الدين والدولة وتطبيق الشريعة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الدين والدولة وتطبيق الشريعة

الدكتور محمد عابد الجابرى

منتدى سور الأزبكية

مركز دراسات الوحدة العربية

مقدمة

ضرورة المرجعية المنفتحة

كثر الحديث فى السنين الأخيرة عن " الدين والدولة " فى الإسلام وعن " تطبيق الشريعة" .

وقد لاحظنا أن معظم ما اطلعنا عليه من المؤلفات والمقالات التى تتناول هذا الموضوع، من هذه الزاوية أو تلك، وبهذا الدافع أو ذاك، يكتسي طابعا سجاليا صريحا أو غير صريح.

والخطاب السجالى خطاب توجهه الرغبة فى إبطال رأى الخصوم أكتر من أي شيء آخر. إنه خطاب الردود والردود على الردود، وبالتالي فهو لا يبنى معرفة ولا يبرهن على حقيقة .

هناك من الكتاب من يحاول تجاوز السجال المباشر إلى نوع من البحث عن " وجهة نظر جديدة " أو " قراءة معاصرة".

وهم فى الغالب ينطلقون فى ذلك، إما من فرضيات توضع وضعا من دون أن يكون هناك، لا فى النصوص الدينية ، ولا فى التجربة التاريخية العربية الإسلامية، ما يساندها، وإما من تأويل لبعض النصوص تأويلا يحمل الكلمات والسياقات أكثر مما لا تحتمل.

مثل هذه السجالات و" القراءات " تهمل فى الغالب – وقد يفعل بعضها ذلك عن قصد – التمييز بين ما هو معرفي وما هو أيديولوجي، بين ما هو حقائق تاريخية وما هو مجرد هوى ورغبات ذاتية، وذلك سواء فى خطابها هى نفسها أو فى الخطاب الذى تتكلم منه أو فيه أو حوله، خطاب المذاهب والفرق وأصحاب " المقالات" والمجتهدين، القدماء منهم والمحدثين.

وهذا فى نظرنا خطأ منهجي خطير، ذلك لأن موضوع " الدين والدولة" و" تطبيق الشريعة" من الموضوعات التى تتأثر بالسياسة وتخضع لحاجاتها ومنطقها، بل يمكن القول إن معظم المرجعيات التى يستند إليها الباحثون المعاصرون كانت موجهة بكيفية أو بأخرى بالظروف السياسية التى زامنتها، وإذا كان الباحث المعاصر نفسه ذا ميول سياسية يريد تكريسها، فإن الحقيقة ستتيه وتضيع من دون شك بين معارج سياسة الماضي ومتاهات سياسة الحاضر.

ما نريد أن نخلص إليه من هذه الملاحظات السريعة هو التأكيد على ضرورة بناء مرجعية تكون أسبق وأكثر مصداقية من المرجعيات المذهبية، أعنى تلك التى قامت أصلا كوجهة نظر تروم تأييد موقف سياسي معين.

والمرجعية الأصل السابقة على جميع المرجعيات، فى ا لتجربة التاريخية العربية الإسلامية، هى عمل الصحابة على عهد الخلفاء الراشدين ، ذلك لأنه لما كانت نصوص الكتاب والسنة لا تشرع لشؤون الحكم والسياسة، ولا تتعرض للعلاقة بين الدين والدولة بنفس الدقة والوضوح اللذين تناولت بهما قضايا أخرى كقضايا الميراث والزواج مثلا، فإن المرجعية الأساسية، إن لم نقل الوحيدة، فى مجال العلاقة بين الدين والدولة ومسألة تطبيق الشريعة هى عمل الصحابة.

إنهم هم الذين مارسوا السياسة وشيدوا صرح الدولة وطبقوا الشريعة على أساس فهم أصيل لروح الإسلام سابق لأنواع الفهم الأخرى التى ظهرت فى إطار الصراعات والنزاعات والخلافات التى عرفها تاريخ الإسلام منذ النزاع بين على ومعاوية.

