العبادة وتكوين المسلم

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الحاج فؤاد الهجرسى يكتب : العبادة وتكوين المسلم


بقلم الشيخ: فؤاد الهجرسي

للعبادة في الإسلام أهميتها في تكوين المسلم؛ ليكون عبدًا ربانيًّا، ولها أهميتها في تهيئته وإعداده وإصلاحه؛ ليتمكن من دخول الجنة، ومن التنعم بنعيمها.

من أين جئت؟ ما مهمتي في الحياة؟ إلى أين المسير أو المصير؟

حين نُعمل العقل ونتدبر، نعلم عن طريق القطع واليقين، أن مجيئنا للحياة له موجد فعله مدير حكيم سبحانه وتعالى.

ولما كان مديرًا لأمره حكيمًا في فعله، فلا يمكن أن يكون وجودنا- عن طريقه- عبثًا أو بلا هدف، إنما وجدنا لعلة عرّفها لنا ووضحها في كتابه العزيز: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾ (الذاريات).

دليل ذلك: أنه جلَّ شأنه لما لفتنا إلى الكون من حولنا ننظره كان ذلك، لنرى الحكمة مثلاً في خلق الشمس والقمر والكواكب والنجوم، ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)﴾ (يونس)

كذا لفت أنظارنا إلى أجزاء في الكون من أرض وشجر ونبات ونخيل وحيوان ودواب، وما إلى ذلك كله في دقة صنعة مع دقة إدارة وتدبير.

ونحن ضمن مخلوقات الكون خلقنا بنفس الدقة، ونعيش داخل إطار التدبير، ونزيد على المخلوقات الأخرى زيادات كثيرة، فقد خلقنا في أحسن تصوير، ورزقنا العقل الذي يهدينا سواء السبيل، وسخر لنا الخلائق.

وقد قيل: الماء للنبات، والنبات للحيوان، والحيوان للإنسان، وحين يبلغ العقل فينا مداه ونسير مع التسلسل ونقول: والإنسان لله، والله الذي خلقنا موجود، نحس ذلك في لحظة نحتاج فيها إليه، فنناديه ونناجيه في مثل هذه الإشارات:

﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾ (الروم: من الآية 33).
﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (لقمان: من الآية 32).
﴿وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ (الإسراء: من الآية 67).

سئل جعفر الصادق رضي الله عنه عن الله فقال للسائل: ألم تركب البحر؟ قال بلى، قال: فهل حدث مرة أن هاجت الريح عاصفة؟ قال: نعم. قال: وانقطع أملك في الملاحين ووسائل النجاة؟

قال نعم.. قال: فهل خطر ببالك وانقدح في ذهنك أن هناك من يستطيع أن ينجيك إن شاء؟

قال: نعم، قال: فذاك هو الله.

وبعد استقرار هذا في الجنان- أن الذي أوجدني هو الله، وقد ميزني بالعقل، وسخر لي الكون- أدرك أن مهمتي في الحياة هي عبادته بما شرع، وشكره على ما وهب، كما أدرك أن المصير إليه محتوم في يوم له شهرته وهيبته ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾ (الشعراء).

﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه (8)﴾ (الزلزلة).

هذا.. وقد عمى وضل من قال عن الدنيا إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع، ويقال لهم: (أيستوي من عاش عمره للناس وقد حرم نفسه راحتها في خدمة الآخرين، مع من عاش لرغباته وشهواته على حساب إمكانيات الآخرين؟!).

لو كان الأمر كذلك، ففيم تميز الإنسان عن غيره من أصناف الحيوانات الأخرى.. أترونه مساويًا لها في مهمة المتعة والطعام، كما قال تعالى ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) (محمد: من الآية 12).

في حين قد سبق الكلام عن المؤمنين في صدارة الآية بما يوضح كرامتهم ﴿إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ (الحج: من الآية 14).

ذلك لأنهم يعرفون كيف جاءوا ويعرفون مهمتهم في الحياة، وهم على يقين بالمصير.

الإنسان الذي كرَّمه الله بالعقل وحسن الصورة، لم يخلق للدنيا وحدها لكن الدنيا خلقت له إنما خلق لدار الخلود، وما هذه الدار إلا محطة لتتزود بما يفيد وما هذه الدار إلا تهيئة واستعداد للقاء الكبير المتعال.

وهناك يُجزى كل بما قدم ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19)﴾ (الأحقاف).

