الهجرة والأخذ بالأسباب

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الهجرة والأخذ بالأسباب

29-01-2006

بقلم فضيلة الشيخ محمد عبد الله الخطيب*

الحمد لله نستعينه ونستهديه ونتوب إليه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله وصفيه وخليله، بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن دعا بدعوته واهتدى بهديه وسار على سنته إلى يوم الدين.

أما بعد فمن أهم دروس الهجرة التي نستفيد بها ونقف عندها ونحرص عليها ونطبقها في حياتنا، وهي أمرٌ مرصودٌ بارزٌ في هجرته- صلى الله عليه وسلم- اتخاذ الأسباب، اتخاذ السبب، مع أنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- من أحق أهل الأرض بنصر الله وبتوفيق الله، ولكنه اتخذ السبب ثم توكَّل بعد ذلك على الله عز وجل، وهذا شأن المؤمن، هذا شأن المؤمن الذي يفهم هذا الإسلام؛ يتخذ الأسباب ثم يتوكل على الله في النتائج، فالتاجر المؤمن يتخذ الأسباب في تجارته وفي يقظته وفي أمانته وفي صدقه، ثم بعد ذلك يترك الباقي على الله عز وجل.

وفي كل ميادين الحياة المسلم يتخذ السبب ويحرص على اتخاذِ السبب وعلى بذل كل ما في طاقته، ثم بعد ذلك يترك النتائج إلى مُقدِّرها جلَّ جلاله ويرضى بها ويطمئن إليها.

وأول سبب اتخذه المصطفى- صلى الله عليه وسلم- قبل الهجرة إيجاد البيئة التي تحمل هذه الرسالة، إيجاد المكان، إيجاد التربة الصالحة التي تُنبت لهذا الحق، فإنَّ مكةَ قد استعصت والْتَوَت وصرفها المولى تبارك وتعالى باستكبارها وظلمها وعتوها أن تكون من نصراء هذا الحق، وخرج صلى الله عليه وسلم يطوف في المواسم يعرض نفسه على كل قبيلةٍ وعلى كل قادم إلى مكة وهو صريح صريح يقول: "مَن يحملني؟ من يأويني حتى أبلغ دعوة ربي فإنَّ قريشا قد منعوني؟ من يحملني من يأويني حتى أبلِّغ دعوة ربي فإن قريشًا قد منعوني؟" دعوة صريحة من النبي- صلى الله عليه وسلم-، وطلب صريح للناس من غير مكة أن يحملوه إلى قبائلهم وأن يؤوه وأن يساعدوه في تبليغ هذا الحق؛ لأن قريشًا قد منعت وصدت وعتت واستكبرت على الله عزَّ وجل، وفي بعضِ المواسم في آخر موسم الحج، والرسول- صلى الله عليه وسلم- يطوفُ ويسعى ويذهب إلى الحجيج في مضاربهم وخيامهم، ويجلس إلى تجمعاتهم فلم يستمع إليه أحد، ولكن في آخر لحظة جلس إلى ستة كانوا يتحللون، كانوا يحلقون انتهوا من الحج ويستعدون إلى العودة إلى المدينة، فجلس إليهم سألهم فعلم أنهم من المدينة من الأوس، فعرضَ عليهم الإسلام- ولله في خلقه شئون، الله هو المقدر، والقلوب بيد الله- فإذا بالجميع في هذه اللحظة يستجيبون ويؤمنون ويصدقون بالنبي- صلى الله عليه وسلم-، وكانت هذه أول بذرة، هذه أول بداية لانتقال الإسلام من بيئةِ مكة إلى بيئة المدينة.

وفي السنة الثانية رجع هؤلاء وقد زاد عددهم إلى اثني عشر، فأسلموا وأرسل معهم مصعب بن عمير ليأتوا في العامِ المقبل إلى بيعة العقبة الكبرى وهم يزيدون على اثنين وسبعين رجلاً من الأوس والخزرج، يباعون النبي- صلى الله عليه وسلم- على الاتباع وعلى السمع والطاعة وعلى أن يحفظوه ويمنعوه كما يُحافظون على أولادهم وكما يُحافظون على ذرياتهم وعلى أخص شيء لديهم.

