الينابيـع الأولى

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

فهرس الكتاب

كان الجد من أتباع " محمد بن عبد الوهاب " وقد طبع كثيرا من كتب الوهابيين على نفقته الخاصة ومنها ما هو موجود فى مكتبات الحكومة السعودية . وكان عالما يلبس العمامه كل أصدقائه من علماء الأزهر من أمثال المرحوم الشيخ " إمام السقا " .

وكان كثيرا ما يدعو هؤلاء العلماء لقضاء يوم بزهائه فى العزبة فإذا جاء موعد القطار الذى يقلهم من القاهرة يستقبلهم على المزلقان الذى يمر عليه القطار .. وكان حاضرالبديهة فغذا ما جاءوا جميعا استقبلهم بقوله : " ما شاء الله ! آتونى بأهلكم أجمعين . ألا يعتذر واحدا منكم ولو مرة ! " فإذا مر بهم بعض الأوز أو البط أو الديكة الرومية صاح فى الدجاج : " لا تلقوا بأيديكم الى التهلكة " . حتى إذا ما انتهت فترة الاستقبال بدأت المناقشات العلمية واحتدت حتى ليخيل للسامعين أنهم على وشك الاشتباك بالأيدى من حدة المجادلة والتمسك بالرأى حتى إذا ما حان وقت الغداء صفا الجو واختفت حدة المناقشات وحلت الابتسامات والقفشات كأنه لم يكن هناك شىء بالمرة وكان يطيب لى أن أشهد تلك الجلسات وأصغى لتلك المناقشات حتى تكونت لدى الانعطافات والميل الى علوم الدين والوقوف علىالكثير مما لم يتوفر لأترابى بل لأخوى اللذين يكبرانى فى السن وبدا ذهابى الى الكتاب فى القرية " كتاب سيدى على " ويقوم بالاشراف عليه المرحوم " الشيخ عبد العزيز القلماوى " والمرحوم الشيخ " أحمد الرفاعى" من أهل قرية نوى " .

كنت مواظبا على الحفظ وكنت أحب العلم للعلم خاصة ما تعلق منه بأمور الدين نشأت فى العزبة فأحببت الريف وحياة الفلاحين حبا ملك على كل عواطفى استحممت فى الترعة وسبب لى ذلك مرض البلهارسيا الذى عانيت وما زلت أعانى منه كثيرا . كنت أنزل الى بطن الساقية على القواديس وأسبح فيها كذلك وإن كنت قد نسيت كثيرا من قواعد السباحة . كنت أيام " دراس القمح" أسوق النوارج وأنام على رمية القمح كنت أركب الخيل بلا سرج وأطلق لها العنان فى رمال كانت بالقرب من العزبة .

كنت أعشق كل ما فى ا لريف : الشجر .. الطير .. البساطة . أسبح وأنا بمفردى ليلا فى عالم لا أدرى ما هو وتمسكا بالصدق ما كنت اسبح فى ذلك الجو مسبحا أو مفكرا أو متدبرا ولكنى أهيم فى جو لا أدرى ماهو ما مبتداه وما منتهاه لماذا أهيم فى ملكوته ؟ لماذا أعشق ذلك المجهول الذى كنت مدلها فيه ؟ لماذا هذا " السرحان " الذى كنت أتوه بين لا نهائيته ؟ لست أدرى لكنى كنت به سعيدا كل السعادة . كنت عاشقا لمن أو لماذا ؟ لست أدرى . هل كنت خياليا وهل كنت واهما ؟ هل كنت مصابا بنوع من أنواع الأمراض النفسية ؟ كنت أحس فى تلك اللحظات بأنى أستطيع أن أطير بلا جناحين فى أجواز الفضاء أطير بغيرما هدف !.


حــب الطيـران

أين تذهب بى أجنحتى أين يستقر بى مقامى ؟ والى أى مدى أرتفع عن سطح هذه الأرض ؟ كل ذلك ما كان يشغل بالى ولكن الذى كان يستهوينى أنى كنت أحب أن أطير وقد بلغ بى هذاالهوى حد مزاولته فى عالم الاحلام ربما الى اليوم . فأنا فى النوم كثيرا ما أطير ولا تدهش إذا قلت لك إن رحلاتى الى أوربا وأمريكا وأسيا فى سبيل الدعوة الاسلامية بلغت عشرات العشرات بلا سآمة ولا ملل .. طيران يسلمنى الى طيران وطائرة تحملنى الى غيرها رغم ما بلغت من العمر ورغم تحالف الأمراض على هذا الجسد الذى باضت عليه صقور الدهر وأفرخت نسوره .وكم أتمنى حتى هذه اللحظة أن أعود لأحيا فى الريف بين أحضان السكون الغامر والليل الساجى مع النجم الساهر وصيحة الديكة فى الفجر الباكر وزقزقة العصافير التى تبدأ فرادى كأنما يوقظ بعضها بعضا حتى إذا استيقظت كلها راحت تعزف ترنيمة الصباح مسبحة بحمد المبدع العلام الذى جعلها تغدو خماصا وتروح بطانا . ولو أن البشر استمعوا الى هذا الدرس الذى تطالعه بهم الطير كل صباح لعاشت الدنيا فى أمن وافر وسلام غامر ولكن لذلك خلقهم بحكمة اقتضت ما عليه وما كان لنا ان نناقش ربنا الحساب فهو ا لذى خلق وهو الأعلم بما يصلح لما خلق وكل الذى علينا أن يعود كل منا الى تعاليم دينه فينفذ منها الأمر ويتجنب النهى .

