القــوقعـة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
القــوقعـة

بقلم :أ. مصطفى خليفة


يوميات متلصص

إنها قصة الفتية الأبرار في سجون الطغيان، يكتبها سجين عاش معهم المأساة. ولعل أول ما جنى عليه أن اسمه "مصطفى" هذا الاسم الذي يوحي بأنه مسلم، وبالتالي يمكن أن يكون من الإخوان المسلمين. ولم يشفع له أنْ علم الجلاوزة أن هذه التهمة لا أصل لها.

[يقدم الكاتب نفسه على أنه "مصطفى خليفة، مسيحي كاثوليكي، ملحد، عاش في باريس ودرس فيها وتخرج باختصاص مخرج سينمائي، وأحبّ أن يعود إلى بلده سورية ليخدم هذا الوطن" وما كان يدري أن عودته تعني دخوله سجناً من أعتى سجون الدنيا.

[والكاتب فنان بارع يحسن الوصف بالكلمة والصورة، وتتدفق أحاسيسه عبر كلماته. يكتب بالعربية الفصيحة تارة، وبالعامية تارة أخرى. وقد لخصنا هذا الكتاب وتجنبنا بذلك كلمات الإلحاد، وبعض الكلمات النابية التي يتفوه بها السجانون والجلادون والمحققون... وأدخلنا بعض التصحيحات اللغوية. [وإذا كنا لا نوافق الكاتب بالضرورة على كل كلمة كتبها، فإننا نؤكد أنه أحسن في تصوير الجرائم التي يمارسها النظام الطائفي الحاقد على أبناء شعبنا المؤمن. ولعل الله تعالى يكافئه على كتابته، فيهديه للدين الحق]

هذه اليوميات كتبتُها في السجن الصحراوي. وكلمة "كتبتُ" هنا ليست دقيقة ففي السجن الصحراوي لا يوجد أقلام ولا أوراق للكتابة.في هذا السجن الضخم الذي يحتوي على سبع ساحات، إضافة إلى الساحة صفر، وعلى سبعة وثلاثين مهجعاً، وعلى العديد من المهاجع الجديدة، والغرف والزنازين الفرنسية (السيلول) في الساحة الخامسة، والذي ضم بين جدرانه في لحظة من اللحظات أكثر من عشرة آلاف سجين، في هذا السجن الذي كان يحتوي على أعلى نسبة لحملة الشهادات الجامعية في هذا البلد، لم ير السجناء - وبعضهم قضى أكثر من عشرين عاماً - أية ورقة أو قلم.

الكتابة الذهنية أسلوب طوّره الإسلاميون. " أحدهم كان يحفظ في ذهنه أكثر من عشرة آلاف اسم، هم السجناء الذين دخلوا السجن الصحراوي، مع أسماء عائلاتهم، مدنهم أو قراهم، تاريخ اعتقالهم، أحكامهم، مصيرهم .....".

اثنان من رجال الأمن استلما جواز السفر، وبلطف مبالغ فيه، طلبا مني مرافقتهما.

أنا وحقيبتي – التي لم أرها بعد ذلك – ورحلة في سيارة الأمن على طريق المطار الطويل، أرقب الأضواء على جانبي الطريق، أرقب أضواء مدينتي تقترب، ألتفِتُ إلى رجل الأمن الجالس إلى جواري، أساله:

- خير إن شاء الله ؟ .. لماذا هذه الإجراءات ؟!

يصالب سبابته على شفتيه، لا ينطق بأي حرف، يطلب مني السكوت، فأسكت!

أصل مع مرافقي إلى مبنى. ومن ممر إلى ممر، ثم إلى غرفة فاخرة. انسلت إلى أنفي رائحة مميزة، لا يوجد مثيلها إلا في مكاتب ضباط الأمن، هي خليط روائح، العطور المختلفة، السجائر الفاخرة، رائحة العرق الإنساني، رائحة الأرجل.

كل ذلك ممزوج برائحة التعذيب. العذاب الإنساني. رائحة القسوة.

بينما كنت مذهولاً من رؤية الكابل الأسود يرتفع ثم يهوي على قدمي الشاب المحشور في دولاب السيارة الأسود، ثم يرتفع ناثراً معه نقاط الدم ونتف اللحم الآدمي، جمّدني صوت زاعق. التفتُّ مرغماً إلى مصدره، في زاوية الغرفة رجل محتقن الوجه، محمرّه، والزبد يرغي على زاويتي فمه: طمّشْ عيونه يا حمار. وُضعت الطماشة على عيوني ثم دفعة على ظهري، صفعة على رقبتي، يداي إلى الخلف، أسيرُ مرغما، يرتطم رأسي بالجدار، أقف.

- إرفع يديك لفوق ..ولك كلب ... أرفعُهما.

- إرفع رجلك اليمين ووقف على رجلك اليسار.

- أرفع رجلي، أقف.

في الخلف يستمر ما كان يجري، أسمع صوت الكابل، صوت ارتطامه بالقدمين، صوت الشاب المتألم، صوت لهاث الجلاد، أكاد اسمع صوت نتف اللحم التي رأيتها تتطاير قبل قليل.. أصوات.. أصوات.

تتخدر اليسرى، لم أعد أستطيع الاحتمال، أغامر ..أبدل !!.. لم يحصل شيء، لم ينتبه أحد، أشعر بالانتصار!.. "بعد سنين طويلة من السجن مستقبلاً، سأكتشف أنه في الصراع الأبدي بين السجين والسجان، كل انتصارات السجين ستكون من هذا العيار!!".

سيخ من النار لسع باطن قدمي، صرخت. قبل انتهاء الصرخة كانت الخيزرانة قد لسعت مرة أخرى .. الضرب متواصل، الصراخ متواصل.

وبدأت أعد الضربات وأنا أصرخ ألما. "بعد ذلك بزمن طويل، أخبرني المتمرسون: إن عدَّ الضربات أول علامات الضعف، وإن هذا يدل على أن المجاهد أو المناضل سينهار أمام المحقق!!..وقتها قلت في نفسي: ولكنني لست مناضلاً ولا مجاهداً. وأخْبَروني أن من الأفضل في هذه الحالات أن تكون لديك قدرة كبيرة على التركيز النفسي بحيث تركز على مسألة محببة لك، وتحاول أن تنسى قدميك !!".

منذ تلك اللحظات علموني أن أقول: " ياسيدي".

هذه الكلمة لاتستخدم هنا كما بين رجلين مهذبين، هذه الكلمة تُنطق هنا وهي تحمل كل معاني الذلّ والعبودية.

طوال ثلاثة عشر عاما ، لم أسمع مرة قرقعة المفتاح في الباب الحديدي إلا وأحسست أن قلبي يكاد ينخلع!! لم أستطع الاعتياد عليها.

-اليدان مقيدتان بالقيد الحديدي إلى الخلف، كاحل القدم مربوط بجنزير حديدي إلى كاحل سجين آخر، نسير بصعوبة، نتعثر، ممرات ... أدراج .... وصفعة مدوية.

تنبثق آلاف النجوم البراقة أمام عيني، الفجر ربيعي، أترنح.... أسكت.

يسحبوننا إلى خارج البناء، أرى أربع سيارات شحن ذات أقفاص معدنية، السجناء يسمون هذه السيارات بـ " سيارات اللحمة".


أمام سجن تدمر الصحراوي

عشرات من عناصر الشرطة العسكرية.. الباب صغير.. تصدم العين لوحة حجرية فوق الباب مخططة بالأسود النافر:

"ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب".

فتح لنا رجال الأمن أبواب السيارات، هم أنفسهم الذين كانوا يعاملوننا بفظاظة وقسوة (عندما كنا عندهم في فرع المخابرات في العاصمة)، أنزلونا من السيارات برفق مشوب بالشفقة، حتى إن أحدهم قال: " الله يفرج عنكم ! ". وفيما بينهم كانوا يتحدثون همساً، يتحاشون النظر إلى عناصر الشرطة العسكرية الذين اصطفوا حولنا بما يشبه الدائرة، لاحظت أن لهم جميعاً نفس الوقفة، الساقان منفرجتان قليلاً، الصدر مشدود إلى الوراء، اليد اليسرى تتكىء على الخصر، اليد اليمنى تحمل إما عصاً غليظة أو كبلاً مجدولاً من أشرطة الكهرباء أو شيئاً مطاطيا أسودَ يشبه الحزام. " عرفت فيما بعد أنه قشاط مروحة محرك الدبابة ".

ينظرون إلينا وإلى عناصر الأمن نظرة فوقية تحمل استخفافاً بعناصر الأمن ووعيداً مبطنا لنا. حركاتهم تدل على نفاد الصبر من بطء إجراءات التسليم والاستلام، يهزون يدهم اليمنى بما تحمل، هزات تبرُّم وغيظ، لباسهم جميعا عسكري أنيق، أعلى رتبة بينهم مساعد أول.

أكثر من مائة عنصر من عناصر الشرطة العسكرية يحومون حولنا، جميع السجناء يتحاشون النظر مباشرة إلى أي عنصر. رأسنا منخفض قليلا، أكتافنا متهدلة. وقفة تصاغُرٍ وذل، كيف اتفق جميع السجناء على هذه الوضعية وكأننا تدربنا عليها سابقا؟! لست أدري.

حكني رأسي من القفا، وكما يفعل كل إنسان يحكه رأسه، مددت يدي عفوياً وحككت !! وسمعت صوتاً راعداً: -ولك يا جماعة ... شوفوا الكلب شوفوا !! عم يحك راسه كمان ...!!

وسحبتني الأيدي خارج الرتل، تقاذفتني صفعاً ولكماً، لكمة تقذفني، صفعة توقفني، النار في الرقبة والوجه .... تمنيت لو أبكي قليلاً... طلبني المساعد لتسجيلي فلم يبق غيري، سجلني وأصبحت نزيلاً رسمياً في هذا السجن.

خلفي مهجع كبير. تخرج من جانب الباب بالوعة "صرف صحي" على وجه الأرض، تسيل في هذه البالوعة مياه سوداء قذرة.

انتهى التفتيش. جرى بدقة محترفين، حتى ثنايا الثياب، جميع النقود والأوراق، أي شيء معدني، الأحزمة وأربطة الأحذية ... جميعها صودرت، "أنا كنت حافيا". ورغم كل هذه الدقة بالتفتيش فإن ساعة يدي مرت، لم أتعمد إخفاءها، فقط لم ينتبه لها أحد، وعندما صاح المساعد:

- يا كلاب ... كل واحد يحمل تيابه.

حملت ثيابي ووضعتها على يدي اليسرى، وفورا فككت الساعة ودسستها في الجيب الداخلي لسترتي، وشعور آخر بالانتصار.!


البلديــــــــات

هي كلمة خاصة بالسجون هنا، هم جنود سجناء ... الفارون من الخدمة العسكرية، الجنود الذين يرتكبون جرائم القتل، الاغتصاب، السرقة، مدمنو المخدرات... كل الجنود المجرمين، حثالة الجيش، يقضون فترة عقوبتهم، في مثل هذا السجن، مهمتهم التنظيف وتوزيع الطعام وغيره من الأعمال... من هنا جاء اسم البلديات، هؤلاء في السجن الصحراوي لهم مهمات أخرى.

جمعونا في أحد أطراف الساحة، تكوَّمْنا ونحن نحمل ثيابنا، صوت المساعد ارتفع كثيراً، البلديات يقفون في الطرف الآخر من الساحة. البعض منهم يحمل عصاً غليظةً مربوط بها حبل متدل يصل بين طرفيها، حبل سميك يتدلى من العصا "الفلقة". صاح المساعد بصوت مشحون موجهاً حديثه للسجناء : -مين فيكم ضابط ؟.

خرج اثنان من بين السجناء، أحدهما في منتصف العمر، الآخر شاب.

-شو رتبتك ؟

-عميد.

-وأنت شو رتبتك؟

-ملازم أول.

التفت المساعد إلى السجناء، وبصوت أقوى:

- مين فيكم طبيب .. أو مهندس أو محامي.. يطلع لبره.

خرج من بيننا أكثر من عشرة أشخاص.

-وقفوا هون.. ثم متوجهاً للسجناء:

-كل واحد معه شهادة جامعة ... يطلع لبرّات الصف.

خرج أكثر من ثلاثين شخصاً، كنت أنا بينهم.

مشى المساعد مبتعداً، وقف بجوار البالوعة، صاح بالشرطة:

- جيبولي سيادة العميد!!

انقض أكثر من عشرة عناصر على العميد، وبلحظات كان أمام المساعد!!

-كيفك سيادة العميد؟

-الحمد لله ... الذي لا يحمد على مكروه سواه.

-شو سيادة العميد ... مانك عطشان؟

-لا .. شكراً.

-بس لازم نشربك.. يعني نحن عرب، والعرب مشهورون بالكرم، يعني لازم نقدم لك ضيافة... منشان واجبك!!

بعد لهجة الاستهزاء والسخرية صمت الاثنان قليلاً، ثم انتفض المساعد، وقال بصوت زاعق:

-شايف البالوعة ؟ .. انبطح واشرب منها حتى ترتوي ... يالله يا كلب!!

-لا ... ما راح اشرب.

وكأن مساً كهربائياً أصاب المساعد، وباستغراب صادق صرخ:

- شـو ..شـو ...شـو ؟؟!!! ما بتشرب!!!

عندها التفت إلى عناصر الشرطة العسكرية ولا زال وجهه ينطق بالدهشة:

- شربوه .... شربوه على طريقتكن و لا كلاب.... تحركوا لشوف.

العميد عارٍ إلا من السروال الداخلي، حافٍ، وبلحظات قليلة اصطبغ جسده بالخطوط الحمراء والزرقاء، أكثر من عشرة عناصر انقضوا عليه، تناوشوه، عصي غليظة، كوابل مجدولة، أقشطة مراوح الدبابات .... كلها تنهال عليه من جميع الجهات، من أول لحظة بدأ العميد يقاوم، يضرب بيديه العنصر الذي يراه أمامه، أصاب بعضهم بضربات يديه .... كان يلكم ... يصفع ... يحاول جاهداً أن يمسك بواحد منهم، ولكنهم كانوا يضربونه وبشدة على يديه اللتين يمدهما للإمساك بهم... تزداد ضراوتهم، خيوط الدم تسيل من مختلف أنحاء جسده .... تمزق السروال وانقطع المطاط، أضحى العميد عارياً تماماً، إليتاه أكثر بياضاً من سائر أنحاء جسده، خيوط الدم أكثر وضوحاً عليهما، خصيتاه تتأرجحان مع كل ضربة أو حركة، بعد قليل تدلت يداه الى جانبيه وأخذتا تتأرجحان أيضاً، سمعت صوتاً هامساً خلفي:

- تكسروا إيديه !! يا لطيف ... هالعميد إما رجّال كتير .. أو مجنون!!

لم ألتفت إلى مصدر الكلام. كنت مأخوذاً بما يجري أمامي، مع الضرب بدأ العناصر يحاولون أن يبطحوه أرضاً، العميد يقاوم، يملص من بين أيديهم... تساعده دماؤه التي جعلت جسده لزجاً. تكاثروا عليه، كلما نجحوا في إحنائه قليلا ... ينتفض ويتملص من قبضاتهم وبعد كل حركة تزداد ضراوة الضرب ...

رأيت هراوة غليظة ترتفع من خلف العميد وتهوي بسرعة البرق !!.. سمعت صوت ارتطامها برأس العميد....! صوتأ لا يشبه أي صوت آخر....! حتى عناصر الشرطة العسكرية توقفوا عن الضرب، شُلوا لدى سماعهم الصوت لثوان....صاحب الهراوة تراجع خطوتين إلى الوراء .. جامدَ العينين ...!! العميد دار بجذعه ربع دورة وكأنه يريد أن يلتفت الى الخلف لرؤية ضاربه !! خطا خطوةً واحدة، وعندما هم برفع رجله الثانية .... انهار متكوّماً على الإسفلت الخشن !!

الصمت صفحة بيضاء صقيلة تمتد في فضاءات الساحة الأولى ... شقها صوت المساعد القوي: - يا لله ولا حمير ... اسحبوه وخلوه يشرب!!

سحب عناصر الشرطة العميد، واحد منهم التفت الى المساعد وقال:

-يا سيدي .. هذا غايب عن الوعي، شلون بدو يشرب؟!

-حطوا رأسه بالبالوعة .. بيصحى .. بعدين شربوه.

وضعوا رأس العميد بمياه البالوعة، ولكنه لم يصح.

-يا سيدي .. يمكن أعطاك عمره!

-الله لا يرحمه ... اسحبوه لنص الساحة وزتوه هونيك.

من يديه جَرُّوه على ظهره، رأسه يتأرجح، اختلطت الدماء بأشياء بيضاء وسوداء لزجة على وجهه!! مسار من خطوط حمراء قاتمة تمتد على الإسفلت الخشن من البالوعة الى منتصف الساحة حيث تمددت جثة العميد. صاح المساعد وقد توترت وبرزت حبال رقبته:

-جيبولي .. هالكرّ الحقير ... الملازم.

وبعد أن أصبح الملازم أمامه:

-شو يا حقير ؟ .. بدك تشرب ولا لأ؟

-حاضر سيدي .. حاضر .. بشرب.

انبطح الملازم على الإسفلت أمام البالوعة، غطس فكيه في مياه البالوعة، وضع المساعد حذاءه العسكري على رأس الملازم المنبطح وضغطه إلى الأسفل قائلاً:

-ما بيكفي هيك. لازم تشرب وتبلع!!

ثم تابع المساعد موجهاً حديثه للشرطة:

-وهلق .. خدوا هالكلب عا التشريفة ... بدي يكون الاستقبال تمام .!

الملازم الذي شرب وبلع المياه القذرة بما فيها من بصاق ومخاط وبول وقاذورات أخرى، ألقي على ظهره بسرعة مذهلة، ووضع اثنان من البلديات قدميه في حبل الفلقة، لفوا الحبل على كاحليه ورفعوا القدمين إلى أعلى.

القدمان مشرعتان في الهواء، ثلاثة عناصر من الشرطة توزعوا أمام القدمين وحولهما، بحيث كانت كرابيجهم تهوي على القدمين دون أن تعيق إحدى الكرابيج الأخرى، ارتفع صراخ الملازم عالياً، تلوى جسده يحاول خلاصاً، ولكن دون جدوى.

استفز صراخُ الملازم واستغاثاتًه العالية المساعد، مشى باتجاهه مسرعاً، وكلاعب كرة قدم وجّهَ مقدمة بوطه إلى رأس الملازم وقذف الكرة.

صرخ الملازم صرخة حيوانية، صرخةً كالعواء... استُفز المساعد أكثر فأكثر، سحق فم الملازم بأسفل البوط، عناصر الشرطة يواصلون عملهم على قدمي الملازم، المساعد يواصل عمله سحقاً، الرأس، الصدر، البطن... رفسات على الخاصرة ... حركات هستيرية للمساعد وهو يصرخ:

-ولاك عرصات ... ولاك حقيرين .... عم تشتغلوا ضد الرئيس !!... ولاك سوّاك زلمة ... سواك ملازم بالجيش ... وبتشتغل ضده ؟!!... ولاك يا عملاء... يا جواسيس !.. ولاك الرئيس خلانا نشبع خبز... وهلق جايين أنتو يا كلاب تشتغلوا ضده ؟!... يا عملاء أمريكا.... يا عملاء اسرائيل... هلق عم تترَجُّوا ؟!!... بره كنتوا عاملين حالكن رجال ... يا جبناء ... هلق عم تصرخ ولاك حقير !!...

على إيقاع صرخات المساعد و"دبيكه" فوق الملازم، كانت ضربات الشرطة تزداد عنفاً وشراسةً، وصرخات واستغاثات الملازم تخفت شيئاً فشيئاً.

بعد قليل تمدد الملازم أول إلى جانب العميد!!... هل كان لدى إدارة السجن أوامر بقتل الضباط أثناء الاستقبال أو التشريفة ؟".

والآن جاء دورنا. " إجاك الموت يا تارك الصلاة !" عبارة سمعتها فيما بعد من الإسلاميين حتى مللتها، ولكن فعلا جاء دورنا، حملة الشهادات الجامعية، ليسانس ، بكالوريوس ، دبلوم ، ماجستير .. دكتوراه .. الأطباء شربوا وبلعوا البالوعة، المهندسون شربوا وبلعوا البالوعة، المحامون .. أساتذة الجامعات .. وحتى المخرج السينمائي .. شربت وبلعت البالوعة .. الطعم .. لا يمكن وصفه !! والغريب انه ولا واحد من بين كل الشاربين تقيأ !!.

وأصبح بين هؤلاء جميعاً شيئان مشتركان، الشهادة الجامعية، وشرب البالوعة !! .

ثم أكثر من ثلاثين فلقة، كل فلقة يحملها اثنان من البلديات، أمامها ثلاثة عناصر وثلاث كرابيج.... والكثير.. الكثير.. من القسوة، الألم، الصراخ.

الألم.. الضعف.. القهر.. القسوة.. الموت.. !!

