بين الواقع المر والتغيير المنشود

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
بين الواقع المر والتغيير المنشود

رسالة من المستشار "محمد المأمون الهضيبي" المرشد العام للإخوان المسلمين

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وبعد:

تعيش أمتنا واقعًا مُرًّا يلفُّها من أقصاها إلى أقصاها، ويكتنفها في مؤسساتها ومنظماتها، ويغشاها في تفكيرها وفي نخبتها، التي رضيت بالدنيوية والعلمانية، ولولا فضل الله ورحمته في حفظ قرآنه الكريم- دستور الأمة الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه-، والسنة الهادية التي جمعت القلوب على آداب وأخلاق متمم مكارم الأخلاق- صلى الله عليه وسلم-، والدعوة التجديدية الكبرى- التي أكرم الله بها الأمة بعد زوال الخلافة في الربع الأول من القرن العشرين، فأحيت القلوب وجددت النفوس، وجمعت القاصي والداني وربطته بحبل الله المتين- لولا ذلك لكان الحال مؤسفًا والواقع مظلمًا، ومن المهم أن نُدرك ونستيقن أن الله تبارك وتعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن الله خلق الفطرة البشرية مجبولة على الخير محبة له، وأن رصيد الخير في النفوس كبير وعظيم، وآية ذلك انتشار الإسلام في القارات كلها مصداقًا لقول الله عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ (الفتح:28).

مسئولية أصحاب الرسالات

إن على أصحاب الرسالات أن يُدركوا أن الله اجتباهم؛ ليكونوا شهداء على الناس، وأن حياتهم صارت وقفًا على الجهاد في سبيل الله، والجهاد هنا هو جهاد النفس حتى تستقيم على أمر الله، وجهادها حتى تدخل في السلم كافةً، تستوعب الدعوة بمحكماتها وكلياتها؛ حتى ترد المتشابهات إليها، ثم تنطلق بالدعوة مبلغة، مبشرةً ومنذرةً وهاديةً، على حد ما قال الله في الداعية الأول- صلى الله عليه وسلم-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا* وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيرًا* وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً﴾ (الأحزاب: من 48:45)،وليعلموا أن الله عز وجل وعد- ووعده الحق- عباده المؤمنين بقوله: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت:69).

ولندرك أنه لابد أن نبلغ مرتبة الإحسان ليكون معنا ربنا سبحانه وتعالى، وهذا يقتضي استفراغ الجهد في كل ما نباشر من عمل للدعوة، سواء أكان عملاً دعويًا أو تربويًا يقتضي تعهدًا مستمرًا وتنوعًا وتغييرًا، كما قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "كان صلى الله عليه وسلم يتعهدنا بالموعظة مخافة السآمة علينا"، ولندرك أن بلوغ مرتبة الحكمة في الدعوة شيء واجب لنحسن توصيل الدعوة إلى غيرنا والحكمة هي الفقه بجميع نواحيه، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الألْبَابِ﴾ (البقرة:269). ولذا أمرنا أن ندعو إلى الله بالحكمة فقال سبحانه: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: من الآية125)، وهذا يقتضي أن نُعنى بأخلاقنا ليتطابق القول بالعمل،

ولتصبح أخلاقنا لُحمة تحبب فينا عبادة المؤمنين، فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن من أقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا الموطئون أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون، وإن من أبعدكم مني مجالس يوم القيامة الثرثارون المتفيهقون"، وصدق الله- عز وجل- إذا يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ (الصف:3:2).

واقع يحتاج للتغيير

ومن هنا فإن واقعنا المر الذي نراه ونشاهده يحتاج إلى عملية التغيير الكاملة الشاملة؛ حتى يصل إلى مؤسسات المجتمع وهيئاته، وتنطلق به برامجه وقنواته، ويؤكده نظامه التعليمي والسياسي والاقتصادي، ويقود سفينته في كل مرفق من يخشون الله ويخافونه، وتجتمع فيهم القوة والأمانة، والحفظ والعلم على حد ما بين الله- سبحانه وتعالى- في سيدنا موسى ويوسف- عليهما السلام-: ﴿ِإِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ﴾ (القصص: من الآية26)، ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ (يوسف:55)، ولابد أن ندرك أن له سننًا هاديةً في النفس والحياة، فإذا عاد المجتمع إلى هـــذه السنن والتزم بها أثمرت الخير والفلاح، وصدق الله إذ يقول: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (الأعراف:96)،

وقد رأينا رسولنا الكريم- صلى الله عليه وسلم- يرعى سنن الله في كل شيء، في دعوته، ومع أصحابه، وفي هجرته، وغزواته، فمكنهم الله ونصرهم، وأمتن عليهم بقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (الأنفال:26)، وقد حذرنا الله- عز وجل- من سنن المكذبين المفسدين فقال:﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (الأنعام:11)، وبين لنا أن عاقبة المجتمعات التي تنكبت الطريق وضلت السبيل الهلاك والبوار فقال سبحانه: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾(النحل:112) .

فقضية التغيير تخضع خضوعًا كاملاً لسنن الله في الحياة إن صدقًا وإن كذبًا، وها نحن نرى ونشاهد ذلك في الأفراد والجماعات، فسنة الصدق تهدي إلى البر، وتثمر الثقة والمحبة، وسنة الكذب تثمر الفجور وانعدام الثقة، وصدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا".

سنن تثمر خيرية الأمة

وقِسْ على ذلك سنن العدل والأمانة والشورى والنصيحة .. فإنها تثمر خيرية الأمة وتؤكد رسالتها، وعلى العكس فإن التطفيف والجور، والخيانة، والاستبداد، وإهمال النصيحة ينتج الفساد وتخلف المجتمع ويقلل كفاءة الأفراد والجماعات والهيئات فيه .. وذلك وصف الله المؤمنين بقوله سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ* وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (الشورى:38:37).

وها نحن نرى في تاريخنا المعاصر صدق ذلك، فحينما عادت الأمة إلى ربها رزقها الله بصلاح الدين الذي حرر بيت المقدس ودخله كما دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكة قائمًا، وحينما عاد الجيش المصري إلى الله، واختلط العلماء بضباطه وجنوده، وكانت صيحته التكبير واتخذ من أسباب النظام والتدريب .. رزقه الله نصر رمضان المبارك، وانهار خط بارليف الذي لا يهزم، وفي جهاد إخواننا في فلسطين وثباتهم البرهان المبين، فقد جاءهم القاصي والداني يلح عليهم في الهدنة .. وصدق الله العظيم : ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: من الآية40)، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد:7).

وصلي الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.