العريان: الشهيد البنا.. فارق الدنيا ونحن أحوج ما نكون إليه

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
العريان: الشهيد البنا.. فارق الدنيا ونحن أحوج ما نكون إليه
09-02-2004

مقدمة

في مثل هذه الأيام منذ خمسة وخمسين سنةً تربصَتْ قُوى الغدر والشر برجل وحيد أعزل في أكبر شوارع القاهرة ليلة 12فبراير 1949م؛ شارع الملكة نازلي (رمسيس حاليًا) أمام جمعية (الشبان المسلمين) فأردته مصابًا ينزف دمًا زكيًا طاهرًا، لم يلبَث "حسن البنا" أن فارقت روحه الحياة في مستشفى القصر العيني؛ حيث لم يتم إسعافه وتركوه ينزف حتى الموت، ترك الدنيا في ريْعان الشباب وسنِّ العَطاء- الذي بدأ مبكِّرًا (42 عامًا)- حافلة بالجهاد والدعوة.

مات بعيدًا عن إخوانه وتلاميذه ومريديه، الذين رباهم وعلَّمهم؛ لأنهم كانوا- إمَّا في معتقَل (الطور) أو في معتقلات "إبراهيم عبدالهادي"- يتعرضون للتعذيب على يدِ العكسري الأسود أو مطاردين مختبئين، بعيدًا عن عيون القسم السياسي في وزارة الداخلية، فلم يشيعْهُ إلا أسرته، ولم يجرؤ على العزاء فيه إلا رجل مثل "مكرم عبيد" باشا القبطي المصري الشجاع، رئيس حزب الكتلة الوفدية آنذاك.

وفاة البنا

تركت وفاة "البنا"- المرشد المؤسس لأكبر جماعة إسلامية في مصر والوطن العربي- الإخوانَ المسلمين في حيرة ومأزق شديدَين.. لم يكن "حسن البنا" شخصًا عاديًا؛ لذلك ترَك فراغًا كبيرًا، واحتدَم الخلافُ بعده على من يتولى منصب (المرشد)، واستمر الخلاف بسبب الظروف التي عاشتها الجماعة حينها، حيث كانت خاضعةً لقرار الحل الصادر قُبيل وفاته، والذي دفع "النقراشي" باشا- رئيس الوزراء- حياتَه ثمنًا له، فتداعت الأحداث، وخرجت عن سيطرة "حسن البنا" فكانت الاعتقالات والتفجيرات التي دفعته لإصدار بيانه الشهير "ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين"، محذرًا بشدة من السير في هذا الطريق المدمِّر، ومعترضًا في نفس الوقت على إلصاق هذه الجرائم بالجماعة التي انحرف بعض أبنائها- نظرًا لغياب خطوط الاتصال السليمة- عن مسارها الطبيعي إلى جُرُفٍ هارٍ.

دفعت وفاة مرشد (الإخوان) إلى البحث عن طريق سريع للتغيير، وكانت الظروف مهيأةً لذلك، فحرب فلسطين وضعت أوزارها بنكبةٍ كبرى على العرب، تمثلت في ضياع فلسطين، والرأي العام معبأٌ ضد الملك الفاسد وتجار الأسلحة الفاسدة (ظهرت تقارير بعد ذلك تشكك في صدق قصة الأسلحة الفاسدة)، والمفاوضات مع الاحتلال وصلت إلى طريقٍ مسدود دفعت "النحاس" باشا إلى إلغاء المعاهدة التي وصفها حين وقَّعها عام 1936م بمعاهدة (الشرف والاستقلال).

والأحزاب السياسية يتلاعب بها القصر فلا يحترم حزب الأغلبية (الوفد)، وحزب (الوفد) يئِس من بُعده عن الحكم فاضطُّر إلى ملاينة الملك الفاسد، والفساد الاجتماعي والاقتصادي وصل إلى ذروة غير مسبوقة، ولا أملَ في حلٍّ سلمي، والجميع يتوقع عقب حريق القاهرة في 26 يناير 52م ثورةً شعبيةً لا تُبقي ولا تذَر.

