تدمر شاهد ومشهود

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
تدمر شاهد ومشهود
تدمر شاهد ومشهود.jpg

بقلم: محمد سليم حماد


تقديم إخوان ويكي

كتاب تدمر شاهد ومشهود يحكي عن محنة الثمانينات الرعيبة التي مر بـها الشعب المسلم في سوريا، صدر مؤخراً كتاب "تدمر شاهد ومشهود" يحكي قصة طالب أردني كان يدرس الهندسة في دمشق، حينما تم اعتقاله من أمام كليته، ليختفي عن الأنظار إحدى عشرة سنة كاملة، أمضى معظمها في سجن تدمر العسكري سيئ السمعة، شاهداً على ممارسات من الإرهاب الموتور ضلعت به أجهزة النظام السياسية والأمنية معأن فطالت أرواح مئات من خيرة أبناء الشعب السوري، قضوا على أعواد المشانق أو تحت سياط الجلادين، ومعهم ألوف لا تكاد تحصى ممن طالت عليهم السنون أسرى القيد والمحنة، حتى نسيهم العالم أو كاد! "تدمر شاهد ومشهود" سجل يكاد لم يُسبَق، بسعته، وتفاصيله، والكم الهائل من الوقائع والشواهد والأسماء والتواريخ التي عاشها "محمد سليم حماد" بين الأعوام 1980 و1991 وتذوق مع عدة آلاف من السجناء مرارتـهأن وفظاعتهأن وتنقل بين فصولها الرعيبة، وحلقاتـها المفجعة، فكان العمل بحق "شاهداً" على صفحات دامية من محنة سوريا المسلمة، وكان كل حدث "مشهود" وثيقة جديدة تدين الأيدي التي انسلخت من آدميتهأن وفاقت في ممارستها وحش الغاب فظاعة، وقسوة، وتعطشاً للدماء!

البداية

كانت الحياة ضحى ذلك اليوم البارد من آخر أيام سنة 1991 تمضى فى مدينة تدمر الصحراوية على غير ما جديد فالأطفال مضوا مبكرين إلى مدارسهم والأمهات فى المنازل يلكن الأحاديث مع الجارات وقد أمن انصراف الرجال إلى أعمالهم وخلو البيت من المنغصات والدكاكين فى السوق الرئيسى للبلدة استقبلت روادها الذين اختلط فيهم الرجال بالنساء والمدنيون بالشباب المجندين والمترجلون بالراكبين والدواب بالسيارات وكل ينفث من صدره هما أو يرسل زفرة التياع ، فهذا جندى متأخر فى إجازته يريد اللحاق بوحدته العسكرية ولكن سائق السيارة الذى يأمل فى اصطياد راكب إضافى يماطل ولا يتحرك وصاحب الدكان ضاق ذرعا بزبونته التى أطالت معه الجدال من أجل أن يخصم لها من سعر الحاجيات التى اشترتها بضع ليرات هى كل ربحه من هذه الصفقة التافهة وما عادت تكف عن الرجاء والإستعطاف وحتى الحمار الذى حمله صاحبه من البرتقال أكثر من قدرته فى هذا السن المتقدم صمم فجأة على تسجيل موقف مشرف فحرن وسط الطريق العام وأحدث أزمة سير سببت له ولصاحبه سيلا من الشتائم بالألسنة أو الزمامير النزقة .. لكن الحمار وحده هو الذى لم يتهم!

وعلى هذا الطريق ومن حيث تدلف السيارات القادمة من جنوب المدينة فتعبرها باتجاه حمص ، كان أحد باصات التويوتا أحمر اللون يغذ بنا السير نحو الإتجاه نفسه ، من غير أن يلفت انتباه أحد من كل هؤلاء الناس أو يعنى لهم أى شىء ، لكننا نحن ركاب الحافلة الذين ارتدينا جميعا ملابس عسكرية كاكية اللون تكاد تكون جديدة وقبعنا فى مقاعدنا يلفنا الصمت المطبق ،كنا اللحظة كالخارج من رحم أمه أول مرة أو كالقادم إلى الأرض من كوكب لم يكن فيه من البشر أحد من قبل ، وحينما أطلق السائق النزق شتيمة سافلة للحمار وصاحبه ، وتخطاهما يكاد يحرق محرك الباص من غير سبب حقيقى أو مبالاة ..كنت وبقية الركاب الآخرين لا نزال نحملق فى الحمار صاحب الموقف .. وببقية عباد الله حوله . ونتابع بعيون نهمة قدر ما هى وجلة كل شاردة وواردة تخطر حولنا . ثم لا نلبث أن نخفض رؤوسنا بانكسار .. ونرد الطرف وهو حسير .. وننصت متوجسين خشية أن يكون أمرما قد صدر ونحن فى سرحاننا هذا فأوجب علينا تلكؤنا بالإجابة العقاب !

ويمضى الباص بنا فى اتجاه دمشق .. وتمضى بى الهواجس تسرى من جديد ، وتنفجر فى داخلى العبارة التى لا تزال تعصف فى أذنى كالبركان منذ ثلاثة أيام مضت ولا تكف عن الترداد تقول :

سيادة الرئيس أصدر قرارا بالعفو عنكم .. وغن هى إلا أيام حتى تكونوا بين أهاليكم.

لكننى أرانى كالملسوع ومن غير مقدمات يقفزمن أعماق أعماقى صوت آخر كحشرجة المحتضر يقول : بعد اثنى عشر سنة .. من يصدق ؟ ومن يثق بمن؟ ثم ماذا إذا صدقوا ؟ أى مستقبل لنا وأى حياة ؟ وأين يكون موقعنا بين هؤلاء الذين فارقناهم فى أعمارنا فصاروا الآن آباءا ورجالا لهم فى الحياة مركز وموقع ؟ أو موقفنا من الذين خلفناهم وراءنا حتى من غير أن نقول لهم كلمة وداع !

وسرعان ما أنتبه من حوارى الصامت هذا على أحد المرافقين يقهقه بصوت مجلجل من غير أن أفهم السبب ..

أتأمله من طرف عينى فكانه بشعره النابت وشاربيه المتدليين وسحنته السمراء نوع من المخلوقات انقرض من عهد بعيد واختفى ، ثم هاهو ذا يعود الساعة إلى الوجود !

كان من أغرب المشاهد حقا علىّ وعلى قرابة خمسة وثلاثين أخا يستقلون الباص معى أن نبصر رجلا طبيعى الهيئة معافى البدن يقهقه ملأ شدقيه بلا خوف ولا وجل .. بعد أكثر من عشرة أعوام أمضيناها فى سجن تدمر الصحراوى ، لا نبصر إلا وجوه المعتقلين صفراء ناحلة ، ورؤوس نزلاء الزنازين محلوقة كالبطيخة الملساء .. وهاما تهم مطأطأة من القهر على الدوام .. تتلقى كل أصناف العذاب ولا حق لها أن تنبس ولو ببنت شفة !

كانت تلك هى نهاية الكابوس المرعب أو مراحل نهايته الأخيرة . وكانت المشاعر والهواجس خليطا من الفرح والوجوم .. والبشر والتوجس .. والتشوف والتخوف . لكن البدايات كانت مذ كانت غير ذلك .. وفاتحة الرحلة هاهى كما ارتحلت ُ بها من قديم الزمان .

سنوات الشباب

اسمى محمد سليم حماد . ولدت عام 1960 فى العراق رغم أن أهلى من فلسطين . فوالدى رحمه الله سليم حماد المفتش فى وزارة التربية والتعليم بالأردن وقت ذاك كان فى مهمة عمل فى العراق حين وضعتنى أمى . ثم لم تلبث الأسرة أن عادت إلى مدينة نابلس . فجرش قبل أن تحط بنا الرحال فى مدينة الزرقاء بالأردن ، حيث نشأت وترعرعت وسط إخوتى الأربعة . وأمضيت عشر سنوات كاملات من سن التاسعة إلى التاسعة عشرة.

لم تكن أسرتى بالأسرة الملتزمة أو صاحبة الإنتماء الساسى المحدد . الوالدان يصليان كعادة أهل البيت ، لكن الدين عندهما لا يزيد عن ذلك بكثير . وحين بدأت أتردد على المسجد وأبدى وأنا فى المرحلة الإعدادية ما يمكن أن يسمى اهتماما أكبر بالدين ، بدأت علامات التململ تظهر فى البيت.

وحين تحول هذا الإهتمام إلى درجة أشد وأخذت أتفاعل مع الإسلام كقضية وبدأت أنشط فى هذا الإتجاه، انقلب التململ الخفى إلى معارضة وتحذير لكننا تجاوزنا تلك المرحلة بالتدريج بفضل الله تعالى .ولم أكن واقع الأمر أحاول إلا أن أطبق الكلام الذى أسمعه فى مسجد عثمان بن عفان الذى اعتدت المداومة على الصلاة فيه والإلتقاء بالشباب فى رحابه من غير رابطة محددة إلى ذلك الوقت . كانت القضية مجرد عاطفة تجيش وتستعر ، لكن التفاعل مع الدعوة إلى الله أخذ يغمرنى بشكل متزايد ، وتبليغ الناس هذا النور الذى بلغته أخذ يلح على كهاجس دائم .

كنا مجموعة من الأصدقاء الأصفياء نتنافس فى الخير . ولا أزال أذكر كيف كنت أستيقظ قبل أذان الفجر بساعة أوأكثر حتى فى أشد أيام الشتاء برودة لأذهب لبيوت أولاء وأوقظهم للصلاة . وبعد صلاة الجماعة فى المسجد كانت لنا جلسة لقراءة المأثورات . وجلسات ولقاءات فى المدرسة بين الصفوف وبعد المدرسة وفى الصلوات الأخرى ، ولم تلبث الأفكار أن بدأت بالتبلور لدى وأنا أتدرج فى مراحل الدراسة حتى ملكت كل كيانى ، وصرت أنفق كل تفكير فى البحث عن مجال نطبق فيه هذه الأفكار إلى حيز الوجود ، ووصلت إلى قناعة تامة بأنه مهما بذلت فى سبيل ذلك الهدف فسيرخص دونه . ولم ألبث أن وجدتنى عضوا فى جماعة الإخوان المسلمين التى تنشط فى الأردن بشكل علنى ويدخلها الناس وينتمون إليها بشكل طبيعى وعادى . وعندما بلغت المرحلة الثانوية كنت مسئولا عن الطلبة المنظمين فى مدرستى ولم يكن ذلك بالأمر الذى أخفيه .

منهج ونظام

كانت الحركة الإسلامية فى الأردن وقت ذاك فى بداية تشكيل جديد بعد محنة أيلول 1970 وكان إخواننا وموجهونا يعنون بتربيتنا وتوجيهنا ويجهدون لنقل الإسلام المتكامل إلى أذهاننا وعقولنا . فتعلمنا أن الدين هو الطريق الذى تسعد البشرية من خلاله وحده ، وأنه نظام متكامل للحياة ..

فهو منهج سياسى وحل اقتصادى وخلق وعبادة ونظام . هو دين الله وسعادة البشرية فيه ، وعلينا نحن الذين تبنيناه أن ننشره بين الناس ونجهد لتطبيقه على شكل نظام سياسى كامل . ولكم كان يحلو لى وقتها أن أنشد بكل جارحة من جوارحى أبياتا من قصيدة (شباب الإسلام) للشهيد هاشم الرفاعى يقول فيها وكأنه يتحدث بلسان حالى :

ملكنا هذه الدنيا القرونا
وأخضعها جدود صالحونا
وسطرنا صحائف من ضياء
فما نسى الزمان ولا نسينا

ثم إذا نظر إلى واقعنا ونظرت معه أنشد أبياته التاليات :

وما فتئ الزمان يدور حتى
مضى بالركب قوم آخرونا
ترى هل يرجع الماضى فإنى
أذوب لذلك الماضى حنينا

وترانى من ثم أهتف معه بانفعال وأريد أن أسمع العالم كله أقول:

دعونى من أمان كاذبات
فلم أجد المنى إلا ظنونا
وهاتوا لى من الإيمان نورا
وقورا بين حنبى اليقينا
أمد يدى فأنتزع الرواسى
وأبنى المجد مأتلقا مكينا

إنه لصعب حقا أن أصف مشاعرى وقتذاك ، لكن الإنسان إذا تبنى فكرة بهذا العمق وهذا القدر من الجدية فإنه يجند كل سكنة وحركة من حركاته فى سبيلها .ويشعر أنه على استعداد كامل لانتزاع الرواسى من أجلها .

مخيم النخبة

فى عام 1977 عقدت" الندوة العالمية للشباب الإسلامى" مخيما لها فى منطقة (دبين) بالأردن قدر لى أن أشارك فيه على الرغم أننى كنت لا أزال فى المرحلة الثانوية والمخيم مخصص للجامعيين . وكانت العادة أن نشهد مخيما أو اثنين فى العام نتدرب فيهما على الحياة الخشنة واللياقة البدنية ، ونتلقى من خلالهما بعض الدروس والمحاضرات التربوية . لكن الجديد فى ذلك المخيم وقتذاك أننى التقيت وللمرة الأولى بنخبة من إخواننا السوريين ، وتعرفت عن كثب على قضيتهم ومعاناتهم وجملة هامة من أفكارهم . الأمر الذى كان له وقع مختلف على نفسى لم تظهر آثاره إلا بعد سنوات .

معاناة مرة

كان مسئول الخيمة التى نزلت فيها أخا سوريا اسمه صبري غنام وكنيته أبو عمار . ولا أزال أحس بالأثر العميق الذى تركه هذا الأخ المربى فى نفسى ، وأتذكر تماما صور الإخوة الآخرين والمحبة التى قامت بيننا منذ ذلك الوقت .

وعندما دخلت سورية بعد ذلك بسنوات عرفت أن الذين التقيتهم كانوا طليعة الإخوة السوريين ونخبتهم : عصام وعبد الله قدسي ، جمال عقيل ، جلال جلال ، عدنان شيخوني .

كذلك حضر المخيم وقتها الشيخ سعيد حوي وألقى فينا محاضرة مطولة وقتها . لكن المحاضرة التى ألقاها الأخ عدنان شيخوني كانت أول كلام أسمعه عن النظام السورى وتركيبته الطائفية وتسلطه وطغيانه ، وكانت بداية اطلاعى على معاناة إخواننا المرة فى سورية بعد عامين كنت أحس أننى قريب من هؤلاء الإخوة ومن قضيتهم ، ووجدتنى عندما أتى من أتى وسألنى أن أساعد فى هذا الإتجاه أقبل بلا تردد .. وأقبل بكل امتنان وسعادة .

حادثة المدفعية

كانت أيام المرحلة الثانوية قد انقضت وحصلت على المجموع الذى أهلنى لدخول كلية العلوم بالجامعة الأردنية . وفجأة ومن غير مقدمات بلغتنا أواخر شهر حزيران 1979 أنباء حادثة المدفعية بحلب ، والتى اتهم الإعلام السورى بها جماعة الإخوان المسلمين وأعلن الحرب عليها من فوره .

وسرعان ما انتقل صدى الحادثة إلى صفوف الإخوان الأردنيين وعاد الحديث عن طائفية النظام السورى وبطشه ومظالمه وبطشه بالإسلاميين يسرى بيننا ، فى الوقت الذى أخذت الصحف المحلية والعربية والعالمية تسلطالأضواء بطرق شتى على الحادثة ومنفذيها .. وعلى خلفيات الوضع السياسى والطائفى فى سوريا بشكل عام .

وفى ذلك العام كانت مشاعرنا الإسلامية مشدودة مع الثورة الإيرانية أيضا ، وكانت العواطف الثورية آخذة فى التنامى بين أوساط الإخوان الأردنيين . وعلى الرغم من أن العمل المسلح لم يكن واردا فى تربيتنا الإخوانية ، وكانت الجماعة كما أفهمونا دائما مجرد حركة دعوية وحسب ، إلا أن الفكرة كانت تتشكل وفق نفسية كل فرد منا . ولذلك نشأت مدارس متعددة داخل التنظيم ، التزم بعضها بتوجيهات القيادة وتعليماتها ، ورأى البعض نتيجة حماسته أن علينا أن علينا أن نبادر ونتصرف بشئ عملى لخدمة هذا الدين ، وأنه لا منفذ لتحقيق ذلك وسط هذه الظروف إلا الإستعانة بالسلاح . وبعد تفجر الأحدث فى سورية قوى هذا الإتجاه عموما . ولذلك وعندما بدأت أقدم المساعدة للإخوة السوريين كنت فى غاية السعادة أحس أننى أقوم بعمل جهادى حقيقى لتطبيق الإسلام الذى حملته كفكرة طوال السنوات الماضية.

إلى دمشق

كانت طبيعة المساعدات التى قدمناها للإخوة السوريين اللاجئين إلى الأردن مجرد خدمات اعتيادية لتسهيل تنقلاتهم واستئجارهم للبيوت داخل البلد . لكننا كنا من خلال ذلك نتعرف أكثر على خلفية الأحداث ونحس المأساة التى تجسدها عوائل كريمة نزحت عن بلادها خوف الملاحقة والإعتقال وشباب متفرقون تركوا جامعاتهم ومدارسهم ليعيشوا حياة الإغتراب والتشرد القسرى . وكنا نسمع من هؤلاء روايات مثيرة عن البطولات التى تجرى .ونتفاعل مع قصص المواجهات التى يقوم بها حفنة من الشباب فى مقابل نظام دكتاتورى كامل العدة والعتاد ، فكأنها ضرب من الخيال . ومن خلال ذلك تعرفت على الكثير من الشباب السوريين وقياداتهم . ولم ألبث فى خضم ذلك أن تلقيت رسالة من سوريا تتحدث عن قبولى فى كلية الهندسة المدنية فيها ، والتى كنت قد تقدمت إليها خلال الفترة الماضية رغبة منى فى دراسة هذا الفرع الذى أميل إليه . وبالفعل رتبت أمورى وحزمت حقائبى ويممت مع بدايات عام 1980 شطر دمشق ، تحدونى الآمال بدخول الكلية التى تمنيتها . والأمنيات بالإقتراب أكثر من تلك القضية الجهادية الساخنة هناك .

وواقع الأمر فإننى وبعد أن ازددت احتكاكا بقيادة الإخوان المسلمين من خلال تعاملى معهم فى الأردن ، فقد تم وصلى بالإخوة السوريين فى دمشق , وحددت لى مهمة مبكرة بتوصيل تعليمات القيادة من الأردن إلى دمشق . وفى هذا السياق تم ربطى مع شخص آخر اسمه مازن كان سائق سيارة على الخط نفسه ، لنؤدى هذه المهمة بالتعاون والتنسيق . وفى عمان كان الأستاذ علي البيانوني (أبو أنس) والأستاذ أديب جاجة (أبو الطاهر) أكثر من كنت أتلقى منهم التعليمات والرسائل وأنقلها بمساعدة مازن ، لنسلمها هناك إلى الأخ سالم الحامد (أبو الفرج) أو خالد الشامي أو إخوة آخرين كانوا يأتون من مختلف المدن والمحافظات إلى مواعيد محددة لا نعرفهم إلا بأسمائهم الحركية

بين الطليعة والإخوان

كان الوضع التنظيمى للإخوان فى دمشق فى بداية تأسيسه فى تلك الفترة . فالقيادة فى الأردن قررت أن تنزل مجموعة من شبابها لتأسيس قواعد جديدة . وتم اختيار أبى الفرج ليكون أمين سر مركز دمشق ، وفاروق أبو طوق مسئولا عسكريا . وأما المسئول العام لمركز دمشق فكان غالب الألوسي . ولم تكن طبيعة المرحلة تتعدى تأسيس القواعد وتأمين أماكن لمن ستختاره القيادة فى الأردن للنزول . أما خارج هذا الإطار وبالنسبة للعمليات والأحداث الجارية والمتصاعدة على الساحة فى دمشق أو فى بقية المحافظات فلم تكن معلوماتى عنها كثيرة وقتها . كنا نسمع الأخبار كباقى الناس ، ولكننا لم نكن نعلم كثيرا عن وجود تنظيم آخر هو الذى ينفذ العمليات ، أو عن وجود خلاف تبين أنه لم يكن طارئا أو سطحيا بين قيادة الإخوان فى الخارج وتنظيم الطليعة فى الداخل . لكن خلافا آخر نشأ لاحقا بين صفوف قيادة مركز دمشق الجديدة هذه حينما أراد فاروق أبو طوق أن ينفذ عملية تستهدف مبنى للخبراء الروس فى دمشق ، فاعترض سالم والإخوة الآخرون فى القيادة لأن مخطط التنفيذ وطبيعته كانا يقتضيان استخدام كمية من المتفجرات كفيلة بتدمير المبنى وما جاوره من مبان سكنية لمدنيين عاديين . واشتد الخوف حول الأمر حتى طلب سالم من الشيخ سعيد حوي استبدال فاروق فتم له ذلك .

مراسلات

مضت الأمور على هذه الشاكلة . أداوم فى كلية الهندسة بشكل عادى ، وأساعد بين وقت وآخر فى نقل المراسلات وتبليغ المهمات بيت عمان ودمشق ، إلى أن قدر الله فى يوم من أيام شهر آذار كنت مسافرا وقتها من دمشق إلى الأردن حينما أوقفونى فى مركز الحدود السورية من غير مقدمات وأمرونى بمغادرة السيارة والذهاب معهم . وكان من لطف الله أننى لم أكن أحمل معى أية رسائل أو أمر يثير الشك يومها . وبت ليلة فى سجن المخابرات بدرعا من غير أن توجه لى تهمة محددة . ولا أذكر كيف اخترق البرد عظامى وجعلنى أعانى الليل كله فى الزنزانة وحدى تختلط الأفكار فى ذهنى وتتقلب على الهواجس قبل أن تأتى دورية للمخابرات صباح اليوم التالى إلى قيادة الأركان بدمشق .

ورغم أننى لم أشعر بالخوف مما حدث إلا أن الغموض بحد ذاته كان مخيفا . وعلى الرغم من أنهم لم يعاملونى بشدة تذكر وتبين لى خلال يومين اثنين أننى لم أكن الشخص المطلوب , إلا أن الفترة التى أمضيتها بين الزنازين وفى أقبية المخابرات حينذاك كانت كافية لأتبين فظاعة الوضع ومقدار الرهبة والماناة التى يلاقيها السجناء :طريقة الأسئلة .. الكلمات البذيئة والمسبات .. الصفعات والإهانات .. وأصوات التعذيب واستغاثة المعذبين.

وعنما خرجت وعدت إلى الأردن رأيت الأهل الذين علموا بالخبر مضطربين جدا , وألحوا على ألا أعود لكننى أصررت على العودة , ورجعت بالفعل إلى كليتى , وإلى تأدية مهمتى مراسلا مثلما كنت بين القيادة فى عمان وأبى الفرج فى دمشق أبو الفرج كان أبو الفرج رحمه الله العنصر القيادى الأنشط فى مجموعة قيادة دمشق . وسالم هو الإبن الأصغر للشيخ محمد الحامد رحمه الله أحد العلماء المشهورين فى حماة . وربما كان ذلك أهم أسباب توليته المزيد من المسئوليات . ولا أزال أذكر أنه طلب منى أواخر أيامه أن يستلم كل المراسلات القادمة من عمان ليوزعها على مراسلى المحافظات بنفسه . وعندما أبديت له خشيتى أن ترهقه المسئولية أو أن تزداد نسبة انكشافه بازدياد الذين يلتقيهم أصر . وفى اللقاء التالى قال لى أن الشيخ سعيد حوي يريد ذلك أيضا ويأمر به . فلم يسعنى إلا أن أجيب طلبه . وكان من مفارقات الأمور أن اعتقال سالم أتى بعد فترة وجيزة عن طريق اعتقال أحد المراسلين أنفسهم !

لم يكن سالم وهو أمين سر تنظيم دمشق يمشى مسلحا , وعندما سألناه عن ذلك مرة قال لنا إن حدث شىء لن يتمكنوا من اعتقالى فإما أن أموت أو أفلت منهم . لكن الظروف أتت على على غير ما توقع سالم , ففى شهر آب عام 1980 تم اعتقال مراسل حمص , ولم يكن بين اعتقاله وموعده مع سالم أكثر من ساعة , لكن الأخ اعترف من شدة التعذيب عن الموعد المقرر على موقف باص الزبدانى عند وكالة سانا للأخبار .

ولقد حدثنى سالم بنفسه فيما بعد كيف وجد مجموعة من المخابرات الذين تنكروا بثوب البداوة وكمنوا فى المكان ينقضون عليه فور حضوره , فيمسكه اثنان منهم من يديه خشية أن يكون مسلحا , يجتمع البقية عليه يوسعونه ضربا حتى فقد الوعى فلما صحا وجد نفسه بين أيديهم فى فرع المخابرات لا حيلة له ولا حول.

مفاتيح التنظيم

لم يعترف سالم فى البداية إلا أنه مجرد مراسل عادى .

لكن العذاب الذى انصب عليه طوال يوم كامل فاق قدرته على الإحتمال . وكانوا عندما اعتقل قد وجدوا مفتاح البيت الذى يتخذه قاعدة خاصة به فى جيبه . وسرعان ما طوقوا المكان وداهموا البيت قرب جامع المنصور بدمشق . وكان سالم وقتها يستضيف أخا مجاهدا اسمه طريف جعمور , انبرى وتصدى للمداهمة , وحدثت مقاومة بطولية من الأخ طريف استمرت ثلاث ساعات , ولم يتمكنوا منه إلا عندما صعدوا مئذنة الجامع وضربوه بقاذفات الأر . بى . جى واستشهد الأخ فلما تم لهم ذلك ودخلوا البيت وجدوا فيه بين أوراق سالم رسالة من الأستاذ عبد الله الطنطاوى من عمان يكلفه فيها أمانة مركز دمشق رسميا ، فعرفوا وقتها من هو سالم بالضبط . وفى نفس المكان عثرت المخابرات على الهويات المزورة التى يستخدمها التنظيم الناشئ والختم الذى كان يختم به سالم فوق الصور , فتأكدت لهم الفروقات التى سبق واكتشفوها فى الهويات من قبل , وصار كل شاب يستخدم هذا النوع من الهويات فى حكم المكشوف , وسرعان ما جرى اعتقال الكثير من أولئك فى الكمائن داخل دمشق وبقية المحافظات أو على الحدود , كان من ضمنهم عدد من الإخوة السبعة عشر الذين هربوا من سجن كفر سوسة قبل عدة شهور . فإذا أضفنا إلى ذلك اعترافات سالم تحت التعذيب تأكد لنا أن اعتقال أبى الفرج كان ضربة قاسية للتنظيم ,وانكشافا للمفاتيح الكثيرة التى كانت بيده رحمه الله .

حياة الشهيد

لكن الأمر الذى ضاعف المصاب وكبد الإخوة حقيقة الأمر مزيدا من الخسائر كان فى قيام جريدة النذير الناطقة باسم تنظيم الإخوان بالمسارعة إلى نشر موضوع عز حياة الشيخ سالم الحامد , ربما سعيا إلى استثمار اسم الشيخ محمد الحامد فى تحريك الناس , أو لتحقيق مزيد من الإلتفاف حول مجموعات الإخوان وقياداتهم التى نزلت الميدان من قريب . ومضت النذير تتحدث عن أبى الفرج الذى قاوم السلطة ساعات عديدة فى بيته بدمشق قبل أن يلقى ربه , ورسمت له قصة بطولية لا أساس لها من الصحة وسادت هذه القناعة بين الإخوة فى دمشق وباقى المحافظات , وظن الناس أنهم فى مأمن من اعترافات سالم . وعاد كل منا لمتابعة مهمته بلا أدنى قدر من حذر . وكذلك كان الحال معى , وانتقلت صلتى من ثم إلى أخ اسمه يحيى عبد الكريم الشامى وكان طالبا من مدينة حماة يدرس الصيدلة فى جامعة دمشق .

الإعتقال

اعتقل سالم يوم 23/8/1980 وشاع نبأ مقتله واطمأن أفراد التنظيم وقياداتهم . لكننى وفى بدايات شهر 10 /1980 وفى لقاء لى مع مسئولى الجديد يحيى فاجأنى بأن سالم لم يستشهد واقع الأمر وإنما اعتقل . فلما سألته عن مصدر هذه المعلومة غير المتوقعة قال لى أن عبد المعز شقيق سالم استدعى إلى فرع المخابرات بالعدوى وكان وقتها مجندا بالخدمة الإلزامية وتم التحقيق معه ثم أفرج عنه . وأنه أحس خلال تلك الفترة بوجود أخاه سالم هناك على قيد الحياة ونقل له ذلك .وكأننى بعد أن تكرست فى ذهنى قصة الشهيد ورواية المقاومة التى نسجتها النذير لم أقتنع بما قال وأكملت مهمتى وحياتى بشكل عادى ونسيت الموضوع!

وفى يوم الخميس الموافق للثامن من الشهر نفسه ذهبت عند الظهيرة إلى كلية الهندسة لحضور إحدى المحاضرات كالمعتاد . ولم تفاجئنى فى البداية مظاهر الحراسة المشددة وانتشار المسلحين على الأبواب لأن هذا الإجراء بات اعتياديا هناك منذ شهور . لكن ما أن توقفت وقدمت بطاقتى لمسئول الأمن حتى التف حولى عدد من المسلحين قاطعين على أى تفكير بالهرب . وخلال دقائق لم أتمكن فيها من التقاط أنفاسى كانوا قد غطوا عينى وأوثقوا يدى ودفعونى إلى سيارة انطلقت بى كالزوبعة لتقذفنى فى مكان لا أعرفه ، تبين لى بعدها أنه فرع قيادة المخابرات فى منطقة العدوى الذى يرأسه العقيد نزار الحلو .

وجها لوجه

استقبلتنى من فورى اللكمات والركلات من كل جهة وأنا فى طريقى إلى قبو المبنى. وهناك ومع الإجراءات نفسها فتشونى وأخذوا فى غرفة الأمانات كل ما كان فى جيوبى علاوة على الساعة والحزام , ومنحونى رقم 13 ليكون اسمى الجديد من الآن فصاعدا . ودفعونى وأنا لا أزال مطمش العينين مكلبش اليدين إلى مهجع جماعى استطعت فيه أن ألمح العديد من المساجين على مثل حالتى , والسجان يجلد ظهورهم بكبل فى يده .ولم تمض على دقائق حتى جذبتنى الأيدى وأصعدتنى مع الركلات والصفعات الدرج ثانية وأوقفتنى فجأة ونزعت الغطاء عن عينى لأجد سالم الحامد واقفا أمامى وقد طالت لحيته وشعره ولا ينبس بشفة . ومن غير مقدمات أتاه السؤال :

أهذا هو ؟

قال : نعم .

وفتح الباب فدلف صالح الخوجة الطبيب الدمشقى الذى كان أحد من أوصلت لهم الرسائل مرة . فسألوه السؤال نفسه , فأجاب بما أجاب سالم . وغاب الرجلان عن عينى بعد ذاك .

فى الزنزانة

أسقط فى يدى وأذهلتنى المفاجأة بحق من غير أن يمسنى أحد هذه المرة اقتادنى عنصر إلى القبو كما أحضرنى . وفى الزنزانة الموحشة حيث ألقانى هجمت على التساؤلات والمخاوف والهواجس دفعة واحدة وبلا رحمة وبلا توقف : أمى وأبى .. أهلى .. ماذا يفعلون الآن ؟ كيف تراهم يتعذبون من أجلى ؟

يا للمساكين .. سيحاولون البحث عنى والتوسط لى بلا أدنى شك ..ولن يجدوا إلا الفشل وخيبة الأمل ! لقد انتهيت هذه المرة .. والإعتراف الآن على متحقق ودامغ . وماذا عن أولاء الذين لا يزالون على صلة معى فى سورية ؟ هل تراهم انكشفوا ، أم أننى سأضطر لكشفهم بعد حين ؟ وماذا عن التعذيب الذى ينتظرنى ؟ وما عن قصص الرعب التى سمعت الكثير عنها ورأيت ملامح بعضها فى الأيام القليلة التى التى أوقفونى فيها المرة الماضية على الحدود ؟ هل انتهى كل شئ حقا .. هل هى إلا مجرد أيام معدودة ثم تنتزع منى المعلومات وأنال المصير الذى ناله شهداء تدمر قبل أقل من عام !

إلى التحقيق

مضى الوقت على كالطوفان أغرقنى وأرعبنى , ولم تلبث الزنزانة أن فتحت من جديد ونادى المنادى :

ـ 13 ولا .. هيا .

وساقتنى الأيدى القاسية ثانية إلى الأعلى . وعلى باب غرفة التحقيق وجدت الشخص الذى أحضرنى ينزع عنى ملابسى كلها ويقذف بى من ثم إلى داخل الغرفة مغمض العينين مكبل اليدين عاريا كيوم ولدتنى أمى ! ولم يلبث الصوت نفسه أن أمرنى بالجثو على الأرض وخفض الرأس وحذرنى أن أحاول رفع هامتى لأى سبب .

منذ متى وأنت تعرف أبا الفرج ولا ؟

جاءنى السؤال هكذا بلا مقدمات . أحسست أن شخصا آخر يطل على من وراء مكتب فى مواجهتى هو الذى طرح السؤال.

من زمن .

قلتها وأنا لا أعرف بعد كيف أخاطب هؤلاء الناس أو أرد عليهم . فالجو مرعب منذ اللحظات الأولى يلغى لدى المرء القدرة على التركيز أو التمييز .

وماذا عن الدكتور صالح الخوجة ؟

قلت : أعرفه كذلك منذ زمن .

كان الدكتور صالح على علاقة مع سالم بالفعل ، وحدث أن قمت بإحضار رسائل إليه من القيادة فى الأردن إلى عيادته بحى ركن الدين ، فلما اعتقل سالم كان الدكتور صالح أحد الذين اعترف عليهم كما يبدو ، وكان قد أقر أنه يعرفنى كما مر ، ولذلك فلم تعد هناك جدوى من الإنكار.

طيب محمد .. قل لنا الآن لم تعرف هذين الشخصين ؟

كانت اللهجة إلى الآن هادئة والحديث يدور بشكل عادى فى ظاهره ، لكن ذلك كان يزيد من شعورى بالقلق من الآتى وترقب المجهول .

قلت : كان هناك شخص طلب منى أن أوصل لهما رسائل ففعلت .

وماهى هذه الرسائل ؟

لا أعرف . هذا الشخص كان سائقا على الخط بين عمان ودمشق وكان يعمل معى معروفا فيأتى لى بأغراض من أهلى ، ويأخذ أغراضى إليهم بعض الأحيان . وكان بين هذه المرات يطلب منى أن أوصل رسائل أو نقودا لهذين الشخصين فكنت أرد له الجميل وأفعل.

كان مازن يوم اعتقالى مسافرا إلى الأردن والحمد لله . وتأكد لى أنه لن يعود بعدها . وكنا واقع الأمر قد اتفقنا على سرد مثل هذه الرواية إذا وقعنا بين أيدى المخابرات . ولذلك بدت لى اجابتى منطقية ومترابطة . لكن الرجل تابع يسأل :

ألم تكن تعلم بمحتويات الرسائل ؟

قلت : لا.

قال : فى اليوم الفلانى أنت ذهبت إلى الدكتور صالح وأعطيته مغلفا فيه مجلة النذير ورسائل أخرى من الأردن ،وقلت له أن يأتى على موعد مع الشيخ سعيد حوي إلى عمان . ألا تذكر ذلك ؟

صحيح أنا أوصلت إليه مغلفا يومها لكنه كان مغلقا ، وهو موجود عندك وممكن أن تسأله . وأما مجلة النذير هذه فلا أدرى ما هى . وأما بالنسبة للموعد فمازن قال لى أن أخبر الدكتور صالح بأن جماعتك ينتظرونك فى الأردن بالتاريخ الفلانى ففعلت ، ولم أكن أعرف أن فى الأمر تنظيما أو ممنوعات .

حفل التعذيب

لم يشأ الرجل القابع وراء المكتب أن يسمع منى المزيد كما يبدو , وأدرك كما فهمت لاحقا أن الأمر لم ينضج بعد . ولم يلبث أن سمعته يقول للعنصر الذى أحضرنى من غير أن يدعنى أنهى كلامى :

خذه هال...اعمل كذا وكذا باخته خليه يقر.

وسرعان ما انتزعنى ذاك من مكانى وساقنى فى الممر الذى جئت منه إلى غرفة مجاورة , وأنا لا أزال على حالتى عاريا مقيدا مغطى العينين . ووجدت أيديا قاسية تتناولنى من جديد فترفع القيد عن يدى من الخلف ، وتجذبهما للأمام وتعيد تقييدهما ثم تعود الأيدى التى تمتد من كل اتجاه فترفعنى من وسطى عن الأرض . وتتولى أيد أخرى جذب ساعدى للأعلى . وفى لحظة واحدة أفلتنى الجميع ، فوجدتنى مشبوحا كالذبيحة تماما إلى السقف ، ورجلاى تخبطان فى الهواء ليس تحتهما شئ ..دأت أولى حفلات التعذيب !

كنت أيامها فى مقتبل الشباب ، وكانت عافيتى بحمد الله وافرة ، حتى أن أحدهم نادانى مع ابتداء التعذيب ساخرا يقول :

ولا .. هنت (أى أنت) بتلعب حديد ؟

لكن عملية الشبح وحدها كانت كافية لتمزق أعصابى وتتلف جلدى وتفقدنى الوعى بعد عشر دقائق .غير أن ما كان كذلك وحسب ، فسرعان ما انطلقت مجموعة من الكبلات والعصى تجلدنى كأسياخ النار , تبعتها من حيث لا أدرى لسعات الكهرباء تتخير أكثر مناطق الحساسية فى الجسد فتصعقها بلارحمة : فى الأنف مرة ، ومرة فى الشفتين .. فى العورة .. فى العينين .. فى شحمة الأذن .. فى كل مكان تتجمع فيه مراكز الإحساس ومواطن الشعور بالألم ! انفجرت بالصياح من شدة الألم المتفجر فكأنما ازداد الجلادون انتشاءا بذلك ! رازدادت حدة اللسعات والصعقات من غير أن يسألنى أحد أى شئ !

كنت أسمع وسط دوامة الألم صياحهم وهياجهم كالكلاب المسعورة حولى ، ومن غير أن أبصر شيئا أحسست أنهم ربما كانوا قرابة العشرة , ومع كل ضربة كانت تطرق أذنى شتيمة جديدة وألفاظ كفر بالله تزلزل السماوات والأرضين . ولم ألبث أن وجدتنى وقد فاق الألم قدرتى على الإحتمال وحتى على الصياح أغيب عن الوعى تماما ، لأصحو لا أدرى متى فأجدنى فى زنزانة منفردة و الألم ينهش أطرافى وتشتعل الأوجاع نيرانا فى كل ثنية من ثنيات بدنى .

أرقام وحسب

كانت الزنزانة أشبه ما تكون بقبر مقفل : الجدران متقاربة لا أستطيع أن أتمدد بينها والرهبة مطبقة وليس ثمة شئ تحتى إلا الأسمنت البارد والسقف شاهق فوقى تتوسطه شراقة للتهوية (نافذة متشابكة القضبان) يتسلل منها ضوء خافت يزيد المشهد كآبة ووحشة .و سرعان ما تدهم السكون صيحات استغاثة سجين آخر ينال العذاب فى الطابق الأعلى ، وتخترق صرخاته الجدران الصم وأبواب الحديد . فتنتفض من هولها كل ذرة فى بدنى وتستعر فىّ كل الجروح والكدمات .

ومضى الوقت بطيئا الوطء فكأنه الرحى تدور على جسدى المنهك ، لكننى سرعان ما فقدت معنى الزمن بعد هنيهة ، واختلطت على معالم الليل والنهار . فلا ساعة معى تدلنى على الوقت .. ولا صوت أحد أو همسة حى تنبى بما يجرى .. والضوء الخافت لا يتغير ولا يتبدل . وعندما تذكرت الصلاة كانت وسيلتى الوحيدة لأدائها الإيماء . وعلى ذلك مضت السنون التالية على ، لا أكاد أعرف الصلاة إلا بالإيماء وحسب!

وفتح الباب فجأة ، وتلقيت من غير مقدمات واحدة من أقذر المسبات قذفنى بها السجان وهو يلقى إلى بنصف رغيف متيبس مرت عليه رائحة الحلاوة أو المربى فى يوم من الأيام !

ولم ألبث أن اعتدت سماع مثل ما سمعت مع كل فتحة باب أو نداء إلى التحقيق أو خروج إلى الحمام . وكان خروجنا إلى الحمام مرة فى اليوم يحددونها حسب أمزجتهم ، فيسوقون مجموعة من المساجين معصوبى العيون مكبلى الأيدى ، فإذا وقف واحدنا عند باب الحمام بعد أن مر عليه سيل من اللسعات واللطمات واللكمات فكوا يديه المكبلتين من الخلف ونقلوهما لتقييدهما معا من الأمام ! فلا يكاد يلج الحمام حتى تهوى الكبلات على الباب وتصله الشتائم والأوامر بالإسراع والإنتهاء . وفى كل تقلبات هذه الأحوال نظل مجرد أرقام تنادى ، لا شخصية لنا ولا أسماء ليتكرس إحساسنا بالهوان ، ونزداد اضطرابا وضياعا .

معجزة

كانت حفلة التعذيب كما تقرر لى مرتين فى اليوم . أخرج إلى غرفة التعذيب مكبلا مغمض العينين .. أجرد من ملابسى بالكامل وأعلق مشبوحا من يدى .. وتكر الأحداث بعد ذلك : تبدأ بالشبح أحيانا فتتسلط الكبلات والسياط فى هذه الحالة أكثر ما تتسلط على الظهر والصدر والرأس ، وتعمل ملاقط الكهرباء عملها فى الوقت نفسه . لكن أسوأ ما يصيب الضحية وهو فى هذه الحالة أثر القيد الحديدى الذى يشد على الرسغ ويحتك مع العظم بلا رحمة أو توقف . حتى اللحم واحتكاكه المباشر بالعظم الذى انكشف وتعرى وظلت آثار القيد كالوشم على رسغى إلى اليوم ! وطوال خمسة أشهر تالية بقيت لا أحس براحتى يدى البتة ولا أقدر أن أحمل بهما أى شئ وكأنهما أصيبتا بالتنميل أو الخدر المزمن .

وحكى لى طبيب التقيته فى تدمر لاحقا أن الأوتار فى تلك المنطقة تهتكت بشكل كبير ، وأنها تحتاج إلى معجزة لتعود إلى حالتها الطبيعية من جديد .

بساط الريح

أما الحالة الأخرى من التعذيب فكانت على بساط الريح وهو لوح من الخشب يشدون المعتقل عليه من كل أطرافه بسيور جلدية . ثم يرفعون نصفه الأسفل الذى ارتصت عليه الساقان ولم تعودا تملكان أى فرصة للتحرك . وتبدأ الكبلات ذات النصال المعدنية تهوى على بطن الرجلين تنهشهما بلا شفقة , وتترك مع كل لسعة لها أجزاء من النصال الحديد فى ثنيات الجروح المتفجرة فإذا انتهى الضرب بقيت هذه النصال مع الدم المتجمد والجروح المفتوحة فتلتهب وتتعفن ، فيتضاعف الألم وتشتد الأوجاع والمعاناة . وأما الشتائم والكفر بالله فلم يكن يتوقف مع كل أنواع التعذيب . ولم أكن أنجو من هذه الحفلات الدامية إلا عندما يغمى على ،لأستيقظ وأنا فى الزنزانة عارى البدن ممزق الأوصال مبللا أرتجف من شدة البرد . ولا أكاد ألتقط أنفاسى وألملم بقايا جلدى حتى يحين موعد التعذيب مرة أخرى , وتعود الكبلات تنهش لحمى من جديد , وتنقض ملاقط الحديد على أماكن متفرقة بالغة الحساسية من جسدى لتصعقنى بالكهرباء .

ولأنهم كانوا يعرفون أن العورة لدينا أمر كبير فقد كانوا يتعمدون إهانتنا بالعبث بسوآتنا بطرف الكبل والعصى أثناء التعذيب . أو الإطباق بملاقط الكهرباء على المحاشم وإطلاق صعقات الكهرباء فيها . وكان ذلك فى الحقيقة من أشد أنواع العذاب على ، ويبدو أن ذلك ما كنت وقتذاك أفقد الوعى بسببه وأغيب عن الوجود.

دموع التماسيح

وفى مرة من المرات وبعد أن علقونى فى العذاب عدة أيام أخرجونى كالعادة وعرونى وعلقونى فوجدتنى من قبل أن يبدأ الضرب أحس وكأننى فقدت الهواء فى رئتى وما عدت قادرا على أن أتنفس ، وكان يلازم فى غرفة التعذيب تلك طبيب متخصص كما يبدو ، سرعان ما اقترب منى فجس نبضى وطلب منهم أن ينزلونى ، وسرعان ما حقننى بإبرة جعلتنى أفقد القدرة على النطق أو الحركة ، وأحس أننى أغادر هذا العالم وأموت بالفعل !