والعاقل الفاقه من يتزَّود من دنياه بزاد التقوى متَّبعًا أوامر الله ومنتهيًا عن نواهيه، والحياة الدنيا فرصة بين يديه يعدل نفسه ويصلحها حتى يليق بالخلود المنعم في الآخرة: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)﴾ (الذاريات).

والعبادة الصحيحة الخالصة توصل للجنة: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ (محمد: من الآية 15).

ولا يطيق التعامل مع أنهار الجنة هذه إلا الذين أصلحوا أنفسهم، وعدلوها وفق شرع الله سبحانه وتعالى.

على هذا لم يوجد الإنسان في الدنيا عبثًا، ولم يميز فيها سدى، إنما المهمة العبادة التي تَرقَى به ليصلح لنعيم الآخرة، وليتمكن من التعامل مع أنهار الجنة، ولعل هذا هو الذي دفع بأحد الصالحين فقال يخاطب من حوله: "إنكم خلقتم للأبد وإنما تنقلون من دار إلى دار"، ودفع بآخر فقال: "ما الموت إلا رحلة غير أنها: من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي".

وقال الثالث: "الدنيا مرحلة إعداد وترفيه لابن آدم، فطوبى لمن أصلح نفسه بما شرع الله تعالى".

فما العبادة التي يصلح بها الإنسان لدار الخلود؟

يقول الإمام ابن تيمية رضي الله عنه في كتابه "العبودية": "هي الخضوع للمعبود مع تمام الولاء والحب له سبحانه وتعالى".

ويقول: "لا يستحق الخضوع والمحبة إلا لله وكل الخضوع لغير وجهه باطل، وكل حب لسواه فاسد".

ثم ذكر الآية الكريمة: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ﴾ (التوبة: من الآية 24).

ومن هنا نفهم أن العبادة: طاعة لله والتزام بشرعه في ولاء وحب لوجهه الكريم.

وهو أمر ميسور: "إذ الإنسان مجبول على حب 5 أشياء، مردها كلها لله تعالى، وإن عقل.. انصرف حبه الخالص له".

يقول الإمام الغزالي في إحيائه- وأنقل بتصرف-: جُبل الإنسان على:

1- حبه لوجود نفسه، وكمال بقائه، والله أوجده.
2- وحبه لمن يحس إليه لتمام وجوده وبقائه، والله يحسن إليه.
3- وحبه لمن يحس لكل الناس، والله يحس لكل الناس.
4- وعلى حبه لكل جميل في ذاته ظاهرًا أو باطنًا، والله مصدر كل جمال في الوجود.
5- وحبه لمن تكون بينه وبينه علاقة منفعة.. والله وحده به النفع والضر وليس سواه.

والله الذي وجبت له العبادة هو الذي يسر هذه الفطر والعادات.

أخيرًا العبادة معاناة ومكابدة؛ لأنها قسر النفس على غير ما تهوى، والصلاة عند مرضى النفوس تضييع للوقت فهم لا يصلّون، والصوم إضعاف للجسد فهم لا يصومون، والزكاة تقليل للمال فهم لا يزّكون وهكذا، لكن أصحاب الهمم القوية والفقه بالدين يقسرون نفوسهم على ما لا تهوى ويلوون عنانها إلى طاعة الله تعالى رجاء المزيد من الخيرات.

قال أحد الصالحين يخاطب نفسه:

ذريني أنل ما ينال من العلا
فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين إدراك المعالي رخيصة
ولا بد من دون الشهد من إبر النحل

وقال ربنا وهو أصدق القائلين:﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)﴾ (آل عمران).

وتنظر حواليك ترى الذين جاهدوا أنفسهم وأصلحوها بالدخول في طاعة الله تعالى، رقى بهم الحال، وهم في الدنيا ما يزالون- حتى احتملوا أمانة هذا الدين.. ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ) (الأحزاب: من الآية 72﴾.

أقول وأسأل الله تعالى أن يوفقني إلى قول صحيح: "لم يحملها الإنسان على إطلاقه، ولكن الذين جاهدوا أنفسهم الذين قالوا لها: ذريني أنل ما ينال من العلا.. الذين كابدوا مشقات أوقات السحر، تاركين مضاجعهم، واقفين بين يدي ربهم ركعًا سجدًا، يعدلون نفوسهم ويصلحونها بطاعة الله بشرع الله وأولئك هم الذين احتملوا الأمانة وأدوها أوفى أداء.

المصدر