الثورة ولكنه الوفاء الأصيل يأبي أن يفارق صاحبه ولو كلفه ما لا يطاق !


سلطان الخلق مع الأولياء والأعداء

لا يسعني أن انفض يدي من هذه العجالة الخاطفة عن مواقف الراحل الكريم وأخلاقه دون أو أورد أنموذجا من منزله الخلق عنده حين يبدو التمسك به وكأنه إضاعة للمصلحة أو خدمة لأعداء الدعوة .

قامت ثورة مصر وبينها وبين الدعوة وقيادتها أسباب ليس هذه مجال الإفاضة فيها , وأخلص الهضيبي فى نصحه للثورة ومنحها أنفع التأييد فيما يتفق ومبادئه الإسلامية فلما اشتعلت أعاصير الخلاف بينها وبين جماعة الإخوان وراحت الثورة تصب على الجماعة أبشع ضروب البطش والاضطهاد سارع أحد خلصاء الهضيبي إلى مقر قيادة الثورة – وكان لا يزال موضع ثقتها الكاملة – للإجهاز على رجالها , انتصارا للدعوة وكفا للأذي عن لجماعة فاكفهر وجه المرشد غضبا وقال : لأن يهلك الإخوان عن آخرهم – وللدعوة رب يحميها – خير من أن نبلغ قمة النصر عن طريق الغدر والخيانة , إننا مسلمون قبل كل شيء ولو ملكنا الدنيا بإهدار الخلق الإسلامي فنحن الخاسرون ".


الثبات عند البلاء

" ولا تتمنوا لقاء العدو , فإذا لقيتموه فاثبتوا" حديث شريف

مارس الأستاذ الهضيبي قيادة الدعوة على هدي النبوة , مؤثرا للعافية فى غير وهن راغبا عما يسوقه الاصطدام بالحكومات

من شهرة وذكر و متقبلا البلاء إذا فرض عليه بعد ذلك بأمثل ما يتلقاه المؤمن من ثبات وجلد , رافضا كل ما يؤثره به إخوانه – رعاية لسنه ومقامه – من وسائل التخفيف والإيثار ليظفر من مثوبة البلاء حين يقع بحصة الأسد وليكون لتلامذته وأتباعه نعم الأسوة والمثل يفعل كل ذلك رحمه الله دون إثارة ضجة أو لفت نظر .

كان أشد ما أفزعني من حملة الاعتقالات التي واجهناها فى 13 يناير 1954 أن رأيت بين المعتقلين ثلاثة رجال : حسن الهضيبي ومنير دلة عليهما رضوان الله وأسامة حسن الهضيبي سلمه الله لخشيتي أن يكونوا ثغرة فى جدار المقاومة التي عرف بها رجال الدعوة فى الأزمات لأن أولهم شيخ جاوز الستين مثقل بطوائف من العلل والأسقام , فضلا عن أنه قضي حياته , حتي, حتى ذلك اليوم فى دعة وخفض بين عمله وبيته يأمر فيطاع , ويهيب فيجاب , ولأن الثاني يتسابق الناس فى طلب مودته والتقرب إليه فتملكني الوهم أن تكون مفاجأتهما بحياة الاعتقال على هذه التخشن الذين سبق لهم التدرج فى منازل الاعتقال منذ كانت فى مستوي الفنادق الراقية حتي أصبحت كما يواجهها هؤلاء المترفون لأول مرة مخابئ نكال وهلكة أما ثالثهما أسامة الهضيبي سلمه الله فقد كان – من دون ذرية الهضيبي كلها - منصرفا إلى عمله ومقالاته الهندسية معتزلا كل ما يتعلق بالدعوة والجماعة, لا يعرف عنا ولا يعرف عنه شيئا لولا أن يرانا ونراه فى دار أبيه على سبيل المصادفة !

غير أن تجربة الشدائد – وهي ميزان الرجال – قد كشفت من جوهر هؤلاء الثلاثة ما رأيتني بالقياس إليه صغيرا ضئيلا , احتاج منهم إلى التشجيع والمواسة ... فالهرم العجوز المثقل بالأمراض حسن الهضيبي فقد أثبتت هذه المحنة أنه أمام فى احتمال البلاء قدوة فى الصبر على الضراء وإليك طائفة من نماذج أبائه وجلده فى أشد مواطن البأساء :

مداوة الروماتزم المزمن بزمهرير البرد فى زنزانة الاعتقال :

كرثتني وطأة الزمهرير الذي واجهته ساعة أغلق على باب الزنزانة , ورغم ما كنت اشعر به من فضل قوة وشباب , وما كنت متجهزا به من فرش وأغطية وثياب, وما طال ألفي له من خشونة السجون والمعتقلات , فرأيت مشاعري كلها مشدودة إلى الأستاذ المرشد يستبد بها الهلع على حياته الغالية , لما ألعم من معاناته مرض الروماتيزم الحاد المزمن الذي يحوج أجلد الفتيان إلى مضاعفة الدفء فى وقت الشتاء فعمدت إلى فروة من جهازي ذات وبر كثيف طويل ودفعت بها مع حارس الزنزانة ليسلمها - لقاء أجر أغراه – إلى الأستاذ الهضيبي في زنزانته التي عرفت رقمها بعد مجهود , وقلت فى نفسي إنه جهد المقل ولكنها ستقيه الكثير من وطأة الزمهرير, غير أن الحارس لم يلبث أن عاد إلى والفروة بيده ليبلغني أن نزيل تلك الزنزانة أمره بإعادتها إلى وخشيت أن يكون الحارس أخطأ المقصود فرددته بكلمة رمزية وألزمته تسليم الفروة , والتأكد ممن أرسلتها إليه بجواب تلك الكلمة , ولكن سرعان ما عاد إلى بالجواب الرمزي ومعه الرفض الحاسم بدعوي أنه لا يشعر بأي برد يحوجه إلى الفراء .

وبعد يومين هيأت لى المصادفة الاجتماع بأستاذي الأبي أمام دورة المياه فما أمهلني أن أتكلم حتي قال : أدفء نفسك بفروتك أو ادفعها إلى من يحتاج إليها من إخوانك فقلت له : فدتك نفسي ! من أحوج إليها منك وأنت مريض بالروماتيزم والدوسنتاريا و... فإذا به يقاطعني فى عزة وبشاشة : لقد شفيت والله يا عبد الحكيم , ببرد هذه الزنزانة من كل ما أثقلني من الأمراض فى غابر السنوات !! وما كدت أسمع الجواب حتي غلبتي العبرات وتضاءلت فى نظر نفسي كأني حفنة تراب وأنا أردد فى خاطري " إن لله رجالا .."!

رفض المدفأة الكهربائية من مدير السجن :

وكان مدير السجن الحربي – الذى اعتقلنا به فى صحراء الهاكستيب – يتودد للأستاذ الهضيبي ويتظاهر بالأسف لاعتقاله والمسارعة فيما يسره ومن ذلك أنه أبلغه يوما عن مسمعي يقوم به لتزويد غرفته بأدوات التدفئة والراحة تقديرا لمقامه وسنه فأجابه المرشد رحمه الله : إني بأتم الراحة والدفء , وإذا كان باستطاعتك أن تقدم هذه المزايا لجميع الإخوان المعتقلين فيسرني أن أكون أخرهم وإلا فوفر على نفسك المساعي وأنت مشكور ..!!".

غير أن مدير السجن الذي عرف إباء الرجل ومثالية إيثاره اغتنم فرصة إخلائنا الغرف فى لحظات " الفسحة " اليومية فحمل مدفأة مكتبه الخاص وتركها مشتعلة فى زنزانة الهضيبي الذى ما كان يدخل الزنزانة ويفاجأ بنعمة الدفء ثم يلمح المدفأة فى زاوية من زنزانته حتي أقبل على باب الزنزانة من الداخل يوسعه طرقا بكلتا يديه, إلى أن أسمع الحارس فأسرع بفتح باب الزنزانة ليفاجأ بنزيلها قد حمل المدفأة بيده وقذف بها إلى الخارج ثم أغلق الباب على نفسه دون ضوضاء !..

وجاء مدير السجن يعاتبه , بحجة أنه أثره بها على نفسه , وإنه فى هذا ردا لكرامته, والمرشد لا يزيد على أن يدعو له , ويكرر أنه لن يقبل ميزة ولا هدية و لا معاملة خاصة , إلا بعد أن تعم كل المعتقلين من إخوانه .

إظهار القوة أمام خصوم الدعوة

وأدرك زبانية الحكام أن الشيخ الذي حسبوه فانيا سريعا إلى الاستسلام إن هو إلا معين أباء وجلد , تسري جواره شمما ومنعة فى نفوس الإخوان فيثبت الواهن ويضاعف من عزيمة الثابت .

وتفتقت مكايد الطغيان عن حيلة جديدة نقلوا بها المرشد العام إلى زنزانة محلقة بمكاتب الإدارة تفصله قرابة ميل عن مجمع زنزانات الإخوان بحيث لا يرونه إلا فى ساعة الفسحة من هذا البعد , لا يكلمهم ولا يكلمونه ! ولفت أنظارنا أن مرشدنا المتداعي البنية يقضي ساعة فسحته فى الحديقة المواجهة لمكتب المدير ناشطا فى القيام بتمرينات رياضية وهو بملابس ناصعة الألوان لعله كان يتوقر عنها وهو فى شرخ شبابه .

ولما كاشفته – فى أول لقاء هي لي معه – بغرابة هذا الحركات الرياضية , وهذه الملابس الزاهية على مقامه وسنه ضرب فى صدري بيده ضربة حنان وتنبيه وهو يقول :" دعهم لا يرون منا إلا البشاشة وارتفاع المعنوية حتي يتحققوا أن سهامهم طاشت , ولم يبلغوا منا ما يريدون ! ألم يبلغك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " رحم الله امرءا أراهم من نفسه القوة ".

النهي عن البكاء من خشية الله على مسمع الظالمين :

واعتاد الإخوان أن يجدوا فى السجون أسعد الفرص للخلوة بالله سبحانه وتعالي , حيث تشغلهم أعباء العمل للدعوة أوقات الحرية عن التفرغ لما يحبونه من مناجاته , وكان هناك أخ بين المعتقلين من أرقهم وأغزرهم دمعا وأعلاهم نشيجا فى مناجاة الله إذا حلك الظلام وسكنت الحركة بين المعتقلين والحراس .

واستطاع الأستاذ الهضيبي أن يتبين من هذا النشيج شخصية صاحبه و فما وقعت عليه عينه فى ساحة الفسحة العامة , حتي أقبل يقول له :" أنا أعلم أنك رقيق القلب تبكي من خشية الله , وتلك رتبة نغبطك عليها جميعا , ولكن جهلة الحراس إذا سمعوا بكاءك وأنت مرموق المكان فى الدعوة , أسرعوا إلى سادتهم الطغاة فأفهموهم أن قادة الإخوان قد أصابهم الهلع من الاعتقال , حتي أنهم ليبكون بكاء الأطفال ".

وراع المرشد والحاضرين من الإخوة أن يسمعوا جواب أخيهم :" يا فضيلة المرشد أنا أهون شأنا من أن يكون نشيجي بكاء من خشية الله , ولكني استعرض ذنوبي – إذا جن الليل – فيخيل لى من كثرتها أن الله تعالي قد أخذ الجماعة كلها بأن يكون فيها مذنب مثلي "! فيبارك المرشد هذا الشعور ويكرر التشديد على صاحبه أن يكبت أناته بحيث لا يسمعها إلا الله !

رفض الإفراج قبل التحقق من بطلان الاتهامات:

( ولما جاءه الرسول قال أرجع إلى ربك فأسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم ) [ سورة يوسف].

اتسعت موجة النقمة على الحكم العسكري بعد اعتقال الإخوان فى 13 يناير 1954 ودب الشقاق إلى صفوف رجاله البارزين , حتي اضطروا إلى اتخاذ قرار بالإفراج عن الإخوان المعتقلين فى حوالي 20 مارس 1954 , وخيل للقوم أنهم يستطيعون تقاضي الإخوان ثمنا جزلا عن هذا الإفراج , فأوفدوا إلينا اثنين من رجالهم يبشراننا بالإفراج ويجسان النبض لمفاوضتنا على ما يمكن أن تقدمه لتأييد الثورة عندما تعود إلينا الحرية , والرجلان هما الأستاذ فؤاد جلال الذي سيق إلى جوار الله و والسيد محمد أحمد وهو لا يزال على قيد الحياة يشغل مركزا رفيعا فى دولة اتحاد الجمهوريات .