وُجد إذن المخرج، وهذا سبب أول.. إنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يقف مكتوفَ الأيدي، مكة استعصت فطرق بابًا آخرَ، وقدَّر الله أمرًا آخر، فإذا بالمدينة تفتح أبوابها، مصعب بن عمير- رضي الله عنه- بمفرده في سنة واحدة أدخل الإسلام بإذن الله إلى كل بيت في المدينة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أُريتُ دار هجرتكم" ثم وصف لهم المدينة بأنها ذات نخل، ثم قال لهم: "إن الله قد جعل لكم دارًا وإخوانًا تأمنون بها".

هذا هو السبب الأول الذي ينبغي على المسلم أن يكون في حسه دائمًا في طبيعة الأشياء، استعصى عليه أمر لا ييأس لا ينهزم لا يقنط، بل يطرق بابًا آخر ويسلك طريقًا آخر، لعلَّ في هذا الطريق الذي سلكه هو الخير، وهذا ما كان من النبي- صلى الله عليه وسلم-، وأنتم تعلمون أنَّ الرسولَ- صلى الله عليه وسلم- خرج من مكة هو وأبو بكر مطاردًا مهدرَ الدم، فماذا كان حين الوصول إلى المدينة؟! مكة تضرب، مكة تهدر الدم، مكة تُحاصر النبي- صلى الله عليه وسلم-، مكة لا تدع لمسلم يقول كلمة.. فماذا كان؟ إنَّ الله عز وجل أتى بأمر آخر ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)﴾ (الشرح) قانون من قوانين الله عزَّ وجل، إذا جاء العسر من هنا جاء اليسر من هنا ومن هنا وحاصر العسر بينهما، ولذلك يقول- صلى الله عليه وسلم-: "لن يغلب عسر يسرين"، فدائمًا في حياتنا إذا نزلَ بنا عسرٌ فلنعلم أنَّ هذا العسر محاطٌ بيسر من هنا ويسر من هنا، والله عزَّ وجل هو الرحمن الرحيم بعباده المؤمنين.

هذه البيئة بمجرَّد ما وصل- صلى الله عليه وسلم- إلى قباء وأقام فيها حتى بنى المسجد المعروف للآن، ثم توجَّه بعد بناء المسجد إلى المدينة.. ماذا كانت النتيجة؟ ترى الأمر الآخر، ترى جيشًا ومددًا وقوةً وجندًا وإسلامًا وإيمانًا، مَن الذي صنع هؤلاء؟ مَن الذي هدى هؤلاء؟ مَن الذي جمع هؤلاء على الإيمان؟ الله عز وجل جل جلاله؛ لأن رسوله- صلى الله عليه وسلم- اتخذ الأسباب وهذه نتائج اتخاذ الأسباب.

يقول ابن هشام: مرَّ صلى الله عليه وسلم على قبيلة، ويسمِّي القبائل في المدينة تجمعات في المدينة، كل ما مرَّ على ديار قبيلة خرجت القبيلة في كامل قوتها بسلاحها وعدتها وعتادها ويقفون أمام ناقة النبي- صلى الله عليه وسلم-، ويقولون يا رسول الله هلمَّ إلى المنعة والقوة، فيقول لهم صلى الله عليه وسلم: "دعوا الناقة فإنها مأمورة، ستصل إلى المكان الذي يأمرها الله عز وجل به"، والناقة لا يقودها أحد، فيتخلون عن الناقة وتتحرك القبيلة من وراء النبي- صلى الله عليه وسلم-، ثم يمر على ديار قبيلة أخرى فتخرج بكاملها تستقبله ثم يمر على ثالثة فتخرج بكاملها تستقبله والرسول- صلى الله عليه وسلم- يقول لهم: "دعوا الناقة فإنها مأمورة"، الله عز وجل أمرها أن تستقر في مكان، وتظل هذه الناقة تنطلق بهذا الموكب بالنبي- صلى الله عليه وسلم- ومن خلفه الناس جميعًا، حتى تبرك عند أخواله من بني النجار في مكان مسجده- صلى الله عليه وسلم- العامر الموجود للآن، مَن الذي أتى بهؤلاء؟ وقريش منعت أن ينطق أحد بلا إله إلا الله فإذا ببلد كاملة إذا بأمة كاملة صنعها الله عز وجل وأعطاها للنبي- صلى الله عليه وسلم- هديةً وبشرى لصبره وتحمله واتخاذه الأسباب.. قد تضيق بكَ التجارة إن كنت تاجرًا في هذا المكان اذهب لهذا المكان فستجد النقيض، كل عسر هنا ستجده يسرًا في هذا المكان، وهكذا حياة المسلم لا ينبغي أن ييأس أو يمل أو يقنط من رحمة الله أبدًا.

