تاج الجزيرة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
تاج الجزيرة

3 سبتمبر 2009

بقلم: نيفين مسعد

فى مكتبتنا الإذاعية صورة غنائية بديعة عنوانها «قِسَم». تحكى الصورة عن مرزوق الإسكافى الفقير، الذى كان يعيش سعيدا مع أولاده وزوجته أم شوق، فلم يكن يكدر صفوه إلا حقد جاره التاجر الغنى، الذى كان ينكر عليه سعادته. وفى ذات يوم ضاق مرزوق بكيد جاره، فخرج من منزله مهموما لا يحمل معه إلا سلطانية يملأها سمنا لتصنع به زوجته كنافة للأولاد.

وفى طريقه صادف مرزوق مركب صيد فصعد إليها كالمسحور، وأقلعت وهو على متنها.

وكما نسج مرزوق علاقات محبة مع أسرته على الأرض راح ينسجها بإخلاص مع طاقم السفينة فى اليم فأحبهم وأحبوه.

لكن لأن الرياح قد تأتى بما لا تشتهى السفن، هبت عاصفة شديدة حطمت المركب ولم ينجُ منها إلا مرزوق، الذى ألقى به الموج إلى جزيرة فى بحر الظلمات.

عندما أفاق مرزوق ووجد نفسه محاطا بوجوه غريبة يصوب أصحابها حرابهم إلى صدره، تملكه الرعب وحكى لملكهم حكايته وصولا إلى خروجه من بيته لا يحمل غير السلطانية.

ظن الملك وأتباعه أن السلطانية تاج عظيم وأعجبوا بها أيما إعجاب، فأهداها لهم مرزوق مندهشا وأهدوه فى مقابلها مالا وفيرا ولآلئ باهظة الثمن.

عاد مرزوق إلى بيته معززا مكرما، وقد تبدل حاله ما بين طرفة عين وانتباهتها من فقر إلى غنى، فلما أراد جاره أن يقلده وذهب إلى الجزيرة محملا بأفخر الثياب والهدايا لم يملك حاكم الجزيرة أمام كرمه الشديد إلا أن يخلع عليه أغلى ما لديه، وهو تاج الجزيرة: السلطانية.

الصورة الغنائية «قِسَم» مأخوذة بتصرف من حدوتة فى تراثنا الشعبى عنوانها «التاج العظيم»، وكان بطلها بالمناسبة صيادا فقيرا يعيش فى بلدة حاكمها لا يهتم إلا بنفسه وتربطه بأثرياء البلدة علاقات منفعة. مضمون الحكايتين واحد، وهو أن الجشع يؤدى إلى التهلكة.

ولعل أكثر أبناء الجيل الجديد لم يسمعوا لا بحدوتة «التاج العظيم» ولا بالصورة الغنائية المنقولة عنها، بل إن صاحبتنا نفسها احتاجت جهدا خاصا لتتذكر تفاصيل الحدوتة التى سمعتها عشرات المرات، ورددت مع كل أبناء جيلها بعض مقاطعها الطريفة من نوع «وراحت المركب ستميت حتة» أو «بحر الظلمات: يا لطيف اللطف يارب»، وضحكت معهم من قلبها على الجار الطماع، وهو يتقلد تاج الجزيرة الذى لم يكن فى واقع الأمر إلا السلطانية.

أعادت قصة صيادى قرية البرج الأبطال الذين نجحوا فيما فشلت فيه الأساطيل البحرية للقوى الكبرى، فحرروا أنفسهم وأسروا خاطفيهم، أعادت هذه القصة إلى ذاكرتها تفاصيل الصورة الغنائية «قِسَم»، فلماذا؟ ربما لأن مغامرة مرزوق كان بها بعض من مغامرة الصيادين، فهذا بحر وذاك بحر، وإن كان القياس هنا طبعا مع الفارق.