وبينما كانت بشائر الإفراج تسري مع موجة من السرور فى أوساط عامة الإخوان وكان مبعوثا السلطة يتوقعان لمفاوضاتهما أو لمساوماتهما باهر النجاح سارع الأستاذ الهضيبي إلى إعلان أنه لن يقبل الإفراج – فضلا عن أن يتعهد بأي شئ فى مقابله – إلا بعد أن تمحص الاتهامات الخرافية التي برز بها اعتقال الإخوان , أو بعد أن تعلن قيادة الثورة بطلان التهم والاعتذار عن الاعتقال ! وهذا ما ذكرني بموقف نبي الله يوسف عليه السلام حين رد بشير الحرية التي أثره بها الملك حتي تستعلن للملأ براءته ويفتضح كيد امرأة العزيز.

وثبت المرشد والإخوان على هذا الموقف الأشم – بعد أن انفض أول اجتماع على غير اتفاق – حتي عاد المبعوثان بعد يومين ليفتحا باب السجن ويعتذرا للمعتقلين وتتبع ذلك زيارة قائد الثورة للمرشد فى بيته وزيارة وزير الإرشاد لكاتب هذه السطور فى داره فى مسعي لإزالة ما علق بالنفوس من مظالم الاعتقال .

إيثار الكفاح على السلامة فى أقسي أوقات المحنة :

شاءت الأقدار أن يكون الأستاذ الهضيبي فى سوريا ولبنان فى صيف عام 1954 بعد زيارة للمملكة العربية السعودية قام بها فى أول ذلك الصيف إجابة لدعوة من الملك السابق سعود بن عبد العزيز رحمه الله .

وفيما كان الهضيبي موضع الحفاوة والتكريم من جميع الأوساط الدينية والاجتماعية والسياسية فى البلدين الكريمين , متنقلا بين المدن والقري فى أحفال عامة , مستجما فى بعض المصايف حين تتهيأ له ومضات من الفراغ والراحة , إذا بحملة استفزاز مسعورة يطلقها حاكم مصر يومذاك على الإخوان المسلمين فى مصر فى مدينة من محافظة الشرقية , وإذا الأنباء تتواتر عن أتباع ذلك بموجة اضطهاد عارمة تنصب على الجماعة فتغلق مراكزها التي شارفت الألفين , وتعتقل قادتها وتشرد الموظفين من أعضائها وتصادر أموالها , وتلفق جديدا وقديما من الاتهامات لأهداف الجماعة ومناهجها !

وكان العزاء الوحيد لأصدقاء الدعوة وأحرار المنصفين فى السعودية وسوريا ولبنات أن المرشد العام بمنجاة من هذه المحنة , ,أنه لا شك سيبقي خارج مصر إن لم يكن إيثارا للسلامة – وهو إليها فى حاجة – فحرصا على استنفار الرأي العام فى دنيا العرب والإسلام للإنكار على حكام مصر وحشد كل طاقة من طاقات الخير لشد أزر المجاهدين داخل الأسوار .

غير أن الهضيبي – إمام الجهاد والصدق والثبات والصبر – ما كاد يسمع أنباء النكثة الجديدة للسلطات المصرية , وما أدت إليه من تسجير المحنة والبطش بأهل الدعوة فى أرض الكنانة, حتي أمر بالتجهيز للعودة إلى مصر , وراح يفند نصائح أحبابه والغيورين عليه وعلى دعوته وجماعته بالبقاء خارج " القفص" خدمة للدعوة وتزويدا لها بقيادة حرة تملك من العمل الإعلان وتعبئة الرأي العام مالا سبيل إلى شئ منه ف مصر بحكم البطش العسكري والرقابة الصحفية .

ذلك بأن الهضيبي الذى كان – عليه رضوان الله – دائم القول بأ، الدعوة لله يتكفل بنصرها دون حاجة إلى عبادة – كان ينادي بأنه لا يحل لمؤمن بالدعوة أن يدخر عنها جهدا يستطيعه , أو مثلا صالحا يستطيع ضربه مع الاطمئنان بعد ذلك إلى أن نصر الله آت لا محالة , ولو كانت هذه الجهود لا تبلغ قوة ريشة تتحرش بها عاصفة .

وبهذا المنطق الصافي سارع بالرحلة إلى مصر أعذارا إلى الله بضرب المثل واستنفاد الطاقة وصيانة للدعوة من أن يشاع أن المرشد العام يهش لقيادتها فى الرخاء ويترك جنودها دونه يصطلون بنارها فى المحنة والبأساء .

الإفراج الصحي وغباء استمراره بعد الشفاء :

وفى عام 1957 على ما أذكر و قررت لجنة من خمسة أطباء مسيحيين – فيما يلغني – أن حالة الهضيبي تنذر بالهلاك , وأنها لا تستطيع تحمل المسؤولية عن بقائه رهن الاعتقال و فصدر قرار بالإفراج الصحي عنه , نقل على أثره إلى بيته حيث توفرت له أسباب العلاج الذى أزاح الله به شنج الخطر عن حياة المرشد الصديق .

بيد أن الهضيبي الذي يعي تبعات القيادة تجاه الجنود ما لبث أن أخذه الحنين إلى إخوانه وأبنائه المسجونين ,ولم تطب نفسه بأن يكون فى نظر الطغاة ذلك الواهن الضعيف الذي يتلقف مثل هذه الفرصة لينعم بحياة الدعوة تميزا على أخوة له فى الجهاد هو أولاهم بأوفر حظ فى البلاء!

لذلك ما كاد يتنسم أريج العافية حتي سارع بالكتابة إلى السلطات يبلغها أنه قد عوفي بحمد الله من عارض المرض الذى أوجب الإفراج عنه ,و أن باستطاعته العودة إلى السجن لقضاء باقي المدة المحكوم بها عليه !

أما والله لقد كان حسن الهضيبي – على تواضعه وفراره من الأضواء – بقية السلف وواحد الزمن, والشاهد الناطق بمعني الحديث النبوي الشريف الخير فى وفي أمتي إلى يوم القيامة


من رسائل الإمام الهضيبي إلى المسئولين

إلى رئيس وزراء مصر

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... وبعد :

فإنما حملنا الله من أمانة الجهر بالحق والنصح للحاكم يتقاضانا أن نصارح دولتكم بما يخالج نفوس الأمة المصرية .

أما عن الموقف الداخلي فأول ما نطالب به إلغاء الأحكام العرفية وتحرير البلاد من قيودها الشاذة على الحريات الاجتماعية والاجتماعات والأقلام , ذلك أن الأحداث التي دعت إلى إعلانها – وإن لم نسلم بجواز إعلانها لتلك الأحداث – قد اختفت أثارها واستتب الأمن باعتراف كبار المسئولين أوفر استتباب فأية مصلحة تصيبها البلاد من فرض القيود باختيارها على حرية أبنائها وهي تقف من أجل الحرية فى صراع مرير مع أعدائها .

ولا وجه فيما نعتقد للاحتجاج بقضايا 26 يناير لمد الأحكام العرفية فلن تقتصر بإلغائها يد العدالة عن أخذ المجرمين . وفى مواد القانون العام من روداع الأحكام من مثل هذه الجرائم مالا يخشي معه أن يتعرض المجتمع والعدالة لسوء و فإن أبت الحكومة – وهو مالا تقرها عليه – فلا يصح أبدأ أن يجاوز أمده الفصل فى هذه القضايا ولا يجوز أن يتعدي نطاقها إلى مصادرة الحريات أو سوق الناس إلى المعتقلات .

ولذلك يري الإخوان المسلمون ضرورة المبادرة إلى الإفراج عن المعتقلين جميعا من اى حزب كانوا وإلى أية هيئة انتسبوا فإن المثل الأعلي الذي يستهدفه الإخوان هو كفالة الحرية لأبناء الوادي جميعا بقطع النظر تماما عن رأي الإخوان المسلمين فى الهيئات والأفراد الذين فرض الحكم العرقي قيودا على ا أعطاهم الدستور من حريات . بقيت كلمة أخيرة فيما ألنته الحكومة من رغبة التطهير فى مراء فى أن التطهير غاية كريمة لا يعترض عليها أحد بيد أن هناك ملاحظات فى هذا الصدد يتم بها واجب النصح والمشورة .

أولا : ينبغي أن يوجه التطهير إلى النفوس والأخلاق وأولاها بالبدء نفوس القادة والمسئولين .

ثانيا : يجب أن يعني التطهير بصفة أساسية بتطهير المجتمع المصري من الموبقات والمفاسد الأخلاقية ومظاهر اللهو الحرام التي تحطم القوي وتزري بالمثل العليا وتستنزل غضب الله على الجماعة ففي الحديث الشريف " لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم ".

ثالثا: لابد أن يتناول التطهير كل العهود دون تفرقة وأن يقدم إلى محكمته الموالون والمخاصمون على السواء " وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربي " ( ولا يجرمنكم شنأن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوي ) وأن يشمل أنواع الجرائم جميعا سواء ما يتعلق بالمال كالرشوة والاختلاس أو ما يتعلق بالاستبداد وسوء استخدام السلطة وفساد الحكم كجرائم التعذيب والبغي على الحريات وترويع الأمنين , فالحق واحد والضمير لا يتجزأ والله لا يقبل منا أن نضرب على السارق حتي نعذر إليه بأخذ الباغي الجائر والمستبد الظالم , وفى الحديث الشريف " أ، الناس إذا رأوا الظالم فلم يضربوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعذاب من عنده "

رابعا : نرجوا ألا تكون قضية التطهير على مالها من أهمية وجلال مشغلة عن قضية الوحدة والاستقلال حتي لا ندع المستعمرين يتوهمون أنا اصطنعنا ميدانا صداع الداخلي لا تفرغ القوي منه لصراع الاستعمار , ذلك الصراع الحق الذى تؤمن به البلاد ويحتشد له الشعب بجميع طوائفه وفئاته وتريده دائما موصولا لا يعرف قرارا ولا يلقي سلاحا حتي تتحقق الوحدة ويجلو أخر جندي أجنبي عن أرض الوادي العزيز ( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم )

والله أكبر والحمد لله .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته 27 مارس 1952


إلى اللواء محمد نجيب

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
السيد الرئيس اللواء أركان حرب : محمد نجيب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس مجلس الوزراء .

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...

أما بعد فإن مجلس الثورة قد أصدر قرارا فى 12 يناير سنة 1954 بأن يجري على جماعة الإخوان المسلمين قانون حل الأحزاب السياسية . ومع ما فى هذا القرار من مخالفة لمنطوق القانون ومفهومه فقد صدر بيان نسب إلينا فيه أفحش الوقائع وأكثرها اجتراء على الحق. وقد حيل بيننا وبين مناقشته والرد عليه و واعتقلنا ولم نخبر بأمر الاعتقال ولا بأسبابه . وقيل يومئذ أن التحقيق فى الوقائع التي ذكرت به سيجري علنا واستبشرنا بها القول لأننا انتظرنا أن تتاح لنا فرصة الرد عليه لنبين أن ما اشتمل عليه كله على الصورة التي جاءت به لا حقيقة له فيعرف كل إنسا قدره ويقف عند حده ولكن ذلك لم يحصل .

وإلى أن تتاح لنا الفرصة فإننا ندعو كل من اتهمنا وندعو أنفسنا إلى ما أمر الله تعالي به رسوله عليه الصلاة والسلام حين قال ( قفل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ).

وقد استمرت حركة الاعتقالات شهرين كاملين حتي امتلأت المعتقلات والسجون بطائفة من أطهر رجالات البلد وشبابها بلغوا عدة ألوف منهم مواقف فى الدفاع عن البلاد وعن حرياتها شهد بها الأعداء قبل الأصدقاء وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ولم يكتفوا بالكلام كما يفعل كثير من الناس , أما كيفية الاعتقالات ومعاملة المعتقلين فلن تعرض لها هنا .