ووجدتنى أغيب عن الوعى لأصحو بعد قليل فأرانى فى أحد الأسرة ، عن طرفى من هنا حارس برشاشه الكلاشينكوف ، ومن هناك يتدلى أنبوب بلاستيكى يتصل بكمامة على أنفى أتنشق من خلالها الأكسجين . وبعد ساعة أو ساعتين استعدت خلالهما أكثر وعيى وجدتهم يقودوننى عبر ممرات المستشفى الذى نقلت إليه إلى سيارة كانت تنتظرنى لتنقلنى إلى الفرع من جديد ، وهناك أعادونى إلى الزنزانة من غير عذاب . وبعد خمس أو ست ساعات استعدت خلالها وعيى أخرجونى إلى غرفة التعذيب من جديد ، وعوضونى عن التعذيب الذى فاتنى عذابا مثله غير منقوص !

وفى مرة أخرى مماثلة وبعد أن كاد التعذيب يقتلنى بحق حضر الطبيب إلى زنزانتى فنظف لى جروحى المتقيحة , وقدم لى كأس حليب لأستمر على قيد الحياة وأجدد قددرتى على تلقى المزيد من التعذيب .. ومضى !

اعترافات

ومضى أسبوع كما قدرت على هذا النمط من العذاب ، وصعدت من جديد إلى التحقيق بنفس الكيفية : مكلبشا ومطمشا وعاريا من كل شئ وجلست غصبا عنى جلسة الخضوع . وأتانى الصوت من جديد يقول:

اسمع ولا .. نحن لدينا كل المعلومات عنك . ونعرفك من أول يوم أتيت فيه إلى هنا وكل مهمات القتل التى أحضرتها لهؤلاء المجرمين .. وكل واحد انقتل هو برقبتك . والآن قل لنا مع من كنت تتصل .

كانت اللهجة العلوية للمتحدث والأشخاص الذين حوله هى الشئ الوحيد الذى استطعت تمييزه حولى , كان الإعتراف على مسئولى الجديد وخيوط الإتصال التى نمت بعد اعتقال سالم هى الأهداف التى يريدوننى أن أصل بهم إليها بأسرع وقت . وعدا ذلك فالإرهاب والمجاهيل كانت تلفنى من كل مكان . وعلى الرغم من هول موقعى إلا أننى استطعت أن التقط أن التقط وسط هذه الدوامة المرعبة صوت امرأة يأتى من غرفة تحقيق أخرى كما يبدو وهى فى موضع المساءلة والإتهام ، فزادنى الأمر توترا وتشتتا ، لكننى استجمعت ما استطعت من جلدى وقتها وقلت أنا لا أعرف أحدا إلا مازن . هو الذى كان يعطينى الرسائل ويطلب منى أن أوصلها لأبى الفرج .

قال : ألم يكن هناك إلا أبو الفرج ولا ؟

قلت وقلبى يكاد من طرقاته ينخلع من صدرى خشية أن يكون سالم اعترف على بالمزيد : أنا لا أعرف إلا أبا الفرج.

قال والدكتور صالح ولا .. ماذا كان رده عندما أبلغته الرسالة ؟

قلت : استقبلنى وضيفنى فنجان قهوة ومضيت .

قال : وعندما ذهبت إلى الأردن .. هل التقيته هناك ؟

قلت: أنا طالب فى الجامعة فكيف أذهب وألتقيه هناك!

وأتانى صوت سائل :آخر ألم تدخل سلاحا ولا ؟

قلت بإصرار : أبدا .

قال : ولا أموال؟

قلت : ولا قرش.

قال : طيب انقلع الآن.

ونزلت إلى الزنزانة ليلتها من غير أن يضربونى ، ومضى يوم آخر من غير تعذيب أو تحقيق ، استدعونى بعدها وكانت الساعة بتقديرى قد جاوزت الثانية بعد منتصف الليل .

مائدة اللئام

دخلت غرفة التحقيق مكلبشا ومعرى ككل مرة وسرعان ما شممت رائحة خمر وطعام تملؤ المكان . وسألنى أحدهم :

هل أنت جائع ؟ إذا أردت أن تأكل فتعال .

قلت وأنا لا أدرى أهى دعابة منه أم محض سخرية :

لست جائعا!

ومضى الجميع فى تناول الطعام واحتساء الخمر وتبادل الحديث البذئ وأنا بين أيديهم جاثيا معرى تصلنى أصوات الضحك وكركعة الشراب لا حول لى ولا قوة.لكننى تمكنت هذه المرة أن أختطف نظرة على المكان ومن فيه من تحت الطماشة التى انزاحت كما يبدو عن عينى برهة . وعلى الرغم من حالة الخوف التى تتملك السجين .. وبرغم الجو الإرهابى الذى أحاطنى على مدار الأيام الخالية استطعت أن أحس من خلال تلك اللمحة العجلى ظلال الخوف والتوتر ترتسم على معالم الضباط المحققين . أحسستها من محاولاتهم الجاهدة إخفاء وجوههم وشخصياتهم عنى وأنا المكبل الأسير وهم المتمكنون الطلقاء. ومن همهماتهم بعض الأحيان وإشاراتهم وتغامزهم مع بعضهم البعض . وأحسستها من ذلك السرير بطرف الغرفة الذى لابد أنهم إذا أنهكتهم التحقيقات ناموا فيه من غير أن يجرؤوا فى تلك الفترة على مغادرة الفرع خوفا من أن تطالهم رصاصة واحد من المجاهدين .

لكن حالة الإنتشاء تلك لم تلبث أن تطل بى . ولم يلبث أن أتانى السؤال :

محمد ولا . هل تعرف أحدا من الإخوان الهاربين فى الأردن ؟

قلت : لا .. لا أعرف أى أحد .

قال: أين تسكن هناك ؟

قلت: فى الزرقاء فى العنوان الفلانى بشارع الفاروق .

فوجدت السائل يبادرنى ويقول : بالقرب من المركز الإسلامى إذا .

قلت وقد فاجأتنى معرفته للمدينة وشوارعها بهذا التفصيل : نعم!

قال : ألم تر أيا منهم هناك ؟

أجبت : أنا لا أذهب إلى المركز .

قال : ألا تصلى ؟

قلت : نعم ولكن فى المسجد.

قال: وهناك فى المسجد ألم تر ناسا سوريين ؟

قلت: ربما ولكننى لا أعرف اسم أى منهم.

وتبدل الحال هذه المرة وصاح المحقق بالعنصر ليأخذنى إلى التعذيب ، وعادت الكبلات تهوى على بدنى المنهك بلا رحمة ، ومزقتنى صعقات الكهرباء من جديد ، وغبت ككل مرة عن الوعى آخر الأمر , ووجدتنى فى الزنزانة حينما صحوت ملابسى مكومة بجانبى والدم يسيل من كل مكان كان قد اندملت الجروح فيه وسرعان ما أتى العنصر فساقنى فى الليلة نفسها إلى التحقيق , ووجدت سالم معى فى نفس المكان, والمحقق يسألنى من غير مقدمات :

متى التقيت بسالم أول مرة ولا؟

قلت: فى شهر شباط 1980 .

قال : أين ؟

قلت : أظن أنه أتى مع مازن إلى بيتى .

ولم أكد أتفوه بذلك حتى أتتنى ركلة من وراء ظهرى أحسست أن عينى خرجتا معها من محجريها , ونادانى أحدهم بتشفى :

زارك بالبيت أم التقيته بمسجد خالد ولا ؟

قلت: والله ما عدت أذكر.

قال موجها حديثه لسالم : ما رأيك يا أبو الفرج ؟

أجاب سالم : صحيح سيدى التقينا عند مسجد خالد وصلينا المغرب هناك.. وكان ذلك بداية تعرفنا عليه .

قال المحقق موجها الحديث لى من جديد: وإذا كنت زلمة بتعمل خير ولا .. ليش لتلتقوا بالجامع وأنت تعرف أن هناك مخربين وعصابة مجرمين فى البلد؟

قلت : أنا ذهبت بطبيعة الحال مع مازن لنصلى وهناك التقينا مع أبى الفرج.

قال ولهجة التهديد المرعب ناطقة على نبرته تلك المرة :

اسمع ولا .. إما أن تحكى الصحيح أو تنتهى .. فهمت؟

أحسست أن الأمر بلغ حده ،وأن اعترافات سالم والمعلومات التى توفرت لهم لن تعفينى من الإصرار على الإنكار وأنه صار على الآن أن أقدم لهم شيئا ما يدفع عنى شرهم .. فقلت :

الحقيقة أنا ليست لى علاقة بالموضوع من قريب ولا بعيد فى البداية , لكننى عرفت فى الأخير أن هؤلاء من الإخوان وأنهم يقومون بشئ ما .. ولكن أنا ليست لى أى علاقة .

ومن غير أن أسمع تعليقا على هذا الكلام أشار كأنما إلى الجلاد فجذبنى بعنف ، ورمانى فى غرفة التعذيب المجاورة وأطلق عصيه وأدوات التعذيب على ، لكننى نزلت هذه المرة إلى الزنزانة صاحيا ولم يغم على , وبعد قرابة الساعتين عادوا فاستدعونى إلى المحقق الذى ابتدرنى بلهجة حازمة يقول :

اسمع ولا .. هلق بدك تحكى لنا من طق طق لسلام عليكم .. احك كل شئ تعرفه من ساعة ما طلعت من.. أمك !

صراع مع النفس

كانت رهيبة تلك اللحظات بشكل لا يتصوره أحد . أجثو كشاة لا حول لها ولا قوة بين أيدى هؤلاء الظلمة .. مكشوف العورة مفضوح الأسرار . وجسدى كله لعبة بأيديهم يلهون به ويعدون عليه بلارحمة .ومن غرفة التعذيب المجاورة يصلنى صوت أخ آخر يستغيث ويصيح .. وهتاف مر بداخلى يقول لى تكلم وإلا فالدور عليك ، والصراخ سيخرج للتو من جوفك أنت ! ولا تلبث أنفاس الرحمة أن تنساب فى روحى وتهمس بى أن الإعتراف لن يعفيك أيضا فإدانة نفسك تعنى المزيد من التعذيب لتعترف بالمزيد من الأسرار , والمصير فى النهاية هو الإعدام المحقق , مثلما تعنى أن إخوة آخرين سيأتون إلى هنا ليلاقوا كل هذا الذى لاقيت وربما أكثر .. وستكر السلسلة ويزداد الضحايا من غير أن ينجو منكم أحد .

دارت هذه الخواطر كلها فى ذهنى كلمحة البرق ، وبدأت أسرد على المحققين الرواية ذاتها موحيا إليهم أننى انهرت وهذا كل ما لدى . وعلمت فيما بعد أنهم استدعوا سالم والدكتور صالح وسألوهما إن كنت أعرف محتوى الرسائل شيئا فنفى الإثنان , وقد ساعدنى ذلك كثيرا والحمد لله.

غير أن الأمر لم ينته وتعطشهم لمزيد من الأسماء ومزيد من الضحايا جعلهم يعيدوننى إلى غرفة التعذيب وأسلمونى ثلاثة أيام متواليات للجلادين من غير سؤال أو استفسار .

ثم كانت جلسة التحقيق الأخير , وحاولوا للمرة الأخيرة أن يعتصروا كل معلومة أو اسم لا أزال أحتفظ به , وألحوا على أسماء المراسلين بالتحديد ، فثبتنى الله ولم أذكر اسم أى انسان بفضل الله , وأصررت على أن صلتى الوحيدة كانت مع سالم إضافة إلى لقائى بالدكتور صالح تلك المرة . فأرسلونى من جديد إلى غرفة التعذيب , لأجد من الأهوال ما أنسانى كل الذى لاقيت من قبل هناك !

وانقضت على ربما خمس أو ست ساعات هذه المرة يتعاقب على الجلادون وأدوات التعذيب بشكل وقاكم الله شره .

وعندما صحوت على نفسى فى الزنزانة وجدتنى على حافة الهلاك بالفعل . لا أتحسس موضعا فى بدنى إلا وجدته مدمى أو مصابا يشتعل من الألم كما تشتعل فى الرماد النار !

مسيرة الأرقام

وحضر السجان من جديد ونادى على مجموعة من الأرقام ليجهزوا انفسهم .. وأتانى الصوت البغيض :

13 ولا جهز حالك .

وفيما أخذت الأقفال تصطك بالمفاتيح وترتطم المزاليج الثقيلة بزوايا الحديد التى تحوط مجاريها على الأبواب الصلدة , وبدأ تدافع الأقدام المدماة تتكؤ عليها الأجساد المنهكة يسوقونها مع الصفعات واللكمات لسعات الكبل إلى المجهول , انتصبت مكانى لأنفذ الأمر وجذبت بنطالى المتراخى لأستعد , فهالنى أنه اتسع على فكأنه أكبر من قياسى بعشر درجات , وأدركت للمرة الأولى أننى فقدت مابين عشرة وخمسة عشر كيلو غراما من وزنى خلال هذه الأيام . ولم أكد أكتشف ذلك حتى فتح الباب وجذبنى أحدهم بقسوة , ودخلت ضمن مسيرة الأرقام المتحركة تسوقها اللطمات والركلات والكرابيج.

وكأنما أحس الجلادون أن اللقاء لن يتكرر ولذة الإستمتاع بتعذيب هذه المجموعة ها هى ستنقضى ، فبادروا بالجهد لتعويض الشوق إلى سماع استغاثاتنا وصرخاتنا . ثم أركبونا وقد شارفنا على الهلاك سيارة مغلقة ونحن قرابة العشرين شخصا مكبلى الأيدى معصوبى العيون . حتى إذا بدأت بالتحرك سرت التكهنات فى سرائرنا وعلى أطراف شفاهنا : هل هى النهاية أإلى تدمر الآن ؟ أم ربما إلى سجن القلعة ؟ لم يكن لنا من حيلة إلا الإنتظار . وسرعان ما وجدنا أنفسنا تتوقف بنا السيارة من جديد ، ويأتينا الأمر الفظ مع سيل من الشتائم والمسبات بالنزول . ولم تلبث الأيدى القاسية والأرجل والكرابيج أن استقبلتنا بمثل ما ودعونا به هناك , وساقتنا آخر الأمر بالنزول إلى قبو آخر عميق جدا , لم نلبث بعد فترة أن علمنا أنه فرع مخابرات التحقيق العسكرى .

النوم بالتناوب

أغلق على باب المكان الذى دخلته وأنا لا أزال مطمش العينين , لكن يداى كانتا مطلقتين . ولم ألبث أن سمعت همهمة تتزايد حولى , وأحسست حركة من جهات شتى . وكأنما أتانى نداء خافت بأن أرفع الغطاء عن عينى الآن .. فاستجبت ببطء.. وبحذر . حتى إذا فعلت وكانت المرة الأولى التى أفتح فيها عينى بلا طماشة منذ اعتقالى , وجدتنى وسط مهجع محتشد بالنزلاء , يكاد عدد السجناء فيه يصل المائة , فى مساحة لا تزيد عن حجم غرفة عادية ! ولم ألبث أن أومأت إلى من حولى وسلمت فتشاغل البعض وأشاح البعض .. ورد الآخرون بصوت منخفض .

وسرعان ما لمحت سالم بين الناس فاقتربت منه بالتدريج . فلما حاولت أن أكلمه همس لى وقال:

لا تقترب منى كثيرا فربما كان هناك مخبرون بيننا !

لكن الحذر بدأ مع مضى الوقت يخف بالتدريج , وبدأت أتعرف على الشباب ويتعرفون على , لنبدأ معا مرحلة جديدة من هذه المحنة بالفواجع والأحداث.

كانت ظروف المهجع فى غاية السوء . فمع هذا العدد غير المعقول من الناس لم يكن ثمة مكان لقادم جديد .

وكنا إذا أردنا النوم تناوبنا على المكان فينام البعض ويظل الآخرون وقوفا ينتظرون ! وكانت الأنفاس تختلط بنتانة العرق , وتجتمع معها روائح جراحاتنا المتعفنة فى هذا الجو السئ . ولأن المهجع كان يحتوى على حمام بداخله . فلم يكن هناك أى فرصة لمغادرته أبدا .

وبقيت على هذه الحال ثلاثة أسابيع تقريبا , كان الباب يفتح خلالها لإدخال الطعام فقط . والذى لم يكن يكفى ليقيتنا الكفاف . فنصيب الواحد منا صمونتان عسكريتان جافتان فى اليوم . تصحبها بضع حبات زيتون أو شئ من اللبنة أو الحلاوة فى الصباح . وعلى الغداء يصلنا بعض الرز أو البرغل مصحوبا بمرقة حمراء . وفى المساء وعلى وجبة العشاء ننال نتفا من البيض المسلوق أو البطاطس أو حب الحمص المسلوق . صنفا واحدا فقط . ومقدار دريهمات منه وحسب!

القمل والجرذان

ولقد كان من المضحكات المبكيات أننا ونحن فى هذه الحالة من الجوع والضيق والمعاناة كان قضاء محتما علينا أن نتشارك الطعام والمقام ضيوفا من مخلوقات أخرى تؤمن أن كرم الضيافة حق مباح بلا حدود !

كانت الجرذان ، والتى أقسم أن واحدا منها كان أكبر من القط بلا مبالغة ، تربت على طعام المساجين الذى يحتجزه السجانون عنا ثم يرمونه فى القمامة ! هذه الجرذان كانت تنتقل بين المهاجع من خلال فتحات التهوية رائحة غادية ، وأثناء عبورها فوق فتحة المروحة التى كانت أعجز من أن تقدم شيئا لهذا الجو الموبوء، كان بعضها ينزلق فيسقط بيننا أو علينا , فيصاب المجمع كله بهستيريا الذعر ويتراكض الناس يمينا وشمالا يريدون أن ينجوا من عضة هذا المخلوق المرعب . ويتدافع الخلق .. ويعلو الصياح ولا تنتهى الغارة ويموت الجرذ إلا وقد نهش أرجل أربعة أو خمسة منا .

ومع احتشاد المهجع وتزاحم المعتقلين ، وبسبب بعض السجناء القادمين من مواطن موبوءة أو غير نظيفة بالأصل ، بدأت تتفشى فينا أعراض مرض السل ، وانتشر فيما بيننا القمل . وإذا كان البلاء الأول أصاب بعضنا وقت ذاك ولم يأخذ صفة الوباء ، فإن القمل لم يوفر أحدا من بيننا أبدا ، وانتشر فى ملابسنا ورؤوسنا وأمتعتنا حتى لم يعد من سبيل لتفاديه . وكنت أنا أكثر الناس الذين قملوا . وكان منظرا اعتياديا ونشاطا مشتركا لسكان المهجع كل يوم أن نخلع ملابسنا ونتابع القمل فيها فنفقأه بأصابعنا كإجراء وحيد متاح للحد أو التخفيف من انتشاره !

إلى الحلاق

وذات يوم وبعد أن مضت أسابيع كثيرة على اعتقالنا فطالت شعورنا ولحانا حتى بدونا كالغيلان , صدر الأمر لما بالذهاب إلى الحلاق . ومضى الطابور بنا إلى غرفة قريبة يتوسطها كرسى وسجان بمهنة حلاق كان يتناول رؤوسنا كالناعز ويمر بآلة الحلاقة عليها حتى نخرج من بين يديه بالقرعة كرأس البطيخ ! ولم يكن هذا الشخص يوفر الفرصة ليمتع نفسه بشتمنا ولطمنا بين حين وآخر , وكان واضحا من لهجته أنه من طائفة النظام .

ولقد كان من المضحكات المبكيات أننا وبعد هذه المزلة أمرونا أن ندفع للرجل خمس ليرات أجرة حلاقة الرأس الواحد . تولاها الإخوة الذين كانت معهم فى أماناتهم بعض النقود , أو الذين وصلتهم مع طول مدة اعتقالهم زيارت بالواسطة . وبعد ذلك جاء وقت الحمام الجماعى , وساقتنا اللطمات والركلات وفرقعة الكرابيج على ظهورنا إلى قاعة مفتوحة أدخلوا كل عشرة فيها دفعة واحدة وأمروهم أن يتعروا من ثيابهم ويغتسلوا معا . والجلادون على الباب يشتمون من شاؤوا ويضربون من اشتهوا الجرذان العملاقة تلك على المواسير فوقنا تترقب أن يغفل أحدنا لتنهش منه أو تنقض عليه !

واعتدت حياة المهجع نوعا ما وألفت الإخوة وألفونى . وتعرفت على العديد منهم من محافظات شتى . أذكر منهم الإخوة حسين رشيد عثمان وابن عمه أيمن عثمان من مدينة الباب قرب حلب , وطاهر جيلو من أدلب . وجمال عقيل وجلال الدين جلال من حلب , ومحمد أرمنازي وجهاد كلاس الحلبى و......جعمورو.......نجار وأسامة فتوحى الجندى من حماة .

وتيسير أبو الزر وجهاد حلاق ومأمون العظمة و......الصفدى وعبد الإله بعلبكى من دمشق وضواحيها . إضافة إلى سالم الحامد والدكتور صالح الخوجة . ولقد تم إعدام أكثر هؤلاء الإخوة فيما بعد . وشهدت إعدام بعضهم بنفسى , وسمعت عن الآخرين من شهود عيان.

إلهى أغثنى

ولم يكن هناك فى تلك المرحلة تعذيب أو تحقيق بفضل الله , أو أنه كان لا يذكر قياسا بما سبق فى فرع المخابرات فوجدناها فرصة ثمينة لنسمع قصص بعضنا البعض ومشاهدات وخبرات كل منا ، وأنعم الله علينا فنظمنا برنامجا للصلوات والأذكار والدروس وحفظ القرآن ، ووقتها أتيح لى أن أسمع الكثير من سالم ومن غيره ، مثلما كانت بداية إقبالى على حفظ كتاب الله ، وكنت ألازم أخا حافظا لكتاب الله من حماة اسمه محمد صادق العون فأحفظ عنه ما تيسر من سورة البقرة حتى جاوزت نصفها .

واستطعنا وقتها وللمرة الأولى منذ اعتقالى وللمرة الأخيرة ربما أن نصلى جماعة ، ورغم أن الحارس كان إذا فتح الشراقة ورآنا نصلى أخرج مجموعة منا وضربهم بلا رحمة ، إلا أننا كنا نعاود فعل ذلك ولله الحمد.

ففى تلك الرحلة كانت معنوياتنا لا تزال عالية ، وثقتنا بالفرج وبالنصر كبيرة ، وكنا لانزال نأمل أن يأتى المجاهدون بين ساعة وأخرى فيقتحموا السجن علينا ويحروننا !

وأما سالم ، وبعد أن هدأت النفوس وأمنا المكان جلس وحدثنى ، وروى لى كيف كان اعتقاله وكيف مضى التحقيق معه . وأكد لى أنه حاول أن يصرف عنى ما استطاع واستسمح نى واعتذر إلى . وكان سالم حقيقة الأمر غير الشخص الذى عرفته من قبل , فهو شخص بالغ التهذيب رقيق المشاعر بطبعه , أصلح ما يكون مربيا . لكن قرار رميه فى هذه المعمعة لم يكن يناسب مؤهلاته وشخصيته , ولذلك كان دائم السهاد شديد الأسى، يرقب هؤلاء الذين احتشد المهجع بهم بسبب اعترافاته , ويرى أنه إلى الإعدام مصيرهم , فلا يملك إلا أن يسكب الدموع وهو يدعو الله تعالى أن يخلصه , ولكم سمعته ينشد بحرقة ويقول : إلهى أغثنى زمانى عصيب !

اعترافات سالم

ولقد كان وضع سالم عصيبا بالفعل يلازمه هاجس أولئك الذين ينتظرون الإعدام ممن أتوا بسبب اعترافاته , ويؤرقه آخرون قتلوا لنفس السبب . كان الأخ غالب آلوسي مسئول دمشق وقتها من أبرزهم .

ولقد جرى كشف غالب حينما تم اعتقال مراسل إدلب طاهر عارف جيلو باعتراف من سالم أيضا . فجرى تعذيبه ليعترف على موعده مع غالب ، فلما اشتد عليه العذاب ولم يكن بينه وبين موعده مع غالب إلا يومين أو ثلاثة أعطاهم مواعد كاذبة ليشغلهم بها عنه . لكنهم كانوا إذا ذهبوا ولم يحضر أحد عادوا لينهالوا عليه بالضرب والتعذيب حتى كادوا يقتلونه.

وكان رحمه الله مصابا بالقرحة وقتذاك , إلا أن ثبته الله برغم ذلك كله ولم يعترف . ويبدو أنهم سألوا سالم عن الموعد فأخبرهم , فأخذوا سالم وطاهر معا وكمنوا له فى المكان عند جامع المنصور . وعندما حضر غالب وتأكدوا أنه الشخص نفسه حاولوا اعتقاله , لكنه اشتبك معهم كما حدثنى طاهر بنفسه وأصاب أحد ضباط المخابرات بعينه قبل أن يقتل رحمه الله .

شرك جديد

ورغم أن سجل اعترافات سالم امتلأ إلى حافته سواء بما أدلى به تحت التعذيب أو ما توصلت إليه المخابرات عن طريق اكتشاف الهويات المزورة والمفاتيح الأخرى ، إلا أنهم كأنما أحسوا أن سالم لا يزال يخفى شيئا . وكان هذا متوقعا لإهتمام سالم - كما ذكرت – بتولى المسئوليات كلها بنفسه ومقابلة كل المراسلين شخصيا بأمر من االقيادة فى عمان . ولذلك رسموا له فى فرع المخابرات بالعدوى شركا جديدا أوقعوه فيه وأوقعوا معه مجموعة جديدة من الضحايا .

وكانت الحيلة حينما أمروا سجانا من المنطقة الشرقية اسمه وائل أن يتودد إلى سالم ويتقرب منه بذكاء وحنكة . فأخذ يزيد له فى الطعام يوميا , أو يحضر إليه كوب حليب فى خفاء مدعى . ومع الملاطفة فى الكلام والرقة فى التصرفات نمت العلاقة بينهما وتمت الخطوة الأولى . وفى يوم من الأيام جاء وائل هذا إلى سالم وقال له : أنا فى الحقيقة واحد منكم .. ولست فى هذا المكان إلا لأننى مجند فى الخدمة الإلزامية . وأرى أنه لابد أن نستفيد من الفرصة ونحرركم مثلما حدث فى كفر سوسة .

ومن المعلوم أن مجندا آخر فى سجن كفر سوسة كان قد سبق له وأن تعاون مع الإخوة السجناء هناك وتمكن فى أيار من العام السابق 1980 من مساعدة سبعة عشر منهم على الهرب فى حادثة غير مسبوقة . فلما بلع سالم الطعم وسأل وائل عن الكيفية طلب ذاك منه أن يؤمن له صلة بمجموعات مسلحة خارج السجن ليساعدونه , فأعطاه سالم الأسماء . وفى ليلة واحدة تم اعتقال قرابة اثنى عشر شخصا لم يكونوا مكشوفين أبدا , أذكر منهم عبد الكريم مهلهل من دير الزور الذى كان يدرس الطب فى دمشق , وآخر من بيت السراج من الدير أيضا , أظن اسمه الأول كان محمود . وتم للسلطة ما أرادت واطمأنوا إلى أن سالم أفرغ الآن ما فى جعبته فنقلوه إلى فرع التحقيق العسكرى , لألتقيه مترعا بالأسى والشجون هناك.

أحقاد الطائفيين

ومرت الأيام واستطعنا التعرف على بعض جلادينا وسجانينا . فرئيس الفرع هو العقيد مظهر فارس من الطائفة العلوية . وأما مدير السجن فى هذا الفرع فضابط شركسى ينادونه أبا نزار مسلوب الإرادة كأكثر المسئولين والضباط من غير طائفة النظام , على العكس من نائبه المدعو أبو منهل والذى كان نصيريا حاقدا .

فكان يقتحم علينا المهجع من غير سبب إلا أن يدلق علينا سيلا من الشتائم والكلمات القذرة التى طفحت بها حوصلته ثم يمضى ! ومن لاسجانين عرفنا واحدا اسمه أحمد سالم وآخر اسمه أحمد غانم من طائفة النظام أيضا وفى منتهى القسوة والتجبر . وكان هناك رقيبا أول بنفس المواصفات اسمه مالك لا حد لأحقاده وقسوته .

فكان لا يدع أحدا يمر أمامه من السجناء إلا ضربه ولا يفوت فرصة لتعذيب الناس إلا اغتنمها . وحتى السجناء الذين كانوا يخرجون من بيننا لإدخال الطعام إلى المهجع كانوا ينالون من ظلمه وبطشه بلا حساب .

الكرسى الألمانى!

وفى تلك الفترة نما إلى علمنا أن أخوات من النساء معتقلات فى نفس الفرع معنا . ولكننا لم نلتق أيا منهن . كذلك علمنا أن فى السجن شيوعيين من جماعة رياض الترك وبعثيين يمنيين أيضا , غير أنهم قد فرزوا كل اتجاه مسبقا ولم يتيحوا لنا فرصة للقاء.

ومن المشاهد المؤلمة التى لا أنساها عن تلك الفترة حالة الأخ حسين رشيد عثمان الذى عذبوه بالجلوس على الكرسى الألمانى فى فرع المخابرات بالعدوى حتى أصيب بما يقارب الشلل . والكرسى الألمانى هذا عبارة عن كرسى ذو أجزاء متحركة يوثق السجين عليه من ذراعيه وساقيه ثم يسحبون مسنده الخلفى للوراء ساحبا بذلك جذعه الأعلى معه ، فيما تظل قدماه مثبتتان مكانهما من الجهة الأخرى المضادة .

فيتركز الضغط على صدره وعموده الفقرى فإذا ازداد تهتكت الفقرات حتى تتكسر . وعندما التقيت الأخ أبا رشيد كان وضعه فى غاية السوء . ولم يكن يستطيع تحريك ظهره البتة , ولم يكن يرتاح لذلك لا فى يقظة ولا فى منام , ولا يستطيع أن يجلس ولا أن يقف . وانتقل الألم إلى رجله أيضا فزاد من عذابه ومعاناته . ومع ذلك كان رحمه الله يتحامل على الألم الذى لا يطاق ويصبر ويحتسب .

وكان الأخ حسين عثمان صحفيا فى وكالة الأنباء السورية فى غاية السرية والإنضباط لم ينكشف أمره رغم مضى قرابة العشرين سنة على عمله هناك . حتى تم تكليفه بمسئولية المكتب الإعلامى بدمشق فى إدارة الأخ سالم الحامد , فلما اعتقل سالم اعترف عليه فيمن اعترف . ورغم ذلك كان أبو رشيد يردد بكل احتساب:

لا بأس .. الله يسامحهم .. كله فى سبيل الله.

وعلى طيبه واحتسابه كان أبو رشيد مثال الأخ الصلب الذى ثبته الله فى المعتقل , فلم يعترف بأكثر مما اعترف عليه سالم , حتى أنهم أتوا له إلى السجن برئيس أركان الجيش السورى حكمت الشهابي فى محاولة لإقناعه بالإعتراف . وكان الشهابى وأبو رشيد صديقان من أيام الشباب , خرجا من بلدتهما معا ومضيا إلى دمشق زميلين وصديقين رغم اختلاف إنتماء كل منهما . وعندما حضر الشهابى إلى أبى رشيد فى سجنه حاول أن يحضه على الإعتراف ، وجعل يقول له كما أخبرنى أبو رشيد بنفسه :

اعترف يا حسين .. اعترف والباقى عندى.

وجعل يذكره كيف كان والده مختارا للمدينة التى أتى منها الشهابى .. وكيف كان على علاقة طيبة بالناس ومن خيرة أهل البلد. وأخذ يمنيه بمساعدته إذا تعاون مع السلطة . لكنه لم يصل معه إلى شئ وفيما بعد وعندما صرنا فى تدمر وضمنا أنا وحسين مهجع واحد حتى يوم إعدامه . نال رحمه الله عذابا شنيعا على هذا اللقاء وحاولوا - كما سيأتى إن شاء الله - إقناع حسين بتريط الشهابى نفسه إستنادا إلى ذلك .. لكنه ورغم البون الكبير بين الرجلين أبى أن يورطه بلا ذنب أو سبب , ورفض التعاون معهم فى هذه المؤامرة الرخيصة حتى ولو كان الثمن حياته.

إلى المنفردة من جديد

مضت قرابة ثلاثة أسابيع على وجودنا فى المهجع الجماعى لنفاجأ صبيحة أحد الأيام بالسجان يفتح الباب ويطلب مجموعة من الشباب بأسمائهم . وعندما عادوا بعد فترة لم تطل سألناهم عما جرى فقالوا إنهم أمروهم أن يوقعوا على أوراق وحسب. ما الذى فيها ؟ لم يدر أحد . وتكرر الأمر وتتابع إخراج الشباب حتى شمل كل الذين اعترف عليهم سالم . وبعد يومين وما كدنا ننهى عشاءنا حتى جاءنى الطلب مع ثلاثة أو أربعة إخوة آخرين , فطمشونا وكبلونا من جديد . ووجدناهم يقودون كل منا إلى زنزانة منفردة ويقفلوا عليه .

مرت بضع ساعات على أترقب أى جديد دون نتيجة . ولم يلبث البرد أن يزحف على جسدى , وينخر مفاصلى وعظامى . ولم يكن فى الزنزانة أية بطانية أو غطاء ساعتها , افتقدت نعمة الإزدحام فى المهجع التى أمنت لنا الدفء على أقل تقدير ! ولم أكد أتكور على نفسى محاولا بث الدفء من جزء من بدنى إلى الجزء الآخر حتى بدأ القمل ينشط فى بدنى ويبدأ عضاته التى لا ترحم ولا تتقى ! ولم تلبث أصوات أصوات أخ يعذب أن انطلقت تشق ظلمة الليل , فأدركت أننى قريب من غرفة التعذيب التى لم نكن نحس بوجودها فى المهجع . وازداد الصراخ وطال العذاب , عذاب الأخ يليه الأخ وعذابى أنا.

وأخذت الهواجس تطبق على وتنهش نفسى المنهكة . وعدت إلى مخاوفى التى سكنت بعض الشئ بملاقاة الإخوة والإستئناس بهم فى المهجع , وها أنا ذا هنا من جديد لا أنيس حولى آنس به ولا جليس أشكو مرارة حالتى إليه .

ومضت الأيام على أسير هذه الزنزانة الموحشة .. يفتح السجان الباب على ثلاث مرات فى اليوم للخروج إلى الحمام وليته لم يكن يفعل . فتلك كانت فرصة مالك السجان لموتور وأمثاله ليسلخوا أجسادنا بالكبلات من جديد ، ويفرغوا فينا من سموم أحقادهم ما وسعهم الجهد . فإذا عدت عادت إلى الأوجاع والجوع والبرد والكوابيس .. عرضة فى أى وقت لنزوة سجان يفرغها فى أى وقت فى جسدى المنهك من غير أى سبب أو تفسير . فلا أملك إلا البكاء والتضرع إلى الله أن يخفف عنا ما نحن فيه . وبعد مضى أيام وجدتهم يستدعوننى إلى غرفة التحقيق ويسألوننى عن أسماء وأشخاص لم أكن أعرفهم بالفعل . فرفعوا الطماشة عن عينى وعرضوهم أمامى . فقلت لا أعرفهم . وتكرر الأمر ثم وجدتهم فى المرة التالية يعرضوننى أنا على أخ معتقل لا أعرفه , لكنهم لما سألوه هل تعرفه قال نعم . ولقد علمت بعدها أن الأخ كان أحد من كشفتهم اعترافات سالم أيضا , لكننى لم أعرف لماذا قال أنه يعرفنى رغم أنى لم أره من قبل بالتأكيد . ولم ألمه فيما قال وقدرت أن التعذيب لابد وأن طاله مثلما طال البقية . لكن ذلك كان من أصعب الأمور حقا . فالواحد لا يكاد يصدق أنه أغلق الأبواب عليه وانتهى من دوامة العذاب والتحقيقات حتى يأتى من يفتحها عليه الباب ويعيده إلى مسلسل الرعب من جديد!

باب جديد

وفتح الباب على .. وعادت ليالى العذاب والجلد والسلخ والكهرباء. عشرة أيام أو ربما تزيد من التعذيب : أين هى المخابئ ؟ أين أماكن السلاح ؟ أين فلان ومن هو علان ؟

وأنا لا أعلم عما يتكلمون عنه شيئا أبدا . والكبلات تأكل من جسدى وتشرب السياط من دمى ولا مغيث ! حتى أشرفت على الهلاك فعلا ولم أعد أستطيع جذب أنفاسى . ويبدو أنهم اقتنعوا ببراءتى هذه المرة واقتنعوا أنه ليس لدى شئ بالفعل فتركونى . فعدت إلى المنفردة ألعق جراحى وأستجمع كيانى المحطم ثلاثة أو أربعة أيام تاليات , لم يصبونى فيها إلى التحقيق أو يخرجونى إلى التتعذيب .

ومن غير مقدمات وجدتهم فى ليلة نادوا على ضمن قائمة مطولة من الأسماء أذكر منهم إذا أسعفتنى الذاكرة الإخوة:

هيثم ملا عثمان جمال عيار من حلب , ووضاح الدن من قرى حلب كذلك . وقاسم موسى من مدينة تدمر . وحسين رشيد عثمان من الباب . ومحمد ثابت ناعس ونديم منصور من أدلب . ومحمد طاهر مصطفى وإبراهيم أحمدو من أريحا . ومصطفى الشر من جسر الشغور . وشريف البعث من أدلب وعمر الحيدر وحسين قاسم المحاميد من معرة النعمان . وإبراهيم طوبل وعمر حمزة من المعرة أيضا . وشاكر مومه وكمال أندورة من دمشق . وأخ من حماة هو شفيق محمد فخري .

وانتهت تلاوة الأسماء وأمرونا أن نجهز أنفسنا جميعا لرحيل جديد. إلى أين ؟ لم يقل أحد بالطبع . ولم يكن لأى منا القدرة حتى على الهمس . ووجدناهم يفتحون علينا الزنزانات ويسوقننا تحت السياط ولسعات الكبل واللكمات ككل مرة إلى الذاتية , فنستلم أماناتنا ونكمل تحت وابل اللكمات والركلات إلى سيارة النقل المغلقة ذاتها أو سيارة اللحمة كما كنا نسميها . فنكبل كالعادة ونطمش , وتقيد رجل واحدنا برجل الآخر ويده بيده , ويودع كل منا بلطمة أخيرة منتقاة , لنجد أنفسنا أكثر من أربعين شخصا محشورين فى تلك العلبة المغلقة .. تتحرك بنا تحت جنح الليل تلك الليلة نحو رحلة أخرى من المجهول !

أبوجهل!

لم يكن سهلا علينا فى البداية أن نتكهن إلى أين نمضى , ولم يكن ممكنا لنا فى نفس الوقت أن نتبادل الآراء أو أن ننبس ببنت شفة , لكن الوقت الذى طال علينا والسرعة المنتظمة التى أخذت السيارة تحافظ عليها أوحت إلينا أننا الآن خارج العاصمة نتجه إلى مكان بعيد , لم نلبث هذه المرة أن رجحنا أن يكون تدمر لا غير . وبالفعل وفى نهاية المطاف توقفت السيارة بنا وسكن هدير محركها وفتح الباب الحديدى علينا وأتانا الأمر بالنزول . سرت القشعريرة فى بدنى فور أن نزلت من السيارة ولسعتنى قرصة البرد الصحراوى قبيل الفجر . ولم نلبث أن وجدنا العناصر الذين أتوا بنا يرفعون الطماشات عن أعيننا ويفكون القيود من أيدينا وأرجلنا ويرموا بها فى السيارة لأنها عهدة الفرع هناك . وبرغم الظلام الحالك إلا أن الأنوار التى تسلطت علينا كانت كافية لنرى أفراد الشرطة العسكرية يحيطون بنا ويجرون مع عناصر المخابرات إجراءات الإستلام والتسليم ولنعلم من ثم أنه سجن عسكرى ذاك الذى وصلناه .. وأنه لكل المعطيات التى اجتمعت سجن تدمر لا ريب! لم يطل الأمر بنا لأكثر من ثوان معدودات حينما هجم علينا عناصر الشرطة العسكرية وبدأوا يجذبون كل من تحرر من القيد منا فيركلونه ركلة يجد نفسه من فوره على باب صغير , ينتظره على جانبه شرطى آخر يجذبه بيديه كخروف تعس الحظ ويركله مرة ثانية ليلج الباب . وهناك وما أن دلفت حتى استقبلتنى لطمة شرطى ثالث حولت وجهى إلى الجدار . وتتابع وصول الإخوة الآخرين إلى الجدار بنفس الطريقة . حتى إذا اكتملت وانتهت الدفعة أحسسنا ووجوهنا إلى الجدار كلنا أن شخصا مهما قد حضر . ونادى أحدهم وفق الإجراء العسكرى المتبع :

حاضر سيدى المساعد.

وانطلق من وراء ظهورنا صوت مساعد السجن أحمد كيسانى كما علمنا لاحقا أو أبو جهل كما أسماه السجناء .. انطلق من غير مقدمات يلعن آباءنا وأجدادنا ويفجر بحق أمهاتنا وأعراضنا وديننا .. كلن مضحكا مبكيا أن ينادينا هذا المجرم الوالغ فى دماء الأبرياء يقول:

ياخون (اى خونة) .. يا عملاء الصهيونية!

وانطلقت السياط من غير إنذار تسلخ جلودنا المكشوفة لهم, فإذا صاح واحدنا أو تأوه ضاعفوا عليه العذاب. لكن حفلة التعارف لم تكن لتبدأ من غير أن نتلقى أصول الإتيكيت السائد ! ولم ألبث أن طرق سمعى صيحة أبى جهل هذا ينادى عساكره :

أحضروا هذا العرص أبو الجينز.

وكنت وقت اعتقالى ألبس بنطال جينز قدرا . فكأنما وجده نقطة علام تساعده على أداء مهمته . وجذبتنى الأيدى كملاقط الحديد ورمتنى أمام سيادة المساعد ، فلما رفعت عينى إليه أريد أن أستطلع الخبر صاح بى ملأ صوته:

غمض عينيك ولا.

وهجم عناصر الشرطة على فبطحونى أرضا يركلوننى ويجلدوننى من كل إتجاه . وأتتنى وسط هذه العاصفة لسعة كرباج على عينى رأيت الشرر والله خرج منها !

وأدركت لاحقا أن هذا الذى أصابنى كان مجرد درس تعليمى وحسب ! فالقوانين هنا فى سجن تدمر العسكرى غيرها فى أقبية المخابرات بدمشق . وإذا كانت التعليمات تقتضى هناك أن تبقى عيوننا معصوبة مطمشة على الدوام حتى لا نرى أحدا من المحققين أو الجلادين , فإنها هنا توجب علينا أن نكشف عيوننا وأن نمتنع رغم ذلك عن رؤية أى أحد منهم !

ولو نزلت على واحدنا كبلات الأرض أو قطعت لحمه السياط فالواجب المحتم عليه أن يبقى مغمض العينين!

الذاتية

وتوقف الضرب فجأة بإشارة من أبى جهل وأتانى صوته القبيح:

راسك بالأرض ولا غمض عينك .

وساد المكان سكون رهيب لبرهة من الزمن . فلما أدرك أم الدرس الأول وصل المجموعة كلها صاح من جديد:

قل حاضر سيدى ولا.

قلت ورأسى فى الأرض وعيناى مغمضتان : حاضر سيدى .

قال: كم عملية إنت عامل ولا عرص؟

قلت : ولا عملية سيدى .

قال وكأننى أنا الذى شتمته : ولا عرص .. بتكذب؟

وانهالت الكبلات والسياط على من جديد. وجعلتنى أتلوى على الأرض كالذبيحة لا أدرى أين المفر والإخوة وجوههم كلهم إلى الجدار وصياحى وعواء الشرطة من حولهم وحولى يفتت أعصابهم ويفرى قلوبهم . ولم يلبث الدور أن تحول ونادى أبو جهل من جديد :

واحد واحد من هون يا خون اطلعوا لبرة.

وساقتنا اللطمات والكرابيج إلى باحة أخرى تتصدرها غرفة الذاتية , أجلسونا خمسة خمسة أمامها وبدأوا يدخلوننا واحدا تلو الآخر إليها , والشرطة خلفنا يركلوننا بأرجلهم أو يصفعون رؤوسنا بأيديهم ويلسعون ظهورنا بالكرابيج والكبلات وهم لا يكفون عن شتمنا وتوعدنا وتهديدنا:

هلق بنفرجيكم يا خون .. هلق بس تخلصوا يا ويلكم .. والله لنعمل .. بأمهاتكم وأخواتكم .. والله الموت مصيركم يا ..

ولم يكن الزبانية كاذبون فى ذلك , فلقد اعتادوا قتل الناس بأنفسهم وفعلوا ذلك مرات لا تعد . ووفوا وعدهم فى المستقبل وأزهقوا من أرواح الإخوة من نفس الدفعة عددا ربما فاق من بقى منهم على قيد الحياة!

