الطلبة والمحنة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الطلبة والمحنة (محنة حادثة المنشية)

موقع ويكيبيديا الإخوان المسلمين (إخوان ويكي)

مقدمة

ترك حادث سيطرة بعض شباب النظام الخاص على المركز العام أثرا كبيرا في النفوس، كما استطاع عبدالناصر أن يزيد الفرقة بين رجال النظام الخاص المفصولين وقادة الجماعة، وحدثت حالة من التيه الذي اعترى الكثير من شباب ورجال الدعوة، فأصبحوا لا يقفون على صواب الأمر بسبب تضارب الكلام والتصريحات، وغياب قادة الإخوان لفترة خلف السجون من يناير حتى مارس من عام 1954م.

في هذا التوقيت كان عبدالناصر ما زال الشخص النكرة الذي لا يعرفه الكثيرين، ولا يعرف الشعب تاريخه، بل كان في المشهد السياسي هو اللواء محمد نجيب الذي التف حوله الشعب وبعض ضباط الجيش.

يقول محمد حسنين هيكل في كتابه عبد الناصر... والعالم: وقد حقق محمد نجيب شعبية كبرى واغترف كل المجد بينما ظل عبد الناصر خلف الصفوف في الظل يفكر دائما ويبدو دائما للناس رجلا عبوسا وهكذا أسيء فهمه. (1)

ويقول مايلز كوبلاند في كتابة الشهير لعبة الأمم:

إن عبد الناصر نفسه لم يكن ذا ماضي عسكري عريق حتى يشكل عنصر دعاية ولم يكن حتى ليدرك العقبات التي تعترض اتصاله بالشعب مباشرة فقد اعترف عبد الناصر يومها بأنه جاهل بأصول التقرب إلى الجماهير المصرية...
ومن هنا.... وعلى ضوء الطريق إلى حكم مصر .. كان لابد من نهر للدماء يعبر بها عبد الناصر بشراعه الإعلامية المخططة ليتسلط على حكم مصر.
فقد تم اجتماع عقب توقيع الاتفاق ضم بول لينيارجر مسئول الدعاية السوداء والذي قام من قبل بتخطيط إعلامي لتصعيد ونجومية عبد الناصر وكذلك عبد الحكيم عامر وزكريا محي الدين وحسن التهامي وعبد القادر حاتم وبالطبع عبد الناصر نفسه.
وفي هذا الاجتماع كما يروي حسن التهامي فإن بول لينيارجر ردد بأنه لدية علم بنفسية الشعوب في الشرق... فهذه الشعوب عامة وعلى حد تعبيره عاطفية من الدرجة الأولى تمجد وتحب من يقع تحت وطأة الظلم أن الغبن أو تظهر عليه علامات رضا الله عنه.
وكان بول لينيارجر من أصل صيني عاش بالصين حتى ثورة ماو ثم رجل إلى الولايات المتحدة الأمريكية للعمل بها.
وعندما حضر إلى القاهرة في مارس 1954 وعقب الأزمة الشهيرة فكان ذلك بغرض الدراسة والتحليل والتحضير والتجهيز لعبد الناصر حتى يمكنه من السيطرة على مشاعر الشعب المصري وكسب عاطفته في أقصر وقت ممكن وإحاطته بما لم يحط به محمد نجيب.
وكان اقتراح بول لينيارجر في هذا الاجتماع افتعال محاولة للاعتداء على حياة عبد الناصر تكون سليمة التدبير، وتقوم بها عناصر مختارة في هذا الصدد، فتكون عملية إطلاق الرصاص على عبد الناصر عملية تمثيلية صورية محكمة وذات تأمين كاف لتنفيذها؛
وهذا الحدث في حد ذاته سيجذب مشاعر الشعب المصري نحوه لما يراه فيه من مظاهر الشجاعة أثناء ثباته في هذا الموقف وعدم خوفه أو اهتزازه وأنه قد نجا منه بأعجوبة تثير المشاعر، كما ستقوم أجهزة الإعلام والرأي العام بصياغة الحدث بصورة مؤثرة في مشاعر الشعب لجذب عواطفه وتعاطفه نحو عبد الناصر...
وفي ذات الوقت ينزاح محمد نجيب من مركز الصدارة حيث تتاح الفرصة المواتية لعبد الناصر أن يفعل ما يريد في أثناء هذه النشوة الشعبية التي تنجرف نحو عقب هذا الحديث. (2)