قدماي متورمتان من آثار خيزرانة أيوب (في فرع المخابرات بدمشق)، بالكاد أستطيع المشي. عندما مشيت في الساحة الأولى فوق الإسفلت الخشن ، كنت كمن يمشي على المسامير ، رفع البلديات قدمي الى الأعلى بالفلقة ، ثلاثة كرابيج تلسع قدمي المتورمتين .. موجة داخلية عارمة من الألم تتكوم وتتصاعد لتنفجر في الصدر... تنحبس الأنفاس عندما تهوي الكرابيج ... الرئتان تتشنجان ... تنغلقان على الهواء المحبوس وتتوقفان عن العمل ... ومع الموجة الثانية للألم وانفجاره في الصدر ... ينفجر الهواء المحبوس في الرئتين عن صرخة مؤلمة، أحسها تخرج من قحف الرأس ... من العينين ... أصرخ ... وأصرخ والقدمان مسمرتان في الهواء ... كل محاولاتي لتحريكهما ... لإزاحتهما ... فاشلة !! تنفصلان عني ... مصدر للألم فقط... سلك يصل بينهما وبين أسفل البطن والصدر... موجات متلاطمة من الألم، تبدأ الموجة عندهما، تمتد وتتصاعد ثم تتكسر عند الرأس، وصرخة ألم ورعب ومهانة ناثرةً الذهولَ وعدم الفهم والتصديق، أكثر من ثلاثين صرخة متوازية... متشابكة، لأكثر من ثلاثين رجلاً، تنتشر في فضاء الساحة الأولى.

في البداية استنجدت بالله، وأنا الذي كنت طوال عمري أتباهى بإلحادي.

أكثر من ثلاثين صرخة ألم ... قهر ... تخرج من أفواه أكثر من ثلاثين رجلاً مثقفاً .. متعلماً !! أكثر من ثلاثين رأساً، كل منها يحوي الكثير من الطموح والأمل والأحلام، الكل كان يصرخ ... عواء ثلاثين ذئباً ... زئير أكثر من ثلاثين أسداً ... لن يكون أعلى من صراخ هؤلاء الرجال المتحضرين ... ولن يكون أكثر وحشية ... وحيوانية!!

يضيع صراخي وسط هذه الغابة من الصراخ وأصوات ارتطام الكرابيج بالأقدام ... وترتفع الأمواج. أستنجد برئيس الدولة .. يشتد الضرب .. وأفهم منهم أن علي ألا أدنس اسم فخامته بفمي القذر. استنجد بنبيهم:

-من شان محمد!!!

لطمة على الرأس وصوت المساعد الراعد:

-إي .. [.......]!!! ليش في حدا خرب بيتنا غير محمد ؟!

تقلصات الألم تزداد، لحم الفخذين رقيق ويختلف عن لحم باطن القدمين، أختنق بصرخاتي أسكت لحظات لأتنفس وأعب الهواء الذي سأصرخه، غمامة حمراء تتأرجح أمام عيني، حد الألم لا يطاق.

-يا رب خلصني... نجني من بين أيديهم.

قلت هذا الكلام دون أن انطقه، طاف بذهني، ومنه خرج مسرعاً باتجاه السماء.

قواي تخور، قدرتي على الصراخ تخفُتْ، يصبح الألم حاداً كنصل الشفرة، أرى الكرابيج ترتفع عالياً، أتوقعها، إذا نزلت هذه الكرابيج على جسدي فأنا حتماً سأموت !! لم يبق أي طاقة لتحمل المزيد من الألم !!.. الموت... أعود إلى الله:

-يا رب دعني أموت ... دعني أموت ... خلصني من هذا العذاب.

يصبح الموت أمنية!! أتمنى الموت صادقا ... حتى الموت لا أستطيع الحصول عليه!!.


16 تشرين الثاني

منذ الصباح يعم ضجيج مكبرات الصوت. أرجاء السجن وما حوله تبث الأناشيد الوطنية والأناشيد التي تمجد رئيس الدولة وتسبغ عليه صفات الحكمة والشجاعة، وتصفه بأوصاف عديدة، فهو المفدى، القائد العظيم، المعلم، المُلهِم... تذكر أفضاله العميمة على جميع أبناء الشعب ، فلولاه لما بزغت الشمس، وهو الذي يمنحنا الهواء لنتنفس ، والماء لنشرب ...

نحن السجناء جميعاً نقف في الساحات في صفوف منتظمة، ولأول مرة منذ مجيئي الى هنا سمحوا لنا بالوقوف ضمن الساحة مفتوحي الأعين.

أعطوا واحداً من السجناء ورقة، ومما هو مكتوب عليها يهتف... فنهتف وراءه: بالروح...بالدم سنفدي رئيسنا المحبوب والمعبود!.

لازمني الدكتور زاهي (زاهي عبادي، طبيب من دير الزور، خريج جامعة حلب، معتقل معنا) بعنايته الفائقة، وبلهجة المنطقة الشرقية المحببة كان يشرح لي بما يشبه التقرير الطبي أن وضعي كان خطراً لسببين: الأول أن أذية بالغة قد أصابت إحدى الكليتين وأنني بقيت فترة أتبول دماً. أما الثاني فهو أن مساحة الجلد المتهتك في جسدي قد اقتربت من حد الخطر. وإن تفاوتت النسبة حسب المنطقة. تَهَتَّك جلد الظهر بكامله تقريبا ، قسم من البطن ، الجهة الأمامية من الفخذين، القدمان من الجهتين العلوية والسفلية. أما جلد القدم اليسرى فقد انكشط من الجهة العلوية وبانت العظام.

أخبرني زاهي أنني بقيت ستة أيام غائباً عن الوعي ومعلقاً بين الحياة والموت، كان الملح هو المادة المعقمة الوحيدة المتوفرة، بالملح عالجني الشيخ زاهي، كما كان يحب أن ينادى متنازلا عن لقب دكتور بكل طيبة خاطر وكان يشربني الماء وقليلا من المربى المذاب والمخفف بالماء.

وكما شرح لي وضعي الصحي فإنه أخبرني عن المعلومات التي وصلتهم من المهاجع الأخرى والتي تقول إن عدد أفراد دفعتنا كان / 91 / شخصاً، قتل منهم ثلاثة في الساحة الأولى أثناء الاستقبال وهؤلاء لم يدخلوهم إلى المهاجع، وخلال فترة غيابي عن الوعي مات عشرة آخرون متأثرين بجروحهم وإصاباتهم البليغة، واثنان من الدفعة أصيبا بشلل دائم نتيجة أذى كبير بالعمود الفقري، واحد فقط أصبح أعمى بعد أن تلقى ضربة كرباج فقأت عينيه، وبعد أن انتهى زاهي من سرد هذه المعلومات قال:

-والحمد لله على سلامتك .. احمد الله يا أخوي احمده.. و رغم أن الصلاة ممنوعة بس أنت تقدر تصلي سراً ركعتين لوجه الله !.


الحلاقة

وقف رئيس المهجع في الصباح وقال مخاطباً الناس في المهجع:

-يا إخوان .. اليوم دورنا بالحلاقة، اصبروا وصابروا، سيعيننا الله .. احملوا المرضى ويللي ما بيحسن يمشي على البطانيات، كل بطانية يحملها أربعة فدائيين ... وقدر ما فيكم أسرعوا، السرعة أفضل.. والله يقوينا!

صفان من الشرطة على جانبي الباب، بين الشرطي والآخر حوالي المترين، كل شرطي يحمل كرباجاً، ما أن يصل السجين إلى الباب حتى يبدأ الركض، تتلقاه كرابيج الصف اليميني للشرطة من الأمام، الكرابيج اليسارية تطارده من الخلف، من يتعثر أو يقع .. قد يموت فهو يكون قد كسر التناغم وإيقاع الضرب، يقف الصف من خلفه وتجتمع عليه الكرابيج جميعاً، فإذا كان ذا بنية قوية واستطاع النهوض رغم الكرابيج المنهالة عليه فقد نجا. أما الضعيف فستبقيه الكرابيج لصيقاً بالأرض إلى الأبد.

حوالي الثلاثمائة سجين من مهجعنا ركضوا بسرعة، تلقوا الضربات السريعة والكاوية، اصطفوا في الساحة ووجوههم إلى الحائط وأعينهم مغمضة، نحن المرضى وضعونا في منتصف الساحة.

حلاقة الذقن عملية تشريح أو حراثة للوجه مصحوبة بالبصاق والشتائم، وكان بعضهم يتلذذ بافتعال السعال قبل البصق على وجه السجين كي يكون البصاق مصحوبا بالمخاط !!! وتلتصق بصقة البلديات بالوجه ! ويمنع السجين من مسحها

حلاقة الرأس .. مع كل سحبة ماكينة على الرأس، وبعد أن ينفض البلديات الشعر المحلوق، ضربة قوية بالماكينة نفسها على المكان المحلوق وهو يصر على أسنانه ويشتم.


المهجع

خلال استلقائي أكثر من شهر في هذا الركن أتيح لي أن أعاين وأفهم الكثير من الأشياء والأمور في هذا المهجع الكبير. يبلغ طول المهجع خمسة عشر متراً، وعرضه حوالي ستة أمتار. باب حديدي أسود، في أعلى الجدران نوافذ صغيرة ملاصقة للسقف ومسلحة بقضبان حديدية سميكة، لا يتجاوز عرض النافذة خمسين سنتمتراً وطولها حوالي المتر. أهم ما في المهجع هو الفتحة السقفية، وهي فتحة في منتصف السقف طولها أربعة أمتار وعرضها متران، مسلحة أيضا بقضبان حديدية متينة، هذه الفتحة ويسمونها " الشراقة " تتيح للحارس المسلح ببندقية والذي يقف على سطح المهجع أن يراقب ويعاين كل ما يجري داخل المهجع وعلى مدار ساعات الليل والنهار، فوق كل مهجع في السجن الصحراوي حارس مسلح من الشرطة العسكرية.

الطعام

ثلاث مرات في اليوم يفتح الباب الحديدي الأسود لإدخال الطعام، وفي كل مرة يكون الفدائيون واقفين خلف الباب، ما أن يفتح حتى يصبحوا جميعاً بلمح البصر عند الطعام، وبسرعة البرق يحملونه، فدائي واحد لكل جاط برغل، جاط المرق يحمله اثنان، الخبز يكومونه على البطانيات وكل بطانية يحملها أربعة أشخاص، طوال الوقت الذي يستغرقه إدخال الطعام تكون كرابيج الشرطة قد فعلت فعلها، يتفنن عناصر الشرطة ويبتدعون أساليب جديدة:

أمام جاط شوربة العدس الغالي، أمسك الرقيب بالفدائي الذي هَمَّ بحمل الجاط. قال:

-اترك الجاط على الأرض ... ولا ....!

ترك السجين الجاط ووقف.

-وهلق ... غطس إيديك بالشوربة لشوف!

وخرجت اليدان من الشوربة مسلوختين. وأجبره بعدها أن يحمل الجاط بيديه المسلوختين إلى داخل المهجع. كل بضعة أيام يقتل واحد أو أكثر أثناء إدخال الطعام إلى المهاجع.


الفدائيون

يوجد هنا أناس من كل الأعمار، رجال في الثمانين من عمرهم، فتيان لم يتجاوزوا الخامسة عشر، يوجد مرضى، ضعفاء، ذوو عاهات سواء كانت في الأصل أو حدثت جراء التعذيب.

الفدائيون مجموعة من الشباب الأقوياء ذوي الأجساد المتينة، تطوعوا من تلقاء أنفسهم للقيام بالمهام الخطرة التي تحتاج إلى قوة تحمل أو سرعة، مثل إدخال الطعام إلى المهجع، أو إذا تم " تعليم " أحد المرضى أو الشيوخ من قبل الحراس، فإن أحد الفدائيين ينوب عن هذا المريض في تلقي الخمسمائة جلدة، لا يعرف أحد أي مهجع في السجن كان السباق إلى ابتداع هذه الفرقة الفدائية.

سمعت أحد الفدائيين يقول إلى زميله:

-نحن مشروع شهادة.

وهم صادقون في سعيهم إلى الاستشهاد، وقد أنقذت الفرق الفدائية حياة الكثير، وعملهم يتسم بالإخلاص والاندفاع الشديدين النابعين عن إيمان عميق.


الحمّام

نحن في المهجع ستة مرضى لا نذهب إلى الحمام، أنا وزميلي في الدفعة الذي بقي غائباً عن الوعي طوال الفترة التي كنت لا أستطيع الحركة فيها، "وكان قد دخل إلى هذا المهجع من دفعتنا ثلاثة، واحد مات بعد يومين، أنا صحوت بعد ستة أيام، أما الثالث فقد بقي شهرين يتأرجح بين الموت والحياة، صحا بعدها وشفي" وأربعة مشلولون، اثنان منهم بالأصل شلل أطفال ، الثالث أثناء الاستقبال، أما الرابع فقد شل نتيجة التعذيب بـ " المظلة ".

فتح الباب ... خرجنا ركضاً، اثنين اثنين، حولنا من الجانبين الشرطة يحملون الكرابيج التي ترتفع عالياً وتهوي على من تصادفه. الكل حفاة " كانت قدماي لما تُشْفَ جيدا بعد "، من الساحة السادسة عبرنا ثلاث ساحات أخرى حتى وصلنا الحمام، أدخلونا كل اثنين إلى مقصورة بلا باب، وزعوا الصابون العسكري ضرباً على الرأس.. صياح ... شتائم ...

"سوف يلغى الحمّام بعد فترة نتيجة اكتظاظ السجن وسيتم تحويله إلى مهجع يوضع فيه المعتقلون الشيوعيون ."

تابع الدكتور زاهي العناية بي وبالمرضى الآخرين، جروحي كلها على وشك الشفاء عدا الجرح على وجه القدم اليسرى، ونتيجة لأن عظام مشط القدم قد بانت بعد انكشاط الجلد عنها فقد خشي الدكتور زاهي من مضاعفات أخرى، حضر مرة ومعه شخص آخر وعرّف به على أنه طبيب أخصائي جلدية، وقد أخبرني هذا الطبيب أن بمهجعنا فقط يوجد ثلاثة وعشرون طبيباً من مختلف الاختصاصات.


الصلاة

الصلاة ممنوعة منعاً باتاً بأوامر مدير السجن. عقوبة من يقبض عليه متلبسا بجرم الصلاة هي " الموت "، رغم ذلك فإنهم لم يكونوا يفوّتون صلاة واحدة. ولكن هنا الإنسان يصلي وهو جالس في مكانه أو في أي وضعية أخرى. إدارة السجن عرفت هذا أيضاً، ويتناقلون حديثاً لمدير السجن قاله أمام السجناء الشيوعيين، ودائماً حديث مدير السجن أشبه ما يكون بالمحاضرات أو الخطب، خاطب الشيوعيين قائلاً:

-هؤلاء الكلاب ... الإخوان المسلمون، البارحة فقط أمضيت أكثر من نصف ساعة وأنا أشرح لهم وأفهمهم أن القومية أهم من الدين، ولكن هل تتصورون أنهم اليوم عادوا يصلّون !!! عجيب أمر هؤلاء الناس !!


الاتصال

جميع المهاجع ملتصقة ببعضها، من اليمين واليسار، وأحياناً من الخلف أيضاً، وهذا الأمر سهّل الاتصال بين السجناء، ويكون ذلك بالدق على الحائط حسب طريقة مورس، دقة على الحائط ... دقتان ... دقة قوية ودقة ضعيفة....

كل ما يجري داخل السجن: الدفعات الجديدة، من مات، عدد الذين أعدموا وأسماؤهم، الأخبار خارج السجن والتي ينقلها السجناء الذين جاؤوا حديثاً، كل هذه الأشياء كانت تنتقل عبر المهاجع وفي كل مهجع مجموعة مخصصة لتلقي وإرسال تلك الرموز، تقف خلفهم مجموعة الحفظة.

بدأ الحفظ منذ بداية "المحنة" كما يسميها الإسلاميون، كان الشيوخ الكبار يجلسون ويتلون آياتِ القرآن على مجموعة من الشباب، وهؤلاء يظلون يكررونها حتى يحفظوها، لم يبق أحد في المهجع إلا وحفظ القرآن من أول حرف إلى آخر حرف، ومع كل دفعة جديدة كانت تبدأ دورة جديدة، ولاحقاً تطور الأمر باتجاه آخر، يتم انتقاء مجموعة من الشباب صغار السن يحفظون إضافة الى القرآن وأحاديث النبي محمد ... ما يمكن تسميته بسجل السجن، أسماء كل من دخل هذا السجن من الحركات الإسلامية. "في مهجعنا شاب لم يبلغ العشرين من عمره، يحفظ أكثر من ثلاثة آلاف اسم، اسم السجين، اسم مدينته أو بلدته، قريته، تاريخ دخوله السجن ... مصيره!!." بعضهم متخصص بالإعدامات والقتل، وهم يسمون كل من يقتل أو يعدم في السجن شهيداً، وهذا سجل الشهداء. أيضا يحفظون الاسم، عنوان الأهل، تاريخ الإعدام أو القتل.

شجاعتهم أسطورية في مواجهة التعذيب والموت، وخاصةً لدى فرق الفدائيين، وقد رأيت أناساً منهم كانوا يفرحون فرحاً حقيقياً وهم ذاهبون للإعدام. لاأعتقد أن مثل هذه الشجاعة يمكن أن توجد في مكان أخر أو لدى مجموعة بشرية أخرى.

وسط هذه الصحراء المترامية، لا توجد فصول أربعة، فقط فصلان، صيف وشتاء، ولا ندري أيهما أشد قسوة من الآخر.

-نحن الآن في عز الصيف. الجو لاهب. سمعت بعضهم ممن يعرف المنطقة سابقاً يقول إن درجة الحرارة قد تصل الخمسين أو حتى ستين درجة مئوية في الخارج، وفي الظل داخل المهجع لا تقل عن الخمسة وأربعين درجة مئوية.

بعض كبار السن قَضَوا اختناقا، رئيس المهجع يدق الباب ويخبر الشرطة بموت أحدهم، يفتحون الباب، ويبدو صوت الشرطي سائلاً من شدة الحرارة:

-وين هادا الفطسان ؟... يالله ... زتُّوه لبرّه.

أما اليوم الشتائي فهو يوم منكمش، ثياب الجميع قد تهرأت ولا يمكن أن تقي من البرد الصحراوي الحاد الذي ينخر العظام ويجمد المفاصل. أحد القادمين الجدد إلى المهجع كان أهله أغنياء جدا، وقد استطاعوا زيارته أثناء وجوده في فرع المخابرات بعد أن دفعوا ما يوازي ثروة صغيرة كرشوة إلى الضابط المسؤول، وهناك من نصحهم بأن يأخذوا لابنهم الكثير من الثياب. "جلب معه أكثر من مائة غيار داخلي، كان نصيبي منها سروالاً داخلياً، أعطاني إياه رئيس المهجع:

-خود هذا .... مشان يكون عندك بدل!

أما مشكلة القمل فتكون أصعب في اليوم الشتائي، فلا حل للقمل المنتشر بكثافة في جميع المهاجع إلا أن تجلس وتخلع كل ثيابك وتبدأ بالتفتيش عنه في ثنايا الثياب. الجميع هنا يفعل ذلك.

جافاني النوم. مددت البطانية كالعادة وتمددت. الواحدة بعد منتصف الليل مللت الاضطجاع بعد أن آلمتني أجنابي، جلست ولففت نفسي بالبطانيات، خمس دقائق وصوت الحارس من خلال الشراقة:

-يا رئيس المهجع .. يا حمار.

-نعم سيدي.

-علّملي هالتيس القاعد جنبك.

-حاضر سيدي.

لقد علمني. تمددت فورا، غداً صباحاً سيكون فطوري خمسمائة جلدة بقشاط مروحة الدبابة على قدمي! إن قدمي التي أصيبت شفيت تماما مع ندب طويل ولكنها كانت تؤلمني دائماً في أيام البرد فألفّها أكثر من غيرها، كنت أحلم بزوج من الجوارب الصوفية! أحد أحلامي الصغيرة. ماذا سيكون مصير هذه القدم المسكينة عندما تتلقى خمسمائة جلدة؟ وعندما فتح الباب وصاح الشرطي برئيس المهجع ليخرج الأشخاص الذين تم تعليمهم، قفزت واقفاً، ولكن رئيس المهجع وبسرعة قال:

- مكانك، لا تتحرك، واحد من الشباب طلع بدلا منك.

ذهلت، واحد من الفدائيين، واحد من المتشددين الإسلاميين يفديني الآن بنفسه ويتلقى عني خمسمائة جلدة!!


التنفس

في السجون الأخرى التنفس هو حيز زمني يخرج فيه السجين من مهجعه إلى ساحة هواؤها نقي، يأخذ حاجته من الهواء والشمس والحركة.

هنا ... قبل التنفس يكون السجناء في المهجع قد انتظموا في طابور، تفتح الشرطة الباب، يخرج الطابور بخطوات بطيئة، الرؤوس منكسة إلى الأسفل، العيون مغمضة، كل سجين يمسك بثياب الذي أمامه، عناصر الشرطة والبلديات يحيطون بالساحة وينتشرون بها بكثافة.

الاثنين والخميس يومان مختلفان عن بقية أيام الأسبوع هنا. في هذين اليومين تتم الإعدامات، لذلك عندما نخرج للتنفس في هذين اليومين تكون كمية التعذيب والضرب أكثر، وفي التنفس يكون الضرب غالباً على الرأس:

-يا كلب... ليش عم ترفع راسك؟!

ويهوي الكرباج على الرأس.

يصرخ الرقيب:

- يا حقير... أنت أنت يا طويل... أطول واحد بالصف، تعال هون...

يركض أحد البلديات ويجر أطول واحد بيننا، الرقيب جالس يضع رِجلاً على رجل، يقول:

- يا حقير .. أنت بني آدم ولا زرافة؟

يضحك المتجمعون حوله بصخب، يتابع الرقيب:

- وهلق ... اركض حول الساحة خمس دورات وطالع صوت متل صوت الزرافة ... يالله بسرعة. يركض السجين ويصدر أصواتاً، لا أحد يعرف كيف هو صوت الزرافة، أعتقد حتى ولا الرقيب نفسه، يدور السجين خمس مرات، يتوقف، يقول الرقيب:

- ولا حقير ... هلق بدك تنهق متل الحمار!

