القرضاوي يكتب عن أحمد العسال.. صحبة عمر وأخوة حياة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
القرضاوي يكتب عن أحمد العسال .. صحبة عمر وأخوة حياة
قرضاوى.jpg

وأخيرا بلغ الكتاب أجله، وسكت الصوت الذى طالما نطق بالحق، ودعا إلى الخير وجهر ب الإسلام : عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، دعوة ودولة.. دينا ودنيا.

نعم، انطفأت الشعلة المتوقدة، وغاب السراج الوهاج، الذى طالما شع نورا ونارا؛ نورا يهدى الحائرين، ونارا تحرق الطغاة والمتكبرين. أجل مات العالم الداعية المربى المجاهد أحمد العسال عن أكثر من ثمانين عاما، قضاها فى العلم والتعليم والدعوة إلى الله.

ومنذ أشهر كان قد دعانى الأخ الأستاذ صلاح عبدالمقصود سكرتير نقابة الصحفيين لكتابة مقال عن الدكتور أحمد العسال فى عدد من مجلته يصدره، وذلك لما يعرف عن صلته به وصلته بى، وكتبت المقال لينشر فى المجلة، فشاء الله أن ينشر فى رثائه.

وقد كتب الله لى أن أعيش بعد أصدقائى، لأودعهم وأكتب عنهم واحدا بعد الآخر، ففى الشهور الأخيرة كتبت عن حسان حتحوت وعز الدين إبراهيم وعبدالعظيم الديب، وكلهم أعلام وشموس.

واليوم أكتب عن العسال الذى لم يقدر له أن ينجب أبناء من صلبه، ولكن أبناءه الروحيين منتشرون فى أنحاء الأرض من الصين شرقا إلى الرباط غربا، منذ كان فى مصر طالبا وخريجا فى الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى (العشرين)، يعمل مع الشباب فى الأسر والحلقات والرحلات والمخيمات ويخطب ويعظ فى المساجد والمنتديات.

وفى قطر، عندما أعير إليها فى الستينيات، معلما يدرس لطلابها فى الثانويات، ويدرس لجمهورها فى الجوامع والندوات.وفى بريطانيا حينما سافر إليها للدكتوراة، ومشاركا فى الأنشطة الإسلامية المتنوعة مع الطلاب من أنحاء العالم، ومع الجمعيات الإسلامية بالدروس واللقاءات والتفاعلات.

وعندما عاد من لندن حاملا الدكتوراة فى السبعينيات ليدرس فى جامعات السعودية، ثم ليرأس قسم الثقافة الإسلامية فى كلية التربية بجامعة الرياض (جامعة الملك سعود) مع مجموعة متميزة من إخوانه.

ثم ليذهب من السعودية إلى باكستان فى الثمانينيات، أستاذا فى الجامعة الإسلامية العالمية فى إسلام آباد، متعاونا مع مدير الجامعة العالم المصرى المعروف الدكتور حسين حامد حسان، ثم ليصبح وكيلا للجامعة، ثم مديرا لها. وقد كان محببا إلى الطلاب، قريبا منهم، معنيا بهمومهم ومشكلاتهم، كما كان مهموما بأمر الجامعة وبتوفير التمويل اللازم لها.

وبعد أن أحيل إلى التقاعد ظل يعمل مع المؤسسات والجماعات ويستجيب للدعوات المختلفة إلى أن حجزه المرض فى الأشهر الأخيرة، ولقى ربه راضيا مرضيا إن شاء الله فى صباح يوم السبت الماضى، فغفر الله له وأسكنه الفردوس الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين.

معرفة منذ نحو ثلثى قرن

مَن قرأ مذكّراتى «ابن القرية والكتاب»، وجد أكثر الأسماء تكرارا فيها بإطلاق، هو اسم أحمد العسَّال، لأنه رفيق الدرب وصديق العمر، وشقيق الروح، وأخو الدعوة، والصاحب بالجَنْب فى الدراسة، والمحنة والوظيفة. فقد عرفته منذ نحو ثلثى قرن «65» خمس وستين سنة أو تزيد، حين كنا فى مقتبل العمل، وفى نضارة الشباب، كان ذلك فى السنة الأولى من المرحلة الثانوية بمعهد طنطا الدينى الأزهرى، وفى الفصل السادس لطلاب المعهد،وبداية تعارفنا كانت عقب حادثة طريفة فقد جاءنا فى فصلنا فى بداية السنة الدراسية شيخ من أساتذة المعهد فى حصة إضافية، بدلا من مُدرسنا الأصلى، وكان الأستاذ يتمتع بشىء من الأدب والظرف، فبدأ يسأل الطلبة: ماذا تتمنى أن تكون بعد تخرجك؟