وقد بدت فى مصر بوادر حركة أن صحف فسوف تغير من شئونها وأنظمتها وقرار حل الإخوان وإن إنزال اللافتات عن دورهم فإنه لم يغير الحقيقة الواقعة وهي أن الإخوان المسلمين لا يمكن حلهم لأن الرابطة التي تربط بينهم هى الاعتصام بحبل الله المتين وهي أقوي من كل قوة . ومازالت هذه الرابطة ولن توال كذلك بإذن الله, ومصر ليست ملكا لفئة معينة ولا حق لأحد أن يفرض وصايته عليه ولا أن يتصرف فى شئونها دون الرجوع إليها والنزول على إرادتها لذلك كان من أوجب الواجبات على الإخوان المسلمين أن يذكروكم بأنه لا يمكن أن بين فى يبت فى شئون البلاد فى غيبتهم وكان ما يحصل من هذا القبيل لن يكون له أثر فى استقرار الأحوال ولا يفيد البلاد بشئ.

وإن ما دعوتم إليه من الاتحاد وجمع الصفوف لا يتفق وهذه الأحوال فإن البلاد لا يمكن أن تتحد وتجتمع صفوفها وهذه المظالم وأمثالها قائمة .

نسأل الله تعالي أن يقي البلاد من كل سوء وأن يسلك بنا سبيل الصدق فى القول والعمل وأن يهدينا غلى الحق وإلى صراط مستقيم .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

السجن الحربي

مارس 1954

حسن الهضيبي

المرشد العام للإخوان المسلمين


إلى البكباشي جمال عبد الناصر

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .

السيد رئيس مجلس الوزراء البكباشي جمال عبد الناصر...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .... وبعد..

فإنكم دون شك تذكرون أنكم اتفقتم معنا على إنهاء الوضع الشاذ الذى أوجده حل جماعة الإخوان المسلمين يوم دعوتم الإخوان إلى تناسي الماضي والتعفية على أثره ورأيتم أن خير البلاد ومصلحتها فى أن يبدأ الإخوان ورجال القيادة عهدا جديدا من التعاون .

وقد سلمتم يومئذ بوجوب إلغاء قرار حل جماعة الإخوان المسلمين وبالإفراج عن جميع المعتقلين وبرفع الثر الذى ترتب على بيان الحل رفعا صريحا يغنينا عن التعرض لمناقشة البيان .

وبصرف النظر عن أن المسائل الخاصة بالجماعة لم ينته الرأي فيها إلى ما اتفق عليه فإن مصلحة الوطن تقتضينا أن نبذل لكم من رأينا فى مشاكله ما نري أن يدعو إلى اطمئنان الناس كافة ويحقق الاستقرار الذي لا يمكن بدونه أن يتم شئ من إصلاح الأمور الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من الشئون على وجهه الصحيح . الدين النصيحة لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم كما قال الرسول عليه السلام ومن حقنا أن نؤدي لكم الواجب علينا من ذلك .

إن مصر اليوم تجتاز مرحلة من أدق المراحل التي مرت بها . فنحن جميعا نهدف غلى تحرير البلاد وإخراج الإنجليز منها ولن نخرجهم الخطب والبيانات وإنما نخرجهم كفاح شاق طويل ليس هذا موضع بيانه . ونحن لا نريد الدفاع عن أنفسنا فحسب ضد اسرائيل التي استأسدت علينا فى الآونة الأخيرة . بل نريد إخراجها من فلسطين ولا تزال الحرب بيننا وبينها قائمة وإن كنا فى هدنة .

وأول ما يجب علينا أن نتخذ العدة لذلك وأن تعد جيشنا لمهمته الأصلية وواجبه الأول , وإن مصر لتحتاج إلى الاستقرار هو أمر لا ينال بالكلام . ولا يدرك بالشدة ولكنه ينال يشعر شعورا حقيقيا بأنهم حماة الثورة . وحماة ما اتجهت إليه من دروب الإصلاح . والثورة لابد للمحافظة عليها من أن تحوطها القلوب وتذود عنها أما القوة وحدها فإنها لا تحقق الغاية المقصودة . ويدرك الاستقرار كذلك بالعدل والإصلاح والرفق إنه يغني واحد من هذه عن الآخر . وإن للإستقرار وسائل أحب أن أضع تحت نظركم منها ما يأتي :

1- إعادة الحياة النيابية :

لا ريب أن الحياة النيابية هى الأساس السليم لكل حكم فى العصر الحاضر وإذا كانت تجارب الماضي قد أظهرتنا على بعض العيوب فمن واجبنا أن نخلي حياتنا النيابية من العيوب وأن نجعلها أقرب ما تكون إلى الكمال . والأمة لا تتعلم بإلغاء الحياة النيابية فى فترة الانتقال . وإنما نتعلم بممارسة الحياة النيابية بالفعل فلنشرع فورا فيما يؤدي بنا إليها فى أقرب وقت .

2- إلغاء الاجراءات الاستثنائية والأحكام العرفية :

فإن الإجراءات الاستثنائية إذا أفادت الهدوء المؤقت والإستقرار الظاهر فإنها تخلق حالة من الغليان وتذكي النار تحت الرماد ولن يؤمن على مستقبل الوطن إذا اشتعلت فيه النيران .

3- اطلاق الحريات:

وأود أن تطلقوا الحريات جميعا وعلى الأخص حرية الصحافة فإن فى ذلك خير مصر وأمنها وسلامتها ولقد رأيتكم تأخذون على الناس أنهم لم يقولوا لفاروق "لا" حيث يجب أن تقال وأنتم الآن بفرض الرقابة على الصحف تمنعون الناس أن لا يقولوا لكم " لا" حيث يجب أن تقال وما هكذا تربي الأمة على نصرة الحق وخذلان الباطل .

ونحن لا نسلم بأن تتجاوز الصحافة حدودها ولا ا، يطلق لها العنان لتلبس الحق بالباطل . وإنما نحب أن تترك لتقول الحق فى حدود القانون . فإذا تجاوزته حق عليها العقاب . وقد تجدون فى معارضة الصحف لكم خيرا كثيرا.

وغني عن القول إن إطلاق حريات المعتقلين وبعض المحكوم عليهم من المحاكم الاستثنائية أمر توحي به ضرورة جمع الشمل وتوحيد الكلمة ويوجبه الحق والعدل .

إما الإصلاح فمجاله واسع وفى أيدينا إن إصلاح النفوس أولي من كل إصلاح لأنه أسا لكل إصلاح .

والله نسأل أن يرزقنا الصدق فى القول والعمل وأن يعصمنا من الزلل. وأن يهدينا جميعا سواء السبيل إنه سميع مجيب .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

4 مايو 1954

حسن الهضيبي

المرشد العام للإخوان المسلمين


إلى رئيس مجلس الوزراء

بسم الله الرحمن الرحيم
السيد رئيس مجلس الوزراء ....
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... وبعد.....

فقد اطلعت على ما ذكرتموه خاصا بشأن الإخوان المسلمين وموقفهم منكم حول المفاوضة والمعاهدة ولذلك حرصت على أن أذكر الوقائع التي ربما ندت عن ذاكرتكم.

إن اتفاق بيني وبين المستر ايفانس على شيء من شئون مصر لم يحصل وأنتم تعلمون أنه طلب مقابلتي وقد كنتم يوم الاثنين 20 فبراير 1953 بمنزلي مساء فأخبرتكم بأني حددت يوم الأربعاء 22 فبراير لهذه المقابلة وسألتكم عما إذا كان هناك شئ يمكن أن نقوله له, وأخبرتكم بأن الإخوان المسلمين عند قولهم أنهم ليسوا على استعداد لمفاوضة الإنجليز ما دامت أقدامهم فى مصر . وذكرت لكم ما ذكرته للرئيس على ماهر بشأن موقفنا فى كل مفاوضة فقلت إننا نريد أن ندخل المفاوضة متفقين على التفاصيل .

وقد التقيت بالمستر ايفانس أنا وطائفة من الإخوان واستمعنا إلى ما أراد أن يقول دون أن نناقشه إلا مستفسرين وكان خلاصة ما قال , أنهم يريدون أن يجلوا عن القنال ولكن لهم قاعدة فيه يبغون تركها تحت حراسة الجيش المصري وفيها بعض خبراء من الإنجليز يلبسون الملابس المدنية , ويقدر عددهم الجيش المصري , وتكون هذه القاعدة معدة لاستعمالهم ولاستعمال أصدقائهم وقت الحرب , وقال إنهم يكون لهم الحق فى العودة إذا هوجمت سوريا أو إحدي البلاد العربية وأن مدة المعاهدة يتفق عليها .

ولما فرغ من كلامه قلت له ما رأيكم فى الحياد ينسحب الانجليز من جميع البلاد الإسلامية وتكون هذه البلاد كتلة واحدة تقف على الحياد لأنه لا مصلحة لنا في الحروب التي لا تقوم إلا من أجل التسلط علينا وعلى الأمم الضعيفة . فقال إن فكرة الحياد مستحيلة لأن روسيا تهاجمكم فقلت له أن هذا فرض يجوز أن يتحقق ويجوز ألا يتحقق وأما وجود الإنجليز فى بلادنا فحقيقة واقعة وقد أتي احتلالهم لها بحربين لم يكن لمصر مصلحة فيهما وحيدة قنال السويس لا تتأتي مع وجودهم به .

ولما استمر فى قوله أن روسيا لها مطامع قلت له لن نسلم أنفسنا لأحد ويمكن بعد خروجكم أن نعقد معكم اتفاقا سريا على مساعدتنا إذا هاجمتنا روسيا ويكون دخولكم أراضينا بناء على طلبنا وتخرجون تنتهي مهمتكم . وانتهت المناقشة على ذلك .

وفى يوم السبت 25 فبراير 1953 اجتمعنا منزل منير دله مع من ذكرتهم فى خطابك ما عدا حسن العشماوي الذي عاد متاخرا من لبنان حيث كان فى مهمة كلفتموه بها وأنهيت إليكم ما دار فى هذه المقابلة فقام عبد الحكيم عامر وقال إن هذا أحسن ما قيل , وقال صلاح سالم يجب أن نطلع على جميع التفاصيل فقلت نحن يكفينا أن نطلع على الخطوط العريضة –وقد كلفتم صالح أبو رقيق وحسن العشماوي ببحث مسألة القاعدة فقال صالح هذه مسألة لا تبحث إلا إذا قررتم أن تترك قاعدة للإنجليز فى القنال أما إذا كنتم ترفضون ذلك فلا محل لبحثها .

من ذلك يتضح أننا لم نتفق مع ايفانس على شئ لأن وجهة نظرنا لم نلتقي ولم يكن فى مهمتنا أن نتفق على شئ وأننا كنا على ما اتفقنا معكم عليه نستطلع الآراء .

وقد أنهيت هذا الحديث أيضا إلى السيد سليمان حافظ نائب الرئيس وطلبت منه أن يخبر الرئيس لأني لم أستطع لقاءه . وأنهيته كذلك إلى السيد محمود فوزي وزير الخارجية لاختصاصهما فى ذلك الوقت وهذه هى المقابلة الوحيدة التي تحدثت فيها فى السياسة مع المستر ايفانس . على أنكم ذكرتم أنني اتفقت مع المستر ايفانس على ما هو أسوأ من المعاهدة ولم تذكروا هذا الأسوأ.

وبقي أن تدلوني على الموضع الذي أنكرت فيه لقائك أو لقاء المستر ايفانس فى هذه المسألة فقد حاولت أن أذكر الحقيقة لكل الناس فلم تنشر الجرائد شيئا أما ما قلتم من أننا نرمي إلى الهدم ولا نسعي إلا إلى الحكم فأنت تعلم أنني أكدت لكم أنكم أمسكتم بأيدينا وأجلستمونا على كراسي الحكم لما قبلنا . يشهد بذلك الرئيس محمد نجيب عندما عرض علينا الاشتراك فى الوزارة فى 8 ديسمبر 1953 والله يعلم ما تخفي السرائر وتكن الصدور .