غيوم المحنة

لم تطل فترة الصلح بين الإخوان والثورة؛ فسرعان ما تحول الصفاء إلى كدر، والصحو إلى غيم، وكان لذلك أسباب شتى؛ بعضها نفسي يتعلق بموقف عبد الناصر من الهضيبي، وعدم استراحته له.

وغيرها من الأسباب مثل أن عبد الناصر يريد أن يحكم البلد وحده، لا يشاركه أحد في حكمها، ولا ينتقده في رأي، وقد قال ذلك للأستاذ فريد عبد الخالق في إحدى جلسات الحوار معه: أنا أريد أن أضغط على زر فتتحرك البلد من الإسكندرية إلى أسوان، وأضغط على زر آخر فتتوقف البلد.

والإخوان يصرون على عودة الحكم النيابي البرلماني للبلاد، وعودة الحريات العامة، ومنها حرية الصحافة، وقد وعد رجال الثورة بذلك، وجعلوه من مبادئهم الستة التي أعلنوها من أول الأمر.

وكان الأستاذ الهضيبي لا يكل ولا يمل من المطالبة بعودة الحياة الديمقراطية والنيابية للبلاد، ويرى أنه لا خلاص لمصر إلا بها، كما كان ينادي باستمرار بتحكيم الشريعة الإسلامية، واتخاذها مصدرا للتقنين.

كما وجد عنصر جديد زاد العلاقة توترا، والنار اشتعالا، وهو الاتفاقية الجديدة التي عقدها عبد الناصر مع بريطانيا، ولم يرها الإخوان محققة لكل آمال البلاد، بعثوا مذكرة مفصلة إلى حكومة الثورة برأيهم في الاتفاقية وملاحظاتهم عليها، وقد أغضب ذلك عبد الناصر، وزاد من تدهور الوضع.

ولم يكن الإخوان وحدهم هم الذين نقدوا الاتفاقية، فقد نقدها كذلك الرئيس محمد نجيب، وكان لا يزال رئيسا للجمهورية.

وأوعز عبد الناصر ببدء حملة صحفية إعلامية على الإخوان، وعلى الأستاذ وأعوانه خاصة؛ سعيا لإيجاد معارضة للمرشد داخل الجماعة، مؤيدة منه، ومسنودة من قبله، وهو ما حدث بالفعل. وفي هذا الوقت قُبض على بعض الإخوان للتحقيق معهم، وتعرضوا لتعذيب بشع داخل السجن، أذكر منهم الأستاذ محمد مهدي عاكف، ولا أذكر من كان معه. (3)

يقول البغدادي:

لقد اتخذ عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة قرارات غريبة، حيث قرروا رفت بعض الطلبة نهائيا من الجامعة، وحرمان البعض من دخول الامتحان النهائي لنفس العام. (4)
في ظل هذا الجو وقعت حادثة المنشية في 26 أكتوبر 1954م، وأخذت سيارات الشرطة تجوب المدن والقرى لتحصد كل من ينتسب للإخوان على اختلاف درجات الانتساب والفئات.