فيقول بعضهم: أريد أن أكون قاضيا فى محكمة شرعية! فيقول: لن تكون أكثر من حاجب ينادى بصوت عال: محكمة!

ويقول ثان: أريد أن أكون مديرا بمصلحة كذا. فيقول: ستكون فراشا تقدم القهوة والشاى فى مكتب المدير!

وهكذا، حتى وصل إلىَّ، فقال: وأنت ماذا تريد أن تكون؟ قلت له: أعفنى يا فضيلة الأستاذ،قال: لابد أن تُدلى بدلوك، أليس لك أمنية بعد تخرجك؟

قلت: بلى. قال: وما هى؟

قلت: إن كان ولابد. فأمنيتى أن أكون شيخا للأزهر!

وهنا غير الأستاذ لهجته من السخرية إلى الجد، واتجه إلى الطلبة يقول: لا تعجبوا يا شباب ولا تستبعدوا، فكم من شباب طامحين كانت لهم أمان كبيرة تحققت. وهذا الموقف أعجب العسال، فجاء بعد انتهاء الدرس، يشدُّ على يدى، ويتعرف علىَّ، ويُعرِّفنى بنفسه، ومن الطرائف: أنه منذ سنين كنت فى لقاء صحفى، وذكرت هذه القصة وسألنى الصحفى: واليوم أما زلت تتمنى ذلك؟

قلت: لا، لأسباب كذا وكذا. وكان أخى العسال حاضرا بالمصادفة، فقال: إن الله ادخر لك ما هو أعظم من منصب مشيخة الأزهر: أن تكون شيخا للأمة كلها! وهذا من حُسْن ظنه بأخيه. هكذا بدأ تعارفنا.

ثم ازداد تعارفنا وتوثق، حين التقينا فى «دار الإخوان المسلمين » بطنطا شعبة قسم ثانى، كما التقينا فى نشاط آخر داخل الإخوان ، وذلك فى «قسم نشر الدعوة»، حيث كانوا يبعثون بنا إلى بعض القرى والمراكز المحيطة بطنطا لنشر الدعوة فيها.

وكلما مرت الأيام توثقت صلتنا، وازداد ارتباطنا، وتواصل نشاطنا لمناصرة القضايا الوطنية، وكنا نُخرج الطلاب، ونقود المظاهرات، ونُلهب المشاعر، ونتعرض لمصادمة الشرطة، فيقبضون علينا، ونُلقَى فى حجز قسم الشرطة، وقد نتعرض للضرب، ثم يُفرج عنا، وفى كل هذه الأنشطة كان العسال معى جنبا إلى جنب، بالإضافة إلى أنشطتنا المشتركة داخل الإخوان، التى تتسع وتتعمق يوما بعد يوم، فى قسم الطلبة.

وتخرجت فى كلية أصول الدين وتخرج العسال فى كلية الشريعة، والتحقنا كلانا بتخصص التدريس، التابع لكلية اللغة العربية، لندرس فيه علوم النفس والتربية النظرية والعملية.

وتعرضنا للاعتقال مرة أخرى، وقبض علينا نحن الاثنين، قبض على العسال قبلى، واختبأت أنا فى بيت خالتى فى طنطا، وما أسهل ما اكتشفوه، واقتادونى بسهولة إلى مباحث المحلة الكبرى، التى أمرت بتعذيبى والتحقيق معى، ثم انتهى بى المطاف إلى القفص الكبير، السجن الحربى الذى فَغَر فاه لابتلاع الجميع.