السبب الثاني لما قرر صلى الله عليه وسلم أن يهاجر، أول أمر اتخذه أن أذن لجميع الصحابة بالهجرة واستبقى عليًّا وأبا بكر، استبقى هذا لمهمة وهذا لمهمة، أما علي- رضي الله عنه- فكانت المهمة الموكلة إليه أن يُفدي النبي- صلى الله عليه وسلم- بنفسه، وهذا المستوى الذي وصل إليه الصحابة، ينام على سريرِ النبي صلى الله عليه وسلم ويتغطى ببرده الأخضر، وسيدنا علي يعلم أن حول البيت أكثر من أربعين مجنونًا، لا عقلَ لهم، من أربعين يجتمعون في هذه اللحظاتِ وكل منهم بيده سيف يريد أن يغرزه في جسدِ النبي- صلى الله عليه وسلم-، ومع ذلك فالإمام علي- رضي الله عنه- ينام ويتغطى وهو مستريح مطمئن إلى أنَّ الله عز وجل وضعه في هذه المنزلة ليكون فداءً للنبي- صلى الله عليه وسلم.

المهمة الثانية أن يردَّ الودائعَ إلى هؤلاءِ، فالنبوات لها مدار عظيم لا تتعامل مع الناس حيث هم، مَن أساء يُساء إليه.. لا، النبوات تقابل السيئة بالحسنة وتقابل العقوق بمعرفة رد الجميل، ولذلك رغم عدائهم للنبي- صلى الله عليه وسلم- ورغم موقفهم منه فكانت أمانات قريش من أولها إلى آخرها لا تجد مكانًا تستقر فيه إلا في بيتِ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فهو عندهم الأمين، فالإمام علي مهمته في الهجرة أن يردَّ الودائعَ وأن يفدي النبي- صلى الله عليه وسلم- بالمبيتِ على فراشه.

أما أبو بكر فهي الصحبة.. يُصاحب النبي- صلى الله عليه وسلم-، ونجد في أبي بكر وفي هؤلاء الصحابة جميعًا العجبَ في إيمانهم، أبو بكر حتى في دخول الغار يترك النبي- صلى الله عليه وسلم- خارج الغار ويدخل هو، والغار ربما تكون فيه أفاعٍ وحيات قاتلة، يدخل أبو بكر- كما تقول كتب السيرة- يستبرئ الغار، ينظفه ويسده إذا كان فيه شيء، ويقول للنبي- صلى الله عليه وسلم-: "يا رسول الله، إن قُتلت أنا فأنا رجل من المسلمين، أما إن قُتلت أنت هلكت هذه الأمة"، فيفديه بنفسه في الطريق وفي داخل الغار، وهذه صورة أخرى من صور الأخذ بالأسباب تجمع تحتها أشياء كل واحدة منها تكفل بنزول النصر، تكفل بالرفعة، تكفل بنجاح هذا الإنسان الذي يُفكِّر على هذا المستوى ويسلك هذا الطريق.

الأمر الثالث النبي- صلى الله عليه وسلم- عندما قرر أن يُهاجر وجاءت اللحظة، ذهب إلى بيت أبي بكر وقت الظهيرة، وأنتم تعلمون معنى وقت الظهيرة في مكة، لا يستطيع إنسان أن ينظر خارج بيته من شدة الحر، ولذلك لما رآه أبو بكر رضي الله عنه قال: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما جاء بك في هذه اللحظة وما أخرجك في هذه اللحظة إلا أمر"، فإذا به يدخل ويخبره بأنَّ الله قد سمح له بالهجرة فيقول أبو بكر: "الصحبة يا رسول الله"، فيقول: "الصحبة".. فيبكي أبو بكر من شدةِ الفرح، تقول السيدة عائشة- رضي الله عنها-:"ما رأيت أحدًا يبكي من شدةِ الفرح إلا حين رأيت أبي يبكي في يومِ الهجرة من شدةِ فرحه حين أُخبر بصحبته للنبي صلى الله عليه وسلم".