ولقد تحركت جموع هيئة التحرير إلى المركز العام للإخوان المسلمين وقاموا بحرقه، يقول عباس السيسي:

وذات ليلة...وكنا في معسكر ننصت لخطاب جمال عبد الناصر الذي ألقاه من ميدان المنشية في 26 أكتوبر 1954 عندما فوجئنا بأصوات طلقات نارية... فلم نصدق آذاننا... بل منا من تخيل أنها طلقات طائشة من معسكرنا...
وتوقفت الإذاعة لثوان وإذا بصوت جمال عبد الناصر يعود قويا متحديا وهو يصيح «أنا فداء لمصر».
وانقلب المعسكر ... وتدفق عليه الناس من بيوتهم حيث كانوا يسمعون أجهزة الراديو أو تبلغهم أصوات الميكروفونات التي ثبتناها في أرجاء الجي... وأصبح المناخ ناريا... وبدأت الهتافات للثورة ولجمال عبد الناصر...

وجاء من يقول:

الإخوان المسلمون هم الذين حاولوا اغتيال الرئيس!!
وكأن الخبر كان أمرا للجماهير بأن تتحرك واندفعوا يهتفون...أحيانا لا تستطيع أن تقود الجماهير بل هي التي تقودك ووجدتهم يتجهون إلى ميدان الحلمية بالقرب من المعسكر حيث المركز العام للإخوان المسلمون.. .وفجأة رأينا ألسنة النار تتصاعد من المبنى، فقد جرى البعض إليه... وأشعلوا فيه النار انتقاما لزعيمهم جمال.

يقول اللواء محمد نجيب في حديث له مجلة " اقرأ " السعودية:

" هناك في مكتبي قرأت الصحف الصادرة في الصباح فإذا بها تذخر بأخبار مختلفة تماما عن ثبوت اتصالي بمؤامرة الإخوان المسلمين على حياة جمال عبد الناصر .
هنا أقطع سياق كلامي لأعلن لأول مرة في التاريخ سرا من أدق ما يمكن من إسرار ثورة 23 يوليو وهو أن مؤامرة إطلاق الرصاص على عبد الناصر في الإسكندرية كانت مؤامرة وهمية من أولها لآخرها وكانت مرتبة بواسطة رجل من أجهزة المباحث العامة في مصر كوفئ على ذلك فيما بعد بمنصب كبير واستؤجر في هذه المؤامرة شاب مصاب بجنون العظمة وأغرى بأنه لو اعترف بأنه حاول قتل جمال عبد الناصر فسينال مكافأة مالية ضخمة ويسمح له بالهجرة إلى البرازيل وقد كانت المكافأة الوحيدة التي تلقاها هي إعدامه بدلا من تهريبه كما وعدوه حتى يموت ويموت السر معه. (5)

وقد علق اللواء طيار المتقاعد عبد الحميد الدغيدي على الحادث بقوله :