ومن الخير لكم وللبلاد أن تسمحوا لمن يريد أن يتكلم ونقد المعاهدة بشئ من الإنصاف فينشر ما يريد حتي يحكم الناس بفعلنا لا بقولك وحتي يستطيعوا أن يعرفوا حقيقتها من جملة الحجج ولا يكتفوا بسماع طرف واحد .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...

حسن الهضيبي

المرشد العام للإخوان المسلمين


الإخوان المسلمون حملة عقيدة

الإخوان المسلمون حملة عقيدة ليس من الهين أن يتركوها أو يتركوا الدفاع عنها

السيد جمال عبد الناصر رئيس مجلس الوزراء ......

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... أما بعد ... فإني لازلت أحييك بتحية الإسلام وأقرئك السلام , ولا زلت ترد على التحية بالشتائم واتهام السرائر واختلاق الوقائع وإخفاء الحقائق والكلام المعاد الذي سبق لكم قوله والاعتذار عنه . وليس ذلك ن أدب الإسلام ولا من شيم الكرام ولست أطمع فى نصحك بأن تلزم الحق فذلك أمر عسير وأنت حر فى أن تلقي الله تعالي على ما تريد أن تلقاه عله , ولكني أريد أن أبصرك بان هذه الأمة قد ضاقت بخنق حريتها وكتم أنفاسها وأنها فى حاجة إلى بصيص من نور يجعلها تؤمن بأنكم تسلكون بها سبل الخير ,ان غيركم يسلكون بها سبل الشر والهدم والتدمير إلى آخر ما تنسبون إليهم . إن الأمة فى حاجة الآن إلى القوت الضروري القوت الذي يزيل عن نفسها الهم والغم والكرب . إنها فى حاجة إلى حرية القول فمهما قلتم أنكم أغدقتم عليها من خير فإنها لن تصدق إلا إذا سمحتم لها بأن تقول أين الخير وسمحتم لها أن تراه , ومهما قلتم أنكم تحكمونها حكما ديمقراطيا فإنها لن تصدق لأنها محرومة من نعمة الكلام والتعبير عن الرأي . وإذا حققتم ذلك فإننا نعدكم بأن نذكر الحقائق ولا نخاف من نشرها ونصدق القول ولا نشوبه بالكذب والبهتان والاختلاق . ولا نتهم لكم سريرة لا نبادلكم فيما تضمرون وتدخرون فى أنفسكم ولا نجاري بعض وزرائك فيما يكتبون من غثائه وإسفاف . وإنما نعدكم – كما هو شأننا – بأن نناقش المسائل مناقشة موضوعية على ما تعطيه الوقائع التي ترضونها أو تصدر عنكم أما أن تعطوا أنفسكم الحق فى الكلام وتحرموا الناس منه وأما أنكم تفرضون آرائكم بالنبوت على الأمة فشي لا يعقله الناس ولا ترضاه الأمة.

أيها السيد ... إن الأمة قد ضاقت بحرمانها من حريتها فأعيدوا إليها حقها فى الحياة وإذا كان الغضب على الهضيبي وعلى الإخوان المسلمين قد أخذ منك كل ما أخذ فلكم الحق أن تغضبوا – وهذا شأنكم – ولكن لا حق لكم فى أن تحرضوا الناس على الإخوان المسلمين وتغروهم بهم وليس ذلك من كياسة رؤساء الوزارات فى شئ فإنه قد يؤدي إلى شر مستطير وبلاء كبير .. ومن واجبكم أن تحافظوا على الناس مخطئهم ومصيبهم ون تجمعوا شمل الأمة على كلمة سواء . وأنكم لا شك تعلمون أن الإخوان المسلمين حملة عقيدة ليس من الهين أن يتركوها ولا أن يتركوا الدفاع عنها ما وجدوا إلى الدفاع سبيلا.

فإغراء بعض الأمة بهم وتحريضهم عليهم من الأمور التي لا تؤمن عواقبها .

وإنني أؤكد لكم أن فى وسعك أن تمشي ليلا أو نهار وحدك بلا حراس وفى أي مكان دون أن تخشي أ، تمتد إليك يد أحد من الإخوان المسلمين بما تكره . أما أن يمد أنصارك أيديهم بالسوء إليهم استجابة إلى إغرائك فإن مسئوليتك عند الله عظيمة ولعل الذى حملك على إبداء العداوة والبغضاء للإخوان المسلمين هو أنهم عارضوا المعاهدة فالإخوان المسلمون لن يؤمنوا بها دون أن تناقش فى برلمان منتخب انتخابا حرا يمثل الأمة أكمل تمثيل

حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين


خطاب فضيلة المرشد العام فى ذكري مولد الرسول صلى الله عليه وسلم

ألقي فضيلة المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي هذا الخطاب الجامع فى الحفل الكبير الذي أقامه المركز العام للإخوان المسلمين وحضره الرئيس اللواء محمد نجيب وكثيرون من رجال العروبة والإسلام واحتشد فيه بضعة آلاف ضاق بها ميدان الشهيد حسن البنا بالحلمية الجديدة الشوارع المؤدية إليه . نوبة الحق دائما ...ونخذل الباطل دائما

توجهت جريدة الإخوان المسلمين فى عددها الصادر فى 24 من رمضان 1373 هـ الموافق 27 من مايو 1954 بعدة أسئلة للإمام حسن الهضيبي وكانت إجاباته عليها كما يلي :

ما موقفكم من الحكومة ... هل أنتم مؤيدون أن معارضون ؟

هذا سؤال لا يوجه للإخوان المسلمين , فإن التأييد والمعارضة بالمعني المعروف لا يصدر إ عن الأحزاب السياسية , أما نحن فنؤيد الحق دائما ونخذل الباطل دائما لا يؤثر علينا فى ذلك صداقة أو عداوة , لا ينبغي إلا وجه الله تعالي , ومن ثم فإنك تجل أننا نعرض أحيانا ونوافق أحيانا , ولا يمكن أن نسمي معارضين أو مؤيدين .

هل معني السماح للإخوان بإصدار جريدتهم أن قرار الحل يعد منتهيا ؟

نرجو أن يكون ذلك كذلك .

إذا نشبت معركة التحرير فى القنال فهل ستطالبون بضمانات معينة قبل الاشتراك فيها إذا اشتركتم؟

نحن ننتظر المعركة بفارغ الصبر ولن نطلب من أحد ضمانات لأننا فيما نفعل لا نعتمد على غير الله .

طالبت الحكومة الشعب أن يبدي رأيه فى مشروع المجلس الوطني فهل تقدمتم بشئ للحكومة بشأنه ؟

لقد أبدينا رأينا فى الحال التي يجب أن تكون عليها البلاد , وأطلعنا رئيس الحكومة على ذلك فلا محل لإبداء الرأي فيما يخالفها.

قضية فلسطين... والوحدة العربية وأثناء رحلة الإمام حسن الهضيبي إلى سوريا سألته جريدة الشعب السورية فى عددها الصادر فى 22 من ذي القعدة 1373 هـ:

ما هو رأيكم فى القضية الفلسطينية , وما هي الطرق العملية لإنقاذ فلسطين؟

إن فلسطين لن تعود إلى أهلها إلا بمثل القوة التي سلبت بها , وقد يترائي ذلك بعيد لبعض ذوي الهمم الضعيفة , ولكن الحق لابد أن ينتصر

ما هو رأيكم فى الوحدة العربية الإسلامية ؟

إننا نعتبر الأمم الإسلامية أمة واحدة , ولا مصلحة لها فى أ تتفرق فتخالف أمر الله , وفى الاتحاد قوة وليس من الضروري أن تديرها حكومة مركزية واحدة وكل بلد أدري بحاجاته ولكن ينبغي أن يكون بينها نظام أشبه بنظام الولايات المتحدة الأمريكية يجمع كلمتها فى الشئون الخارجية والداخلية والجيش ... الخ.

وأما مركز إخواننا المسيحيين فى هذه الدول فلا شك أن الإسلام قد نظمه بصفة لا يوجد لها مثيل فى القوانين الحديثة ولهم مالنا , وعليهم ما عليهم .

ما هو نوع الحكم الصالح الذى يلائم طبيعة البلاد العربية ؟

أى حكم يدفع إلى الاستقرار وتهيئة الأمة إلى ممارسة شئونها بنفسها ولا شك أن بعض البلاد لم تنجح فيها الحياة النيابية النجاح المطلوب , ولكن ذلك كان فعل الاستعمار وما أدخله على نفوس الضعفاء من الوهن ونحن خليقون أن نعدل دساتيرنا بما يتفق مع مصالحنا .

إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم


آفات القانون الوضعي

قرأت قول الله تعالي ( قال اهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدي فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقي ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة اعمي . قال رب لم حشرتني أعمي وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسي).

قرأت هذه الآيات ووقفت عندها وتأملتها . كانت هذه وصياته تعالي لآدم وزوجه حين أخرجهما من الجنة وأهبطهما إلى الأرض فهي من أقدم الوصايا على الإطلاق لذلك كانت خليقة بأن تكون سنة كونية – لا يتخلف مدلولها عن أحد من خلقه تعالي فى أى حال فى الأحوال – والقرآن – مليء بالسنن الكونية .( أى القواعد من مثل واحد وواحد يساوي اثنين وخمسة فى ستة يساوي ثلاثين , أشياء ثابتة لا تتغير ولا تتبدل) وهذه السنن الكونية . والله أعلم وضعت لإرشاد الخلق غلى الحق , لأن الإنسان قد يجد بتفكيره وتدبير وأنه يستطيع ن يمضي فى هذه الحياة بما يوحي إليه عقله من خير يحسبه شرا وشر يحسبه خيرا لذلك وللحد من سلطان هذا العقل وضع الله تعالي تلك السنن الكونية للإنسان العاقل ليهتدي بها ويسير على رشدها كما وضع لسائر مخلوقاته من النواميس ما هو ثابت دائم كالشمس وما فى الأرض وما بينهما وما تحت الثري .

كذل ذلك لو تأملته لوجدته يسير على سنن لا تتخلف أبدا فكذلك الإنسان وضعت له السنن الكونية فإن ائتمر بما أمر الله وانتهي عما نهي كان له جزاء الحسني فى الدنيا والآخرة .

تأمل الآية الكريمة ( فإما يأتينكم مني هدي فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقي ) وهدي الله تعالي هو ما جاءت به الرسل والأنبياء , من اتبعه فقد نجا من الضلال والشقاء . هذا وعد من الله حق لو اطمأنت نفوسنا إليه ورضينا به آمنا وعملنا بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام القائل " ما تركت من خير إلا وأمرتكم به ما تركت من شر إلا ونهيتكم عنه " لكان لنا عند الله ما وعد به المطيعين والحق لنا أن نكون له من السائلين.

وتأمل لآيات الكريمة أيضا ( ومن أعرض عن ذكري ) أى هداي ( فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمي ..) تري فيها ما يصيب المخالفين لأمر الله تعالي من جزاء فى الدنيا وعذاب فى الآخرة .

ونحن قد أتانا هدي الله على لسان نبيه الكريم فهل اتبعنا الهدي فيحق لنا ألا نضل ولا نشقي عنه فلنا – ولا تبديل لأحكام الله – معيشة ضنك ؟؟ وقانا الله من جزاء يوم الحشر .

إن بلاد العالم الإسلامي تحكم اليوم إما بقوانين وضعية مستعارة من القوانين الأوربية لا صلة لها بالقرآن ولا بهدي القرآن , وإما أن حكامها يدعون أنهم يحكمون بالقرآن وهم عن معاني القرآن بعيدون يحسون أنه صلاة وصوم وحج ولا يدركون إنه مع ذلك علم وفهم وتربية وأخلاق وجها فى سبيل الله ومعاملة وتحقيق العدل الاجتماعي الذي كلفه الله للناس على صورة لم يصل إليها الناس فى كافة عصورهم لذلك كانت دعواهم أن دستورهم القرآن من الدعاوي التي تضر بالإسلام والمسلمين أبلغ الضرر فإنها تكون مقرونة دائما بجهلهم وفقرهم وتأخرهم وتخلفهم عن ركب الحياة فاتخذ الناس من ذلك دليلا على أن الإسلام غير صالح لهذه الحياة وما العيب فى الإسلام ولكن العيب فى القائمين عليه , وبلاد العالم الإسلام فشا فيها من ذميم الأخلاق ما لا يمكن معه إن يصدق أن المتخلفين بها مسلمون .