وبعد خروجنا من السجن الحربى بحثنا عن سكن مشترك، فوجدنا شقة بحدائق شبرا، حيث كنت أسكن من قبل، وسكن العسال معى، ثم بدأنا نواجه مشكلة العمل، فقد قدَّمنا للتعيين مدرسين فى معاهد الأزهر، وعُيِّنا بالفعل، وأعلن الأزهر عن اسمينا فى الأسماء المُعينة، ثم سرعان ما جاءت مذكرة من الداخلية أو المباحث العامة إلى إدارة الأزهر، تلفت نظرهم إلى ضرورة عرض الأسماء التى توظف فى الأزهر على المباحث، لأخذ الموافقة عليها، قبل الإعلان عنها، وذلك بمناسبة الاعتراض على تعيينا فى التدريس بالأزهر، أو فى أى عمل يتصل بالجماهير.

وبدأنا ــ العسال وأنا ــ فى البحث عن عمل مناسب لنا، بعيدا عن العمل الرسمى.وكان أنسب عمل لنا هو تدريس اللغة العربية فى المدارس الخاصة، ولكن دون جدوى،وبعد أن تعبنا ومللنا، وجدت إعلانا فى الأهرام أن مدارس الشرق الخاصة فى الزمالك تطلب مدرسين، فدعوت العسال لنذهب إليها فرفض وأبى، وقال: لقد رفضتنا مدارس فى بولاق، أفتقبلنا مدارس الزمالك؟! اذهب أنت إذا شئت! قلت: سأذهب وأعمل ما فى وسعى والباقى على الله.

وذهبت إلى المدرسة، وجلست أنتظر وفوجئت بأن الرجل طلبنى ورحب بى، وقال لى: إنى قبلت طلبك، وكان المدير الإدارى والمالى للمدارس حاضرا، فقال: ولكن لنا عندك رجاء يا شيخ يوسف. قلت: تفضل، مُر. قال: أنت تعرف أن لكل بيئة ما يناسبها، ونحن فى الزمالك محل البكوات والباشوات، ربما لم تكن الجبة والعمامة هى الأنسب، وأعتقد أن «البذلة الإفرنجية» ستكون جميلة عليك!قلت: نعم، أعرف ذلك، وأعرف أن الشرع يراعى الأعراف أيضا، وعلى بركة الله.

وعدت إلى مسكننا فى شبرا، لأخبر أخى العسال بما حدث معى، وبقبولى فى مدارس الشرق الخاصة بالزمالك، وبطلبهم منى أن أغير زيى، فأصبح بدل «الشيخ يوسف» «يوسف أفندى»! وضحكنا على هذا التغيير المفاجئ. وقال الأخ العسال: أنت الآن تطبق نظرية ماركس فى أن الحاجات الاقتصادية هى التى تغير سلوك الإنسان، فما كان أحد يظن أن الشيخ يوسف سيخلع يوما «كاكولته» وعمامته، لولا الضرورات الاقتصادية التى تفرض على الإنسان ما لم يكن فى خطته. وبعد أيام عثر العسال على مدرسة مناسبة أيضا.

وبعد فترة من الزمن عقدت مسابقة لتعيين وعاظ بالأزهر، وأئمة وخطباء بالأوقاف، وقدمت فيها أنا والعسال ونجحنا، وكانت وظيفتنا الرسمية: الإمامة والخطابة، ووظيفتنا الفعلية التى انتدبنا لها العمل بقسم النظار والأوقاف، ومقره سطوح وزارة الأوقاف.

ولأن كثيرا من أنشطتنا كان مشتركا، فقد اشتركنا كذلك فى التفكير فى الزواج، وتكوين البيت المسلم معا، بعد أن استقر عملنا الوظيفى فى الأوقاف، فبدأ كل منا يبحث عن بنت الحلال، حتى وجدت ضالتى فى سمنود غربية، ووجد هو ضالته فى طنطا.

وما هى إلا فترة قليلة حتى قدر الله أن يرحل أحمد عن الشقة التى استأجرناها معا فى حدائق شبرا، شارع الشيخ عبدالرحمن قراعة، ليسكن فى مكان آخر فى شبرا أيضا هو وبعض أشقائه، لأهيئ هذه الشقة لدخولى فيها، وبعد قليل وفق العسال للزواج أيضا.