ذهبت مع السيد حسن إبراهيم عضو مجلس قيادة الثورة السابق لمعاينة شرفة مبنى بورصة الإسكندرية سابقا ومقر الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي بالإسكندرية حاليا فقد كان من المقرر أن يلقي رئيس الجمهورية السابق محمد نجيب خطابا سياسيا من هذا المكان .
واتضح لنا من المعاينة أن السور المحيط بالشرفة عال بحيث طلبنا من قائد المنطقة الشمالية وقتئذ إعداد ما يقف عليه محمد نجيب أثناء إلقاء الخطاب ليشاهد الناس ويشاهدوه هذا من ناحية .
ومن ناحية أخرى فقد جمعني مجلس عقب إطلاق الرصاص بميدان المنشية على الرئيس جمال عبد الناصر مع النائب العام الأسبق سليمان حافظ الذي أشرف على التحقيق مع المتهم فسألته : هل عاينت مكان الحادث ؟ فأجاب بالنفي ثم استطرد قائلا : ولكن المتهم اعترف . .
وللتاريخ والإنصاف أقول أن أي فرد أو جماعة كانت تدبر حادث الاغتيال المشار إليه ما كانت تختار هذا المكان لتنفيذ خطتها فسور الشرفة كما أوضحت لا يسمح بدقة التصويب خاصة وأن الذي سبق لهم الاستماع إلى خطب ميدان المنشية ما كانوا يرون الرئيس الراحل بوضوح إلا على بعد يزيد على الثلاثمائة متر وتلك المسافة تخرج عن المرمى المؤثر لإطلاق المسدس كما أن الجمهور المتزاحم حول المقدم على الاغتيال لا يسمح له باتخاذ وضع التنشين على الهدف بالدقة والسرعة المطلوبة .
صحيح أنه حدثت إصابات نتيجة إطلاق النار لكن الواضح أنه إطلاق رصاص طائش مما يوحي بأنه لم تكن هناك خطة جادة للاغتيال ولكن خطة لأمر آخر !! " (6)
ولم نستطع وفئة عاقلة أن نوقف اندفاع الجماهير أو حتى أن نخمد النار، وجاءت سيارات الإطفاء ولكن الشعب الذي تجمع بالآلاف في الميدان مزق بالمدي خراطيم المياه، واستحال ليل الحلمية والدرب الأحمر وعابدين إلى نهار... فقد أضاءته النيران التي حرقت مركز الإخوان...
وحين أطمأنت الجماهير إلى احتراق المركز ....اتجهت إلى محطة الشكة الحديدية وهي تزأر بالهتاف لعبد الناصر ... واستقلت قطارًا إلى الإسكندرية حيث أكملت مظاهراتها المنادية بالثأر. (7)

أثر الحادثة علي الطلبة

لقد تم القبض على الكثير من الطلبة في هذه المحنة بحجة أنهم أعضاء في النظام الخاص، أمثال الطالب رشاد البيومي والسيد الريس ومحمد النصيري وعزت حسن غريب وغبرهم، والذي حكم عليهم بأحكام قاسية قضوها خلف القضبان، بل استشهد بعضهم داخل السجون.

شكل مجلس قيادة الثورة محاكمة سميت محاكمة الشعب بالإضافة لثلاث دوائر أخرى لمحاكمة الإخوان في القاهرة والأقاليم ، وكان على رأس المحكمة الأولى والتي حاكمت كبار الإخوان الضابط جمال سالم ومحمد أنور السادات وحسين الشافعي، وقدر صدر قرار بتشكيلها أول نوفمبر 1954م وقد حوكم أمامها كبار الإخوان من مكتب الإرشاد والذين لهم صلة بحادث المنشية كما جاء في الادعاء.

وكانت الدائرة الأولى برئاسة اللواء صلاح حتاتة وعضوية البكباشي محمد أبو اليسر الأنصاري والبكباشي البحري أحمد صلاح الدين بدر، وقد حوكم أمامها أعضاء النظام الخاص بوسط القاهرة وكان منهم الطالب عبدالحليم احمد قنديل الطالب بكلية الزراعة وكان يبلغ من العمر 23 عاما. (8)

وكانت الدائرة الثانية برئاسة الأميرالاي حسين محفوظ ندا وعضوية الصاغ محمد محمد محمود حجازي والصاغ صلاح شهيب.

وكانت الدائرة الثالثة برئاسة قائد الجناح عبدالرحمن شحاته عنان وعضوية البكباشي جلال محمد زكي والبكباشي أحمد فؤاد عبداللطيف وتولى الادعاء البكباشي خليل حسن خليل المدعي العام بمحكمة الشعب (ويظهر من ذلك أن الخصم والحكم واحد وهم العسكر). (9)

لقد زج بعدد كبير من طلبة الإخوان في آتون هذه المحنة، بل وحكم عليهم بأحكام قاسية، ومنهم:

  1. الطالب السيد عبدالله الريس، وكان طالبا بالفرقة الرابع بكلية الآداب، بالإضافة انه كان يعمل في مصلحة الدمغة، وقد التحق بالإخوان المسلمين عام 1948م، ثم بعدها التحق بالتنظيم الخاص، وكان يتبع شعبة بين السريات بالجيزة، غير انه من مواليد عرب جهينة بالقليوبية، وقد اتهم بأنه كان ضابط الاتصال في النظام الخاص والمختص بالأسلحة، وكان قد شارك في حرب العصابات ضد الإنجليز عام 1953م وقت جلوس الحكومة المصرية مع الطرف البريطاني. (10)
  2. الطالب محمد علي نصيري: كان طالبا في الفرقة الثانية بكلية الحقوق، وهو من مواليد الزقازيق الشرقية، وانقل للعيش في بين السريات لقربها من جامعة القاهرة، وهو من مواليد عام 1934م، وانضم للإخوان المسلمين عام 1949م، وكانت تهمته محاولة قتل جمال عبدالناصر.وقد تشكلت مجموعته من السيد عواد وأحمد الفيومي وعلي شاهين ويوسف عليان وطلعت إبراهيم وسلامة خليل. (11)
  3. الطالب حامد عبدالفتاح نويتو (وهو شقيق الحاج علي نويتو) وكان طالبا في الثقافة، بالإضافة لعمله مطبعجي في الجامعة، وهو من مواليد عام 1931م، التحق بجماعة الإخوان المسلمين في مارس 1950م والتحق بالنظام الخاص، وكانت مجموعته مكونه من نائب الشعبة الأستاذ مصطفى الورداني وحلمي عرفة وحسن عبدالعظيم ويوسف السيد وسامي الكومي. (12)
  4. الطالب إسماعيل عارف رزق، الطالب بكلية الزراعة بجامعة القاهرة، ومن مواليد عام 1928م، وانتسب للإخوان عام 1947م، وكانت تهمته الانتساب للنظام الخاص. (13)
  5. الطالب صلاح يوسف شلبي الطالب بالسنة الثالثة بالأزهر ويبلغ من العمر 15 عاما، وقد قبض عليه أثناء توجهه إلى إحدى شقق الإخوان المسلمين، ووجهت له تهمة توزيع منشورات تدافع عن المعتقلين في حادثة المنشية، وقد حكم عليه بـ 10 سنوات مع الأشغال الشاقة. (14)
  6. الطالب محمد علي أبو خضرة الطالب بالأزهر الشريف والذي اتهم أنه كان يخطب الجمعة ضد رجال الثورة، وقدم للمحاكمة أمام الدائرة الأولى، وكان معه في نفس القضية الطالب حسن علي عبدالنبي الطالب بكلية التجارة والذي انضم للإخوان عام 1952م بشعبة منية شبين القناطر وقد حكم عليه بـ 10 سنوات مع إيقاف التنفيذ، وأيضا الطالب سلامة بكر عبدالواحد الطالب بكلية دار العلوم وهو من القوصية وتعرف على الإخوان في الجامعة وقد حكم عليه بالبراءة. (15)
  7. الطالب رشاد البيومي والذي ولد عام 1935م والتحق بكلية العلوم جامعة القاهرة، وتعرف على الإخوان أثناء حرب فلسطين عام 1948م، وكان مسئول الإخوان في كلية العلوم عام 1954م وقبض عليه في حادثة المنشية وحكم عليه بالسجن 10 سنوات،وخرج عام 1965 غير أنه لم يكمل الشهر حتى تم اعتقاله وظل به حتى عام 1971م، وبعدما تخرج أعيد قيده بالفرقة الثانية في 5/ 1/ 1972م. (16)

لم يكن هؤلاء هم كل الطلبة الذين عانوا من محنة 1954م، بل هناك الكثير والكثير، بعضهم أفرج عنه بعد عامين والبعض الأخر ظل خلف السجون حتى خرج في أوائل السبعينات بعد وفاة جمال عبدالناصر.