ينهق السجين الطويل. تضحك الشرطة.

- ولا حقير... هلق بدك تعوي متل الكلب!

يعوي السجين الطويل. تضحك الشرطة. يضحك الرقيب وهو يهتز. ثم يلتفت إلى رتل السجناء الذي يسير منكس الرؤوس ومغمض العينين، يصيح:

- ولا حقير... أنت أنت... أقصر واحد بالصف ، تعال هون.

يركض أحد البلديات، يجر أقصر واحد بالرتل. شاب صغير لا يتجاوز الخامسة عشر، يقف أمام الرقيب الذي يضحك ويقول:

- ولا حقير... يا زْمِكّ ... وقف قدام هالكلب الطويل.

يقف السجين القصير أمام السجين الطويل، يصرخ الرقيب:

- ولا حقير ... يا طويل ... هلق بدك تعوي وتعض هالكلب يللي قدامك وبدك تشيل قطعة من كتفه، وإذا ما شلت هـ القطعة ... ألف كرباج.

- وهلق ... انتوا الاثنين اشلحوا تيابكم.

يخلع الاثنان ثيابهما ويبقيان بالسراويل.

- ولا حقير قصير... نزل سرواله.

ينزل القصير سروال الطويل الى حد الركبتين.

- ونزل سروالك كمان. (ينزل القصير سرواله أيضا).

- وهلق ...... اعمل فيه ....(يتلكأ القصير، يشير الرقيب إلى أحد عناصر الشرطة، يقترب هذا ويهوي بالكرباج على ظهر القصير... يجلس الرقيب ، يصيح وهو ينظر إلى الرتل الذي يسير برؤوس منكسة وعيون مغمضة):

- جيبوا لي هـ البغل ... السمين.

يأتون برجل أربعيني بدين، يعرف الرقيب منه اسمه واسم مدينته، كم أمضى في السجن ... وتفاصيل أخرى، ثم يسأله:

- أنت متزوج ولاّ أعزب؟

- متزوج سيدي.

- أنت بتعرف شو عم تساوي زوجتك هلق ... ولا ... أنا بقول لك، أنت صار لك ثلاث سنين في السجن .... وهي كل يوم مع واحد جديد.

- السجين ساكت، منكس الرأس مغمض العينين...

تمضي الأيام، يتبدل الرقباء، لكن الأساليب تبقى نفسها ...

" كنت أتساءل : هل هي تسلية فقط أم أنها نهج مدروس الغاية منه تحطيم الإنسان وإذلاله من خلال المرأة باعتبارها أعلى قيم الشرف لدى المسلمين؟!..."


22 شباط

فتح الشرطة باب المهجع ودخلوا بطريقة وكأن مائة ثور هائج قد دخل هذا المكان، الصياح، الضرب بالكرابيج، الشتم، وبين شتيمة ولسعة كرباج يصرخون:

- وجهك عـ الحيط .. وجهك عـ الحيط ..

منذ دخول أول شرطي بهذه الطريقة قفز السجناء وأداروا وجههم إلى الحائط، وقفت لا أدري ما افعل.. صحوت على الكرباج يهوي على خدي ويلتف على رقبتي من الخلف والشرطي يصيح:

- وجهك عـ الحيط !

- أدرت وجهي، تخشبت وسيخ الألم يمتد من وجهي إلى رقبتي، بعدما ما يقرب الخمس دقائق خيم الصمت.

إنه المقدم مدير السجن. أخد يتمشى من أول المهجع إلى آخره بين صفين من عناصر الشرطة الواقفين وقفة استعداد عسكرية.

صوت طلقات مسدس متتابعة، انكمشت على نفسي لدى سماعها وخبأت رأسي أمام صدري، وبسرعة فائقة خرج المقدم يسحب وراءه رتلاً من عناصر الشرطة وأغلق الباب.

أربعة عشر قتيلاً بأربع عشرة طلقة هي كل مايحويها مخزن مسدس المقدم على ما يبدو. ركض الأطباء وبينهم زاهي إلى زاوية المهجع حيث القتلى، فحصوهم جميعاً، الكل ماتوا فوراً، ومكان دخول الرصاصة واحد لدى الجميع في الرأس من الخلف، سحبوهم إلى وسط المهجع، تجمعت بركة من الدماء الطازجة وجلس البعض حولها يبكون، الأغلبية جامدة مذهولة، الأطباء في حالة حيرة لايعرفون ما يفعلون، وقف واحد من فرقة الفدائيين، قال:

- لاحول ولاقوة الا بالله ... انّا لله وإنّا اليه راجعون، عليهم رحمة الله، هم السابقون ونحن اللاحقون، اللهم أسكنهم فسيح جنانك، اللهم هؤلاء شهداء في سبيل إعلاء كلمتك، كلمة الحق، فارحمهم أنت الرحيم الغفور.

بعد خروج مدير السجن وزمرته أغلق أحدهم الباب بقوة شديدة، فسقطت قطعة من الإسمنت بجانب الباب، أي بجوار المكان الذي أنام فيه. وتركت ثقباً يمكّنني من النظر إلى الساحة. أعدت قطعة الإسمنت إلى مكانها، وكلما أردت التفرج على ما يجري في الساحة رفعت قطعة الإسمنت ونظرت.

فيما نحن نسير.. ندور، امتدت يد الرقيب الغليظة، أمسكتني من ساعدي وجرتني خارج الرتل، أغلقت عينيّ جيداً ونكست رأسي حتى التصق بصدري. بقي ممسكاً بساعدي، اليد الأخرى أمسكت فكي السفلي ورفعت رأسي إلى الأعلى بعنف، فحّ صوته ممزوجاً بحقد رهيب:

- ارفع رأسك.. ولا كلب، افتح تمك.. لشوف.

فتحت فمي، طلب مني أن أفتحه أكثر، ففتحته. تنخّم بقوة، تنخم ثلاث مرات، ودون أن أستطيع رؤيته أحسست أن فمه قد امتلاً بالمخاط المستحلب.. شعرت برأسه يقترب مني و..بصق كل مايحتويه فمه إلى.. داخل فمي. برد فعل غريزي حاول فمي التخلص من محتوياته، تملكتني حاجة لاإرادية بالإقياء، لكنه كان أسرع مني وأسرع من فمي، أغلق فمي بيد وامتدت يده الأخرى بسرعة البرق إلى جهازي التناسلي، أمسك خصيتيّ وضغط عليهما بشدة.. موجة الألم الهائلة التي صعدت من خصيتيّ إلى الأعلى كادت أن تفقدني الوعي، انقطع تنفسي لثانيتين أو ثلاث، كانت كافية لأن أبتلع مخاطه وبصاقه كي أتنفس، ظل يضغط خصيتيّ حتى تأكد أنني قد ابتلعت كل شيء.

تابعت السير.. تابعت الدوران، مغمض العينين، منكس الرأس.

ألم الخصيتين المهروستين يخفت شيئاً فشيئاً، الإحساس بأنني قد امتلات بالقذارة يتصاعد شيئاً فشيئاً.

عندما نسمع صوت الهليوكوبتر يرتجف أو يتوتر كل من في السجن، حتى الشرطة والبلديات يتوترون، البعض يسميها طائرة الموت، أو ملاك الموت الهابط من السماء، أحد السجناء قال إن عزرائيل يجلس في المقعد الأمامي للطائرة لاًن هؤلاء متعاقدون معه.

السجن يبعد عن العاصمة عدة مئات من الكيلومترات، لذلك فهيئة المحكمة الميدانية تأتي بالطائرة على الأغلب مرتين في الأسبوع، الاثنين والخميس ، وهيئة المحكمة هذه قد تكون ثلاثة ضباط وقد تكون ضابطاً واحداً، يعطون إدارة السجن بعد أن يدخلوا الغرفة المخصصة لهم لائحتين اسميتين:

اللائحة الأولى: تضم أسماء الذين سيحاكمون في هذا اليوم، تأخذ الشرطة هذه اللائحة وتدور على كل المهاجع منادية على الأسماء، ثم يبدأ التجميع من آخر مهجع في الساحة السابعة مع الصياح والشتم والكرابيج، الرؤوس المنكسة والأعين المغمضة، يسوقونهم سوقاً إلى الساحة صفر حيث يُجلسونهم على الأرض أيديهم فوق رؤوسهم، ورؤوسهم بين ركبهم.

يدخل إلى غرفة المحكمة أول اسم نادوا عليه بصفعة قوية على الرقبة عند باب الغرفة، يسأله الضابط:

- أنت فلان ابن فلان؟

- نعم سيدي.

- طالعوه لبره.

وهكذا تكون قد انتهت محاكمته، ثم يدخل الثاني والثالث .. وهكذا خلال ساعتين أو ثلاثة قد تتم محاكمة أكثر من مئة شخص، أحياناً تتعطل إجراءات المحاكمة، فالضابط يسأل السجين:

- أنت فلان ابن فلان؟

- نعم سيدي.

- ولاك ابن الكلب .. أنت شاركت بتفجير المجمع الاستهلاكي؟

- لا والله يا سيدي .. أنا مالي علاقة بأي شي.

- يا كلب .. عم تنكر كمان !! .. يا شرطة.

يدخل عناصر الشرطة إلى الغرفة.

- حطوه بالدولاب حتى يعترف.

تبدأ حفلة التعذيب أمام غرفة المحكمة، يبدأ الضرب والصراخ الأمر الذي يشوش على هيئة المحكمة، يتوقف العمل، تشرب هيئة المحكمة القهوة العربية، بعد قليل يهدأ كل شيء ويدخل الشرطة والسجين معهم يترنح:

- شو .. لساتوا ميبس راسه؟!

- لا سيدي .. اعترف بكل شي.

- إعدام .. طالعوه لبرّه.

أغلب السجناء لا تستغرق محاكمة أي منهم لدى المحكمة الميدانية أكثر من دقيقة واحدة، أغلب السجناء لا يرون القاضي "الضابط"، ولا يعرفون الأحكام التي صدرت بحقهم وقررت مصيرهم. هذه المحكمة ذات نوعين من الصلاحيات، فهي تملك الحق في أن تصدر أحكاماً بالإعدام وتنفذها بالقدر الذي تشاء، وتسجن من تشاء المدة التي تشاء. لكنها لاتملك الحق في إخلاء سبيل أي بريء "معروف هنا أن المهجعين الأول والثاني يسميان حتى لدى الشرطة بـ مهجع البراءة، المحكمة ذاتها وخلال عدة سنوات كانت قد أصدرت أحكاما بالبراءة على سجناء هم في الحقيقة أطفال أعمارهم بين / 11 – 15 / عاماً قبض عليهم خطأ ولكنهم بقوا في السجن ولم يطلق سراح أي منهم، وقد قضى سجناء مهجع البراءة في السجن مدداً تتراوح بين / 10 – 15 / سنة، هؤلاء الأطفال خرجوا من السجن لاحقاً رجالاً".

اللائحة الثانية: وهي لائحة الذين سينفذ فيهم حكم الإعدام شنقاً في اليوم نفسه.

اليوم هناك أربعة من مهجعنا سيتم تنفيذ حكم الاعدام بهم، قام هؤلاء الأشخاص بالذهاب الى المغاسل، تطهروا، توضؤوا، صلّى كل واحد منهم صلاة عادية، أي صلاة علنية مكشوفة للجميع فيها سجود وركوع "وهل بعد الموت خوف؟!" بعدها طافوا المهجع ودّعوا الجميع مصافحةً وتقبيلاً:

- سامحونا يا جماعة... نرجو أن تغفروا لنا أخطاءنا، ادعوا لنا عند الله ان يأخذنا بواسع رحمته وأن يحسن ختامنا.

الهدوء، ابتسامة خفيفة، أراقبهم جيداً، أتلصص، هل هدوؤهم حقيقي أم مصطنع؟ أرقب اليدين، زوايا الشفتين، العيون، لا ألمح شيئا يدل على الخوف أو الهلع.

يخلعون كل الثياب التي لا زالت بحالة جيدة وتصلح لاستخدامها من قبل الأحياء من بعدهم ، يلبسون بدلاً منها ثيابا مهترئة لا تصلح لشيء، يسلمون الثياب الجيدة الى رئيس المهجع لتوزع بمعرفته.

الإعدام يتم قبالة مهجعنا، وقد رأينا المشانق عدة مرات أثناء خروجنا أو دخولنا من التنفس.

بين الفينة والأخرى نسمع صوت التكبير ينطلق من حناجر عدة أشخاص معاً، يبدو أنها الدفعة التي يأتي دورها بالتنفيذ.

خلال الفترة الماضية كلها كان شعر جسدي يقف منتصباً كلما سمعت هذا الصوت ينطلق قبالة مهجعنا .

في الليل يطابق الساهرون بين العدد الذي ورد عبر الاتصال "المورس" وبين عدد ارتطامات الجثث على أرضية السيارة.

- صحيح ... خمسة وأربعون شهيداً.

في اليومين التاليين ينهمك الحفظة بحفظ أسمائهم وعناوينهم.

العجزة في المهجع كثر، المشلولون والمجانين، ثلاثة عميان، أخرس واحد.

أميز حالة بين المجانين: دكتور الجيولوجيا ـ لا أعرف هل هو جنون أم شيء آخر ؟ ـ رجل في الخمسين من عمره، ذهب الى أمريكا لدراسة الجيولوجيا، نجح في دراسته وحاز على الدكتوراه بدرجة امتياز، عاد الى البلد وبعد عودته ببضع سنوات تسلم إدارة واحدة من أهم المؤسسات العلمية، كان ميالا الى التدين، وإبان احتدام الصراع بين الإسلاميين والسلطة كانت هذه الصفات تهمة بحد ذاتها، عند فجر أحد الأيام سحبه رجال المخابرات من وسط عائلته، وماذا جرى بعد ذلك لا يعرف أحد.

يجلس دكتور الجيولوجيا على الأرض متربعاً ووجهه الى الحائط ثم يغطي نفسه كاملاً بالبطانية، ليلاً ونهاراً، صيفاً وشتاءً، حاول كثيرون أن يسألوه، يحادثوه، لم يلفظ حرفاً ... لم يفتح عيناً.

نحن الآن جائعون... جائعون بشدة، منذ ثلاثة أشهر هبطت كميات الطعام التي تقدمها لنا إدارة السجن هبوطاً حاداً.

كان لكل سجين يومياً رغيفان من الخبز العسكري، الآن رغيف واحد لكل أربعة سجناء، حصتي اليومية ربع رغيف لثلاث وجبات، اليوم فطوري كان ثلاث حبات زيتون هي كامل حصتي، ملعقة صغيرة من المربى على العشاء، إذا كان الإفطار بيضاً فلكل ثلاثة سجناء بيضة مسلوقة، "نصح الأطباء الجميع بعدم رمي قشر البيض، يسحقونه ويأكلونه للتعويض عن الكلس".

بعد ثلاثة أشهر من الجوع، الهزال واصفرار الوجوه باد على الجميع، قلّتْ حركة الجميع، من كان يقوم بالرياضة سراً أقلع عنها.

الشرطة تراقب ... وتواصل عملها كالمعتاد.


6 تشرين الأول

اليوم كان مليئاً. منذ الصباح تعج الساحة بالأصوات والضرب والصياح والصراخ. فُتح باب مهجعنا وخرج الفدائيون لإدخال الطعام تحت ضرب الكرابيج والعصي، أحد الفدائيين تلقى ضربة عصا سقط على إثرها ارضاً وكانت هذه آخر سقطة له، بقي في الخارج وحيداً بين أيدي عناصر الشرطة، وبعد قليل صاح الرقيب: - يا كلاب ... تعوا دخّلوه.

عاد الى المهجع محمولاً بدلا من أن يكون حاملاً.

تلقفه الأطباء في المهجع، بعد أكثر من ساعة لفظ أنفاسه وأسلم الروح بعد أن أوصى صديقه بصوت متهدج:

- سلم على أبوي ... إذا الله فرج عنك ... احكيلوا عني ... وقل له يرفع رأسه بابنه ...

واحد من الأطباء أتى الى عند رئيس المهجع والحزن باد عليه:

- الله يرحمه ما خلوا محل بجسمه إلا وضاربينه ...عدة إصابات ... حتى الخصيتين مهروسات هرس. انغمس المهجع بتجهيز الشهيد، الحديث عن الشهيد، مآثره، وصيته الأخيرة، ثم صلوا عليه سرا وأحضروه قرب الباب،

وقف أبومحمد ودق الباب بجماع يده، وجاء الصوت من الخارج:

- شو بدك يا "....." ؟... ليش عم تدق الباب ؟.

- يا سيدي ... في عنا واحد شهيد !!! ... عفوا عفوا ... واحد ميت.

نسي أبو محمد حذره من كثرة ترداد كلمة شهيد في المهجع، انتبه واستدرك ولكن هذا الاستدراك جاء متأخراً.

فتحت الطاقة الصغيرة في الباب الحديدي وظهر رأس الرقيب، وبمنتهى الهدوء توجه بالسؤال إلى أبي محمد الذي كان واقفاً:

- مين يللي قال شهيد ... يا رئيس المهجع ؟.

- أنا سيدي.

أغلق الرقيب الطاقة وصاح بالشرطة أن يفتحوا الباب.

في الثواني القليلة التي استغرقها فتح الباب، التفت أبو محمد الى الناس وقال:

- يا شباب سامحوني ... ادعوا لي ... ويللي يضل طيب منكم خليه يروح لعند ولادي ويحكيلهم كيف مات أبوهم!

- فُتح الباب. جمهرة من الشرطة أمامه...

- قذف أبو محمد نفسه بينهم، صاح الرقيب بالشرطة أن يغلقوا الباب. أبو محمد كان ضابطاً سابقاً، وكان رجلاً حقيقياً.

بعد أن فتحتُ الثقب كان أول من رأيت هو أبو محمد، بيده عصا غليظة من المؤكد أنه انتزعها من أحد عناصر الشرطة بعد أن فاجأهم بطريقة خروجه، يضرب بها ذات اليمين وذات الشمال، تحيط به دائرة من عناصر الشرطة والبلديات، ثم رأيت واحداً من الشرطة ممدداً على الأرض.

تضيق الدائرة حوله وتنهال عليه بعض الضربات من الجانبين ومن الخلف، يتألم يلتفت ويهجم، تتسع الدائرة، معركة حقيقية ولكنها غير متكافئة عددياً، من طرف: رجل يعرف أنه سيموت في كل الأحوال، وقرر ألا يموت موتاً سهلاً ورخيصاً، ومن الطرف الآخر مجموعة كبيرة من الأشخاص اعتادوا أن يكون قتلهم للآخرين سهلاً.

والكثرة غلبت الشجاعة. سقط أبو محمد أرضاًً بعد ربع الساعة، حضر أثناءها المساعد والطبيب ومدير السجن، على الأرض أربعة اشخاص ممددين، ثلاثة من الشرطة بينهم رقيب، لقد رأيت كيف تقصّد أبو محمد أن يهاجمه هو رغم أنه كان بعيداً عنه، وكيف نزلت عصا أبو محمد على رأسه.

فحص الطبيب الجميع، أسعفوا أحد العناصر بسرعة، الرقيب والعنصر الآخر ماتا، أبو محمد مات، قدم الطبيب هذا الشرح لمدير السجن الذي التفت الى المساعد طالباً منه أن يجمع كل من في السجن من عناصر الشرطة والبلديات وأن يقف جميع الحراس المسلحين الموجودين على الأسطحة.

اعتبر المقدم مدير السجن أن ما حدث كان تمرداً وسابقة خطيرة يجب أن تجابه بكل قوة، بمنتهى القسوة والعنف كي تكون درساً للجميع.

حوالي الثلاثمائة سجين، يحيط بهم عناصر الشرطة والبلديات، عشرات الحراس المسلحين على الأسطحة. جمعونا وسط الساحة، في آخر الصف قريباً من المهجع وضعوا العجزة، ألقى مدير السجن محاضرة نصفها شتائم، والنصف الآخر تهديد ووعيد، وقد نفذ تهديده، قال للمساعد:

- مابدي حدا يفوت على المهجع وهو ماشي، السليم منهم لازم يفوت زحف على بطنه.

"بعض السجناء سيسمي هذا اليوم لاحقاً بـ / يوم التنكيل / وبعضهم الآخر سيسميه / يوم أبو محمد/". .

استمر التنكيل من قبيل الظهر إلى ما بعد حلول الظلام، وكان أكثر ما يؤلم مشهد المشلولين وهم يُضربون، يحاولون الحركة، يحاولون تفادي الضرب .. ويظلون مكانهم.

في الصباح الجميع ينظر الى الجميع، كل من لديه القدرة يحاول أن يطمئن على جاره، الحصيلة ثلاثة قتلى ماتوا ليلاً، جراحي خفيفة ولا تشكل أي خطر.


24 شباط

البرد يجمدنا، الجوع يضنينا. ازداد هزال السجناء بسبب قلة الطعام، ثم بدأ مرض السل يظهر. وبعد شيء من الجدل مع السجانين بدأ العلاج.