وفي وقت الظهيرة جلس- صلى الله عليه وسلم- مع أبي بكر في البيت جِلسةً أنهى فيها كل ما يتصل بالهجرة.. عامر بن فهيرة دليل مشرك، ولكنه دليل ماهر خبير بالصحراء، يبقى للضرورة يُستخدم وللضرورة ينتفع به، عبد الله بن أبي بكر يرعى الغنم حول الغار ويتسمَّع أخبار مكة لينقلها للنبي- صلى الله عليه وسلم-، أسماء تعد الزاد، ومكان الغار في طريق اليمن، كل واحدة من هذه اتخاذ دقيق للسبب الموصل للنجاح وللفوز في هذه الرحلة.

ويعود صلى الله عليه وسلم إلى بيته فيجد الحصار بدأ يُضرب يخرج من بيتِ أبي بكر ويعود إلى بيته بعد أن أنهى معه كل شيء، وحدد معه مهمات الهجرة، وحدد معه الأفراد الذين يتحركون في أيام الهجرة، ثم عاد إلى بيته فوجد الحصار بدأ يُضرب، وجد فتيان قريش بدءوا في تجمعهم حول بيته- صلى الله عليه وسلم- لمحاصرته، ودخل البيت وفي الساعة المحددة خرج مرةً ثانيةً ووضع على رءوسهم التراب ﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ (يس: من الآية 9) ثم ذهب إلى دار أبي بكر ومن خوخة- كتب السيرة تقول من خوخة- والخوخة هي الباب الصغير في الباب الكبير، الباب الكبير يُفتح عند الضروراتِ، ولكن الباب الصغير في كلِّ باب يُفتح عند الخروج والدخول، وهو لا يُلفت الأنظار كثيرًا، ومن بيت أبي بكر إلى الغارِ مباشرةً، وهذا الغار ما زال للآن الوصول إليه معجزة من المعجزات، الشباب أشد الناس شبابًا وقوةً وحيويةً لا يستطيعون أن يصعدوا إلى هذا المكان، وقد سمعنا ممَن وصولوا إليه أنَّ فيه أماكن من أخطرِ الأشياء أن يسيرَ الإنسان فيها، والرسول- صلى الله عليه وسلم- كان في هذا الوقت في الثالثةِ والخمسين من عمره، وصعد إلى هذا المكان، وباب الغار على الأرض، أي أنَّ الذي يدخله يدخل زحفًا، ولذلك لمَّا قال أبو بكر: "يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موضعِ قدمه لرآنا"، معناها إنه ينام على الأرضِ عند قدمه وينظر لأنَّ بابَ الغار ليس بابًا مفتوحًا، فهو حجارة على الأرض، الإنسان يدخله زحفًا، ومن رحمةِ الله عزَّ وجل- كما قصت كتب السيرة- أن يأتي العنكبوت وأن تأتي الحمامة وأن تأتي هذه الأشياء، كل هذه منح من الله عز وجل وعطايا لمَن يتخذ الأسباب، لمَن ينصر هذا الحق، لمَن يعيش لهذه المعاني لا يتركه الله أبدًا، وصدق الله العظيم ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾ (العنكبوت).. عبد الله بن أريقط يستعد، عامر بن فهيرة يرعى الغنم، عبد الله بن أبي بكر يتسمَّع أخبار مكة وما يدبروه ثم يرجع في الليل ليُخبر النبي- صلى الله عليه وسلم-، عامر بن فهيرة يمشي وراء عبد الله بن أبي بكر لكي يُعفي على آثارِ قدميه بالغنم التي يرعاها، ثم يُحجز الغنم عند الغار، فيخرج أبو بكر ويحلب لبنًا لينتفع به المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبو بكر.. وسائل اتخاذ الأسباب كل واحدة درسٌ للمسلمِ أن يتخذَ الأسبابَ في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، ثم يتوكل بعد ذلك على الله، بعد أن اتخذ المصطفى- صلى الله عليه وسلم- هذه الأسباب وخاف أبو بكر قال له: "لا تحزن إن الله معنا"، ومَن كان الله معه لا يحزن إنما يفرح إنما يُسر بمعية المولى تبارك وتعالى؛ لأن الله يحفظه ولأن الله يرعاه ولأن الله ينصره.

وفي اليوم الثالث خرج الركب إلى المدينة في طريقٍ ما زال للآن من أشقِّ الطرق بين مكةَ والمدينة بهذا الدليل المشرك يقودهما في هذا الطريق، وبعد عشرة أيام خرج يهودي فوق مكانٍ مرتفعٍ ينظر فإذا به يرى نورًا أو يرى سحابًا أو يرى شيئًا كالبرقِ يظهر تارةً ويختفي أخرى، فأسرع ونزل من فوقِ هذا المكان الذي ينظر منه ونادى في الأنصار وقال: "هذا حظكم قد وصل، هذا جدكم يا معشر الأنصار قد وصل"، أي هذا حظكم ونصيبكم، وخرج المسلمون يستقبلون النبي صلى الله عليه وسلم.