وكانت القوى الخارجية ترصد الموقف وتحلله، الإنجليز الذين خرجوا من الحرب الكونية الثانية منتصرون لكنهم مثخَنون بالجراح، والأمريكيون الذين يتلهَّفون لقطف ثمار النصر الذي لم يكن ليتحقق إلا بدخولهم الحرب إلى جانب الحلفاء ضد "هتلر" والنازية، وكان الهدف هو إجهاض التغيير الشعبي الحقيقي بانقلاب عسكري على نمط انقلابات "الزعيم" و"الشيشكلي" و"الحناوي" في سوريا، وفي غياب "البنا" وفي ظل السيولة التي تمر بها الجماعة، وفي غياب حال الأمن التي تسمح بالدراسة المتأنية- ولمَّا يستقر الأمر على مرشد جديد يحسم الأمور- تمت الخطوات الأولى لبناء تحالُفٍ عسكري بقيادة "عبدالناصر" وبغالبية من ضباط (الإخوان المسلمين)، وعندما اكتملت الخطوات وبدأ التحضير الجدي للانقلاب عقب انتخابات نادي الضباط الشهيرة.. لم يكن المرشد الجديد المستشار "حسن الهضيبي" أمسك بزمام الأمور بعدُ، وكما قصَّ الأستاذ "فريد عبدالخالق" في شهادته على العصر وروى كل أطراف الانقلاب كان "الهضيبي" الأب عازفًا عن الانقلاب غير مطمئن لرجاله، لا يعرفهم ولا يثق بوعودهم.

المرشد الجديد

المستشار الهضيبى

كانت هذه اللحظة فارقةً في تاريخ مصر وتاريخ (الإخوان)، وكان افتقاد "البنا" فيها كبيرًا، ليس فقط لشخصيته (الكاريزمية)، ولا لقيادته الحازمة، ولا لمعرفته الواسعة بأطراف الانقلاب وقدرته على التأثير عليهم، ولا بمرونته الحركية التي كانت تُحسن الاستفادة من كل الظروف السياسية لتحقيق أكبر المكاسب للجماعة وتجنب الخسائر أو تحمل أقل الخسائر الممكنة.. ولكن بسبب اقتناعه- قبيل وفاته- بخطر العمل العنيف على مسيرة الدعوة والجماعة، وتنصله الواضح من أعمال العنف التي باشرها أفرادٌ من النظام الخاص في اغتيال القاضي "الخازندار" أو اغتيال "النقراشي"، وعندما امتدت إلى أعمال عشوائية وتفجيرات تستهدف الأبرياء الذين ليسوا طرفًا في النزاعات السياسية كان واضحًا حاسمًا.. "ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين".

فكيف إذا تصورنا موقفه من قمة أعمال العنف.. انقلاب عسكري على نظام المجتمع كله، يصورها أصحابها على أنها حركة تصحيحية أو انقلاب أبيض سرعان ما يعود الضباط بعده إلى الثكنات، وما رآه المرشد الثاني- خليفة "البنا" المؤسس- المستشار "الهضيبي" بعد شهور قليلة، وأحست به بصيرته- رغم أنه كان بعيدًا عن مجالات العمل العام؛ بسبب عمله في السلك القضائي- كان يمكن لـ"البنا" أن يستشعره بحاسته السادسة التي لم تكن تُخطئ، وشهد بها الجميع، فقد كان المتوقع ألا يوافق على انخراط ضباط (الإخوان) في الانقلاب، وذلك كان كفيلاً بحجب دعم (الإخوان) الشعبي، ووقوفهم ضد الحركة؛ مما يجعل إقدام "عبدالناصر" عليها مغامرةً كبيرةً ولم يكن ليفعل.

رصد كثيرون- منهم الشيخ الغزالي- أثناء محنة (الإخوان) عقب قرار الحل ثم اغتيال "النقراشي" أن "البنا" كان يراجع نفسه كثيرًا حول مسيرة الجماعة ودور النظام الخاص، وهو ما فعله "الهضيبي" بعد سنوات، حيث غيَّر القيادة وكان على وشك دمج أعضاء النظام في عمل الجماعة العلني الرئيسي، وقد كان مهندسو الاتفاق مع "عبدالناصر" هم بعض قيادات النظام المتنافسين، وكانت مراجعة "البنا" للنظام ولسلوكيات أعضائه كفيلةً بإجهاض ذلك الاتفاق؛ الذي تسبب في كوارث لحقت بالجماعة والوطن.