أنا منذ أشهر مستمر بالمراقبة والتلصص على ساحة السجن عبر الثقب، شاهدت الإعدامات ... ثماني مشانق ... كل اثنين وخميس، أسمع كلام الشرطة بوضوح أحياناً، كان الناس هنا يتساءلون: لماذا لم نعد نسمع صيحات الله أكبر لدى تنفيذ حكم الأعدام ؟. الآن عرفت السر، بعد أن يخرج المحكومون بالإعدام من المهجع يغلق الشرطة الباب ويقومون بلصق أفواه المحكومين بلاصق عريض، كأن صرخة الله أكبر من المحكومين قبل إعدامهم تشكل تحدياً واستفزازاً للمحكمة الميدانية وإدارة السجن، فمنعوها باللاصق. هذه المشانق هي التي تنزل إلى المحكوم، البلديات الأشداء يميلون المشنقة إلى أن يصل الحبل إلى رقبة المحكوم بالإعدام، يثبتون الحبل حول الرقبة جيداً ثم يسحبون المشنقة من الخلف، يرتفع المحكوم عليه وتتدلى رجلاه في الهواء، بعد أن يلفظ الروح ينزلونه الى الارض ... وتأتي الدفعة الثانية ثم الثالثة ... أغلب الذين شاهدت إعدامهم كانوا هادئين. أحد المساجين من صغار السن استطاع أن يفلت من بين أيديهم ويركض في الساحة السادسة، وهي ساحة كبيرة جداً ذات فرعين، الهرب مستحيل واضطر الشرطة والبلديات للركض وراءه لدقائق الى أن أمسكوه، أوقفوه تحت المشنقة فجلس على الارض، رفعه اثنان من البلديات وأدخلوا رقبته في الحبل.


20 آذار

علاج مرضى السل مستمر، وجولات الدكتور سمير (وهو أحد السجناء) الذي قام بالعلاج أيضاً مستمرة، مرّ شهران كاملان لكن الاصابات في تزايد مستمر، وصل الرقم الى ألف وثلاثمائة إصابة، الوفيات قليلة جداً. وردت رسالة "مورس" مؤلفة من بضع كلمات: "طبيب السجن قتل اثنين من زملاء دفعته."

الرسالة واردة من المهجع السابع، بعد ثلاثة أيام وردت رسالة أخرى:

"طبيب السجن [يونس العلي] قتل ثلاثة من زملاء دفعته."

أبو حسين، أحس بالخطر، فدعا الطبيبين زملاء دفعة طبيب السجن لعنده، كانت لديه خشية كبيرة من أن يقوم طبيب السجن بقتل كافة زملاء دفعته ومنهم هذان الطبيبان، استخدم أبو حسين كل لباقته ودهائه كيلا يدخل الخوف الى قلبيهما: أنا لا أريد أن أهون المسألة وأكذب عليكما، ولكن قد يكون دوركما قادماً، لا سمح الله. والآن هل أستطيع أنا أو غيري أن نفعل شيئاً؟.

- ولكن قولا لي لماذا يفعل هذا؟ هل هو ينتقم؟ وممن؟.

- والله يا أبا حسين لا نعرف الكثير عنه، ما نعرفه أنه أتى الى الجامعة، كان ريفيا بسيطا وخجولا، عرف الجميع أنه من عشيرة الرئيس وهو لم يكن يخفي هذا، كان يدرس الطب على نفقة الدولة، قيل إنه كان يعمل مخبرا لدى الجهات الأمنية، والقصة التي لها بعض المعنى في هذا الموضوع هو حبه لزميلة من زميلاتنا، بقي حتى السنة الثالثة في الجامعة يحبها بصمت، لا يجرؤ على الاقتراب منها أو مصارحتها، في السنة الثالثة انتهز فرصة انفراده بها في أحد المختبرات، أمسك يدها وصارحها بحبه، قال إنه يعبدها ... وإنه.... وإنه.

الفتاة كانت ردة فعلها عنيفة جداً، وقد تكون هي السبب في كل ما يحدث، صّدته، اشتكت الى عمادة الكلية، ثم أخبرت أهلها بما حدث.

اليوم في 20 آذار، قبل عيد الربيع بيوم واحد، كان موعد هذين الطبيبين مع زميلهما.

أخرج عناصر الشرطة الطبيبين وأغلقوا الباب، رأيت الطبيبين يسوقهما عناصر الشرطة إلى أمام طبيب السجن الذي يقف على مبعدة أربعة أو خمسة أمتار من المهجع. يقف الطبيب عاقداً يديه على صدره وهو يبتسم. رحب بهما: أهلاً وسهلاً، ثم التفت الى عناصر الشرطة وأمرهما:

- روحوا خلوكم جانب البلديات.

في وسط الساحة سبع من البلديات العمالقة. وقف عناصر الشرطة بالقرب منهم، قال طبيب السجن:

- ايه ... هلق عم تقولوا لحالكم : سبحان مغير الأحوال ... طيب وانا كمان بقول هيك ... بدي أطلب منكم طلب، مين منكم بدو يجوزني أخته ؟ .

لم يجب الطبيبان بشيء، رأساهما منكسان قليلاً، تابع طبيب السجن:

- ليش ساكتين؟! ... شو يا عدنان ... أنا عم أخطب أختك على سنة الله ورسوله، الزواج عيب شي؟. - بس أنا ما عندي أخت، والحمد لله.

سادت فترة صمت ثم التفت الى الطبيب الآخر، وقال :

- طيب ... وأنت يا زميل سليم كمان ما عندك أخت؟.

- نعم ... عندي أخت.

- طيب خطبني اياها على سنة الله ورسوله.

- الزواج قسمة ونصيب، ونحن هلق بوضع ما بيسمح بنقاش هيك أمور، وأولاً وأخيراً أنا ماني ولي أمرها. - هذا أسلوب تهرب ...

اقترب منه وبصوت أقوى:

- وإلا شايف أنه نحن مو قد المقام، انتو ناس أغنياء وأكابر، نحن فلاحين، مو هيك؟

اقترب منه ولوح بيده أمام وجهه وبصوت حاد صاح وهو يصر على أسنانه:

- ولك شوف ... افتح عيونك وطلع لهون، شايف هذا البوط، بوطي أحسن منك ومن أختك وأهلك وكل عشيرتك وطايفتك ... يا كلب.

ثم التفت الى حيث البلديات وصاح:

- بلديات... تعوا لهون ولاك... خذوهم عـ نص الساحة.

سحب البلديات الطبيبين. ومشى وراءهم وهو يصيح:

- هدول ناس أكابر ... يعني فوق ... فوق، وهلق نحن بدنا نطالعهم كمان لفوق أكثر وأكثر ... يالله لشوف.

في منتصف الساحة كنت أرى ولا أسمع. استلقى عدنان على ظهره وأمسك به سبعة من البلديات، من الرجلين، اليدين، الخاصرتين، ومن تحت الرأس. إنها عقوبة المظلة. والمظلة عقوبة تعني واحداً من ثلاثة أشياء: إما كسور مختلفة في سائر أنحاء الجسم وعلى الأغلب في الحوض، وإما شلل دائم عندما يكون الكسر في العمود الفقري، أو الموت وهو الاحتمال الثالث خاصة عندما يسبق الرأس الجسم في النزول، وغالبا هذا يحدث عندما يكون عنصر البلديات الممسك بالرأس أقل قوة من الآخرين.

رفع البلديات عدنان، وجهه الى السماء، ظهره مواز للأرض الاسفلتية، أرجحوه قليلاً ثم بصوت عال:

- يالله .. واحد ... اثنين ...ثلاثة.

وقذفوه الى الأعلى، ثم خبطة قوية على الأرض، لم يتحرك عدنان بعد أن صرخ صرخة ألم رهيبة.

انتظر طبيب السجن قليلا، أشعل لفافة تبغ وظهره لعدنان والآخرين، كان ينظر باتجاه باب مهجعنا، عبّ نفسا من اللفافة وزفره، التفت وأشار للبلديات الذين تقدموا ورفعوا عدنان مرة أخرى و ... واحد ... اثنين ... ثلاثة، هذه المرة لم تصدر أية صرخة.

تكرر نفس الأمر مع سليم.

تركوهما وسط الساحة في حالة استلقاء أبدي. مجموع ما قتله طبيب السجن من زملاء دفعته أربعة عشر طبيباً.


29أيلول

استيقظت في الصباح الباكر على أنين رجل يتألم بشدة. كان يضع يده على بطنه وهو يتلوى ألماً، أنا الوحيد الذي استيقظ على أنينه، نظر الي مباشرة ، نظرته تحتوي على نداء استغاثة، تلفتُّ حولي حائراً، هممت أن أسأله عما به وماذا يريد، لكن لم أعرف كيف أفعل ذلك !استيقظ العديد من السجناء ، طلب منهم أن يأتوه بطبيب ، حضر أحد الأطباء وسأله وهو يفحصه عما به:

- مغص شديد يادكتور ... مصاريني عم تتقطع، راح أموت يا دكتور!!.

- التهاب حاد بالزائدة الدودية، إذا لم يتم إسعافه سريعاً وإجراء عملية جراحية فهي حتماً ستنفجر وسيموت المريض.

- مين هـ الكلب يللي عم يدق الباب ؟.

أخبره أبو حسين برقم المهجع، وأن الدكتور سمير يريد طبيب السجن لأمر هام.

فوجئ الدكتور سمير بذلك لكنه وقف إلى جانب أبي حسين بانتظار طبيب السجن، قال أبو حسين لسمير: - والله يا دكتور ... كيف طلع اسمك معي مابعرف !!... وانت صاروا يعرفوك ويجوز يسمعوا منك. كان مرض السل في أواخره ولا زال الدكتور سمير يتابع علاج عشرات الحالات التي أسماها مستعصية، ولذلك فهو على احتكاك دائم مع الشرطة.

استغرق مجيء الطبيب أكثر من ساعة. جاري يعتصر من الألم، فتح الباب وظهر أمامه الطبيب والمساعد وبعض الشرطة، شرح سمير الأمر، لكن طبيب السجن لم يتكلم ابداً، أدار ظهره ومشى، المساعد رمق سمير بنظرة طويلة وقال:

- مشان زائدة دودية عملتوا كل هـ الضجة ؟!... صحيح هـ الكلب معه زائدة بس انت معك ناقصة، وأنا من زمان حاسس إنك ما تنعطى وجه ... طلاع لبره.

خرج الدكتور سمير الى خارج المهجع ، وخاطب المساعد أبا حسين:

- مين دق الباب ... ولا؟

- أنا يا سيدي دقيت الباب.

- طلاع لبره كمان يا كلب ... يا ابن الكلاب.

خرج أبو حسين ايضاً وأغلق الباب، نصف ساعة كنا نسمع صراخهما.

مشان الله يادكتور لا تواخذني !... انا سببتلك هـ العقوبة، أنا يللي ورطتك.

ضحك الدكتور سمير وهو يحجل في مشيته، ربت على كتف أبي حسين:

- بسيطة أبو حسين بسيطة ...

تقدم طبيب كهل أشيب الشعر جلس على فراش أبي حسين، قال:

- تعرف يا أبو حسين اني طبيب جرّاح، انا بحسن هلق ساوي عملية جراحية للمريض بستأصل الزائدة فيها، لكن يلزمني بعض الاشياء، وكمان لازم المريض يقول قدام الناس كلها إن العملية على مسؤوليته هو.

واختار المريض الموت المحتمل، نفى أمام الناس كل مسؤولية عن الطبيب.

أبلغ الطبيب أبا حسين بمستلزمات العملية:

- يوجد قماش نظيف، يوجد كحول، يوجد ملح، يوجد بعض حبوب المضاد الحيوي التي استطاع الدكتور سمير أن يغافل الشرطة عنها، يوجد إبر خياطة،خيطان، نار، لكن ما نحتاجه هو بعض الاشياء المعدنية لنحولها الى مشارط!!.

التلييس الداخلي للمهجع كان ذا إسمنت خشن والجميع يدرمون اظافرهم بهذا الإسمنت – لا مقصات أظافر في السجن – وعلى هذا الاسمنت تم صنع وابتكار العديد من الأشياء، فمِن قِطَع عظم صغيرة تم صنع إبر الخياطة، يمسك أحدهم العظم ويبدأ بحكه على الجدار ... يوم ... يومين.. أيام، إلى أن يأخذ شكل الابرة، وبواسطة مسمار يكون قد تم برده ايضاً على الحائط، يقوم الشخص وبصبر عجائبي بفتح ثقب الابرة ، " المسمار هنا يعتبر ثروة ، وتبين أن هناك عشرات المسامير في المهجع " ، الخيطان أمرها سهل ، ينسلون قطعة قماش ، بصبر وهدوء يغزلون الخيطان الرفيعة من جديد وحسب الطلب . الكحول : بعض الاطباء قاموا بتخمير المربى في بعض المرطبانات البلاستكية " وتحول السائل الى كحول ، قد تكون نسبته قليلة لكنه كحول .

عمم أبو حسين الأمر على المهجع :

- كل من لديه قطعة معدنية مهما كان نوعها او شكلها ليأت بها .

وظهرت المعادن: مسامير، قطعة نقدية من فئة الليرة عليها صورة رئيس الدولة، أربع علب سردين فارغة! أسلاك معدنية، خاتم ذهبي.

مددت يدي الى جيب سترتي الداخلي ، تحسست الساعة ، أمسكت بها، يجب أن أعطيها لهم ... ساعتي مفيدة جداً لهذا الامر ، فـ " الكستك " المعدني مؤلف من قطع معدنية رقيقة يسهل تحويلها الى أدوات حادة ، وكذلك غطاؤها الخلفي ، وحتى زجاجها اذا لزم الامر، تمّ فرْشُ بطانية أمام المغاسل حيث لا يستطيع الحارس على السطح أن يرى شيئاً ، واستلقى المريض، الطبيب يتناقش مع مجموعة من الأطباء.

مشيت باتجاه الطبيب الجراح ، دون أية كلمة مددت يدي بالساعة إليه .

- بوغت الجميع ، سكتوا ، نظر الجراح في عيني مباشرة ، وببطء مد يده وتناول الساعة مني ثم التفت الى الاطباء وهو يقلب الساعة ، قال :

- هلق صار فينا نبدأ ، هـ الساعة راح تساعدنا كثير .

وزع الطبيب قطع الساعة و" الكستك " على بعض السجناء الذين انهمكوا في عملية البرد والشحذ ، فجأة قرقع المفتاح في الباب ، أذيعت أسماء تسعة اشخاص من مهجعنا ، ثلاثة إعدام وستة محاكمة ، توقفت التحضيرات لإجراء العملية أكثر من ساعة ، توضأ خلالها المحكومون، صلوا ، ودّعوا الناس ، خلعوا الثياب الجيدة وارتدوا ثياباً بالية، وخرجوا .

- اللهم أحسن ختامنا ، عليهم رحمة الله ، خلونا نتابع الشغل يا شباب لأنه المريض ما عاد ممكن يتحمل أكثر من هيك .

توجه الطبيب الجراح بهذه الكلمات الى بعض الأطباء وإلى الشباب الذين كانوا يقومون بالاستعدادات ، انتهى تجهيز المشارط،

كيس بلاستيكي مملوء بالدهن ، يبدو أنهم كانوا يجمعون الدهن المتجمد على سطح الطعام ، ينقّونه من الشوائب ويضعونه في الكيس، ملأوا إحدى علب السردين بالدهن وغرزوا فيه قطعة قماش بعد أن فتلوها جيداً ، أخرج أحدهم علبة كبريت وأشعل الفتيل ، " من أين الكبريت ؟!" ، اشتعلت النار مدخنة ، وضعوا فوق النار علبة سردين أخرى مملوءة بالماء وبه " المشارط "، كانوا ينفخون على الدخان المتصاعد من الدهن ويحاولون توزيعه قدر الامكان كي لا يصعد الى السطح ويشمه الحارس ، بعد قليل غلت المياه فتعقمت أدوات الجراحة .

في هذه الأثناء كان الطبيب قد غسل بطن المريض بالماء والصأبون ، ثم أحضر ملحاً رطباً فرك به نفس المكان ، غسل يديه جيداً وأصر على ارتداء الكمامة قبل إجراء العملية ، تغيرت نبرة صوته وبدأ باصدار الاوامر :

- ما في عنا مخدر ... لذلك بدك تتحمل الالم ولا تتحرك أبداً.

- تعالوا أنتم الأربعة ، أمسكوه بقوة، كل واحد من طرف.

أخرج الطبيب المشارط من علبة السردين وبدأ بتجريبها واحداً بعد الآخر ، اختار المشرط المصنوع من غطاء ساعتي ، جربه على ظفر إبهامه، وضع المشرط على بطن المريض، قال: "بسم الله الرحمن الرحيم"، وحز جرحاً بطول عشرة سنتيمترات تقريباً.

- آخ يا أمي .

صاح المريض ولكنه لم يتحرك .

انتهت العملية، كان الطبيب يعمل بسرعة فائقة، وبعد خياطة الجرح مسحه ونظفه، فتح عدة حبات من المضاد الحيوي وافرغ المسحوق فوق الجرح ، ثم قطعة قماش نظيفة وربطه جيداً . عدت الى فراشي فوجدت بنطال بيجاما وقطعتي قماش، فوقهما إبرة عظمية وخيطان، امسكت بهذه الاشياء نظرت حولي ولكن لم يكن هناك أحد يلحظني، مَن وَضَع َهذه الأغراض؟ البنطال عرفته كان لأحد الذين أعدموا اليوم ، لكن من وَضَعه على فراشي؟.

الآن وبعد مرور شهر على إجراء العملية فإن الرجل تعافى وأصبح يمشي بشكل طبيعي .


1 كانون الثاني

عند منتصف الليل سمعت أصواتاً في الساحة ، نظرت من الثقب ، الساحة مضاءة كالعادة ، كل ساحات وأسطح ومهاجع وسور السجن تبقى مضاءة ليلاً نهاراً، هناك في الساحة جمهرة كبيرة من الشرطة يُصْدرون ضجة كبيرة، ضحك.. صياح.. شتائم .. المساعد في وسط الساحة تحيط به مجموعة من الرقباء. وكانوا قد اقتربوا من مهجعنا. طلب من الشرطة فتح الباب وإخراج السجناء الى الساحة. وخرجنا .

خرجنا حفاة عراة ، حتى السروال الداخلي أمرونا ان نخلعه. "

الشرطة والرقباء والمساعد جميعاً يرتدون المعاطف العسكرية وقد لفوا رؤوسهم باللفحات الصوفية ، المساعد يتمشى جيئةً وذهاباً أمام الصف ، الشرطة يضبطون الاصطفاف : وقّف باستعداد ولا ... نزل راسك .. الريح شمالية قارسة، أعتقدُ أن درجة الحرارة تحت الصفر ببضع درجات .

بللونا بالمياه من الرأس وحتى أخمص القدمين، أمرونا ألا نتحرك، عناصر الشرطة يمشون حولنا وخلال صفوفنا وبأيديهم الكرابيج والعصي.

بدأ المساعد خطبة طويلة، ثلاثة أرباع الخطبة شتائم مقذعة ، وقد بدأها بتحميل السجناء مسؤولية بقائه بالسجن بينما العالم كله يحتفل ، ولولا أننا موجودون هنا حالياً لكان هو ايضاً يحتفل. أنهى خطبته وغادر الساحة دون أن يعطي أية تعليمات بشأننا .

صوت اصطكاك الأسنان مسموع بشكل واضح. الجميع يرتجف برداً.

صمت مطبق لا يخدشه إلا صوت خطوات الشرطة، حتى أيديهم التي يحملون بها الكرابيج دسوها في جيوبهم.

- الألم يتعمم ويتعمق، الأسنان تصطك، اللسان، الأنف، الأذنان، الكفان، القدمان، كل هذا ليس من الجسد. تتساقط الدموع برداً وبكاءً فتتجمد على الخدين وزوايا الفم المرتجف. يسقط أحدهم قبلي ، يقف جميع عناصر الشرطة عن الحركة لدى سقوطه، تخرج الأيدي من الجيوب ، وينطلق بضعة عناصر ، يجرون السجين الذي سقط الى أمام الصف حيث يتجمع الرقباء. تنهال الكرابيج على جميع أنحاء جسده المتخشب، يحاول الوقوف ولكن وقع الكرابيج يمنعه، يسقط آخر ... يُجَرّ الى حيث التدفئة (الضرب بالكرابيج)، وآخر... وآخر.

وسقطتُّ ... سقطت دون أن أفقد الوعي وجرّوني إلى أمام الصف.

لقد جربت وعاينت الكثير من صنوف الألم الجسدي... لكن أن تساط في البرد وأنت مبلل... أمر لا يمكن وصفه.

مع بزوغ ضوء الفجر وسقوط آخر شخص وتدفئته من قبل الشرطة انتهت الحفلة. دخلنا المهجع ركضاً على إيقاع الكرابيج، ركضنا بخفة ورشاقة وكنت أظن أنني لن أستطيع النهوض عن الأرض، لكن ما أن سمعت الأمر بالدخول ورأيت الكرابيج تهوي حتى قفزت، " لطالما تساءلت بيني وبين نفسي عن منبع هذه القوة!... المقاومة؟".

هذه المرة رأيت فرحاً حقيقياً على وجوه الناس بخلاصهم من مجهول كانوا يخشون وقوعه في دواخلهم كثيراً ، وخلف هذا الفرح تراكمت طبقة جديدة من حقد أسود تزداد سماكتها بازدياد الألم والذل .

5 حزيران

جاءت زيارة إلى أحد السجناء.

بعد ثلاثة أيام ألقى مدير السجن خطاباً ، تحدث فيه عن إنسانيته ورحمته وأن قلبه ينفطر ألماً عندما يرى أبناء وطنه في هذه الحالة !! وقال: كل من تأتيه زيارة منكم عليه أن يطلب من أهله إخبار كل من يعرفون من أهالي السجناء الاخرين لكي يسعوا إلى زيارته وبنفس الطريقة .

لكن ماهي الطريقة ؟... لم يعرف أحد ، ولم يجرؤ على السؤال أحد ، وكانت المرة الاولى التي يخاطبنا فيها وعيوننا مفتوحة.

