حسن البنَّا في الميزان (2/2)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

"الطحان": حسن البنَّا في الميزان (2/2)



بقلم: مصطفى محمد الطحان


وما زال حديثنا مستمرًا عن آراء معاصري الإمام حول شخصيته العظيمة، التي لم تَسلم من حقد الحاقدين وكيد الطغاة الظالمين، الذين شكَّلوا مثلَّث المكر السييء (الملك والوزارة الفاسدة والمحتل الأجنبي)، ليلقى الإمام ربه شهيدًا في 12 من (فبراير) 1949م.



أريد أن أتحدث إلى الإخوان:

مقدمة مذكرات الدعوة والداعية، الإمام أبو الحسن الندوي).


وجاء دور الإمام "أبو الحسن النَّدوي" عالم (الهند)، ليتحدث عن الإمام "حسن البنَّا" فيقول: إن كل مَن عرف الإمام "حسن البنَّا" عن كَثَب لا عن كُتُب، وعاش متصلاً به، عَرَف فضل هذه الشخصية التي قفزت إلى الوجود، وفاجأت مصر، ثم العالم العربي والإسلامي كله، بدعوته وتربيتها وجهادها وقوتها الفذَّة التي جمع الله فيها مواهب وطاقات قد تبدو متناقضة في عين كثير من علماء النفس والأخلاق، ومن المؤرخين والناقدين هي: العقل الهائل النيِّر، والفهم المشرِق الواسع، والعاطفة القوية الجيَّاشة، والقلب المبارَك الفيَّاض، والروح المشبوبة النَّضِرة، واللسان الذَرْب البليغ، والزهد والقناعة في الحياة الفردية، والحرص وبُعْد الهمَّة- دون كَلَلٍ- في نشر الدعوة والمبدأ، والنفس الولوعة الطموح والهمة السامقة الوثَّابة، والنظر النافذ البعيد، والإباء والغيرة على الدعوة، والتواضع في كل ما يخص النفس، تواضعًا يكاد يجمع على الشهادة به عارفوه، حتى لكأنه- كما حدَّثنا كثير منهم- مَثَلٌ رفيف الضياء: لا ثُقْل، ولا ظِل، ولا غِشَاوة.


وقد تعاونت هذه الصفات والمواهب في تكوين قيادة دينية اجتماعية، لم يعرف العالم العربي وما وراءه قيادة دينية سياسية أقوى وأعمق تأثيرًا وأكثر إنتاجًا منها منذ قرون، وفي تكوين حركة إسلامية يندر أن تجد حركة أوسع نطاقًا وأعظم نشاطًا وأكبر نفوذًا، وأعظم تغلغلاً في أحشاء المجتمع، وأكثر استحواذًا على النفوس منها.


ولقد تجلَّت عبقرية الداعي مع كثرة جوانب هذه العبقرية ومجالاتها في ناحيتين خاصتين لا يشاركه فيهما إلا القليل النادر من الدعاة والمربين والزعماء والمصلحين:


- أولها: شَغَفُه بدعوته، وإيمانه واقتناعه بها، وتفانيه فيها وانقطاعه إليها بجميع مواهبه وطاقاته ووسائله، وذلك هو الشرط الأساسي والسمة الرئيسية للدعاة والقادة الذين يجري على أيديهم الخير الكثير.


- وثانيها: تأثيره العميق في نفوس أصحابه وتلاميذه ونجاحه المدهش في التربية والإنتاج، فقد كان منشئَ جيلٍ، ومربِّيَ شعبٍ، وصاحبَ مدرسةٍ علميةٍ فكريةٍ خلقيةٍ، وقد أثر في ميول من اتصل به من المعلمين والعاملين، وفي أذواقهم وفي مناهج تفكيرهم وأساليب بيانهم ولغتهم وخطاباتهم تأثيرًا بقي على مرِّ السنين والأحداث، ولا يزال شعارًا وسمة يعرفون بها على اختلاف المكان والزمان.



مجدِّد القرن الرابعَ عشرَ للهجرةِ:

ويتحدث المفكِّر الإسلامي "محمد الغزالي" عن أستاذه فيقول: "الأستاذ الإمام، أصفه ويصفه معي كثيرون بأنه مجدِّد القرن الرابع عشر للهجرة فقد وضع جملة مبادئ تجمع الشمل المتفرق، وتوضح الهدف الغائِم، وتعود بالمسلمين إلى كتاب ربهم، وسُنَّة نبيهم، وتتناول ما عراهم خلال الماضي من أسباب العَوَج والاسترخاء، بيدٍ آسيةٍ، وعيْنٍ لمَّاحة، فلا تدع سببًا لضعفٍ أو خمولٍ.