فأكل أموال الناس بالباطل أصبح سجية فيهم فلا يسأل الإنسان عن ماله أمن حلال كسبه فيحمد الله أم من حرام جناه فيتوب إليه , ويذكر قول الرسول عليه السلام " كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به" فالقمار المحرم أصبح وسيلة من وسائل الكسب التي تترائي للناس كأنها مشروعة لفرط ما ألفوها ولا يبالي الواحد أ، يأكل مال أخيه ولا يسأل نفسه عن سبب استحلاله لماله . والرشوة والاختلاس وخيانة الأمانة أصبحت كأنها من مقررات الحياة وأنها جزء من مرتبات وعمل العاملين . الأمر الذي تسبب عن تعطيل المصالح العامة والخاصة لعدم ثقة الناس بعضهم ببعض .

وظلم الأغنياء للفقراء وعدم إيفائهم حقوقهم التي أمر الله زاد غني الأغنياء وفقر الفقراء وجهلهم وأفسد الحياة الاجتماعية وأخل بتوازنها.

والزنا و الفجور واستهتار الرجال والنساء وانتهاك الحرمات وشرب الخمر صار كل ذلك شيئا يتحدث الناس بحقائقه كأنها من الأمور المباحة وبالأكاذيب فيه كأنها من دواعي الفخر . ولا تسأل عن الكذب والنفاق والغيبة والنميمة وسخر الناس بعضهم ببعض والتنابز بالألقاب واتهام الناس بالباطل.

هذه النقائض كفيلة بهدم المجتمع نفترقا كل يوم ولا نكلف أنفسنا أن نعرضها على كتاب الله حتي نعلم أننا أعرضنا ع هدي الله تعالي فكان جزاؤنا ما نحن فيه من ضنك المعيشة وصدق الله العظيم ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا).

للنصر شروط:

( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).

إن وعد الله حق وصدق , وقد أكد تبارك وتعالي لينصرن من ينصره , وأشار إلى أن قوته وعزنه كفيلة بهذا النصر ثم بين من القول أو الفعل بل إنه لا يتأتي إلا بقائمة طويلة من الأعمال . يبذل المرء فيها طاقته ويخلص فيها النية له تعالي فمن أبطأ عليه نصر الله تعالي أو تخلف فلا يقولن : إن الله وعدني , بل يجب عليه أن يفتش فى نفسه ليتبين ما إذا كان قد نصر الله حقا أو لم ينصره .

إن الله وضع شروطا لنصره وجعل أولهما : إقامة الصلاة وهى العبادة الروحية التي تصل المرء بربه وتقر به منه , أما الصلاة التى يؤديها الإنسان قائما قاعدا راكعا ساجدا دون أن ترقق قلبه , ويشعر فيها بأنه اقترب من الله تعالي , فهي صلاة آلية لا خير فيها , ولا تعد مما يتحقق به النصر .. وكأنني أشعر وأنا أكتب هذا الكلام أن القارئ سوف يحسب ان كاتبه قد بلغ الذروة ن الحرص على الصلاة المقصودة فأقول له : إنني أحاول أن أفعل فانجح فى قليل من الإحسان . وأسأل الله المغفرة عن التقصير فى كثير منها ولكن لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فعلينا أن نتجه إلى الله العلي الكبير ونسأله التوفيق , وربما وصلنا يوما ما .

ثم إيتاء الزكاة : وإذا كانت الصلاة يعتريها ما يخرجها من أن تكون مؤثرة فى النفس مقربة لم تأنس بالقرب منه تعال فلا يؤتيها كثير من الناس بل أكثر الناس ومن يؤتها فإنه ربما لا يخلص النية فى ذلك فلا تكون طيبة بها نفسه , أو يتيمم الخبيث من ماله ينفق منه .

ولا تحسبن الحكومات أنها بمناجاة من عقبات الله , ومن تفويت النصر الذي وعد به من ينصرونه إذا هى عطلت هذه الشريعة , وحرمت الفقراء من حقهم فى أموال الأغنياء وجعلت تعالج مشكلة الفقر بأساليب نستعيرها ممن فشا الفقر بين بعض طوائفهم فلم يجدوا له علاجا على الرغم من الجهود التي يبذلونها والله تعالي قد سن العلاج البسيط الشافي لهذه المشكلة وحسبنا الله .

وقد أقام الله بهما المدرسة الأزلية التي تعلم الناس الفضيلة وتجنبهم الرذيلة تعلمهم البر والتقوي وتجنبهم الإثم والعدوان وقد مسخنا أمر الله وحللنا الحرام وحرمنا الحلال فقد قال الله تعالي ( واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) وقال ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون – الظالمون – الكافرون ) وقال : ( وإن أحكم بينهم بما أنزل الله ) وقال ( فلا وربك لا يؤمنون حتي يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) فغيرنا وبدلنا وحكمنا بغير ما أنزل الله وقبلنا فتنة الناس عن بعض ما أنزل الله بل عنه كله .

فأصبح الربا حلالا يأكله الناس بنص القانون وهو حرام بنص الكتاب . وكذلك أصبح الميسر وشرب الخمر , ومنعنا الزكاة ولم يحبها ولي الأمر , وأبحنا زنا من لم تكن متزوجة وعاقبنا على زنا المتزوجة بعقوبة تافهة , وقبلنا عليها من الأدلة ما لم يأذن به الله تعالي , وأسقطنا القصاص والدية ومنعنا عفو المجني عليه على الجاني . ولم نأخذ أنفسنا بالأخلاق القرآنية والفضائل الإلهية وغير ذلك كثير.

إن من ينظر إلى ( حقائق الأمور) يجد أن النصر الذى وعد الله به عباده ليس قريبا منه ولا يتمر لنا النصر إلا إذا تحقق لنا من الإيمان بالله والقرب منه وإتباع أوامره واجتناب نواهيه ما يكون لنا شفيعا عنده إذ لا ينفع إلا الصدق والإخلاص .

حدثني بعضهم أن أخا فى الله هم بنسف ذخيرة للأعداء فى معركة القنال , فذهب فوجد الأسلاك الشائكة كأنها سد منيع , ووجد الحراس متيقظين , وحاول أن يفعل فأطلقوا عليه النار وأنجاه الله من نيرانهم فعاد من حيث أتي , ورجع إلى نفسه وقال لابد أن يكون الذى وقع إنما وقع بذنب أتيته وعلمه , وفى اليوم التالي اغتسل وصلي وتاب إلى الله ودعاه , وذهب إلى حيث يعاود الكرة , قال : فكأنما كنت كلما وضعت رجلي فى الأسلاك الشائكة صادفت فجوة لم أكن أتوقعها ووجدت الحراس قيام ينظرون كأنما سكرت أبصارهم فلم يعودوا يبصرون , وكأنما مهدت إلى الأرض فلم أجد صعوبة فى الوصول إلى الغاية التي قصدت إليها . فأديت الأمانة ونسفت من الذخيرة ما عد خسارة فادحة للأعداء وأيقنت فى نفسي أن التوبة إلى الله هى التي وطأت لي الأمر كله وأن أنكر الكافرون .

اللهم حقق لنا وسائل النصر ولك عاقبة الأمور.


من أقوال الهضيبي رحمه الله

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى سائر رسله وأنبيائه أجمعين .

أيها الإخوان أحييكم بتحية الإسلام فتحية طيبة مباركة من عند الله تعالي فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته , ولكم جزيل الشكر على تشريفكم حفلنا وجزاكم الله عنا خير الجزاء .

لم يكن أسلافنا الأقدمون يقيمون مثل هذا الاحتفال بمولد الرسول عليه السلام أو هجرته من مكة إلى المدينة لأنهم لم يكونوا ى حاجة إلى من يذكرهم بخطر هذا الميلاد وبخطر هذه الهجرة – وما حاجتهم إلى ذلك وقد كانوا يعيشون كل يوم فيما تحقق للناس كافة من خير فى رسالة محمد عليه الصلاة والسلام وكانوا يدركون قول الله تعالي ( يا أيها النبي إنا أرسلنك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا).

وكانوا يدركون قول الرسول عليه السلام " إنما أنا رحمة مهداة " ولكنا قد نسينا ما جاء به الرسول ونسينا أنه رحمة مهداة إلى الناس كافة فاتخذنا هذا الاحتفال لنذكر فيه ذلك ونذكر به ونجتمع على كلمة الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون )

والإخوان فى بيان ذلك وتذكير الناس به قوم عمليون يريدون أن يفهم الناس أن تلبية داعي الله لا يكون إلا عملا وأنهم مسئولون أن يأخذوا أنفسهم وأوضاعهم بأحكام الله ( فلا وربك لا يؤمنون حتي يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) .

مغزي المطالبة بالأخذ بكتاب الله :

وإنا لا نطلب بالأخذ بكتاب الله تعالي لنتشفي بالعقوبات الصارمة التي سنها الله تعالي بل نطلب الأخذ به كلا لا يقبل التجزئة لأنه ما من حكم فيه إلا وهو مترتب على أحكامه الأخري ولا تجد عقوبة إلا وقد سدت الذريعة إليها وأسقط عذر الجاني فى جنايتها.

لا يجوز أن يحرم مسلم من التعليم :

وأول ذلك هو التعليم وهو واجب على كل مسلم ومسلمة حق لهما لا يجوز أن يحرما منه .

وعلى ولي الأمر أن يهئ لهما أسباب تعلم الإسلام وأحكامه وبلوغ دعوته إلى الناس وهذا فرض عين على كل أحد ويجب أن تكون مهمة التعليم الأولي هي تعلم إقامة الوازع النفسي فى الناس حتي يكون إقبالهم على طاعة الله والتخليق بالأخلاق الفاضلة مبنيا على هذا الوازع فإذا غاب الوازع عند بعض الناس جاء دور العقوبة وقد ذكر الله تعالي العقوبات فى آيات معدودات ولم يذكرها إلا مرة واحدة ولكن القرآن بعد ذلك ملئ بمناجاة النفوس وحضها على الخير والبر والأخلاق الفاضلة .

( ما يكون من نجوي ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدني من ذلك ولا أكثر إلا وهو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شئ عليم ).

وأسباب العلوم الأخري :

وعلى ولي الأمر كذلك أن يهيئ أسباب العلوم الأخرى التي تحتاج إليها الأمة فى شئون حياتها من زراعة وتجارة وطب وهندسة وطيران وفنون حرب إلى غير ذلك .

وهذا فرض على الكفاية يلزم الملمين جميعا ولا يسقط عنهم إثم تركه إلا حين يتعلم منهم من يسد حاجة الأمة فى كل فن.

لذلك يجب على ولي الأمر أن يكون حريصا أشد الحرص على إيفاء كل جانب من جوانب الحياة حقه من التعليم فلا يحق لنا أن نشكو من نقص فى عدد الأطباء أو المهندسين أو الكيمائيين أو الميكانيكيين أو الضباط او العساكر.

السهر على توفير الأرزاق :

والواجب الثاني على ولي هو أن يسهر على توفير الأرزاق للناس فإن شريعة الله تقضي بأ، يكون لكل إنسان فى الدولة مسلم كان أو غير مسلم الحق فى منزل يرد عنه حر الصيف وبرد الشتاء ويمنع عنه الأعداء والمتطفلين – والغذاء الذي لابد منه لحفظ كيانه وصحته , والكساء الذي لابد منه للشتاء والصيف , العلاج الذي يلزمه إذا مرض.

حقوقه فى عنق الدولة وليست صدقة :

هذه حقوق لازمة فى عنق الدولة ليست صدقات يأتيها الناس أو لا يأتونها – والسبيل إلى توفيرها لهم هم العمل – فكل إنسان عليه واجب الحصول على عيشة من طريق العمل الحلال بحسب ما تؤهله له مواهبه وتهيئة له ظروف حياته ويجبر على العمل إذا هو قعد عنه فالإسلام لا يجب القاعدين ( وقل اعملوا فسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنون).