يقول أحد الصحابة لمَّا وصل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة: ما رأيت الشمس أضوء منها في هذا اليوم، كان النهار مضيئًا، والنفوس مشرقة، الشمس أشعتها تملأ المدينة، ويقول هذا الصحابي: "ويوم أن انتقل النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى أظلمت المدينة، فما رأيت الشمس أظلم منها".

أيها الإخوة.. وحين وصل صلى الله عليه وسلم إلى قباء، تقول كتب السيرة: يقول عبد الله ابن سلام لما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة: انجفل الناس؛ يعني أسرع الناس لاستقباله فكنتُ بينهم- وكان يهوديًّا- ولكنه جاء ينظر ثم أسلم بعد ذلك وصار من كتَّاب الوحي، يقول: "فجئتُ بين الناس وأخذتُ أنظر إليه فلمَّا نظرت إليه واستبنته علمتُ أنَّ وجهه ليس بوجه كذَّاب"؛ لأن أنوارَ النبوة لا تخفى على لبيب، يقول عبد الله بن سلام: "وسمعته صلى الله عليه وسلم يقول: "أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وألينوا الكلام، تدخلوا الجنة بسلام" لم يعلن حربًا على مكةَ، إنما بدأ يُذكِّر الناس ويدعوهم إلى هذا الحقِّ، ويقول أحد الصحابة: كنت لم أرَ المصطفى- صلى الله عليه وسلم- فجئتُ مع الناسِ فوجدتُ تحت ظل شجرة يجلس هو وأبو بكر قلتُ: أيهما محمد وأيهما أبو بكر، الجلسة واحدة والسن متقارب ولا ميزةَ يعني لا يجلس للأمام وأبو بكر يجلس للخلف، والرسول- صلى الله عليه وسلم- مدرك ينظر إلى الأرض، يقول هذا الصحابي: فلما ذهب ظل الشجرة وجاءت الشمس وقف أحدهم يظلل الآخر بثوبه فعلمتُ أنَّ الواقفَ أبو بكر وأنَّ الجالس هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أيها الإخوة المؤمنون.. لا بد أن يكون لنا من هذا الدين نصيب كبير، ولا بد أن نُقبل على الله عز وجل وقد أخذنا حظنا من الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، المسلم أكبر كنز على ظهرِ الأرض، أكبر مغنم، أكبر نصيبٍ.. هي الدنيا ماذا تصنع، دنيا ماذا تصنع، المال ماذا يصنع، الأولاد ماذا، الباقي فعلاً أن نأخذ من هذا الدين بنصيبٍ كبير.. أن نملأ حياتنا به، أن نملأ أوقاتنا به، يُوصف المؤمنون بقول الله عز وجل ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ﴾ (السجدة: من الآية 16) ﴿يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ (الفرقان: من الآية 64) لماذا؟ يريدون أن يأخذون بنصيبٍ، يريدون أن يأخذوا بخيرٍ كثير، يُقبل المؤمن على ربه معه صلاة، معه عبادة، معه زكاة، معه صيام، صفحته نقية بيضاء ممتلئة بالاستغفار، ممتلئة بحب النبي صلى الله عليه وسلم، ممتلئة باتباع سيرته، ممتلئة بطلب العلم، ممتلئة بهذه الأشياء، هذا هو الذي يوزن يوم القيامة، هذا هو الذي يرفع صاحبه يوم القيامة، عُمر محدود ولكنه حين يُملأ بالصالحاتِ، حين يُملأ بالأعمالِ الطيبة، حين يُملأ بالزاد النقي؛ بالصيام والقيام هذا زاد المسلم، هذا رأس مال المسلم، هذا قوت المسلم ﴿ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (72)﴾ (الزخرف).

أيها الإخوة المؤمنون، لا بد أن نُدرب أنفسنا، وأن نقترب من رسولنا- صلى الله عليه وسلم- وأن نُطيعه وأن نتبعه اتباع الأسوة، اتباع القدوة، اتباع الإنسان الذي يريد أن يحيا كريمًا، وأن يلقى الله عز وجل كريمًا.