ومن الخطأ القول بأن "حسن البنَّا" أول مَن رفع راية المقاومة في هذا القرن الذليل، لقد سبقه في الشرق العربي، والمغرب العربي، وأعماق الهند، وإندونيسيا، وغيرها، رجال اشتبكوا مع الأعداء في ميادين الحرب والسياسة والتعليم والتربية، وأبلوا بلاءً حسنًا في خدمة دينهم وأمتهم.


إن "حسن البنَّا" استفاد من تجارب القادة الذين سبقوه، وجمع الله في شخصه مواهب تفرقت في أناس كثيرين، كان مداومًا لتلاوة القرآن يتلوه بصوت رخيم، وكان يحسن تفسيره كأنه الطبري أو القرطبي، وهو لم يحمل عنوان التصوف؛ بل لقد أُبعد من طريقة كانت تنتمي إليها بيئته، ومع ذلك فإن أسلوبه في التربية وتعهد الأتباع وإشعاع مشاعر الحب في الله، كان يذكر بالحارث المحاسبي وأبي حامد الغزالي. ولعلَّه كان أقدر الناس على رفع المستوى الفكري للجماهير مع محاورة لبقة خالية من أسباب الخلاف ومظاهر التعصب، وقد أحاط الأستاذ "البنَّا" بالتاريخ الإسلامي، وتتبَّع عوامل المدِّ والجزر في مراحله المختلفة، وتعمَّق تعمقًا شديدًا في حاضر العالم الإسلامي، ومؤامرات الاحتلال الأجنبي ضده، ثم في صمت غريب أخذ الرجل الصالح يتنقل في مدن مِصْرَ وقُراها، وأظنه دخل ثلاثة آلاف قرية من القرى الأربعة آلاف التي تكون القطر كلَّه.


وخلال عشرين عامًا تقريبًا صنع الجماعة التي صدعت الاستعمار الثقافي والعسكري، ونفخت روح الحياة في الجسد الهامد". (دستور الوحدة الثقافية، محمد الغزالي: ص: 8).



عبقرية البناء:

ويتحدث صاحب (الظِّلال) "سيد قطب" عن الإمام فيقول: "في بعض الأحيان تبدو المصادفة العابرة كأنها قَدَرٌ مقدورٌ، وحكمةٌ مدبرةٌ في كتابٍ مسطورٍ.. "حسن البنَّا".. إنها مجرد مصادفة أن يكون هذا لقبه.. ولكن مَن يقول: إنها مصادفة، والحقيقة الكبرى لهذا الرجل هي البناء، وإحسان البناء، بل عبقرية البناء؟

لقد عَرَفت العقيدةُ الإسلامية كثيرًا من الدعاة.. ولكن الدعاية غير البناء.. وما كل داعية يملك أن يكون بناءً.. وما كل بناء يوهب هذه العبقرية الضخمة في البناء. (دراسات إسلامية- سيد قطب، ص- 225).


ويْحَ مِصْرَ وإخوتي أهلَ مِصْرَ


وتأتي صرخة المجاهد الأمير "عبدالكريم الخطابي" يتحدث عن الإمام فيقول:

"ويح مصر وإخوتي أهل مصر مما يستقبلون جزاءَ ما اقترفوا، فقد سفكوا دم ولي من أولياء الله!! ترى أين يكون الأولياء إن لم يكن منهم، بل في غرتهم "حسن البنَّا" الذي لم يكن في المسلمين مثله؟



سيف الإسلام يتحدث عن والده:

ولا بأس أن نذكر هنا جانبًا مهمًّا من حياة "حسن البنَّا" يتحدث عنه ابنه "سيف الإسلام" فيقول: إن ما يعلمه الناس من أمر الإمام الشهيد "حسن البنَّا" أقل بكثير من حقيقته، وباطنه أفضل آلاف المرات من ظاهره، هو شخصية واحدة داخل بيته وخارجه، قدوة حسنة لكل أفراد أسرته ولكل إخوانه في جماعة (الإخوان المسلمون)".