يدبر له العمل إذا لم يجد :

فإذا فرض بعد ذلك أن لم يجد احد عملا كان على ولي الأمر أن يدبر له العمل ويهيئ له وسائله ويمده بأدواته ثم يتعهده فى ذلك كله لكي يتحقق أنه ناجح فى عمله مستريح فيه كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فعله إلا إشارة لواجب الحاكم فى هذا الشأن وإن كانت أساليب العمل تختلف .

كفالة المسلمين لمن لم يجد عملا:

فإذا كان عمل العامل لا يكفيه أو لم يجد عملا أو كان غير قادر على العمل أصلا فهو فى كفالة المسلمين عامة - فى كفالة الدولة تمده بما يحتاج إليه أو نقص من حاجاته الضرورية .

واجب الدولة إذا لم تكف الزكاة:

وسبيل الدولة إلى ذلك هو الزكاة التي يجب على كل مسلم أن يؤديها ويجب على الحكومة أن تحصلها وللفقراء حق معلوم فيها لا يجوز بحال من الأحوال أن يحرموا منه ولا أن ينقص شئ منه قبل أن يستوفوا حقوقهم التي ذكرناها – فإن لم تكف الزكاة فقد أصبح واجبا على كل من عنده فضل من المسلمين أن يعود به على إخوانه فى الإنسانية بما يوفر لهم حاجاتهم .

الزكاة تصرف فى المكان الذي جمعت فيه:

والحاكم مسئول أن يحقق لهم ذلك , والزكاة تصرف فى المكان الذ جمعت فيه ولا تنقل إلى جهة أخري إلا إذا استغني أهل الجهة التي جمعت فيها – وهو أحدق ما أخذ به فى معالجة الفقر فى الأزمنة الحديثة – أما تنظيم ذلك كله فهو من الأمور التي تخضع لظروف الزمان والمكان .

الإسلام يرفع الحياة الإجتماعية للناس :

وهكذا أيها الإخوان يرفع الإسلام الحياة الاجتماعية للناس – بالعلم وبلوغ الدعوة وإعطاء الفقير حقه .

ويعالج الأمور من أساسها بطريقة عادلة ميسورة . ثم هو يطلق القوي والمواهب لتحصيل العيش كما يريد الإنسان .

للمسلم أن يجمع من الثروة ما شاء بشرط:

وكل واحد من المسلمين له الحق فى أن يجمع من الثروة ما شاء بشرط أن يكسب ماله من حلال وينفقه فى الحلال فلا يباح لأحد أن يصرف فى غير الأوجه التي أحلها الله تعالي فلا خمر ولا ميسر مما تعارف الناس على عده من المباحات – فإذا فعل ذلك وأدي حق الله فيه فإن الإسلام يحمي ويقطع اليد التي تمتد إليه .

عقوبة السرقة التي يرتجف الناس منها :

إن عقوبة السرقة التي يرتجف منها الناس عقوبة فيها غاية الرحمة بالناس لأنها لا يصح إنزالها بالسارق إلا إذا كان قد استوفي حقوقه التي ذكرناها كلها ووفر له المجتمع تعليمه ولباسه وطعامه ومسكنه وعلاجه بل وسد عنه دينه وهي بعد عقوبة زاجرة تمنع البغاة الذين نالوا حقوقهم من الجماعة من أن يفكروا فى السرقة ومن فعل منهم فعليه الجزاء الحق ( جزاء بما كسبا نكالا من الله عزيز حكيم).

ست مرت فقط :

وتاريخ المسلمين الذي كان فيه هذا النوع من الحياة مستقرا لم تنفذ فيه عقوبة القطع إلا نحو ست مرات .

عقوبة القطع وأحوال المسلمين :

فلما نسي حكام المسلمين أن يهيئوا للناس تلك الحياة الاجتماعية النظيفة الراقية وجدوا أن عقوبة القطع لا تتفق مع أحوال المسلمين فمنعوها وهم على حق فى منعها ولكنهم كانوا بغاة ظالمين فى حرمانهم من حقوقهم فى التعليم وضروريات الحياة وكانوا بذلك مسئولين عن تعطيل حدود الله.

الربا:

أيها الإخوان إن الربا فى معاملاتنا حرام لاشك فيه ولا ينبغي لنا أن ندافع عنه بحال من الأحوال بل يجب أن نتناهي عنه كما نتناهي عن أى منكر وليس الربا حراما فى ديننا فحسب ولكنه حرام فى المسيحية كذلك وفى كل الأديان :( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقيى من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ) وعلينا أن نبين للناس فضائل ديننا وفلسفته العالية فى تحريمه وفوق ذلك ندل الناس على التعامل الذي يحل محل ويكون خيرا وبركة على الناس أجمعين .

بعض علماء الإنجليز والألمان نقدوا نظام الربا:

إن بعض علماء الإنجليز وبعض علماء الألمان نقدوا هذا النظام وردوا إليه الاضطراب فى أحوال الاقتصادية واقترحوا إلغاءه بالتدريج وهم فى ذلك يعودون إلى أصول الأديان من عدم التعامل بالربا وإن كانوا يبنون آراهم على فكرة تنمية الأعمال الاقتصادية فى العالم وما من شك فى أن فى مقدور العمل الإنساني أن يحل من المعاملات الناجحة فى الاقتصاد ما يغني عن الربا .

ويجب علينا أن نتخلص منه فقد حقق الله وعيده إذ أذننا بحرب : هذه الحرب المائلة فى انهيار الأخلاق وعدم تحمل التبعات وفى الاختلاسات التي لا يظهر منها إلا القليل الفينة بعد الفينة – والسرقات التي أصبحت من لوزام الأعمال الحكومية والأعمال الخاصة والآفات الزراعية التي تأكل الكثير مما تنبته الأرض ( البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا)

فما نكسبه من الحرام يذهب فى الحرام " إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وكل لحم نبت من حرام فالنار أولي به ".

وفى اعتقادي أن عند الإخوان المسلمين من المقترحات فى هذا الشأن ما فيه مصلحة الأمة ويرضي عنه الأجانب والمصريون على السواء .

هذه مثل من أمثلة ارتباط أحكام الإسلام بعضها ببعض وتوقف النصوص على الأخذ بأصولها جميعا ولله المثل الأعلي – ولا أحب أن استقصي كل هذه الشئون فلا ستقصائها مجال آخر .

فضائل الإسلام :

أيها الإخوان أريد أن أحدثكم حديثا آخر عن فضائل الإسلام فى العدل الذي يرجي أن يسبغه المسلم على المسلمين وعلى غيرهم :

إن عدل الإسلام عدل إلهي شامل كامل لا يختص الله به فريقا دون فريق , يشمل الناس جميعا غنيهم وفقيرهم , قريبهم وبعيدهم , عدوهم وصديقهم مسلمهم وغير مسلمهم قال الله تعالي ( إن الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) فهذا عدل لكل الناس ليس للمسلمين وحدهم , وفي النهي عن محاباة الأقارب يقول الله تعالي ( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربي وبعهد الله أوفوا ) ويقول فى النهي عن ظلم الأعداء ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوي واتقوا الله إن الله خبير بما تعلمون)

لا يظلم عدوه:

ومن أروع الآيات التي نزلت فى تحقيق العدالة ما نزل فى قصة ابن أبيرق يكشف للرسول عن حقيقة الأمر فيها وما دبره الخائنون لصرفه عن الحق حتي كادوا يوقعونه فى ظلم برئ لم يستحق إنما ويسمهم بما هم أهله : سرق ابن أبريق درعا لجار له فأمر رسول الله بقطع يده ففر , وجاء قومه إلى الرسول وزعموا أنه لم يسرق الدرع وإنما الذي سرقها هو فلان اليهودي . وما زالوا به حتي مال إلى قولهم فأنزل الله هذه الآيات التي تعتبر دستورا لأعظم نوع من العدل الصرف الذي يشمل الإنسانية كلها العدل الخالص البرئ من الهوي ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما . ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما . يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضي من القول , وكان الله بما يعملون محيطا . ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم فى الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنه يوم القيامة أمن يكن عليهم وكيلا . ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما. ومن يكسب إثما ثم يرم به برئيا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ولولا فضل الله عليكم ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ).

أكثر الناس لا يعدلون إلا مع بني جنسهم:

فليعلم كل مسلم أنه لا يكون مسلما حقا إذا أصبحت عقيدته جزءا لا يتجزأ من أخلاقه وسلوكه فيكون عادلا مع جميع الناس .

ويحذر نوازع الهوي أن تميل به عن هذا العدل إلى غيره من أنواع الظلم التي يرتكبها الإنسان مع بني جنسه فإن أكثر الناس لا يعدلون إن عدلوا إلا بين بني جنسهم .

عدل الإنجليز والأمريكان :

فعدل الإنجليز للإنجليز خاصة وللفرنسين خاصة وللأمريكيين خاصة أما غيرهم فلا عدل فيهم , ففي كينيا وقنال السويس أو فلسطين عدل غير العدل فى الجزائر البريطانية وفى شمال أفريقيا عدل غير العدل الذى للفرنسين وفى أمريكا عدل للبيض وعدل للسود أما عدل الله فهو رحمة للعالمين وصدق الله العظيم ( إن هذا القرآن يهدي للتي هى أقوم).

الإسلام والمصالح المشروعة للناس :

أيها الإخوان , إن هذا العدل يقتضينا أن نحرص الحرص كله على المصالح المشروعة للناس كافة – نحرص على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم فكل ذلك حرام على المسلمين إلا بالحق . ولكن ليس لهم أن يدعونا إلى التسامح معهم فيما نهي الله عنه مما جر على بلاد المسلمين تحلل الأخلاق وإشاعة الفساد فى الأرض فإننا نقاوم هذا الفساد بكل قوة حتي تمحوه فإنه أضر علينا من جيوش الاحتلال بل الاحتلال لم يكن ليعيش فى بلادنا لولا إفساده الأخلاق وإفشائه المنكرات بين الناس .

حركة الجيش تمت بنجاح ويجب أن تستمر بنجاح:

أيها الإخوان .. إن حركة الجيش قد تمت بنجاح ويجب أن تستمر بنجاح.

ويجب أن يجد الناس فى الإخوان المسلمين قوما يعملون ولا يتكلمون ويحقون الحق ويبطلون الباطل ولو كره الناس أجمعون ( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز )(الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).

أيها الإخوان .. لا أريد أن أطيل عليكم أكثر من ذلك .. وأقول قولي هذا واستغفر الله لى ولكم ... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


كلمة الأستاذ الهضيبي في الإحتفال بذكرى الهجرة عام 1953م

كلمة فضيلة الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين فى الاحتفال بذكرى الهجرة – بمدينة المنصورة فى " المحرم سنة 1373هـ سبتمبر سنة 1953م"

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى سائر رسله وأنبيائه أجمعين

أيها الإخوان ...

السلام عليكم ورحمة اله وبركاته ..

الأستاذ سيد قطب كان يقول فى كلمته أننا لا يجب أن نهتم كثيرا بالخطب , ولا ننشر الدين بالخطب ولهذا فسأكلمكم وأنا جالس لأني لا أريد أن أكون خطيبا ولا أحب أن أكون خطيبا ...

يا إخوان .....

كنا زمان فى المدرسة الثانوية , وحيث لم تكن هناك وقتها احتفالات بالعام الهجري , بدرت عندنا فكرة من الغيظ من الاحتلال ... فكرة نتنفس بها فى جانب من جوانب الحياة ... فقلنا نحتفل بالعام الهجري وبعد تعب أجبنا إلى أن نحتفل بهذا العيد , ثم مرت أيام وأنا فكرت : ما الذى استفدناه من الاحتفال بالعام الهجري ؟ وجدت أولا أنه لا فائدة لهذا الاحتفال بالمرة ... ندخل الاحتفال عصاة ونخرج منه عصاة يعني مثلا كنا ندخل بغير صلاة المغرب ونخرج ولم نصل العشاء , وكنا ندخل ولا علم لنا بآية واحدة من القرآن ونخرج " بنفس الحال" ولا نعرف آية من القرآن ... كنا ندرس القانون فى مدرسة الحقوق ولا نشعر بأنه ينقصنا شئ , وما كنا نشعر أن هناك دين اسمه الإسلام يستوجب علينا أن ندرس شريعة الإسلام على اعتبار أنها قانون حي ... على اعتبار أنها قانون لازم للحياة ... فما فائدة هذه الاحتفالات ؟.. وبقينا على هذه الحال وكلما مر الوقت قل أملي فى هذه الاحتفالات لأن الكلام الذى يقال فيها يدخل من ودن ويطلع من ودن ولا نتقدم به شيئا أليس هذا هو الحق؟! ...