افتقد (الإخوان)- والوطن- "حسن البنا" مرةً أخرى عندما بدت بوادر الصدام مع رجال الانقلاب، وكان ذلك مبكِّرًا، يراهن كثيرون على أن غياب "حسن البنا" عجل بالصدام وجعل النظام أكثر دموية وأشد قسوة على (الإخوان).

عبد الناصر والإخوان

:جمال عبد الناصر بين الشيخ محمد فرغلي ومحمد حامد أبو النصر قبل أن ينقلب على الإخوان

أدَّى ذلك إلى وقوع خلافات داخل الصف الإخواني، استثمرها "عبدالناصر" بذكاء شيطاني فأبعد أولاً مجموعةَ الضباط (الإخوان) عن قيادة (الإخوان)، مخيرًا إياهم بين التمتع بعضوية مجلس قيادة الثورة أو المواقع القيادية وبين بقاءِ ولائهم لـ(الإخوان)، ثم عرَّج على قيادة النظام الخاص التي كانت متمردةً على المرشد الجديد، فتحالف معه "عبدالرحمن السندي" ومجموعته ضد المرشد ومكتب الإرشاد، وبدأ بالتلويح ببعض المغريات لرموز إخوانية رشحها الكثيرون لتولي موقع المرشد، كما فعل مع المرحوم الشيخ "الباقوري"، الذي كان من أبرز المرشحين فولاَّه الوزارة في واقعةٍ شوَّهت صورة رمز من رموز (الإخوان)، وأفقدت (الإخوان) شخصيةً قياديةً علميةً ودعويةً بارزةً؛ حيث اضطُّر إلى الاستقالة من عضوية الجماعة.

لم يكتف "عبدالناصر" بذلك بل عمد إلى شقِّ صف مكتب الإرشاد نفسه، ونجح في إقناع عدد من كبار (الإخوان) مثل الشيخ "الغزالي" و"صالح عشماوي" والشيح "السيد سابق"- رحمهم الله جميعًا- بأن المشكلة تكمن في شخصية "الهضيبي" المتصلبة، وأنه يريد التفاهم مع الإخوان لولا عناد "الهضيبي" الذي يريد فرض وصايته على الثورة وهكذا ملأ عقولهم ومنَّاهم الأماني حتى حدث التصدع الكبير الذي سبق الصدام الدامي وخرج هؤلاء الذين رأوا في المرشد الثاني دخيلاًعلى الدعوة وأنهم أولى بها وأقدر على قيادتها فإذا بتصرفهم المتعجل المتسرع يؤدي بالوطن كله إلى هاويه لم يخرج منها حتى الآن، هاوية الحكم الاستبدادي الديكتاتوري المتسلط الذي أهدر حقوق المواطنة وأهان كرامة الإنسان وحطم آدميته في سجون شهدت أقسى ألوان التعذيب والتنكيل على مئات وألوف الضحايا من الإخوان والشيوعيين.

كان يمكن في وجود "البنا" أن يرأب الصدع وأن يحجم طموحات البعض وأن يرد الجميع إلى صوابهم، لذلك كان اغتياله خطوة في طريق طويل أوصلنا إلى ما نحن فيه اليوم، كما قال الصحفي الأمريكي "روبير جاكسون" في مقالته "الرجل القرآني" إنه سيختفي إذا كانت الأقدار أكبر منه ولا تحتمل وجوده كانت قدراته الفذة محل إعجاب الجميع، يصفه "محمود عبدالحليم" في (أحداث صنعت التاريخ): "إن "حسن البنا" كان من اتساع الأفق بحيث لا يعدم أن يجد بديلاً مهمًا بدا للجميع أن الأمور قد ضاقت واستحكمت حلقاتها حتى صار الطريق مسدودًا لا منفذَ فيه، وكان هذا هو السبب في أن كثيرين من أعدائه كانوا يتحاشون لقاءه؛ لأنهم كانوا واثقين من أنه سوف يلزمهم الحجة ويكسبهم إلى جانبه وهم لا يُريدون ذلك حسدًا من عند أنفسهم" 2/305، نقلاً عن أوراق من تاريخ الإخوان، الكتاب الأول – ظروف النشأة وشخصية الإمام المؤسس/ 236.