الرجل المؤمن:

من أقوال الإمام الشهيد "حسن البنَّا" رحمه الله : "إذا وُجِدَ الرجل المؤمن وَجَدْتَ معه عواملَ النجاح".


يقول الأستاذ "سيف الإسلام" معلِّقًا: إن هذه الجملة أشدُّ ما تنطبق على الإمام نفسه؛ لأن وقته كان فيه بركة كبيرة، وإن العمل الذي يستغرق في ساعات كان الله ييسره له في دقائق، ومع توفر الإخلاص يستطيع كل أخ أن يقوم بأعمال جمة في وقت يسير.


كان- رحمه الله- مثلاً أعلى في كل ما يصدر عنه لإتقانه وحسن دراسته للقرآن الكريم، ولتمسكه الشديد بسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منذ نشأته الأولى في بيئة دينية وعلمية، وكأنما هيأه الله- سبحانه وتعالى- للدور الذي رسمه له في حياته بعد ذلك.



اهتمامُه بأبنائه:

وعن اهتمام الإمام الشهيد بأبنائه ورعايته لهم، يقول الأستاذ "سيف الإسلام":


لا أتزيَّد أو أُبالغ في أمر من الأمور حينما أذكر أن الإمام "حسن البنَّا" كان ربَّ أسرة مثاليًّا.. منذ أن وعيت لم أشعر يومًا سواء في طفولتي أو صباي بأنه قصَّر في العناية بنا أو الاهتمام بأمورنا، كان لكل ابن منَّا من أبنائه حينما يولد (دوسيه) خاص، يكتب فيه الإمام بخطه على وجه الدقة تاريخ ميلاده- ورقم قيده- وتواريخ تطعيمه.


ويحتفظ بجميع الشهادات (الروشتات) الطبية التي تمت معالجته بها، بحيث إذا أصيب أي منا بمرض استطاع أن يقدم للطبيب المعالج هذه الشهادات مسلسلة بتواريخها، ويرفق مع كل شهادة ملحوظة عامة، ثم ما أخذه من دواء ولمدة كم يوم، وكم استغرق هذا المرض، وهل أكمل الدواء أم لم يُكمل.


وكذلك شهادات الدراسة كان والدي- رحمه الله- يضعها أولاً بأول في هذا الدوسيه مسجَّلاً عليها بعض الملاحظات مثل: "سيف" يحتاج إلى التقوية في كذا، وضعيف في كذا.. "وفاء" تحتاج إلى المساعدة في مادة كذا... وهكذا وبالجملة كل ما يختص بأحد أبنائه.



حسن البنَّا ربُّ أسرة:

كذلك كانت عناية الإمام الشهيد "حسن البنَّا" بأمور بيته عناية ممتازة، كان يكتب بنفسه الطلبات التي يحتاجها المنزل شهريًّا، ويدفعها في أول كل شهر إلى أحد الإخوان وهو الحاج "سيد شهاب الدين" صاحب محل البقالة الشهير ليوفر هذه الطلبات في كل شهر.


كان- رحمه الله- عطوفًا إلى أقصى درجة، راعى مشاعر الطفولة في أبنائه بشكل كبير، كان لدية القدرة على جعلنا نطيعه دونما حاجة إلى أمر، أذكر أنه عرَّض لي بأن دخول السينما أمر لا يليق بالمسلم، فلم أحاول أن أدخل السينما قط؛ بل ظللت حتى اليوم لم أدخلها، وهذا من قوة تأثيره وجاذبيته.


كان أقصى ما يعاقب به الواحد منا هو قرص الأذن وفي ذات مرة قرص أذني، وهذا أكبر عقاب وقَّعه عليَّ- رحمه الله- قرص أذني في الصباح لخطأٍ ارتكبته؛ ولكنه اتصل بي تليفونيًّا في الساعة الحادية عشر صباحًا ليطمئن عليَّ وصالحني، وكان لهذا أثر كبير في نفسي.


كان كريمًا مع أبنائه.. أذكر أن كلَّ واحد منَّا كان يأخذ مصروفًا ثلاثة قروش، وهذا مبلغ كان يعتبر كبيرًا في هذا الوقت؛ لأن زملائي في المدرسة لم يكن الواحد منهم يأخذ أكثر من ربع قرش أو نصف قرش.