نعم هو الحق وهو الواقع .. وجاءت أحداث بالبلد أملنا فيها خير فلم ينتج عنها خير إلى أن وقعت على دعوة الإخوان المسلمين فعلمت أن هذا قبس من نور وأن هذا النور يوشك أن يهدي الناس كما هداهم أول الأمر.

يا إخوان ...

إن دعوة الإخوان المسلمين ليست شيئا جديدا إنها الدين الخالص الدين الحق الدين الذى لا فلسفة فيه الدين الذي ليس فيه كسب لمطالعتها ليلا ونهارا ونرجع إليها إنها قول بسيط جدا : لا إله إلا الله محمد رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة .

إنها الأخلاق إنها الفطرة السليمة إنها شئ عملي نعمله كل يوم .. وقد نظرنا حولنا فوجدنا ن الإخوان المسلمين أوجدوا فى البلد حياة ... أوجدوا فى البلد طائفة من الشباب استعدت بالروح وبالجسم وبالمال لافتداء الدين والوطن , وجدنا أن هذه الفئة ثابتة لا تتكلم لا تهتف باسم أحد, ولا تعظم شخصا ولا تحيي إنسانا إنما تحيي الله سبحانه وتعالي تحيتهم هتاف لله سبحانه وتعالي .. عاملين منيبين طيبيين يتوجهون إلى الله بالعمل الطيب , ويعملون فى صمت وسكون , إلى أن أتت الأحداث فأثبتت أنهم جنود الله حقا ... الدعوة الإسلامية .. دعوة تشمل الحياة كلها تدخل على الإنسان تغير منه ... تغير من عقيدته كما غيرت من عقيدة عبدة الأوثان وعبدة الناس تدخل فى قلوب الناس فتنير بصائرهم.. تدخل فى قلوب الناس فتريهم الحق حقا والباطل باطلا .. تريهم الحق فيتبعونه , تريهم الباطل فيجتنبونه هذه هي دعوة الإخوان المسلمين التى نتحدث عنها .. ونقيم هذا الاحتفال فى الحقيقة لا لنقول العام الهجري فحسب إنما لنبين للناس شيئا من حقيقة دعوة الإخوان المسلمين ولا أريد أن أطيل فى هذا الأمر إنما أريد أن نرجع إلى يوم الهجرة فقط لأعرض بعض اعتبارات نستفيدها من الهجرة .

يا إخوان ....

الحاجة الأولي التي نستفيدها والتي استفدتموها من كلام أخي عبد المعز وكلام أخي سيد .. استفدنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم منح الدعوة كل وقته وكل روحه وكل جسمه وكل ماله وإن كان عنده مال.

فيا أيها ألإخوان ... لا تظنوا أن كلامي لكم كان تملقا إن أمامكم الشئ الكبير الذي يجب أن تفعلوه ولا تظنوا أن من انتسب إلى دعوة الإخوان المسلمين قد بلغ منها حظه حقا يجب على من يدخل الدعوة أن يهبها ويمنحها كل وقته وكل جهده وكل ماله وكل نفسه . فلا نكتفي ب الحضور إلى الشعبة فيمكث الواحد فيها طوال النهار إنما يجب أن يمنح الدعوة كل وقته , وليس معني كلامي أن الواحد يدور فى الشوارع ينادي بدعوة الإخوان المسلمين ولا أن ينصرف عن أعماله ولا يجعل له من سبيل إلا الكلام عن دعوة الإخوان المسلمين ولك أقول مع ذلك أنه يجب أن يمنح دعوة الإخوان كل وقته وكل جهده وكل ماله وكل نفسه , وذلك بأن يحقق فى نفسه وفي عمله وفى سائر النشاط الذي يعمله فى يومه معاني القرآن العظيم

يجب أن يمنح الواحد هذه الدعوة .. يمنح هذا الدين كل الوقت ليحقق المثل الأعلي الذى بينه القرآن ونحن فى هذا الطريق لنا مثل أعلي ويمكن فينا من هو مثل أعلي , وفينا واحد كده يمكن أنه يصلح وواحد ما يطيقش, ولكن كلنا يريد الوصول إلى الله سبحانه وتعالي , وكلنا يريد الصعود إلى جبل فمنا من يصل إلى القمة , ومنا من يصل إلى منتصف الجبل ومنا من يظل فى السفح ومنا من يبدأ ولكنا جميعا لنا وجهة واحدة هى وجه الله ( ألا لله الدين الخالص).

فيا أيها الإخوان ..

الدين الخالص يقضينا فى التجارة بإتقان عمله .. ويعبد الله بأن يفكر دائما فى الله حين يعمل العمل فيعمله لوجهه الله تعالي . إذن نكون نكون قد منحنا الدعوة كل وقتنا وكل جهدنا وكل مالنا فلا يدخل على الحياة زيف منها , ولا يدخل علينا الغرور من أى جانب من جوانب أنفسنا ... فيجب علينا أن نكون دائما مستغرقين فى دعوة الله سبحانه وتعالي كما كان الرسول عليه السلام مانحا كل وقته بالليل والنهار , كل حاجة كل عمل من أعماله كان خالصا لوجه الله تعالي ,وكان يؤدي هذا الواجب عن طيب خاطر وهو مشغوف به .. فيجب كذلك أن يكون لنا فى رسول الله أسوة حسنة, ,أن نتجه إلى الله العلي العظيم بكل أنفسنا وكل قلوبنا وبكل أرواحنا وبكل ما نملك ونعمل لهذه الدعوة , وبذلك يمكن أن نقول أننا أدينا شيئا نلقي الله به بوجه حسن .

يا أيها الإخوان ...

الدعوة كما سمعتم من إخواني لا تزال كما كنت فى أول الأمر تحفها العقبات وتحفها الصعاب .. وأراكم حين تشموا طعم العافية تقوموا تطعموا فى هذا وتفكروا إنكم وصليتم إلى شئ كبير ... فأنا أتمني لكم الشدائد حتي تستحقوا أن تكونوا الإخوان المسلمين .

فنسأل الله أن يديم علينا الشدائد حتي يديم علينا الإيمان الكامل فلا نستطيع أن نمضي فى دعوتنا إلى الله إلا إذا أيقنا بأننا أمام عقبات كثيرة وصعوبات جمة ويجب أن نجتازها ... والصعوبات والعقوبات تتجدد كل يوم ليس فقط اليوم وليس فقط الصعوبات وعقوبات إبراهيم عبد الهادي, إنما ما زال أمامنا الكثير من هذه الصعوبات والعقبات فيجب علينا أن نفكر فى ذلك ويجب علينا أن نكون مستعدين لذلك .. ودعوة الإخوان المسلمين لا تحتاج إلا إلى يقظتهم ولا تحتاج إلا إلى عنايتهم بعد عناية الله بطبيعة الحال , لأن دعوة الإخوان أصبحت من الدعوات العالمية التي لا يمكن لشخص من الأشخاص أن ينال منها إن دعوة الإخوان لم تعد دعوة جماعة أو جمعية فى مصر يقال لها الإخوان المسلمين , إنما أصبحت دعوة عالمية .. دعوة يعفها المشرق والمغرب .. دعوة ينتظرها الناس جميعا شرقيهم وغربيهم .. دعوة ينتظرها المسلمون لإنقاذهم من كل ما هم فيه من بلاء ... ينظرونها فى مراكش وفى تونس فى المغرب الأقصي وفى ليبيا وفى خليج العرب وفى أندونيسيا وفى تركيا وفى باكستان وفى كل مكان ينتظرون دعوة الإخوان المسلمين ويعتقدون أنه لا سبيل لإنقاذه إلا بالإخوان المسلمين فإذا كان هذا هو اعتقاد الناس فيكم , وإذا كان هذا أمل الناس فيكم فيجب أن تحققوا أمل الناس ويجب أن تحققوا رجاء الناس ويجب أن تهتموا بالدعوة تتفانوا فيها وحينئذ لا يستطيع أن يمسكم أحد .. إن دعوة الإخوان المسلمين ليست شعبا وليست مكاتب إدارية وليست مكتب إرشاد وليست حاجة اسمها جماعة الإخوان المسلمين , إنما هي دعوة أصبحت فى القلوب,لا يمكن أن يحلها إلا الله , والله تعالى وعد المجاهدين بالخير الكثير فقال ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا , إن الله لمع المحسنين) فإن فعلتم ذلك لينصرنكم الله والله قد تكفل بالنصر لأن النصر ليس بالكثرة ولا بالقلة , وليس بيد مخلوق وإنما هو بيد الله تعالي , وفى آيات القرآن الكريم جميعا أنه اختص نفسه بالنصر فلا يمنحه إلا العبادة العاملين إلا لعباده المتقين إلا لعباده الذين ينصرونه وينصرون دينه ( ولينصرن الله من ينصره , إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).

فدعوة الإخوان المسلمين لم تصبح لعبة فى يد الناس وإنما أصبحت حقيقة فى هذا البلد وحقيقة فى بلاد العالم الإسلامي ولابد من أن ننتصر ولابد من أن تنال حقنا وواجبا بتطبيق كتاب الله تعالي إن عاجلا أو آجلا.

يا إخوان ...

فى كثير من الأحيان ويسأل الإخوان ويسأل الناس ... عن علاقتنا بالحكومات وعلاقتنا بالهيئة وهذا سؤال أرجو من الإخوان المسلمين ألا يكثروا ترداده ... ما شأننا بالناس ؟ سؤال لا يجب أن نسأله كثيرا , فإذا كنا سائلين فيجب أن نسأل أنفسنا ما علاقتنا بالله تعالي.. إذا كنا نسأل أنفسنا هذا السؤال , ونقول ما علاقتنا بالله تعالي أبدا إن علاقتنا بالله هى الأمر الواجب النظر فيه أولا وأخرا ثم نترك أمورنا بعد ذلك على الله .. نعمل الواجب علينا ونسأل عن علاقتنا بالله .. نعمل مثل ذلك الراعي الذي قيل له : لماذا تحرس غنمك: فقال : أنا والله أصلحت ما بيني وبين الله فأصلح الله ما بين الغنم والذئب, فإذا ما تبعنا هذا القول الحكيم .. اتبعنا ألا نسأل إلا الله ولا نحرص إلا على مرضاته فإنه سوف يصلح بين الذئب وغنمنا.. ومع ذلك فإني أراكم تبحثوا وتسألوا .