التعليم

لم يكن الفجر قد طلع بعد والبروردة التى أطبقت علينا من كل اتجاه ونحن فى ملابسنا الصيفية الخفيفة التى اعتقلنا بها زادت عليها برودة الأسمنت الذى أجلسونا فوقه ننتظر أن نلج غرفة الذاتية تلك . فلما حان دورى وقد كدت أتجمد رغم السياط التى أصابتنى دخلت فوجدتهم يسألوننى كالعادة عن اسمى وسنى وعنوانى .. وعلمت أثناء ذلك اننا فى اليوم العاشر من شباط 1981. فلما عرفوا أننى أردنى الجنسية ثارت ثائرتهم وانتفضت أوداجهم وانهالوا على ضربا ولكما وشتما بأقذع الألفاظ ولم يكن معنى ذلك أنها غضبة ساعة وحسب . فلقد تبين لنا لاحقا أن الشخص الذى يلقى معاملة خاصة من هذا النوع ساعة استقباله فقد (تعلم) والتعليم معناه أن الشرطة قد ميزوه عن غيره للسبب ما .. وأنه محتم عليه بالتالى الهلاك لا محالة.. فى العاجل أو فى الآجل القريب .غير أن الله سبحانه قدر ولطف وحدث أن تغيرت النوبة التى استقبلتنا فى تلك الأثناء .. وذهبت مجموعة الشرطة التى علمتنى وقتذاك وحضر آخرون فاتتهم هذه الملاحظة عنى .. فأنجانى الله من موت محقق !

قصاص

وانتهت إجراءات تسجيلنا وصرنا الآن جزء من عهدة تدمر رسميا , وعلينا أن نتلقى مراسيم الإستقبال الرسمى الآن .. فكل الذى سبق تبين أنه لو يكن ضمن الحساب !

تجمع موكبنا الحزين خارج الذاتية ، فإذا بنا أمام باب كبير كفم الغول .. أخذتنى لمحة من عينى إلى أعلاه فهالنى أن أقرأ قول الله تعالى مخطوطا هناك(ولكم فى القصاص حياة يا أولى الألباب) تحوطه شعارات النظام المعروفة (أمة عربية واحدة . ذات رسالة خالدة)!

دخلنا الباب ونحن نقرأ على الدنيا وراءنا السلام ! ووجدنا أنفسنا فى باحة اسمنتية تحيطها المهاجع التى أمرونا أن نصطف على جدرانها مسلمين للوحوش رجال السرية كلهم ظهورنا بالإختيار ! ولم يلبث الزبانية أن بدأوا يسحبون الواحد منا تلو الآخر فيعرونه من ثيابه إلا الشورت ، ويفتشونه مرة أخرى من باب الإحتياط . وفى الوقت الذى يتولى قسم من الشرطة الإخوة المتجهين إلى الجدار بالضرب والجلد والركلات , وبينما يعلو الصياح وترتفع أصوات الإستغاثة ولا مغيث , تجذب الأيدى القاسية الأخ الذى تجرد من ثيابه وبات جاهزا فتدفعه فيختل توازنه ويقع على الأرض , ليكون الدولاب فى استقباله واثنين من الشرطة العسكرية على جانبيه ينزلانه فيه . فترتفع الرجلان فى الهواء .. ويفقد واحدنا القدرة إذ ذاك على التحرك . لكن الجلادين ولزيادة الإحتياط وتحقيق مزيد من الإتقان يربطان الرجلين بجنزير من الحديد تعدم أية فرصة لهما للتحرك قيد أنملة .

ويبدأ الضرب من غير رحمة ومن غير عد .. فإشارة الإنتهاء لدى هؤلاء الوحوش أن تتفتح بطن الرجل وتسيل منها الدماء . فإذا تم ذلك فكوا القيد عن الرجلين وأخرجوا المعتقل من الدولاب وأمروه أن يفتح كفيه ليتلقى هدية أخرى . وتنهال على الراحات سياط من الجلد العريض سمعنا أنها صنعت من حزام مروحة الدبابات ! حتى إذا حل بالأيدى مثل الذى حل من قبل بالأرجل وتأكد الجلادون أن الدم الآن يسيل أمروا ضحيتهم بالإنبطاح أرضا . ولا يكون المسكين بحاجة إلى سماع الأمر لأنه منهار ومنته بذاته ، فيستقبل الأرض لا حول له ولا قوة .. وتلحق به السياط والعصى تأكل الآن ظهره وجنبيه : خمسون .. مائة .. وربما مائتا جلدة قبل أن يتوقف الزبانية .

ويدخل الحفل مرحلته الأخيرة فيقفز أحدهم فوق ظهر الضحية ويلحقه ثان فيقلبه ويعلو صدره .. ويأخذ كلاهما يعفسانه ويركلانه ويمسحان به نعالهما العسكرية الغليظة .. حتى تتكسى الضلوع وتتهتك بقايا الجلد السليم . وتكون الدائرة قد مرت على الدفعة كلها , وسالت دماء الإخوة جميعا ونال كل واحد منهم نصيبا من العذاب غير موصوف , ولكم فقد فى حفل الإستقبال ذاك من إخوة و ماتوا من غير أن يأبه أحد. ولكم خرج من هذا الجحيم من خرج كسيرا أو صاحب عاهة من غير أن يزيد ذلك الزبانية إلا سرورا وغرورا .

المهجع 26

مضت ثلاث أو أربع ساعات على حفل استقبالنا هذا وسطعت علينا الشمس فهالنا أن نبصر أنفسنا وكأننا سرب طيور منتوفة الريش! ومن قبل أن نلتقط أنفاسنا صاح بنا أحدهم أن نلبس ثيابنا ونمشى .. ومشينا نازفى الجروح مطأطئى الرؤوس . لكن السياط والكبلات لم ترحمنا . ووجدنا أحدهم يهوى علينا بعصى لا أظنها والله إلا جذع شجرة .. إذا هوت على الظهر فلقته فإذا أصابت الرأس أو الصدغ فالواحد ميت لا محالة!

وكان معنا أخ من أدلب اسمه نديم منصور أصيب أثناء اعتقاله بطلقات رصاص فى ساقه وساعده ولم يكن يستطيع السير . فتقدمت أنا وأخ من حلب اسمه جمال عيار فحملناه .

أنا أمسكه من كتفيه وجمال يرفعه من رجليه . وركضنا وركض الشرطة وراءنا يضاعفون علينا العذاب .. وكدنا مرات عديدة أن نقع ويقع الأخ معنا . ولم نكن ندرى إلى أين سينتهى هذا الجرى بنا .

وجعلنا ندخل من باحة إلى أخرى ونعبر من باب إلى آخر حتى وصلنا آخر الأمر إلى الباحة السادسة من السجن، ووجدنا أنفسنا نساق إلى مهجع كبير فيها هو المهجع السادس والعشرون . وهناك وبعد أن اكتمل وصولنا وجدناهم يصفوننا على الجدار من جديد , ومضى الشرطة فختموا لكل منا بضربة عصا على ظهره الدامى لتهد ما يمكن أن يكون تبقى من جلد فيه . حتى إذا هدات الأصوات وسكنت الحركات دخل المساعد أبو جهل المهجع .. وافتتح كلمة ترحيب جديدة حافلة بأقذع المسبات وألفاظ الكفر بالله .. وزف إلينا وسط عباراته الناضحة بشرى وصولنا سجن تدمر .. تدمر التى ستكون فيها نهايتنا .. نحن الخون العرصات العملاء ال...

وانتهت الكلمة الترحيبية بنا , وخرج أبو جهل يتبعه الزبانية , ووجدنا الباب يغلق علينا , وصمت كصمت القبور يلفنا . وسرعان ما ألقى كل منا بدنه المنهك على الأرض .. يود لو أن مال الأرض كله بين يديه فيفتدى به ساعة من غير عذاب!

فى انتظار المجهول !

أغلق الباب وظننا أننا نلنا اليوم نصيبنا كاملا من العذاب ولن يكون هناك مزيد . غير أن الأمل تبخر لحظة أن نادى علينا صوت أجش من فوقنا يصيح :

الكل لم (أى اجتمع والتم) على الزاوية ولا.

أفزعتنا المفاجأة فلم نكن نتصور أن فوقنا داخل المهجع زبانية من الشرطة العسكرية أيضا . وعندما رفع أحدنا رأسه يستطلع من أين جاء الصوت ناداه الشرطى وهو يشتمه :

أنت يا .. علم حالك ولا . ولما أقول وين المعلم بتطلع لبرة..

وكالقطيع المرعوب انكمشنا نحن فى زاوية من زوايا المهجع حيث أمر , وأطرقنا برؤوسنا نترقب المجهول . وأخذنا نحاول بحواسنا المتوترة أن ندرك معالم هذا المهجع الذى ضمنا من حيث لم نحتسب. ولقد أدركنا لا حقا أن البناء عبارة عن غرفة كبيرة مستطيلة , ثمة دورة مياه على يسار الداخل من الباب , فيها حمامان تتوسطهما مغسلة وحوض . وأما بقية المهجع ففى حجم ثلاث غرف متتالية زاوية التقاء جدرانها الأربعة بالسقف نوافذ مفتوحة على الدوام عليها قضبان من الحديد وحسب , غير أنها من العلو كفاية لمنع وصولنا إليها أو مشاهدتنا لما يجرى فى الخارج عبرها . وفى السقف نفسه فتحتان مساحة كل منهما متر بمتر تغطيهما قضبان من الحديد الغليظ أيضا , يستطيع عناصر الشرطة الذين يتناوبون فوقنا أربعا وعشرين ساعة فى اليوم أن يروا كل ما يدور بيننا من تلك النافذتين ,أو الشراقتين كما تسميان بمصطلح السجون .

السخرة

ومضيت أتحسس جراحى وألملم بدنى المنهك فى سكون ..

وانشغل كل منا بحاله فلا تسمع إلا اضطراب الأنفاس وأنات الألم تنطلق بين تارة وأخرى فلا يلبث صاحبها أن يكتمها ويشد على الجراح بصمت .

وانقضت ساعتان أو أكثر بقليل , وفتح الباب فجأة ودلفت دفعة جديدة من المساجين الجدد أغلبهم شباب فى مقتبل العمر من طلاب الثانوية العامة أو الجامعة .. علمنا لاحقا أنهم كلهم من مدينة حمص , وأنهم نالوا مثل العذاب الذى نلنا , ولكننا لم نسمع أصواتهم لأن إجراءات استقبالهم تمت كذلك بعيدا فى الباحة الأولى مثلنا . غير أن الشرطة لم يحرموننا أن نتنعم بسماع صيحات الألم والعذاب , فلم يلبث أحدهم أن فتح الباب ونادى فينا وكأنه له ثأر قديم يريد أن يشتفى منه :

وين المعلم ولا؟

فعلمنا أن الأمر جد إذا , وأن الأخ لابد أن ينال عقوبة تلك النظرة الخاطفة , وخرج المسكين وكان اسمه صالح الوقاع أستاذا لمادة العلوم من مناطق دير الزور . وانهال عليه الشرطى لطما وصفعا وجلدا , وصراخه يصم آذاننا ويشوى قلوبنا ولكننا لا نملك له إلا الدعاء .

ولم يكد المشهد ينتهى حتى فتح الباب مرة أخرى ونادى عنصر من الشرطة فينا :

من كان منكم عسكرى ولا؟

غير أن أحدا منا لم يجب . أعاد السؤال فسكت الجميع وفى المرة الثالثة رفع أحدنا يده وكان اسمه وضاح الدن من قرى حلب وقال :

أنا سيدى .

قال الشرطى : أنت عسكرى ولا ؟

أجاب نعم سيدى .

قال الشرطى وهو يرمقه بقرف : ماشى الحال.. قدم الصف لأشوف .

فوقف الأخ وفق الإجراءات العسكرية ونادى فينا :

انتبـ........ـه . استـ........رح. استـ........ـعد.

وفى الوقت الذى لفنا فيه الإضطراب ولم نعرف كيف نتصرف صاح الشرطى فيه:

بتقول استرح استعد المهجع جاهز للتفتيش حضرة الرقيب . تفعل ذلك كلما سمعت أى حركة على الباب يا.....

فطور بالإكراه!

وخرج حضرة الرقيب وجعلنا نحوقل فى سرائرنا نسأل الله اللطف والستر .. ولم يلبث أن فتح الباب من أجل إدخال الفطور. وقفز الأج من مكانه وصاح بنا اللازمة التى تعلمها :

انتبـ........ـه . استـ........رح. استـ........ـعد.

ولكنه تلعثم قبل أن يعلن جاهزية المهجع للتفتيش فلم نكن قد عرفنا بعد كيف يكون ذلك أوكيف ننفذ هذا الأمر فى هذه الظروف . ونادى الرقيب وهو يكاد يزمجر :

السخرة .. وين السخرة ولا؟

ولم يكن قد مضى على وجودنا فى المهجع وقت يكفى لنلتقط فيه الأنفاس فكيف لنا أن نفكر بالسخرة وبالطعام ! فلما وجد الرقيب الحالة لم تنضبط والأمر لم ينفذ سحب الأخ وضاح إلى الخارج وانهال عليه صفعا وركلا , فلما انتهى رمى به إلى الداخل ونادى من جديد:

من كان منكم عسكرى يا......؟

فى تلك المرة خرج الأخ جمال عيار وأجاب . وكان جمال أو أبو الفضل كما كنا نناديه خريج المدرسة الشرعية بحلب يخدم الجندية الإلزامية حين اعتقل . وكان رحمه الله ممتلىء الجسم قصير القامة , فناداه الشرطى سائلا:

انت عسكرى ولا ؟

قال بثبات واحتراف : نعم سيدى .

قال له : أدخل الفطور الآن.

ودخل علينا جمال بطشت بلاستيكى فيه بعض قطع الجبن وأرغفة الخبز العسكرى الجافة ذاتها . تبعها بسطل من الشاى يبعث منظره على القرف . ولم يكن لأحد القدرة وقتها ولا شهية لتناول شئ لكننا وجدنا الشرطى ينادى من فتحة السقف فوقنا ويصيح :

الكل واقفا ولا.

فانتفضنا وقوفا كلنا .

وجهك عالحيط ولا .

استدرنا من غير أن ننسى هذه المرة أن نغمض أعيننا ونخفض رؤوسنا نحو الأرض.

رئيس المهجع . شيل شيل قطعة الجبنة وطعميهن هالعرصات واحد واحد.

فأخذ أبو الفضل يطوف علينا ويدس فى فم كل منا قضمة جبن . فلما انتهى ناداه الشرطى من جديد : املأ قصعة الشاى وشرب هالـ .... بالتناوب .

ونفذ جمال ما أمر الشرطى به . وجلسنا من ثم فى أماكننا صامتين واجمين . وقتذاك كانت الشمس قد سطعت وتسللت أشعتها الدافئة من نوافذ المهجع العليا فنشرت فينا الدفء والإرتياح لبرهة . غير أن الباب لم يلبث أن فتح من جديد فقفز جمال ونادى باللازمة . ودخل هذه المرة أبو جهل وبعض الزبانية حوله ونادى :

رئيس المهجع ضب كل المساجين لجوه .

فاجتمعنا كلنا فى زاوية داخل المهجع , فيما دخل عدد من عناصر البلدية وفق مصطلح السجن الذى تعلمناه لاحقا , وهم المساجين غير السياسيين من العساكر الذين يقضون عقوباتهم فى السجن . وأدخل أولئك كوما من البطانيات المنتنة فكدسوها على مقربة من أقدام المساعد والشرطة العسكرية وخرجوا . فنادى أبو جهل من جديد :

الكل فى صف واحد ولا .

فانتظمنا فى صف واحد أخذ يمر أمامه وقد أغمضنا أعيننا كلنا وخفضنا هاماتنا . فجعل الشرطة يسلمون كلا منا بطانيتين وكل اثنين منا عازلا مشتركا . والعازل عبارة عن خيمة بالية من خيام الجيش مغطاة بالبطانيات العتيقة وفوق البيعة ما لا يعد من الشتائم واللعنات وقال أبو جهل يخاطب رئيس المهجع وبقية السامعين : هذه البطانيات والعوازل عهدة ..وكل واحد مسئول عن عهدته ولا.

وتلقينا العهدة والتعليمات والعوازل ونحن لا نزال مغمضى العيون خاشعى الحركة . وسمعنا المساعد وأزلامه ينسحبون ويغلقون علينا الباب .. فألقينا عهدتنا الثمينة تلك وألقينا فوقها أجسادنا المنهكة .. لا ندرى ماذا نفعل أو نتوقع فى الخطوة التالية .

التفقد

وبلغت الساعة حوالى الثانية بعد الظهر , ووجدنا الباب يفتح من جديد . وانتفض الأخ جمال فقدم الصف . ودخل الرقيب وصاح فيه :

صفهم خمسة خمسة للتفقد.

ولم يكن علينا إلا التنفيذ . لكن الفزع الذى غمرنا جميعا جعلنا نتدافع مضطربين كل منا يتحاشى أن يأتى إلى طرف الشرطى , فلما طال الأمر ولم ينتظم الصف دخل علينا الشرطة وأوسعونا ضربا وجلدا , وجمال رحمه الله يساعدنا على الإنتظام فى الصف قدر الإمكان . وتم الأمر أخيرا . وعدّونا فكان العدد فوق المائة . وصار واضحا لدينا أن هناك جزءا أساسيا فى البرنامج اليومى يسمى التفقد , الجلد والضرب والشتم لوازم ضرورية لابد أن تلازمه مثلما هى لوازم لا تنفصل عن أى مناسبة أخرى تتاح للشرطة فيها أن يسفكوا دماءنا !

وخرج الشرطة وعاد كل إلى ذاته مطرق الرأس مشتت الفؤاد . لا يكاد واحدنا يسمع حركة حول المهجع أو فوقه حتى ينتفض كالمحموم ! وكلما ود واحدنا أن يرفع الطرف لينظر ما حوله تذكر ما حل بالأخ صالح فيرتد إليه طرفه وهو حسير !

وهكذا مضى اليوم ومرت أيام أخر لا يجرؤ أحدنا على أن يكلم جاره الذى ينام معه على عازل واحد , أو يهمس حرفا لأقرب الناس إليه . والبرنامج اليومى يتكرر كاللازمة : نستيقظ فى السادسة فنضب العوازل والبطانيات ونقبع فوقها صامتين واجمين ..ولا يلبث أن يفتح الباب فننتفض جميعا ونقف فى حالة الإستعداد . وتخرج مجموعة منا لإستلام حفنة الطعام الذى يعتبرونه الفطور مجازا . فنزدردها بلا شهية أو نجمعها فى ركن الحمام من غير أن يقربها أحد . وربما مرت على الواحد منا الوجبة والوجبتان والخمس وهو ولا يمس من الطعام من قلة الشهية شيئا . ولكم اضطر رئيس المهجع إلى رمى الطعام فى الحمام لأن أحدا لم يأكله خشية أن يكتشف الشرطة ذلك فننال ما نحن بغنى عنه !

فإذا انتهى الفطور من غير مشاكل حان وقت التفقد , فنستعد ونأخذ حسبنا الله ساعة تعذيب لازم.وينال كل منا نصيبه المقدور .. ونعود إلى جلستنا مترقبين حذرين . ولا يلبث الشرطة أن ينادوا علينا للتنفس هذه المرة . فنخرج إلى الساحة مطرقى الرؤوس مغمضى العيون .. يمسك واحدنا أخاه الذى أمامه من وسطه ويتبعه كالأعمى .. لتتلقانا الكبلات والعصى فتقودنا بالإكراه إلى حيث يشاؤون . وترانا كقطيع مسعور نجرى حول الساحة والكرابيج والكبلات والضربات تلاحقنا من أنى اتجهنا . فإذا زل أحدنا أو وقع تعثر به البقية وتكوم فوقه المتساقطون .. فتزداد فرصة الشرطة لزيادة الضرب ومضاعفة العذاب . ويعلو الصياح وأصوات الإستغاثة فتعلو معها عبارات الكفر والشتائم البذيئة . فإذا انتهى وقت التنفس وقادتنا الكبلات صوب المهجع من جديد ، تكون على الباب ملحمة أخرى دامية . فمائة ونيف من هؤلاء البؤساء ليست أمامهم إلا فتحة هذا الباب لينفذوا منها . عيونهم مغمضة فلا يستطيعون مشاهدة موطئ أقدامهم , والسياط والهراوات تلاحقهم من كل حدب وصوب. فتنحشر الأكتاف والرؤوس ، ويسقط من يسقط تحت الأقدام , ويشج تالبعض بعارضة الباب الحديدية . فلا تنتهى حفلة التنفس تلك إلا وقد دمى من بيننا أكثر ممن سلم , وأصيب أضعاف من نجا .

طعام ومنام

وهكذا كنا نعود إلى المهجع لنلعق جراحنا بصمت , ونتأوه تخنقنا الحسرات والعبرات .. ويحين موعد الغداء بعد حين .. ولا يلبث أن يأتى من ثم العشاء . ونحصى إذا قدرنا نصيبنا الذى نلناه على مدار اليوم من الطعام فلا نراه يكفى لأن يسد رمق طفل صغير : صمونتان صغيرتان جافتان للوجبات الثلاث ورشفة شاى على الفطور مع بضع حبات زيتون أو لحسة مربى أو حلاوة لا تملؤ ملعقة واحدة . ومرق أحمر للغداء لا يكاد يكفى لأن يبلل الصمونة التى فتتناها فيه . وبعض حبات الحمص المسلوق أو أجزاء من البطاطس المسلوقة للعشاء .. وحسب! ولربما استبدل البيض بالبطاطس مرات , أو شوربة العدس بالحمص المسلوق . لكن قلة الكمية وسوء النوعية كانت تثير فينا الشعور بالجوع أكثر من أن تلبى حاجتنا إلى الشبع ! فنصيبنا من البيض إذا حضر لم يكن يتجاوز البيضة الواحدة لستة أشخاص . ومن الأرز ملعقة صغيرة واحدة للشخص . ومن اللحم أقل من رأس العصفور فى المناسبات وإذا أحضروا دجاجا كان نصيب المهجع كله خمس أو ست دجاجات مقابل أكثر من مائة فم ! حتى أننا بتنا نعتبر الطعام نوعا إضافيا من التعذيب ليس إلا ! وصار اعتياديا بيننا أن نأكل قشر البرتقال وقشر البطيخ والبيض ولا نرمى من الفضلات فى القمامة شيئا. ولكن النهار لابد وأن ينتهى ويحين موعد النوم فى السادسة , لكنه النوم الذى يحرم على صاحبه التمتع بالنوم فيه ! فالضوء داخل المهجع لا يطفؤ ليل نهار , والشرطة على السطح يراقبوننا باستمرار . ولم نمى إلى سمعهم صوت همس أو حس حركة من بيننا علموا صاحبها على الفور فكان نصيبه من العذاب فى الصباح مالا يسر !

ولقد كانت الصلاة وسط هذا الظرف نوعا من التهلكة بالطبع , ولكم أخرج الشرطة رئيس المهجع وانهالوا عليه ضربا يسألونه عمن يصلى عنده من المساجين ليدلهم عليه. ولذلك كنا نصلى إيماءا من أول يوم . كل بسره وحدة من غير ركوع او سجود . لكن النعمة التى وجدناها فى ذلك المهجع كانت الحمام , فلم يكن من رحمة الله للحمام شراقة تكشفه , ولذلك كنا نتوضأ آمنين . وننسحب إلى بطانياتنا فنستلقى تحتها ونصلى موميين بسكون وهدوء.

إلى الحلاق

وانقضى قرابة الأسبوع على هذه الحال .. وبدأنا نألف الوضع الجديد ونتأقلم معه . وأخذنا نجرؤ على النظر إلى بعضنا البعض والهمس إلى بعضنا ولو بكليمات . وقام الأخ جمال رئيس المهجع فقسمنا إلى مجموعات صغيرة للسخرة , فساعدنا ذلك على الخروج من حالة الوجوم تلك , وبدأنا نتعرف على الأفراد المحيطين بنا من غير أن نجانب أقصى أسباب الحذر . لكننا وبعد أن اعتقدنا أن البرنامج استقر على تلك الحال فوجئنا بهم ينادوننا للخروج من المهجع مرة واحدة فى غير موعد التنفس ووجدناهم يسوقوننا مغمضى العيون إلى زاوية من زوايا الباحة تلاحقنا الجلدات والسياط كالعادة . وهناك صفونا على الجدار وجعلوا يخرجوننا خمسة وراء خمسة فى صف واحد , لنجد فى انتظارنا ثلاثة من السجناءالعسكريين الذين يسمون البلدية بلغة السجن يقومون بدور الحلاقين , وغالبا ما يتم اختيار اختيار أولئك من أبناء طائفة النظام الذين يقضون عقوبة ما فى سجن تدمر . فلا يقلون حقدا ومكرا عن بقية السجانين من الشرطة العسكرية. وععندما يصل واحدنا إلى أحد الحلاقين يأتيه الإيعاز بلهجة الأمر:

وراء در.

فيستدير.

ارفع رأسك.

فيرفعه من غير أن يفتح عينيه . ويمر الحلاق بالفرشاة والصابون على الذقن فيطريها . ويرسله إلى الحلاق الآخر فيفعل ما فعل الأول . وينتهزها البلدية فرصة لينفثوا فينا أحقادهم الطائفية . فشتيمة من هنا ودس للفرشاة فى الفم أو الأنف من هناك , ولطمة أو صفعة هنالك .. وأما المسبات فكلها بالمجان او على الحساب ! وعندما نصل للحلاق الثالث على الشاكلة نفسها , يمر بالموس على الذقن فيحلقها , والشرطة من ورائنا يصيحون فيه :

اذبحه هذا الكلب .. أو اسلخه هالعرص.

فيلبى الحلاق الطلب بكل امتنان , فيضيف على الوجه جرحا أو أكثر . ولا يبخل بمزيد من الصفعات والمضايقات . فإذا انتهى انتقل الصف إلى حلاقة الشعر , فيجثو السجين على ركبتيه يداه وراء ظهره وعيناه مغمضتان . وأؤكد هنا أننى طوال السنوات التى أمضيتها فى تدمر لم أشاهد وجه الشخص الذى كان يحلق لى قط إلا خلسة.. وكنت دائما مثل الآخرين مغمض العينين مطبق الجفنين! وعندما تنتهى حلاقة الرأس واللحية والشاربين التى تستخدم بها ماكينة يدوية بالطبع ربما انتزعت الشعر بدل أن تحلقه , أو أصابت الوجنات فأدمتها لتبهج الحلاق .. عندما تنتهى يأتى الإيعاز من الشرطة خلفنا :

منبطحا.

فننبطح .. ويتقدم واحد منهم أو أكثر ليقدموا لنا ما كنا نسميه نعيما الحلاقة ! فيبدأوا بالقفز فوق ظهورنا أو يوسعونها جلدا وركلا , ولا ينسوا نصيبنا وافرا من الشتائم والمسبات . فإذا انتهوا وقت أن يحلو لهم الإنتهاء , عدنا محطمين إلى الجدار من غير أن يكف الشرطة عن جلدنا وضربنا وركلنا ونحن ننتظر أن ينتهى المهجع كله من الحلاقة .

ولقد كانت مفاجأة لنا أول مرة حينما عدنا بعد هذه المعمعة إلى المهجع وأقفلوا علينا الباب , فوجدنا أنفسنا بالقرعة التى تلتمع رؤوسنا كثمر البطيخ .. فلم نتمالك أنفسنا من الضحك رغم الألم . ثم وجدنا أنفسنا بعد ذلك لا نألف إلا هذا الشكل فينا , ولا نعرف إلا هذا النوع من الوجوه !

حمام الدم!

وانتهت الحلاقة لكن البرنامج لم ينته . ولم يلبث مناديهم أن نادى فينا :

الكل برة بالشورت ولا.

فظننا أنها حفلة تعذيب جديدة . وبدأنا نراجع أنفسنا علنا ندرك ما حدث . ووجدتنا نساق ووجدتنا نساق مغمضى الأعين عاريى الصدور مكشوفى الظهور حفاة نتبع واحدا من الشرطة كالنعاج لا حول لنا ولا قوة . تتناوشنا السياط من كل اتجاه , وتهوى علينا الصفعات والركلات فى كل خطوة . وعندما صادفنا البلدية الذين كانوا يوزعون الطعام على إحدى الباحات وجدناهم يهجمون علينا فكأننا الطريدة العاجزة أمام كلاب الصيد ! وانتهت بنا المسيرة بعد قرابة الربع ساعة إلى الباحة الأولى ليعلموننا هناك أنها ساعة الحمام أتت . وعندما يذكر الحمام عادة يتبادر إلى الذهن الماء الدافئ أول ما يتبادر .. والصابون والطيب والإسترخاء .. لكن الأمر لم يطل بنا لنعرف الحقيقة . ووجدناهم يقسموننا قسمين : أبقوا الأول فى الباحة وأمروهم أن يجلسوا جاثيين , رأسهم إلى الأرض وظهرهم العارى مكشوف للشرطة , وساقونى مع القسم الثانى إلى الحمام .

ودلفنا أكثر من خمسين شخصا على عدد من المقصورات لا يتجاوز عدد أصابع اليدين , وجاءنا الإيعاز بالدخول تحت الدشات . فكنا ستة أو سبعة أو ربما أكثر كلنا تحت دش واحد ! وانصب علينا الماء البارد مرة واحدة , لكن صوت السياط التى أخذت تجلد ظهور إخواننا الذين فى الخارج أنستنا وكأنها طلقات الرصاص أحاسيس التجمد , وأبدلت قشعريرة البرد التى سرت فينا رجفة الخوف من المصير المرتقب ! وجعل أفراد الشرطة يدخلون علينا فينعمون علينا بلسعات الكرابيج مقدما . وأمرنا بعضهم أن نخلع سراويلنا وأن نكشف عوراتنا زيادة لنا فى الإهانة والعذاب .. ولم نجد بدا إلا أن ننفذ والزبانية بين ضاحك وساخر وشاتم.

وانتهى الأمر خلال خمس دقائق وخرجنا تتقاطر منا المياه لتتلقانا السياط التى سبق أن نالت من ظهور الإخوة قبلنا . وزادنا ألما وعذابا أن عبرنا فوق مجارى الحمام المفتوحة فتعثر فيها من تعثر وارتطم بحوافها القاسيه من كان له نصيب لم ينته من البلاء .. فلما انتهت الدفعة الثانية خلنا أن دهرا بأكمله قد انقضى .. ومضينا تدفعنا السياط والصفعات إلى المهجع , مغمضى العينين كما أتينا وتدافعنا على الباب ككل مرة , فتعثر من تعثر وشج من شج وارتض من ارتض . وكان الحمام حقيقة الأمر حمام دم بكل معنى الكلمة .

وارتمينا بعدما أغلق الباب علينا كالقتلى على الأرض . ما منا إلا من يئن أو يتأوه .. وليس فينا إلا جريح أو معنّى . لكن المأساة لم تكن انتهت بعد .. والمهزلة كانت تنتظر فصلها المضحك للختام . فما هى إلا دقائق حتى فتح الباب , ودخل الشرطة فأبلغوا رئيس المهجع أن علينا أن ندفع أجرة الحلاقة والحمام فورا وفى الحال !

وأتى الأخ ينتظر منا الجواب .. وليس لد ينا من جواب إلا التسليم فى كل مرة .. وتقدم من سلمت نقوده فى الأمانات فدفع .. واندفعنا بعدما هدأ الحال إلى همام مهجعنا لنغسل ما كسى أجسادنا من شعر ودم وتراب , فما كدنا ننتهى حتى كان اليوم قد انتهى .. وانتهت فينا كل ذرة من طاقة وجلد.. فارتمينا على بطانياتنا الرثة نلتمس ساعة نوم هادئ قبل أن تدهمنا مفاجأة جديدة .. أو تحل علينا من القوم نازلة لم تكن فى الحسبان !

ولقد استمر نظام الحام البئيس مرة كل أسبوع حتى عام 1984 حيث صدرت الأوامر وقتها أن يتم الإستحمام فى حمام المهجع نفسه . وأما الحلاقة فقد استمرت حتى عام 1986 حيث انتشر مرض اليرقان - كما سيأتى بإذن الله – فكان ذلك البلاء سببا فى رفع هذا البلاء!

من رحمات الله

ومرت ايام أخر نزداد اقترابا من بعضنا وائتلافا بمقدار ما يزداد الهم وتتنامى المعاناة . ومع تقادم الخبرة بدأنا ندرك كيف تمضى الأمور من حولنا .. وتعلمنا أن الشرطة يتعاقبون على حراسة سطح المهجع . فصرنا ننتهز فرصة انشغالهم بالإستلام والتسليم لنتحدث بحرية أكثر أو نتحرك من غير خوف . ومع اعتياد المكان والحال بدأنا ومن نعمة الله علينا نسمع صوت الأذان الآتى من مدينة تدمر المجاورة . فلم يكن من أنيس لنا مثله أبدا ، وكأنما أحس الزبانية بأثر هذه النعمة علينا ، فكان بعضهم إذا ارتفع الأذان علانا وأطل علينا من الشراقة وجعل يتبع كل تكبيرة بكلمة الكفر .. وكل تهليلة بمسبة فاحشة واستهزاء بالله تعالى . وكنا علاوة على الأذان تبلغنا حتى أصوات السيارات العابرة على الطريق فى بعض الأحيان .. فنغتم من ذلك ونتحسر .. لا نتخيل كيف تسير الحياة على بعد خطوات منا ونحن فى هذا الجحيم لا يدرى منهم بحالنا أحد!

ولقد كان من رحمات الله بنا أن أحضروا لنا فى بداية الأسبوع الثانى ممرضا مجندا طاف على المهاجع وسجل احتياجاتنا الضرورية من العلاجات. ووجدناه يحضر لنا بالفعل بعض ما طلبنا .. وكان أكثر ما كنا نريد مراهم الجروح والإلتهابات .. فمن بين هذا الجمع من البؤساء من هو فى أمس الحاجة لها قبل أن يصل هذا المكان .. مثلما كانت الحاجة متجددة على الدوام إلى العلاجات لدوام الضرب الوحشى والتعذيب والتشنيع .

جروح وقروح

ولقد كان من أكثر سكان مهجعنا سوءا فى حالته الصحية الأخ نديم منصور الذى حملناه أنا والأخ جمال عيار ساعة وصولنا كما ذكرت . وكان المسكين أصيب أثناء اعتقاله برصاصة فى ساقه والأخرى فى يده . وكان ثمة آخر هو هيثم ملا عثمان مصابا بالرصاص أيضا فى رجله . وهو أحد الإخوة السبعة عشر الذين هربوا من سجن كفرسوسة ثم اعتقل من جديد وأصيب أثناء ذلك . وتنقل الإخوان من فرع مخابرات إلى آخر حتى وصلا تدمر من غير أن ينالا من العلاج شئ !

وكان أمرا عجيبا أن ظلا على قيد الحياة فعلا . فالرصاصات التى مزقت اللحم وهشمت العظام استقرت هناك وتقطعت كما يبدو أعصاب المنطقة فلم تعد الأعضاء تتحرك . ونمت العظام من جديد والتأمت بقدرة الله ولكن على غير وضعها السوى . ولذلك فلم يكن نديم وهيثم يقدران على السير مطلقا . وكنا نتعدهما بأنفسنا فى الحركة والسكنة . ولم يكن أمامنا ساعة التنفس أو الحمام إلا أن نتركهما فى المهجع بعد الإستئذان من الرقيب . فإذا تلاءم ورفض حسب المزاج كان علينا أن نحملهما حملا . وظل المسكينان فى معاناة دائمة حتى كان إعدامهما عام 1984.

كذلك لم تكن معاناة الأخ حسين عثمان نتيجة تعذيبه بالكرسى الألمانى أخف كما ذكرت . وكان رحمه الله دائم الإستلقاء منعدم الراحة ولم يسلم برغم ذلك من التعذيب كما سيأتى .. حتى اختاره الله ونال شرف الشهادة عام 1982.

وأما بقية الإخوة ورغم أنهم كانوا فى حال أفضل وإصابات أخف , إلا أن آلامهم لم تكن لتكف , وجروح بعضهم التى خلفتها حفلات التعذيب الأولى فى فروع المخابرات أو تلك التى زادت عليها فى حفل الإستقبال بتدمر لم تشف إلا بعد شهور . وزاد علينا القمل الذى حملناه فى أجسامنا من فروع المخابرات إلى تدمر , فانتشر فى المهجع وتفشى بين الجميع .. ولجأنا إلى نظام التفلية من جديد كإجراء وحيد نخفف منه من شر هذا البلاء !

كعبة الزبانية!

وبدأت نفوسنا تعتاد هذه الحياة القاسية يوما بعد يوم .وجعلنا فى حسابنا أمر التفقد وما يصاحبه من عذاب الإستفتاح كل يوم .. والتنفس والحلاقة والحمام . وجعل الإخوة الشباب الأصحاء يحرصون أن يقفوا من ناحية الشرطة ليفتدوا إخوانهم المسنين والضعفاء ويحمونهم من أن تطالهم سطوة الظالمين . وكان معنا عدد من المعتقلين ممن جازوا الستين والخامسة والستين , أذكر منهما شريف البعث والحاج محمد غرير وكلاهما من أدلب , وإبراهيم طوبل وعمر حيدر الذى توفى رحمه الله بالسكتة القلبية عام 1986 والرجلان من المرة كذلك كان معنا الحاج أحمد البربور من أريحا . وكان الزبانية يحرصون على تعذيب هؤلاء الرجال أكثر ويظنونهم لكبر سنهم وإصابة بعضهم بالصلع الطبيعى أنهم من قيادات الإخوان ! فكنا نجنبهم التعرض للعذاب قدر الإمكان , ونأخذ عنهم دورهم فى سخرة الطعام . فينال الأخ المتطوع الجلدات واللطمات ويضحى بما قد يكون حياته نفسها فداءا لإخوانه .

وكان الأخ جمال رئيس المجع قد قسمنا إلى مجموعات كما ذكرت ، فكان ذلك سببا فى ضبط المهجع وتقليل المشاكل مع الشرطة من جهة , وعاملا فى تآلفنا وتعارفنا من جهة أخرى . حتى بتنا كأبناء أسرة واحدة يواسى بعضنا بعضا ، ويساند أقوانا الضعيف فينا .. ويدخر كل منا وسعه للتخفيف عن أخيه . ولا أزال أذكر ممن كان فى مجموعتى الأولى الأخ أبا رشيد حسين عثمان . وأخا آخرمن حمص اسمه أمجد طيارة . والأخوين إبراهيم أحمد ومحمد طاهر مصطفى من أريحا.

وإذا كانت الأحداث المرة وتعاقب السنين قد أنستنى من الأسماء والحوادث الكثير فإنه مما لا ينسى عن أحداث تلك الأيام وذكريات هؤلاء الإخوة المسنين يوم أن عرف واحد من الشرطة اسمه شحادة الذى ينتمى إلى طائفة النظام أيضا أن الحاج أحمد غرير قد ذهب لحج بيت الله فى يوم ما , فمد الزنيم قدمه أمام الناس وقال لهم هذه هى الكعبة . وأمر الرجل أن يقبل حذاؤه كما قبل الكعبة هناك . ولم يكن للمسكين إلا أن يطيع خشية ما لا تحمد عقباه.

همجية التعذيب

وانقضى أسبوع آخر .. ودخلنا أسبوعنا الثالث على تلك الحال وفوجئنا ضحى أحد الأيام بدفعة جديدة من السجناء تجاوز الستين تدخل المهجع قادمين من حلب هذه المرة يحضرنى الآن من أسمائهم الإخوة رياض الشاوي وحسين الطنجي وكلاهما من حلب الأول مهندس مدنى والآخر طالب ثانوى . وأحمد عنعن طالب هندسة مدنية وأحمد حمزة وهذان من مدينة الباب . وكان الأخير مدرسا فوصل عددنا الأخير قرابة المائة والثمانين .. وأصبحت حصة كل منا فى النوم شبرا وأربع أصابع وحسب ! فكان الواحد منا إذا أراد التحرك فى الليل أيقظ بحركته أكثر أهل المهجع , ولو أحس الشرطى فوقنا بأدنى حركة بيننا فى الليل خاصة كان ذلك كافيا ليعلم من يشاء ويخرجه فى الصباح التالى لينال نصيبه من القتل والتعذيب.

لكن وصول الإخوة الجدد كان نوع من التسرية المؤقتة لنا , مثلما كان وجودنا من قبلهم عونا لهم على تفهم الوضع وتعلم الأنظمة الجائرة تجنبا لأى مزيد من العذاب . وسرعان ما انضم القادمون لمجموعات السخرة والطعام .. وجعلنا نسمع منهم أخبار الحياة خارج هذه الأسوار .. ويسمعون منا ما وجدناه منذ وصولنا هنا .. فشغلتنا الأحاديث ونشطتنا ,, ووثقت بيننا العرى وألفت بيننا . وكشفت لنا فى نفس الوقت أوجها أخرى من جرائم النظام وممارسات مخابراته الوحشية , وأطلعتنا على أساليب من التعذيب يمارسها أولئك الزبانية عافانا الله نحن منها وابتلى بها إخواننا فى حلب . رأيت بنفسى نموذجين منها كان الأول هو الأخ حسين الطنجى الذى استخدموا معه فى فرع المخابرات بحلب الضرب المباشر بالبلطة على مشط قدمه لإجباره على الإعتراف السريع فكادت أن تقطعها , وظل رحمه الله يتألم منها ولا يستطيع المشى عليها حتى إعدامه بعد عدة شهور . واستخدموا مع الآخر أسلوب الحرق بالمدفأة الكهربائية , والتى بقيت آثارها محفورة على ظهره لتظل شاهدا على همجية هؤلاء الزبانية .. وكان طالبا اسمه مأمون كردى من حماة أعدم هو الآخر بعد مدة رحمه الله .

مع كتاب الله

انقضت أحاديث التعارف وروايات المعاناة وقصص الداخل والخارج واتجهنا إلى تنظيم أمور حياتنا بما يفيد فالسجن الذى كتبه الله لنا يظل على فظاعته فترة انتقالية لابد أن تنتهى سواء بانتهاء الحياة أو بالفرج . وليس ثمة شئ نتزود منه أجلّ من كتاب الله تعالى . ولذلك دب فينا نشاط عجيب لحفظ أكبر قدر من القرآن الكريم , حتى إذا شاءت إرادة الله ووافانا الأجل كان آخر عهدنا فى هذه الدنيا مع كتابه الكريم. وسرعان ما نشأت بيننا حلقات الحفظ بالتلقى .. فلا مصاحف لدينا بالطبع لنحفظ منها . ولذلك كنا نتبادل حفظ السور من بعضنا البعض , فيجلس أحدنا إلى أخيه إذا هدأت الأمور وانتهت حفلات التعذيب ليسمع منه ما يحفظ , ويظل يردد وراءه الآية بعد الآية هامسا ويعدّهن على سلامات الأصابع . فإذا أنهى خمسا منهن وثبتهن فى ذهنه عاد فأخذ خمسا تاليات . حتى إذا انتهى اليوم وحل الليل وهجع الخلق رأيتنا نتعاقب على الحمام خلسة فنتوضأ ونعود لنصلى ونحن مستلقين تحت البطانيات إيماءا منفردين .. نعيد تلاوة ما حفظنا فى النهار .

وعلاوة على ذلك وإذا سنحت الفرصة أخذنا نستفيد من كل علم يعلمه أخ بيننا , أو رأى أو موضوع له فيه اطلاع . لكن ذلك ما كان يتم إلا بشكل فردى .. أو ربما بين أفراد المجموعة الواحدة وبمنتهى الحرص والحذر .

الكوليرا

ولم تكن بلاءات هذا المكان المريع لتتوقف .. فذات صباح فى صيف 1981 استيقظنا على أصوات التقيؤ وصيحات الألم المكتومة فى المهجع .. ووجدنا حالة من الإسهال الشديد أصابت الكثيرين بيننا , وأخذت العدوى تنتشر يوما بعد يوم , وجعل الإخوة يتساقطون من الإعياء داخل المهجع أو فى وقت التنفس . وكانت الفاجعة بأن الكوليرا قد سرت . ولم نلبث وقد استشرى الأمر أن وجدنا طبيب السجن محمد يونس العلي يمر على المهاجع ويسأل عن عدد المصابين ويسجل ذلك عنده . وبعد ساعتين أو ثلاث وجدنا أن الشرطة قد عادوا وطلبوا من رئيس المهجع أن يخرج هؤلاء المصابين جميعا لينتقلوا إلى مهجع 13 فى الباحة الثالثة الذى فتحوه للمصابين . فخرج من مهجعنا وحده حوالى الأربعين . وأمضى الإخوة فى العزل عدة أسابيع قدمت لهم إدارة السجن وقتها علاجات مباشرة خشية أن ينتشر المرض فيشمل الشرطة والسجانين أنفسهم . أو أن يتعدى حدود السجن فينتقل عبر المجارى التى كانت تتصل مع شبكة مجارى بلدة تدمر وتنتهى فى حقول المزارعين لترويها !

لكن المثير فى الأمر أن هذه الحركة ساعدت الكثيرين على الإلتقاء بأقارب لهم أو أصدقاء كانوا فى مهاجع أخرى والإطمئنان على أحوالهم . وكانتكذلك سببا فى وصول أخبار جديدة إلينا وتسريب أخبارنا إلى بقية الإخوة . وقد بلغنا وقتها أن السجناء فى بعض المهاجع اكتشفوا آثار إطلاق الرصاص وبقايا دم آدمى لا تزال موجودة على السقف والجدران من أيام مذبحة تدمر الكبرى فى شهر حزيران من عام 1980 . لكن الأهم من ذلك بالنسبة لنا كان تمكن عدد منا من حفظ آيات وسور من القرآن الكريم لم تكن فى مهجعنا . علاوة على انخفاض نسبة التعذيب واعتداءات الشرطة الذين باتوا يتجنبون الإحتكاك بنا خشية العدوى !