لقد زج بهؤلاء الشباب إلى غياهب الجب، وصب عليهم العذاب ألوانا،يقول حسين حمودة راسما المشهد المرعب بقوله:

وهنا تقشعر الأبدان لذكرى تلك الشنائع التي كان أعوان جمال عبد الناصر يوقعونها على الأبرياء من الإخوان المسلمين مما سوف يسجله التاريخ في صفحات الوحشية التي لا يسبق لها مثيل في صحيفة من صحائف المظالم من يوم أن خلق الله الإنسان، فكم من نفوس قتلت ورجال صلبت وجسوم مثل بها وهي على قيد الحياة. (17)
لقد نالوا قسطهم الوفير بالسجن الحربي، حيث حمزة البسيوني إلا أنهم صبروا واحتسبوا لله، وبعض استشهد وورى جسده في صحراء السجن الحربي؛

ومن هؤلاء الشهيد عزت حسن غريب والذي كتب عنه الدكتور رشاد البيومي فقال:

ما أروع مشهد عمر شاهين، وأحمد المنيسي، وعادل غانم شهداء معارك القناة، وغيرهم من شباب هذه الجماعة المباركة، وما أكرم هذه النفوس على الله، ودعوة لشبابنا أن يتعلموا منهم ويقتفوا أثرهم..
واليوم أقدم لكم نموذجًا آخر لما عايشته عن قرب، ولم يغب عن ذاكرتي، ولم أكن يومًا لأنسى ذلك الوجه المشرق تزينه ابتسامة الرضا التي تنبئ عن قلب كريم صاف يملؤه الود والتجرد والإخلاص.
إنه الأخ المرحوم "عزت حسن غريب"، قُبض عليه من إمبابة عام 54، وحوكم أمام المحكمة الهزلية التي شكلها عبد الناصر، وحكم عليه بالسجن 10 سنوات.
كان طالبًا بالثقافة وهي السنة التي تسبق السنة النهائية في المرحلة الثانوية (التوجيهية)، وكان عمره 19 عامًا، شعيرات قليلة تتناثر على ذقنه حرصًا منه على تزكية نفسه باتباع السنة، لا تراه إلا ذاكرًا تتمتم شفتاه بالذكر، والتسبيح في كل وقت وحين..
تراه متطوعًا لخدمة إخوانه في سجن أسيوط، يحرص على أن يكون أول من يتقدم ليعطي، وآخر من يطلب لنفسه..
ومن الأمور التي لا أنساها أنه كان في كل يوم، وقبيل إقفال الزنازين يمر علينا ليسلم علينا فردًا فردًا، ولما سُئل عن سبب حرصه على ذلك قال: "أريد أن أبيت، وليس في قلب أي واحد من إخواني أدنى شيء من ضيق".. يا لهذا القلب الكبير، وما أعظم هذه النفس الزكية الطاهرة.
أذكر له موقفًا لا أنساه، ويظل دائمًا يلح على خاطري، فقد اختارني الإخوان في أسيوط بأن أكون مسئولاً عنهم (إعمالاً للسنة المطهرة، "إذا كنتم ثلاثة فأمروا أحكم"، وهكذا كانت طبيعة الإخوان دائمًا، بالانتخاب الحر المباشر يختارون من يقوم على شأنهم في كل عام، يا له من مجتمع تزينه الشورى، وتضبطه الضوابط الشرعية).
وبعد اختياري لهذه المهمة الصعبة جاءت وفود الإخوان تقدم التهنئة لثقة الإخوان، وبعد أن انصرفت الوفود جاءني الأخ عزت على استحياء يذكرني بواجبي وبحق الله، وحق إخواني ويطلب مني أن أعد نفسي لهذا الأمر بما يقتضيه، وظل يذكرني وينصحني حتى أبكاني، وظلت كلماته تطرق مسامعي كلما تعرضت لمثل هذا الابتلاء إلى وقتنا هذا..
ودارت بنا الأيام، وأصابنا وباء الإنفلونزا الآسيوية، والسجون تعتبر مرتعًا خصبًا لمثل هذه الأوبئة، وشمر إخواننا الأطباء عن سواعدهم وقاموا بأجل، وأعظم الجهود، وقسمت الزنازين، جزء للعزل وجزء للإقامة، وتعاون الإخوان جميعًا في أداء الواجب حتى مرت الأزمة بسلام.
وتقدم الأخوة الأطباء (الدكتور محمود الجندي د. نجيب الكيلاني "رحمهما الله" والدكتور أبو بكر عثمان والدكتور يحيى عبد الغفور) بطلب لإدارة السجن لاستقدام عربة أشعة للكشف على الإخوان خشية المضاعفات التي تصاحب هذا الوباء.
وكانت النتائج كلها طيبة فيما عدا حالة الأخ عزت حسن غريب؛ فقد تبين أنه أصيب بنزلة شعبية حادة نقل على إثرها للمستشفى، ولكن إمكانيات المستشفى العلاجية لم تكن كافية فقد أصيب أخونا بمرض صدري (السل)، وتم حجزه على الدوام بحجرة مرضى السل بالمستشفى.
أذكر له موقفًا لا أنساه فقد تم حجزي بالمستشفى لطارئ ألم بي، وتصادف أن جاء والد المرحوم (عزت لزيارته)