سيقال إن عهد الخلفاء الراشدين شهد هو الآخر خلافات سياسية واختلافات فى الرأي ، وهذا صحيح، فخلافاتهم واختلاف آرائهم وطريقة حسمهم لتلك، وتجاوزهم لهذه ، تشكل عنصرا أساسيا فيما نسميه هنا" عمل الصحابة" إذ ليس هناك عمل من دون خلاف واختلاف.

إن اعتماد عمل الصحابة على عهد الخلفاء الراشدين مرجعية أساسية- ووحيدة إن اقتضى الحال- لا يعنى الحكم بالخطأ أو بالانحراف على جميع المرجعيات الأخرى التى شيدها أئمة مجتهدون كانوا على درجة كبيرة من المعرفة والنزاهة والموضوعية، كلا، كل ما فى الأمر هو أنه يجب النظر إلى هؤلاء المجتهدين بوصفهم رجالا شيدوا لعصورهم مرجعيات توخوا فيها أن تجيب على ما طرح فى تلك العصور من مستجدات من جهة، وأن تنظم الاجتهاد وتضع له قواعد من جهة أخرى.

وبما أن عصرنا نحن يختلف اختلافا كبيرا عن العصور الماضية ويطرح من المشاكل والمستجدات ما لم يكن يخطر على بال أولئك المجتهدين الواضعين لقواعد وأصول إنتاج المعرفة الفقهية، فإن الحاجة تدعو إلى الرجوع إلى الأصل كما كان منفتحا وغير مقنن قبل " ظهور الخلافة" وقيام المذاهب الفرق، أي كما كان زمن الخلفاء الراشدين.

ذلك أن القواعد والأصول التى وضعها المجتهدون لتنظيم الاجتهاد فى عصورهم كانت وسيلة مفيدة، وربما ضرورية أولا لإنتاج المعرفة الفقهية ( فقه الدين وفقه السياسة) ، وثانيا لجعل هذه المعرفة مسيجة بضوابط تقي من الفوضى وتكبح الهوى.

ولكن هل يجب الأخذ بتلك القواعد والأصول على أنها ضرورية دوما ومفيدة دوما؟ إن القواعد والأصول المنظمة للمعرفة هى ، كالقواعد المنهجية بصورة عامة، مجرد وسائل .

وإذا لم تتطور الوسائل بتطور العلم والمعرفة، وإذا لم ترق إلى مستوى تطور الموضوع الذى هى وسيلة إليه، فإنها تصبح قيودا تجمد المعرفة عند حد معين فتكرس التقليد وتقتل روح الاجتهاد.

لنأخذ كمثال على ما نقول قاعدتين أصوليتين تترددان على الألسن بكثرة هذه الأيام: القاعدة التى تقول " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" والقاعدة التى تقرر أن " الأحكام تدور مع عللها وليس مع حكمها" .

هاتان قاعدتان منهجيتان من وضع الفقهاء والأصوليين ، ونحن لا نطعن فيهما جملة وتفصيلا.

ولكننا نريد أن نعتبرهما كما هما فى حقيقتهما، أي بوصفهما تنتميان إلى المنهج الذى يضعه المجتهد لنفسه، وأنهما ليستا جزءا من الدين. والمنهج طريقة يختارها الباحث أو المجتهد.

وهناك من المجتهدين ممن اختاروا منهجا فى إنتاج المعرفة الفقهية لا يعترف بهاتين القاعدتين . والصحابة لم يتقيدوا بأية قواعد من هذا النوع، ولم تكن مثل هذه المصطلحات معروفة فى عصرهم، فمفهوم الخصوص والعموم والتمييز بين العلة والحكمة... الخ.

مفاهيم وتصورات منطقية لم تعرفها الثقافة العربية الإسلامية إلا انطلاقا من عصر التدوين، العصر العباسي الأول.

صحيح أن الباحث يستطيع أن يتبين فى " عمل الصحابة" ما يمكن أن يعتبر معبرا عن العمل بهذه القاعدة أو تلك، ولكن صحيح أيضا أن الصحابة لم يتقيدوا دائما لا بهذه القاعدة ولا بتلك، بل إن المبدأ الوحيد الذى كانوا يراعونه دوما هو المصلحة، ولا شيء غيرها.