ولقد علمنا بعد عودة الإخوة أن وفيات حدثت بالفعل بين مصابين من مهاجع أخرى , أذكر من أسمائهم الأخ ناصح شنيطي من دمشق . لكن لطف الله تعالى ورحمته كانت واضحة فى هذه المحنة . وبرغم انعدام العناية الصحية اللازمة وقلة التغذية وسوء الأحوال فقد مرت الأزمة بأقل الخسائر وقد كنا نتوقع أن تودى بحياة المئات .

مهجع النساء

ولم يطل المقام بنا كثيرا فى تدمر حتى تأكد لنا أن هذا المكان الرهيب يضم بين جدرانه أخوات سجينات أيضا خصصوا لهن غرفة المستوصف السابقة وحولوها إلى مهجع للنساء .

ولقد تأكد لنا الأمر أول مرة حينما استدعوا إلى التحقيق أخا من مهجعنا اسمه بسام سفّور من حمص كانت تهمته تأمين جواز سفر لبعض الأشخاص الملاحقين . ويبدو أن امرأة غير مسلمة اسمها أم طونى كانت قد باعته الجواز أو شاركت فى تزويره ثم اعترفت عليه . فلما استعوه للتحقيق فى السجن نفسه واجهوه بها . واستطاع بعد التحقيق أن يراهم يدخلونها غرفة المستوصف التى سجنوا فيها النساء . وفى مرة ثانية وعندما كنا فى التنفس استطعنا أن نلمح عددا من النساء المحجبات فى ذلك الجانب من الباحة فتأكد لنا وجودهن هناك . لكننا لم يكن ممكنا لنا أن نعرف عنهن أكثر أو أن نقدم لهم أى عون .

الإعدام

واستيقظنا فى يوم من تلك الأيام ننتظر أن نبدأ البرنامج الذى اعتدنا عليه وتأقلمنا معه إلى حد كبير .. وبدأنا نضب بطانياتنا ونجمع العوازل من تحتها حين نادى علينا الشرطة من شراقة الباب فجأة وبإيعاز :

الكل ضبوا لجوة ولا .

فسارعنا ونفذنا الأمر وتجمعنا كلنا فى أقصى المهجع نستعيذ بالله من شر ما خلق ! وإن هى إلا برهة حتى بلغتنا من الباحة أصوات وضجيج غير مألوف .. وأحسسنا وكأنما هناك حمولة من الخشب ترمى على الأرض .. والنوافذ عالية لا نستطيع أن نطل منها .. وبيننا وبين الباب مسافة لم نجرؤ أن نغادر زاويتنا ونسترق النظر من شقوق فيه خشية أن يرانا الشرطة من الشراقة فوق المهجع فيعاقبونا بما نحن فى غنى عنه . لكن الجلبة استمرت وتتابع صوت ارتطام الخشب بالباحة الإسمنتية .. ورأينا ظلال الشرطة على جدران المهجع تعبر من النوافذ العليا كالأشباح .. فشعرنا بقلق وانقباض .. وبدأنا نتوقع شر الإحتمالات .. ونحسب الآن أنهم سيدخلون ويطلقون علينا النار كلنا كما فعلوا قبل أقل من عام فى نفس المكان . ولم يطل بنا الإنتظار كثيرا .. فما هى إلا برهة حتى سمعنا أصوات التكبير تتعالى .. وسجناء ينادون أسماءهم ويقولون أخوكم فلان يوحد الله . ومن بين هؤلاء لا أزال أذكر اسم الأخ محمد ناصر البيك من حمص الذى بلغتنا تكبيراته وعباراته الأخيرة يقول :

أخوكم محمد ناصر البيك يوحد الله.

فعرفه إخوة من مدينته فى المهجع معنا . وأيقنا أنها عملية إعدامات تجرى الآن . وأن مجموعة من السجناء يعلقون على المشانق بالفعل . فاحتبست أنفاسنا جميعا .. واختنقت فينا العبرات .. وتجمدت على ألسنتنا العبارات .. ولم تنقض أكثر من عشر دقائق حتى خفتت الأصوات .. وسكنت الحركة .. وبدأت الأمور خارج المهجع تعود إلى طبيعتها بالتدريج .. لكن التفقد تأخر وألغى التنفس فى ذلك اليوم .. وأحضر الشرطة الطعام من غير أن يشيروا لذاك الذى حدث بشئ . وأغلق الباب علينا بعد ذلك لتلفنا دوامة القلق والتساؤلات فها نحن أمام الموت الآن وجها لوجه .. والإعدامات التى كنا نتحدث عنها ونتخوف منها حدثت على بعد خطوات منا وحسب .. وإذا كان شهداء المجزرة الكبرى قبل عام قد قضوا نتيجة نزوة كما ظن البعض أو ثأر بعد محاولة اغتيال رأس النظام , فإن ما نراه الآن ونسمعه يجعلنا نحس أن الأمر فى الحقيقة منظم ومقرر , وأن هناك برنامجا لتصفية السجناء إذا . ولم يعد مستبعدا بعد الآن أن نقف أنفسنا هذا الموقف وتلتف حبال المشنقة على أعناقنا نحن بعد حين!

تساؤلات .. وتأويلات

وأخذت التساؤلات تغادر السرائر بالتدرج وترتسم على شفاهنا تباعا , فتنتقل من فرد إلى آخر ومن مجموعة إلى غيرها .. وترسم معها معالم مختلف الناس الذين ضمتهم المحنة وجمعهم هذا المكان المرعب .. ورغم أن الحادثة هزتنا جميعا إلا أن أكثر من اهتز حقيقة أولئك الذين لم يكونوا أهل انتماء بالأصل , وجرفتهم الحماسة أو المصلحة فشاركوا بعمل ما وألقى القبض عليهم واعتبروا فى منزلة واحدة مع المنظمين والمسلحين .. ومن هؤلاء كان بضعة نفر من المهربين وتجار السلاح ممن لم يكونوا مهيئين نفسيا لا للمحنة ولا للإعدام ولا للموت ! وانتشرت بناء على حال كل فئة تأويلات المتأولين وتحليلات المحللين .. فاجتمع رأى البعض على أن الإعدامات إنما تنفذ على المسلحين الذين شاركوا فى عمليات حقيقية وأدينوا فيها .. وأما المنظمون من غيرهم فمثلهم كمثل تلاميذ المشايخ لا خطر منهم ولا تثريب عليهم ! وذهب نفر إلى أن المسلحين أنفسهم قسمان : قسم تسلح ولكنه لم يَقتل أو يقاتل .. وهؤلاء أقرب إلى الفئة السابقة إذا . وفئة أخرى قاتلت وقَتلت وثبت عليها العمل العسكرى .. وهؤلاء الذين تنفذ فيهم الإعدامات وحسب.

وأحدثت هذه التقسيمات خلخلة غير منتظرة فى الصفوف .. وظهرت بسبب هذه التخمينات مشادات.. وأخذ ورد .. ونادى العقلاء بأن الأمور بيد المولى سبحانه وأن الأعمار مقدرة فى علمه الأزلى لا تنقص ولا تزيد .. وقال الإخوة الذين أدينوا بالعمل العسكرى بأن الشهادة شرف لكل مسلم .. فإذا كانت قد دنت فمرحبا بها .. ولكننا هنا جميعا فى نظر النظام أعداء .. وهم لا يفرقون بيننا لا فى عذاب ولا فى إعدام .

وحل الشتاء !

ومضت الأيام وحل الشتاء .. شتاء الصحراء الذى لا يرحم .. ونحن فى مهجعنا لا نملك إلا بطانياتنا البالية ذاتها , والنوافذ والشراقات فوقنا مفتوحة على حالها , ويا بؤس من بات ليلته تحتها .. وياسوء حظ من تأفف من مطر السماء حتى ولو انصب عليه طوال الليل ! ولذلك وبسبب هذه البرودة والرطوبة وسوء التغذية وسوء التغذية تفشت بيننا أمراض الزكام والروماتيزم والتهابات المفاصل .. ثم لم يلبث أن ظهر السل فينا بعد أقل من عام .. أو أنه كان قد ظهر بالفعل ولكننا لم نكتشفه إلا بعد أن استشرى وعم !

وهكذا عدنا إلى برنامج المعاناة نفسها .. أسرى جدران المهجع 26 نتقلب بين عذاب وعذاب .. وتفقد وتنفس .. وحلاقة وحمام.. ولكننا كنا نغالب ذلك كله بحفظ كتاب الله وتلاوة آياته ما وسعنا الجهد ولم يكن ذلك هينا فى هذا الجو العصيب , لكننا ثابرنا بحمد الله وتابعنا . ولم يكن فقه السجون قد تبلور لدينا فى تلك الفترة بعد , فكان بعضنا يخاطر بالقيام للوضوء مع كل صلاة رغم أن التيمم كان مرخصا لنا وكان احتمال أن يكتشف الشرطة حركتنا بالليل معناه عذاب محقق فى الصباح التالى ربما كلف المرء حياته ! كذلك كنا نغتسل من الجنابة بالماء البارد مع برودة الجو رغم أن التيمم كان واردا أيضا , ونظن أنه لا حل لنا إلا بذلك . لكننا أخذنا من بعد نتبع الرخص الشرعية ونخفف عن أنفسنا قدر المستطاع . ولم نعدم أن نجد بيننا من ظل يتشدد ويصر على الإغتسال والوضوء فى كل مرة وعلى أداء الصلاة واقفا والمجاهرة بالصيام والمجاهرة بالصيام حينما منع فى السنوات اللاحقة , برغم المخاطر واحتمالات الأذى له وللآخرين .

محكمة !

وذات يوم .. وكان قد مضى على حادث الإعدام بضعة أسابيع دخل علينا الشرطة وسألوا عن أسماء بعينها . ولم نكن عهدناهم ينادون أحدا باسمه من قبل . لكن أيا من هذه الأسماء لم يكن بيننا . وتكرر الأمر مرة بعد مرة .. فأحسسنا أن ثمة شيئا مريبا يدور .. حتى كان صبيحة يوم جديد , حينما دخل الحرس ونادوا مجموعة أسماء من مهجعنا هذه المرة وقادوهم معهم . وكانوا قرابة الخمسة عشر شخصا كلهم من حمص .

ومضت حوالى خمس أو ست ساعات أحضر الشرطة خلالها الفطور والغداء معا وأغلقوا الباب علينا من غير تفقد أو تنفس .. فلما عاد الإخوة وسألناهم أين كنتم قالوا فى المحكمة . فتيقنا ساعتها أنها جد إذا . وعلمنا منهم أن أحكاما صدرت بالإعدام على أكثرهم . وسرعان ما وجدنا الإخوة المحكوم عليهم بالإعدام قد تغير حالهم وانصرفوا عن كل شئون الدنيا انصرافا تاما .. وتوجهوا إلى الله سبحانه بكليّاتهم يهيئون أنفسهم للقاء رب العالمين حتى كأن أحدهم لم يكن من أهل هذه الدنيا أبدا . ولم ينقض شهران بعد أن طلب هؤلاء الإخوة للإعدام .. فكانت أول كوكبة من أهل الجنان إن شاء الله نودعهم من مهجعنا .. سائلين الله تعالى أن ينتقم لهم ويتقبلهم ويجعلهم فى أعلى عليين .

مرحبا بلقاء الله

دخل الشرطة صبيحة ذلك اليوم المرير وقرؤوا أسماء المطلوبين فيما كانت إجراءات نصب المشانق وتهيئة مراسم الإعدام تتم فى الباحة أمام مهجعنا مباشرة . وكانت مفاجأة لنا أن عددا ممن تليت أسماؤهم كانوا قد خرجوا إلى المحكمة وقتها ولم يبلغونهم كالآخرين أنهم حكموا بالإعدام . فلما سمع الإخوة أسماءهم وأيقنوا المصير تركضوا إلى الحمام فتوضؤوا ومدوا شيئا هناك وصلوا عليه تخفيا من الشرطة خشية علينا نحن لا على أنفسهم . وخرج الركب أكثر من عشرة كأنهم غير الذين عرفنا كل هذه الأيام .. مطمئنى النفوس .. مشرقى القسمات .. مقبلين بكل جوارحهم على الله راضين بقضائه . واستطاع بعضنا أن يعانق عددا منهم .. وخرج الآخرون حتى من غير كلمة وداع . لازلت أذكر من أسماء تلك الدفعة الإخوة حسن الصغير , وعبد الغني الدباغ ، وبسام كالو وكلهم من حمص . ولا زلت أذكر كأنه الساعة كيف أن الأخ بسام استيقظ ذلك اليوم مبكرا وقال لإخوة حوله : رأيت اليوم مناما . سألوه خيرا إن شاء الله .. ماذا رأيت ؟ قال رأيت قول الله تعالى فى القرآن الكريم (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ). ولم يلبث أن نودى للإعدام رحمه الله بعد ساعة أو أقل , فأحسسنا أن الله سبحانه حقق له منامه وتقبله وغفر له وأنزله الجنان إن شاء الله .

أرجوحة الشهداء

وأقفل الجلاوزة الباب .. وساقوا الإخوة أول الأمر إلى مهجع فى أقصى الباحة يسمى الورشة . وعلمنا من بعد أن سليمان الخطيب يأتى بنفسه ليتأكد من الأسماء والأشخاص ويتلو عليهم ديباجة الحكم , ويأتى معه أو يتبعه مدير السجن الذى كنا نحس بقدومه من صوت المساعد يتبعه باللازمة المعتادة قائلا:

استـ......رح .. استعـ.........د. الباحة جاهزة للتفتيش سيدى اللواء أو سيدى العقيد.

وبعد هذا الإجراء يبدأ الشرطة بسوق الإخوة إلى المشانق تباعا. وعندما بدأ ذلك هرعت بدورى إلى شق صغير فى باب مهجعنا فرأيت المشانق منصوبة على امتداد الباحة .. والإخوة الآن وقد باتوا على حافة الردى يكبرون بأعلى صوتهم ويهللون .. ويساق أحدهم بعد الآخر مغمض العينين مكبل اليدين إلى المشنقة التى انتصبت على قوائمها الثلاث .. يتدلى منها حبال كحبال الغسيل البلاستيكية .. يخالف فى هذه المواصفات وتلك الوضعية أبسط الشروط التى تتوفر فى مشنقة الإعدام المخصصة للمجرمين ! ورغم ذلك يؤمر الأخ بالجثو أمام المشنقة دون أن يدرى ماذا أمامه , وعن جانبيه اثنان من البلدية ينتظران الإيعاز من الشرطى الذى يقف فى مقابل الأخ . فإذا أشار إليهما تناولا حبل المشنقة فطوقا به رقبة السجين .. ثم تأخرا إلى الوراء فأمسكا بقائمة المشنقة . ولا يلبث الشرطى أن يصدر الإيعاز الأخير .. فيشد البلدية الخشبة فتنتصب المشنقة فيرتفع الأخ فى الهواء بلحمة عين ويشهق شهقته الأخيرة وتزهق روحه خلال لحظات . فإذا بدت منه حركة تدل على استمرار الحياة فيه تقدم عنصرا البلدية ثانية فجذبا الأخ وتعلقا به حتى يشتد إطباق الحبل على رقبته إلى أبعد مدى .

ولا يلبث الطبيب يونس العلي أن يتقدم فيجس النبض ويتأكد من الوفاة .. فتعاد المشنقة إلى وضعها ,ويفك الحبل عن رقبة الشهيد .. ويرمى به القتلة جانبا بدم بارد , فيما يعد الشرطة الأخ التالى للإعدام . حتى إذا اكتمل العدد ونفذت الجريمة وتكومت الجثث, دخلت الساحة شاحنة عسكرية , وتقدم البلدية فحملوا أجساد الإخوة واحدا بعد الآخر وقذفوهم فيها .. لتمضى بحيث لا يعرف بمصيرهم أحد أبدا إلا الله . وفى هذه الدفعة قدرت أن أكثرمن خمسين أخا قضوا نحبهم .. نحتسبهم فى عداد الشهداء الأبرار إن شاء الله.

العزاء

غادر الإخوة إلى لقاء الله وبقينا نحن فى كربتنا ووحشتنا تلفنا حالة من الكآبة الخانقة والناس وكأن على رؤوسهم الطير ..ليس لنا إلا العبرات الحرى نطلقها بصمت وألم .. والتضرع إلى الله نرسله خافتا مرتعشا مع الزفرات.

وغاص كل منا فى خواطر شتى .. فهؤلاء الذين كنا نأكل معهم قبل ليلة خلت .. ونصلى وإياهم الفجر قبل برهة . هؤلاء الذين كنا وإياهم فى سباق على حفظ كتاب الله .. نسمع منهم أو يسمعوا لنا وربما كان واحدهم قد بات ليلته الأخيرة بجانبنا , أو أرسل آخر ابتسامة له من وجهه الطلق وغادر وتركنا . هؤلاء الذين نمت بيننا العلاقة عن غير سابق معرفة من قبل فى أحلك الظروف وأقساها .. شهرين أو ثلاثة نتناوب على تلقى العذاب ومواجهة الهول معا .. فككنا على قصر الأيام أكثر من إخوة وألصق من أشقاء . هؤلاء جميعا خرجوا من بيننا ولن يعودوا أبدا . وغادروا الدنيا ولن نلقاهم إلى يوم الدين . وترتد الخواطر إلى ذواتنا سريعا , ونبدأ نسترجع شريط حياتنا نحن الذين لا نزال أحياء . من طفولتنا البريئة إلى شبابنا الذى ما بدأ أن يزهر فينا حتى اقتطفته يد الظلمة من غير ما إنذار . ويتجه الحوار فى ذواتنا إلى المستقبل الآتى .. وأى مستقبل ذاك وها هى المشانق لم تحل حبالها بعد ! وتختلط فينا مشاعر الشفقة بالشوق .. واللوعة بالخوف .. والإحباط بالرجاء . ولا نجد فى نهاية المطاف ما نعزى به أنفسنا ونواسى جراحنا ونخفف من هول المصيبة علينا إلا الإلتجاء إلى الرحمن الرحيم , والرجاء بأن يكون ذلك فى سبيله فيقبلنا فى الآخرة ويعفو عنا .

مع كتاب الله

وترانا نهرع من جديد إلى كتابه جلّ وعلا أنيسنا وبلسم جروحنا ننكب عليه ونلتجئ إليه . ولقد أكرمنا الله سبحانه بعد أسابيع لم تطل بأخ حافظ لكتاب الله قدم إلينا مع حوالى خمسة عشر أخا من دمشق كلهم من جماعة مسجد زيد بن ثابت . والأخ الحافظ اسمه محمد صنوبر من بلدة جديدة الذبيانى قرب دمشق . فكان سرورنا به أكبر من أن يوصف . وأقبلنا نتلقى منه السور والآيات ونحفظها . وكنت أنا والأخ هيثم عثمان برغم إصابته الشديدة نحفظ معا .. ونراجع ماحفظنا باستمرار .. حتى بات كتاب الله شغلنا الشاغل . ومن شدة همتنا وعزيمتنا أذكر أننى بتوفيق الله حفظت سورة الأنعام كلها فى أربعة أيام .. وكنت من قبل أن اعتقل أحفظ جزء عم وبعضا من الجزء التاسع والعشرين وحسب . فلما رأينا الإعدامات وقدرنا أن المنية قد دنت أحببنا أن ننهى الحفظ فنلاقى به وجه ربنا , وفى عام 1982 أنهيت والأخ هيثم ولله الحمد حفظ القرآن الكريم كله . وكنا أول من ينهى الحفظ من مهجعنا بفضل الله.

مؤامرة!

ومرت الأيام وفوجئنا بواحد من الشرطة العسكرية صبيحة يوم تال يطلب أبا رشيد ويمضى به إلى حيث لا ندرى . وعندما عاد بعد بضع ساعات كان فى حالة يرثى لها من أثر التعذيب . ولم يكن من طبع أبى رشيد الإكثار من الحديث , لكنه خصنى رحمه الله بذكر ما جرى بحكم معرفتى السابقة به وصلتى الوثيقة معه . ووقتها أخبرنى أن ضباطا من المخابرات أتوا للتحقيق معه حول علاقته برئيس الأركان حكمت الشهابي الذى حضر إلى فرع المخابرات من قبل وحاول دفعه للإعتراف ووعده بالمساعدة , وكانت إعادة التحقيق مع السجين من أصعب الأمور عليه وقد ظن أنه انتهى من هذه المرحلة وطويت أوراق ملفه . ورغم أن الشهابى حقيقة الأمر حاول أن يوقع أبا رشيد ويعين المخابرات عليه إلا أنه رفض الإعتراف بأمر يضره . ولعب المحققون لعبة الإغراء ثانية معه ووعدوه أن ينقذوة من الإعدام إذا اعترف بوجود صلة للشهابى معه فأبى . وعذبوه على ذلك أشنع العذاب فأصر على موقفه ,, وأحس أن ثمة مؤامرة داخل أجنحة النظام تريد استغلاله لتصفية خصومات بينهم .. فأبى بنزاهة المسلم أن يظلم حتى عدوه , وتحمل فى سبيل ذلك أشد العذاب .

اليوم المقدور

وانقضت شهور أخر وتحسنت صحة أبى رشيد والتأمت جراح حفلة التعذيب تلك .. وانقضت حياتنا على نفس المنوال لا نخرج من هم حتى نقع فى هم أشد .. ولا ننجو من تعذيب حتى يطولنا حفل تعذيب أشنع .. وفى شهر تشرين الأول أو تشرين الثانى من عام 1981 تم استدعاء دفعة جديدة للمحكمة الهزلية التى كانت أحد فصول التعذيب النفسى والجسدى معا وخرج فى هذه الدفهة أبو رشيد ضمن حوالى أربعين أخا من مهجعنا . ورغم أنه رجع من غير أن يبلغونه بالحكم غلا أنه أدرك أن الأمر انتهى .. واستشف ذلك من كلام سليمان الخطيب الذى تربع على كرسى القضاء ظلما وجورا .. خاصة وأنه عاد وألح عليه لتوريط الشهابى .. ووعده بإنقاذه من الإعدام إن فعل .. وأصر أبو رشيد وقتها على الرفض مهما كانت النتيجة .

وعاد أبو رشيد من المحكمة وقد نوى أن يبدأ الصيام من ساعتها وإلى أن يلاقى ربه . وقال بأنه لن يفطر حتى يخرج إلى الإعدام , وعندما حل ذلك اليوم المقدور بعد قرابة الشهرين كنت قد رفعت له شايا وبعض الطعام من وجبة الفطور ليتناولها عند الغروب . فلما دخلوا ونادوا على أسماء المطلوبين للإعدام من دفعته لم يذكروا اسمه .. وتدافع الإخوة لوداع الأحبة ومن ثم أغلق الباب .. وبينما نحن نترقب نادانى أبو رشيد رحمه الله وقال لى :

أخى أبو سليم .. أرانى اليوم متعبا .. هات ناولنى الشاى والطعام لأفطر .

قلت له : هاك وتوكل على الله .

ووالله الذى لا إله إلا هو لم يرشف ابو رشيد من الشاى رشفة وبدأ بالثانية حتى فتح الباب من جديد ونادى الشرطة فينا :

حسين رشيد عثمان .

حاضر.

رد أبو رشيد وكأس الشاى لا يزال بين شفتيه.. فأيقنا سبحان الله كيف أن رزق الإنسان المقسوم لابد وأن يبلغه ..وأنه كان ولابد أن يأخد رشفتى الشاى هاتين لا تزيدان ولا تنقصان !

ولم يلبث رحمه الله أن قفز إلى زاوية من زوايا المهجع وبدأ يخلع عنه ملابسه وهو يكبر ويهلل .. وحينما لم يبق عليه إلا الشورت والشرطة على الباب يكادون يجنون مما يفعل ألقى إلينا بكل ما كان يرتدى لنستفيد منه .. وخرج إلى الإعدام رحمه الله ولم أستطع التلصص من ثقب الباب تلك المرة بعد الذى حصل . وسرعان ما انتهى تنفيذ الإعدام , ودخل الشرطة علينا فأخرجونا إلى الساحة وأشبعونا جلدا ولطما حتى يمسحوا عنا أى أثر إيجابى تركته فينا تكبيرات أبى رشيد رحمه الله .

أحداث حماة

وحل عام 1982 ونحن بين أيدى الظلمة تمضى بنا الأمور من سئ إلى أسوأ . ولم تلبث أن انفجرت الأحداث فى حماة من غير أن نعلم بها بالطبع . لكننا تلقينا آثارها السلبية داخل السجن ورأينا الأهوال وقتها دون أن ندرى بما يجرى . فابتداء من شهر شباط اشتد العذاب نوعا وكما .. وبدأ ضحاياه يتزايدون باستمرار .. حتى أن واحدنا إذا حل دوره فى سخرة الطعام وأراد الخروج لتناوله من باب المهجع قرأ الفاتحة ووضع فى اعتباره احتمال أن تكون آخر سورة يتلوها قبل أن يموت ! وبلغتنا أخبار عديدة عن إخوة قتلتهم ضربات تلك العصا الغليظة التى كانوا يهوون بها على رأس السجين مباشرة ولا يبالون . وفى نفس الفترة ارتفعت نسبة المحكوم عليهم بالإعدام حتى كادت أن تشمل 98% من كل دفعة تخرج للمحاكمة . وأصبحت الأحكام تنفذ كل يومين بعد أن كانت من قبل ثلاث مرات فى الشهر على الأغلب , ووقتها كان إعدام أبى رشيد ودفعته رحمه الله .

احتياطات!

وذات يوم من الأيام , وفى دفعة من دفعات الإعدام تلك , طلب الزبانية أخا للإعدام من مهجعنا 26 اسمه عبد الكريم غانم من الزبدانى كان طالبا فى كلية الهندسة بدمشق . فلما سمعنا الخبر اندفعنا نودع الأخ وقد تفجرت من مآقينا الدموع فوجدناه رحمه الله يقف فى وجوهنا شامخا راضيا يقول لنا :

علام تبكون ؟ ابكوا على حالكم أنتم .. أما أنا فخلاص ارتحت من هذا العذاب .

ومما هوجدير بالذكر هنا أنه وأثناء هذه الموجة الطاغية من العنف والإجرام بلغنا ذات مرة أنهم أخرجوا دفعة من السجناء للإعدام فتمكن أحد الإخوة من بينهم من الإفلات وقام بضرب الجلادين ما وسعه الجهد قبل أن يطبقوا عليه ويعيدونه إلى حبل المشنقة . وبعد الحادثة اقتحموا كل المهاجع وأذاقونا كلنا قتلة من أشد ما رأينا خوفا من أن تولد حادثة الأخ فينا نوعا من أحاسيس التمرد والعصيان . ومن وقتها بدأ الشرطة يأخذون احتياطات أشد أثناء الإعدامات .

العميل !

تم اعتقالى مثلما ذكرت فى البداية فى الشهر العاشر من عام 1980 بعد أن انتقلت صلتى من أبى الفرج إلى يحيى الشامي . ورغم التعذيب الذى نلته فى أقبية المخابرات العسكرية فإن الله ثبتنى ولم أعترف على يحيى أو أى شخص آخر لكننى فوجئت مع اشتداد موجات القل والتعذيب فى بدايات الشهر الثانى من عام 1982 بخبر استشهاد الأخ يحيى سجن تدمر . ثم لم تلبث الأقدار أن جمعتنى مع إخوة من هنا وهناك التقوا يحيى فى مراحل محنته المختلفة وعرفوا قصته .

ولقد تم اعتقال يحيى ابتداء بعد اعتقالى بزمن غير طويل . كان ذلك حينما حضر يحيى مع شخص يسمى عبد الكريم رجب كان طالبا من حماة يدرس الطب فى دمشق تمكنت أجهزة الأمن من تجنيده لصالحها واستفادت من علاقته مع شباب الإخوان ومعرفته بالكثير منهم أيما فائدة . ولا أزال أذكر كيف كان عبد الكريم هذا يحوم حولنا بشكل دائم من خلال معرفته بإخوة آخرين ويكثر من الأسئلة والإستفسارت بسبب ومن غير سبب . ولقد أوقع هذا العميل كما تأكد لى عدد كبير من الإخوة بالفعل , وتمكن من كشف العديد من قواعد المجاهدين فى دمشق خاصة . وكان نشاطه فى قمته خصوصا بين الإخوة الذين توافدوا من خارج سورية إلى دمشق لتشكيل التنظيم الوليد الذى كان أبو الفرج أبرز قادته .

وهكذا وجد يحيى نفسه وسط عناصر المخابرات يطبقون عليه وعلى عبد الكريم عند المسجد الأموى ويقتادونهما إلى فرع التحقيق العسكرى , ليقتاد يحيى منه إلى تدمر بعد انتهاء التحقيق معه , وأطلق سراح عبد الكريم رجب ليستكمل مهمته التخريبية بين أفراد التنظيم .

ولقد بلغنا لاحقا أن المجاهدين فى حماة تمكنوا من كشف عبد الكريم واستدراجه إلى كمين محكم , فاعتقلوه وحققوا معه وأخذوا اعترافات كاملة . وتم إعدامه بعد ذلك جزاء خيانته . ولم ألتق يحيى فى تدمر من بعد . لكننى التقيت من عاصروه وعاش فى المهجع معه . وبلغنى أنهم فى يوم من أيام شهر شباط عام 82 حينما كانت أحداث حماة فى ذروتها استدعوا يحيى إلى الذاتية للتحقيق معه , وطلب المحقق القادم من يحيى أسماء محددة ومعلومات لم تكن لديهم . فأبى يحيى ورفض ، فأمر المحقق بالدولاب أن يحضر وأنزلوا يحيى فيه وانهالوا عليه ضربا وقتلا فى باحة الذاتية ثم توقفوا . فلما سأله المحقق عن الأسماء والمعلومات أصر على الإنكار . فأمر بتجريده من ثيابه إلا الشورت وأعاده إلى الدولاب . وعاد الضرب الوحشى ينهال عليه حتى ان واحدا من أظفاره طار من قدمه ووقع قريبا من سجين آخر كان ينتظر دوره فى التحقيق فى الباحة ذاتها . ولقد التقيت هذا الأخ وهو لا يزال يحتفظ بالظفر معه !

واشتد الضرب عليه وانهالت الخيزرانات والعصى على قدمى يحيى وبقية جسده حتى أغمى عليه . فأمر المحقق الزبانية أن يشنقوه . ولم تكن المشانق جاهزة يومها , فسحبوه حتى وصلوا به أما باب مهجع 5 – 6 وقام الرقيب فيصل كحيلة والشرطيان سمير كوشرى وشحادة حسبما ورد من شهود عيان فلفوا حبلا حول رقبة الأخ يحيى وشدوه بين أيديهم وهو لا يزال رحمه الله مغمى عليه حتى أزهقوا روحه!

مفاجأة!

ومما لا أزال أذكر من قصص الإعدامات المؤثرة – وأيا منها لا يؤثر فى صم الحجر ! – قصة طبيب أسنان من حلب من بيت قره على كان معتقلا مع عديله . ولقد تم الإفراج عن هذا الأخير بعد واسطات شديدة كما يبدو , وبقى الأول ينتظر ويرجو .

وفى صبيحة يوم من تلك الأيام التعسة نودى اسم الأخ فظن أن إذن إخلاء سبيله قد تم . وأنه سيغادر الآن للقاء أهله من جديد . وكان المسكين يرتدى حين اعتقاله طقما سارع حينما سمع اسمه فارتداه . وأخرج ساعته الذهبية فارتداها أيضا . وجعل ينفض الغبار عن كتفيه وجعل يمشط شعره ويحسن من هيئته وكل الظن أنه خارج إلى الحرية الآن . فلما خرج كانت المشنقة فى انتظاره حقيقة الأمر . وكانت صدمة لنا جميعا تؤرقنا ردحا من الزمان .

الجرب

وطالت المحنة كل أوجه هذه الحياة المرة . فمع ازدياد العذاب والإعدامات انخفضت كمية الطعام المقررة للسجناء رغم أنها لم تكن تكفى لتقينا بالأصل . وصارت إدارة السجن تتعمد قطع الماء عنا حتى أننا عانينا خلال صيف ذلك العام شهرا كاملا من غير ماء وكان موردنا الوحيد عن طريق بيدونات يملؤها الشرطة لنا وقتما شاؤوا وبالعدد الذى يريدون . وقتذاك عمت القذارة المهاجع غصبا عنا وباتت رائحتها لا تطاق . ولم يلبث أن تفشى الجرب بيننا وانتشر انتشارا كبيرا كنت أنا نفسى واحدا من ضحاياه .

والجرب كما هو معلوم مرض جلدى يصيب الإنسان بحكة شديدة فى جلده سرعان ما تؤدى إلى تورمه وتقيحه .. وليس هناك مكانا محددا يكتفى به هذا الداء . فمن الممكن أن يصيب اليدين والرجلين والصدروالظهر والمحاشم ذاتها . وعلاوة على الألم الشديد الذى يسببه الجرب فإن انتقاله بين الناس المتجاورين أمر محتم , ولو لم يعالج المصاب فقد يموت من المرض . ولقد حدث ذلك فى مهجعنا 26 الذى انتشر الجرب فيه مثلما انتشر فى بقية المهاجع . ولا أزال أذكر كيف دهم هذا المرض أخا من دير الزور اسمه عبد الكريم الصالح , فالتهب جلده كله وانتفخ وظل يعانى قرابة الشهر يصيح من شدة الألم وليس بيدنا شئ نقدمه لنخفف عنه إلا الدعاء . وعندما أبلغ رئيس المهجع الشرطة بحاله وكرر عليهم البلاغ لم يزيدوا عن أن أمروه أن يكف عن الشكوى وأن يتركه فى المهجع ليموت !

لكن تزايد الإصابات وانتشار المرض فى المهاجع الأخرى جعل إدارة السجن بعد حين تتنازل وتحضر للمصابين دواء الجرب . وتم تعيين مسئول صحى لكل مهجع من السجناء أنفسهم تكون مسئوليته تقديم تقرير بالحالة الصحية إلى طبيب السجن حتى لا يضطر إلى فحص المرضى بنفسه والتعرض لإحتمالات الإصابة بالعدوى منهم!

وفى هذا السياق تم تعيين الأخ قاسم موسى مسئولا صحيا لمهجعنا . ثم لما تزايدت الحالات فتحوا مهجعا خاصا للحالات كما حدث أيام الكوليرا , لا رحمة بهم بالتأكيد ولكن خشية أن تنتقل العدوى إليهم . ورغم ذلك فقد مات من مهجعنا وبقية المهاجع الأخرى عدد غير قليل من الإخوة , وقدر الله للأخ عبد الكريم الصالح أن يتعافى بالتدريج , حتى إذا شفاه الله بعد حين أتاه النداء وسيق مع دفعة من دفعات الإعدام إلى الردى رحمه الله.

من سجل الضحايا

وكان الممرض وطبيب السجن قد توقفا عن الحضور للمهجع قرابة الخمسة أشهر خلال أحداث حماة وبعدها , مما ضاعف الإصابات وسارع فى انتشار الجرب . وانتشرت معه أمراض أخرى لم نستطع أن نعرف أسبابها أو نوعيتها بالتحديد . فكنا نحار فى أمرنا ونفعل ما بوسعنا لمساعدة المصابين . ولكم كان الإخوة يتسابقون لفداء إخوانهم المرضى من أى عذاب أو جهد وإيثارهم بحفنة الطعام المخصصة للواحد منهم . لكن ذلك لم يكن كافيا لوقف المرض أو إنقاذ المصابين . وقضى عدد من الإخوة نحبهم فريسة الأمراض والأوبئة فبلغوا قرابة الستة عشر , لازلت أذكر منهم كمال أندورة و[[مأمون الذهبي]] من دمشق . وهشام مجندف وبسام الهاشمي وسامى وحود من حمص .

وكان أول من مات من هؤلاء جميعا معتقل من قرية صوران قرب حماة اسمه عبد العزيز عوض السالم . أصابه السل كما يبدو حتى أصبح يبصق الدم . وعندما أخبر رئيس المهجع أبو الفضل الرقيب أن لدينا مريضا فى حالة خطرة أجابه بالحرف الواحد:

ولا .. بس يموت دق الباب !

وبعد شهرين من المعاناة وبعد ظهر أحد الأيام إتكأ الأخ على صدر شقيق له كان سجينا أيضا وأخذ يذكر الله ويردد الشهادتين حتى لفظ آخر أنفاسه رحمه الله . فلما تأكدنا من وفاته طلب شقيقه من الحضور أن يغسلوه قبل أن نخبر الشرطة بالأمر . لكن الإخوة خافوا أن تصيبهم العدوى أو أن تنزل بهم من الشرطة بلوى . فلما لم يتقدم أحد رأيت أن الأمر لابد وأن يحسم . وتوكلت على الله وتقدمت . وأدخلته الحمام وغسلته وحدى . ومن يومها تعلم الإخوة على وأوكلوا إلى هذه المهمة ما دمت فيهم . فغسلت كل الذين ماتوا من بعد ذلك فى المهجع . بعدها قرع أبو الفضل الباب وأخبرهم بوفاة الأخ . فلم يزيدوا أن طلبوا منه أن يخرجه إلى الخارج . فتعاونت معه وحملناه , وعدت أنا وبقى ابو الفضل لبرهة . وعندما عاد أخبرنا أنهم أرادوا أن يتأكدوا من موته فتقدم أحدهم منه وركله بقدمه وحسب .. وجاء البلدية فأخذوه ومضوا!

سحور!

ومضت الأيام وكثرت الأمراض وازدادت الوفيات .. حتى كنا نخرج فى فترة من الفترات ميتا من مهجعنا كل يوم ! ولا زلت أذكر أنى كنت أنام بجوار الأخ كمال أندورة فى ليلة من تلك الليالى الرهيبة , وكنت قد نويت صيام اليوم التالى , فنهضت قبيل الفجر لأتسحر . وكان كمال بعد أن اشتد عليه المرض فى الفترة الأخيرة لا يستطيع النوم مستلقيا وإلا اختنق . فكان يتربع فى مكانه ويستند رحمه الله إلى الجدار ويظل يكابد طوال الليل ويتأوه ويعانى . فلما نهضت لأتسحر وجدته ساكتا على غير عادته . فجعلت أناديه بصوت خافت . فلما لم يجبنى وارتبت فى الأمر دفعته براحتى , فوجدته يسقط ميتا على الطرف الآخر .

ولم يكن واردا وقتها أن أقوم بأى حركة تكشفنى أمام الشرطة على سطح المهجع , فسحبت البطانية على وجهه بكل هدوء والتففت فسحبت صندويشة كنت قد وفرتها من عشاء الأمس لتكون سحورا لى ليلتها فجعلت أدس اللقيمات فى فمى دسا وأغص بهن . والاخ بجانبى مسجى لا روح فيه !

وعندما استيقظنا صباحا ومضينا لنغسله قبل أن يعلم الشرطة بموته وجدناه رحمه الله تخشب جسده وقد مضت على وفاته بضع ساعات . حتى إذا انتهينا بعد جهد يكلله الرعب أخبرناهم بموته . فلم يزيدوا على أن نادوا البلدية ليسحبوه وانتهى الأمر !

سنة طيبة !

ومما لا ينسى من مشاهد الأمراض والأوبئة التى دهمتنا قصة أخ من حمص اسمه عبد المعز العجمي . أصابه مرض اليرقان الكبدى عام 1982 وأشرف على الموت بسببه . وجعل الأخ أبو الفضل رحمه الله يجهد نفسه ويجهدنا فى توفير كمية من الطعام له من نصيبنا وكان رحمه الله أول من سن هذه السنة الطيبة فى إيثار المرضى على شدة حاجتنا وضآلة نصيبنا من الطعام وجعلنا ندعو لأخ ونسال الله له الشفاء , وسبحان من استجاب ومن على الأخ برحمته , فلم يمض شهر كنا نظن الاخ فى أوله مودعا حتى قام بيننا صحيحا معافى . وكانت آية أخرى فيه أن طلب فيما بعد للإعدام . ونال شرف الشهادة عام 1984 بعد أن نجا من الموت بسبب اليرقان .

الطبيب القاتل!

وإذا كانت حكايات الأسى وروايات المعاناة لا تنتهى فى سجن تدمر فإن مما لا ينسى بينها حكاية الأخ زاهد داخل التى تجسد كل معانى الطائفية الحاقدة والهمجية التى مارسها النظام السورى على شعبه وتفسر أسباب تلك الثورة لتلك الفئة المؤمنة على جلادهم ولجوئهم إلى القوة كحل وحيد لم يجدوا من دونه سبيلا للنجاة .

كان زاهد رحمه الله طالبا متفوقا بكلية الطب بجامعة حلب فى سنواته الأخيرة .. جمعته الأقدار على طاولة الدراسة مع طالب آخر من طائفة النظام اسمه محمد يونس العلي . وفى أحد الأيام تعرض يونس هذا لزميلة لهم فى الصف من أسر حلب المحافظة , وجعل يلاحقها بفظاظة ويتابعها بالتصريح والتلميح فلا يجد منها إلا الصدود.

ودارت الأيام وشاءت الأقدار أن يتقدم زاهد نفسه لخطبة الفتاة ذاتها وأن ينال موافقتها وموافقة أهلها معا . وتم الزواج وعمت الفرحة قلوب الناس جميعا إلا يونس هذا .. الذى اعتبرها قضية كبرى وعدوانا على كرامته لا يغتفر وجعل يهدد الفتاة وزوجها بشكل معلن .. وينذرهما بالويل والثبور وعظائم الأمور . وزاهد المؤدب الحيى لا يملك إلا أن يعرض عن الجاهلين .

وانتهت الدراسة وتخرج زاهد ويونس من كلية الطب ومضى كل منهما فى طريقه . حتى إذا اشتعلت الأحداث فى سورية وأسفر النظام عن أقبح الوجوه وجد زاهد نفسه فريسة بين أيدى المخابرات يتنقل من عذاب إلى عذاب ومن سجن إلى آخر , حتى انتهى به المقام فى مهجع 5-6 بتدمر وشاءت الأقدار أن يكون طبيب هذا السجن – ويا للهول – محمد يونس على نفسه ! أما الإجابة عن كيفية وصول زاهد ويونس إلى هذا المكان .. وعلاقة ذلك بتهديدات يونس السابقة فهذا ما لم نعرفه . لكننا تأكدنا كلنا أن هذا الطبيب كان يبحث من أول يوم عن شخص محدد اسمه زاهد داخل بين السجناء فى مختلف المهاجع . وجعل الشرطة العسكرية يدورون على مهاجع الباحة الأولى حيث تم فرز زاهد على واحد من مهاجعنا ويسألون عنه مرة بعد مرة .. حتى تم للجانى ما أراد وشاهد زاهدا فى يوم من الأيام أثناء التنفس فقال للشرطة ها هو ذا . ومن لحظته أخرجه الزبانية وأوسعوه ضربا وجلدا ومسبات وقالوا لرئيس مهجعه هذا معلم ويبدو أن زاهدا قد لمح يونس أو سمع بوجوده فأدرك ما يدور .. وعرف أن طبيب السجن هو جلاده وغريمه نفسه .. وأسر بذلك للإخوة فى مهجعه وسأل الله الستر.

وجعل الشرطة يخرجون زاهدا بسبب ومن غير سبب ويذيقونه كل يوم جرعة مضاعفة من العذاب .. ومضت أسابيع على هذه الحالة أيقن زاهد والإخوة معه أنه مقتول لا محالة . حتى إذا انهار ولم يعد يستطيع الخروج للتنفس وجلس فى المهجع كما اعتاد من أصابهم مرض أو أقعدهم تعذيب أن يفعلوا أخذ الشرطة يبحثون عنه وسط المرضى ويعذبونه هناك . وفى يوم من الأيام أخذ الزبانية التفقد فى مهجع 5-6 ولكن دون أن يخرجونهم كما تقتضى العادة . وأتى الأمر من الرقيب فيصل كحيلة إلى الإخوة أن يضبوا كلهم فى زاوية المهجع . فلما فعلوا ولم يبق فى ذلك الركن إلا زاهد المسكين وقد انتهت فيه كل قدرة على الحركة تقدم فيصل وعريف من الشرطة العسكرية اسمه شحادة وهوى كلاهما بالعصى على رأسه بكل قوته فانفلق من فوره ..

وسقط زاهد على أرض المهجع يتخبط دمه . ومن غير أن تختلج فى القتلة عضلة واحدة خرجوا وأقفلوا باب المهجع ولم يلبث القتلة أن فتحوا نافذة الباب وسألوا رئيس المهجع عما حدث . فأجاب بهلع لا أعرف سيدى , أظنه وقع على الأرض وأصيب بارتجاج فى الدماغ ! فأقفل الجناة النافذة ومضوا غير عابئين . وهرع الإخوة إلى زاهد فرأوه قد أسلم الروح , فجعلوا يسحبوه إلى الحمام ليغسلوه . فى تلك اللحظة فتح الباب من جديد وأمر الشرطة رئيس المهجع أن يخرج الجثة . فجعل المسكين يسأل الإخوة أن يساعدوه فأبوا . وأقعدهم الخوف وفظاعة المشهد عن أن يتقدموا خطوة واحدة . فلم يجد الأخ إلا أن يسحب جسد زاهد سحبا حتى باب المهجع وجاء البلدية كالعادة فحملوه من بعد ومضوا وكأن شيئا لم يكن !