اليوم أتت زيارة لشخص من مهجعنا ، أبو عبدالله.

طلب الشرطة منه أن يلبس ثياباً جيدة ، وتبارى الجميع لإلباسه أفضل ثياب في المهجع ، ذهب وعاد بعد أكثر من نصف ساعة لاهثاً مخضوضاً يتصبب عرقاً ، وقف يتلفت وينظر، ولكن يبدو كمن لا يرى أحداً، باب المهجع لا يزال مفتوحاً والبلديات يدخلون الأغراض بجاطات بلاستيك ، بعد أن أغلق الشرطة الباب قال شخص لآخر:

- ماشاء الله ... ما شاء الله ، خمسة وثمانون جاطاً !!.

أبو عبدالله يتلقى التهاني من الجميع وهو لازال واقفاً كالمأخوذ :

قطع أبو عبدالله سلسلة " المبروك " والتفت فجأة الى أبو حسين ، قال :

- كيلو ذهب ياأبو حسين !! ... الله وكيلك كيلو ذهب. كل زيارة بكيلو ذهب.

سألت أهلي قالوا لي، لازم أمك تروح لعند أم مدير السجن تأخذ معها كيلو ذهب ، وأم مدير السجن تعطي ورقة زيارة !!.

البلديات كانوا ينقلون الجاطات حتى باب المهجع ، يخرج الفدائيون ويأخذون الجاطات منهم ... دون أي ضرب !... يفرغونها داخل المهجع ويسلمونها للبلديات ... الكثير من الألبسة ، خاصة الملابس الداخلية الصيفية والشتوية ، كأن هناك من أسرّ بآذان الأهل عن حاجاتنا ، والكثير ... الكثير من الخضار والفواكه التي يمكن أن تؤكل نيئة .

ما أسكرني ... كان الخيار بلونه الأخضر ، انسابت روائحه وعطوره الى أنفي ، ثلاثة جاطات من الخيار مشكّلة تلاً صغيراً أخضرَ، الى جانبه تل صغير أحمر من البندورة، رائحة الخيار ملأت المهجع، الجميع كان فرحاً.

بقيت عدة ساعات تحت البطانية ، لا أريد أن أرى احداً ، لا اريد ان ارى شيئاً ، البكاء أراحني قليلاً ... استيقظت عصراً، كان أمام فراشي مجموعة متنوعة من الأغراض ... " نصف خيارة ، نصف حبة بندورة ، رغيف خبز، قطعة بقلاوة، بعض أنصاف حبات الفاكهة، بيجاما رياضية، غيار داخلي شتوي، غيار داخلي صيفي، جوارب صوفية ... ثم شحاطة !".

طوال كل هذه السنوات ومنذ أن أخذوا حذائي بمركز المخابرات لم أنتعل بقدمي شيئاً، وقد تشكلت على كامل قدمي من الاسفل طبقة سميكة من اللحم الميت المتقرن المتشقق ... والآن ها هي شحاطة!. نظرت حولي ، واضح أن حصتي مساوية لحصة أي سجين آخر منهم ، لا أكثر ولا أقل .


8 اذار

كالعادة أخرجونا اليوم الى الساحة ، أوقفونا أمام مهجعنا ، وهكذا بقية المهاجع ، إذاعة السجن تصدح منذ الصباح بالأغاني التي تمجد رئيس الدولة وتتغنى بحكمته وشجاعته وبطولاته ، أعطوا ورقة مكتوبة الى أحد السجناء بها بعض الشعارات والهتافات يصرخ بها ونردد نحن وراءه : سنفدي الرئيس بالروح والدم ، يسقط الإخوان المسلمون عملاء الامبريالية ...

لم يكن السجناء يرون أي غضاضة بالهتاف ضد أنفسهم، أو على الاقل لم تبدر منهم أية اشارة أو ممانعة تدل على ذلك، كانوا يهتفون بأصوات عالية جداً.

هذه الاحتفالات تجري كل عام مرتين أو ثلاث مرات، واحتفالات هذا العام تختلف عن غيرها في أن السجناء اليوم كانوا لا ينفكّون يحكّون ويهرِشون أجسادهم: إنه الجرب. بين تصفيق وتصفيق، بين هتاف وآخر ، يمد السجين يده ليحك جسده.

بدأ الجرب منذ خمسة أشهر تقريباً، وكنت قد نجوت من التهاب السحايا ومن السل إلا أنني كنت من أوائل المصابين بالجرب، الذي سرعان ما عم وانتشر ليشمل السجن كله ، والغريب في الامر أن الاختلاط بين المهاجع ممنوع منعاً باتاً ، فكيف يمكن أن ينتشر وباءٌ ما يبدأ في أحد المهاجع ليعم السجن كله !!.

منذ اليوم الاول حدد الدكتور غسان الامر، وهو زميل البورد الامريكي للامراض الجلدية، له مؤلفات كثيرة ويعتبر عالماً في اختصاصه على المستوى العالمي، شخص محترم هنا كثيراً، لا يتدخل في أي مسألة لا تعنيه، وهو المرجع الأخير في الطب لكل الاطباء الذين في المهجع .

فحص الحالات الاولى للمرض، قام بهدوء من مكانه واتجه لعند أبي حسين:

- هذا الجرب سريع العدوى ، خلال أيام راح نكون كلنا جربانين إذا ما عالجناه ، والعلاج بسيط... خذ اجراءاتك ... بس أنا خليني بعيد عن هـ الساقط طبيب السجن! ماني طايق أحكي معه ولا كلمة.

فيما هو يغادر التفت نحوي ، سار خطوتين ثم توقف ، اتجه نحوي ، جلس على فراشي وهو يقول :

- السلام عليكم ... يا أخي. ممكن ... تمد ايديك حتى افحصهم .

بحركة آلية مددت كفيّ الى الامام، أمسك بهما، باعد بين الاصابع ثم التفت الى أبي حسين وقال: شايف، وهاي الاخ جارك كمان مصاب! ثم التفت اليّ :

- يا أخي حاول ألاّ تحُكّ ... مهما حكك جسمك حاول لا تحك ، وحتى يفرجها الله ويتأمن الدواء حاول انك تغسل ايديك دائماً بالماء والصابون ، وارجو لك من الله الشفاء ، ولا تخاف هذا المرض مزعج بس مانو خطير .

مرت الايام ، ثم الأسابيع ، وأبو حسين يحاول مع ادارة السجن وطبيب السجن ان يؤمنوا لنا العلاج ولكن دون جدوى ، وآخر مرة قدم فيها الطبيب قام بزجر أبو حسين وتهديده :

- العمى بعيونك... صرعتنا ، ايه هو جرب!... شوية حكة وينتهي الامر. وذهب .

كانت قد مرت أربعة اشهر على بداية المرض ، وظل أبو حسين يحاول .

تطور مرض الجرب كثيراً ، سمعت حديثاً للدكتور غسان مع مجموعة من الاطباء بحضور أبي حسين وكان حديثه موجهاً للاطباء ، وبعد أن عدد أنواع الجرب خلص الى نتيجة أنه لا يوجد عبر تاريخ الطب أنْ سُجِّلتْ حالات كالحالات التي يرونها هنا ، وذكر أن اقسى انواع الجرب هو ان يكون لدى المريض حوالي / 300/ بثرة ، بينما هنا سجل حالات احتوت على اكثر من /3000/ بثرة تغطي كامل الجسم ، وأن هذا هو احد الاسباب التي ادت الى حدوث وفيات بالجرب. وتمنى لو أن هناك امكانية لحضور احد معاهد البحث الطبي المتطورة لمراقبة ومعاينة هذه الحالات الشاذة .

منذ خمسة أيام وفي الصباح كان أبو حسين مستغرقاً بالتفكير ، فجأة انتفض وذهب الى الدكتور غسان ، تحدث معه قليلاً والدكتور يهز برأسه ، بعدها جال أبو حسين في المهجع كله وهو يردد :

- شباب ... كل شخص أتته زيارة مدعو للاجتماع عندي ، كل أربعة ... خمسة يجوا سوا .

كان هناك حوالي ثلاثين شخصاً من مهجعنا قد أتتهم زيارات، ولمعرفة الاهل أن هذه الزيارة قد تكون استثنائية ويتيمة فانهم كانوا يحاولون تزويد سجينهم بما قد يحتاجه ولزمن مستقبلي طويل ، خاصة لجهة الألبسة والنقود، ولهذا فان أقل مبلغ أعطي لسجين كان مئتي ألف ليرة، ولذلك أصبح في مهجعنا ملايين الليرات ولا مجال لشراء أي شيء، وقد استمرت الزيارات حوالي الستة أشهر،" كان بعض الحفظة يُحْصُون ويحفظون عدد الزيارات لكي يعرفوا كم كيلو ذهب أصبح لدى مدير السجن، وفي الإحصاء الاخير بعد توقف الزيارات كان العدد قد وصل إلى ستمائة وخمسة وستين كيلو ذهباً".

أتت أول مجموعة من خمسة أشخاص لعند أبي حسين.

- بدنا منكم يا شباب .. تبرعات في سبيل الله.

سكت الخمسة قليلا ، ثم قال أحدهم :

- يا أبا حسين ... أرواحنا وأموالنا في سبيل الله، بس أشرح، قول أوّلاً شو بدك تعمل بالأموال ، المبلغ المطلوب ... مو لازم نعرف ؟!.

- طبعا لازم تعرفوا ... بدي اشتري طبيب ... دكتور. نعم دكتور ... بدي أشتري طبيب السجن [يونس العلي] ..! ما في غير هذا الطريق ... وبسلامة فهمكم، بهذه الدولة، من فوق لتحت، كل واحد له سعر، وما بظن أن هذا الدكتور غير شكل.

وافقه الجميع وتتالت الاجتماعات وأصبح بحوزة أبي حسين مبلغٌ محترم، عندها طلب من الرقيب عندما فتح الباب مجيء الطبيب لأمر هام!.

كان الطبيب حانقا عندما فتح الباب ، وصاح بوجه أبي حسين :

- اذا كنت طالبني منشان الجرب ... بدي كسّر عظامك يا كلب ، صار ألف مرة قلت لك ما عندنا دواء جرب.

- يا سيدي متل ما بتعرف نحن بالفترة الماضية اجتنا زيارات وصار في عندنا مصاري كتير ... ومثل ما أنت شايف ... نحن هون المصاري ما تلزمنا لأنه ممنوع نشتري أي شيء .

كان هذا هو الطعم الذي ألقاه أبو حسين للطبيب ، وبدأ الطبيب بالتقاط الطعم فالتفت الى الشرطة الذين كانوا يحيطون به وأمرهم بالابتعاد ، قال :

- ايه طيب ... وأنا شو علاقتي؟!.

- يا سيدي ... اخدمنا هالخدمة لوجه الله ... انت رجل كلك انسانية ، وساعدتنا كثير لوجه الله ... هذه المرة كمان ساعدنا... اشتري لنا الدواء على حسابنا... حتى لو كان من السوق السودا... وتحولت لهجة الطبيب فورا من الحنق والغضب الى اللين الثعلبي :

- لكن ... انت تعرف أن هذا الدوا غالي كتير ؟

- معليش يا سيدي ... مهما كان غالي الثمن ، بس يكون كافي لكل هـ الناس ، لأن الكل جربانين . - طيب ... تعال لهون شوي .

أخرج الطبيب أبا حسين الى خارج المهجع ، تكلما بصوت خافت ، وتمت الصفقة .

بعد يومين أتى الدواء بالصناديق الكرتونية، ومنذ ثلاثة أيام وجميع الناس سواء كانوا مصابين أم لا، وأنا منهم، بدأوا العلاج بـ البنزوات " بناء على تعليمات الدكتور غسان المشددة ، وتحت رقابته الصارمة " .

خلال هذه الفترة القصيرة بدأت تظهر النتائج الايجابية .

تم إبلاغ المهاجع الأخرى ، والجميع أتم الصفقة مع الطبيب الذي أصبح مليونيرا، وعلق أحد الأشخاص : - اذا سألوا طبيب السجن شي مرة ، كيف صرت مليونير ، لازم يقول : الجرب حولني من شخص جربان الى مليونير.

23 تموز

منذ أكثر من سنة وخلال تنفس أحد المهاجع ، كان أحد الرقباء واقفا في ظل الحائط ، مرت فأرة من أمامه فهََرَسَها ببوطه العسكري، مُعِسَت الفأرة وماتت، أخرج الرقيب من جيبه منديلا ورقيا وأمسكها بواسطة المنديل من ذيلها ، اقترب من صفوف المساجين التي تدور حول الساحة، أمسك بأحد السجناء لا على التعيين وأجبره على ابتلاع الفأرة ، ابتلع السجين الفأرة .

منذ ذلك اليوم صرف الرقباء وعناصر الشرطة جزءا مهما من وقتهم لاصطياد الفئران والصراصير والسحالي وإجبار السجناء على ابتلاعها، كلهم قاموا بهذا العمل ولكن ابتكاره " إبداعه " عائد لأول رقيب قام بهذا العمل.

نظرت عبر الثقب ، كانت ثماني جثث متدلية عن الحبال ، والعديد من الجثث على الأرض ، هذه الجثث الثماني يبدو انها آخر وجبة، الوحش "عنصر البلديات" يقف أمام الجثة الثانية من اليسار وهي جثة رجل بدين، يمسك الوحش بيده عصا غليظة ينهال بها ضربا على الجثة، الشرطة يراقبونه ضاحكين ، ومع كل ضربة عصا على الجثة يصرخ بصوت عال :

- عاش الرئيس المفدى .. بالروح بالدم نفديك يا رئيس ... " وضربة بالعصا على الجثة " ... ولك يا كلب بتشتغل ضد الرئيس .. وضربة بالعصا ... لك يا ... رئيسنا أحسن رئيس ... ضربة بالعصا.. الرئيس قبل الله نعبده ... ضربة بالعصا ... ويختل الايقاع .. ضربات عديدة بالعصا "

أتساءل: هل انتهت ذخيرة الوحش الكلامية التي كان قد حفظها لكثرة تردادها في الراديو والتلفزيون وفي الشوارع اثناء المسيرات التي تنظمها الدولة ؟! يتوقف قليلا عن الضرب ، ثم ضربة قوية على الرأس أسمع من خلالها رنين العظام ... ولك يا كلب ... ولك الرئيس أقوى واحد بالدنيا ... ضربة ... يتوقف الوحش قليلا وهو يلهث، بعدها وبحركات هستيرية يضع احد طرفيّ العصا بين اليتي الجثة ويدفع بها الى الأمام ، تتحرك الجثة كلها الى الامام ، يستمر الوحش بالضغط ، الجثة دائمة التأرجح ، الشرطة يضحكون ... يتقدم الرقيب وهو يقهقه ، يمسك الجثة من الأمام ويثبتها جيدا للوحش ، وفي لحظة يفلت رأس الجثة من الحبل "يبدو المشهد من بعيد وكأن الجثة حركت رأسها بحركة بارعة لتتخلص من الحبل" ، تسقط الجثة على وجهها أرضا ، تفلت العصا من يد الوحش وتظل مغروزة منتصبة بين اليتي الجثة ، يقفز الوحش عالياً ويصيح بشعار طالما سمعه يردد كثيرا في الراديو والتلفزيون: - يسقط الاستعمار ... تسقط الامبريالية .

يرد عليه الرقيب الأعوج :

- تسقط ... تسقط .. تسقط .

- يعيش الرئيس المفدى .

- يعيش ... يعيش ... يعيش .


20 كانون أول

تنشأ في السجن مهاجع جديدة. يدخلها الناس سويةً أو على دفعات. بضعة أيام ويكتمل نصاب المهجع. عشرات، مائة.. مئتان... ثلاث أو يزيد!. الوجوه متشابهة. لا يعرف أحدٌ أحداً. يبدأ التعارف بعد دقائق.. ويستمر سنوات.

مع التعارف يبدأ الفرز. يبدأ الالتفاف والتلاقي. في البداية تنشأ التجمعات على الأرضية السياسية التنظيمية والتي كانت سبباً في دخولهم السجن، أبناء التنظيم الواحد، يلتقون .. سواءً كانوا يعرفون بعضهم سابقاً أم لا .. يتعارفون، يشكلون مجموعة واحدة، وحياة اجتماعية مشتركة، لهم اجتماعاتهم وأسرارهم، يتكئ بعضهم على بعض، الروح الجماعية تشكل لهم وهماً بالقوة .. وبالتالي الحماية، أن تكون محمياً بالجماعة يعطي الشعور بالأمان.

تبدأ الحالة شديدة متوترة، تصل إلى حد التعصب وعداوة الآخرين، مع الأيام .. تبدأ بالتراخي، خاصة إذا كان المهجع كله ذا لون تنظيمي واحد.

تأتي دروس عديدة، قد تكون صائبة وقد تكون خاطئة. وفي النص الذي يحتوي على كيفية التعامل مع التنظيمات المعادية .. هناك درس يبقى صائباً على الدوام: "إذا أردت لأفراد تنظيم ما أن يأكلوا بعضهم بعضاً .. اسجنهم سويةً".

الإحباط، التباعد، النفور، الكراهية، النيل من هيبة القيادات .. وتبدأ الوشائج التنظيمية بالتراخي والتفكك، ومعها يبدأ التطلع إلى المحيط خارج إطار التنظيم الواحد.

تمر الأيام. تنشأ علاقات جديدة على أرضية جديدة : "الجغرافية". أبناء المنطقة الواحدة. يستعيدون فيما بينهم الذكريات. يتذكرون الأماكن الأليفة بحنين بالغ، يتذكرون بعض الأحداث العامة و المشهورة، ويوماً بعد يوم تكبر التقاطعات، وتكبر معرفتهم بعضهم ببعض.

مع ازدياد المعرفة، وبأسئلة بريئة في الظاهر يُنبش ما كان محسوباً أنه من المنسيات. فلكل شخص أو عائلة أو عشيرة إيجابياتها .. ولها كذلك ما تخجل منه وتحاول نسيانه .. أو جعل الآخرين ينسونه . لكنه السجن و له قوانينه الخاصة... البسيطة... الصريحة... الوقحة !

تمر الأيام، الأسابيع، الشهور، السنوات!.

تنشأ علاقات جديدة على أرضية جديدة. الميول، الهوايات، المهن، المهتمين بالأدب، الفنانين، المعلمين، الأطباء .....

أسرة من أب وثلاثة أولاد.الأولاد جميعاً منظمون، استطاعوا التواري عن الأنظار. وعند مداهمة رجال الأمن بيتهم لم يجدوا إلا والدهم (عمره 65 سنة) فاعتقلوه رهينة ليدلهم على أبنائه الذين لا يعرف أين هم. بقي الأب معتقلاً في فروع المخابرات بضعة أشهر، ثم حولوه إلى سجن تدمر، ثم تم اعتقال الأولاد لكن لم يفرج عن الأب. وبعد مضي سبع سنوات (صار عمر الأب فوق السبعين) عقدوا جلسة محكمة، وخلال بضع دقائق تم الحكم على الأولاد الثلاثة بالإعدام، وتم تنفيذ الإعدام كالعادة، وكاد الأب أن يجن!. بل إن الحادثة أثّرت على جاري نسيم [طبيب خريج فرنسا - قليل التمسك بالدين - متأثر بالثقافة الغربية].

وذات صباح , فتح عناصر الشرطة باب المهجع , قبل أن يتموا فتحه قفز نسيم كنابض مضغوط تم إفلاته , بأقل من ثانية أصبح خارج المهجع بعد أن رفس الباب بقدمه مكملاً فتحه!.

فوجىء عناصر الشرطة, ولم يتخلصوا من وقع المفاجأة حتى فاجأهم ثانية بالهجوم عليهم..

الباب مفتوح ونحن نراقب ما يحدث بالساحة , كان نسيم يتحرك ويصرخ صراخاً وحشياً كجمل هائج, عناصر الشرطة والبلديات أقل من عشرة .. وذُهِلتُ .. ما هذه القوة الهرقلية التي أظهرها نسيم ؟.. أين تعلم هذه الحركات القتالية ؟!.. يهاجم أحدهم , يقفز أمامه عالياً ثم يهوي بسيف كفه على رقبته أو على أنفه فيلقيه أرضاً !!.. عنصران من الشرطة وواحد من البلديات ألقاهم أرضاً خلال أقل من دقيقة !! بعضهم ابتعدوا مسرعين .. فروا .. وبعضهم هجم على نسيم للإمساك به, علا الصياح في الساحة, أطل الحراس الموجودون على الأسطحة, سرعان ما وجهوا بنادقهم تجاه نسيم.. وهبط قلبي بين قدمي.. هل سيطلقون النار عليه؟.. لكنه ملتحم مع الشرطة .

أحد الرقباء هجم عليه من الخلف وأمسكه من رقبته, تشجع باقي العناصر فهجموا عليه, لكن نسيم أخذ يدور حول نفسه بسرعة والرقيب معلق برقبته من الخلف, دار عدة دورات تزداد سرعتها مع كل دورة .. ارتفعت قدما الرقيب عن الأرض وأخذ يدور مع دوران جسم نسيم , توقف نسيم فجأة وجذب الرقيب فألقاه أرضاً !! .

فُتح باب الساحة الحديدية وأخذ عناصر الشرطة يتدفقون, العشرات منهم أحاطوا بنسيم لدرجة أننا لم نعد نستطيع أن نراه, مع هدوء حركتهم تأكدنا أنهم قد تمكنوا منه.

حضر مدير السجن يحيط به المساعد وعدد من الرقباء والشرطة.