هذا بالإضافة إلى بعض المبالغ التي كان يعطيها لنا في يوم (الجمعة)، ويطلب منا توزيعها على بعض الفقراء في المسجد، وقد يكون هذا خمسة قروش أو عشرة.

ولعلي أدركت بعد مرحلة معينة من السنِّ أنه- رضي الله عنه وأرضاه- كان يتابع كل تصرفاتي متابعة دقيقة، ولكن دون أن ألحظ إلا عندما كبرت، فعندما أستعرضُ بعض تصرفات الوالد أعرف أنه كان يتابع تصرفاتي.



طريقتُه في التربيةِ:

أذكر أنه في إحدى السنوات نقل جزءًا من مكتبة البيت إلى مقرِّ مجلة (الشهاب) واشترى عدَّة مكتبات جديدة للمنزل، وكان نصيبي من هذا التغيير أن فزت بمكتبة صغيرة أهداها إليَّ الوالد، ومنحني مصروفًا زيادة قدره (خمسون قرشًا) كل شهر لشراء الكتب بمعرفتي وتكوين مكتبة خاصة بي.


وبحكم سني في ذلك الوقت فقد اشتريت عدة كتب من (درب الجماميز) ومنها روايات عن المغامرات البوليسية لـ"أرسين لوبين" و"شارلوك هولمز" وغيرهما، وحينما جاء الوالد متأخرًا بالليل وجدني ساهرًا أقرأ في هذه الروايات باهتمام شديد.. تركني ولم ينهني عن قراءتها؛ ولكن حينما انتهيت من قراءة هذه الروايات قال: سأعطيك شيئًا أحسن منها وبدأ يغذيني ببعض الكتب منها سيرة الأميرة "ذات الهمة" وسيرة "عنترة بن شداد" و"سيف بن ذي يزن" وبعض روايات البطولة الإسلامية، ثم بعد ذلك دفع إلي بكتاب سيرة "عمر بن عبدالعزيز"- رضي الله عنه وأرضاه- وغيره من الكتب المفيدة،


وشعرت في هذه الأثناء أنه يتابع قراءتي بدقة رغم انشغاله بأموره الدعوة.


وكان من عادته- رحمه الله- أن يعتمد في تربيتنا على الأسلوب غير المباشر؛ أسلوب التعريض دون الطلب.. وكان في كثير من الأوقات- وخصوصًا في رمضان إذا حضر المنزل واستراح قليلاً- يستيقظ قبل المغرب بساعة تقريبًا ويدعوني أنا والأخت الكبرى "وفاء" بدعوى أن نُسَمِّعَ له القرآن الكريم.. فكنا نمسك المصحف وننظر فيه ووالدي يسمعنا.. وقد أدركت لمَّا كبرت أن غرضه- رحمه الله- من هذا العمل هو تعليمنا من حيث لا ندري كيف نتلو القرآن!


وأذكر وأنا صغير في المرحلة الابتدائية أن والدي- رحمه الله- قال: على كل فرد أن يتقن حرفة، وكان رحمه الله يتقن إصلاح الساعات، فأخذني ذات مرة في الإجازة الصيفية، ودفع بي إلى مطبعة (الإخوان المسلمون) وطلب من مديرها الأخ "سيد طه" أن يتولاني برعايته ويعلمني شيئًا، وذلك لحرصه على تطبيق السُّنة "إن الله يحب المؤمن المحترف"، ولا أتجاوز إذا قلت إن هذه الفترة القصيرة نفعتني كثيرًا في حياتي العملية بعد ذلك.


"حسن البنَّا" الزوج وإكرامه لأهل زوجته:

لقد كان والدي- رحمه الله- يحرص على تطبيق السُّنَّة تطبيقًا متناهيًا، وحينما تزوَّج حَرِصَ- رضي الله عنه- على أن يعرف أقارب زوجته فردًا فردًا، أحصاهم عدًّا وزارهم جميعًا رغم بعد أماكنهم، أو بُعْدِ بعضهم عن البعض بسبب الظروف العائلية المتوارثة كأن يكونوا ليسوا أشقاء مثلاً... لكن الوالد- رحمه الله- كان يفاجئ والدتي بأنه اليوم قد زار (فلانًا) وهذا يمت لها بصلة القرابة عن طريق (فلان) لأنه ابن فلان، وهذا يرجع إلى دقته المتناهية في الالتزام بسُنَّة رسول الله.