أمر بالفاحشة !

وأمعن الشرطة فى إجرامهم وغيهم .. وزادوا فى بطشهم وتفننوا فى أساليب العدوان . فكم مرة فوجئنا ونحن فى ساعة النوم بواحد من هؤلاء السفهاء يطل علينا من الشراقة فوق السقف ويبول فوقنا عامدا متعمدا .. أو يبصق علينا مرة واثنين وثلاث . والويل كل الويل لمن رفع رأسه أو تململ فى مجلسه ! ولكم أخرج هؤلاء الظلمة واحدا أو أكثر من بيننا فى منتصف الليل من غير أى سبب ليتسلوا بتعذيبه .. أو اجتمع عليه الجلادون فى حر الظهيرة فأوسعوه ضربا ولطما وسحلا وهم يضحكون !

وعلاوة على الكبلات والعصى والسياط التى كانت تنهش الجلود وتشوه الوجوه , عمد الزبانية إلى استخدام قضبان حديدية فى ضربنا . ويا بؤس من ناله من هذه القضبان ضربة ! وإضافة إلى ذلك استخدم الشرطة القضبان ذاتها لتحطيم نفسياتنا . فكانوا إذا حان يوم الحلاقة مثلا دخلوا من باب الساحة السادسة التى تبعد عن مهجعنا عشرات الأمتار ورموا القضبان الحديدية على أرضها الإسمنتية لينطلق صوت ارتطامها بالأرض فيصلنا كأنه نذير الموت ! ولم يكن الإخوة كلهم فى درجة واحدة من الثبات وقدرة التحمل . فكان بعضهم ترتعد فرائصه إذا سمع ذاك الصوت ويبكى حتى من قبل أن يصل الجلادون !

غير أنه مما لا ينسى أبدا من مشاهد تلك الفترة يوم أن طل أحد الحراس من شراقة السقف ونادى على أخوين شقيقين فى مهجعنا وامرهما بكل صفاقة وسفالة أن يخلعا ملابسهما ويفعلا الفاحشة ببعضهما البعض ! ومع الضحكات الفاجرة والمسبات الدنيئة أصر المجرم على تنفيذ الأمر .. ولم يجد الإخوان إلا أن يجاريانه خشية أن يحدث ما لا تحمد عقباه .. فخلعا ملابسهما بالفعل ..والسفيه يلاحقهما ليفعلا أكثر وأكثر .. وأطرقنا نحن وأغمضنا عيوننا لا نكاد نصدق هذا المدى من الخسة الذى بلغه الوحوش .. وجعلنا نبتهل فى سرائرنا أن يصرف الله الأذى وينجى الأخوين وينجينا من هذا الخسيس . والكفر بالله والمسبات والشتائم تندلق علينا من فمه النجس ولا تكاد تكف . فلما أحس أنه ضحك بما يكفى وحقرنا بما يشفى غليل حقده ورحل .. أحسسنا وكأننا خرجنا من كابوس مرعب لا يوصف . وأطرقنا صامتين لا نستطيع أن ننظر فى وجوه بعضنا البعض ساعات عديدة. ولم يفتح أحد منا سيرة ما جرى بعدها .. سترا للأخوين وحفظا لشعورهما وكرامتهما , وكرامة وشعور أبيهما الذى كان نزيل المهجع نفسه!

ولقد تكرر مثل هذا الحدث غير مرة . وأعاد هؤلاء السفهاء الطلب وأمثاله فى أكثر من مهجع .. وكانوا يفتحون الباب علينا أو ينادون فى التنفس واحدا منا ويقول الشرطى له :

أنت يا ... أنا بدى أعمل فى أمك كذا .... شو ؟

فكان المنادى يسكت أول الأمر ولا يجد ما يجيب به .

فتأتيه ضربة من جلاده ويصيح به :

كرر يا .... أنا بدى أعمل بأمك كذا . شو ؟

فلا يجد المسكين إلا أن يقول بذل وانكسار :

أنت تريد أن تعمل بأمى كذا وكذا يا سيدى .

فإذا أشبع ذلك من صلف المجرم تركه ، وإلا أمره أن يعيد ما قال ويسمع به آخر من فى الساحة أو فى المهجع حتى تقر عينه الفاجرة وتسكن هواجسه الخبيثة !

المنفردات

وذات يوم من أيام عام 1982 القاسية دخل أفراد الشرطة العسكرية وأمرونا جميعنا الإنبطاح . وما أن امتثلنا للأمر حتى أمرونا بالوقوف من جديد . ولم يكن لمثل هذه الأوامر من سبب إلا إرهاقنا وإذلالنا . لكنهم وعندما انتصبنا واقفين لمحوا أخا بيننا اسمه أحمد فطومة من حماة فقالوا له ولطمة من أيديهم المتعطشة للدماء تطاله:

هنت (أى أنت) بتتحدانا ولا ؟ قوم للسواليل .

وسحبوا الأخ سئ الطالع من بيننا واقتادوه إلى واحدة من بضع زنازين منفردة قرب المطبخ يسمون الواحدة منها سالولا بلغة السجن . واقتادوا أخا آخر من حمص معه لسبب تافه مثله . ولقد غادرت المهجع بعد قرابة العام والإخوان فى السجن الإنفرادى لم يعودا بعد . وبلغنى لاحقا أن الأخ أحمد فطومة مات من التعذيب . ووصلتنا الأخبار بعدها كيف ان العذاب يتضاعف على الإخوة هناك ويجتمع الشرطة كلهم على السجين الواحد بدل أن تتوزع سياطهم واعتداءاتهم على مهجع بأكمله . ولكن وحشة الإنفراد وهول الوحدة فى هذا المكان الرهيب تظل فى اعتقادى أشد من كل هذا العذاب وأقسى !

من لائحة الجناة

وعلى الرغم من أن أفراد الشرطة العسكرية والرتب التى تعلوهم كانوا يحرصون على عدم معرفتنا لشخصياتهم وأسمائهم . ورغم أن الظروف القاسية التى كنا نواجهها عندما نكون أمام واحد منهم . إلا أننا وبمرور الأيام تمكنا من معرفة بعض منهم . وكان ذلك يتم على الأغلب من سماعنا واحدنا ينادى الآخر باسمه أو يتحدث عن ثالث باسمه . وهكذا علمنا أن مدير السجن المقدم فيصل الغانم الذى نفذت على عهده مجزرة تدمر الكبرى فى 26/6/1980 . يساعدة النقيب بركات العش . وكلاهما من الطائفة العلوية ومن محافظة اللاذقية . وكان يقوم بما يسمى إدارة الإنضباط المساعد أول أحمد كيسانى أو أبو جهل كما كناه السجناء . يساعده عريف عاصره من عام 80 وحتى عان 84 اسمه فواز . ورقيب أول رافقنا من عام 81 إلى عام 85 . كان لا يجارى شراسته ولا يفوقه قسوة فى استخدام السوط أحد . وكان هناك رقيب آخر لا يقل عنه لؤما وبطشا اسمه شعبان حسين . وهؤلاء جميعا من طائفة الأقلية الحاكمة وكان هناك شرطى آخر غاية فى الإجرام كان يتفنن فى ضرب المعتقلين خاصة فى أيام الإستقبالات اسمه نعيم حنا . بلغنا أنه مسيحى آشورى .

وعندما غادر أبو جهل السجن عام 82 وأشيع أنه هرب إلى العراق وقد خلفه فى مهمته الرقيب فيصل كحيلة , وهو علوى كذلك من اللاذقية ,وكان غاية فى السادية والإجرام ولا يحلو له أن يعذب السجناء إلا بضربات العصا الغليظة التى يمكن أن تقصم الظهر أو أن تزهق الروح . ولقد أشيع كذلك أن فيصل هذا قتل فيما بعد , وهى مجرد إشاعة لم نتأكد منه كسابقاتها وكان يساعده فى مهمته عريف اسمه شعبان ترفع إلى رتية رقيب أول لاحقا وعريف آخر من القتلة اسمه شحادة من نفس الملة والعلة . وكان من أبرز الزبانية فى تلك المرحلة شرطى من الطائفة ذاتها اسمه سمير كوشرى . وكنا نسميه (حيّو) لأنه كان لا يكف عن إطلاق هذه الكلمة كلما انتشى بتعذيب واحد منا ! وبعد فيصل كحيلة تولى مسئولية إدارة الإنضباط الرقيب أول محمد الخازم الذى استمر فى هذه المهمة حتى عزل مع المقدم فيصل الغانم عام 84 ضمن عمليات تصفية مراكز القوى وتسوية الحسابات بين الرئيس حافظ الأسد وأخيه رفعت كما بلغنا . إثر معافاة الأول من مرضته الشهيرة حينذاك . وقتها آلت المسئولية إلى النقيب بركات العش بشكل مؤقت . ثم لم يلبث أن استلم هذا الموقع المقدم غازى الجهنى . وهو علوى من محافظة المخرم بمحافظة حمص . فاختار الرقيب محمد نعمة ليكون مسئول الإنضباط فى السجن . وهو علوى أيضا من جب الجراح بمحافظة حمص أيضا . واستمر العش نائبا للجهنى إلى أن انتقل إلى سجن صيدنايا عام 1987 وأصبح مديرا له.

رقابة صارمة

ولقد كان اختيار هؤلاء الزبانية انتقائيا واضحا , تجسيدا لهيكلة النظام الحاكم ذاتها القائمة على منهجية الفرز الطائفى البغيض وتمكين الأقلية الموتورة من حكم الأغلبية المغلوبة على أمرها . فالعلويون هم أصحاب الهيمنة الأكبر والعدد الأكثر المسيطر على مختلف مواقع المسئولية والمراتب التى تدير السجن . وثمة عناصر معدودة فاسدة الضمير من أقليات أخرى طائفية أو عرقية تمارس دور المخلب الذى تتحكم فيه قبضة الطائفة العلوية وتسخره لخدمتها . علاوة على بعض من أبناء الأكثرية السنية ممن يقضون فترة خدمتهم الإلزامية فى هذا الموقع . ويعيش هؤلاء وكل المجموعات الأخرى تحت رقابة صارمة دائمة . ومثلما لا يسمح لهم أن يتحدثوا مع السجناء أبدا أو يسألوهم عن أسمائهم حتى لا يتعرف احدهم على الآخر فيعرفه بالصدفة أو يتساهل معه . كذلك فإن أشد العقوبات مصير من يضبط فى حالة كهذه . ولقد بلغنا ان رقيبا من حمص من آل السباعى كان يخدم جنديته الإلزامية فى هذا الموقع قبل حضورنا أبدى بعض التسامح مع المعتقلين وتساهل معهم فى أمور لا تذكر فى هذا الجو المرعب . فلما تكرر ذلك تم ضبطه ومحاكمته , وأعدم المسكين وعلقت صورته كما سمعنا فى غرفة الذاتية ليتعظ بها العناصر والعسكريون الآخرون!

خصومات!

وكان من آثار حماة أيضا أن حضرت مجموعات جديدة من السجناء من أهل المدينة . ومن هؤلاء بلغتنا أهوال ما حدث .. وتعرفنا على إخوة جدد صار بعضهم من أعز الناس إلى القلب . ومن هؤلاء لا أزال أذكر الأخ سحبان بركات الذى كان قد اعتقل حقيقة الأمر عام 81 ثم أحضر إلينا بعد الأحداث . ولقد جرى إعدامه فيما بعد رحمه الله . وكان معى ابن عمه صبحى بركات الذى كان طالبا فى كلية الطب بجامعة دمشق , وهومن الطلاب الأذكياء جدا . كذلك أذكر ممن حضر وقتها أحمد دعدع الذى أعدم بعد سنة أو سنتين . وغالب هؤلاء الذين أحضروهم اعتقلوا من بيوتهم أو جامعاتهم ولم تكن لهم كلهم صلة مباشرة بالأحداث , ومع هؤلاء حضرت نوعية أخرى من المعتقلين من عامة الناس الذين انفعلوا بالأحداث واندفعوا للمشاركة فيها من غير تربية مسبقة أو انضباط كامل .

ففاجأتهم المحنة من غير أن يستعدوا لها , وكان بعضهم فى بداية الأمر سببا لنشوء المشاكل والخصومات فى المهجع .

لكننا استطعنا ولله الحمد استيعاب أكثرهم , وتمكنا من عبور تلك المرحلة فتحسن خلقهم , وأخذ أكثرهم فى الإنضمام إلى إخوانهم والإندماج ببرامج المهجع من حفظ للقرآن ومداوة على الأذكار والعبادات .

فرز الأحداث!

ويبدو أن إدارة السجن لم تكن لتغفل عن هذا أوكأنها كانت تتوقع حدوثه , ولذلك لم تلبث ان قامت بعملية فرز للسجناء صغار السن أو الأحداث كما يسمون , فخصصت لهم مهجعا 31 ,34 بالباحة السادسة . ثم لما فتحوا الباحة السابعة نقلوهم هناك ووزهوهم على المهاجع 35,36,37 فيها , لعزلهم عن إخوانهم الأكبر سنا فلا يتأثروا بأفكارهم أو يتقووا بوجودهم معهم .

جرعة لبن !

مضت قرابة سبعة اشهر لم نعد نسمع فيها عن تنفيذ أحكام إعدام حتى ظننا أن الأمر قد انتهى ولم يعد هناك المزيد.

ورغم أننا لم نجد لذلك تفسيرا إلا أن مشاعرنا مع مرور الأسابيع والشهور جعلتنا نعتقد فى أنفسنا توهما وتأميلا بان الإعدامات قد انتهت , وأن الفترة السوداء من سجننا قد ولت . غير ان الأمل سرعان ما تبخر كالسراب . وتكسرت أجنحة الحلم حينما فوجئنا ذات صباح بالمشانق تنصب من بعد الفجر بقليل وبالشرطة يجوبون المهاجع ويسألون عن أسماء بعينها , ولم تلبث أصوات التكبيرات أن علت من جديد ... فأسقط بأيدينا .. وانهارت آمالنا الواهية ... وعدنا يلفنا الوجوم والترقب . حتى إذا فتح الشرطى باب المهجع 26 علينا انتفضنا كلنا وقد بلغت القلوب الحناجر واحتبست أنفاسنا .. وكل منا يتوقع أن يتلو الشرطى ويناديه للردى . لكن جلادنا لم يناد إلا اسم أخ واحد من بلدة سراقب اسمه عبد الحكيم العمر كما أعتقد . كان مدرس لغة عربية وملازما مكلفا حين اعتقل . وكان صاحب فضل علينا فى المهجع بدماثة خلقه وحسن معشره , وبحلقات البلاغة والنحو التى واظبنا عليها حتى تعلمنا منه الكثير . وقال له أن يضب أغراضه لأنه سينتقل إلى مدرسة المدفعية بحلب حيث كان يقضى خدمته الإلزامية . ورغم استغرابنا من هذا الأسلوب الجديد إلا أننا قدرنا أنهم إنما أخروا إعدامه لأنه عسكرى وحسب , وأن دوره الآن قد دنا .

وأدرك عبد الحكيم أنها منيته , وجعل رحمه الله يطوف علينا ويتفرس فى وجه كل منا ويردد آخر كلمات له فى هذه الدنيا سمعناها :

سامحونى يا شباب... واللقاء إن شاء الله فى الجنة .

فلما وصل بتطوافه إلى مجموعة من أهل بلده كانوا شركاء فى مجموعة الطعام فى المهجع أوصاهم بأهله وأولاده . لكننا فوجئنا به وعيوننا تتابعه وقلوبنا تطوف معه يستدير نحوهم فجأة ويطلب بعض اللبن كانوا قد وفروه لفطورهم عند المغرب ليأكل منه . وكانت آية رأينا فيها والله مصداق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى قال فيه (نفث فى روعى الأمين أنه لن تموت نفس حتى تستوفى أجلها ورزقها ).

ووالله الذى لا إله إلا هو أخذ عبد الحكيم صحن اللبن وأكل منه واتجه بعدها إلى الباب ونحن لا نصدق انه مفارقنا , ومضى إلى الإعدام ونفسه رحمه الله تفيض بالرضا والإطمئنان , وكأنه ذاهب لملاقاة أحب الناس إليه!

لا خضوع!

وفى مهجع السل 23 بالباحة الرابعة حيث كان قد اجتمع على إخواننا هناك كرب السجن وكرب المرض أخرج الشرطة يومها أخا مسلولا من حلب اسمه يوسف عبارة للإعدام . ووقتها لم أكن انضممت للمسلولين بعد , لكننى سمعت القصة بعد أن صرت واحدا منهم بعد حين . فلقد نادوا الأخ رحمه الله إلى لقاء ربه قبيل صلاة الفجر . فهرع وصلى مع الإخوة الفريضة ثم ودعهم ومضى إلى منيته مقبلا على الله . وكان من نزلاء المهجع أخ شاعر موهوب تفجرت مشاعره عندما أبصر الإخوة يساقون رتلا طويلا إلى المشانق , وانسابت مع دموعه ودموع إخوانه قصيدة رقيقة له حفظناها جميعا وأخذنا ننشدها منذ ذاك يقول فيها :


وسار موكب الجناز فى الصباح
مخلفا وراءه الجراح
وراسما مسيرة الكفاح
فلا حياة دونما سلاح
من قبلها نادى المنادى هاتفا مجلجلا
حى على الفلاح ... حى على الفلاح
وسار موكب الشباب فى خشوع
لم يعرفوا لغير ربهم خضوع
عيونهم تضئ كالشموع
تقول للأجيال لا خضوع
من قبلها نادى المنادى هاتفا مجلجلا
حى على الفلاح ... حى على الفلاح

وداع الأشقاء

وتتابع نصب المشانق وتكرر مشهد الزهرات تساق لتلقى حتفها على أيدى الزبانية الطغاة . وكان من أشد المشاهد إيلاما كما بلغنى يوم أن سمع اخ من بيت العابدى من دمشق اسم أبيه يطلب للإعدام من مهجع مجاور . ورآه يساق أمام عينيه من خلال ثقوب الباب فتزهق روحه على حبل المشنقة . وكان الولد قد اعتقل مع أبيه وهو ابن خمسة عشر عاما فى مرحلة دراسته الإعدادية !

ولم يكن أقل إيلاما يوم أن طلبوا اثنين من الشباب المعتقلين معنا للإعدام هما الأخ طريف حداد وملهم الأتاسي وكلاهما من حمص . وكان معهما فى نفس المهجع شقيقاهما بشار حداد ومطاع أتاسى . وعندما تقدم بشار ليودع أخاه طريف ثابت الجنان قال له : اثبت واصبر ... واللقاء فى الجنة . والحمد لله الذى أن رزقك الشهادة ولا تنسانا من الشفاعة .

كذلك خرج من بيننا أخ آخر للقاء الله فى تلك الأيام العصيبة هو الأخ عبد الغني دباغ من حمص . ثم لم نلبث أن نسمع ان أخوين شقيقين له فى مهجع آخر أعدما بعد ذلك بفترة وجيزة من الزمان.

تبجحات !

وانتهت أحداث حماة وانتهى عام 1982 الذى شهدنا فيه أسوأ الظروف وأقسى المعاملات وبدأت ذيول تلك المحنة تنجلى شيئا فشيئا . ولم نلبث مع مرور الأيام أن وجدنا أنفسنا نتدرج نحو مرحلة جديدة من المعاناة .

كانت البدايات عندما أخذ يتناهى إلى سمعنا أن مدير السجن العقيد فيصل الغانم يقوم بزيارات تفقدية للمهاجع يزجر فيها السجناء ويهددهم مرة .. ويستفسر منهم عن احتياجاتهم ويسألهم عن أحوالهم ويعدهم خيرا .

وبلغنا ضمن هذا السياق ان أحد الإخوة تجرأ ذات مرة وسأله عن سبب منع المعتقلين من الصلاة , فأجابه الغانم بكل تبجح أن إدارة السجن ليست ضد الصلاة ولا ضد التدين , ولكن الأرض فى المهاجع نجسة ولا تصح عليها الصلاة !

وزاد الراوى أن الشرطة عادوا بعد زيارة الغانم فأوسعوا السائل ضربا جعله يحرم وكل من بلغه الخبر السؤال والأخذ والرد مع هؤلاء إلى آخر العمر !

وتسارعت الأمور .. وبدأت المستجدات الغريبة تفاجؤنا مرحلة بعد مرحلة .. فلا نكاد نستوعب للأولى سببا حتى يجد على الساحة جديد . ونحن فى ذلك كله لا نبصر إلا عشر معشار ما يدور , ولا ندرك إلا الجزء الضئيل وحسب مما يدور أمام أعيننا .

وكانت البداية ظاهرة لنا حينما خرجنا ذات يوم من ايام سنة 1983 إلى التنفس كالمعتاد وجعلنا نسير فى خطانا كالمعتاد فوجدنا الشرطة يستدعون واحدا من مهجعنا اسمه خالد عوض السالم , واقتادوه مغمض العينين إلى مساعد السجن الجديد محمد الخازم الذى خلف فيصل كحيلة وقتها فكان شر خلف لشر سلف ! ومن غير أن يفتح خالد هذا عينيه سمع المساعد يأمره أن يرفع رأسه ففعل . فسأله عن اسمه فأجاب واكتفى بأن يصفعه على وجهه وأمره بالعودة . وعندما بلغنا ما حدث وجدناه تصرفا طبيعيا لطالما تكرر ما هو أسوأ منه دون أدنى مبرر . لكن الرقيب جهاد ما لبث ان عاد إلى المهجع مع عدد من أعوانه وطلبوا أبا عوض معهم . وعندما عاد بعد ساعة من زمن وجدناه غير الشخص الذى عرفنا .

أبو عوض!

كان خالد عوض السالم سجينا من صوران مات شقيقه على صدره بسبب السل كما ذكر من قبل قبل أقل من عام ولفظ أنفاسه بيننا وهو يذكر الله ويشهد له بالوحدانية . ورغم ان الأخوين اعتقلا بتهمة تجارة السلاح إلا أن الفارق بينهما كان كالفارق بين السماء والأرض . فخالد هذا كان معروفا قبل اعتقاله بسوء الخلق وفساد الذمة . ولأنه كان فوق ذلك صاحب جسم ضخم وعضلات مفتولة فقد جعلوا خدمته الإلزامية قبل سنوات فى الوحدات الخاصة أو الشرطة العسكرية .


كانت أول مفاجأة لنا فى عودة أبى عوض أنه ذهب سجينا وعاد بقدرة قادر رئيسا للمهجع ! وأمر الشرطة أبا الفضل الذى حافظ على مسئوليته طوال هذه السنوات أن يتنحى ويسلم رئاسة المهجع لخالد . ولم يكن على أبى الفضل إلا الإنصياع بالطبع . ووجدنا أبا عوض يتبدل بين ليلة وضحاها . وبدأت شخصيته المتنفذة تطفو على السطح الآن ... وتتبدى عنجهيته بسبب ومن غير سبب .

وصار لأبى عوض – وهو الذى طالما ضاعف الشرطة عليه القتل والتعذيب أثناء الحلاقة والتنفسات بسبب ومن غير سبب – استثناء خاص من الحلاقة ... فطال شعره من دون كل الألوف من هؤلاء السجناء جميعا , وأرخى شاربيه وكأنه واحد من الشرطة لا فرق ! ولم تلبث الأسرار أن تسربت إلينا من المقربين لأبى عوض , فحدثهم كيف أنه كان سجينا فى سجن تدمر هذا فى ذات يوم أيام خمته الإلزامية جزاء على مخالفة عسكرية فعلها . وكان محمد الخازم رقيبا فى نفس السجن وقتها ... فقامت بينهما علاقة ومعرفة . واتفقا على أن ينشئا تجارة لصالحهما بين السجناء , يقوم محمد الخازم بتأمين مادتها , ويتولى خالد ترويجها بين زملائه فى المهاجع بأسعار مضاعفة مستغلا حاجتهم لتلك المواد . فلما شاهد الخازم أبا عوض الآن وجده الرجل الأمثل لتحقيق مطالب السيد الكبير مدير السجن الذى أوعز إليه كما تبدى ترويج نفس التجارة بين السجناء البؤساء فى تدمر .

ورغم أن ذكرى اخيه لم تكن قد خفتت بعد.. وعلى الرغم من الإهتمام البالغ الذى أولاه الإخوة لخالد نفسه فى أشد أيام المحنة مراعاة لوضعه وترقيقا لقلبه , حتى أنهم كانوا يؤثرونه بطعامهم لضخامه جسمه ويوفرون له من فتات الطعام الذى يصلهم حصة مضاعفة له وحده . ويتقدمونه فى التنفس والحلاقة معرضين أنفسهم لسياط الزبانية وعصيهم حماية له وإخفاء من الشرطة الذين علموه وقتها بجسمه الضخمفادمنوا مضاعفة العذاب له . برغم ذلك كله فإب أبا عوض لم يحفظ للإخوة ذلك فها هو ذا يريد أن يتسلط عليهم ويتحكم فيهم وكأنه لم يعد سجينا وصار هو السجان ! وجعل فى سبيل تحقيق غايته يؤلب الناس على بعضهم ويوظف بيننا من ضعاف النفوس جواسيس ينقلون إليه ما الذى يدور بين الحلقات وبماذا يتحدث المساجين عنه . وكان يريد أن يعرف كل صغيرة وكبيرة لينقلها إلى سيده الجديد وشريكه . وصار يسطو على طعام الآخرين ويأخد ما شاء من الوجبات نوعا وكما ... ولم يتورع أن يستخدم يديه مع بعض الإخوة والإعتداء عليهم بالضرب تماما كما يفعل بقية السجانين! ولا أزال أذكر أن أحد ضحاياه كان الأخ محمد صنوبر حافظ كتاب الله الذى نال منه ذات مرة قتلة لم تقل عن أى من تلك التى يذيقنا إياها جلادونا قساة القلوب ذاتهم !

مهجع المدعومين!

وأخذت الأمور تتطور بالتدريج من حولنا , فلم نلبث ان تبلغنا فى شهر آذار 1983 بتغير النظام العام للسجن , وأنه بات مسموحا لنا الآن أن نفتح أعيننا وأن نرفع رؤوسنا أمام الشرطة العسكرية بشكل طبيعى . وبدأنا نلحظ تغيرا نسبيا فى تعامل الشرطة وإدارة السجن مع مهجعنا فى ظل ولاية أبى عوض عليه . فخفت الضغوط بعض الشئ عنا, وأوكلت مهام الأمر والنهى داخل المهجع أغلب الأحيان إلى أبى عوض . ولم يعد الشرطة يكثرون من الدخول علينا أو التنكيل بنا . فيما تتالت لقاءات أبى عوض والخازم الذى كان يستدعيه إلى الذاتية بين حين وآخر , فإذا عاد وسئل عما جرى لم يجب إلا بالقشور .

وأخذنا نسمع عن زيارات تتم لبعض السجناء يحضر أهلهم لمشاهدتهم فيحضرون لهم كميات من الهدايا والاموال غير قليلة . وكان ذلك لا يتم إلا للموسرين بالطبع . وبعد واسطات ورشاو فاحشة عرفنا بها من بعد . وفوجئنا من ثم بهؤلاء السجناء يتوافدون علينا فى المهجع واحدا بعد الآخر ومجموعة إثر مجموعة. حتى بتنا نسمى مهجعنا هذا مهجع المدعومين ! ومع هذه التطورات عاد الطبيب يجول على المهاجع ويقدم بعض العلاجات الأساسية للسجناء . وتم تعيين مسئول صحى من السجناء فى كل مهجع , تكون مسئوليته تقديم تقرير بالحالة الصحية للسجناء إلى الطبيب حتى لا يضطر الطبيب نفسه إلى فحص المرضى والتعرض لإحتمالات الإصابة بالعدوى منهم !

أخوة بالإكراه!

وفى يوم من أيام شهر حزيران عام 1983 فوجئنا بالشرطة يخرجوننا إلى الباحة ويخرجون معنا سجناء المهاجع الأخرى فى باحتنا ...وإذ بمدير السجن المقدم فيصل الغانم الذى كان أحد المشرفين على مجزرة تدمر الكبرى عام 1980 يقف فينا خطيبا لأول مرة ويكلمنا بلهجة ما اعتدنا أن نسمعها قط كل تلك الأيام التى خلت .

ولأكثر من أربعين دقيقة جعل يحدثنا أننا فعلنا كذا وكذا , وأخطأنا بحق الوطن ولكننا برغم ذلك نظل إخوة ! ووسط إيعاز الشرطة لنا بين كل جملة من كلامه والجملة الأخرى بالتصفيق تساءل الغانم عن الفرق بين العلوى والسنى ...

وأضاف فقال بملء فيه : أنا خيكم (أى اخوكم) غصبا عنكم . وبين الإستغراب المطلق والتحفظ المطبق من جانبنا أكمل الغانم محاضرته بالحديث عن إسرائيل التى قامت بمجزرة صبرا وشاتيلا . وقتلت من الأبرياء كذا وكذا . وأن سوريا هى الدولة العربية الوحيدة التى تقف بوجه إسرائيل وأمريكا !

واتجه بالحديث نحونا مرة أخرى فقال أما أنتم فقد غرر بكم لتقوموا بأعمال ليست فى صالح البلد غير أن الإبن إذا أخطأ فى حق أسرته فإنها تعاقبه ولا تتخلى عنه .. ولذلك فأنتم الآن تقضون فترة عقاب , لكنكم ستخرجون بعدها وتحل الأمور .

وانتهت المحاضرة كما بدأت حافلة بالغموض والغرابة وأخذت التساؤلات والتحليلات والتكهنات تتوالى . لكن شعورا واحدا غمرنا جميعا يوحى بأن ثمة تطورات جديدة فى الأفق ولم تلبث الأمور أن أخذت تتسارع لتتكشف على حقيقتها بعد حين .

كذلك طرأ على حال السجن تغيير جديد بالتسجيل وقتها .

فلأول مرة وبعد هذا الصمت المطبق طوال الأعوام السابقة فوجئنا بالميكروفونات تنقل إلينا بث إذاعة دمشق على الهواء مباشرة 12 ساعة فى اليوم . فكانت لنا نافذة نتابع من خلالها أخبار العالم خارج الأسوار . ومنفسا نخرج منه عن اعتيادية حياتنا القهرية بعض الشئ . وبالطبع لم يكن مسموحا لنا من قبل ولا من بعد أن ندخل جهاز راديو إلى مهاجعنا ولا أن نستخدم الورق ولا الأقلام ولا الكتب .. وأما المصاحف فكانت كما ذكرت ولا زالت أكبر الممنوعات !

ذيل الثعبان !

غير أن هذه التطورات كلها كانت تخفى وراء وجهها المليح مؤامرة خسيسة .. كان المقدم فيصل الغانم رأسها المدبر وعرابها الخبيث .. وكان أبو عوض من جانبنا أداتها القذرة وذيل الثعبان الذى يتحرك لمصلحة الرأس الخبيث بكل خسة ولؤم . ولم تمض مدة من الزمن حتى تبين لنا أن الغانم هذا قد نظم خارج أسوار السجن شبكة من مصاصى الدماء ترأستها أمه نفسها التى كانت تتولى تنظيم زيارات لنخبة من أهالى المعتقلين الموسرين للإجتماع بأبنائهم فى سجن تدمر مقابل مبالغ طائلة من المال , لكن ذلك لم يكن يشبع جشع الرجل , وكان ينظر إلى الأموال التى يأتى بها الأهالى لأبنائهم المعتقلين عساها تدفع عنهم بعض الشر أو المعاناة .. فيراها غنائم مغرية يسيل لها لعابه . ولذلك وحتى يضمن الغنيمة كلها أنشأ شبكة ثانية من العملاء والأجراء داخل السجن مهمتها امتصاص تلك الأموال بطريقة أخرى . كان أبو عوض مخلبها القذر بيننا .. فعرف عن طريقه احتياجاتنا ورغباتنا وحالتنا .. وفى سبيل ذلك كانت خطبته العصماء تلك زكانت سلسلة القرارات الإستثنائية التى أحاطت بها .

وهكذا اتجهت الحال بعمومها نحو تغير نسبى . فبات التعذيب نوعيا بدل أن يصيبنا فى كل غدوة وروحة . وصار الشرطة يسمحون لنا بالخروج للتنفس مفتوحى الأعين نتنعم بالشمس من غير ضرب كثير ولا تعذيب . ثم لا يلبثوا وأن يقوموا بتعويض السجن كله بحفل شديد مفاجئ من التعذيب بحيث يبقى الكل منضبطين يحسبون للحفل القادم ألف حساب . وأما المحاكمات والإعدامات فلم تتأثر بكل هذا الذى يجرى , وظل شبح الموت مخيما علينا يتخطف الزهرات من بيننا ويطبق على أعناق الشباب الغر ونحن لا نملك فى رد ذلك حولا ولا قوة .

آخر الأنفاس !

وفي ليلة من تلك الليالي كنت أنام بجانب الأخ مأمون الذهبي . وكان المسكين قد أصيب بالمرض فتدهورت صحته بشكل متسارع ومريع . حتى بات وهو الذي كان لاعب كراتيه مفتول العضلات قوي البنية لا يقدر على مغادرة فراشه . ليلتها وفي ساعة متأخرة نام كل من في المهجع ونمت معهم ، مد مأمون يده الواهنة نحوي وجعل يهزني حتى استيقظت . فلما سألته ما به قال لي رحمه الله :

صدري يؤلمني .. اقرأ لي عليه .

فوضعت راحتي على صدره وجعلت أقرأ من الآيات والأدعية المأثورة . حتى إذا سكن وخلته نام عدت إلى النوم من جديد . فلما دنا الصباح صاح فينا أبو عوض كعادته :

الكل استيقاظ .

فقمنا كلنا وبقي مأمون في مكانه تغطي وجهه البطانية ولا يتحرك . فناداني أبو عوض لأوقظه ، فناديته فلم يرد . قال أبو عوض على مشهد من الجميع :

اخبطه برجلك ليفيق .

فكشفت عن وجهه وناديته لينهض . فلما حدقت وجدته قد فارق الحياة . قلت وأنا أكاد أحس آخر أنفاسه لا تزال تتسارع على راحتى :

هذا مات يا زلمه !

فلم يهتز لأبي عوض شعرة ، ولم يزد عن أن مضى ليخبر الشرطة بحالة وفاة جديدة في مهجعه . وهرعت أنا فسحبت مأمون بمساعدة الإخوة فأدخلناه الحمام وغسلناه . ولم يلبث "البلدية" أن حضروا فأخذوه ومضوا .

مملكة الوهم !

ونمت مملكة أبي عوض الواهية .. فخصصت له إدارة السجن مكاناً يديره كمتجر أو دكان بقالة كان يبيع فيه السجناء الشاي والخضار والفاكهة والإحتياجات الرئيسية التي كانوا محرومين من معظمها ويقبض على ذلك أفحش الأثمان ! وفي نفس الوقت كان فيصل الغانم يترصد الزوار فيخضعهم كالعادة للتفتيش . فإذا أرادوا أن يعطوا أبناءهم مبلغاً من المال كان له نصيب مباشر فيه . وإذا أحضروا لهم ملابس أو حاجيات أجاز دخول بعضها وصادر بعضها الآخر بحجة أو بأخرى . فيحمل أبو عوض الأشياء التي صودرت ويدور بها على المهاجع ويبيعها للمساجين أيضاً . وهكذا تصب كل الأموال التي أحضرها الزوار المساكين في جيب مدير السجن وشركاه . ولم تكن بيدنا حيلة لوقف هذا الإستغلال المكشوف . وكنا نشتري أغراضنا المسروقة من غير تردد . ففي حالنا البئيس ذاك كنا بحاجة لأي لقمة طعام نتقوى بها أو قطعة ملابس تقينا الحاجة والبرد وتخفف عنا ولو بعض تلك المعاناة .

وهكذا اغتنمنا جشع أبي عوض وحالة الرخاء الظاهر تلك ، فأقبلنا ابتداء على توثيق علاقاتنا داخل المهجع أكثر وقد أمنا مداهمات الشرطة من فوق الشراقة إلى حد ما . وصرنا نتعرف على أحوال بعضنا البعض ، ونتبادل الحكايا والخبرات والمعلومات . ونضاعف همتنا لحفظ سور القرآن الكريم وآياته . وفي هذا السياق صرنا نُخَرِّج حفظة كتاب الله مجموعة إثر مجموعة ، ونعد لذلك حفلاً كبيراً نوفر له من الطعام أو الحلوى التي تصلنا من الزيارات أو من مخصصاتنا اليومية طوال أسبوع أو اثنين . فينال أبو عوض حصة الأسد منه ليسكت عنا ويأذن لنا ، ونوزع البقية علينا احتفالاً بالإخوة الحفظة وتكريماً لهم .

سماح!

كذلك استفدنا من ظرفنا الإستثنائي ذاك فصرنا نشتري من بضائع أبي عوض المسروقة أشياء ما ونرسلها مع رسالة مختصرة إلى إخوة أعزاء في مهاجع أخرى . وكنا نتلقى بنفس الأسلوب ردودهم وهداياهم . وعن هذا الطريق صار الإخوة يتأكدون من وجود فلان أو إعدامه . وعن نفس الطريق وصلني إلى مهجع السل أواخر عام 1983 إبريق شاي من أبي الفضل الذي انتقل إلى مهجع آخر بعد مدة يلمح لي به أنه حكم بالإعدام . وكان قد كتب لي على الإبريق يقول : إلى محمد سليم .. محمد جمال سماح . فعلمت أنه يطلب المسامحة لأنه راحل عما قريب . وبالفعل فلم تمض بضعة أسابيع حتى بلغنا أنه أعدم رحمه الله .

وفي المقابل كان أبو عوض ينتفخ وينتشي بالوهم وبعض سقط المتاع . ولقد سمعنا أنه طلب من المساعد أن يسمح لأهله بزيارته مرة فسمح لهم . وتردد أنه هرّب مع أخيه الذي زاره نقوداً من تلك التي جمعها من تجارة الحرام التي امتهنها ، لكن علم ذلك عند الله . وأما ما علمناه نحن ورأيناه فكان آية من آيات الله بالفعل . فلم تمض على هذه المظالم مدة من زمن حتى رأينا الدائرة تدور على أبي عوض ، وينتقم الله من أفعاله الشنيعة شر انتقام . وسيأتي الحديث عن ذلك لاحقاً بإذن الله .

الحزبية الإقليمية !

لم تكن حياتنا في السجن ملائكية أو مثالية . فبينما كنا أيام الشدة نزداد قرباً إلى الله وتجرداً وتلاحماً كنا إذا طال علينا العهد نرتد إلى أصولنا وخلفياتنا ومشاربنا الشتى . وبعد أن مضت هذي السنون علينا يضمنا مهجع موحش باطنه عذاب وظاهره أشد وأنكى . ومع اختلاط الإنتماءات وتعدد المشارب بدأت تظهر بيننا في فترة الإنفراج النسبي تلك اختلافاتنا المذهبية والتنظيمية والإقليمية معاً !

ولقد ظهر ذلك أول ما ظهر حينما استطعنا أن ننظم بعض الدروس الهادئة إذا سنحت الظروف وأمنا الحرس من فوقنا ومن حولنا . فوجدنا الإخوة لم يلبثوا أن أخذوا يتكتلون فرقاً وجماعات تتجادل في البداية حول قضايا المذهبية واللامذهبية .. والإتباع والإبتداع .. وما يندرج تحت هذا الباب من جدل أنهك الأمة قروناً ولم ينته لصالح أحد ! حتى أن الإخوة صاروا يختلفون على الأذان الذي يبلغنا من وراء أسوار السجن قادماً من منارة مسجد مدينة تدمر . وكان وجه الخلاف حول مشروعية الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام جهراً في خاتمة الأذان !

وسرعان ما أخذ الخلاف الذي استشرى مأخذ الحزبية التنظيمية . وطفت على السطح اختلافات تنظيم الإخوان التاريخية بين دمشق وحلب . أو بين جماعة الأستاذ عصام العطار وجماعة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة . واستطاع الإخوة الحلبيون وفق ما رأيت أن يجرّوا الدمشقيين من دائرة الإختلاف التنظيمي إلى دوامة الخلاف المذهبي . وأشاعوا بيننا أن الدمشقيين سلفيون لا مذهبيين . وانعكست هذه الصراعات المقيتة على السجناء كلهم فآذتهم وأرقتهم . وآذت أكثر ما آذت الحياديين وغير المنظمين أصلاً . ورأى هؤلاء في هذا الخلاف أسوأ صورة للجماعات والتنظيمات الإسلامية كلها . ورأيتنا نعود بجدليات الطرفين المتعصبين إلى القرون الوسطى ونتفرق في قضايا لا يبنى عليها عمل أساساً .

وتطور الأمر بسرعة .. أو فقل ارتد الناس إلى خلفياتهم وتشوهاتهم التي أتوا منها ! فبعد أن انتقل الخلاف من الفكر والمذهبية إلى الحزبية التنظيمية انتهى الأمر بسقوط الأطراف جميعاً في وحل الإقليمية الضيقة ! فتكتل السلفيون الموالون للأستاذ عصام في تكتل دمشقي . وأخذ المذهبيون الحلبيون الموالون للشيخ عبد الفتاح طرفهم الإقليمي . واستغل الحمويون التابعون للأستاذ عدنان سعد الدين القضية ليجمعوا الحمويين في كتلة ثالثة ! وانعكس ذلك على المهجع أسوأ انعكاس . وتفرقت القلوب شتى . وانعزلت كل كتلة في دائرة مغلقة تجاور الدائرة الأخرى والثالثة ولا تتداخل معها .. رغم أن المحنة لم تكن تفرق بين أي من هذه الكتل وأصحابها .

ولم تلبث أن تعقدت الأمور أكثر حينما نشأ تيار تكفيري فيما بعد نتيجة هذه الضغوط وتلك الفتن معاً ، فازداد الطين بلة .. واشتد التعصب والتعنت .. وامتدت أحكام التكفير لا لتشمل النظام وأركانه وأعوانه وحسب ، بل كل من لم يلتزم بالفكر التكفيري وقيادته ومنهجه !

السل

كانت أبدان السجناء قد أنهكت إلى أبعد الحدود بعد سنين من العذاب المستمر والجوع والحرمان والعيش في أسوأ الظروف الصحية والنفسية . وعلى الرغم من هذا الإنفراج الظاهر الذي حدث إلا أن الوقت كان قد فات . وبدأ عدد الضحايا يرتفع من جديد .. وتزايدت حالات الوفاة المرضية والإصابات المزمنة ، حتى مات من مهجعنا وحده قرابة الأربعة عشر أخاً لم ندر إلا بعد أن قضوا رحمهم الله أن الذي أصابهم حقيقة الأمر كان مرض السل . وعندما تطورت معرفتنا بهذا المرض الخبيث ووجدنا من يفقهنا في أعراضه وأشكاله علمنا أنه لا يصيب الرئة وحسب ، وإنما هناك سل يصيب الأمعاء وسل بالكلى وثالث بالعظام ورابع وخامس . ولم يكن في مهجعنا حتى تلك الفترة الطبيب المتخصص الذي يقدر على تشخيص الداء ، مثلما لم يكن لدينا العلاج المطلوب حتى إذا علمنا به واكتشفناه .

وواقع الأمر فإن مرض السل تم اكتشافه منذ عام 1982 في المهجع 5-6 بالباحة الأولى . وهو واحد من أقدم مهاجع سجن تدمر . كبير المساحة مظلم الجنبات شديد الرطوبة . ولقد قدر أن يكون أحد نزلائه الطبيب محمود العابد من حماة ، الذي كان أحد أطباء قسم الأمراض الصدرية في إحدى مستشفيات حلب . لكن الإخوة وقتها ومن خوفهم من بطش الشرطة وإحساسهم بانعدام التجاوب أو الإهتمام لم يبلّغوا عن المرض . فلما لاحظت إدارة السجن ازدياد الوفيات وتوافق ذلك مع حالة الإنفراج العامة تلك فتحوا للمسلولين مهجعاً خاصاً في الباحة الرابعة هو المهجع 23 .

ونعود إلى مهجعنا 26 الذي بات الآن في عهد ولاية أبي عوض القسرية عليه أحد مهاجع السجن الخاصة إن لم يكن أخصها جميعاً . وأما السبب فكان - كما ذكرت - اتفاق إدارة السجن مع أبي عوض على تحويل السجناء الموسرين وأصحاب الزيارات والواسطات إلى مهجعنا ليكونوا تحت عينه ورقابته الدائمة .. وتكون الزيارات والنقود التي يرسلها أهاليهم المساكين أدنى إلى جيب أبي عوض وأسياده من جيوب أصحابها أنفسهم !

وفي هذا السياق وضمن عمليات النقل والتحويل جاء إلى مهجعنا مجموعة من الإخوة الدمشقيين أذكر منهم محمد الحوراني ، وسليم الأسد ، وعدنان المؤيد ، وأخ من بيت دبش وغيرهم . وكان سليم الأسد طبيباً من دمشق نقل من مهجع 5-6 بعد أن تعلم من الدكتور محمود العابد هناك فحص المسلولين وتشخيص إصابتهم . ونقل لنا وقتها نبأ اكتشاف إصابات سلية بين السجناء . وأخبرنا عن تخصيص مهجع 23 للمسلولين ، وأن أخاً آخر هو زاهي عبادي من دير الزور والذي كان في سنته الرابعة بكلية الطب تطوع للذهاب إلى نفس المهجع والإشراف على إخوانه المسلولين ، ثم لم يلبث رحمه الله أن أصيب نفسه بالمرض عن طريق العدوى .