باب مهجعنا ما زال مفتوحاً, نراقب ما يحدث دون أن نلتفت برؤوسنا, طلب مدير السجن إحضار نسيم أمامه , انفض جمع الشرطة من حول نسيم وأوقفه على قدميه عنصران, وفجاة انتفض وأفلت نفسه من قبضتيهما وهو يصرخ بكلام غير مفهوم متقدماً اتجاه مدير السجن, وهجمت عليه مجموعة من الشرطة أحاطوا به جيداً وثبتوه.

أحد الرقباء أشار إلى مدير السجن اتجاه مهجعنا فتقدم المدير من الباب معه المساعد وبعض الرقباء , طلب أبو حسين وتكلم معه , طلب طبيباً من المهجع وسأله , تشاور قليلاً مع طبيب السجن , عاد وطلب طبيب المهجع سائلاً إياه عن الدواء الذي يريده, ثم ذهب بعد أن أمر بإعادة نسيم إلى المهجع دون إزعاج

كان تصرف مدير السجن أقرب إلى التفهم و الود، هذا الأمر المستغرب .. أطلق تكهنات وتحليلات وتأويلات لم تنته. بعد إغلاق الباب بقي نسيم لمدة ساعتين تقريباً يمشي مشياً سريعاً وسط المهجع جيئةً وذهاباً. يقف. يعاود المشي السريع بعدها .. لم يكن ينظر إلى أي شخص ولا إلى أي مكان!

بعد هاتين الساعتين نودي على رئيس المهجع, بحذر شديد أعطى الرقيب ثلاث علب دواء لأبي حسين قائلاً: - هدول .. دواء المجنون !.

كان نسيم لحظتها قبالة الباب تماماً , انتفض وانطلق كالسهم اتجاه الباب , شاهده الرقيب في انطلاقته فتراجع إلى الوراء عفوياً رغم الباب المغلق .. وصل نسيم إلى الباب .. أخرج يده من الطلاقة يحاول الامساك بالرقيب وهو يصرخ :

- المجنون ؟!.. انت المجنون ولك كلب !...

لأول مرة منذ ما يقارب الاثني عشر عاماً أرى الشرطة خائفين , فروا من أمام نسيم في الساحة , رأيتهم مذعورين !, لأول مرة أراهم يتلقون الشتائم ولا يطلقونها !.. يتلقونها ولا يردُّون.

رفض نسيم تناول الدواء من الطبيب , وتشاور هذا مع أبي حسين بعد أن شرح له أن أي مريض بهذه الحالة يرفض تناول الدواء ويجب إجباره على ابتلاع الحبوب , وطلب منه الاستعانة بمجموعة "البراعم" [أي العمالقة والأقوياء] لإعطائه الدواء بالقوة , فالمريض في حالات كهذه يمتلك قوة هائلة غير طبيعية ويحتاج إلى أربعة أو خمسة أشخاص حتى يستطيعوا إمساكه وإجباره على ابتلاع الحبوب!.

قبل الظهر تناول الدواء , نام على إثرها نوماً عميقاً...

نام بعدها إلى الصباح وعندما استيقظ تصرف تصرفاً طبيعياً كما لو أنه لم يمر بأية مشكلة أو ماشابه. أوكل لي الطبيب بصفتي صديقه وجاره أمر إعطائه الدواء بانتظام , مشدداً على أنه يجب أن لا أنسى أبداً مواعيده, لأن أي انقطاع سيؤدي حتماً إلى عودة حالة الهياج!.

بقيت علاقتنا الثنائية بنفس الحميمية, استأنفنا حياتنا اليومية المشتركة كالسابق, ومرت الأيام لكنه لم يتطرق بحديثه ولا مرة إلى ما حدث, حتى موضوع إعدام الإخوة الثلاثة لم يعد إلى ذكره أبداً .


25 أيلول

بعد ستة أشهر أو سبعة سأتم عامي الثاني عشر في السجن، لقد عدت إلى عد الأيام والشهور وهذا في عرف السجناء دلالة سوء، لكن ألا يحق لي أن أتساءل إلى متى؟.

البعض هنا سبقوني بسنوات.. وما زالوا! اذا كان الأطفال الذين حكمتهم المحكمة الميدانية بالبراءة .. ما زالوا يقيمون في "مهجع البراءة"، فهل يأمل شخص مثلي.. منسيّ أن يخرج من هذا الجحيم ؟ هل الطريق إلى هذا السجن ذو اتجاه واحد فقط ؟ هل العبارة التي يكررها السجناء يوميا بأن "الداخل مفقود والخارج مولود" صحيحة ؟ لم أر أي شخص دخل هذا السجن يخرج منه!.

العجاج ، أو كما يسميه البعض " الطوز ".. يثور هنا في هذه الصحراء مرتين أو ثلاث مرات كل عام، تثور العواصف الرملية فتملأ الأجواء بالغبار ويستمر ذلك يوماً أو يومين أو ثلاثة، سواء استمر هبوب الريح أم توقف فإن الغبار يبقى معلقا في الهواء، نتنفس الغبار، الأنف.. الفم. العينان.. تمتليء كلها بالغبار، ننام والغبار ما زال معلقا. نستيقظ فنجد أن كل فتحات الانسان الموجودة في الرأس قد امتلأت بالتراب المسحوق الناعم، مياهنا غبار .. طعامنا غبار .

منذ صباح أول البارحة ابتدأ هبوب الرياح. أصبحت الرياح زوابع، هذه الزوابع قَذَفَت من الشراقة التي في السقف مزقاً من أكياس بلاستيكية والكثير من القش والعيدان.. شتى النباتات الصحراوية اليابسة.

كل من لديه قطعة ثياب زائدة حاول لف رأسه بها ، الكثير من الأشخاص لم يعد يظهر من وجوههم سوى العينين .

فجأة قذفت الريح على القضبان الحديدية للشراقة صفحة كاملة من جريدة .. علقت هذه الصفحة بين القضبان !.

أنظار جميع من في المهجع تعلقت بهذه الجريدة، تهزها الريح ويسمع الجميع صوت خشخشتها. شوق حقيقي لرؤية الأحرف المتلاصقة ، الكلمات المطبوعة!.

سمعت البعض يدعون ويبتهلون إلى الله أن يسقط الجريدة داخل المهجع وألا يجعلها تطير بعيدا !.

في الأجواء الطبيعية كنا نرى الحارس كل بضع دقائق، الآن لا أثر للحارس، يبدو أنه يلوذ بأحد زوايا السطح متقيا الرياح والغبار.

هذه جريدة ، وفي الجريدة أخبار ، ونحن منذ أكثر سنتين، تاريخ قدوم آخر نزيل إلى المهجع ، لم نسمع شيئا عما يدور خارج هذه الجدران الأربعة.

الكثير من الناس وقف منتصبا ، أزاحوا عن وجوههم الأقمشة التي تلثموا بها ، من لم يقف اعتدل في جلسته، بعض من وقف مشى بشكل عفوي إلى تحت الشراقة ، الأنظار تتابع تراقص الجريدة بين القضبان!. واحد من الواقفين تحت الشراقة ، وهو من الفرقة الفدائية ، نظر إلى الناس وقال بصوت مسموع للجميع :

- يا شباب .. هَرَم ؟.

على أثر سؤاله هذا قفز العديد وهم يقولون :

- هرم .. هرم .. هرم ! .

لم تستغرق عملية بناء الهرم البشريوإنزال الجريدة أكثر من عشر ثوان تقريبا. كان من الممكن أن تكلف العديد حياتهم ، لكنها مرت بسلام. وأصبح لدينا جريدة!.

خاطب أبو حسين الفدائي الذي أنزل الجريدة وبلهجة سريعة:

- بسرعة .. بسرعة .. عـ المراحيض، اطويها، خلي واحد يقرأها ويحكينا شو فيها أخبار . وركض الفدائي إلى المرحاض حاملا الجريدة.

الفرحة عمت الجميع , فرحة حقيقية , الكثير تصافحوا وتعانقوا مهنئين بعضهم بعض.. إنه انتصار آخر !. التفتَ نسيم إلي بعد أن عانقني .. قال :

- أنت تعرف أن أول كلمة نزلت من القرآن الكريم هي كلمة " اقرأ " ؟ .

- أعرف .... و أنت تعرف أن الإنجيل يبدأ بـــ " في البدء كانت الكلمة " ؟.

- أعرف .. بس يا مخرج السينما شو يقول لك هذا الحدث ؟

- الحدث بيقول : إن الإنسان مستعد أن يضحي بحياته في سبيل المعرفة .

محتويات الجريدة جاءت مخيبة للآمال قليلاً , الوجه الأول من الصفحة هو صفحة الإعلانات الرسمية , والوجه الثاني هو الصفحة الرياضية و بها أخبار الدوري العام لكرة القدم !. وهذه الصفحة أثارت زوبعة من النقاشات لم تنته. حتى الإعلانات الرسمية أخذ الناس يقرؤونها بعناية شديدة .. النهم إلى القراءة !

الريح هدأت تماماً اليوم , لكن الغبار لازال معلقاً بالجو , حتى داخل المهجع الغبار يملأ كل الفراغات .

في الصباح أعاد الشرطة للمهجع شخصاً كان قد عوقب منذ شهر , ضبطوه في ساحة التنفس وعيونه مفتوحة , بعد أن جلدوه ونكلوا به أمامنا فيما نحن ندور حول الساحة , أمر المساعد بوضعه بالزنزانة الإنفرادية في الساحة الخامسة .

بعد أن دخل واطمأن إلى أن الشرطة أغلقوا الباب وذهبوا تَنفّسَ الصُّعداء, أخذ يضحك, جلس على الأرض.. وروى للجميع رحلة الشهر التي قضاها في الساحة الخامسة , بدأ حديثه بالقول :

- و الله يا شباب اشتقت لكم ... وقت دخلت المهجع حسيت إني راجع على بيتي .. يا اللــه .. قديش المهجع حلو !.. يا شباب جنة .. جنة .. نحن عايشين هون بالجنة ...

طَفِقَ يروي .. ويحكي يروي .. ويحكي !.

المرحاض داخل الزنزانة الانفرادية، وحتى يأمن أذى الجرذان اضطر أن يسد فتحة المرحاض بالخبز بعد أن عجنه وجعل منه سدادة , أقسم أن هناك جرذاناً بحجم الخروف الصغير!

ثلاث مرات في اليوم حفلة تعذيب أشبه ما تكون بالاستقبال في أول قدوم السجين إلى السجن .

يوضع الطعام في صحن قذر على بعد عشرة أمتار من باب الزنزانة , يفتحون الباب ... يجب أن يخرج السجين سائراً على أربعٍ كما تسير الكلاب .. وأن يظل ينبح في الذهاب , وفي الإياب بعد أن يحمل الصحن.. خلال كل هذا تكون الكرابيج قد أكلت قطعاً من لحم ظهره !!.

النوم على الاسمنت .. لا بطانيات ولا أغطية ولا أي شيء .

الغبار لا زال معلقاً. رموش الناس أصبحت بيضاء , الشرطة متوترون لكن الرقابة ضعفت من الأعلى "الشراقة".

لدينا في المهجع أربعة من البدو أميون لا يعرفون القراءة أو الكتابة , مهنتهم رعي الأغنام والجمال, عاشوا طوال حياتهم في هذه الصحراء يتنقلون في أرجائها, قبض عليهم وجيء بهم إلى السجن الصحراوي بتهمة مساعدة بعض المطلوبين على الفرار إلى دولة مجاورة, وعندما يُسألون هنا عن ذلك يجيب كبيرهم المدعو " شنيور":

- والله يا أخوي .. تهمة باطلة .. " أتوا " جماعة علينا .. وعلى عادة العرب .. رحبنا بهم , ضيفناهم, بعدين سألونا عــ الدرب.. دليناهم, هاي فيها شيء يا خوي؟! وبعدين يقولون لنا.. انتو عملاء.. و انتو جواسيس! عجيبة والله يا خوي!.

اليوم بعد أن سرد شنيور هذه القصة للمرة الألف تشعب الحديث كثيراً وكان كله منصباً على البدو وحياة البدو.

قال شنيور ما معناه :

- إن للكرم البدوي أسباباً عديدة , وإن أهم الاسباب هي أن البدوي يحب ضيفه .. يعشقه !.. وهذا بسبب أن البدوي يبقى شهوراً يعيش في هذه البراري بين الكثبان الرملية في وحدة مطلقة, زوجته وأولاده يعتبرهم أقل شأناً من أن يجري حديثاً معهم. لذلك نراه يحادث أغنامه أو جماله!.. يكون في المرعى لا يسمعه أحد, ولأنه يحب أغنامه فإنه يجرى حديثاً معها, ويكون هذا دليلاً إلى أن حاجته إلى المؤانسة.. قد بلغت مداها الأقصى, في هذا الوقت إذا حضر الضيف فسيجد حتماً شخصاً متلهفاً يغدق عليه الكثير الكثير من آيات الترحيب والمحبة, يقدم له أفضل ما عنده من كل شيء. وهذا من حيث لا يدري مكافأة له على مجيئه, وإغراءً له للبقاء أطول مدة ممكنة.


17أيار

بعد منتصف الليل , نسيم نائم إلى جانبي , الدواء الذي يتناوله يجعله ينام بعمق , لم أكن قد نِمْتُ بعد .

سمعت حركة في الساحة , جلست, نويت أن أنظر من الثقب لأرى ما يفعلون, قبل أن أمد يدي لفتح الثقب سمعت أحد الشرطة يصرخ بصوت عالٍ.. لم أفهم ماذا يقول, عاد لتكرار صراخه, إنه يقول اسماً ثلاثياً, أنصتُّ أكثر .. يصرخ:

- يا مهاجع الساحة السادسة .. مين عنده هذا الاسم ؟.

وقال الاسم الثلاثي مرة ثالثة .

لأجزاء من الثانية كنت أتساءل من هو صاحب هذا الاسم ؟.. وَقْعُهُ ليس غريباً علي .. كأنني سمعت هذا الاسم يوماً ما !! .. إنه اسمي .

صاح أبو حسين وكان مستيقظاً :

- يا شباب .. في حدا عندنا بهـ الاسم ؟.

رفعت سبابتي عالياً كما يفعل التلاميذ الصغار, رفعتها في وجه أبي حسين دون أن أنطق حرفاً.

وبسرعة رمى أبو حسين جسده الثقيل اتجاه الباب , بدأ يدقه بسرعة وقوة وهو يصرخ :

- هون يا سيدي .. هون .. هذا الاسم في المهجع الجديد رقم /8/ .

بعد دقيقة أو أكثر فتح الباب , وقف الرقيب ومعه شرطيان , توجه إلى أبي حسين سائلاً :

- هذا الاسم عندك .. يا رئيس المهجع ؟

- نعم سيدي .. هذا هو .

و أشار باصبعه اتجاهي , اقترب الرقيب مني , نظر بعيني غاضباً. رفع يده عالياً وبكل قوته هوى بباطن يده على خدي الأيمن, دار جسدي كله ربع دورة, بسرعة البرق ألحقها بلطمة على خدي الأيسر بقفا يده أعادتني إلى الوضع الطبيعي, عادت النجوم لتتراقص أمام عينيّ, قال غاضباً:

- يا جحش .... يا ابن الكلب .... صار لنا ساعتين ندور عليك ونصرخ .. ليش ما عم تجاوب؟ مد يده , وبقوة سحبني من صدري ليقذف بي خارج المهجع, وأغلق الباب.

ضرباً .. ركضاً , الرقيب وعنصرا الشرطة من الخلف, يسوقوني أمامهم, أصبحت أمام السجن, حانت مني التفاتة صغيرة, لازالت المنحوتة الحجرية في مكانها : "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب" منذ أكثر من اثنتي عشرة عاماً قرأت هذه المنحوتة، ودخلت. الآن اقرأ هذه المنحوته وأخرج , إلى أين ؟ .. لست أدري !!.

ثلاثة رجال في اللباس المدني تقدموا مني , أحدهم طويل جداً, تقدم مني وفتح ورقة كانت مطوية في يده وسأل :

- أنت فلان ؟

- نعم .

التفت إلى رفيقيه , قال :

- هات الكلبشة .

مددت يديَّ إلى الأمام, ألبسهما الكلبشة, طقطقة ناعمة , أصبحت يداي مقيدتين إلى الأمام , ثم وقّع بعض الأوراق وسحبني.

سيارة تكسي "بيجو"، السائق يجلس خلف المقود , جلس الطويل إلى جانبه , جلست بين الاثنين الآخرين في المقعد الخلفي , انطلقت السيارة في عتمة الليل , أنوارها تشق الظلام شقاً .

لم يتكلموا بشيء , تعاملوا وكأني غير موجود معهم، بعد قليل من انطلاقة السيارة سأل الطويل عن الساعة فأجأبوه: إنها الثانية والنصف بعد منتصف الليل.

بعد ساعة نام الجميع عداي والسائق الذي ينظر إليَّ بمرآة السيارة على فترات متباعدة, أغمضت عيوني لأوهمه أنني نائم , وتساءلت:

- يا هل ترى .. إلى أين ؟... مهما كان المكان الذي سيأخذوني إليه فإنه حتماً سيكون أفضل . ارتحت قليلاً، فكرت بنسيم .. ماذا سيقول , وماذا سيفعل عندما يستيقظ صباحاً فلا يجدني إلى جانبه؟!.. اشتقت إليه .

وصلنا العاصمة. هذه مدينتي .. لم أعرف شيئاً في الشوارع التي كنا نسير فيها!.. مدينتي التي ولدت فيها وترعرعت. لم أعرف في أي شارع نحن ولا إلى أين نتجه!.. لقد تغيرتْ إلى درجة يصعب على من غاب عنها هذه المدة أن يعرفها, إلى أن وصلنا إلى الساحة المركزية للمدينة, ها أنا أعود إلى مدينتي التي أعرفها, هذه النوافير.. هي.. هي.. عندما كنت طفلاً كان يطيب لي أن أقف تحت رذاذها المتطاير.. فأشعر بالانتعاش, ومن هذه الساحة عرفت أن السيارة تتجه نحو مركز المخابرات الذي حللت فيه لدى عودتي.

ترى هل مازال أبو رمزت وأيوب هناك؟ .. خيزرانة أيوب التي تبدو لي الآن كلعب الأطفال أمام ما شاهدت وذقت .. هناك!.

السيارة تتوقف عند إشارات المرور , أنظر إلى الناس , أتفحص وجوههم , ما هذه اللامبالاة .. ترى كم واحداً منهم يعرف ماذا يجري في السجن الصحراوي ؟ .. ترى كم واحداً منهم يهتم ؟ أهذا هو الشعب الذي يتكلم عنه السياسيون كثيراً ؟ .. ولكن هل من المعقول أن هذا الشعب العظيم لا يعرف ماذا يجري في بلده؟! إذا لم يكن يعرف فتلك مصيبة , وإذا كان يعرف ولم يفعل شيئاً لتغيير ذلك فالمصيبة أعظم.

انتبهت لنفسي , مالي أفكر غاضباً هكذا ! هل أصبحت سياسياً ؟ ... ابتسمت رغماً عني , هل أتوقع أن يخرج هذا الشعب في مظاهرات عارمة للمطالبة بإطلاق سراحي من السجن ؟ .. من أنا ؟ ! .

يا إلهي ما أكثر الناس, أحدق في الوجوه, بيتنا قريب من المكان الذي تتجه إليه السيارة, قد يحالفني الحظ فأحظى بمشاهدة أمي أو أبي أو أحد أخوتي, لا بل يكفي أي وجه أعرفه.

انحرفت السيارة عن الطريق الذي كنت أتوقعه والذي يؤدي إلى ذلك المبنى الكئيب القريب من بيتنا , سارت باتجاه الجنوب الغربي مخترقة المدينة, مررنا بمعالم كثيرة أعرفها, أحن إليها, ها هي الجامعة والطلاب والطالبات داخلين خارجين, لا أذكر من حياتي إلا أنني كنت طالباً والآن أمشي سريعاً في العقد الخامس من عمري!.

مبنىً ضخم, حراسات مشددة, الدخول صعب ومعقد حتى على سيارات الأمن, اتصالات واستفسارات, سمحوا للسيارة بتجاوز الحاجز, دخلنا وأصبحنا أمام البناء, أنزلوني أمام باب زجاجي عريض, البلاط يلمع, كل شيء يوحي بالنظافة والنظام , ذهب الطويل حاملاً معه الأوراق, دخل أول غرفة إلى اليسار, لم يطلب مني أحد أن أغمض عيني أو أنكس رأسي, لكن رأسي نصف منكس بحكم العادة , عاد وقال للاثنين اللذين معي:

- نزلوه عــ السجن .

مباشرة قبالة المكان الذي كنا نقف فيه , نزلنا الأدراج .. أدراج .. ثم نلف ثم أدراج .. باب عبارة عن قضبان حديدية , قفل ضخم , يدقون الباب , يحضر سجان، يفتح الباب يدفعوني إلى الداخل, يغلق الباب, ينصرف الاثنان.. ثم:

- انتظر هون.. لا تتحرك.

يذهب حاملاً الأوراق إلى غرفة في صدر رواق طويل, يظهر على باب الغرفة التي دخل إليها, يناديني, أذهب إليه , يدخلني الغرفة فأرى رجلاً أشيب وراء طاولة ينظر إلي , يطلب مني أن أخرج من جيوبي جميع أغراضي .

- ما عندي شيء .

- ابداً .. أبداً ؟ ما عندك مصاري ؟ .. ما عندك أغراض ؟ .

- ما عندي شيء .

- طيب .. ما عندك هوية ؟ .. جواز سفر ؟ .

- لا لا ما عندي شيء, جواز سفري وهويتي أخذوهما مني في السجن الصحراوي.