وعابث وطائش وغافل ومتطفل من يحاول بعقله المحدود معرفة حكمة الذى برأه وسواه وإرادته ومشيئته فى قضائه وقدره ولست أهضم اشتغال الناس بأمور لا تنقص من إسلامهم ولا تزيدة إذا تركوها لحكمة مصرف الأكوان .

تستطيع أن تقول إننى كنت رومنسيا ولا أزال . أحب الأدب الخلقى والفنى وأعيش فى الحياة ..


فشل فنى

لست ميالا إلى الجدل وكثيرا ما كنت أتركه إذا ما رأيت فى محدثى ميلا اليه رغم وضوح الحق فى موضوع الجدل . أحب الجمال فى كل شىء فى الابداع التكوينى للبشر .. فى جمال الطير وتحليقه فى رقة الغزال ونحافة سيقانه .. فى صبر الأفيال فى بريق عينى ألسد والنمور فى خرير الماء فى حفيف أوراق الشجر فى القطار يمضى وكأن الأرض هى التى تطوى وليس هو الذى يطويها فى كل شىء جميل يمكن أن يخطر فى بال إنسان . ورغم أنى وعيت الدنيا فوجدتنى أصلى وأصوم ورغم بدء حفظى للقرآن وبعض الأحاديث والكتب الدينية فى سن ما أظن حدثا أو يافعا مارسها فيه فقد كانت تستهوينى بأعمال البطولة وحماية الشرف والعشق والهيام .. فقرأت أول ما قرأت كتب أبى زيد الهلالى سلامة وقرأت عن عنترة بن شداد وسيف بن ذى يزن . ثم تدرجت الى قراءة كل روايات " اسكندر ديماس " وابنه وتعرفت الى ابطال قصصه الذين كانت شجاعتهم والدفاع عن معشوقاتهم تملك على كل أوقاتى فى شهور الأجازة . وقرأت الأرضلأميل زولا فلم تنل منى اهتماما لوقاحتها وخروجها عن حيز الذوق واللياقة رغم الطنطنة التى أثيرت حولها .

قرأت البؤساء وكل ما كتبه المنفلوطى وبكيت بحرارة مع مآسيه كنت نهما فى القراءة ورغم كل هذا العشق للأدب لم أستطع أن أكون أديبا أو موسيقيا رغم حبى للموسيقى وعزفى على العود لسنين ولم أستطع أن أكون شاعرا رغم كل محاولاتى الفاشلة وعرضت ما أ كتب من الشعر على بعض الشعراء فقالوا لى أن ما تكتبه كلام مسجوع فى أبيات وليس شعرا .

وكان آخر بيت شعر كتبته :

خضعت لوحى قريحتى الأشعار ورنت إليها الغرد الأطيار

ومن هذا البيت تستطيع أن تحكم إن كان شعرا أو تخريفا .. فكففت . ولسبب لا أدريه صرفنى الله عن كل هذه المحاولات الفنية التى فشلت فيها فشلا لامثيل له إن لم تكن مثالا للهزال الفنى أو الفن الهزيل السخيف .

وأقبلت علىا لقراء ات الدينية فقرأت تفسير الزمخشرى وابن كثير والقرطبى وسيرة ابن هشام وغيرها من السير قرأت أسد الغابة والطبقات الكبرى ونهج البلاغة والأمالى والعقد الفريد لابن عبد ربه والعقد الفريد لابن سيده والبخارى ومسلم .ز من الجلدة الى الجلدة ورغم كل ذلك فإنى أومن بأن ما قرأته قطرة من بحر لا تروى الظمأ .

الشىء الوحيد الذى استفدته من وراء كل هذه المعاناه أننى أعرف للناس أقدارها فلم أمس إنسانا بقلمى ولا بلسانى حتى الذين هاجمونى ونالوا منى لخلافى معهم فى الرأى .

فهرس الكتاب