وفي يوم من الأيام كنا في التنفس أنا والأخ صبحي بركات أحد أفراد مجموعتي ففوجئت به يستند إلى ذراعي بادي الإجهاد ، وقال لي وهو لا يقوى على إخراج الكلمات أنه يحس بالغثيان وبالدوار ولا يقوى على الحركة . فطلبنا له من الرقيب إذناً بدخول المهجع . وهناك لم يلبث الأخ صبحي أن تقيأ وسقط محلول القوى . وعندما عدنا من التنفس فحصه الأخ سليم فتبين له أنه السل . وعندما حضر الشرطة وأخبرناهم أسرعوا ونقلوه إلى المهجع 35 في الباحة السابعة والذي خصص بدوره في تلك الفترة للمسلولين بعدما ضاق بهم مهجع 23 .

ومر شهر آخر وإذ بي أجدني أعاني من الأعراض نفسها : ارتفاع في الحرارة ، وقلة شهية للطعام .. وسعال وتعرق وإجهاد متزايد . وبعد أسبوع من المعاناة فحصني الأخ الطبيب سليم أسد فوجدني أصبت بالسل أيضاً . وعندما أخبر إدارة السجن بذلك نقلوني بدوري إلى مهجع السل ، وكان ذلك في الشهر السادس من عام 1983 وبعد أيام قليلة من محاضرة فيصل الغانم العامة أمام السجناء .

جرعة العذاب !

دخلت المهجع 35 في الباحة السابعة فوجدت ويا لهول ما وجدت ! أكثر من مائة من الإخوة ألقى المرض بكلكله عليهم فسلبهم نضارة الحياة وسمت العافية . فهذا لا يكف عن السعال وفي يده علبة صفيح صدئة يبصق فيها البلغم والدم . وذاك يتقيأ بين فينة وأخرى ولا يستطيع أن يمسك نفسه . وثالث أصاب السل كليتيه فانتفخ جوفه وكأنه امرأة حامل ! ووجدت المصاب بسل الخصيتين ، وسل العظام ، وسل السحايا ، وسل الرئتين .. وكان على كل أولئك وعلي أن نستخدم الحمام نفسه وأن ننام متجاورين نتبادل العدوى ونتلقاها شئنا أو أبينا .

ولقد كنت أظن أو أؤمل أن تكون ظروف مهجع المسلولين أفضل من غيرها ، لكنني وجدت الأمور كأنها لم تتغير . فالبطانيتان اليتيمتان والعازل على حالهم .. والشراقة والنوافذ المفتوحة كتلك التي في بقية المهاجع . والحرس على الباب وفوق المهجع يروحون ويغدون . وهناك برنامج غير منقوص من التفقد إلى التنفس إلى سوء الطعام ورداءة الظروف . وعندما نكون في الساحة أو يرى الشرطة منا ما لا يسرهم كنا ننال من الضرب والجلد والعذاب ما لم يختلف عن ذاك الذي يناله الإخوة الأصحاء في مهاجع أخرى . ولعل ميزة المهجع الوحيدة كانت في نزلائه المسلولين جميعاً .. وفي جرعة الدواء التي خصونا بها وحسب ! وحتى جرعة الدواء تلك كانت أداة تعذيب وابتزاز لنا .. فلا يكاد ينقضي شهر على توفرها حتى تنقطع وتغيب أسبوعين أو عشرة أيام . فإذا عادت جعلنا نتخوف انقطاعها ونترقب وصولها فنزداد قلقاً على قلق وعذاباً على عذاب .

وهكذا ، ومع اضطراب تعاطي الدواء واستمرار سوء التغذية وقساوة الظروف استمر الإخوة يتساقطون موتى واحداً بعد الآخر حتى عددت أكثر من عشرين أخاً ماتوا من مهجعنا نحن فقط . ومن هؤلاء أذكر الآن أخاً من حمص اسمه عبد الرحمن فليطاني ، وآخر اسمه عبد الساتر مصطفى من نفس المدينة . ومصطفى المصطفى من قرية منخ قرب مدينة حلب . وآخر اسمه الأول مصطفى من حلب أيضاً .

نوبة قلبية

ومن شهداء مهجع السل أيضاً تحضرني قصة الأخ محمد حسن عجعوج من حماة الذي كان من جماعة الشيخ مروان حديد الأوائل . والذي قامت المخابرات السورية باعتقاله من لبنان بعيد اعتقال الشيخ مروان ، وأودع سجن المزة مع بقية من اعتقل وقتها . ومع تطور الأحداث وتصاعد موجات الإعتقال في بداية الثمانينات نقل الأخ حسن إلى سجن تدمر بعد المجزرة الكبرى التي حدثت هناك . وتنقل من مهجع 9 إلى مهجع 11 لألتقيه وقد أصابه السل آخر الأمر في مهجع 35 .

وهناك وفي يوم من الأيام وصل محمد حسن عجعوج نبأ استشهاد أسرته جميعاً أثناء أحداث حماة قبل أقل من عام . وسمع بأن واحداً من اخوته سُحِلَ في شوارع المدينة سحلاً . فلم يتمالك رحمه الله وأصيب بنوبة قلبية قضت عليه .

وصار أمراً اعتيادياً بيننا أن ننادي الشرطي صباح كل بضعة أيام ونخبره بوفاة أحد المرضى ، ثم نلتفت إلى برنامجنا ذاته نكاد لا نحس تجاه الأخ الفقيد بالحسرة قدرإحساسنا بالغبطة أن قبضه الله إليه فاستراح من هذا العذاب !

هستيريا

ومن مشاهد مهجع السل التي لا تنسى مشهد الأخ بسام الحافظ من حمص الذي فقد القدرة آخر الأمر على تحمل كل هذه العذابات والضغوطات النفسية وما عاد يقدر على تلقي المزيد . فوجدناه في ليلة من الليالي ينهض وسطنا وقد احمرت عيناه فكأنما هما من دم أو نار وراح يطلق عقيرته بالصراخ والعويل . وكان الإخوة كلما حاولوا تهدأته ازداد انفعالاً وتأزماً .

ودخل الشرطي المناوب يستطلع الأمر ، وأمر المسؤول الصحي الأخ زاهي عبادي أن يسكته بالقوة . فلم يجد الأخ إلا أن يعطيه إبرة مسكنة هدأته بالتدريج . وفي الصباح نادى الشرطي المسؤول الصحي ليخرج هذا الأخ إليه . فلما خرج المسكين انهال الشرطة عليه ضرباً وجلداً وأعادوه يكاد يسلم الروح . لكنه وعندما حل المساء عاد وانتفض وكرر ما حدث ليلة الأمس . فعاد الأخ زاهي وأعطاه إبرة ثانية مهدئة . وعندما أتى الشرطي من جديد رجاه أن هذا السجين مصاب بالهستيريا ولا يملك من أمره شيئاً . ووعده أن يبذل أقصى جهده لتهدأته وعلاجه . بعدها طلب زاهي منا أن نكف عن محادثة الأخ بسام . ونصبوا له في زاوية من زوايا المهجع ما يشبه الخيمة وأجلسوه فيها . وظل المسكين قرابة الشهرين معزولاً عنا لا يكلمنا ولا نكلمه بشيء .. أخذ خلالها يتحسن بالتدريج . ثم جرى نقله بعدها إلى مهجع آخر ولم نعد ندري ما الذي انتهت به الحال إليه .

ألفية ابن مالك !

ومضت مسيرة العذاب .. تنهش المحنة من أجسادنا المنهكة وتقتات واحداً منا بعد الآخر ولا تشبع . ولم يكن أمامنا من باب نلتجىء إليه غير المولى تبارك وتعالى .. نتقوى به على محنتنا ونتعالى بالإلتجاء إليه على كل الجراح والعذابات .

ولقد كانت النفوس تضعف حيناً ، وتتقوى من ثم أحياناً أخر . لكن نفسياتنا تفوقت على أجسادنا ولله الحمد . وتمكنت من الثبات أغلب الأحيان حتى ولو انهارت الأبدان وتهتكت الأجساد . فكنا كلما خبت الهمم أو انتكأت الجراح نشد من عزم بعضنا البعض بالدعاء والصلاة والتبتل إلى الله سبحانه وتعالى . ندعوه مع كل فتحة باب ، ونشكره كلما أغلقوا علينا الباب نفسه وبقينا سالمين ! وبعدها وإذا أحسسنا ببعض الأمان عدنا إلى برامجنا التي باتت غذاء أرواحنا ورواء قلوبنا .. درّتها كتاب الله الكريم . حتى إذا أتقن واحدنا حفظه التفت إلى من حوله من إخوانه فتعلم منه ما لديه من علم مفيد . فقه كان أو تجويد أو لغة عربية أو متون . فإذا أنهاها مضى يلتمس تعلم اللغة الإنجليزية أو الفيزياء أو الكيمياء .. وكل ذلك عن طريق المشافهة .

وأما أنا وبعد أن أتقنت حفظ القرآن الكريم كله بفضل الله عكفت على دراسة المتون ، وكان شيخي في ذلك أخ من حلب جزاه الله خيراً كان متقناً لحفظ المتون . فأخذت عنه البيقونية والجزرية والرحبية .. ومن ألفية ابن مالك حفظت حوالي 650 بيتاً ولله الحمد . وظهرت في هذا السياق مواهب وعجائب .. فكان بعض الإخوة يحفظون سيرة ابن هشام ويدرسونها لإخوانهم الآخرين . فلما اتقنها جمع منهم حولوها إلى منظومة أيضاً بالغة الإتقان .

التدمري الشهيد

ومن المواهب الفذة التي ظهرت بين السجناء أخ شاعر نظم مجموعة من القصائد الرائعة كنا نتناقلها بين المهاجع ونحفظها عن ظهر غيب . ولقد بلغنا أن الأخ حكم عليه بالإعدام ونفذ الحكم في كل المجموعة التي حوكمت معه ولم يصل الدور إليه .. ففجر ذلك كما يبدو موهبته الكامنة ، وجعله ينطق بمعاناتنا جميعاً من خلال قصائده الرائعة . ومما لا أنساه من تلك القصائد واحدة أهداها إلى إخوانه في مهجع السل يقول فيها :

سيشرق وجهك خلف الظلام
وصدرك ينزف خلف الحديد
وما كاد يثنيك حقد اللئام
فيا أيها التدمري الشهيد
عليك السلام عليك السلام
أخي إنا بعد الأذى والهوان
سنعلو على الخلق إنساً وجان
لنا الصدر أو منزل في الجنان
وبعد الأعاصير والزلزلة
كأن فؤادي غدا قنبلة !

راحل عنك ..

كذلك فجرت المحنة موهبة شعرية أخرى في أخ من حلب كتب قصيدة يناجي فيها والدته من خلف القضبان . فتلقاها أخ آخر من مهجعنا برزت موهبته الفذة في تلحين القصائد وإنشادها . فصارت القصيدة لحناً يتنقل على شفاه السجناء من مهجع إلى آخر ومن قيد إلى قيد .. فتشتد بها العزائم وتعلو بكلماتها النفوس :

عندما جاءت يفيض الود منها والحنين
تطرق الباب وفي دقاتها لحن حزين
أتراها تطلب الوصل وترجو أن ألين
أم تراها ظنت القيد يهز الصامدين ؟
قلت والثورة في نفسي أعاصير تجول
حسبي الله ربي ونعم الوكيل
وحملت الزاد والرشاش وقررت الرحيل
وعلى الباب بقايا من عبارات تقول
راحل عنك أقاسي من جراحي وأسافر
لا أبالي بالمنايا وعلى الطغيان ثائر
أتحدى ظلمة الليل وأحيا لأقاتل
علمتني صحبة القيد وأنغام السلاسل
أن دين الله لا ينهض إلا بالقنابل
راحل عنك أغني للسواقي والبيادر
أملؤ البيداء نوراً ونشيداً وبشائر
ورصاصي للطواغيت إلى النار تذاكر
في سبيل الله ماض تابعاً نهج الأوئل
علمتني صحبة القيد وأنغام السلاسل
أن دين الله لا ينهض إلا بالقنابل .


أنا بعثي !

ولقد كان من ميزات مهجع السل أيضاً اختلاط انتماءات نزلائه وتعدد الإتجاهات التنظيمية والسياسية فيه . فبعد أن كان سجناء مهجع 26 من تنظيمات إسلامية أو من المحسوبين عليهم جميعاً وجدنا أنفسنا في مهجع السل 35 متجاورين مع سجناء من تنظيمات يمينية موالية للبعث العراقي . ورغم أنني وبقية الإخوة كنا ولا نزال نتعاطف مع أي مظلوم امتدت سطوة النظام فسلبته حقاً أو زادته رهقاً ، إلا أنني رأيت أولاء البعثيين في أغلبهم مجرد منتفعين مصلحيين من فلاحي منطقة الجزيرة . جاء البعثيون العراقيون إليهم فاستغلوا فقرهم وحاجتهم وبساطتهم وأمدوهم بالمال فأصبحوا يعبدون رب هذا المال ليس إلا ! ولقد تسبب لنا هؤلاء للأسف بمزيد من المعاناة ، وكانوا مصدر إزعاج حقيقي لبقية المهجع . ورغم أن عددهم تراوح بين عشرة وخمسة عشر إلا أنهم أساؤوا للمجموع مرات كثيرة . فرغم المحنة التي أصابتنا جميعاً إلا أنهم كانوا لا يكفون عن النظر إلينا والتعامل معنا كأعداء تاريخيين .. وكانوا لا يتورعون عن وصفنا رغم كل الذي حصل ويحصل بالرجعية ! ولذلك استباحوا أن يفسدوا علينا للشرطة وإلى حد الإفتراء . فكان أحدهم إذا عنّ له خرج من المهجع وتوجه إلى الرقيب أو الشرطي وابتدره بالقول : سيدي أنا بعثي .

وجعل بعد ذلك يخبره أننا ننظم داخل المهجع دروساً ولنا من بيننا شيخ نتبعه .. وأننا ندعو في دروسنا في المهجع إلى الجهاد ! ولطالما تسبب ذلك في إخراجنا جميعاً إلى الباحة لننال عقوبة جماعية بسبب هذه الإفتراءات .

ولا زلت أذكر من أسماء أولئك اليمينيين واحدا اسمه حسين الحافظ ، وآخر اسمه يعقوب يعقوب ، وثالث لقبه أبو علي .. كانوا كلهم من هذه الشاكلة . وأما من كان صاحب فكر ووعي من اليمينيين على قلته فقد تحول إلى الحق وأعرض عن سفاسف مجموعته منحازاً إلى الإسلام ، وشهدنا منهم من هذا النموذج من أحجم عن ذكر اسمه الآن سائلاً الله له السلامة و الثبات .

الشيوعيون المدللون !

وإذا كان هذا هو حال البعثيين العراقيين معنا فإن الشيوعيين الذين أحسسنا بوجودهم عام 84 كانوا في منزلة أخرى . ففي ذلك العام تم نقل الأخوات السجينات في مهجع المستوصف إلى سجن آخر . ولقد أحسسنا ذلك من خلال توزيع السخرة . فوقتذاك وفي ظل الإنفراج النسبي أوكلت إلينا مهمة توزيع الطعام على مهاجع الباحتين السادسة والسابعة ، وكان المستوصف ضمن هذا النطاق . لكن "البلدية" الموكلين بجلب الطعام أعلمونا في يوم من الأيام بالتوقف عن تقديم السخرة لمهجع المستوصف . وكنا قبل يوم مضى قد لمحنا رتلاً من النساء يغادر المهجع وقد قارب عددهن العشرين أو زاد عليه ، فأدركنا أنهن غادرن هذا المكان ، وسألنا الله تعالى لهن ولنا الفرج والنجاة . فلما خلا المكان أتوا بالشيوعيين إليه . فكنا نلمحهم بعض الأحيان ونسمع بوجودهم . ولما انتقلت إلى مهجع 29 لاحقاً صرنا متجاورين على باحة واحدة . وأصبح من الممكن لي أن أراهم بشكل متواصل وأطلع على وضعهم مباشرة . وكان أمراً مثيراً للعجب أن حالتهم كانت تختلف عن كل بقية السجناء تمام الإختلاف . فكانوا يطلقون شعورهم .. ويخرجون للتنفس بشكل دائم . ويتحدثون فيما بينهم ومع الشرطة بحرية كاملة .. ويدخنون ويطبخون ويستقبلون الزيارات بشكل متواصل . ولم نرهم يعذبونهم أو يضربونهم أبداً .. ولم نسمع بتنفيذ أحكام بالإعدام فيهم . ولم يكن عددهم يجاوز الأربعين .

مصيدة الطليعة !

ومضت الأيام ظاهرها الإنفراج وحقيقتها لؤم صرف وجشع وخسة تعصرنا من كل جنب عصراً . وخلال ذلك لم تتوقف دفعات القادمين الجدد إلى المهاجع مثلما لم تتوقف عمليات الإعدام . وكلما أخذوا من السجناء مجموعة للإعدام أحضروا مجموعة من المعتقلين الجدد بدلاً عنهم . لكن الحدث الجديد الذي زاد الطين بلة والعذاب عذاباً وقتها كان نجاح النظام في استدراج مجوعات من تنظيم الطليعة إلى سورية واعتقالهم جميعاً في خطة محكمة أوقعت عدنان عقلة نفسه بين أيدي المخابرات .

وكان استقبال شباب الطليعة غاية في الوحشية والفظاعة . وفي البداية تم عزلهم في مهجع خاص بهم صبوا عليهم فيه ما لا يوصف من العذاب .. حتى سلخوا جلودهم وهشموا أطرافهم وتركوهم من غير علاج يعانون أشد المعاناة .. إلى أن تعفنت أرجلهم المتقيحة وتفتحت جروحهم المتعفنة وسرت فيهم الغانغرينا فقضت على عدد غير قليل منهم . وبعد مدة وزعوا من بقي من هؤلاء الإخوة على بقية المهاجع ، كان منهم أخ من حلب التقيته اسمه أيمن عنجريني تم إعدامه فيما بعد . وآخر لم ألتقه ولكنني سمعت عنه وبلغني أنه أعدم بعدها وهو طاهر العلو من قرى حلب . ومن هؤلاء سمعنا بما جرى .. وبلغتنا أخبار الأحداث بالترتيب .. بدءاً بالشَرَك الذي أوقعهم فيه النظام عبر عميل مدسوس في صفوف التنظيم اسمه محمد جاهد دندش ، وانتهاء بوحشية التعذيب الذي لاقوه قبل أن ينقلوا إلى مهاجعنا .

وملخص ما حدث مع تنظيم الطليعة الذي توزع أكثر أعضائه بين الأردن العراق بعد أحداث حماة أن قيادته قررت العودة إلى الداخل لمعاودة بناء قواعدها وبدء مواجهة جديدة مع النظام . فالتقط جاهد دندش هذا الخيط وأوحى للطليعة أنه قد أمن لهم الطريق الآمنة والأدلاء الخبراء لإيصال العناصر إلى حلب . وبدء نزول الشباب عن طريق الحدود التركية السورية مجموعة بعد أخرى يتقدمهم عدنان نفسه . كان جاهد والمخابرات السورية يستقبلونهم أولاً بأول دفعة وراء دفعة ويرسلوا إلى قيادة الطليعة في الخارج الإشارة المتفق عليها فيما بين النازلين والقيادة إشعاراً بسلامة الوصول . حتى اكتمل نزول قرابة السبعين أخاً سقطوا جميعاً بين أيدي النظام لا حول لهم ولا قوة .

ولم نعلم عن مصير عدنان عقلة نفسه شيئاً مؤكداً ، إلا أن بقية الإخوة تنقلوا من فرع العدوي إلى التحقيق العسكري فتدمر . وزاد من معاناتهم ومعاناتنا معاً أنهم كانوا شديدي الإنغلاق على أنفسهم مثلما كانوا شديدين وجريئين في أحكامهم على قيادات الإخوان وتقييمهم لهم . وكانوا بعد هذا الإحباط الذي أصابهم والمشاكل التي عانوا منها من قَبْل مع قيادة الإخوان لا يتورعون عن وصمهم بالخيانة والعمالة ، ويحملونهم مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في حماة وفيما قبلها وبعدها . الأمر الذي استفز عناصر الإخوان في المهجع وهم يرون قياداتهم التاريخية ورموز تنظيمهم تجرّح على الملأ ، وأحدث بيننا سبباً جديداً للقلق وللتوترات .

أين الخلل ؟

وتسبب هذا اللغط بحدوث فجوة كبيرة حقيقة الأمر بين أهل المهجع .. وطفت على السطح لأول مرة خلافات التنظيمين بهذا العمق لتنعكس علينا ونحن كلنا أسرى المحنة نفسها . لكن الأخطر من ذلك انعكاس هذه المهاترات على نفوسنا وقناعاتنا الداخلية . فمن قبل لم نكن نعرف عن هذا الخلاف الكثير .. وأكثر ما كان يبلغ أسماعنا في السابق الحديث عن الخلاف بين جماعة الأستاذ عصام العطار والقيادات الأخرى . وكان الخلاف يبدو لنا فكرياً محضاً .. لم يتسبب في إراقة دماء أو وقوع أحد في براثن النظام . ولم يكن الحديث عن ذلك الخلاف يصل بين أطرافه إلى هذا الحد من الإحتداد . أما الآن وبعد أن رأينا الذي رأينا وسمعنا اللغط والإتهامات التي سمعنا صرنا نتساءل في سرائرنا عن حقيقة ما حدث . ونراجع حساباتنا ونقلب دفاترنا العتيقة في خبايانا ونتساءل : هل كان الناس الذين مشينا وراءهم من هؤلاء أو أولئك على هذه الحال فعلاً ؟ هل هناك عملاء ومدسوسون في تلك القيادات التاريخية بالفعل ؟ هل هو دخان من غير نار .. أو أن الأمر مجرد مبالغات وردود فعل وحسب ؟ وإذاً فما مقدار الخلل الحقيقي .. وأين موقعه .. ومن المسؤول عنه ؟

ولقد زاد من تشابك الموضوع وتعقيده أن الذين أخذوا يشاركون فيه لم يكونوا كلهم من أهل الإنتماء بالأصل . ولم يكن لدى الجميع قدر واحد من التربية ومن المعرفة أو من الحكمة .

وواقع الأمر فقد أدى فتح الجروحات العتيقة تلك بعد هذه السنوات المريرة من العذاب والقتل والموت إلى إحباط نفسي لدينا ، وأوقعنا في فتنة جديدة كنا أشد الناس حاجة للبعد عنها ، وأحدث في صفوفنا شرخاً كبيراً ترك أثره العميق فينا .. وبقيت ظلاله الداكنة تحز في القلوب إلى يومنا هذا .. وتوجع كلما تحركت أكثر مما أوجعت كل عذابات الجلادين الظلمة .. وتؤلم أشد من ألم السياط بكثير .

تصفيات جماعية

وما لا ينسى من أيام عام 1984 المريرة أننا شهدنا فيها أحد أكبر عمليات الإعدام الجماعي إن لم تكن أكبرها على الإطلاق . فبعد انقطاع تنفيذ الأحكام عدة أشهر في تلك الفترة فوجئنا بالمشانق تنصب ذات يوم في الساحة السادسة بأعداد كبيرة ،وراح الزبانية يخرجون من الإخوة المعتقلين فوجاً إثر فوج إلى حتفهم . يومها قدّر الإخوة الذين تمكنوا من مشاهدة جانب مما يجري من خلال شق في الباب عدد الذين أعدموا بمائتين من غير مبالغة ، كان من بينهم كما بلغنا الأخ يوسف عبيد من دمشق . ومع تسرب الأخبار فيما بعد قدرنا أن تلك الإعدامات ترافقت مع حالة النزاع التي حصلت بين رأسي النظام حافظ الأسد وأخيه رفعت ، والتي شهدت حشودات عسكرية حقيقية بينهما . وفسرنا ما حدث بأن رفعت كان يهيؤ نفسه لاستلام الحكم بعد المرض الذي ألم بأخيه ، ولذلك أراد أن يصفي أكبر قدر ممكن من السجناء وينهي كل خطر مستقبلي محتمل .

المدير الجديد !

ولكن الأخ الأكبر تعافى بقدرة قادر ، وعاد يمارس سطوته على البلاد والعباد ، وهاله أن يجد النخر دبَّ في أركان النظام وبين رؤوسه المقربين ، فبدأ - مثلما تسرّب بعد ذاك - حملة تطهير وإعادة توزيع للأدوار . وفي هذا السياق طالت التغييرات إدارة سجن تدمر ، ووجدنا الشرطة العسكريين يطلبون رؤساء المهاجع لاجتماع مشترك في شهر تشرين الأول من عام 1984 . وذهب رئيس مهجعنا فيمن ذهب ، فلما عاد بعد قليل ونحن متلهفون لسماع الأخبار أخبرنا أن مدير السجن قد تغير ، ورحل معه مساعد الإنضباط وسمسار الضحايا محمد الخازم . وأن المدير الجديد هو مساعده ونائبه النقيب زكريا العش . وأنه اجتمع بهم وهم مغمضو العيون وحذرهم من أن التراخي الذي ساد في الفترة الماضية قد انتهى .. وعاد النظام الآن وعاد الإنضباط . ورجع نظام إقفال العيون أمام الشرطة .. والويل كل الويل للمخالفين !

ولم تمض برهة من الوقت ونحن لم نكد ننتهي من أسئلتنا وتساؤلاتنا بعد حتى حضر الشرطة لأخذ التفقد . فصاحوا فينا فور دخولهم أن نغمض أعيننا ونقف بوضع الإستعداد . وما لبثوا أن ساقونا إلى خارج المهجع وانقضوا علينا ضرباً وصفعاً وجلداً حتى سلخوا جلودنا . وبدأنا من يومها مرحلة جديدة من الشدة والعذاب . وعاد التفقد الصارم والتنفس المقيت والقتل والتعذيب والإهانات . وكان الإعفاء الوحيد للمسلولين من الحمام رحمة تقينا عذاب تلك الساعة ، لكنهم سرعان ما عوضوها بمضاعفة العذاب علينا في التنفس !

وتوقف بث الإذاعة عنا من حينها . وصدر الأمر من ذلك الوقت بتكميم أفواه الخارجين للإعدام فلم يعد يسمع لواحدهم قبل أن يطوق عنقه حبل المشنقة صوت ولا تكبير . وعاد البطش أشد علينا من السابق . ثم لم يلبث أن اشتد أكثر وتضاعف بحضور المدير الجديد اللواء غازي الجهني لاستلام منصبه بعد قرابة شهرين . فارتفعت وتيرة البطش إلى أقصى درجاتها . وعاد الشرطة إلى ممارسة التعذيب الوحشي من جديد . حتى أنهم أخرجونا في أحد الأيام للتنفس مغمضي العينين كالعادة تلاحقنا السياط والعصي والكرابيج . فكان قدر أخ من حلب اسمه عبد الباسط دشق أن تصيبه ضربة من هؤلاء الزبانية على عينه مباشرة فتفقأها . فعاد المسكين عندما عدنا تغطي الدماء وجهه ، وهو لا يكف عن التقيؤ من شدة ألمه . وعندما دق مسؤول مهجعنا الصحي وقتها الأخ علي عباس من ادلب ليخبر الشرطة بحال الأخ ، لم يجرؤ أن يقول لهم أن أحداً منهم أنفسهم فقأ عينه ، بل اعتذر وسألهم العفو وهو يقول لهم بأن أحداً من مهجعه سقط في الحمام ففقئت عينه !

لكن أحداً لم يبال ، ولم تسفر المحاولات المتكررة عن شيء . وحينما تكرم طبيب السجن وحضر لمعرفة سبب شكواه بعد يومين أو ثلاثة لم يزد عن أن أعطاه بضع حبوب مسكنة ومضى . وظل المسكين يعاني عذاباً لا يوصف شهوراً عديدة من غير أن يهتم به من هؤلاء الزبانية أحد .

تأديب !

وعلى الرغم من هذا البطش أو ربما بسببه قام واحد من المعتقلين اليافعين من ادلب من بيت سيد عيسى نزيل مهجع الأحداث 36 بالتصدي ذات يوم لواحد من الشرطة آذاه كما يبدو في الباحة أثناء التنفس فهجم عليه الشاب وضربه . ورغم أن الحادثة كانت عفوية لا تعدو أن تكون ردة فعل انفعالية وحسب ، وعلى الرغم من أن الشرطي رد عليه وقتها وأشبعه ضرباً ، إلا أن الأمر أخذ بعداً كبيراً . فأدخلوا السجناء إلى المهاجع كلهم ، وحضر مساعد السجن الجديد محمد نعمة بنفسه يحقق في الأمر . وأخرجوا الأخ المسكين فأجلسوه في الدولاب وانهالوا عليه ضرباً وجلداً حتى كادوا يزهقون روحه . وبعدما انتهوا أخرجونا نحن سجناء الباحة السابعة كلنا وضربونا ضرباً مبرحاً حتى يؤدبوننا ويقتلون فينا أي مشاعر محتملة بالتمرد . ولذلك لم يكن الإخوة يردون على أذى الشرطة واعتداءات جلادينا لسببين : فهم يعلمون أولاً أن النتيجة محدودة إن لم تكن منعدمة ، فيما سيكون الخطر متحققاً وغير محدود ، وربما أفضى بالشخص إلى الهلاك . ولخشيتهم ثانياً أن تتسبب أعمال كهذه في إيقاع الأذى ببقية السجناء من غير سبب ولا حاجة . وكان الشعور السائد أننا وقعنا بأيدي الظلمة بقدر الله ، وأننا إذا احتسبنا وصبرنا فهو خير لنا من أن نتسبب لنا ولمن حولنا بمزيد من المفسدة والأذى .

آية الله في أبي عوض !

غير أن الرأي لدى بعض الإخوة كان مختلفاً بعض الشيء كما يبدو . والصبر على هذه الأهوال وقد فاض الكيل انتهى بهم إلى قرار الإنتقام من أجير الإدارة وكلبها الخسيس أبي عوض . الذي بلغ تطاوله مدى لا يسكت عنه .. وتجاوزت وقاحته حدود العفة والأخلاق . فاتفق عدد من شباب المهجع 26 على تأديبه ونفذوا ما اتفقوا عليه . فاجتمعوا وانهالوا عليه ضرباً لم يكن له أن يرده . فلما قلب أبو عوض الأمور وفكر وقدر .. وجد نفسه قد انكشف وتحطمت هيبته الواهية . ورآها كأنما فرصة ترفع منزلته لدى المدير الجديد . فطلب مقابلة الرقيب فجأة وأخبره بأن لديه أخباراً مهمة يريد أن يوصلها للإدارة . ولما سأله عن نوع هذه الأخبار قال له أبو عوض إنه اكتشف وجود تنظيم للإخوان داخل المهجع . فكانت هذه العبارة أكثر من كافية لتستنفر الرقيب والمدير وكل الزبانية على هذه الحفنة من السجناء المساكين .

واقتحم الشرطة المهجع على الفور ينتظرون الإشارة ليفتكوا بالمساجين . فلما رأى الإخوة الأمر بهذه الخطورة قرروا أن يقفوا صفاً واحداً في وجه افتراءات أبي عوض وتسلطه . وجعلوا يخبرون الرقيب بكل مخالفاته وسرقاته والرشاوى التي أخذها والإنحرافات التي أحدثها . وأكدوا له أن اتهامات أبي عوض محض اختلاق . وأنهم أمامه جميعاً مستعدون لتحمل أشد أنواع العقوبات إذا ثبت من تلك الإتهامات شيء .

وسبحان من جعل الشرطة يصدقون السجناء هذه المرة . لا ندري أهي غيرة من أبي عوض الذي بات يتمتع بمزايا ويجمع من الأرباح والأموال ما لم يتح حتى للشرطة العسكرية أنفسهم .. أم أن الأمر أتى انسجاماً مع عهد المدير الجديد الذي أراد أن يساوي المساجين كلهم في العذاب والمعاناة ويفرض هيبته على رموز العهد البائد ! كل الذي دريناه وعلمناه أن الرقيب أمر أبا عوض وقد بُهِت أمام جرأة الإخوة أن يجمع أغراضه ويخرج . ومن رئاسة مهجع 26 اقتيد أبو عوض إلى الحلاق هذه المرة فجز شعره وشاربيه ، ثم ألقي به في مهجع 31 مجرداً من كل صلاحياته السابقة .

ودارت الدائرة على أبي عوض . وجعل الشرطة منه هدفاً معلّماً يخرجونه إلى الباحة كل يوم لينال عذاباً مستقلاً . وصرنا نسمع صياحه وتوسلاته تصم الآذان .. وصراخه يملؤ السجن كله . حتى سلخوا جلده من القتل وحطموه من التعذيب . وظل ستة أو سبعة أشهر على هذه الحال يذوق وبال أمره ويكتوي بسيف أسياده أنفسهم . وفي أواخر عام 87 نقل أبو عوض إلى سجن صيدنايا مع مجموعة من السجناء . فأنجانا الله من شره ومكره . وأرانا آية باهرة فيه لا تنسى .

المحكمة !

وانتهى العام .. ومضت أيام عام 85 على نفس الوتيرة من العذاب والقهر والمعاناة .. لتمضي قرابة خمس سنوات على اعتقالي .. حكم خلالها من كان من دفعتي بما حكم ، ونفذت الإعدامات بمن كان نصيبه حكم الإعدام ولم تتم محاكمتي أنا بعد . ولقد كان ذلك مصدر قلق دائم لي . فالمصير الواضح يظل في النهاية أخف من انتظار المجهول . والأعمار كلها بقدر الله أولاً وأخيراً .

وفي يوم 30/3/1985 وحوالي الساعة العاشرة فتح الشرطي شراقة الباب في مهجع السل 35 وتلى أسماء عدد من السجناء من لائحة بيده مطلوبين للمحاكمة ، كان من ضمنهم اسمي أنا واسم أخوين آخرين من مهجعنا . وخرجنا أنا والأخ حزين قاسم محاميد من المعرة وهو ابن دفعتي أيضاً ، وثالثنا أخ من قرى حلب خريج المدرسة الشرعية من بيت المصطفى فيما أذكر . وفي باحة الذاتية تم تجميعنا قرابة السبعين أو ثمانين شخصاً مغمضي الأعين مكبلي الأيدي وأمرونا أن نجلس القرفصاء وجوهنا للجدار وظهورنا كالعادة باتجاه الشرطة الذين لم يكفوا عن ضربنا وركلنا ولطمنا بالعصي والخيزرانات والكرابيج .

وبعد قرابة الساعتين من الضرب والشتم والتعذيب وصل دوري ونادى المنادي اسمي فرفعت يدي بالإجابة . وعلى باب الغرفة التي تتم فيها المحاكمة أمرني الرقيب أن أفتح عيني واقتادني إلى كرسي أمام القاضي وأجلسني عليه . لكنني بقيت من خوفي وتحسبي مغمض العينين مطرق الرأس حسب التعليمات . فناداني هذا الرجل القابع وراء المكتب باسمي وقال لي أن أرفع رأسي وأنظر إليه .

فعلت ما قال صاحب الصوت .. ونظرت فرأيت رجلاً قصير القامة أصفر الوجه لئيم النظرات .. يتدلى حول شفتيه شاربان رفيعان يخضبهما الشيب فكأنهما شاربا فأر عجوز . يتوسط شخصين آخرين عن يمينه وشماله .. قدرت أنه سليمان الخطيب الذي طالما تحدث الإخوة عنه وقصوا من قصص لؤمه وخَبَله الكثير !

من نظمك ولا ؟

هكذا ابتدرني سليمان الخطيب بالسؤال .

قلت : سيدي أنا مش منظم .

قال : شو اسمك إنت ؟

محمد سليم حماد سيدي .

قال وهو يمعن النظر في إضبارتي : انت أردني ولا !

نعم سيدي .

ما بكفينا هالعرصات اللي عنا ولا .. انت جاي كمان هون تقاتل معهن ؟

قلت له : سيدي أنا ما قاتلت ولا عملت شيء .

وعاد يقرأ في الإضبارة للحظات ثم سألني :

شو علاقتك مع سالم الحامد ؟

قلت وقد تبين لي أنه لم يطلع على الملف من قبل : كنت أعرفه من الجامعة .

ومن غير أن يزيد أو ينقص عقد سليمان الخطيب حاجبيه وقطب جبينه ثم التفت نحوي وصاح :

نحنا عم نحكم الناس هون بالإعدام .. وإنت لازم نشنقك من بيضاتك !

واتجه بنظره إلى الرقيب وقال له وقد قضي الأمر : خذه .

وكانت تلك نهاية محاكمتي . ومضيت عائداً إلى الرقيب لا أكاد أحس لشيء من حولي بطعم أو معنى . فلما أعادني بدوره للشرطي أمرني ذاك ومن غير مقدمات أن أفتح يدي . فلما فعلت هوى بالكرباج عليهما ثم أمرني أن أجلس مكاني .

وتتابع دخول الإخوة إلى المحاكمة وخروجهم منها . حتى إذا انتهت الدفعة عادوا بنا كل إلى مهجعه . وأقبلت على الأخوين الذين خرجا من المهجع معي أسألهما عن الحكم فأخبراني أنه الإعدام أيضاً . لكن ذلك لم يكن بعد هذا الذي رأيناه طوال السنوات الخمس الماضيات يعني لنا الكثير . فالموت في هذا المكان متوقع في كل لحظة .. وهو إذا حدث خاتمة الأحزان وباب الفرج . ووالله ما رأيت أحداً ممن خرج إلى الإعدام كل هاتيك السنوات التي قضيتها هناك اختلجت له شعرة .. الكل كان إذا دنت ساعته مقبلاً غير مدبر . وإذا طلبوه بادر بنفسه يستبق إلى الباب رغبة منه بالشهادة ولقاء الله .

بقرة أبي سليمان !

ومن المضحكات المبكيات التي لا تزال عالقة بذاكرتي عن أيام المحاكمات وحكاياتها أن أخاً ممن عرضوا على المحكمة كان طبيباً بيطرياً من منطقة الساحل السوري وكان يعمل في قرية دريكيش مسقط رأس سليمان الخطيب رئيس هذه المحكمة الهزلية . ولقد حدث أن أهل سليمان الخطيب كانوا يربون الأبقار كما يبدو . فلما مرضت إحداها أخذوها قدراً إلى ذلك الأخ ليعالجها . لكنها ماتت بقدر الله بعد ذلك . ودارت الأيام وإذ بالطبيب البيطري يقف أمام القاضي سليمان الخطيب نفسه . فلما عرفه اصفر واستفز وصاح فيه :

آبتذكر يوم جبنالك البقرة وقتلتها ولا ؟ روح بدي أعدمك .

ولقد تم إعدام الأخ المسكين بالفعل .

وسمعنا القصة من عدد من الإخوة كانوا معه في نفس المهجع التقيناهم بعدها . سمعوا الرواية من الطبيب وشهدوا بأنفسهم إعدامه رحمه الله !

ومما كان يتداوله السجناء عن عبثية تلك المحكمة وسخافة رئيسها ومزاجيته أن أحد العسكريين الذين كانوا يخدمون في مدرسة المدفعية بحلب أيام استشهاد النقيب إبراهيم اليوسف الذي نفذ حادثة المدرسة قبل ذلك بشهور . هذا العسكري أُمِرَ مع بقية الضباط والجنود في المدرسة بالمرور على جثة النقيب المسجاة والبصق عليها . ويبدو أن الأخ امتنع عن التنفيذ أو أحجم أمام هيبة الموت .. فاعتقلوه من ساعتها وساقوه من سجن إلى آخر لينتهي به المطاف بين يدي النقيب سليمان الخطيب هذا في محكمة تدمر . فلما سأله لماذا امتنع عن تنفيذ الأمر العسكري أجاب الأخ بأنه لم يمتنع ولكن ريقه كان ناشفاً . فاتجه سليمان الخطيب إلى كاتب المحضر وأملاه ليكتب :

.. وبصق وكانت بصقته ناشفة . إعدام !

وأعدم الأخ كذلك .. وظلت القصة تدور على ألسنة السجناء واحدة من مهازل هذا النظام واستهتاره وظلمه . وشاهداً على سفاهة ذلك القاضي الدعي ومزاجيته وحقده .


في انتظار الموت !

ومضت الأيام .. وبات الموت الآن أدنى إلينا نحن الذين حكمنا بالإعدام . وبعد شهرين .. وكما جرت العادة دوماً نصبت المشانق مع إطلالة الصباح واستعد الجلادون ، وبدأت جموع الشباب المؤمنين تساق إلى حتفها . وفتح باب مهجعنا ونادى الشرطي اسم الأخ الذي كان ثالثنا في المحكمة . لكن الذي حدث أنه رحمه الله كان قد مات قبل أسابيع قليلة بين أيدينا بعد أن غلبه السل وقضى عليه . فعاد الشرطي ومن معه يخرجون سجناء آخرين من المهاجع المجاورة . وأما أنا وما أن نادى الشرطي اسم الأخ حتى خلت منيتي قد حضرت . وإذا كانوا قد نادوا عليه فأنا وإياه قد حكمنا في يوم واحد .. وتنفيذ الحكم لابد وأن يكون في نفس اليوم أيضاً . وهرعت من فوري فصليت ركعتي الشهادة على عجل . وجعلت أخلع عني ملابسي ليستفيد منها الإخوة الآخرون من بعدي .. ووقفت عند الباب متوجساً أنتظر أن ينادوا علي . وجعل الإخوة يقتربون مني واحداً بعد الآخر يودعونني ويثبتونني .. وراحت الخواطر تأخذني يسرة ويمنة .. وعبرت صورة أهلي أمام ناظري فغصصت . وتوجهت إلى الله تعالى أدعوه بسري أن يلهمهم الصبر والسلوان .. وأن يجمعني معهم في الجنة . وأخذت أسأله سبحانه أن يغفر لي ويتغمدني برحمته .. وأنظر إلى الباب أنتظر أن يفتح اللحظة . فإذا مرت قلت هي اللحظة التالية . لكن الوقت مر .. وانتهى تنفيذ الأحكام .. وهدأت الأمور في الخارج ولم يأت أحد . فلم أجد إلا أن أرتد إلى مكاني كما يرتد الغريق من غيبوبة الإختناق إلى صحوة الحياة .

وأيقنت أن في العمر بقية لم تزل ، وأن الأجل لم يحن بعد . ومضت أسابيع أخر .. واستعدت ساحتنا لتشهد مجموعة جديدة من أحكام الإعدام . وعاد الشرطي إلى مهجعنا فنادى الأخ الآخر حزين قاسم الذي حكم معي .. وساقوه إلى الموت وأنا عند الباب أنتظر دوري كما فعلت المرة السابقة . لكن أحداً لم يحضر لطلبي . وانتهت عملية الإعدامات كذلك من غير أن أكون أحد ضحاياها . وأخذت كلما سيقت إلى الإعدام دفعة من الإخوة أكرر ذات الموقف طوال السنوات الخمس التي تلت ! لا أشك في أي مرة منهن أن دوري قد حان الآن . وأحس أن خطأ ما قد حدث في المرات السابقات ولسوف يصححونه هذه المرة ويقودونني إلى أجلي لا ريب !

تقنين الطعام !

ومرت الأيام والشهور ولم يحن الأجل .. وخلال ذلك تم نقلي من مهجع 35 إلى مهجع السل 37 فالتقيت وجوهاً جديدة ، وتعرفت على إخوة لم يسبق لي أن التقيتهم من قبل . لكن الظروف كانت متماثلة ، والمعاناة ظلت واحدة . وزاد البلاء حينما طبق علينا نظام تقنين الطعام ابتداء من شهر أيلول 1986 فصار نصيب أحدنا من الخبز نصف رغيف فقط بدل الرغيفين الذين كنا نحصل عليهما في السابق ! وصرنا من جوعنا نأكل قشرة الصمونة مع واحدة من الوجبات ونوفر العجين بلبّها الذي لم ينضج للوجبة الثانية بعد أن اعتدنا في الفترة السابقة على رميه لأنه يصيب آكله بوجع البطن ولا يقي من الجوع . لكنا مع شدة الحاجة صرنا نعجنه مع البصل والملح ونوفره للوجبة التالية . ويوم أن كان يأتينا البرتقال كنا نقدمه على البصل فنمزجه بقشره مع العجين ، ونرش على الخليط ما توفر لنا من السكر ونحتفل به وكأنه طبق من الحلوى !

اليرقان

وهكذا انتشرت المجاعة في السجن وازدادت الأمراض وتزايد عدد الوفيات . حتى صرنا نودع في بعض الأحيان أخاً وأخوين كل يوم . وفي تلك الفترة وزيادة على البلاءات التي نحن فيها دهمنا عن غير ما موعد وباء اليرقان الكبدي .. فجعل الضحايا يتزايدون . ولخطورة هذا الوباء دعت إدارة السجن رؤساء المهاجع جميعاً إلى لقاء مشترك لتدارك الأمر . وكانت خشية الإدارة في مثل هذه الأحوال تنصب على المسؤولين وأفراد الشرطة بالدرجة الأولى . خوفاً على أنفسهم وخشية من أن تطولهم العدوى إذا انتشرت فينا . ولقد وفق الله أحد المسؤولين الصحيين وقتها فأبدى قناعته بأن الوباء إنما ينتشر عن طريق الدم بالدرجة الأولى . وأن ذلك يتم خلال الحلاقة الجماعية . ومن لطف الله أن إدارة السجن اقتنعت بكلامه . فتقرر من وقتها وقف الحلاقة الجماعية . وتم تسليم رئيس كل مهجع ماكينة حلاقة يدوية . يكون مسؤولاً عنها وعن أمر الحلاقة الدائمة لمهجعه . فرحمنا الله من عذاب الحلاقة من يومها . وخلصنا سبحانه من بعض هذا الضنك .