التفت إلى السجان, طلب منه أن يأخذني إلى الحمام وبعد أن أنتهي من الحمام أن يضعني في المنفردة رقم /17/, ثم قال لي:

- الحمام ساخن , فوت عــ الحمام .. أول مرة اغسل كل ثيابك بشكل جيد, بعد غسيل الثياب تحمم أنت.. بــ تظل تتحمم وتغسل الثياب حتى تحس أنه ما ظل عندك ولا قملة.

أخذني السجان , أدخلني الحمام المليء بالبخار, قبل أن يغلق الباب علي قال:

- أعمل مثل ما قال لك المساعد , بس تخلص دق الباب .. مفهوم ؟ .

ها أنا لوحدي.. في زنزانة مطلية باللون الأخضر الفاتح, البطانيات على الأرض, الزنزانة واسعة في سقفها فتحتان اكتشفت أنهما للتهوية.

نشرت ثيابي المبللة على الأرض , جلست على البطانيات.. تغطيت بواحدة, الجو هنا حار , بعد قليل تمددت وغفوت .

استيقظت على الصوت المرعب , صوت قرقعة المفتاح الحديدي في الباب الحديدي, انفتح الباب وظهر رجلان , أحدهما كهل والآخر شاب, سألني عن سبب نومي عارياً, أجبته بأن الثياب الوحيدة التي أملكها مغسولة .. وهي لم تجف بعد.

أغلق الباب , بعد ربع ساعة عاد الشاب حاملاً صرة من الثياب , بيجاما رياضية , غيار داخلي .. ظهرتُ بمظهر جديد .


20آيار

أنتظر بقلق دون أن أعرف سبب نقلي إلى هنا, المعاملة هنا جيدة نسبياً.. باستثناء بعض الصفعات على الوجه والرقبة أثناء الخروج إلى المرحاض أو العودة منه, لم أتعرض إلى أي تعذيب مباشر, لكن أصوات التعذيب التي تصل واضحة إلى جميع المنفردات تغدو أكثر استفزازاً ومدعاة للتوتر والخوف, كل يوم من الثامنة والنصف صباحاً تبدأ صرخات الألم والتوسل, وتنتهي عند الثانية والنصف, لتعاود الأسطوانة عزفها من السادسة مساءً وحتى ساعة متأخرة من الليل.

أحاول تجاهلها.. نسيانها أو التغاضي عنها.. لا أفلح.


21أيار

اليوم مساءً فتحوا باب زنزانتي وطلب العنصر خروجي, ثم قادني إلى أحد المحققين ليطلب مني أن أكتب كل شيء. وبعد أن كتبت قال لي: هذا كله كلام فارغ. اكتب غيره باختصار مفيد. كنت مبتهجاً فقط لأنني أمسك بيدي قلماً بعد اثنتي عشرة سنة.


22 أيار

أخرجوني اليوم إلى رجل يضع نظارات طبية, يجلس وراء مكتب أسود, طرح علي أسئلة عادية. ثم أعادني إلى زنزانتي, جلست. طوال الوقت أسمع صراخ امرأة.. إنهم يعذبونها!.


23 أيار

في أول الليل فتحوا باب زنزانتي وأمروني أن أخرج.

- خذوه على بساط الريح وبس يقرر يعترف .. هاتوه لهون !.

سحبوني بعنف ، رغم كل شيء فقد ارتحت قليلا لأنني عرفت أن أهلي قد أصبحوا ورائي.

ألقوني على لوح خشبي، ربطوني من جميع أنحاء جسمي، رفعوا الجزء السفلي من اللوح الخشبي عاليا.. ثبتوه.

بدأ الضرب.. وبدأ الصراخ.

كنت أتألم بشدة، لكنني لم أكن خائفا ولا هلعا، أنا الآن "صاحب خبرة وتجربة"، كما لرجال الأمن دروسهم وقواعدهم ، فإن للسجناء أيضا قواعدهم ووصاياهم ، وهنا كان أهم وصيتين:

الأولى : مهما تألمت من التعذيب فلا تعترف بشيء لكي تتخلص من الألم ، لأن الاعتراف سيجعلهم يعرفون أنك قد ضعفت ، لذلك فان كمية التعذيب ستزيد لانتزاع المزيد.

الثانية : إذا طلبوا منك أن تتعاون معهم مقابل أن يطلقوا سراحك، فلا تقبل، لأنك تكون قد تورطت ورطة تدوم مدى الحياة.

كنت أتألم .. لكن لم أعدّ الضربات. بعد فترة أحسست أن قدميّ قد تخدرتا.

انتهت لعبة عض الأصابع لصالحي !.. إما انهم تعبوا، أو ملوا، أو اقتنعوا أنني لا أنتمي لأي تنظيم. تركوني بناء على أوامر "الصوت الذي كان في الغرفة":

- اتركوه .. اتركوه، خذوه عـ الزنزانة، العمى ما أيبس رأسه.. مثل رأس الجحش!.


24 أيار

اليوم أخرجوني, طمشوني, قادوني... قال صوت أجش ثخين:

- ارفع الطماشة عن عيونه .. وروح أنت .

رفع العنصر الطماشة , ثلاثة رجال في منتصف العمر .. أحدهم يجلس خلف مكتبٍ فخم وأنيق, الآخران يجلسان إلى جانبي المكتب... يفحصوني من قمة رأسي إلى أخمص قدمي, مزيج من القسوة والسطوة.. من الترفع والعنجهية..

قررت أن أكون جريئاً: إذا ممكن تسمحوا لي بسؤال .. أنا ليش هون ؟ .. ما هي جريمتي حتى أبقى في السجن أكثر من /12/ سنة ؟

قال الرجل الجالس خلف المكتب , هو نفس الصوت الأجش :

- أولاً اخرس , ثانياً أنت هون اتجاوب على الأسئلة مو تطرح أسئلة.

قرأ ثلاثة أسماء لا أعرفهم , قرأ الاسم الرابع , الاسم الثلاثي لصديقي أنطوان , عندها رفعت يدي مسرعاً , وكأني أريد أن أثبت مصداقيتي .. صرخت :

- هذا يا سيدي .. أنطوان .. هو صديقي بفرنسا .

- هاه .. أنت تعرف أن هذا أنطوان من أخطر الناس ؟ .. هو شيوعي معارض للنظام , يعني مو مثل خالك , رغم أن خالك شيوعي .. خالك رجل كثير وطني ومخلص , بس أنطوان.. أنطوان عميل.

- لأ .. لأ سيدي , أنطوان ما كان يحكي معي بالسياسة .

فتح اضبارة أمامه , تفحص عدة أوراق , سحب ورقة منها , نظر إليها ملياً وطفق يقرأ .

" بتاريخ كذا .. وكذا .. دعيت إلى سهرة مع صديقتي الفرنسية , السهرة كانت في بيت أنطوان , وكان حاضراً في السهرة , فلان وفلان وفلان ...... عند نهاية النقاش بقي هناك شخص لم يشارك في الحديث لم أعرف رأيه, وهو طالب من العاصمة يدرس الإخراج السينمائي هنا في فرنسا, وقد أمضى فترة النقاش ينظر إلينا مبتسماً.

توجهت إليه بالسؤال عن رأيه عما دار من حديث، ولكي أدعه يطمئن تابعت تهجمي على السلطة السياسية. ضحك وقال كلاماً جارحاً بحق الرفيق الأمين العام رئيس الجمهورية المفدى , وأنا ألآن سأورد كلامه كما ورد على لسانه مضطراً رغم أنني محرجٌ جداً , وسيادتكم تعلمون أنني على استعداد لأن أقطع لساني ولا أدعه يتلفظ بهكذا عبارات مقذعة بحق الإنسان الذي نُجِلّه ونحترمه .. لا بل نعبده .. السيد الرئيس حماه الله ونصره , ولتكن أرواحنا فداءً له.

ولكن تسجيلي لهذه العبارات إنما الهدف منه أن تكون الجهات الأمنية الساهرة على أمن الوطن على علمٍ بكل شيء , وأن تكون في صورة الموضوع, قال المدعو فلان رداً على تساؤلي.. و بالحرف الواحد:

- أنا كرجل يهوى ويعمل في مجال الفن السينمائي فإنني أهتم بالصوت والصورة، إذا كانت الرسالة تعرف من عنوانها , فإن عنوان هذا النظام هو الرئيس .. فماذا يقول الصوت ؟.. إن صوت هذا الرئيس مثل صوت التيس .. والتيس كما تعرفون هو من أنتن الحيوانات وأعندها!

أما الصورة فتقول , إن رأسه مثل رأس البغل , وأنا أكره البغال كثيراً .. لو كان حماراً لأحببته , لأنه في هذه الحالة ينتمي إلى سلالة الحمير الأصيلة والعريقة .

لهذين السببين يا أخي , فإنني لا أحب هذا الرئيس ولا أحب هذا النظام .

عند هذه العبارة توقف الصوت الأجش عن القراءة , نظر إليّ بعمق وحقد وهو يطوي الأوراق الموجودة أمامه , ثم قال بلهجة استهزاء :

- نحن قلنا لك عن سبب وجودك هون .. عن جريمتك , وانت لازم هلق تقول لنا لأي تنظيم أنت منتسب .. هذا الكلام الوارد بالتقرير كلامك وإلا لأ ؟ .. احكي .

فيما كان يقرأ التقرير كان عقلي يعمل بسرعة مذهلة , كل حواسي كانت مستنفرة , كنت أسمع بنصف عقلي و النصف الآخر كان يفكر , حاولت تذكر السهرة فلم أفلح !.. التقطت التاريخ المذكور في التقرير , أكثر من ثلاث سنوات قبل عودتي إلى بلدي, يضاف إليها أكثر من اثنتي عشر عاماً قضيتها في السجن !.. كيف لي أن أتذكر سهرة من مئات السهرات التي كنا نقيمها ؟.. حتى أشخاص السهرة لم أتذكر منهم سوى أنطوان.

- هذا التقرير الذي قرأته وعمره أكثر من خمسة عشر عاماً , لا أذكر أني حكيت هيك كلام , وعلى فرض أني حكيته .. هذه نكتة لا أكثر ولا أقل, وأنت تعرف أنه يوجد مئات النكات من هذه الشاكلة . - حتى لو كانت نكتة .. هذه النكتة عقوبتها من سنة إلى ثلاث سنوات .

- بس أنا صار لي /12/ سنة في السجن !.

- ال/12/ سنة انساهم , هدول نتيجة خطأ نحن غير مسؤولين عنه , حسابك يبدأ من هذه اللحظة , وهلق احكي لنا عن تنظيمك .. ولأي تنظيم تنتمي .

- أنا منتسب إلى تنظيم .. الإخوان المسلمين !.

يبدو أنهم كانوا قد درسوا القضية واتخذوا قراراً. ولكن مادور خالي في كل هذا ؟ .. لست أدري .


10حزيران

أكثر من نصف شهر لم يحدث خلالها شيء, أصوات التعذيب أنهكت أعصابي, أن تتعذب أنت أهون من أن تسمع أصوات الصراخ الإنساني ليلاً نهاراً, أحاول أن أتلهى بقراءة الأسماء الموجودة على حيطان الزنزانة, جميعها مكتوبة بواسطة شيء معدني.. مسمار مثلاً, أسماء ذكور وإناث, بعضهم يكتب اسم مدينته أو حزبه السياسي , أحدهم كان يخط خطوطاً متوازية إلى جانب اسمه .. يبدو أن كل خط يمثل يوماً, عددتها: ثلاثة وثلاثين خطاً.


21حزيران

أخرجني السجان وهو يطلب مني أن أحمل كل أشيائي, صعدنا إلى فوق دون طماشة ودون قيود, أدخلني بالمراسيم المعتادة إلى غرفة " الصوت الأجش " الذي بادر بأن طلب مني الجلوس . تكلّمَ معي, أفهمني أنهم كانوا ينوون إطلاق سراحي, وأنهم يحترمون خالي الذي يتدخل لصالحي كثيراً لأنه إنسان جيد, إلا أن هناك جهات أمنية أخرى اعترضت على ذلك وطالبت بتسليمي إليها وأنهم مضطرون آسفين لتسليمي إليهم.

بعد ذلك بقي حوالي عشر دقائق أخرى يحاول أن يفهمني أمراً, وتبين لي أنه لا يريد أن يخوض فيه صراحة لذلك لجأ إلى التلميح, ما استطعت فهمه هو أنني يجب ألا أدلي بمعلومات لدى الجهة الأمنية الأخرى زيادة عما أدليته به هنا وذلك لأنني إذا أدليت بمعلومات جديدة سوف تظهر الجهة الأمنية الأخرى بمظهر الطرف الأقدر والأكثر نجاحاً, وأنني عندها سوف أَصِمُ "الصوت الأجش" وجماعته بوصمة الفشل.


24 حزيران

عند الجهة الأمنية الأخرى .

ثلاثة أيام تساوي ثلاث سنوات في السجن الصحراوي.

كان الضابط بانتظاري على باب غرفته, الغضب يقطر منه. فاجأني بلكمة على أنفي ألقتني على صدر العنصر الذي يقف خلفي, عدت لأقف معتدلاً, أمسكني الضابط من صدري وشدني إلى داخل الغرفة وهو يصفعني باليد الأخرى, في وسط الغرفة أمسكني من رقبتي.. من تفاحة آدم وأخذ يضغط عليها, أحسست بالاختناق, قال لي وهو يصّر على أسنانه:

- اركع ولا كلب ..

ركعت على ركبتي أفلت رقبتي وذهب إلى خلف المكتب , أمسك ورقة واقترب مني , أخذ يقرأ فقرات منها .. مع كل فقرة يضربني بأسفل حذائه على وجهي ..

-الصوت و الصورة .. " رفسة على الخد " .. الرسالة تظهر من عنوانها " رفسة فوق الخد قليلاً " .. صوت التيس " ببوز حذائه، ضربة على جنبي ألقتني أرضاً " .. ويتابع القراءة و الضرب !. ألقاني أرضاً , سحق فمي بحذائه ثم وضعه على رقبتي وضغطه , عجنني برجليه .. وفهمت منه أن ما قلته بحق " السيد الرئيس " يكفي بحد ذاته لشنقي من خصيتيّ !.

ثلاثة أيام لن أنساها, الجلد, الضرب, في الدولاب, على بساط الريح, التعذيب بالكهرباء.. أحس أنني سألفظ أنفاسي, أعجز عن التنفس, الطماشة على عيني.. لا أعرف متى يشغل الجهاز ومتى يوقفه, وأرقص.. أرقص تشنجاً وألماً.

في اليوم الثالث جاء دور الشبح . عندما سمعت الأمرَ بشبْحي لم أفهم ماذا يعني ذلك, لكن عندما ربطوا يديّ عالياً وجسدي كله مرفوع عن الأرض أكثر من نصف متر تذكرت صلب المسيح, دون أن أعي صرخت:

- يا يسوع .. يا محمد .. يا الله .

بعدما يقارب النصف ساعة أحسست أنني قد استنفذت كل طاقتي على التحمل .. أحسست بضعف هائل . سأعترف بما يريدون مني أن أعترف به , وليكن الإعدام ! الإعدام سوف يكون أرحم ! .. ولكن من أين أخترع لهم تنظيماً معادياً غير الإخوان المسلمين .. وبعد ذلك أنتسب إليه ؟ .

تذكرت المهجع , مئات الروايات عن الذين ضعفوا واعترفوا بأعمال لم يقترفوها ! .. اعترفوا بجرائم لم يسمعوا بها إلا من فم المحقق الذي يتهمهم بارتكابها!.. ماذا كانت نتيجة اعترافاتهم؟ .. البعض تم إعدامه, الآخرون يتعفنون في السجن.. الكثير منهم مات أو في طريقه إلى الموت!.. قوّيتُ عزيمت, أنا لم أعد كما كنت قبل اثني عشر عاماً, لقد صلّبتني التجربة , أخذت أقنع نفسي أنني رجل .. ورجل شجاع.. رجل شجاع قادر على التحمل !.. وتحملت.


2 حزيران

يداي خدرتان من أثر الشبح! .. أستعملهما بصعوبة, أحاول أن أُجري لهما بعض التمارين الرياضية, أجد صعوبة في تنظيف نفسي بعد انتهائي من قضاء حاجتي.


22 آب

عَرَضَ علي وبطريقة لزجة , كريهة جداً وتدعو للإقياء , أن يطلقوا سراحي ويعيدوني إلى باريس , هناك أنخرط في صفوف المعارضة مسلحاً بتاريخي "سجني الطويل" وأن أخدم وطني من خلال التقارير التي أرفعها للجهات الأمنية المسؤولة كاشفاً لهم عن أعداء الوطن .. من أبناء الوطن. رفضت , متعللاً .. مداوراً .. لبقاً.

وقف غاضباً , صفعني بلؤم , وبلهجة تقطر فشلاً وإحباطاً , قال:

- إنت واحد جحش ما بتعرف مصلحتك, راح تتعفن بالسجن.

وسلموني للجهة الأمنية الثالثة. عناصر أمن, سيارة, قيود، تنطلق السيارة شمالاً, نصل إلى الشارع الذي ينار بأضواءٍ برتقالية محمرة, وزنزانة جديدة.


1 ايلول

أنا هنا منذ عشرة أيام تقريباً, بعد الظهر وحتى حلول الظلام هي الفترة الوحيدة التي لا أسمع فيها الصراخ والبكاء.. والشتائم, وما عدا ذلك فالتحقيقات مستمرة على مدار الأربع والعشرين ساعة, هذا الفرع مشهور بين السجناء بقسوته.

في اليوم الرابع فتح السجان باب زنزانتي, سألني عن اسمي فأجبته .. قال :

- شوف .. "المعلم" طلبك , وانت أكيد سمعت بالمعلم , راح أعطيك نصيحة لوجه الله : شو ما سألك احكي بصدق وصراحة , لا تكون عنيد وتعمل نفسك بطل .. بهذا المحل ما في أبطال !.. كل الناس بتعرف المعلم , ومنشان تكون بالصورة .. مرة من المرات كان المعلم عم يحقق مع واحد أخرس .. أجبر الأخرس أنو يحكي !..

وأخذوني إلى عند المعلم. في غرفة الانتظار ذات الأثاث الفخم أمام غرفة "المعلم" أوقفوني أكثر من ربع ساعة, حركاتهم.. تراكضهم.. الحديث بصوت خافت.. كلها أمور تدخل الخوف والفزع إلى قلب الشخص الذي ينتظر.

أوقفني " المعلم " أمام مكتبه دون أن يكترث بي أيضاً أكثر من ربع ساعة , كان يتصرف وكأنه لا يراني , مشغول بقراءة بعض الأوراق والملفات والرد على الهواتف.

بعد ذلك تفرغ لي كلياً.. ولمدة أربعة أيام!!. منذ الصباح إلى ما بعد الظهر كتبت تاريخ حياتي ثلاث مرات!

غرفة المكتب عبارة عن قاعة فسيحة مؤثثة بشكل باذخ.

خلال وجودي في غرفته وبينما أكتب تاريخ حياتي, أجرى التحقيق مع ثلاثة أشخاص, كان يعذبهم أمامي , أحاول أن أركز انتباهي على ما أكتب .. وسط ضربات السياط والصراخ الإنساني, وينتهي الأمر في كل مرة باعتراف المعتقل.

كل ما في الغرفة متناسق, عداي والمعتقلين الآخرين بالثياب الرثة والمتجعدة, وكذلك الدولاب الأسود وأدوات التعذيب الأخرى.

بعد الظهر لم يبق في الغرفة غيري من المعتقلين, خرج " المعلم " من وراء مكتبه , جلس قربي , نظر إلي , قال :

- شوف .. كلمتين نظاف .. أحسن من جريدة وسخة.

بدأ من حيث انتهى الآخرون, خيرني بين شيئين:

- إما العذاب والعودة إلى السجن الصحراوي حيث سألقى الإعدام, أو..

- الاعتراف والعودة إلى فرنسا والعمل بين صفوف المعارضة كمخبر.

لم أختر, لكن نفيت أي علاقة لي مع أي تنظيم, ورفضت العودة إلى فرنسا.

جميع الوسائل التي لديه جربها , البعض منها كنت قد عرفته في الأماكن الأخرى , لكن هنا زادوا عليها باستخدام الكرسي الألماني الذي أحسست أنه قد كسر ظهري , علقوني كفرّوج , شبحوني على السلم ...... وآخر شيء هددني باستعماله في آخر يوم .. أو آخر دقيقة من الأيام الأربعة التي استغرقها التعذيب .. أنه سيدخل قنينة كازوز في شرجي .. وبعد أن أحضروا له القنينة رن الهاتف , تكلم على الهاتف بغضب , خرج بعدها من الغرفة، قبل أن ينفذ تهديده.

أربعة أيام لم آكل, لم أنم ولا دقيقة واحدة, يتركونني بعد الظهر ثلاث أو أربع ساعات في الزنزانة, يداي مقيدتان, مربوطتان بجنزير معدني, الجنزير معلق إلى حلقة بالسقف, يشدونه بحيث بالكاد أقف على رؤوس أصابع القدمين, كنت أحس بالراحة عندما يفكون يدي ويأخذونني إلى الدولاب أو بساط الريح أو الكهرباء.. كل وسائل التعذيب أسهل من التعليق هذا.

- بقيت صامداً, لم أضعف مطلقاً هذه المرة, كنت دائماً أقول لنفسي إنها ساعات ألم مؤقتة ستزول ... أتلهى بأفكار أخرى.

مضى الآن أربعة أيام على انتهاء التعذيب, شبعت نوماً, رغم أنني أنام وأنا جالس .