أيها الإخوة المؤمنون، اقرءوا سيرة النبي- صلى الله عليه وسلم- استفيدوا من هذا الخير، فيدو بيوتكم أضيئوها بنورِ القرآن وبنورِ السنة وبسيرةِ هؤلاء الأعلام الكرام الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً ذَلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ(69)﴾ (النساء) أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﴿إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(56)﴾ (الأحزاب).

أيها الإخوة المؤمنون، من اتخاذ الأسباب أن نُحافظ على بيوتنا وعلى أولادنا وبناتنا، الهوجة الآن على ظهرِ الأرض هوجة خطيرة مدمرة تخلع كل شيء وتُغطي على كل شيء، وتقضي على كل شيء، موجة التحرر الكامل وموجة التقدم وموجة التطور وراءها الشيوعيون ووراءها الصليبون ووراءها الكفر متجمع، فما لم تُقابل بإسلامٍ مستنيرٍ صادق وبعزائم رجال، فإنَّ هذه الموجةَ التي يُديرها اليهود وتُديرها الصهيونية ويُديرها الكفار جميعًا تقضي على كل شيء، وفي كل يومٍ الشر يزداد والخير ينكمش، وفي كل يوم الباطل ينتفش والحق لا يجد له أنصارًا.. في كل يوم لعبة جديدة من ألاعيبِ الكفرة والمجرمين على ظهر الأرض، فنحتاج إلى مسلمٍ يقظٍ مسلمٍ يُدرك أبعاد موجاتِ الكفر وموجات الإجرامِ على ظهر الأرض، والتي لا تقصد ولا يُقصد بها إلا أن توجه إلى المسلمين وإلى بيوتِ المسلمين، مسلمة في البلاد الإسلامية أخرجوها من بيتها وأخرجوها من ملابسها وأخرجوها من خُلقها، وأخرجوها من كل شيء، ثم تركوها تقول: "أنا متحررة، أنا متقدمة"، هذه مصائب وهذه بلاوى، فالمسلم مسئول عن بيته، مسئول عن بناته، مسئول عن زوجته، مسئول عن أولاده: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" لا بد أن يكون في بيوتنا صلاة وقرآن وحديث، وإلا فما وُجد فراغ، لا يوجد شيء اسمه فراغ، إما أن تُملأ النفوس بالخير وإما أن تُملأ بالشر، إما أن نُسارع إلى ملء بيوتنا ونفوسنا وبناتنا وأولادنا بهذا الحق، أو إنَّ الشيطان متربص، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ماد خرطومه إلى قلب ابن آدم، فإن ذكر الله خنس الشيطان، وإن نسي التقم قلبه بخرطومه فصرَّفه كيف يشاء"، وهذا موجود في القرآن الكريم ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ(36)﴾ (الزخرف)، لا يتركك هذا القرين إلا إذا عُدتَ إلى الله وذكرتَ الله واستعنتَ بالله، وكان لسانُك رطبًا وغضًّا طريًّا بذكر الله، تغفل تقع في قبضته، تغفل البنتُ تقع في قبضته، تغفلُ الزوجةُ تقع في قبضته، والله عز وجل سينادينا في يوم القيامة وليس بيننا وبينه حجاب: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)﴾ (يس).

أيها الإخوة المؤمنون، المسلم يقظ، والمسلم ذكي، والمسلم من أقوى الناس فهمًا وإدراكًا وتقديرًا وخوفًا من الله عز وجل.. ألا فلنحصن البيوت، ألا فلنحصن النفوس، ألا فلنحصن القلوب، ألا فلنحصن الزوجات.. بأي شيء.. بإقامةِ الصلاة وبطاعةِ الله عز وجل، فإنَّ الصلاةَ تنهى عن الفحشاءِ والمنكر ولذكر الله أكبر، أيها الإخوة لا ينبغي أن نغفل فإنَّ معنا مَن لا يُفارقنا ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)﴾ (ق) فهي مراقبة وهي مسئولية بين يدي مَن لا تأخذه سنة ولا نوم.

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات يا رب العالمين، اللهم انصر الإسلام ووفِّق أهله، اللهم انصر الإسلام ووفِّق أهله، اللهم انصر الإسلام ووفق أهله، اللهم اشفِ مرضانا، اللهم ارحم موتانا، اللهم تقبَّل أعمالنا، اللهم تُب علينا.

عباد الله.. ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل: من الآية 90)

اذكروا الله.


المصدر

إخوان اون لاين