كان- رحمه الله- رقيق المشاعر.. كان يعود للمنزل دائمًا متأخرًا بعد انتهاء العمل مع الإخوان، وأذكر أن مفتاح المنزل كان طويلاً.. وكنت أسهر في بعض الليالي للقراءة، فكان- رحمه الله- يفتح الباب بالمفتاح الذي معه بمنتهى الدقة والهدوء حتى لا يزعج أحدًا من النائمين.


كان يدخل البيت فيطمئن على غطاء كل الأبناء، وقد يتناول عشاءه الذي يكون معدًّا على المائدة ومغطًى، دون أن يحرص على إيقاظ أمي أو أحد من أهل البيت لحضوره في هذه الساعة المتأخرة من الليل.



معاملتُه مع الخادمة:

كان يتواجد في المنزل خادمة صغيرة تساعد الوالدة في شئون المنزل.. وكان لكل منَّا سرير مستقل ودرج مستقل في دولاب واحدٍ... وكان للخادمة أيضًا سرير مستقل ودرج في نفس الدولاب، وكان أبي يكلف الشقيقة الكبرى الأخت "وفاء" بأن تعلِّم هذه الخادمة في المساء القراءة والكتابة، وأن تعلمها الصلاة.


وأذكر أن أبي في إحدى المرَّات قد ذكر لنا عندما عاد إلى المنزل أنه قد زار (فلانة) إحدى الخادمات بمنزلها بعد زواجها وكانت قد خدمت بمنزلنا فترة من الزمن وذلك حينما كان يزور بلدتها في (المنوفية).



حوارٌ مع الوالد:

لقد عاصرت والدي الإمام الشهيد- رحمه الله- لمدة عامين، وأنا طالب بالمرحلة الثانوية، وكان دخول المرحلة الثانوية هو الميلاد السياسي للشاب في ذلك الوقت؛ لأنه يستطيع أن يشترك في الجمعيات أو الأحزاب، وأن يطبع كارت يكتب عليه اسمه وتحته لقب طالب ثانوي، وأن يشترك في المظاهرات، وقد انضممت إلى (قسم الطلاب) في هذه المرحلة، وأذكر أن الذي كان يرأسه في ذلك الوقت الأستاذ "فريد عبدالخالق"، وكان زملائي في القسم مجموعة من طلاب مدرسة (بمباقادن) الثانوية، وكان مقرها بشارع (إلهامي) بالجمالية بالقرب من المركز العام للإخوان المسلمين، وكنت بطبيعة الحال أشارك مع الإخوة في هذه المدرسة في نشاط قسم الطلاب، وكنا ندير بالمدرسة مناقشات حول قضايا معظمها في المسألة الوطنية وقضية وادي النيل وإخراج الإنجليز من مِصر والسودان والوحدة بين مِصر والسودان.


وحينما كنت أعود للمنزل، وأتناول الغذاء مع الوالد كنت أسأله عما يجري، ويحدث في المدرسة من مناقشات.


وأذكر أنني سألته مرة سؤالاً صريحًا: وماذا سنفعل مع الإنجليز إذا لم يخرجوا من مصر؟ فقال الوالد: سنرسلك مع كتيبة لإخراجهم بالقوة، وقد رددت عليه حينئذ ببيت "عنترة" بعد أن غيرت فيه الضمير وقلت له:

وَسيْفُكَ كَانَ فِي الهَيْجَا طَبِيبًا يُدَاوِي رَأْسَ مَنْ يَشْكُو الصُّدَاعَا

وقد نلت في ذلك الوقت قُبلةً على جبيني لازلت أتحسَّس موضعها حتى الآن.

لقد كنت على وعيٍ تامٍّ بما يجري في هذا الوقت من أحداث وأمور سياسية، من واقع النضج السياسي الذي كانت تعيشه المدرسة الثانوية آنذاك، والتي كانت تتمثل فيها كافة طوائف الأحزاب الموجودة على الساحة في ذلك الوقت، وأبرزهم الإخوان والوفد.


لقد كان طلاب المدارس الثانوية في ذلك الوقت يتجاوبون بشدة مع الأحداث التي تجري في مصر والعالم الإسلامي بالإضرابات والمظاهرات.


المصدر:إخوان اون لاين