وجلست معهم فترة ذكرني والده بما يلي:

إن ابني عزت "هو ابن موت"، هكذا عبر، "فهو إنسان متجرد عابد حريص على أداء السنة، فهو غريب عن هذا المجتمع"، وحكي لي هذه القصة قائلاً: "أعمل عطارًا في الأزهر، وفي أحد الأيام كنت أحمل الصغير عزت متوجهًا إلى دكاني فتعثرت رجلي فوقعت على الأرض، ووقع معي عزت، ولشدة ضيقي وجهت إليه اللوم "لأني اضطررت لحمله" وضربته ضربة خفيفة فبكى ثم وجه إليه كلام، قائلاً: "ها أنت ضربتني لأنني صغير ولم أفعل شيئًا، وغدًا سوف أكبر، وتصغر أنت، وأحملك، ولكن إذا حدث، ووقعنا فلن أعنفك ولن أضربك"، هكذا كان في صغره، واستمر كذلك حتى مماته.
واشتدت العلة على أخونا، ولم تكن الرعاية الطبية كافية لعلاجه فرحل إلى مصحة أمراض السل بليمان طرة فزادت العلة، ولكنه في أشد الأوقات حرجًا كان أكثر الناس حرصًا على التزام السنة، حتى أنه "وكان لا يستطيع الكلام" إذا أرادوا خلع ملابسه لعمل أشعة على الصدر يقدم يده اليسرى، ويصر على هذا، وإذا أرادوا إلباسه ملابسه يقدم يده اليمنى.
وظلت هذه النفس الأبية تحرص على أداء الفرائض، والسنن في مواقيتها حتى خرجت روحه الزكية تشكو إلى الله ظلم، وجور ذلك المتجبر الذي نسى الله فأنساه نفسه.
ولقد تواترت التقارير الطبية من الأطباء المختصين مطالبةً بالإفراج الصحي عنه، ولكن تأبى هذه النفوس أن يجري على يديها الخير، يريدون أن يبوءوا بإثمهم ليكونوا من أصحاب السعير..
رحم الله عزت، وأسكنه فسيح جناته، وجزاه الله عما قدم، وعمل، ونسأل الله أن يلحقنا به في مستقر رحمته. (18)

لقد عمد قادة مجلس قيادة الثورة إلى علماء الدين ليبرروا أفعالهم، ويشنوا هجوما على الإخوان وكثير منهم استجاب لذلك إما خوفا على نفسه، أو على رزقه، أو خوفا من الاعتقال، غير أن بعضهم كانت له مواقف سطرت بمداد من نور ومنهم خالد محمد خالد، الذي حكى موقفه أحد الضباط الأحرار وهو أبو الفضل الجيزاوي؛