2 كانون الأول

قال كبيرهم :

- توكل على الله .. عــ السجن الجبلي .

انطلق الميكرو باص باتجاه الغرب بين الجبال , في مكان منعزل, بناء حديث ضخم, يتألف من أربعة طوابق, مئات النوافذ.. إنه السجن الجبلي.

نزلنا, أدخلوني لعند مدير السجن, سألني أسئلة كثيرة وعندما عرف أنني مسيحي نادى أحد رقباء الشرطة العسكرية, طلب منه أن يأخذني إلى جناح الشيوعيين.

بينما كان الشرطي منهمكاً بفتح باب الجناح كنت أنظر مشدوهاً إلى السجناء الذين يتمشون في ممر الجناح, يسيرون .. يتحدثون.. يضحكون.. صوتهم مرتفع, عيونهم مفتوحة, كل هذا والشرطي قريب منهم، وقف ثلاثة أو أربعة سجناء قبالة الباب ينظرون إلي, أدخلني الشرطي وأغلق الباب. - أهلاً رفيق, هل أنت رفيق؟.

- لا .. لست رفيقاً.

- أهلاً بك مهما كنت .. تفضل .. تفضل .

أدخلوني أول مهجع, وقالوا لي: قبل أن تجلس هل أنت بحاجة للدخول إلى الحمام, أجبتهم نعم, أدخلوني الحمام, صابون معطر , غيار جديد , بيجاما جديدة .

خرجت , جلست , حكيت لهم حكايتي .. رداً على أسئلتهم , تجمعت حولي حلقة من الناس يستمعون .

أحضر أحدهم صينية كبيرة عليها بيض مقلي , بندورة , جبن , زيت وزعتر ....

يا إلهي كما في البيت !... هل هذا سجن ؟.. سألتهم هذا السؤال , ضحكوا وأجأبوا :

- نعم سجن , لكنه سجن خمس نجوم .

يسألون, يستفسرون, يعلقون تعليقات ضاحكة, ورويت لهم كل شيء. "فرغت", وشعرت بارتياح فائق.. عبرت عنه قائلاً لهم:

- هل هذه هي الجنة ؟.


31 كانون الأول

- هل فلان خالك ؟

- نعم خالي .

- لكن كيف لا يسعى لإخراجك من السجن وقد أصبح وزيراً ؟!.

خالي وزير ؟.. خبرٌ أصابني بالدوار!.


6 كانون الثاني

كان كل شيء يوحي بالبساطة والمحبة, لكن لم أستطع أن أكون صافياً, جبال من الحزن والكآبة تجثم على صدري.

هناك.. في السجن الصحراوي, في الليالي الموحشة الكئيبة, عندما تترسخ القناعات بأن لا خروج من هنا!.. عندما يتساوى الموت والحياة!.. وفي لحظات يصبح الموت أمنية!.... لم يكن لأكثر أحلامي وردية آنذاك أن تبلغ مطامحه الوضع الذي أنا فيه الآن!..


2 آذار

وأخيراً بدأت جهود خالي تؤتي ثمارها.

نظرت إلى نفسي بالمرآة.. وأحسست بالخوف, صلع في مقدمة الراس, الشعر أصبح ميالاً إلى اللون الأبيض, الشاربان متهدلان وقد أبيّضّ أكثر من نصفهما, العينان غائرتان تحيط بهما هالتان سوداوان, الألم والقهر والخوف والذل.. قد حفرت أخاديدَ عميقةً على الجبين وحول العينين!

اليوم حضر شرطي, صاح اسمي وقال لأبي وجيه رئيس الجناح:

- بلّغْ هذا .. عنده زيارة.

انشغل أكثر من عشرة أشخاص بمسألة تجهيزي وإعدادي للزيارة, حلاقة الذقن، تشذيب الشاربين, البنطال والقميص, الحذاء.

وكانت هذه هي المرة الأولى التي ألبس فيها حذاءً منذ حوالي /13/ عاماً, مثلما كانت المرة الأولى التي أرى فيها مرآة طوال نفس المدة.

بعد أن ألبسوني كما يلبسون العريس، مشيت إلى جانب السجان متوجساً، وصلنا إلى غرفة بابها مفتوح، يجلس فيها رجل كهل وامرأة شابة تحمل على صدرها طفلاً رضيعاً. دخلت .. واحتاج الأمر إلى عدة ثوان من التحديق حتى استطعت تبين ملامح أخي الأكبر !.. هو أيضاً لم يعرفني لأول وهلة "مضى تسعة عشر عاماً منذ أن رأيته آخر مرة".

احتضنني وأجهشنا بالبكاء. تعانقنا, أبكي لوعة .. اشتياقاً , ألماً وفرحاً .. ارتياحاً.

ابتعد أخي قليلاً, مسح دموعه وناولني منديلاً ورقياً لأمسح دموعي , التفتُّ إلى حيث المرأة الشابة, كانت قد وضعت رضيعها على كرسي وجلست على آخر, تبكي وتنشج, نظرت إلى أخي مستفهماً, وبحركة من راسي سألته عنها, من تكون؟.

قال: ما عرفتها ؟ يا أخي هذه بنتي .. بنتي لينا .

- التفتّ إليها وكانت قد رفعت رأسها, احمرار البكاء يحيط ببؤبؤيها الأخضرين.

ألقت لينا نفسها بأحضاني , اعتصرتني واعتصرتها, لينا تجلس في حجري كما كانت تفعل وهي صغيرة , تمسح دموعي , تقبلني وتقبلني وهي تهمس :

- يا عمو.. يا عمو .. شو عاملين فيك .. يا عمو .. آخ يا عمو .. آخ .. والله العظيم أنا اشتقت لك كثير ...

عندما ولدت لينا , أنا الذي اخترت لها هذا الاسم , ومنذ أن أصبح عمرها سنتين كانت لا تفارقني. عندما ذهبت إلى فرنسا كان عمرها أكثر قليلاً من خمس سنوات , وهاهي الآن أمرأة كاملة , وأم أيضاً . أخي يحاول أن يطمئنني .. وأن خالي يبذل جهوداً جبارة لإخراجي من السجن, وأفهمني أن خروجي من السجن مرتبط بموافقة رئيس الجمهورية!!.. وأنه منذ أكثر من عشر سنوات جرت العادة أن أي مسؤول في أجهزة الأمن يستطيع أن يسجن من يشاء , لكن خروج أي سجين يجب أن تتم بموافقة رئيس الدولة!.

سألتُ أبا وجيه ماذا أفعل بالنقود التي أعطانيها أخي، قال: إذا شئت ضعها في الصندوق, هنا لا يحتفظ أحد بنقوده وكل شيء مشترك. عشرة آلاف ليرة وضعتها في الصندوق, قال الشخص الذي أخذ النقود إنني شخص غني, لأن الناس هنا كلهم فقراء, وأكبر مبلغ يستلمه السجين من أهله هو ألفا ليرة, قلت إن في السجن الصحراوي أشخاصاً أعطاهم أهلهم نصف مليون ليرة, أطلق هذا الشخص صفرةَ تعجُّب من بين شفتيه.

عرفت هنا من الشباب أن السبب الرئيس للتحقيق معي لدى جهات أمنية متعددة هو الصراع الشرس بين هذه الأجهزة, وقد شرحوا لي مايسمونه "جوهر النظام السياسي في البلد" وآلية عمل الأجهزة, هذه الأجهزة التي جعلها رئيس الدولة تتنافس على شيئين أساسين: أولاً إثبات ولائها المطلق له, وثانياً الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب والامتيازات.

ولكون خالي وزيراً شيوعياً, وبما أنه المتدخل لاطلاق سراحي فقد انعكس موقف الأجهزة الأمنية المختلفة, سلباً أو ايجاباً, من الشيوعيين عليّ, فبعض الأجهزة تكره الشيوعيين كرهاً مطلقاً ولا تميز بين شيوعي موالٍ للنظام وآخر معادٍ, بينما الأجهزة الأخرى تكرههم بدرجة أقل.


6أيار

أعادوني إلى فرع المخابرات الذي أتيت إليه عندما عدت من السجن الصحراوي.

زارني أخي وابنته لينا ثلاث مرات في السجن الجبلي, وفي آخر مرة قال لي أنهم يمكن أن يعيدوني إلى الفرع تمهيداً لإطلاق سراحي, وأنه يجب أن أكون مرناً ومتعاوناً .. واليد التي لا تستطيع عضها .. بوسها .. وادعي عليها بالكسر!.

صباحاً حضر السجان , نادى اسمي, طلب مني أن أجهز نفسي.

أعطاني زملائي السجناء خمسة آلاف ليرة, الكثير من الثياب, بعض الأطعمة , ودعني أبو وجيه بالقبلات : - قوم .. رئيس الفرع طالبك .

تبدأ محاضرة فيها الكثير مما يقال في الراديو والتلفزيون عن الدور التقدمي الذي يلعبه السيد القائد رئيس الجمهورية ضد الرجعية والاستعمار , وعن أفضاله على الناس وحكمته وشجاعته وبراعته .. وأخيراً :

- نحن قررنا نخلي سبيلك , لأنك إنسان وطني , ولأن خالك قدم خدمات كبيرة للوطن .. و .. و ... بس نريد منك مسألتين روتينيتين !.. نريد منك أن توقع على تعهد بعدم العمل في السياسية , وأيضاً نريد منك أن تكتب برقية شكر للسيد الرئيس حفظه الله .

- برقية شكر ؟! .. ولكن على أي شيء أشكره ؟ .

نظر إليّ متعجباً , وباستغراب صادق قال :

- تشكره لأنه شملك برعايته ورحمته وأخلى سبيلك .

مرة أخرى ركبني العناد البغلي الذي أصبح نهجاً لي أواجههم به كلما طلبوا مني شيء .

- أنا آسف سيادة العميد , لا أستطيع أن أوقع لا على التعهد السياسي ولا على برقية الشكر .

ذهل العميد عندما سمع كلماتي!.. سكت قليلاً وبطريقة خبير أخفى كل ذهوله واندهاشه , قال :

- أنت تعرف أننا نكرمك كرمى لخالك , لذلك أرجو أن تلين رأسك قليلاً , يباسة الراس راح تضرك. كنت أعرف أن المئات من السجناء كانوا يطلبون من إدارات السجون محاقن طبية يسحبون الدم من عروقهم بها ليستعملوه حبراً يكتبون به برقيات شكر أو استرحام لرئيس الجمهورية.

لكن كنت قد قررت : "لا مزيد من الذل, وليكن السجن أو الموت" .

والحقيقة أن معاشرتي الطويلة للسجناء في السجن الصحراوي علمتني الكثير من الأشياء, وأهم ما تعلمته منهم هو معنى وأهمية الكرامة والرجولة.

إن التوقيع على برقية الشكر كشرط لإخلاء السبيل هي الاختبار النهائي لهذه الأجهزة لتؤكد لهم أن هذا السجين قد تجرع الذل حتى النهاية وتحول إلى كائن لا يمكن أن يقف بوجههم يوماً ما، وهو على استعداد لتنفيذ كل ما يطلبونه منه, طالما هو على استعداد لأن يشكر كبيرهم على كل ما عاناه. "لن أشكر من سجنني كل هذه السنوات الطويلة, لن أشكر من سرق عمري وشبابي.. لن أشكر من ضيع أجمل سنوات عمري.."

كنت أردد هذه العبارات والجمل بيني وبين نفسي, أشحذ فيها عزيمتي وأقوي إرادتي, كنت خائفاً من نفسي.. خائفاً من ضعفي..

بعد أن يئس مني رئيس الفرع أمر بإعادتي إلى الزنزانة, أعادوني بخشونة ظاهرة .

دخل عليّ مدير السجن, وبلهجة أبوية وبنوايا صادقة حاول إقناعي أن أوقع , شرح لي عواقب عدم التوقيع وأسهب في ذلك:

- إن من يرفض التوقيع عادة هم القيادات والزعماء, لذلك فإن عدم توقيعي سيعتبر دليلاً على أنني من هؤلاء, وينسف كل أقوالي السابقة بأنني لم أعمل في السياسة.. اليد التي لا تستطيع عضها.. بوسها.. وادعو عليه بالكسر.

بعد ذهاب مدير السجن فكرت طويلاً , ضحكت .. لو كنت في السجن الصحراوي لاستطاعوا أن يجعلوني أوقع على آلاف البرقيات , لا بل إنهم يستطيعون أن يجعلوني أقبل حذاء أصغر شرطي !.


3 تموز

زارني أخي وبدأ الحديث, ساق الكثير من الأمثال, وضغط عليّ بشدة يدعوني إلى التوقيع, تكلم .. وتكلم, أنا مطرق برأسي أستمع إليه وأزداد ابتعاداً عنه! هل هذا أخي الكبير الذي كان يوماً ما مثالاً وقدوة لي ؟!.

دون أن أرفع رأسي قلت له إنني لن أوقع على أي شيء , إنني إذا كنت عبئاً عليه فأرجو ألا يكلف نفسه زيارتي ثانية .. اتسعت عيناه دهشة .. فغر فمه , سكت مطرقاً ..

أنقذ العميد الموقف بدخوله , واستوعب الموقف حالاً .. التفت إلى أخي وقال بهدوء :

- سلم لي على خالك .. مو قلت لك أن رأسه يابس .

شكر أخي العميد وخرج . عشرة أيام أخرى من الإهمال, عشرة أيام من العذاب النفسي المضني .. هل خسرتُ أخي؟.. أليس المنطق الذي يتكلم فيه هو السائد إن لم يكن هو الصحيح؟

في 1 تموز أدخلوني إلى غرفة العميد لأجده واقفاً باحترام بينما أخي وشخص آخر كهل, أبيض الشعر , جالسان !.. عرفت فيما بعد أن هذا الكهل هو خالي .

استأذن العميدُ بأدب جم أن يخرج من الغرفة بعد أن طلب لنا ثلاثة فناجين قهوة.

بعد التحيات والقبلات بدأ خالي محاضرة طويلة انتهت بالتأنيب والتوبيخ, ثم أصدر لي أمراً حازماً بالتوقيع على الورقة التي مدها لي. بهدوء شديد رفضت. اقترب مني حانقاً , توقف , التفت إلى أخي وسأله إن كان يستطيع التوقيع على الورقة بدلاً مني, أومأ أخي برأسه موافقاً .. ثم وقع, صرّ خالي على أسنانه, وقال لي:

- يا ويلك .. إذا حكيت أي كلمة!.

حضر العميد. ناوله خالي الورقة. رن العميد الجرس بعد أن وضع الورقة في درج المكتب. أمرهم أن يعيدوني إلى الزنزانة. بعد يومين كنت أقف على الرصيف المبلل أمام مبنى الفرع.. حرّاً!

أعطيت السائق عنوان بيتنا. نزلت من السيارة بعد أن أعطيته نصف ما أملك من النقود. صعدت الدرج، ضغطت الجرس.. من سيفتح الباب ؟.. أمي، أبي؟.

جلست على الدرج، بقيت جالساً ثلاث ساعات، مرت بي العديدات من جاراتنا، ينظرن إلي باستغراب وتوجس، لم أعرف أية واحدة منهن. حضر شاب أنيق يلبس نظارات طبية، نظر إلي باستغراب ثم تجاوزني، فتح باب بيتنا .. ودخل!.

وقفت .. ناديت عليه، التفت إلي دون أن يستدير ناظراً بطرف عينه: نعم .. شو بتريد؟

تعارفنا. إنه زوج لينا ابنة أخي. رحب بي ترحيباً شديداً. سألني إن كنت جائعاً، طلبت منه فنجان قهوة بلا سكر. يدور سؤال في حلقي.. أخشى كثيراً أن أطرحه. اعتدلت في جلستي، وسألته :

ـ أين أبي وأمي؟

فوجئ... نظر إلي بدهشة ممزوجة بالشفقة، بدأ يتمتم:

- لا أعرف.. أنا ولينا، وقت معرفتي بلينا .. لم يكونا موجودين. رحمهما الله..

ما كنت أخشاه.. حاصل. آه يا أمي ويا أبي، هل قال أحدكما: إنه يتمنى أن يراني قبل أن يموت؟ .. هل تسبب سجني وغيابي بتعجيل موتكما؟.. أدفع نصف حياتي مقابل أن أضع رأسي لمدة خمس دقائق على صدر أمي.

أنور زوج لينا يقف أمامي مرتبكاً، يراقبني، سألته إن كان يعرف مكان الدفن، أومأ برأسه أن نعم. انطلقنا نحو المقبرة، وصلنا، اسم أبي وأمي واضحان على الحجر.

احتضنت الحجارة الباردة وأرحت رأسي عليها، أغمضت عيني... شعرت براحة كبيرة... في داخلي شعور بأن علي واجباً ما تجاه الموت يجب القيام به، اتجهت نحو القبلة... القبر بيني وبين مكة، فتحت كفي باتجاه السماء وقرأت الفاتحة، ثم وبشكل آلي... صليت صلاة الجنازة!.

اتصل بي الدكتور هشام على الهاتف. كانت مفاجأة. إنه أحد الأطباء الذين كانوا معي في السجن الصحراوي. أعلمني أنه ونسيم قد خرجا من السجن، وأن نسيم يرجو مني الحضور إلى بلده للقاء في مقهى بحري هناك في اللاذقية قرب بيته. أجبت أنني سأكون عندهم غدا.

المقهى شبه فارغ، اخترنا طاولة على الحافة تتكسر تحتها الأمواج الصغيرة، عندما التقينا حضنّا بعضنا بعنف، وبدأنا نبكي، بكينا أكثر من خمس دقائق. بعدها بدأت البسمات المتبادلة.

هشام هو الذي يتكلم، شرح لنا مخططاته للمستقبل، هدفه واحد وبسيط ، قال:

- أخرجوني من هذا البلد .. وأنا على استعداد للعمل "زبالاً" في أي مكان آخر على ظهر الكرة الأرضية. " هشام طبيب جراح تجميل ، ويعتبر متميزا في اختصاصه !".

نسيم صامت يحدق بنظره إلى نقطة في عمق البحر.

حدثنا هشام كيف تم خروجهما من السجن: فجأة ودون سابق انذار، فتح عناصر الشرطة الباب وأخذوا يقرؤون الأسماء, خرج جميع من تُليتْ أسماؤهم, تبين أنه يمكن تصنيفهم في ثلاث فئات: المشلولون, المصابون بأمراض عضال, الرهائن..

فيما بعد انضم إليهم قسم من نزلاء مهجع البراءة, الذين غدوا شباباً في العشرينات من عمرهم بعد أن قضوا أكثر من عشر سنوات في السجن. نقلوا الجميع بالحافلات إلى العاصمة.

بضعة أيام في سجون العاصمة, حاولوا تحسين مظهر السجناء قليلاً, اشتروا لهم ألبسة جديدة, أعطوا كل سجين مبلغ مئتي ليرة كمصروف جيب وثمن بطاقة السفر لكل واحد إلى بلدته.

في اليوم المقرر لخروجهم من السجن وضعوهم في حافلات أخذتهم إلى أكبر وأهم ساحة في المدينة, أوكلوا الأمر إلى أحد كبار ضباط الأمن الذي فهم الأمر حرفياً:

- تأخذهم جميعاً إلى الساحة, تضع الباصات حول الساحة, المطلوب مظاهرة تأييد للسيد الرئيس. عند التنفيذ أشار عليه البعض أن هناك عشرات المشلولين وهؤلاء لا يستطيعون السير في مظاهرة!. لكن الضابط أصر, لقد قال له رؤساؤه كلمة: الجميع.

في الوقت المحدد لانطلاقة مسيرة التأييد, كان لا يزال ما يقارب الأربعمئة سجين يحاولون إنزال ما يقارب المئتي مشلول!.. أنزلوهم, أجلسوهم في صفوف نظامية على الإسفلت الدائري العريض, وقف أمامهم المصابون بالأمراض العضال, مرضى السرطان, مرضى القلب والشرايين, مرضى السل... الشيوخ وكبار السن , في مقدمة الجميع أفراد مهجع البراءة, وهم الأكثر شباباً ومعهم البعض من الرهائن, أمام الجميع لافتة ضخمة مكتوبة باللون الأحمر الدموي وبخط جميل, معنونة:

" مبايعة مكتوبة بالدم "

يبايع فيها المتظاهرون السيد رئيس الجمهورية ويعاهدونه أن يفدوه بدمائهم وأرواحهم, وأنهم كلهم جنود لديه!.

للمزيد عن الإخوان في سوريا

مراقبو الإخوان في سوريا

1- الشيخ الدكتور مصطفي السباعي (1945-1964م) أول مراقباً عاماً للإخوان المسلمين بسوريا ولبنان.

2- الأستاذ عصام العطار (1964- 1973م).

3- الشيخ عبدالفتاح أبو غدة (1973-1975م).

4- الأستاذ عدنان سعد الدين (1975-1981م).

5- الدكتور حسن هويدي (1981- 1985م).

6- الدكتور منير الغضبان (لمدة ستة أشهر عام 1985م)

7- الأستاذ محمد ديب الجاجي (1985م لمدة ستة أشهر).

8- الشيخ عبدالفتاح أبو غدة (1986- 1991م)

9- د. حسن هويدي (1991- 1996م).

10- الأستاذ علي صدر الدين البيانوني (1996- أغسطس 2010م)

11- المهندس محمد رياض شقفة (أغسطس 2010)

.

من أعلام الإخوان في سوريا
أقرأ-أيضًا.png

كتب متعلقة

ملفات متعلقة

مقالات متعلقة

تابع مقالات متعلقة

أخبار متعلقة

وثائق ومتعلقات أخرى

وصلات خارجية

الموقع الرسمي لإخوان سوريا

وصلات فيديو

.