منع الصيام

واستمرت المحنة تدور رحاها من غير رحمة . ولم يعد للأيام ولا السنوات في حياتنا معنى .. فالبرنامج اليومي لا يكاد يتغير . والعذاب والمعاناة لا تترك لواحدنا فرصة التقاط الأنفاس . والقتل والإعدامات قتلت فينا شهوة الحياة وأطفأت معنى المستقبل لدينا . وهكذا حل عام 86 متصلاً بمأساة الأعوام التي سبقته وواصلاً إياها لما بعده من أعوام تلت . وفي بداية ذلك العام كان قد جرى نقلي إلى مهجع المسلولين 29 في الباحة السابعة وصرت رئيساً له منذ ذاك . ولم يكن في الساحة التي عليها المهجع إلا مهجع ثان فقط هو مهجع 30 إضافة إلى المستوصف الذي تم تخصيصه للسجناء الشيوعيين كما ذكرت . فكان نصيبنا من التنفس مضاعفاً . وبدل أن يكون مرة في اليوم كما جرت العادة فقد أصبح مرتين الآن صبحاً ومساء . ساعة في كل مرة بدل أن تكون نصف ساعة كما سبق . وهذا يعني مزيداً من العنت والقتل والتعرض لأذى الشرطة المتربصين .

ولقد اشتد أذى الشرطة في تلك الفترة زيادة عما هو عليه وتمادوا في عدوانيتهم . فكنا إذا خرجنا إلى التنفس في الصباح أو في المساء جهزنا أنفسنا لحفل كامل من التعذيب ينتظرنا . ولكم كان يحلو لهؤلاء الزبانية أن يبطحوا واحداً منا على الأرض ويأخذوا بالقفز على ظهره أو على صدره بلا رحمة . ولكم تكسرت أضلاع إخوة منا في هذا النوع من التعذيب . ولا أنسى كيف قام واحد من هؤلاء الموتورين مرة بإخراج عضوه على مرأى الناس جميعاً وأخذ يبول علينا ونحن جالسين القرفصاء بين يديه في موعد التنفس ! وأما الجلد والضرب والمسبات البذيئة فهذه كلها لم تعد تدخل في الحساب لأنها جزء لازم من حياتنا على مدار السنوات التي خلت . ومما لا يزال واضحاً في ذاكرتي عن ذلك العام أنهم منعوا فيه الصيام عنا في رمضان لأول مرة . فمن قبل كانوا يأتون لنا بالسحور والفطور بدل وجبات الطعام المعتادة . لكنهم وابتداء من رمضان عام 1986 امتنعوا عن ذلك . وصارت الوجبات الثلاث على فقرها تأتينا في مواعيدها العادية . وصار ممنوعاً ادخار الطعام إلى الفطور أو السحور . فإذا أحسوا أن أحدنا صائم أخرجوه وقتلوه قياماً وقعوداً وأجبروه على الإفطار . وهكذا صرنا ممنوعين من الصلاة ومن الصيام معاً . وزادنا الزبانية بذلك هماً جديداً وقهراً وعذاباً من نوع آخر .

كذلك يحضرني من ذكريات عام 1986 المريرة إعدام العميد أحمد غنوم الذي اعتقل منذ عام 1980 وظل طوال تلك السنين يعاني عذاباً مضاعفاً من الشرطة الحاقدين الذين كانوا يتلذذون بتعذيبه رحمه الله ، ويحسون بالنشوة وهم يرون إنفسهم يتحكمون بهذه الرتبة العسكرية العالية وهم مجرد أفراد مجندين في التسلسل العسكري .

اختناق

ومع اشتداد الكرب وتوافد المزيد من السجناء على المهاجع التي اكتظت بنزلائها حدثت في شهر آب من عام 87 حادثة مثيرة . ففي ذلك الشهر الذي يسمونه آب اللهّاب ارتفعت الحرارة بشكل غير معقول في الوقت الذي كانت التهوية في المهاجع منعدمة والشراقات والنوافذ تجلب المزيد من السخونة ولا تقي من وهج الشمس شيئاً ، مما تسبب في حادثة اختناق جماعي كادت تودي بأرواح العشرات .

ولقد بدأ الإختناق وقتها في مهجع السل 36 قبيل المغرب وأخذ السجناء الذين شارفوا على الموت يقرعون الباب وينادون الحرس وقد طاشت منهم العقول وشارفوا على الهلاك . فلما أتوا يسألونهم عم حدث صاحوا فيهم أنهم يختنقون . لكن الشرطة لم يأخذوا الأمر مأخذ الجد وتلكأوا في الرد عليهم . ففقد السجناء المساكين عقولهم وقد قاربوا أن يفقدوا أرواحهم جميعاً ، وأخذوا يقرعون الباب ويدقون على الجدران ويرفعون أصواتهم بالصراخ والمسبات .

وسرعان ما صدرت الأوامر للشرطة فانتشروا على أسطحة مهاجع الباحة كلها ، وسلطوا الرشاشات الكبيرة 500 مم على المهجع خشية أن يتطور الأمر إلى تمرد أو عصيان جماعي ، ثم فتحوا الباب للسجناء ليخرجوا إلى الباحة . وما أن فعلوا حتى اندفع الإخوة من غير وعي لا يلوون على شيء . وارتموا على الأرض يتلوون ويتقيأون . وحضر طبيب السجن وقتها وتأكد من جدية الأمر . ولم يلبث أن صدر الأمر بإخراج سجناء المهاجع كلهم إلى الباحات تفادياً لتكرار الأمر . وبقينا يومها في الهواء الطلق حتى قرابة الساعة الثانية بعد منتصف الليل قبل أن يعيدونا إلى مهاجعنا . ومن يومها وعلى مدى أسبوعين تاليين ظللنا نخرج إلى التنفس مرتين في اليوم من غير ضرب أو تعذيب . وسمحوا لنا وقتها أن نرش أرض الباحة الإسمنتية بالماء للتخفيف من حدة الحر . ثم لم تلبث هذه الإستثناءات أن انتهت . وعدنا إلى برنامج المعاناة نفسه . فنجونا من الحر القاتل ومن الإختناق ولكن إلى حين !

تنقلات

مضت أيام قليلة على حادثة الإختناق تلك لأراني أنقل من مهجع السل 29 إلى مهجع جديد للأصحاء بنوه أمام مهجع 25 في الباحة السادسة أطلقنا عليه اسم "جديد ظهره" . فوجدتني في مساحة غرفة ونصف محشوراً مع مائة وعشرين سجيناً نكاد من شدة الزحام أن نجلس فوق بعضنا البعض !

ولقد تم اختياري رئيساً لهذا المهجع أول ما دخلناه . فلما رأيت الحالة على هذا الشكل اندفعت مع أول وجبة طعام يحضرونها إلينا وقلت للمساعد أن العدد كبير هنا . ومن غير أن يجيبني بشيء مضى المساعد وأرسل الشرطة بعد قليل فأخرجوني وأطعموني قتلة قياماً وقعوداً رجعت منها إلى المهجع محملاً !

لكن الحر لم يكن ليرحمنا .. والمكان يطبق علينا بجدرانه الصماء فكأنه القبر . ولم تمض أيام قلائل حتى طفح الكيل بنا وفقدنا القدرة على التحمل . وجعلنا قرابة منتصف الليل ننادي الشرطة وندق الباب ونقفز نحو النوافذ نكاد نختنق . وعاد الشرطة فأخرجونا إلى الباحة ساعة زمن ثم أعادونا . ثم لم يلبثوا وأن عادوا وطلبوا عشرين شخص منا ليغادروا إلى مهجع آخر فكنت في طليعتهم . ووجدتهم يقودوننا إلى مهجع 28 في نفس الباحة .

فكانت فرصة لي للنجاة من الإزدحام من جهة ، والتعرف على إخوة جدد من ناحية أخرى . كان من أبرزهم الشيخ محمد سعيد عطا أحد تلاميذ الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي . فاستفدت من علمه ومن صحبته .


كذلك التقيت في مهجع 28 رجلاً من بيت العطار من حلب وجدت الإخوة يجهدون في مداراته وخدمته والتخفيف عنه . ولم ألبث أن أعلموني أن المسكين شهد سَوْقَ أولاده الإثنين إلى الإعدام أمامه وهما في مقتبل العمر . وما زاده ذلك إلا إيماناً وتسليماً .

مغادرون .. وقادمون !

ولم تطل إقامتي في مهجع 28 كذلك ، فلم ألبث أن نقلت من جديد إلى مهجع السل 18 في الباحة الرابعة فكانت محطة قصيرة أخرى ، حدث خلالها أن قامت إدارة السجن بنقل الشيوعيين ومجموعة أخرى من السجناء الأحداث إلى سجن صيدنايا الذي بني حديثاً وقتها . فلما خلا المستوصف من الشيوعيين نُقلت إليه مع مجموعة من السجناء الآخرين . ثم لم نلبث في هذه الفترة العصيبة أن تناهى لأسماعنا وصول دفعة جديدة من المعتقلين حلوا بدلاً عن المغادرين إلى صيدنايا . ولقد بلغنا أن الوافدين الجدد اتهموا بحوادث تفجير باصات وقطارات وقتها ، وأن عددهم كان بين الستين والسبعين ، عزلوهم كلهم في مهجع مستقل وسلطوا عليهم أشد أنواع العذاب حتى قضى عدد منهم حتفه . ولقد كنا نسمع أصواتهم وهم يعذبون ونتلقى نتفاً من أخبارهم من هنا وهناك ، غير أننا لم نلتق بهم ولم نعرف عن مصيرهم شيئاً مؤكداً بعد ذلك .

وبعد أن مكثت هناك فترة تم نقلي ثانية إلى مهجع 29 . ثم لم ألبث أن نقلت مرة أخرى إلى مهجع 28 . وبعد حوالي خمسة أو ستة أشهر تالية نقلت من جديد إلى مهجع 22 في الباحة الرابعة . وفي هذا المكان تعرضت إلى محنة جديدة كدت أن أفقد حياتي بسببها وقتذاك . ورأيت من الأهوال هناك ما كاد ينسيني كل هذا الذي رأيت وعانيت من قبل !

حتى في المنام !

كانت الأسابيع الأولى التي أمضيتها في مهجع 22 كالواحة التي فاجأت عابراً أنهكه العطش وهدّه التعب في صحراء قاحلة . فمن قبل كنا في المهاجع الأخرى معرضين ليل نهار لمراقبة الشرطة من فوق الشراقات . ولم نكن بذلك نأمن شرورهم بسبب كان أو من غير سبب . فلما جئت مهجع 22 وجدته من غير شراقات . ووجدتنا على الرغم من الشدة المحيطة وسوء الأحوال نغتنم هذه الفرصة ونتنعم بها أيما تنعم . فوقتها استطعنا من أن نعود إلى صلاة الجماعة ونؤديها بشكل طبيعي بعد أن حرمنا ذلك كل هاتيك السنين . وصار أحدنا إذا أراد أن يتحدث في الأوقات التي لا يتردد الشرطة فيها علينا وقف وتكلم وأنصت له الباقون وحاوروه وشاركوه .

كذلك كانت تلك الفترة استثنائية بالنسبة لتوفر الطعام أيضاً . فلم يكن عددنا قد جاوز الستين ولكننا كنا نتلقى طعاماً مخصصاً لحوالي المائة والخمسين وفق ما اعتاد الشرطة أن يحشروا في هذا المهجع وفي سواه . ولقد تم اختياري رئيساً للمهجع 22 أيضاً من أول ما وصلت إليه .

لكن هذه النعم لم تطل . ومع اشتداد الأحوال في السجن عام 1988 وازدياد الأوامر صرامة وقسوة فوجئنا بالإدارة تقرر فتح شراقتين في سقف المهجع 22 أسوة ببقية المهاجع الأخرى . وعاد التنفس ليصبح مرتين في الصبح وفي المساء . ومع كل موعد تنفس حفل تعذيب .. ومع كل فتحة باب للتفقد أو لإدخال الطعام حفل آخر . ولم تلبث أن صدرت إلينا الأوامر لأول مرة خلال فترة سجننا بالكامل أن نغطي أعيننا ونحن نيام ! وألزمونا أن يحتفظ كل منا بطماشة دائمة معه ليغطي بها عينيه حين النوم . علاوة على أن يكون النائم دائماً على جنبه باستمرار . فعدنا بذلك إلى وضعية الإنكشاف المستمر للشرطة الذين يتجولون فوق المهاجع باستمرار . وصار واحدهم إذا شاهد من الشراقة أحداً منا يتقلب في الليل خلال نومه أو يتحرك حتى ولو من غير إرادته صاح بالحرس الليلي أن يوقظه ويعلّمه . فإذا أصبح المسكين كان الشرطي وعذاب لا يعلمه إلا الله في انتظاره !

ولكم كان الشرطي يطل على المهجع بعد منتصف الليل يتصيد أحداً يشبع فيه تشهيه للقتل والتعذيب . فإن لم يجد كان أسهل ما يكون عليه أن ينادي على الحرس الليلي ويأمره أن يعلّم نفسه ! بل إنهم كانوا يحضرون في الصباح ويسألون رئيس المهجع أين المعلَّم . فإن لم يكن الشرطي قد علّم أحداً ليلتها قالوا له : أخرج الحرس الليلي من ساعة الثانية عشرة إلى الواحدة مثلاً . فيخرجونه ويتسلون بتعذيبه وضربه من غير أي سبب . وضاعف الشرطة من ترصدهم للمصلين . وصار أمراً اعتيادياً أن يخرجوا رئيس المهجع ويسألونه عن أسماء الذين لا يزالون يصلون عنده . ولقد حدث ذلك معي مرات عديدة . فأخرجوني وسألوني وضربوني لأقدم لهم أسماء من يصلي أو يُدَرِّس في المهجع !

طلاق بالإكراه

ومن مشاهد تلك الفترة التي لا تزال تحضرني قصة طبيب أسنان من دمشق اسمه رضوان العمر استدعوه بعد حوالي تسع سنوات مضت على اعتقاله وأمروه في الذاتية أن يوقع على ورقة طلاق زوجته . وذعر الأخ .. ورفض أن يفعل . لكن جلسة التعذيب التي أتبعت رفضه جعلته يوافق مكرهاً . فكانت من ثم القاصمة له . ووجد نفسه بعد هذي السنوات يفقد زوجه وطفله من غير إرادته ومن دون أن يعرف السبب ، ومن قبلهما فقد شبابه وحريته مع ألوف من خيرة أبناء الوطن مثله . ولا أدري ما الذي حل بالأخ بعدها ، لكن آثار محنته الأخيرة تلك نزلت عليه كانت أثقل ربما من كل ما نزل به طوال سني اعتقاله . ولم يكن له ولا لنا أمام ذلك كله إلا التسليم والإحتساب .

الفأرة !

ولقد كان أمراً شائعاً منذ بدايات أيامنا في تدمر أن يأمرنا الجلادون بتناول بقايا الطعام من بين القمامة وأكلها عنوة ، أو التقاط ذبابة أو صرصار يصادفنا في الباحة وابتلاعه . ولم يكن بعضهم ليتورع عن البصاق على الأرض وإجبار واحد من السجناء على لحس بصاقه بعده . لكننا وعندما حان موعد الطعام في يوم من أيام عام 1989 ووصل الدور على مهجع 18 المقابل لمهجعنا على الباحة الرابعة سمعنا لغطاً من هناك أثار انتباهنا . فأسرعت كعادتي وجعلت أسترق النظر من شق في باب المهجع أستطلع الأمر . فرأيت الشرطة منكبين على رئيس المهجع من بيت خريطة من الزبداني - وكان نقيباً في الجيش قبل اعتقاله - يضربونه ويركلونه وهو عاري الصدر بين أيديهم ويأمرونه بابتلاع شيء بالإكراه يحمله بيده . فلما دققت النظر وجدتها فأرة ميتة ينهالون عليه ضرباً ويجلدونه واحداً بعد الآخر وهم يأمرونه أن يبتلعها . والأخ المسكين برغم كل هذا العذاب لا يستطيع أن يفعل . حتى إذا اشتد عليه الضرب وأرهقه الجلد وخارت قواه دسوا الفأرة في فمه دساً وبلعوه إياها ورموا به في المهجع . وكان يتولى كبر هذه العملية شرطي منهم كان يسمي نفسه أبا غضب . وكان أشد ما يحلو له أن يصفع الواحد منا بكفه التي تملؤ قدراً وتفيض فيكاد يخرق له طبلة أذنه وهو يقول بانتشاء : خذها من أبي غضب ولا !

ولم تمض من الزمن برهة حتى دق رئيس مهجع 18 الباب وأخبر الشرطة بشيء لم أفهمه تماماً . لكنني عدت وسمعت أصداء حديث يدور حول الفأرة . وفي المساء حضر أبو غضب إلى مهجعنا ونادى على المسؤول الصحي لدينا وكان الأخ غسان عبد الباقي من حماة ، وسأله ما الذي يمكن أن يحدث للإنسان إذا أكل فأرة .. هل يموت ؟ وقتها لم يجد الأخ إلا أن يتملص من الإجابة ويقول له لا . قال له أبو غضب : انقلع . وأقفل الباب ومضى . ولم نتبين ما الذي جرى للأخ بالتحديد ، لكننا أدركنا أن ضرراً أصابه ، وأنه لم يكن بالضرر المعتاد . الأمر الذي جعلهم يعطون الأمر بعض الأهمية فيسألون ويستفسرون !

إلى المزبلة !

وهكذا لم ينقطع العذاب أبداً . ولم يتوقف الإرهاب والضغوطات النفسية لا في الليل ولا في النهار . ولم يعد واحدنا ينعم بأدنى حد من الراحة حتى ولو في المنام . فكادت النفوس أن تنهار ، وبلغ الصبر فينا منتهاه . وانتهى الحال ببعضنا أن فقد عقله أو كاد . وفي ليلة باردة من ليالي شهر كانون الأول من عام 1989 صحونا على صوت أحد السجناء من مهجع 20 القريب يصيح ويشتم الشرطي بملء فمه . وسرعان ما حضر عدد من الشرطة العسكرية نحس وقع أقدامهم ونسمع أصواتهم ونادوا عليه يسألونه :

شو مالك ولا ؟

ولم يكن الحوار كله واضحاً لنا ، لكننا سمعناهم يأمرون رئيس المهجع أن يربط الأخ ويضعه في "البخشة" وهو الحمام كما كانوا يطلقون عليه . وفي الصباح جاء مساعد السجن محمد نعمة فأخرجه ورماه إلى الزبانية الذين وضعوه في الدولاب أمام المهجع وانهالوا عليه ضرباً جعله يهز الباحة بصراخه واستغاثته . وعندما أتى وقت التفقد أخرجوه مرة ثانية وجعلوا يضربونه ويعفسونه حتى لم يعد يبلغنا منه لا صوت ولا حركة . ثم أمروا رئيس المهجع أن يدخله . وبعد قليل قرع رئيس المهجع الباب وأبلغهم - ونحن نسمعه بآذاننا - أن واحداً في مهجعه قد توفي . فلم يزيدوا أن قالوا له - والله - :

خذوه وكبوه في الزبالة !

ورأيتهم من شق الباب يسحبون الأخ ويمضون به .. فيما مضى القتلة إلى برنامجهم المعتاد من غير أن يهتز لهم طرف أو تختلج فيهم عضلة !

انهيار

ومع تزايد الضغوط وبلوغ البطش الذي نناله من الشرطة حداً لا يوصف ظهرت بيننا حقيقة الأمر حالات من الإنهيار النفسي لم تكن تدل على ضعف أصحابها قدر دلالتها على درجة التعذيب الوحشي والمعاناة المرة التي تتنزل علينا جميعاً حتى تفتن منا عن دينهم . وفي هذا الصدد أذكر تماماً أن واحداً من السجناء رفض ذات صباح أيقظوه فيه للصلاة أن يفعل . وأخذ الأخ - غفر الله له - الأمر موقفاً من يومها . وصار على الرغم من خلفيته الثقافية العالية يجيب سائليه بأن الله قال إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ . وها نحن نصرناه فلم يجبنا وينتصر لنا فلماذا الصلاة إذاً ؟

وعلى الرغم من فظاعة القول وما تبعه ، ومع أن كل الذين لم يتزلزلوا عن إيمانهم بالله ولم يحيدوا عن إسلامهم كانوا يعانون نفس معاناة ذلك الأخ ويعيشون المحنة مثله ، إلا أننا عذرناه ودعونا له بالثبات والهداية . فإذا كان الفقر وحده كفراً أو يكاد ، فكيف بكل نوازل الفقر والقهر والعذاب والجوع والرعب تتنزل على تلك الفئة العزلاء من غير حول لها ولا قوة طيلة عشر سنوات !

350 جلدة !

لم يمض أسبوع على الجريمة الأخيرة للزبانية في مهجع 20 حتى وقعت محنتي أنا . فبينما كنت وباقي الإخوة في المهجع حوالي الساعة العاشرة صباحاً من يوم 20/12/89 حضر واحد من الشرطة العسكرية وناداني وقال :

رئيس المهجع لهون .

قلت : حاضر سيدي .

قال : شو هالصوت عندك ولا ؟

قلت : ما في عندي صوت سيدي .

قال : لأ الصوت عالي عندك .

قلت : حاضر سيدي بِنْوَطي الصوت .

ومن غير أن يزيد الكلام عن هذه العبارات حرفاً واحداً وجدته يبادرني ويقول :

أنا بدي أعمل هيك وهيك من أمك . شو ؟

فلما أردت أن ألتزم الصمت وأدع الإستفزاز يمر عاد وسألني باستفزاز أشد يريدني أن أجيب فأقع في حبال مكره :

شو ؟

قلت ولم يعد أمامي بد من الإجابة مكرراً ما قال حرفياً : أنا بدي أعمل هيك وهيك من أمك .

فصعق الزنيم وصاح وهو لا يكاد يصدق ما يسمع : أنت عم بتسبني يا ....

قلت أحاول أن أطفىء جهنم هذه التي اشتعلت في قلبه الأسود : لا سيدي . أنت قلت لي أن أعيد وراءك ففعلت !

فتركني هكذا مكاني وذهب مهرولاً إلى الذاتية ، ليعود بعد بضع دقائق ومعه المساعد وجمع من الشرطة يحمل أحدهم الدولاب . وتقدم الرقيب مني وسألني عم حدث فأخبرته . فقال لي مستهزئاً :

انزل في الدولاب إذاً فهذا لن يضرك .

فلم أجد مفراً من الإنصياع . وما أن نزلت في الدولاب حتى نزلت العصي والسياط علي . وبدأت أصيح وأصيح وأصيح .. والألم ينهش جلدي ولحم قدمي اللتين تفتحتا تحت الضرب حتى لم أعد أحس بهما آخر الأمر . وعندما بلغت الضربات حوالي 350 جلدة أطلقوني . فلم أستطع العودة إلى المهجع إلا زحفاً . وارتميت على أقرب جدار وصلت إليه وأنا أكاد أغيب عن الوعي .

"فرخ راتب" !

غير أن وقت التفقد في المهجع لم يلبث أن حان . وكان المفروض أن أنهض وأقدم الصف باعتباري رئيس المهجع . فلما لم أقدر تولى نائبي الأخ عماد ذلك وقدم الصف . لكنهم ولما لم يجدوني أمامهم سألوه عني فأخبرهم أنني مريض . فأمروه أن يخرجني إليهم . فحملني الإخوة حملاً ووضعوني أمام الشرطة لينهال الزبانية علي ضرباً وركلاً من جديد . ويأمرونني أن أخرج لمثل هذا اللقاء كل يوم .

ومن يومها صار لزاماً علي أن أنال ثلاث وجبات من العذاب يومياً على أقل تقدير . وفق عدد المرات التي يفتح علينا الباب فيها . وعدا ذلك تولى في الليل أمري شرطي آخر كنا نسميه "فرخ راتب" لأنه أتى في صوته وشراسته على شاكلة شرطي آخر سبق وعانينا من عدوانيته وجبروته عام 84 اسمه راتب . فجاء "فرخ راتب" هذا أول ما جاء ليلتها وسأل أين رئيس المهجع . فقالوا له أنه مريض ونائم . فأمرهم بإيقاظي . فلما وقفت بين يديه أمرني أن أتولى الحراسة الليلية حتى الصباح . وكانت العادة أن يوزع رئيس كل مهجع هذه المهمة على عدد من السجناء ليكون نصيب الواحد منهم ساعة أو ساعتين من الحراسة وحسب . لكنه ألزمني بتولي المهمة كلها طوال الليل . وانتهت نوبة "فرخ راتب" عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل . وبقيت أنا أغالب النوم وأجتر الألم وأسأل الله الفرج . وعند الساعة الرابعة حضر "فرخ راتب" لنوبته الجديدة ونادى : حرس ليلي .

فقفز قلبي من مكانه وناديت مجيباً : حاضر .

قال : اشلح بالشورت .

ففعلت وأنا أستعيذ الله بسري من شره ومكره . فلما فعلت أمرني أن أوقظ مساعدي ، فأيقظته . فقال "فرخ راتب" لي :

اجلس جاثياً .

فجلست . وأمر نائبي عماد أن يملأ بيدوناً بالماء ويصبه فوقي . فلم يجد الأخ إلا أن يطيع . وتكرر الأمر ، ونفّذ الأخ . وفي تلك الليلة الباردة من شهر كانون الثاني صب "فرخ راتب" علي سبعة بيدونات من الماء البارد ملأت أرض المهجع وبللت بطانيات كل من كان قريباً من مكاني . فلما انتهى أمرني أن أعاود الحراسة حتى الصباح فنفذت الأمر . وعند الساعة السادسة صباحاً سلم "فرخ راتب" نوبته ومضى . ولم يلبث أن عاد في السابعة وفتح الباب . وأمرني أن أبقى مكاني بالشورت حتى يطلبني من جديد .

وعندما حان وقت الإفطار ناداني إلى الخارج وانهال علي جلداً بالسوط حتى كاد يهلكني . ولم يخفف صراخي ورجاءاتي وتوسلاتي من الأمر شيء . حتى إذا أحس أنه أطفأ ظمأ الهمجية التي لديه أرسلني . فزحفت إلى المهجع زحفاً . وارتميت على الأرض أقرب للغيبوبة مني إلى الصحو . غير أن وقت التفقد لم يلبث أن حل . وخرج مساعدي يريد أن ينوب عني من جديد . لكنهم عادوا وسألوه عني . فلما أخبرهم أنني مريض ضربوه هو الآخر وأمروه أن يناديني لأقدم الصف .

وهكذا مضت الأيام والليالي على هذه الشاكلة أربعة أشهر أو ربما أكثر . حاول الإخوة خلالها أن يساعدونني في مناوبة الليل . فكنت إذا دنت نوبة "فرخ راتب" قمت وحرست . فإذا انتهى قام أحد غيري وسد مكاني . فإذا عادت نوبته أيقظوني لأقف من جديد . لكن الخبيث أرسل في يوم من الأيام شرطياً آخر ليتأكد من سهري . فلما وجد سجيناً غيري يقوم بالمهمة أخرجني وأخرج الحرس الليلي كلهم وجلدنا جميعاً . فصرت أضطر للوقوف الليل كله من جديد . وعندما وجدتهم قد علقوا على الأخ عماد أيضاً وكادوا أن يُجْمِلُونَه بالعذاب معي رأيتني أولى بذلك منه لأنني أنا الذي شتمت الشرطي . فصرت أخرج أغلب الأحيان إلى التفقد وتقدم الصف وتناول نصيبي المقدر من الضرب والتعذيب . حتى ساءت حالتي وأُنْهِكَ بدني وعدت فانتكست بالسل بعد أن شفيت منه . فكان ذلك - سبحان الله - الضارة النافعة . إذ لم يلبث المسؤول الصحي زاهي عبادي أن حضر للكشف على المرضى ، فلما رأى حالتي تلك طلب نقلي إلى مهجع المسلولين . فتم ذلك في شهر نيسان من عام 1990 وأنجاني الله من هذه المحنة وأنا على آخر نفس !

مزيد من المعلومات !

ومما هو جدير بالتسجيل عن عام 1990 هذا أن إدارة السجن أرسلت في شهر شباط تسأل في المهاجع عن آخر شخص جاءته زيارة من أهله أو أقاربه ، فأخبر كل مهجع عن الشخص المقصود . وفي اليوم التالي تم استدعاء هؤلاء جميعاً إلى الإدارة وعُرِضَ عليهم استئناف الزيارات وبعض الميزات مقابل التعامل مع الإدارة بشكل واضح . وطلبوا منهم معلومات محددة عن حال السجناء في كل مهجع ، وعن الأفكار التي يتداولونها ، والقناعات التي لا زالوا يحملونها ، وهل ثمة من يدعو إلى الجهاد من بينهم ، وما مدى استعدادهم للتعامل مع قياداتهم السابقة ، ورأي كل منهم في هذه القيادات . ورغم أن الحدث كان مثيراً وقتها ، وعلى الرغم من بعض اللغط الخافت الذي ساد حينذاك ، إلا أن محن السنين الخوالي جعلتنا نألف أي جديد ونتقبل كل قضاء نازل بالصبر وبالإستسلام .

وفاة زاهي عبادي

عدت إلى مهجع السل 35 مرة أخرى فابتعدت عن "فرخ راتب" ومكره وعن العذاب والقهر بعض الشيىء . وبدأت أتلقى علاج السل المتاح من جديد . حتى إذا تحسنت حالتي واستعدت قواي نقلت ثانية إلى مهجع 28 مع الأصحاء . ولم نلبث أن بلغنا على غير موعد نبأ مفاجىء بوفاة الأخ الحبيب زاهي عبادي بعد كل هذه السنوات التي أمضاها في خدمة إخوانه المسلولين والمعلولين صابراً محتسباً . وكانت الرواية التي بلغتنا أنه أصيب بخراج مفاجىء في قدمه فأخذوه إلى مستشفى خارج تدمر فعاد ميتاً ! لكن ذلك زاد الأمر غموضاً ، وجعلنا نرجح أنه قتل عمداً بعدما أمضى كل هاتيك السنوات متنقلاً بين المهاجع واطلع على الكثير من حالات السجن والسجناء . ولم يكن أي شيء في تلك الغابة مستغرباً .. ولم يكن أي حادث بشع أمراً مستبعداً بين قوم أسهل ما اعتادوا عليه سفك الدماء !

شاهد على مجزرة تدمر

قلت أن بعضاً من المهاجع كانت حينما وصلنا تدمر قبل أكثر من عشر سنوات لا تزال تحتفظ على جدرانها وأسقفها بآثار من مجزرة تدمر الكبرى في حزيران عام 1980 . ولقد حدث فعلاً وأن سمعت كباقي الناس عن المجزرة وأنا لا أزال في دمشق قبل اعتقالي ببضعة أشهر . ولقد تمكن وقتها أحد الإخوة من بيت وطفة من دمشق من أن يحصل على قائمة بأسماء الضحايا من ملفات وزارة الدفاع حيث كان يخدم جنديته الإلزامية ، وأوصلها للإخوة في قيادة دمشق الناشئة وقتذاك . وتم كشف الأخ من بعد وإعدامه في سجن تدمر نفسه . وكان العدد الرسمي كما أذكر في حدود الثمانمائة قتيل . لكنني طوال السنوات التي أمضيتها في سجن تدمر لم أجد بنفسي شاهداً على المجزرة ، حتى جمعتني الأقدار في تلك الفترة بسجين يميني من حماة توطدت علاقتي معه . فقص علي أنه كان معتقلاً منذ عام 1980 مع مجموعة من البعثيين العراقيين . وأن إدارة السجن فرزتهم منذ ذاك ووضعته في أحد مهاجع الباحة الرابعة بشكل منفصل عن سجناء الإخوان أو الإتجاه الإسلامي .

وذات ليلة صدرت الأوامر إليهم كلهم لينقلوا إلى مهجع 29 في الباحة السابعة بشكل مفاجىء . وصبيحة اليوم التالي بلغت أسماعهم أصوات طائرات مروحية تحلق فوق المهاجع وتنزل في مكان قريب . ولم تمض برهة حتى بدأوا يسمعون أصوات الرصاص وانفجارات القنابل وصيحات التكبير في الباحات المجاورة . ثم لم تلبث الأصوات أن هدأت . وعادت المروحيات فغادرت المكان . ولم يتمكن أي من السجناء الآخرين وقتها من معرفة ما حدث . حتى تسربت أخبار المجزرة إليهم مع سجناء جدد حضروا بعدها وسمعوا بها من خارج الأسوار قبل اعتقالهم . وظل هذا الشخص على قيد الحياة حتى قدر لي أن ألقاه وأسمع شهادته . ورغم أنني لا أدري ما الذي حل بهذا الأخ ، إلا أنني أتمنى أن أراه يوماً على منصة الشهادة يروي قصته أمام محكمة عادلة . تعيد فتح ملفات الفظائع التي شهدتها جدران مهاجع تدمر وبقية أوكار المخابرات وسجونها وأقبيتها ، وتطبق في كل الجناة حكم الحق . عل أرواح الأبرياء التي أزهقت من غير ذنب تقر .. وترتفع عن هذا الوطن غباشة الطائفية المقيتة والظلم والجبروت .

آخر الوافدين !

مضت الأمور في السجن بعمومها نحو الهدوء النسبي . فالتعذيب الجماعي خفت حدته ، والضرب الوحشي قلت نسبته . ثم لم نلبث أن وجدنا الإدارة تقوم بفرز جديد للسجناء في شهر نيسان 1991 تم بموجبها تقسيمنا وتوزيعنا على مهاجع جديدة وباحات مختلفة . ووجدتني في هذا السياق أنقل هذه المرة إلى مهجع رقم 7 في الباحة الرابعة . وهناك أمضيت قرابة سنة أخرى خفت فيها المعاناة نوعاً ما ، وبدأنا نلحظ خلالها تحسناً نسبياً في الطعام ، كانت مادته الأساسية زيادة كمية الثوم !

ومن باحة مهجعنا السابع تلك كان على لجنة الإعدامات التي لم تتوقف أعمالها أبداً أن تمر من أمامنا مضياً في طريقها إلى الباحة السادسة لتنفذ الأحكام . وكنا نسمع أصواتهم ونتمكن أحياناً من التلصص عليهم من شقوق الباب . وفي نفس الوقت كنا نحس وصول الدفعات الجديدة من المعتقلين التي لم تتوقف أيضاً ونسمع أصوات استغاثاتهم وصياحهم من ساحة الذاتية المجاورة والباحة الأولى القريبة منا . وفي شهر تشرين الثاني عام 1991 كانت آخر دفعة جديدة من السجناء تصل تدمر على عهدي لتستقبلهم حفلة الإستقبال الرعيبة ذاتها .. وتبلغنا أصوات استغاثاتهم وصيحات الألم تزلزل المكان ولا تحرك في قلوب الزبانية شعرة ! وحتى لا تنتقل الأخبار ويطلع السجناء القدامى على مستجدات الأحداث في الخارج كان يتم عزل السجناء الجدد في مهاجع مستقلة فلا نلتقيهم ولا يلتقونا ، ولكن أصوات استغاثاتهم كانت أكثر من كافية لنعلم بوصولهم إلى هذا المكان الرعيب .

نعم للقائد !!

وذات يوم من نهايات تشرين الثاني أو بدايات كانون الأول عام 1991 . وبينما نحن في المهجع نجرع الأسى ونغص بالحسرات أقبل علينا مساعد السجن محمد نعمة وأبلغنا أن انتخابات لرئيس الدولة أوشكت أن تجري خلال أيام .. وأن علينا أن نظهر محبتنا وتقديرنا للقائد الأسد فنقول له "نعم" بالفم الملآن والصوت العالي .

ولم يكن من خيار أمام أحد في كل سورية إلا أن يقول تلك ال"نعم" . تماماً كتلك التي قلناها لسليمان الخطيب حين أبلغنا بأحكام الإعدام أمام محكمته الهزلية . أو كتلك التي قالها الطبيب المسكين بعد حفل العذاب ليطلق زوجته . أو كالنعم التي كنا نقولها للشرطي إذا قال لنا أنه يريد أن يفعل كذا وكذا بأمهاتنا وأخواتنا . أو كآلاف وآلاف مثلها يقولها كل مواطن مقهور لا يملك لرد ظلم زبانية النظام وسفاهاتهم عونآً ولا سنداً .

وكتب رئيس المهجع قائمة بأسمائنا كلنا . ووقعنا وقلنا "نعم" . وكان الأنكى أن قام بعض من هدته المحنة وأنهكته المعاناة فاقترح أن نكتب العبارة "نعم للقائد" على واحد من قمصاننا البيضاء لا بالحبر أو بالدهان وإنما بدمنا ! وهرع البعض فاستجابوا وأحضروا من مسؤول المهجع الصحي إبرة وجعلوا يسحبون من أوردتهم ما يكفي من الدم ليكتبوا به على القميص !

بشارات !

وفي ليلة من ليالي شهر كانون الأول من عام 1991 وجدتني أستغرق في النوم فأرى في المنام الشرطة العسكرية يدخلون علينا في المهجع بملابسهم الكاكية وطاقياتهم الحمراء وسحناتهم البغيضة ويخبروننا بقرار انتقالنا من هذا المكان . ورأيتني أمضي إلى زاوية من زوايا المهجع اعتدنا أن نكدس فيها حقائبنا البالية فأحمل من بين الأكداس حقيبتي وتأتي مجموعة من الشباب فيفعلون ما فعلت . ورأيت علي دوبا رئيس فرع المخابرات العسكرية يمضي معنا أو نمضي معه فننطلق إلى باص كان بانتظارنا ونركب فيه جميعنا ونمضي . وبعد أن غادر الباص سجن تدمر وقطعناه بمسافة بعيدة انتهى المنام . فلما استيقظت وقصصت الرؤيا على الشباب حولي تفاءلوا وقالوا لي إن شاء الله يفرجها الله عليك .

ولم يمض يومان فقط حتى وجدت الشرطة ينادون اسمي بعد صلاة العصر وكان يوم أربعاء . فلما خرجت إليهم سألوني عن اسمي الكامل واسم أبي وأمي فأجبتهم . فلم يزيدوا أن قالوا لي من غير أي تعليق :

ضب أغراضك وجهز حالك لبرة .

وكنا جميعاً متعودين أن يأتينا مثل هذا الإيعاز في أي لحظة . سواء للإنتقال من مهجع إلى آخر أو للخروج إلى الإعدام ! ووجدت الإخوة يلتفون حولي ويودعونني ولا يدري أحد منا إلى أين المصير . وخرجت وقد وضعت الطماشة على عيني وعقدت يدي خلف ظهري كالعادة ومضيت أتبعهم . فأدركت أنهم يقودونني باتجاه الساحة السادسة التي تنفذ فيها أحكام الإعدام . فجعلت أتقلب بين هواجس اقتراب النهاية وأحاسيس غامضة تبشرني من أعماقي بدنو الفرج . وجعلت أتساءل بيني وبين نفسي عن سبب اقتيادي إلى الباحة السادسة إذا كان هناك إفراج . ولماذا لم يأخذونني إلى الذاتية في الباحة الأولى لأخرج من حيث دخلت قبل عشرة أعوام أو أكثر !

ولم تطل بي التساؤلات التي قطعها توقف الركب وصوت باب يفتح ونداء واحد من الشرطة يقول لي :

أدخل ولا .

وأغلق الباب ورائي .. وأحسست أن الشرطة تركوني وذهبوا .. وأن ثمة من يشاركني هذا المكان الجديد ويهمهم حولي . وبحذر شديد أرسلت يدي من وراء ظهري إلى وسطي . فلما تأكدت أن أحداً لم ينتهرني أو يصرخ في رفعتهما إلى وجهي وفككت الطماشة عن عيني . فوجدتني محاطاً بعدد من السجناء يتطلعون في وأتطلع فيهم .

خير يا شباب شو في ؟

سألتهم متوجساً ومستغرباً .. فقالوا ببشاشة وبشر :

ان شاء الله خير . هناك إخلاء سبيل .

ماذا ؟

قلتها وأنا لا أكاد أصدق أو أستوعب ما قالوا . فكرروا علي وأكدوا لي . ولم يلبث أن أطل علينا من فوق الشراقة أحد الشرطة وقال لنا من غير أن نعرف السبب الشيء نفسه . ولم تمض نصف ساعة أخرى حتى فتح الباب من جديد فهرعنا من فورنا حسب العادة واتجهنا برؤوسنا إلى الجدار . وتقدم واحد ممن سبقوني فقدم الصف . وأحسسنا بدخول أشخاص عديدين وراءنا ، فتوجست خيفة وأنا أتوقع كل شر ولا أستغربه . وأتانا الإيعاز مرة واحدة :

وراء در .

فاستدرنا وعيوننا لا تزال مغمضة حسب التعليمات . لكن الإيعاز أتانا مرة أخرى يقول :

ارفع راسك ولا وفتح عينيك .

مفاجآت !

فتحت عيني يكاد يشلهما الخوف فراعني أن أنظر فأرى لأول مرة طوال تلك السنوات سحنة جلادينا بوجوه آدمية من لحم ودم . ولم يكن مألوفاً لي ولا لأحد ممن معي أبداً أن نبصر شخصاً في هذا المكان معافى في بدنه متأنقاً في ملبسه ، نبت الشعر في رأسه وشاربيه بشكل طبيعي وطال من غير أن تجرده آلة الحلاقة أو تشوهه الصفعات واللطمات !

وأمعنا النظر ونحن كالطفل الذي يطلع على العالم من حوله لأول مرة فرأينا مساعد السجن محمد نعمة ورئيس السجن نفسه غازي الجهني يقفان في مواجهتنا ومن ورائهما وعن أيمانهما وشمائلهما الزبانية يترصدوننا بنظراتهم الماكرة . وبعبارات مقتضبة أخبرنا العقيد الجهني أن سيادة رئيس الدولة أصدر عفواً عنكم .. وإن هي إلا أيام وتكونوا بين أهليكم . وأمرنا من ثم أن نخلع ملابسنا جميعاً ونبقى بالشورت فقط . والتفت إلى كومة من الملابس والأحذية العسكرية الجديدة فأمر الشرطة أن يوزعوها علينا ثم مضى ومعه المساعد والشرطة وأغلقوا علينا الباب .

عقدت المفاجأة ألسنتنا جميعاً وأصابتنا بالربكة إلى حين . حتى إذا هدأت النفوس واستقرت اتجهنا إلى بعضنا البعض نتساءل ونتداول ونحاول أن نجد تفسيراً لما يجري فلم نفلح . وأخذت أتملى في رفاق هذا المهجع الجديد فوجدتهم قرابة الخمسة والثلاثين شخصاً عركتهم المحنة وناءت بكلكلها عليهم مثلما فعلت بي ، فلم تترك فيهم إلا سحناً مصفرة وعيوناً ذابلة وأجساداً واهنة ..

وانقضى يوم الأربعاء ونحن في هذا المهجع الذي يسمى مهجع 6 على 2 الجديد نتجاذب أطراف الحديث ونتعرف على بعضنا البعض . وجاء الخميس وانقضى كما جاء ونحن نقطع الوقت بتبادل أخبار المهاجع وروايات العذاب والأسى . وكذلك حدث في اليوم التالي ونحن نقترب من الشك ونكاد ننتكس من التفاؤل إلى التشاؤم من جديد . حتى إذا كان صباح السبت وجدناهم ينادوننا للخروج من المهجع والإنتظام في صف في الخارج أمامه . فخرجنا كذلك مغمضي العيون منكسي الرؤوس يلتصق واحدنا بأخيه خشية أن يتعثر . لكن الإيعاز جاءنا كذلك بأن نفتح عيوننا ونتطلع بشكل طبيعي . فلما فعلت وفتحت عيني هالني أن أنظر إلى هذا المكان الرعيب الذي ضمتني جدرانه وحملتني أرضه وأكلت عصي زبانيته وسياطهم من جسدي ما شاء الله أكثر من عشر سنوات فكأنني أراه الآن لأول مرة !

كان كل جدار أقابله كطود جاثم على صدري عشر سنوات من غير أن أراه . وكل باب غليظ مشبك بالحديد كشوكة في حلقي أبصرها الآن لأول مرة . وهذه الوجوه الكالحة وتلك القسمات الطاغية وهذه المهاجع المقفلة كالتوابيت كم مرة لطمتني أو عركتني أو حملتني وأنا رهين المحبسين ترهقني ذلة الأسر ورهبة الظلام وقد أطبقت أجفاني على نوافذ الضياء بالإكراه فلا أرى خارج المهجع إلا الظلام وحسب !

بوابة المغادرين !