يفتقد المسلمون السنَّة اليومَ المرجعية القيادية سواء على المستوى العلمي أو التربوي أو الحركي، ويشعرون بالغيرة من وجور مرجعيات لمذاهب أخرى كالشيعة أو ملل أخرى كالنصارى واليهود.

وإذا تأملنا في السنة التي استشهد فيها "البنا" لرأينا أن من أفراد جيله مازل بعضهم أحياء وأنه إذا امتدَّ به العمر لفارقنا منذ سنوات قليلة أو ظل بيننا بأنفاسه حتى اللحظة، ولقد مرت بالمسلمين عواصف عاتية كان يمكن لرأي "البنا" وشخصيته الفذة أن تُدلي فيها بدلو يرشد الحائر ويهدي الحيران.

مسيرة الدعوة

قام من بعده مرشدون أكفاء وتلاميذ نُجباء أدوا بقدر ما وفقهم الله وبقدر ما وسعهم الجهد، فقام "الهضيبي"- رحمه الله- بالحفاظ على الجماعة وثوابتها، ولم يرضَ بذوبانها في تنظيمات الثورة ولو حدث ذلك لانتهت من زمن بعيد ودرست آثارها، وصحح المفاهيم داخل السجون وعندما اصطدم مع رجال الانقلاب "الثورة"، كان لأسباب جوهرية في مقدمتها: الاستقلال الناجز للبلاد والجلاء التام للاحتلال الإنجليزي لذلك عارض اتفاقية الجلاء التي أباحت للإنجليز العودة إلى مصر إذا هُددٍِِِِِِِت تركيا، وكانت القضية الثانية: عودة الحياة النيابية ورد السلطة إلى الشعب وعندما وقع المقدور الذي لا فكاكَ منه ودخل الإخوان المحنة وامتلأت بهم السجون والمعتقلات كان صابرًا صامدًا محتسبًا هو وأسرته، دفع ضريبة غالية من حريته وصحته وماله وأهله، وإذا كان "البنا" استشهد ودفع دمه ثمنًا لدعوته، فإن الثمن الذي قدمه آل الهضيبي كان فادحًا أيضًا.

برز من تلاميذ "البنا" رجال يُشار إليهم اليوم بالبنان وكانوا وما زال بعضهم أعلامًا كالشيخ "محمد الغزالي" رحمه الله، والشيخ "القرضاوي" حفظه الله.

وواصل تلاميذه من بعده مسيرة الدعوة والجماعة وتوالى على قيادتها بعد "الهضيبي" مرشدون أعلام كـ"التلمساني" الذي كتب قصيدة حب عن "البنا" في كتابه "الملهم الموهوب" و"أبوالنصر" الذي عدَّ "البنا" أباه الروحي و"مشهور" الذي اجتهد في توضيح معالم الدعوة كما كتبها "البنا"، و"الهضيبي الابن" الذي جدد في فكر الجماعة، ولم يقدس اجتهادًا كان مناسبًا لوقته، واليوم "عاكف" المرشد السابع الذي تربى أيضًا على يد "البنا" وورث منه سعة الأفق ومرونة الحركة والقدرة على الاستيعاب.

نفتقد اليوم "حسن البنا"؛ لأننا في أمسَّ الحاجة إلى شخصية تترجم مدرسته إلى واقع ملموس، في غيابه وفي ظل الحظر على فكره ورسائله، شوَّه البعض اجتهادات الشهيد "سيد قطب"، ووصل في فهمه إلى مزالق التكفير والعنف، فأصاب الإسلام ما أصابه من رذاذ وتطايرت الاتهامات لتكدر صفو الإسلام وتربطه بالإرهاب، واليوم ما أمس الحاجة إلى مرجعية إسلامية تعيد صورة الإسلام ناصعة وتقدمه دواءً للعالمين ورحمة للبشرية الحائرة المضطربة، وتقود مسيرة الشباب المتعطش لخدمة هذا الدين، والجماعة التي أنشأها "البنا" قادرة بإذن الله تعالى أن تسد هذه الثغرة الخطيرة إذا رُفِعَ الحظر عنها ومارست نشاطها بحرية، وقدمت المزيد من خدماتها للوطن الإسلامي وللعالم كله.


  • من قيادات الإخوان – الأمين المساعد لنقابة الأطباء المصرية.

المصدر