وربما لأن مرزوق عاش كما عاش الصيادون أياما فى ضيافة أغراب عنه فى الخلق والطباع، وإن كانت ضيافة الصيادين أطول ومضيفوهم شداد غلاظ على عكس الحال مع مرزوق. وربما لأن الصيادين ركبوا بحرا غير بحرهم هربا من قسوة واقعهم كما سبق لمرزوق أن فعل، مع فارق أن بيئة الصيادين كانت قسوتها أشد بعد أن تكالب عليهم شح الصيد وقلة الرزق وتجاهل الدولة.

لنتأمل معا المرارة الشديدة التى كان يتحدث بها الصيادون عن رحلات الهلاك، التى كانوا يشدون لها القلاع على سواحل أفريقيا، وعن اضطرارهم فى كل مرة لتوقيع تعهد بعدم مسئولية الجهة الحكومية عما قد يحدث لهم، ولنتساءل: فى أى عرف تقف الدولة على الحياد إزاء خطر يتهدد حياة مواطنيها وتخلى مسئوليتها عنهم؟ وأى حد أدنى من الانتماء نتوقعه من مواطن يكون كل ما بينه وبين وطنه ورقة يتنازل فيها عن أمنه؟ وبأى حق تستحل الجهة الحكومية «اللا مسئولة» عن حياة الصيادين عرقهم فتكسب من صيدهم، الذى كان يمكن أن يهلكهم فى مياه البحر؟ وما الذى يتبقى لأبنائنا عندما تُجرف الأرض وتُجفف المصايد وتُباع المصانع إلا أن يبحروا غير مأسوف عليهم إلى سواحل إسبانيا وإيطاليا وفرنسا أو يصيدوا على سواحل الصومال والخليج؟

موجعة هى حتى الإبكاء حكايات الصيادين البسطاء قبل أن يؤسروا، لكنها موجعة أكثر بكثير بعد أن أسروا، وتعالوا نقرأ عن أم صياد عرضت كليتها للبيع فداء لابنها، ومع ذلك لم تجد من يشترى، أو عن أخرى يشعرها الاستخفاف بمصير الصيادين الأسرى بأنهم مجرد «كلاب» أو أن «دمهم لا يوجد أرخص منه».

عندما يحاول أحدنا، مجرد محاولة أن يضع نفسه فى مكان أى فرد من أفراد أسر الصيادين، الذين طالت غيبتهم شهورا خمسة فإنه لا شك سيعجب من قدرة هؤلاء الأهل على الاستقواء على تجاهل «اللا مسئولين» بالتعاطف معهم من جانب أبناء الكار، وعلى مقاومة التيئيس الحكومى من النجاة بالثقة بلا مدى فى رحمة الله، وعلى الاستعاذة من سلاح القناصة بالآية الكريمة «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله».

فى حكايات الصيادين بطولات كثيرة، بطولات زائفة وبطولات حقيقية، وفى لقاءاتهم أقاويل كثيرة، أقاويل موجهة للإعلام وأخرى موجهة للأهل، والإعلام نفسه مفروز إلى إعلام حكومى وإعلام مستقل، وهناك أموال وأحداث وأدوار كثيرة منها ما أنفق ووقع وكان ومنها ما هو من صنع الخيال.

لكن تظل الحقيقة الثابتة أن هناك أربعين رجلا أو أربعين بطلا حملوا أرواحهم على كفوفهم وانطلقوا بحثا عن لقمة العيش، وعاشوا تحت المقصلة قرابة مائة وخمسين يوما، وحققوا بعفوية شديدة إنجازا لم يخطر على عقل بشر، ومن رأى المركبين «ممتاز1» و«سماره نصر» المتهالكتين لابد أنه أدرك من فوره أى معجزة إنسانية حققها هؤلاء الصيادون المصريون.

إن كل واحد من الصيادين الأربعين جدير بـ«تاج الجزيرة» الحقيقى يكلل رأسه ويعلو هامته تقديرا له واحتراما، أما السلطانية.. فلتذهب إلى من يستحقونها، وما أكثرهم!

المصدر