وهكذا فكثيرا ما نجدهم يتصرفون بحسب ما تمليه المصلحة، صارفين النظر عن النص حتى ولو كان صريحا قطعيا ، إذا كانت الظروف الخاصة تقتضى مثل هذا التأجيل للنص، كما سنبين لاحقا.

وعصرنا اليوم له حاجات ومشاغل خاصة به تختلف عن تلك التى أملت على الفقهاء والأصوليين القدامى قواعدهم ومناهجهم.

إن معالجة مشاغل عصرنا ومشاكله تتطلب تجاوز القيود المنهجية التى قيدي بها المعرفة الدينية فى الماضي، أعنى التعامل معها بمرونة والنظر إليها من زاوية النسبية ومن منظور تاريخي.

وإذا كنا هنا ندعو إلى وضع الاجتهادات السابقة والمذاهب الماضية بين قوسين والرجوع مباشرة إلى " عمل الصحابة"، فلأن الموضوع الذى نعالجه موضوع ذو طبيعة دينية من جهة أولى ، والدين لابد فيه من الرجوع إلى " الأصل" ومن جهة أخرى،إن " عمل الصحابة" فى المجال الذى نتحدث عنه كان مطبوعا بالنسبية والنظرة التاريخية، مما يجعل عملهم ذاك مفتوحا ملهما يفتح الباب للتجديد والاجتهاد، كما سيتضح من خلال الأمثلة التى سنوردها.

تحدثنا عن ضرورة إعادة بناء المرجعية الفقهية باعتماد عمل الصحابة، وعلينا أن نشير قبل أية خطوة نخطوها على هذه السبيل إلى أننا نقصد بـ " عمل الصحابة" مجموع ممارساتهم السياسية والتشريعية، العملية منها والقولية.

يتعلق الأمر إذن بتجربة تاريخية كانت مؤطرة، كغيرها من التجارب، بالمعطيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التى كانت تشكل قوام التاريخ والمجتمع فى عصرهم.

فلنبدأ إذن بإبراز هذه المعطيات ، أي الحقائق التاريخية الاجتماعية التى كانت تؤطر فى عهدهم موضوع " الدين والدولة" على أن نعود بعد ذلك إلى موضوع " تطبيق الشريعة".

الحقيقة الأولى هى أن العرب حين البعثة المحمدية لم يكن لهم ملك ولا دولة. لقد كان النظام السياسي الاجتماعي فى مكة ويثرب ( المدينة) نظاما جماعيا قبليا لا يرقى إلى مستوى الدولة التى قوامها أرض ذات حدود معلومة وجماعة من الناس تسكن هذه الأرض وسلطة مركزية تنوب عنهم فى تدبير شؤونهم الجماعية، وفق قوانين وأعراف، وباستعمال العنف إن اقتضى الحال هو : العنف الذى تحتكره باسم الجميع ولصالح الجميع... لم يعرف عرب الجزيرة قبل الإسلام مثل هذه السلطة لا فى القرى ولا خارجها، وذلك هو مضمون " الجاهلية" التى وصف بها الإسلام حياة العرب قبل البعثة المحمدية، والتي تعنى لا الجهل بمعنى انعدام العلم وحسب، بل أيضا الحالة المرافقة والملازمة له، وبالخصوص منها عدم التقيد بقانون أو نظام، وغياب النظرة الشمولية التى تجعل المصلحة العامة فوق كل اعتبار.