وسار ركبنا نحن الذين صدر العفو عنا كخط النمل يتجه نحو الباحة الخامسة وأنا أتوقع أن نمضي الآن إلى الذاتية لنتسلم أماناتنا ونسجل أسماءنا ونخرج من الباب الذي دخلنا منه . لكني وجدت الركب ينعرج بنا باتجاه المطابخ نحو باب خلفي للسجن اعتادت سيارات الجيش أن تدخل الطعام والمشانق منه وتخرج عائدة بالقدور الفارغة وجثث الموتى والمعدومين بنفس الوتيرة ونفس البرود ! وعلى مقربة من الباب وجدنا باص تويوتا أحمر اللون بانتظارنا فصعدنا إليه لا ننبس ببنت شفة . ورافقنا في باصنا الذي توزعنا على مقاعده واجمين ثلاثة عناصر من المخابرات العسكرية لم يكن يبدو عليهم الإكتراث بأمرنا . وكنت عندما أتملى فيهم أحس أنهم ربما لم يدروا أين أمضينا آخر عشر سنوات من أعمارنا أو حتى أنهم كانوا عندما دخلنا زنزانات الفرع الذي أتوا منه قبل اثنتي عشرة سنة خلت مجرد طلاب في المرحلة الإعدادية أو الثانوية على أبعد تقدير !

دمعة شكر

ومضى الباص بنا يزمجر على هذا الخط الضيق يسرع ساعة ويبطؤ أخرى . ونحن فيه كأننا الأطفال في أرحام أمهاتهم نشاهد العالم في الخارج من غير أن ندرك علاقتنا به أو مصيرنا فيه . والمشاهد من حولنا تتسارع وتتغير وتتبدل . والوجوه والبيوت والبهائم والسيارات والغيوم والسماوات كلها كالكلمات الغريبة في قاموس لغة نسيناها منذ أكثر من عقد خلى !


وارتددت إلى نفسي لحظة فجعلت أتذكر المنام الذي شاهدته قبل بضعة أيام وحسب . وجعلت أقارن الباص الذي ركبته في المنام وهذا الباص الذي يقلنا الآن . والجمع الذين هرعوا في الرؤيا لمرافقتي وجمع الإخوة الذين معي . ورئيس المخابرات العسكرية هناك وجنده هنا . ووجدتني من غير إرادة مني أتبسم وقد نسيت كيف تفتر الشفاه عن ابتسامة سعد . وأتجه بجوارحي كلها إلى الله العلي الرحيم أود أن أسجد له كل عمري شاكراً . فلم تجبني من كل هاتيك الجوارح المأخوذة بتسارع الأحداث وقتها إلا دمعة حرى طفرت من عيني على وجل .

وأسرع السائق بالحافلة .. وأسرعت بنا الخواطر والخيالات والتساؤلات والأماني والمخاوف كلها تتراكض فينا معاً . وعبرنا تدمر المدينة من غير أن نلفت فيها نظر أحد . وتخطينا حمص مرقد خالد بن الوليد تغشاها كآبة ووحشة .. وأشرفنا على دمشق عاصمة الأمويين والمجد والفتوحات بالأمس .. ومهد المظالم والقهر ووكر الطائفية اليوم . وأكمل الباص بنا إلى فرع المخابرات العسكرية من جديد . وتسلمنا الزبانية كالعادة تغيرت وجوههم وأسماؤهم ولم يتغير من عدوانيتهم شيء . وبعد أن أخذوا أسماءنا وتسلموا أماناتنا أدخلونا على واحد من المهاجع تحت الأرض لنقضي ليلتنا هناك .

صفحة جديدة !

وفي اليوم التالي الثامن والعشرين من كانون الأول جمعونا كلنا في قاعة محاضرات واسعة ووزعونا على كراسيها الوثيرة . واعتلى مجموعة من الضباط المدنيين المنصة . وتقدم أحدهم منا فألقى فينا كلمة مقتضبة استهلها بالثناء على الرئيس القائد الذي يعرف الناس كل الناس أن الكرم من سماته .. وأنه ينظر إلى الشعب بعين الرأفة والعطف على الدوام .. ولذلك أصدر أمراً بالإفراج عنا بمناسبة إعادة انتخابه ! وقال لنا المتحدث أن بعضنا ربما لم يكن يستحق كل هذا الإعتقال الطويل .. وأن بعضنا الآخر نال الآن جزاءه . ودعانا أن ننسى كلنا الماضي ونبدأ صفحة جديدة من اليوم . فيذهب الطالب إلى مدرسته . والعامل إلى مصنعه . والموظف إلى وظيفته . ويعود الكل إلى حياتهم الطبيعية وينسوا الماضي . وختم المتحدث كلمته منوهاً أن الفرع سيوصل كلاً منا إلى محافظته ومدينته .

وانفض الإجتماع .. وجعل رجال المخابرات يقتادون كل مجموعة من المعتقلين إلى زاوية حسب محافظاتهم . ولما كنت الأردني الوحيد فقد اقتادوني مع أربعة عناصر منهم إلى سيارة اتجهت بنا إلى الحدود السورية الأردنية مباشرة . وعندما وصلنا مدينة درعا بعد منتصف الليل سلموني للشرطة المدنية هناك . وتقدم هؤلاء فسلموني بدورهم إلى المخابرات الأردنية على الطرف الآخر من الحدود ، ولم يزيدوا عن أن قالوا لهم أنني كنت موقوفاً لديهم . فلما استلمني الأردنيون وسألوني عن جوازي أو وثيقة تثبت شخصيتي لم أجد شيئاً أقدمه لهم . فعاد واحدهم وسألني منذ متى تم توقيفي . سألته : ما اليوم ؟ قال : 29 كانون الأول 1991 . قلت أرد على سؤاله : منذ أكثر من إحدى عشرة سنة إذاً . منذ الثامن من تشرين الأول عام 1980 . فكاد الرجل يصعق من المفاجأة . وعندما وصلت والدتي ووالدي وأختي بعد ساعات لاستلامي لم تكن مفاجأتهم أقل منه وهم يرون ولدهم الذي غادرهم ابن تسع عشرة سنة عاد إليهم اليوم ابن إحدى وثلاثين . ناحل الوجه ، حليق الرأس ، منهك القوى ، يرتدي ملابس العسكريين الكاكي وحذاء الجيش . ووجدتني أمام أهلي الذين غادرتهم أصحاء أشداء أنهكتهم بدورهم السنون وهدتهم اللوعة .

وهرعت إلى يدي والدي رحمه الله أقبلهما وإلى أمي أحضنها وأطلب منهما السماح . وجعلت والدتي تنظر في وجهي تتفرس فيه وتقول لي : أنت محمد ؟ أكيد أنت محمد ! وتناولت يدي تقلبها وتُبَحِر فيها ولا تكاد تصدق ! وتناولت أنا يديها ألثمهما وأطلب منها مجدداً الرضا والسماح . وتدفقت عبراتنا جميعاً وخنقنا النشيج . واحدودب بعضنا على بعض وكأننا نتقي جورة الزمان وتربص المتربصين .

وأقفلت بنا السيارة تعود بي إلى بيت أهلي الغوالي بعد غيبة عقد ونيف من الزمان .. وكرت الأسئلة وتدفقت الحكايات .. وانفجرت الأحزان والآلام والحسرات حبيسة دهر من الزمان . دهر كل لحظة فيه كانت أثقل من الدهر كله .. وكل زفرة أو شهقة من أيامه لها حكاية تحكى .. ولوعة تفري الكبد .. وذكريات وشجى . لا توفي وصفها قواميس الأرض .. ولا تسبر أغوارها من الكلمات شيء .. ولا يمسح حرها إلا الرحمن الرحيم .

وبعد ..

فها هي ذي صفحات من ذكريات المحنة التي قدر لي أن أعيشها في سجون النظام السوري قد باتت جاهزة للتو تنتظر دورة المطبعة تأخذ مجراها . وإني إذ أحمد الله تعالى الذي يسر لي إخراج هذه الذكريات على شكل كتاب .. وأشكره من قبل ومن بعد أن نجاني وفرّج عني ومنّ بالحرية علي .. أود أن أسجل بعض نقاط أراها جديرة أن أختتم بها كتابي هذا ، سائلاً الله تعالى النفع والقبول .

مرت عدة سنوات على خروجي من سجن تدمر مررت فيها بظروف عديدة متغيرة ، مما جعلني أنسى الكثير مما شاهدت ورأيت وسمعت في تلك المحنة الرهيبة . ولقد حاولت فيما كتبت أن أتحرى الدقة قدر المستطاع ، وأن أوثق المعلومات التي سجلتها ما وسعني الجهد . لكني أعلم أن الكمال لله وحده ، وأن كل بني آدم خطاء . وللزمن حكمه كما يقولون . ولذلك أرجو أن يسامحني القارىء الكريم إن وجد أي نقص أو عجز أو خطأ فيما قرأ ، وليصحح لي كل من ملك معلومة مكملة أو إضافة مفصلة .

وفي هذا السياق ومن هذا المنطلق ، أدعو كل أخ مسه من فيح تلك المحنة جانب أو ناله من لظاها أذى ، وأدعو كل مواطن شهد على ممارسات النظام السوري القمعية مشهداً أو عرف خبراً أن يبادر ويسجل تجربته ويكتب مشاهداته وشهادته . ولو لم يكن لدى المرء فرصة للنشر اليوم أو كانت ظروفه لا تسمح الآن فغداً ستختلف الموازين وتتغير الأحوال إن شاء الله . لكن الأمانة تظل في أعناقنا والشهادة حق لا يقبل أن نكتمه . والذاكرة لن تدوم فيها المعلومات والذكريات كما هي اليوم . والعمر بيد الله لا ندري متى ينقضي . وإذا كان جيلنا قد عاصر جانباً من الأحداث واطلع على بعض أوجه النظام الديكتاتوري الطائفي في سورية ، فإن أجيالاً تالية وشعوباً أخرى تحتاج أن تعرف الحقيقة وتدرس ما حدث . ولا بد لكل من أراد أن يخطو على طريق الدعوة إلى الله أن يرصد تجارب سابقيه وخبرة المتقدمين عليه . أما أن تتكرر التجارب متماثلة متشابهة لا تستزيد واحدتها من أخراها ولا يتعلم لاحقها من سابقها فتلك علة معلة وجمود مهلك . وسبب كاف لتكرار النوازل والمآسي والنكبات .

وحتى لا تتكرر النكبات وحتى تكتمل الفائدة من تسطير هذا الكتاب أراني واجباً علي أن أسجل خلاصة ما وصلنا إليه من قناعات ورؤى بعد سنوات محنتنا تلك . وإنني إذ أتحدث بضمير الجماعة هنا فإنما أقصد الغالبية من إخوة المحنة الذين جمعتني وإياهم على مدار سنوات متتالية القيود المطبقة والأبواب المغلقة .. وجلسات المصارحة والنقد الموضوعي والتقييم البناء . فوصلنا من بعد جدال وأخذ ورد إلى أن الإسلام الذي اعتنقناه واعتقدناه وحملناه في قلوبنا وامتحنا في سبيله وابتلينا .. هذا الإسلام لا زال من بعد كل هذه المحنة والعذاب والمشانق والمجازر هو الحق لم يتغير ، وهو الهدف لم يتبدل ، وهو الطريق لم نحد بإذن الله عنه . ولا زلنا حقيقة على قناعة خالصة بوجوب العمل لدين الله ونشر دعوته ، وحتمية تبليغ رسالته الخالدة لأنها الأمل الوحيد لنجاة البشرية جمعاء .

أما الذي توقفنا عنده وانكببنا على النظر إليه فهو الكيفية والوسيلة التي يمكن أن نحقق بها ما اعتقدناه . فمن خلال محنتنا وكربتنا .. وبعد الثمن الباهظ الذي دفعناه دماً وأرواحاً وزهرات من شباب الدعوة ورصيد من النجاح انهار وانقضى .. تبين لنا وتأكد وتحقق أن أول ما نحتاجه قبل أن نخطو أي خطوة تالية هو الصف المنظم الموحد . فوالله لم يؤت إخواننا المجاهدون في سورية - ولا في غيرها - من قلة مال أو سلاح أو عتاد ، ولم يهزمهم استبداد عدوهم أو قوة تسليحه أو شدة بطشه . ولكن التجربة أثبتت وأكدت أن الشر أتي من التنازع والإختلاف ، والبنيان تهدم من الفرقة قبل كل شيء .

إنني لم أتألم في كل سجني ومحنتي ولم أغص وأتحسر قدر ما غصصت بحديث الخلاف وتحسرت لواقع الفرقة بين أجنحة الحركة الإسلامية الواحدة والتنظيم الإخواني نفسه ، والذي رأينا عناصره يتكتلون بين دمشقي وحلبي وحموي .. وتابع لجناح هذا ومؤيد لجناح ذاك .. في الوقت الذي كان الزبانية يسحبون مجموعة من بيننا إلى حتفهم إثر مجموعة ودفعة وراء دفعة ! ثم ارتد الحال إلى خلافات القرون الوسطى فوجدنا هذه النخبة من أبناء الحركة الإسلامية يتفرقون بين صوفي وسلفي .. ومتبع ومبتدع . إلى درجة أننا بتنا نختلف على صوت الأذان الذي كان يصلنا من وراء القضبان والجدران ونتجادل فيه !

أما القضية التالية التي وجدنا البدء من غيرها معناه التهلكة ، والمسير من غير أن تترسخ فينا نذير الضياع فهي التربية . ولقد كان أمراً عجباً أن تنفق كل الحركات الإسلامية جل جهدها وأكثر وقتها في الحديث عن التربية وتطبيقاتها ، ثم إذا فاجأتنا المحنة وجدنا أنفسنا أبعد ما نكون عن التربية الحقيقية وأكثر من يفتقدها !

وعندما أذكر التربية هنا فأنما أعني كل ما يندرج تحت هذا المسمى من أبواب : التربية الروحية .. والسلوكية .. والبدنية .. والعسكرية .. والتنظيمية .. والأمنية . وحتمية أن تجتمع كل هذه الأبواب في بناء شخصية الداعية . وإلا فما معنى أن يحضر شخص واحد باعترافاته مائة أخ من تنظيم سري ناشىء ؟ وكيف يفسر أن يضطلع فرد في هذا التنظيم بمسؤوليات تمكنه من معرفة كل الصف القيادي في التنظيم وعناصره الفاعلة وأسراره الخطيرة ومخابىء سلاحه ومواقع قواعده ورموز اتصالاته وكل صغيرة وكبيرة فيه !!

ان قناعتنا بعد كل هذه المحنة في وجوب مقاومة الظلم لم تتغير بفضل الله ولن تتغير . والعمل للإسلام لما يزل كيوم دخلنا المحنة واجباً حتمياً وأمانة ملزمة ، لكنا إذا أردنا أن نحمل هذه الأمانة فلنحملها بوعي كامل وكفاءة كافية .. أو نتنحى لمن هو أقدر وأكفأ .

إنني ومن بعد التجربة أؤمن اليوم أننا إذا تخلينا فسيهيؤ الله تعالى من هو أقدر وأكفأ وأجدر على حمل الأمانة . أما إذا صممنا على تقدم الصفوف من غير إعداد كاف وكفاءة وحنكة فقد جنينا على أنفسنا وتجنينا على دين الله ودعوته . وهيهات هيهات أن ينصر قوم هذا حالهم وذاك الطريق الذي اختاروه .

هذه بعض ملاحظات أردت أن أختتم بها ذكريات المحنة وشهادة التجربة . سائلاً الله تعالى الرحمة والمغفرة وحسن الخواتيم . والحمد لله رب العالمين .

ملاحق

مجزرة تدمر الكبرى على لسان منفذيها

في شهر شباط من عام 1981 أعلنت السلطات الأمنية الأردنية عن اعتقال مجموعة من المخابرات السورية في الأردن كانت تخطط لاغتيال السيد مضر بدران رئيس الوزراء الأردني وقتذاك . وكانت المفاجأة أن اعترف عدد من أفراد تلك المجموعة ، والذين ينتمون لسرايا الدفاع السورية ، بمشاركتهم في العام الذي سبق بمجزرة تدمر الكبرى ، وأدلوا على مشهد العالم وسمعه بتفاصيل تلك الجريمة . نثبتها هنا كواحدة من الشهادات النادرة على ما حدث ، وننقل أقوال الجناة بالنص الذي ورد في وسائل الإعلام الأردنية ، وتناقلتها وكالات الأنباء العربية والدولية من بعد .

إفادة عيسى ابراهيم فياض .

- رقيب في سرايا الدفاع -

س : ممكن تقدم نفسك ؟

ج : عيسى ابراهيم حامد فياض . بلدتي قويقةتابعة لمحافظة اللاذقية . تاريخ الولادة 1960 . أعزب . علوي . والدي ابراهيم حامد فياض ، مزارع . ووالدتي جميلة صقر ، مربية بيت . ثقافتي الحادي عشر . درست بالقرية ، بقرية قويقة حتى الثالث الإعدادي ، والتحقت بقرية عين العروس مدرسة ثانوية تابعة لمحافظة اللاذقية .

تركت المدسة ، اشتغلت مع أبي مزارع عادي لمدة سنة ، والتحقت بسرايا الدفاع في 10/3/1979 وأنا الأن رقيب بسرايا الدفاع رقمي 0956982

س : سيد عيسى وضح لنا خدمتك العسكرية بشيء من التفصيل .

ج : التحقت بسرايا الدفاع بمعسكر اسمه القابون / ك دورة أغرار . ظلت دورة الأغرار شي 45 يوم ، والتحقت بدورة ثانية بنفس المعسكر دورة الصاعقة استمرت حوالي ثلاثة أشهر وأكثر . وانتقلنا من معسكر القابون لمعسكر يعقوب الواقع في دمشق كدورة قتال عادي للكتيبة لدورة يعني كتيبة مشاة . هنيك تدربنا على السلاح على بارودة كلاشن ، رشاش قاذف قنابل ، رمي قنابل ، وتدريبات عادية ككل التدريبات أي كتيبة مشاة . استمرت هالدورة حوالي ثلاثة أشهر رجعنا لمعسكر القابون وهنيك عملنا مظلات حوالي 25 يوم لثلاثين يوم . بعدها التحقت باللواء أربعين اللي قائده الرائد معين ناصيف زوج بنت العقيد رفعت الأسد ( تماضر الأسد ) علوي من محافظة اللاذقية . واستمريت على هالشي يعني تدريب عادي في الكتيبة 302 بنفس اللواء مشاة حتى تم التحاقي بحراسة منزل الرائد معين ناصيف الي هو قائد اللواء . عدد مجموعة الحراسة كان 25 عنصر مسؤول عنا الرقيب أول صلاح ابراهيم ، علوي . وهو وجميع عناصر الحراسة علويين .

س : عيسى .. إيش المهمات اللي كلفت فيها أثناء خدمتك بسرايا الدفاع ؟

ج : كلفت في مهمتين .

س : إيش المهمة الأولى ؟

ج : المهمة الأولى مهمة سجن تدمر . في 26/6/1980 تعرض سيادة الرئيس حافظ الأسد لمحاولة اغتيال . فجر اليوم الثاني 27/6/1980 فيقونا الساعة الثالثة بالليل الصبح وقالوا لنا اجتماع في لباس الميدان الكامل مع الأسلحة . واجتمعنا بالساحة وخدونا إلى سينما في اللواء 40 وهناك كان في منتظرنا الرائد معين ناصيف قائد اللواء وألقى فينا كلمة . قال هدول الإخوان المسلمين ما عم يفرقوا بين مسلم علوي ومسلم سني ومسيحي . عم بيقتلوا في الشعب . وامبارح حاولوا اغتيال الرئيس . لذلك اليوم راح تقوموا بهجوم على أكبر وكر لهم وهو سجن تدمر . قال مين ما بده يقاتل ؟ ما حدا رفع إيده . الأمر عسكري . قال لنا : اطلعوا بالسيارات . طلعنا بالسيارات مجموعة قدرها 82 واحد تقريباً . وصلنا لمطار المزة القديم وكان في انتظارنا مجموعة من اللواء 138 أحد ألوية سرايا الدفاع اللي قائده المقدم علي ديب ، علوي ، من اللاذقية . وكان موجود في انتظارنا عشرة طائرات هيلوكبتر .

طلعنا بالطائرات بقيادة قائد أركان اللواء 138 المقدم سليمان مصطفى ، علوي . وكان معنا ضباط الملازم أول ياسر باكير ، علوي من حماة . والملازم منير درويش ، علوي . والملازم رئيف عبد الله ، علوي . يعني الثلاثة هدول من لواء أربعين . طلعنا بالطائرات اتجاه تدمر ووصلنا حوالي الساعة ستة ونصف الصبح بنفس اليوم . وهناك نزلنا من الطائرات وفرقونا إلى مجموعتين : مجموعة اقتحام ومجموعة ظلت بالمطار . المجموعة اللي راحت على السجن اجت سيارة دوج تراك يعني ونقلتنا للسجن . بالسجن توزعنا لمجموعات حوالي شي ستة مجموعات وأكثر . ويعني كانت مجموعتي أنا حوالي أحد عشر واحد . يعني المجموع الكلي اللي تحرك للسجن حوالي ستين واحد هيك شي . مجموعتي كانت بقيادة الملازم منير درويش . وفتحوا لنا باب المهجع يعني الباب بتاع المهجع اللي دخلنا حوالي ستة لحد السبعة . قتلنا اللي فيه كان مجموع اللي فيه حوالي ستين واحد سبعين واحد . سمعت أنا انه فيه قتيل أخذ بارودة من زميلي من السرايا اسمه اسكندر أحمد رقيب . رحت أنا لعنده وشفته . ولاّ واحد بناديلي . قلت له : شو بدك ؟ قال : اعطيني مخزن . قلت له : ليش ؟ قال لي : في واحد لسه ما مات بدنا نموته . قلت له : أعطيني بارودتك بما أنا أعطيت بارودتي لزميلي بارودته كانت خربانه . أخذت بارودته ورشيته . يعني كان مجموع اللي رشيتهم حوالي 15 واحد . ومجموع اللي قتلوا في السجن من الإخوان المسلمين كان حوالي 550 واحد . والمجموع اللي قتلوا من السرايا كان واحد واثنين جرحى .

طلعنا عاد صار يغسل ايديه ورجليه . وفي كانوا ملطخين بالدماء . وكان الملازم رئيف عبد الله . طلعنا سألوه للملازم رئيف عبد الله ليش كنت تفرق المساجين هيك كل واحد لوحده . قال : امبارح كانوا يقتلوا اخواننا في حلب بكلية المدفعية .

س : كيف كان يفرق بين المساجين ؟

ج : يعني اللي ما مات يموته .

س : يتفقد فيهم ؟

ج : آه . قلت كمان في ضابط أطلق نار على واحد ما قتل . قال له : تعال مكفي عليه ما قتلت واحد من عصابة الإخوان المسلمين . فطلعنا بسيارة واحدة ونقلتنا للمطار . وكان في انتظارنا المجموعة التي ظلت بالمطار وطيارات الهيلوكبتر .

س : كم استغرقت هذه المهمة ؟

ج : حوالي نصف ساعة . كان في دوي قنابل وصيحات الله أكبر . وطلعنا بالطائرات باتجاه الشام لمطار المزة القديم . ومن هنيك مجموعة اللواء 138 اللي تابعة لسرايا الدفاع طلعت على لوائها ومجموعتنا لواء 40 طلعت على لوائها . كان بانتظارنا الرائد معين ناصيف اللي قال لنا شكرنا على جهودنا وعزانا بوفاة زميلنا وقال لنا كل واحد يلتحق بعمله فالتحقنا بعملنا .

س : انت بينت لنا إيش كان دورك . ما بينت لنا أدوار زملاءك اللي اشتركوا في العملية هذه ؟

ج : مثلاً في محمد عمار قتل اللي قتل اسكندر أحمد هذا الرقيب اللي قتل معنا . خلصوا البارودة قتلوه . وقالوا لي انه رش كمان في المهجع نفسه . محمد عمار بحراسة منزل الرائد محمد ناصيف ، علوي . ابراهيم يونس ، علوي . عريف مجند من منطقة مصياف . وكمان قال لي رشيت ما بعرف شو رش بس قال انه رشيت .

س : ما حدد عدد معين من اللي رشهم ؟

ج : أبداً ما قال لي . في ابراهيم مكنا كان مع الملازم رئيف عبد الله . ابراهيم مكنا ، علوي ، عريف مجند من منطقة جبلة محافظة اللاذقية كان يفرد مع الملازم رئيف عبد الله المساجين .

س : وين ذكروا لك هذا الشيء عن أدوارهم ؟

ج : ابراهيم مكنا أنا شفته . شفته مع الملازم رئيف عبد الله في السجن . ابراهيم يونس حكى لي بالسكن . كنت نازل أنا وياه عالبلد حكى لي محمد عمار قال له انه قتلته .

س : طيب لما رجعتم من السجن جرى أي توجيه لكم أمر ؟

ج : الرائد معين قال انه ما لازم يعني تطلع هالعملية خارج منا . يعني لازم تظل مكتومة وسرية .

س : بالنسبة لسجن تدمر كيف كان جو السجن قبل قيامكم بهذه العملية ؟

ج : كان هاديء ما في أصوات ما في شيء . بعدين طلعت الأمور مرتبة قبل دخولنا . يعني ما حدا اعترضنا بالدخول . الشرطة كانت حرس واقفة في جماعة حرس على الباب ورئيس حرس وفي شرطة بالساحة . أخذوا التفقد قبل العملية . تفقد للمساجين .

س : تفقد للمساجين ؟

ج : قبل بدء العملية .

س : طيب رقيب عيسى بالنسبة لزملائك في سرايا الدفاع في حد منهم كلف في مهمات أخرى ؟

ج : والله بعرف في بمفرزتي ، مفرزة الرائد معين ناصيف لحراسة منزله اللي رافقوا السيد عبد الحليم خدام وزير الخارجية . علي موسى رقيب .

س : وين رافقه ؟

ج : رافقه على عمان على مؤتمر القمة العربي . بعرف علي موسى رقيب من حمص ، علوي . بعرف همام أحمد ، رقيب من منطقة جبلة ، علوي . بدر منصور ، رقيب من منطقة جبلة ، علوي . وعلي صالحة ، عريف من منطقة مصياف ، علوي . عبد الرحمن هدلان ، علوي ، عريف . نزيه بلول عريف علوي . بشير قلو وعلي موسى . شاركوا في عملية تدمر .

س : شاركوا في عملية تدمر ورافقوا السيد عبد الحليم خدام لعمان ؟

ج : نعم .. وفي علي صالحة وطاهر زباري راحوا بمهمة سرية لروما واسبانيا .

إفادة أكرم علي جميل بيشاني

- عريف في سرايا الدفاع –

س : ممكن تقدم نفسك ؟

ج : أنا أكرم علي جميل بيشاني من محافظة طرطوس قرية يحمور . مواليد 1962 . أعزب . شهادتي الصف السادس الإبتدائي . علوي . اسم والدي علي جميل بيشاني ، علوي . اسم أمي حليمة يعقوب . واثنين حالياً يقيموا في قرية يحمور .

س : إيش عملك يا أكرم ؟

ج : حالياً عريف في سرايا الدفاع .

س : شو خدمتك بالعسكرية ؟

ج : في 23/3/1978 التحقت في صفوف سرايا الدفاع ونقلت إلى معسكر التدريب وهو معسكر القابون في دمشق . وهناك التحقنا في دورتين الأولى وهي دورة لغة ، والثانية دورة الصاعقة . ومن بعدها نقلت إلى كتيبة مدفعية رقمها 149 من لواء 40 سرايا دفاع . بالضبط هيك في شهر 5 سنة 1980 نقلت ضمن مجموعة الحراسة المفرزة حراسة بيت الرائد معين ناصيف والمجموعة هاي حوالي 25 عنصر .

س : إيش مركز الرائد معين ناصيف ؟

ج : قائد . هوه معين ناصيف قائد لواء 40 من سرايا الدفاع ، علوي من قضاء اللاذقية ، وتزوج ابنة العقيد رفعت الأسد ، تماضر الأسد . والعقيد رفعت الأسد شقيق حافظ الأسد وقائد سرايا الدفاع .

س : إيش المهمات اللي كلفت بها أثناء خدمتك في سرايا الدفاع ؟

ج : كلفت في مهمتين : الأولى هي مهاجمة سجن تدمر ، والثاية في داخل الأردن .

س : إيش المهمة الأولى ؟

ج : المهمة الأولى هي مهاجمة سجن تدمر . حيث أنه بعد محاولة اغتيال الرئيس حافظ الأسد بالشهر السادس السنة الماضية أيقظونا بعد بيوم يعني حثونا من المهجع حوالي الساعة الثالثة والنصف صباحاً وقالوا لنا اجتماع بالسينما في قاعة السينما الموجودة في اللواء مع السلاح الميداني الكامل . وطلعنا وصلنا على السينما بلشت المجموعات تتوافد . اللي قادنا بالسينما كان عدد المجموعة حوالي المجموعة الموجودة في السينما من اللواء 40 حوالي 100 عنصر مع ثلاث ضباط . وبعدين اجا قائد اللواء اجتمع فينا وألقى كلمة . بعد الكلمة قال هو انه الإخوان المسلمين قتلوا ضباط ، قتلوا المشايخ ، قتلوا الأطباء ، وبالنهاية حاولوا اغتيال الرئيس حافظ الأسد ، وهلا بدنا نكلفكوا بأول مهمة قتالية .

وطلعنا بعدين من اللواء 40 بسيارات وصلنا إلى مطار المزة . كان موجود هناك بالمطار هناك مجموعة من اللواء 138 يقدر عددها بحوالي 100 عنصر . واللواء 138 قائده المقدم علي ديب ، علوي ، قضاء اللاذقية . هناك كمان كان موجود 9 طائرات هيلوكبتر . جمعونا هناك على شكل مجموعات وكل مجموعة تسلمها ضابط ، وطلعونا على الطائرات الموجودة هناك ، وكل طائرة تسع لحوالي 24 عنصر .

وطلعنا من مطار المزة . كان قائد العملية هناك يعني اللي هو قائد أركانه للمقدم علي ديب ، علوي ، من قضاء اللاذقية بس ما بعرف شو اسمه .

أقلعنا إلى مطار تدمر هناك يعني أقلعنا حوالي الساعة الخامسة وصلنا حوالي الساعة السادسة أو السادسة وعشر دقائق . فجمعونا هناك وطلب قائد العملية المقدم اجتماع للضباط . جمع الضباط وقال لهم أعطوا العناصر استراحة حوالي ثلاث أرباع الساعة . وبعد الإستراحة ثلاث أرباع الساعة قسمونا على شكل مجموعات . فاللواء 40 كان على شكل ثلاث مجموعات ، وكل مجموعة استلمها ضابط . وأخذوا ينتقوا العناصر اللي بدها تدخل إلى سجن تدمر بشكل عشوائي . مثلاً الواحد بيعرف اسمه بيقول له : فلان أنت تعال ، أو ما بيعرف اسمه يأشر له بإيده انه تعال .

انتقوا حوالي 80 عنصر ، كذلك حوالي كمان انتقوا 20 عنصر لحراسة الطائرات والباقي خلوهم على شكل احتياط في المطار . بعدين توجهت العناصر هذا اللي انتقوهم يطلعوا حوالي 80 عنصر . هذا اللي بدهم ينفذوا العملية داخل السجن توجهوا على شكل مجموعات بسيارة نقلتهم إلى داخل السجن . بعد ثلاث أرباع الساعة من دخولهم إلى باب السجن الخارجي بدأنا نسمع صوت إطلاق نار ودوي انفجار صوت قنابل . يقدر عدد القنابل بحوالي 7 قنابل تفجرت هناك . ودام اطلاق النار حوالي ثلاث أرباع الساعة كمان . بعده طلع العناصر من السجن مثل ما دخلوا . طلعوا على شكل مجموعات .

س : انته كنت مع أي مجموعة ؟

ج : أنا كنت مع مجموعة الإحتياط يالي ظلت هناك في المطار . بقى لما طلّعوا العناصر من السجن كان فيه بعض الناس ملطخين بالدماء . ملطخين ثيابهم بالدماء . بعرف أسماء ياللي تلطخوا ثيابهم بالدماء هو الملازم رئيف عبد الله . الملازم منير درويش . الرقيب علي محمد موسى . وطلعنا كل واحد على طائرة .

س : من اللواء 40 والا ؟

ج : لا .. من اللواء 40 هدول . طلعنا بعدين على الطائرات مثل ما اجينا ورجعنا إلى مطار المزة . وصلنا لمطار المزة حوالي الساعة الثانية عشرة الظهر . كان معنا منصاب واحد . والشي اللي خلاني أعرف أنه انصاب معنا واحد فيه الملازم ياسر باكير من اللواء 40 قال وجه كلامه لكافة العناصر انه قائد اللواء بده يجتمع فينا هلا في السينما . اذا سأل عن الإنسان ياللي انصاب قولوا له انه طلقة مرتدة ضربت في الحائط ورجعت بعدين انصاب . قلنا له ماشي الحال . وطلعنا بالسيارات واتجهنا اتجاه اللواء 40 واجتمعنا في قاعة السينما .

س : جميعكو توجهتوا مع بعض انتو وأفراد اللواء 138 والا 40 لوحده ؟

ج : اللواء 40 لحاله ، وهدولاك راحو على المعسكر تبعهم . فاللواء 40 ناس يعني يالي اشتركوا من اللواء 40 اجتمعوا في السينما وإجا قائد لواء ألقى فيهم كلمة شكر .

س : اللي هوه الرائد معين ناصيف ؟

ج : الرائد معين ناصيف ألقى فيهم كلمة شكر بذكر منها أنه : أنتو قمتوا بعمل بطولة . بعمل رجولة ، مع انه لأول مرة نكلفكوا بهيك مهمة . بعدين طلعنا من قاعة السينما وأخذ يعني كل انسان يتحدث مع زميله . فالتقيت أنا مع أحد زملائي هناك وهو الرقيب علي موسى من مفرزة حراسة الرائد معين ناصيف وسألته لأنه هو من الجماعة اللي دخلوا على السجن نفسه أنه شلون هناك تمت العملية . قال لي انه قسمونا على شكل مجموعة كانت حوالي 8 عناصر وكل مجموعة تسلمها ضابط كانوا يفوتوا إلى الغرفة ياللي فيها السجناء . يفتحوا الباب ويطخوهم مباشرة بدون سؤال بدون أي كلام . فقلت طيب هدولاك ما كانوا يستنجدوا ؟ قال : كانوا يستنجدوا ويقولوا الله أكبر . كانوا يقولون لنا : منشان الله .. مشان محمد .. مشان أمك .. مشان أختك ما تقتلنا . قال لي انه ما كانوا يستمعوا لهالحكي هاي نهائياً وطخوهم بعدين طلعوا . قلت له : طيب قديش تقدر عدد القتلى ياللي داخل السجن من السجناء ؟ قال لي : عدد القتلى بيطلعوا 500 أو 600 من السجناء هدول ياللي في السجن . وفي اليوم الثاني وزعوا لكل الناس هاللي اشتركوا لكل الزملاء ياللي اشتركوا بالمهمة كل واحد 200 ليرة سوري .

س : مين تعرف من اللي اشتركوا بهالعملية ؟

ج : بعرف العريف ناصر عبد اللطيف من قضاء طرطوس أو اللاذقية ، ما بعرف بالضبط علوي . بعرف غسان شحادة من قضاء اللاذقية ، علوي . بعرف الرقيب علي موسى من قضاء حمص اللاذقية . بعرف العريف طاهر زيادي من قضاء اللاذقية ، علوي . والرقيب طلال محي الدين أحمد ، علوي من اللاذقية . والرقيب نزيه بلول ، علوي من قضاء حمص . والعريف حسين علي ، علوي من قضاء حمص . والرقيب همام أحمد ، علوي من اللاذقية . هدول هنه الناس اللي بعرفهم من اللي اشتركوا .

س : مين تعرف من الضباط اللي اشتركوا ؟

ج : هم الملازم رئيف عبد الله من كتيبة المشاة التابعة للواء 40 سرايا الدفاع ، قضاء اللاذقية ، علوي . والملازم منير درويش كمان من كتيبة المشاة تابع للواء 40 سرايا الدفاع ، قضاء اللاذقية ، علوي . والملازم أول ياسر باكير من اللواء 40 كمان علوي من قضاء حماة .

س : انت يا أكرم كشاب في بداية شبابك شو اللي ورطك في هيك مهمات ، وليش اخترت سرايا الدفاع ؟ ج : أولاً فيّ أقول انه الشي اللي خلاني اختار سرايا الدفاع هوه سوء حالتي المادية والراتب اللي يتقاضاها جنود سرايا الدفاع أعلى من الرواتب في أي قطاعات الجيش الثانية ، حيث أنه جندي في سرايا الدفاع يتقاضى حوالي 1200 ليرة سوري ، أما أي جندي في بقية قطاع الجيش يتقاضى حوالي 500 ليرة أو 600 ليرة سوري . أما بالنسبة لورطتي في هذه العملية أنه بستطيع أقول أنهم استغلوا ظروفي كإنسان حالتي المادية سيئة وأغروني بالفلوس واستغلوا صغر سني ، كمان استغلوا كوني عسكري مأمور وما في أرفض هيك أمر .

س : بالنسبة للضباط تعرف شيء يعني من تميزهم عن الضباط الآخرين يعني ضباط سرايا الدفاع يتميزوا بشيء عن ضباط آخرين في الجيش السوري ؟

ج : والله ما بعرف عن الضباط ككل بس بعرف عن الضابط اللي أنا عنده موجود عنده .

س : اللي هوه ؟

ج : الرائد معين ناصيف موجود عنده حوالي 8 سيارات يعني

س : خاصة منه ؟

ج : خاصة منه وحالته المادية كويسة يعني .

س : كيف عايش هذا الضابط اللي انته تقوم بحراسته ؟

ج : عايش انسان مرفه يعني بشكل .

افادة طه الخالدي

س : مجزرة تدمر .

ج : كنا بسيارة أبو شلحة وخلال رجعتنا للشام دار حديث بين الإثنين هدول يعني اللي جبناهم من الفندق ماجد أبو شلحة ودار حديث بيننا عن الأوضاع الداخلية والمشاكل اللي بسوريا . حول قال واحد منهم يمكن أذكر انه اسمه عبد المنعم قال انه اشتركت في إحدى المجازر وهي مجزرة تدمر . حدّث علي فقال 8 طائرات ركبنا هيلوكبتر حملونا فيهم ونزلنا بقرب سجن تدمر ودخلنا على المساجين وقتلناهم كلهم روحناهم كلهم . بعد ما قتلوا المساجين سولف عبد المنعم كان أخوه رفيقه هذا أو زميله بادره في الحكي في الحديث فسأله : قديش كان العدد ؟ سأله ماجد أبو شلحة . فقال له : فوق ال700 قتيل . بعدان جت تركات جرافات بسيارات قلاب شالوا الجثث وشالوها إلى وادي شرق تدمر دفنوها هناك ووصلنا الشام .

من سجل الشهداء

ليس من السهل أبداً أن يصدر إحصاء حقيقي عن عدد شهداء سجن تدمر أو أسماء أولئك الشهداء . فالإرهاب الذي يحيط حياة المعتقلين ابتداء ، والسرية التي تتم بها الإعدامات من بعد ، وانقراض الشهود تلو الشهود ، والتوتر والخوف والتنقلات ، وانتظار الموت الدائم .. كل ذلك يجعل المعتقل ذاهلاً عن كثير مما يدور حوله ، جاهلاً بما يحدث حتى خلف باب المهجع الذي يقبع فيه .

ومما رسخ في الذاكرة ، وبعد تمحيص وتدقيق ومراجعة متكررة ، أستطيع أن أثبت فيما يلي أسماء من شهدت إعدامهم بنفسي ، أو سمعت أسماءهم تتلى من سجل المطلوبين للإعدام ، أو بلغني من مصادر ثقة أن إعدامهم قد تم تنفيذه فعلاً . وغالب أولئك قضوا في سجن تدمر ، وقليل منهم أعدموا في سجن المزة وحمل إلينا الخبر القادمون ممن عاصروا إعدامهم هناك . وإني وأنا أسأل الله تعالى الرحمة والقبول للشهداء ، أؤكد ما هو معلوم من الأمر بالضرورة ، بأن عدد الذين قضوا على أعواد المشانق أو بأيدي الجلاوزة والزبانية . أضعاف أضعاف هذا الرقم . وأعود لذلك فأهيب بكل أخ شهد هذه المحنة أو علم عنها مهما علم ، أن يسجل ذاك الذي شهد ، ويوثق ما علم وما وعى ، عسى أن تكمل أمثال هذه الأعمال بعضها البعض ، وتكمل الجهود المتعددة صورة الفاجعة ، وتحفظ للأجيال مدى الشناعة التي اقترفتها الأيدي الآثمة ، بحق أبناء القطر السوري المنكوب !

الاسم المدينة المهنة التاريخ الكيفية
غالب حداد حماة 00 1980 شنقاً
حسن الصغير حمص 00 مجند 1981 شنقاً
عبد المجيد الدباغ حمص معلم رياضيات 1981 شنقاً
حسين الطنجي حلب طالب ثانوي 1981 شنقاً
أمين الأصفر حماة خريج المدرسة الشرعية 1981 شنقاً
محمد فخري حماة مهني 1981 شنقاً
مأمون كردي حماة طالب جامعي 1981 بالتعذيب
ناصح شنيطبي دمشق 1981 الكوليرا
جهاد حلاق دمشق 1981 بالتعذيب
ناصر الدين البيك حمص طالب هندسة 1981 شنقاً
نعيم صيام الأردن طالب تجارة بحلب 1981 شنقاً
حسين رشيد عثمان حلب صحفي في وكالة الأنباء السورية 1981 أو 1982 شنقاً
أيمن عثمان حلب نقيب متطوع 1982 شنقاً
جمال عقيل حلب طالب هندسة 1982 شنقاً
جلال الدين جلال حلب 1982 شنقاً
محمد صادق العون حماة كلية الشريعة 1982 شنقاً
عبد الكريم غانم دمشق طالب هندسة 1982 شنقاً
كمال أندورة دمشق طالب كهرباء 1982 بالمرض
هشام مجندف حمص مجند بالآمرية 1982 بالمرض
بسام الهاشمي حمص طالب ثانوي 1982 بالمرض
سامي وحود حمص طالب ميكانيك 1982 بالمرض
زاهد داخل حلب طبيب 1982 بالتعذيب
حسان طرابيشي حمص طالب ميكانيك 1982 شنقاً
توفيق دراق السباعي حمص طبيب أعصاب 1982 شنقاً
عبد العزيز عوض سالم حماة مجند عسكري 1982 السل
يحيى عبد الكريم الشامي حماة طالب صيدلة 1982 بالتعذيب
عبد الوهاب حلموشي حمص طالب جامعي 1982 شنقاً
يوسف عبارة حلب 1982 شنقاً
بسام سباعي حمص مهندس 1982 أو 1983 شنقاً
محمد صنوبر دمشق طالب بكالوريا 1983 شنقاً
عبد الحكيم ....... إدلب مدرس لغة عربية وملازم مكلف 1983 شنقاً
عبد الرحمن فليطاني حمص موظف 1983 السل
مصطفى .... حلب تاجر 1983 السل
عبد الساتر مصطفى حمص 1983 السل
محمد حسن عجعوج حماة 1983 السكتة القلبية
عبد الكريم الصالح دير الزور طالب هندسة 1983 شنقا
مأمون الذهبي دمشق طالب بكالوريا 1983 المرض
أحمد دعدع حماة مهني 1983 أو 1984 شنقا
عبد الكريم الصالح حلب طالب هندسة 1983 أو 1984 شنقا
حسين العدم الأردن سائق سيارة 1983 أو 1984 شنقا
عبد المعز العجمي حمص طالب هندسة 1984 شنقا
نديم منصور إدلب خريج جامعي 1984 شنقا
جمال عيار حلب خريج المدرسة الشرعية 1984 شنقا
ملهم الأتاسي حماة طالب زراعة 1984 شنقا
....... العابدي دمشق تاجر 1984 شنقا
ملهم الأتاسي حمص طالب جامعي 1984 شنقا
طريف حداد حمص طالب بكالوريا 1984 شنقا
هيثم ملا عثمان دمشق طالب هندسة 1984 شنقا
عمر بدر حمص أعمال حرة 1984 شنقا
يوسف عبيد دمشق 1984 شنقا
ضياء أسود حلب طالب هندسة 1984 أو 1985 شنقا
عبد الكريم مهلهل دير الزور طالب طب 1984 أو 1985 شنقا
......... سراج دير الزور طالب طب 1984 أو 1985 شنقا
حزين قاسم المعرة مدرس ابتدائي 1985 السل
مصطفى المصطفى حلب خريج المدرسة الشرعية 1985 السل
....... عطار حلب طالب ثانوي 1985 شنقا
أيمن عنجريني حلب طالب 1985 أو 1986 شنقا
أحمد غنوم حلب عميد في الجيش 1986 شنقا
عمر حيدر المعرة مدرس 1986 السكتة القلبية
طاهر العلو حلب 500 1986 شنقا
زاهي عبادي دير الزور طبيب 1990 غير واضحة
....... وطفة دمشق مجند عسكري شنقا
عبد الإله بعلبكي دمشق مهني شنقاً
أحمد فطومة حماة مهني بالتعذيب
طاهر عارف جيللو ادلب مدرس ديانة شنقاً
محمد أرمنازي حماة 500 شنقا
مطاع أتاسي حمص طبيب شنقاً