بمناسبة ما قيل أن بين الإخوان المسلمين وبين رجال الجيش سوء تفاهم أو عدم انسجام .. أو عدم تعاون ... أنا فى الواقع يا إخوان أقول لكم : الحق أني أبحث عن سبب واحد يقتضي هذا القول فلا أجد فى نفسي شيئا مطلقا , وأنا أتحدي كل فرد بهذا القول ... ما هو الأمر الذي طلب من الإخوان المسلمين أن يفعلوه فلم يفعلوه؟

ولما يكون فيه غضب نقول سبب الغضب على ماذا؟... طب ماذا طلبتم ... ما الذى طلبتموه منا , أنا لا أريد أن أقول أن طلب واحد يتفق مع دعوتنا اتفقنا عليه ولم ينفذ ... بل لم يطلب منا أى طلب فى الواقع أن بعض الناس حلا لهم الكلام فى موضوع أنه ليس هناك تفاهم ولا تعاون بين الإخوان المسلمين وبين الجيش أو بين هيئة التحرير .... حلا لهم الكلام وأخذوا يكررون فيه حتي أصبح حقيقة فى رؤوسهم لا غيرها .. عندهم وحدهم لأننا لا نجد له أثرا فى أنفسنا ولا فى تصرفاتنا هيئة التحرير نحن اتفقنا مقدما مع بعض على أن الإخوان يظلوا هيئة قائمة بذاتها حيث اعترف بأنها هيئة مفيدة وهيئة طبعا عاملة ولا ينكر عملها إلا مكابر ... اتفقنا على أنهم يريدون إنشاء هيئة تحرير ... ,هذا أمر لا يهمنا لكن فى الحقيقة لا يرجي من الإخوان المسلمين وإذا قلت يرجي من الإخوان المسلمين أن يساعدوا على إنشاء هيئة التحرير فذلك لأنهم أصحاب دعوة ولا يمكن أن نعين دعوة أخري أو منظمة أخري تخالف دعوتنا هذا والأمر الثاني إننا قد أعطينا أوامر صارمة للإخوان المسلمين بأن لا يعترضوا مطلقا على إنشاء هيئة التحرير ....بل كان بعض القائمين فى لقائهم بالإخوان المسلمين يقولوا لهم أنكم هيئة التحرير , ثم يعودوا إلى القول إن الإخوان بيعاكسوا هيئة التحرير وليسوا راضين عن هيئة التحرير ... وهذا حقيقة الأمر , حقيقة الواقع ... لكن من جانبنا نقول ما هو العمل الواحد الذي عمله الإخوان المسلمين لكي يضايقوا به هيئة التحرير أو يعاكسوها .... لا يوجد غير هذا الكلام الكلام الفارغ الكلام الذي ليس له شئ من الصحة الكلام الذي لم يحصل , ولو حصل لبلغني ولو حصل لقيل لى فكنت أعالجه , ولكن لم يحدث شئ من ذلك مطلقا ... كلها إشاعات .. كله كلام لا أصل له فى الحقيقة بل هو أوهام فى رؤوس بعض الناس وأوهام تجسمت فى النفوس حتي ظنوا أنها حقيقة لا شئ من ذلك بالمرة .... وإنما أقول لكم أنه فى كل حالة وفى حالة تقتضيها الدعوة : مثلا البلد فى حاجة إلى الدفاع فنحن مع الجيش فى هذا الدفاع ... هناك حاجة إلى زرع الصحراء فنحن مستعدون إلى زرع الصحراء .. هناك حاجة إلى كنس الشوارع فنحن مستعدون إلى كنس الشوارع ... هناك حاجة إلى إضاءة الحارات بلمبات كبيرة وصغيرة فنحن مستعدين أن نوقدها معا..

نحن مستعدون إلى أن نضع يدنا فى يد أى عامل لمصلحة هذا البلد لأننا لا نعمل لغير الله ... نحن لا نعمل شيئا نتملق به أحدا ولا نعمل شيئا من أجل شخص معين إنما نعمل لله فقط والعمل لله لا يختلف فيه اثنان ... تريدون الحرب نحارب معكم تريدون الإصلاح نصلح معكم ... تريدون أى شئ ن هذا فنحن معكم لأنها مسائل يقبلها الإسلام نعملها نحن بنياتنا الإسلامية غيرنا كيفما أراد .

فيا أيها الإخوان...

إذا سمعتم من هذا القبيل فأرجو أن يكون ردكم هكذا بسيطا .. ما العمل الذى طلبتموه منا ولم نعمله ما هو ؟ أسألوا عن التفصيل .. أسألوا لماذا الجيش غضبان من الإخوان المسلمين ؟... هذه إشاعات مغرضة القصد منها التفريق بين الناس تفريق أهل الوطن الواحد لكي لا تجتمع كلمتهم ولا يتفقوا على مصلحة من مصالح البلاد ونحن فى زمن أحوج ما نكون فيه إلى الاتحاد وإلى فعل الخير .. البلد تحتاج إلى أ‘مال كثيرة جدا ولا تحتاج لكلمة من كلمات التفريق ولا تحتاج لكلمة واحدة لكلمات التثبيط ولا تحتاج واحدة من كلمات التهديد.

نحن يا إخوان لسنا مختلفين مع أحد , ونريد أن نمد أيدينا لكل عامل فى البلد نريد أن نحيي موات هذا البلد بمجهوداتنا ومجهودات الناس جميعا ... فقط لا نريد أكثر من ذلك . وبعد هذا أستطيع أن أقول كما بدأت : لسنا نحن فى غضب من الجيش وإذا كان هناك غضب فى ناحية فلا تعرفه , ولكن غاضبين هذا من جهتنا .

إن أغلب ظني أنه لا يوجد غضب من جهة الجيش .. أغلب ظني أن اليهود هم الذين ينشرون هذه الأقاويل وهي فتن انجليزية فلا يصح أن نعيش على سماع الأقوال ولا يصح أن نعيش على الريب والظنون ولا يصح أن أن نعيش على اتهام السرائر ولا يصح أن نعيش على سماع كلام من الناس ونبني عليه ونجعله حقائق ..( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)

يا إخوان .. لم يبق إلا أن أؤكد عليكم . إن الإنسان لا يدعو بالخطب مثلما قال الزميل سيد قطب ولا يدعو باللسان غنما يجب أن تتمثل فينا أخلاق القرآن فإذا تمثلت فينا أخلاق القرآن فى جماعة الإخوان المسلمين فهذا حسبهم لأنهم يدلون الناس على أن الدعوة الإسلامية قد بلغت من نفوسهم المبلغ المطلوب والمبلغ المرجو وعلموا أن دعوة الإسلام حق وأنها تصلح من النفوس مالا يصلحه أى قانون فى البلد.

نحن فى بلد أصبحت تحوطها حالة عسيرة جدا لأن تربية الإخوان المسلمين ليست بهينة .

أيها الإخوان ... تربية الإخوان المسلمين تحوطها الصعاب والعقبات ... إن كل شئ فى هذا البلد يضرب تربيتهم ... السينما .... الفاحشة تضربهم .... الخمارات ..... المراقص ... الفساد فى الشوارع ... كل هذا يضرب هذه التربية فلما نجد واحد من الإخوان المسلمين يحافظ على كتاب الله يجب أن نسيمه بطلا من الأبطال .

يا أيها الإخوان ...

لا أريد أن أطيل عليكم وأرجوا أن أراكم بخير وأقول قولي هذا واستغفر الله لى ولكم ... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...

من كلمات فضيلة المرشد العام إلى الطلاب

بسم الله الرحمن الرحيم
إن لحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

أيها الإخوان...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... وبعد....

أصبحت نهاية العام الدراسي تقترب رويدا رويدا , وتضيق الشقة بيننا وبينها وكأننا نريد أن نقف حركة الأيام حتي يتسع لنا الوقت لاستذكار دروسنا وتحصيل ما فاتنا ولكن هيهات أن يكون لنا من الوقت إلا ما يضيق شيئا فشيئا فلا تأخذنا الحيرة ولا يعترينا الارتباك ولنبادر إلى تنظيم أوقاتنا تنظيما دقيقا يمكننا من التعب ومن الراحة ومن أن نأخذ حظنا من متع الحياة البريئة فلا يطغي شئ من ذلك على شئ ..

فوقت للاستذكار نحدده ونعرف مقداره , ووقت لغير ذلك من الشئون نحدده ونعرف مقداره ... ولا ينبغي أن يجور أحد منا على ساعات نومه فإن هذا الجور حري أن يعقبنا بطء فى الإدراك وقلة فى التصور .

بهذا النظام الذي نتوخاه فى حياتنا نستطيع أن نثب إلى الإمام وثبات مباركة وليعلم وليعلم كل واحد منا أن انصرافه إلى الدرس وعكوفه على طلب العلم عبادة من أجل العبادات وقربي إلى الله تعالي من أجل القرب , وعمل لدعوة الإسلام فلنقمها فيما تقا عليه – على العلم النافع الذي يجب علينا أن نفيده من غيرنا أو بأنفسنا والحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث يجدها . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا طلعت على شمس يوم لم أزدد فيه علما".

وعلينا ألا نغفل لحظة عن تعهد أنفسنا وأخذها بالأخلاق القرآنية العظيمة : العزة والكرامة والصدق , والأمانة , والنجدة , والكف عن المحرمات والغيبة والنميمة , وقول الزور ... إلى آخر ما أمر الله به أو نهي الله عنه – وأن نتميز عن غيرنا بهذه الأخلاق الكريمة فلا يحتاج الأخ المسلم إلى أن يقول أنه كذلك وإنما يجب عليه أن يدعهم يعرفون ذلك من أفعاله وليس أصدق من الأفعال حديثا عن الناس . ولتكن معاملتنا لإخواننا من الهيئات الأخري مما يرتفع به المعني الحزبي من نفوسنا ونفوسهم لأننا أصحاب دعوة إلى كتاب الله وهي دعوة يجب أن تطمئن إليها القلوب عاجلا أو آجلا , فلا ينبغي لأحدنا أن يصد عنها إنسانا بما ينفره منها , ويبعده عنها , بل ينبغي أن نعامل الناس بالحسني ونبصرهم بالكلمة الطيبة ومن لم يقتنع اليوم فسيقتنع غدا إن شاء الله .

( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ).

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

كلمة أخيرة للطلاب

أيها الطلاب....

يا شباب اليوم ورجال المستقبل ... لا تشغلكم الشواغل من متابعة دروسكم والعناية باستذكارها والوقوف على أسرارها والتثبت منها – لأن هذا الزمن هو زمن العلم والتفوق – والمستقبل العظيم الذي يبغونه يجب أن يرحب بكم ترحيب العالم بفضلكم – والدولة التي تطالبون بها هي التي ستحملون أعباءها فيجب أن يكون حملكم لها بأمانة ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان).


وختاما... من وصاياه

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين , وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .

أيها الإخوان :

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... وبعد.....

فأسأل الله تبارك وتعالي أن تكونوا على خير ما يحب الله لعباده المؤمنين المخلصين المجاهدين من الصبر والاحتساب , وأن ينزل السكينة فى قلوبكم لتزدادوا إيمانا مع إيمانكم ( والله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما )

إن دعوة الإخوان المسلمين – وهي دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام لم تزد عليها ولم تنقص – كانت ولا تزال صراعا بين الحق والباطل , بين الإيمان والإلحاد , بين المعروف والمنكر , بين العقل والهوي , بين الخلق القويم والتحلل الذميم , بين الإنسانية الفاضلة والأنانية الخاسرة , من أجل ذلك كانت بحاجة إلى جهاد قوم مؤمنين يخلصون لله دينهم ويهبونه أرواحهم طيبة بذلك نفوسهم . لا تزيدهم المحن إلا ثباتا على حقهم وإزدراء لباطل خصومهم وكانوا فى عزائمهم أشد ,اقوي , وإلى ربهم أقرب وأدني ,وبانتصارهم يؤمنون , وعلى ربهم يتوكلون ( حتي إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ) .

وإني مذكركم - فالذكري تنفع المؤمنين – ببعض ما توحي به الظروف التي خلقها بعض أعداء الدعوة حتي تكونوا على بينة من طريقكم الحق ولا تجروأ مع خصوم دعوتكم فيما جروا فيه من الإثم والبغي بغير الحق افتراء على الله أذكركم بالصدق فى القول والعمل وترك الجدل واللجاجة مع المخالفين أصدقوا أنفسكم واصدقوا الله واصدقوا الناس ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين).

إن خصوم الدعوة توهموا أنهم بأكاذيبهم يغلبون حقكم فاتهموا السرائر واختلفوا الوقائع وأخفوا الحقائق( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) قيل يا رسول الله أيكون المؤمن جبانا ؟ قال : نعم . قيل : أيكون بخيلا؟ قال: نعم . قيل : أيكون كذابا ؟ قال : لا ( إ،ما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ).

فلا تهنوا ولا تحزنوا ... فلن يبلغ الكذب من دعوتكم شيئا , إنكم على الحق بإذن الله ولن يخلف اله وعده ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) وقد ذكرناهم بالحق فكرهوا وضاقت به صدورهم وظنوا أن الكذب ينجيهم والله تعالي يقول ( وقد خاب من افتري )

و ليس الكذب على الأشخاص وحدهم فقد حرص خصوم دعوتكم على أن ينسبوا أخطأ المسلمين فى بعض العصور إلى الدين نفسه , وظنوا أن ذلك يصرفكم عن دعوتكم إلى الإسلام دينا ودولة .

فانتبهوا لما توحي به هذه الاتجاهات وتفهموا ما وراء هذا مما يضمره المبطلون ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء )

أيها الإخوان ....

اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون

أخوكم حسن الهضيبي