العازفة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
العازفة

15 اكتوبر 2009

بقلم: نيفين مسعد

أخذت حلقات الدخان تتصاعد من الِشيَش التى تقبض على مباسمها شفاه نساء كثيرات ورجال، ومضت ترسم فى الهواء أشكالا عبثية لفَت ركاب المركب المتهادية فوق نيل القاهرة بغلالة رمادية رقيقة.

أما هى، فلولا برودة الليل التى تلفح من تسول له نفسه الصعود إلى أعلى المركب ما أجبرها شىء على البقاء فى السفح المغلق.

منطق غريب أن يخيروا الراكب بين دخان الشيشة ولسعة البرد، لكن لا بأس ساعة وتعدى.. قالت لنفسها. هى تمقت هذه العادة المنتشرة فى بر مصر، ولا تعرف أجاءتنا من المشرق العربى أم من شبه الجزيرة؟ المهم أنها جاءت وصارت من متممات المزاج ومجسدات التناقض فى سلوكنا.

أما المزاج فهو معروف، وأما التناقض فلأن من يحرم التدخين قد يحلل الشيشة، ولأن المجتمع الذى لا يرتاح للسيجارة فى يد المرأة تأقلم بسرعة مدهشة مع مشهد المرأة المُشيشة. استطاعت الشيشة أن تعبر حاجز الجنس، كما سبق لها أن عبرت حواجز السن والطبقة.

ولأنه لا مهرب لها من الرحلة ولا حيلة لها فيها، جالت ببصرها داخل المركب تتلهى عن شعورها بالاختناق أو تحاول. كان كل من فى المركب يحمل معنى القطيعة عن جندول محمد عبدالوهاب وعلى محمود طه، وهذا طبيعى فالمركب غير الجندول، والأهم أننا لم نعد فى زمن على محمود طه.

كانت جدران المركب المطلية بطلاء أزرق مقشور تعلوها لوحات فقيرة الإبداع تحاول أن تكرس فى نفوس الركاب أن المياه تحيط بهم من يمين وشمال، فهى دائما لبحار وشلالات وصخور.

على مقربة من الدَرج المُفضى إلى أعلى المركب كان هناك ميكروفون وآلة قانون، تذكرت لحظتها أنها قرأت فى ذيل قائمة الطعام جملة تفيد بأن عزفا موسيقيا يتخلل الرحلة النيلية، فلماذا لا تظهر الفِرقة إذن لتبدد إحساسها بالملل وتشغلها عن مطاردة دوائر الدخان؟ بدأ أعضاء الفرقة يتوافدون.

كانت الفرقة تتكون من ثلاثة أشخاص، رجلان وامرأة تأبط أحدهم عودا وحمل الآخر دفا واستقرت المرأة أمام آلة القانون، وعلى الفور ملأت أرجاء المكان دندنات تجريبية خافتة فى انتظار صافرة البداية، تساءلت فى سرها: ترى من يعطى إشارة البدء؟ كانت المرأة فى العقد الرابع من عمرها شعرها الرمادى معقوص إلى الخلف بغير اهتمام، على وجهها أقل القليل من مساحيق التجميل، وفوق أنفها نظارة سميكة سوداء الإطار تدل على ضعف إبصارها.

من اللحظة الأولى التى اتخذت فيها العازفة مقعدها أمام القانون أخذت تسدل جيبتها أسفل ركبتها بطول شبرٍ أو يزيد، وبشكل عام كانت هيئتها وقورة ومتواضعة، ترى ما الذى أدخل هذه المرأة عالم الفن والموسيقى؟

الموهبة أم الحاجة المادية أم المصادفة؟... جذبت العازفة اهتمام صاحبتنا من الوهلة الأولى وامتد حبل الود بينهما على غاربه من دون سبب واضح.

بدأت الفرقة عزفها فأخذت صاحبتنا من المكان ومن فيه، كان اختيار المقطوعات الموسيقية يدل على شىء مختلف يهدهد السمع ويصفّى الروح ويجدد الذكرى.

عزفت الفرقة أغانى الفن والنيل نجاشى وفى الليل لما خِلى. وعلى الرغم من المتعة الكبيرة فى الإصغاء إلى العازفين الثلاثة، إلا أنها منحازة على الأرجح حين تقول إن نغمات المرأة العازفة كانت هى الأطرب فى أذنيها. أو لعل الأمر يختلط فى حكمها فلا تعرف على وجه الدقة هل هى أحبت العازفة من باب الحب لآلة القانون، أم أن روعة العزف هى مبرر حبها لعازفة القانون.

الأرجح أن السببين يجتمعان، حتى إذا انفردت المرأة بعزف المقدمة الموسيقية لرائعة أم كلثوم هجرتك أحست صاحبتنا بالتوحد التام مع العازفة وهى تلمس فى رفق المحب أوتار القانون بإبرتين فضيتين تلمعان فى سبابتيها اليمنى واليسرى. الآن عرفت أن العازفة ما مشت فى طريق الفن إلا عن هوى.

فجأة انقطع انسجامها مع اللحن بفعل حركة غير عادية بين أعضاء الفرقة الموسيقية، واقتحمت نغمة نشاز لأول مرة فى هذه الليلة عزف فنانة القانون.

انتبهت صاحبتنا، فوجدت العازفة تركز بصرها على أرضية المركب بحثا عن شىء مفقود، لكن لا الضوء الخافت ولا ضعف النظر كانا يسعفانها فى العثور على ضالتها. ترى عن أى شىء تبحث المرأة؟

انتقل اضطراب أعضاء الفرقة إلى صاحبتنا وارتفع منسوب فضولها إلى أقصاه. لاحظت أن المرأة تعزف بسبابة واحدة، فقدت إذن الإبرة الأخرى من السبابة اليمنى وارتبك العزف.

مسكينة هذه المرأة لا شك أن ألف خاطر وخاطر يشتعل بها رأسها: إحراجها أمام ركاب المركب، خوفها على لقمة العيش، َعطلة آخر الليل، أجرة التاكسى، مصير الإبرة نفسها.

عندما توقف عزف هجرتك أو كاد، علا ضجيج الركاب فلا شك أنهم أدركوا أن فى الأمر مشكلة وإن لم يعرفوا بالضرورة طبيعتها، تمتمت فى غيظ لماذا لا تكتفى الفرقة بآلتين اثنتين وتنهى الموقف برمته؟ قليل من الناس يُحسن التفكير فى وقت الأزمات وهى منهم على أى حال.

بشىء من التردد انحنى حامل الدُف على أرضية المركب ودقق النظر فيها والتقط منها شيئا، كان على طرف لسانها أن تذهب إليه وتسأله: وجدتها؟ لكن انفراج أسارير العازفة الوقورة أهداها إجابة سؤال لم تسأله، تحسست العازفة جيبتها بحركة لا شعورية وتسلمت عهدتها فعادت تلمع فى يمناها الإبرة الفضية من جديد، فتحت بعزفها الشجى منفذا صغيرا لهواء نقى يغالب طبقات الدخان الخانق، وإن لم يعد يفصل المركب عن مرساه إلا أمتار.

المصدر