حيث قال:

كنت يومها مسؤولا عن التوجيه المعنوي للجيش ، حيث قامت الثورة بضرب الإخوان عام 1954 .. اشترينا كل الأقلام وسخّرناها للهجوم عليكم ، وخاصة فتاوى العلماء ومن لهم وزن في الحفل الإسلامي ، ولم يعد أمامنا سوى قلم خالد محمد خالد الذي سيفوق وزنه كل ما سبق من الأقلام ..
ومعي مجموعة من ضباط الجيش قصدنا منزله ، وعرضنا الأمر عليه قائلين : أعطنا مسودة هجومك علي الإخوان ، وقدر بنفسك ما تشاء من ثمن ، ونحن سنطبع منها ما تشاء من أعداد .. ولوَّحنا له في حالة الرفض بالمصير ، فلم يهتز له طرف ، وأجابنا في هدوء :
لقد جاء عرضكم السخي في وقت أحتاج فيه للجنيه الواحد لدفع إيجار شقتي الذي تأخرت في دفعه شهرين لأول مرة لخلو يدي ، ومع هذا يمنعني من الاستجابة لطلبكم ثلاثة موانع :
الأول: أن الكاتب الحر تنبع فكرة الكتابة من نفسه ، ولا تفرض عليه .
الثاني: أنه ليس من المروءة أن أجهز علي الإخوان وهم في محنتهم ، عاجزين عن الرد عن أنفسهم .. حتى لو كان لي رأي خاص فيهم .
الثالث: أن سكوتكم أنت علي ما يُفعل بالإخوان من أساليب ديكتاتورية سيجعل عبد الناصر يستمريء هذا الأسلوب مع البلد كلها بعد ذلك ، وستكونون أنت من أول الضحايا. (19)

المصادر

  1. محمد حسنين هيكل: عبدالناصر والعالم، دار النهار، 1972م
  2. مايلز كوبلاند: لعبة الأمم، ترجمة مروان خير، مكتبة الزيتونة، لبنان، ط 1، 1970م
  3. يوسف القرضاوي: مرجع سابق، الجزء الثاني، ص 64
  4. مذكرات عبد اللطيف البغدادي: مرجع سابق، ص 171
  5. محمد نجيب: مجلة اقرأ السعودية.
  6. عبدالحميد الدغيدي: هذا رأي في حادث المنشية، مجلة تعاون الطلبة
  7. عباس السيسي: جمال عبدالناصر وحادث المنشية بالإسكندرية، دار الطباعة والنشر والصوتيات.
  8. صحيفة الجمهورية: الأحد 2 يناير 1955م، ص 6
  9. وثيقة قرار مجلس قيادة الثورة بتشكيل محاكم الشعب. موقع إخوان ويكي تحت عنوان وثائق حادث المنشية ومحكمة الشعب.
  10. كمال كيرة: محكمة الشعب، الجزء الأول، شركة النيل للنشر والتوزيع، 1955م، ص 109
  11. المرجع السابق: ص 99
  12. المرجع السابق، ص 117
  13. المرجع السابق: 147
  14. صحيفة الجمهورية: 4 يناير 1955م، ص 8
  15. المصدر السابق
  16. موقع ويكيبيديا الإخوان المسلمين (إخوان ويكي)، الدكتور رشاد البيومي ... والكتابة على جدران الزمن.
  17. حسين حمودة:أسرار حركة الضباط الأحرار والإخوان المسلمون ، للتحميل Pdf.png، مرجع سابق
  18. رشاد البيومي: موقع إخوان أون لاين، 3/ 10/ 2010م، عزت حسن غريب.. شهيد سجون عبد الناصر
  19. عبدالحليم خفاجي، عندما غابت الشمس، دار النذير بالمنصورة، ص 465