كان وضعى أنا وأخى العسال فى وزارة الأوقاف مريحا، ولكنه قلق غير مستقر، لهذا فكرنا جديا أن ننتقل إلى الأزهر، ولا سيما أن شيخنا العلامة محمود شلتوت هو الآن شيخ الأزهر، وإمامه الأكبر، وقد كان، وفى عام 1960م حضر لمصر الشيخ عبدالله بن تركى من قطر، وهو المسئول عن العلوم الشرعية فى وزارة المعارف، وقابلته أنا والأخ أحمد العسال وسُرَّ بهذا اللقاء الشيخ ابن تركى، وطلبنا رسميا من الأزهر.

وسافر العسال إلى قطر، دون اعتراض، أما أنا فاعترضت المباحث العامة على سفرى، فبقيت فى مصر، وبعد مرور سنة دراسية، وإلحاح من قطر، وافقوا على إعارتى إلى قطر لأعمل مديرا للمعهد الدينى الثانوى، وكان فى استقبالى حين وصلت العسال وإخوانه من أصدقائنا القدامى، وبتُّ وأسرتى عند العسال.

ومما ابتلينا به بعد وصولنا إلى مصر لقضاء الإجازة فى صيف سنة 1962أنهم ساقونا إلى سجن مبنى المخابرات المصرية فى سراى القبة، وبعد أسئلة وتهديدات، أبقونا نحو خمسين يوما، على الرغم من عدم توجيه تهمة لنا.

وجاء موعد سفرنا إلى قطر فى منتصف سبتمبر ، ولم يؤذن لنا بالسفر، وبدأ العام الدراسى، ولم نتمكن من مغادرة مصر. وعدنا أنا والعسال لمباشرة عملنا فى الأزهر. ولم تكف وزارة المعارف فى قطر عن إرسال البرقيات إلى الأزهر، للسماح لنا بالسفر لمباشرة عملنا هناك، ويبدو لى أن هذه البرقيات وصلت إلى إدارة المخابرات التى كان على رأسها رجل الاستخبارات الشهير صلاح نصر، وفوجئنا يوما باستدعائنا لمقابلته فى مكتبه فى المبنى الذى كنا ضيوفا عليه سبعة أسابيع، وكانت مقابلة لها أبعاد خاصة ثم شكرْنا صلاح نصر على حسن استقباله وتذليل عقبة سفرنا إلى الدوحة مرة أخرى.

وبعد فترة قرر العسال أن يغادر الدوحة إلى لندن للدراسة، للحصول على درجة الدكتوراه من جامعة كامبردج، وقد فكرت أن أفعل ما فعل، ولكن كان عندى أربع بنات، لم أجمع من المال ما يكفى للإنفاق على هذه الأسرة التى يرجى أن تتزايد، وقد شاء الله ألا يرزق العسال بأولاد، وكان ذلك عونا على السفر للدراسة.

وفى السنوات الأخيرة عرض الإخوان أكثر من مرة، منصب المرشد العام على الفقير إليه تعالى، فاعتذرت لأكثر من سبب، ومن ذلك ما عرضه علىّ الأستاذ مأمون الهضيبى بعد أن تولى منصب المرشد أن يتنازل عن منصبه، ويسنده إلىّ بموافقة الإخوان طبعا، إذا قبلت ذلك، وأرسل هذه الرسالة مع الأخ الصديق المفكر المسلم الكبير محمد عمارة ، الذى حاول أن يقنعنى فلم يفلح. وعرف ذلك العسال، فكان تعليقه: خيرا فعلت، إن الله تعالى يريدك أن تكون مرشدا للأمة كلها، لا لجماعة من الجماعات، وإن علا شأنها!

وفى كل المشروعات الإسلامية التى تبنيتها، كان العسال يعاضدنى ويشد أزرى، ورغم أن إقامتى كانت فى قطر ، وإقامته كانت فى مصر ، فهو كان يوالينى دائما بالسؤال عن طريق الهاتف.. ونسأل الله البر الكريم، الذى جمعنا على الحب فيه، أن يجمعنا فى ظله يوم لا ظل إلا ظله، إنه سميع قريب.

المصدر

للمزيد عن الدكتور أحمد العسال

وصلات داخلية

كتب متعلقة

متعلقات أخري

مقالات بقلمه

مقالات متعلقة

تابع مقالات متعلقة

أخبار متعلقة

محاضرات صوتية للشيخ

وصلات فيديو