- الحقيقة الثانية هى أنه مع البعثة المحمدية بدأ المسلمون يمارسون الدين الجديد، ليس فقط كموقف فردى إزاء الرب المعبود ( الله) ، بل أيضا كسلوك جماعي منظم. وقد أخذ هذا السلوك الجماعي يتسع ويزداد تنظيما مع تطور الدعوة المحمدية إلى أن بلغ ذروته بعد الهجرة إلى المدينة .
- ومع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بالفعل رئيس الجماعة الإسلامية وقائدها ومرشدا، فلقد رفض رفضا باتا متكررا أن يسمى ملكا أو أن يعتبر رئيس دولة. لقد كان يعتبر نفسه ويعتبره المسلمون، نبيا رسولا كما وصفه القرآن.
- وقد خاض حروبا، وقاد حملات ، ونظم شؤون الجماعة وسهر على وحدتها، وبعث بعوثا، وعين عمالا... الخ. ولكنه فعل ذلك بوصفه زعيما سياسيا ، أو قائدا عسكريا بل بوصفه صاحب دعوة وناشر دين جديد.
- والفرق بين الوضعيتين هو أن الزعيم السياسي والفاتح العسكري يقصران اهتمامهما على شؤون الدنيا وحدها، شؤون الحكم والسياسة، وما يرتبط بهما من أمور اقتصادية واجتماعية وثقافية يؤول أمرها كلها إلى الوجود البشرى فى هذا العالم .
- أما النبي الرسول فهو يركز اهتمامه ودعوته على المصير بعد الدنيا، على شؤون الآخرة.

وما عدا ذلك كله، أي ما يفرضه تطور الدعوة إلى الله والعمل لليوم الآخر من تنظيم لشؤون الدنيا، سواء على صعيد العبادات أو المعاملات ، أو الجهاد، أو العلاقات مع الديانات والأمم الأخرى، فجميعه غير مقصود لذاته، بل هو كله من أجل الدين وشره والدفاع عنه.

- الحقيقة الثالثة هى أن هذا الذى فرضه تطور الدعوة المحمدية من تنظيم لشؤون الدنيا، دنيا الرسول وأصحابه، قد بلغ مع نهاية الدعوة درجة من الاتساع والإحكام والبنينة جعلت أصحاب الرسول وأقرب الناس إليه يشعرون أن غياب الرسول سيترك فراغا مؤسساتيا.

فالدعوة قد انتهت إلى تأسيس دولة أو ما يشبه الدولة. فإذا كان الدين هو وحى من الله لا يمكن أن يرثه أحد من الرسول، ولا أن يخلفه فيه، فإن التنظيم السياسي الاقتصادي الاجتماعي الذى نما بنمو الدعوة وانتشارها يحتاج إلى من يرعاه ويدبره ويسهر على حسن سيره بعد وفاة الرسول.

ولم يكن هذا التنظيم السياسي الاقتصادي الاجتماعي يحمل اسما سياسيا ، فلقد رفض الرسول أن يسمى ملكا، ولم يكن هناك فى قاموس اللغة العربية مصطلح آخر للرئاسة السياسية غير مصطلح الملك، وهو مصطلح رفضه الإسلام وشجبه، باعتبار أن " الملك"الوحيد هو الله .

من أجل هذا أطلق الصحابة على معنى الملك لفظا عاما هو " الأمر" .

وهكذا صارت عبارة " من سيتولى هذا الأمر" تدل على ما تدل عليه عبارتنا المعاصرة: " من سيرأس الدولة" كما أن عبارة " ليس له فى الأمر شيء" تعنى فى هذا السياق : لا حق له فى الملك والرئاسة .

وواضح أن هذه التسمية هى من قبيل تسمية الشيء بوظيفته : فوظيفة رئيس الدولة هى إصدار الأمر ( والجمع أوامر).

قلنا كان هناك شعور عام لدى الصحابة، قبيل وفاة الرسول، بالحاجة إلى " من سيتولى الأمر" من بعده. من ذلك ما يذكره المؤرخون القدامى من أن العباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أثار المسألة مع على بن أبى طالب عندما كان النبي مريضا مرضه الأخير، إذ قال له : " ادخل على النبي واسأله إن كان الأمر لنا بينه، وإن كان لغيرنا أوصى بنا خيرا" .

وتقول الرواية إن عليا امتنع لأنه خاف أن تكون النتيجة سلبية إن هو سأل النبي، فيحرم الهاشميون من الخلافة إلى الأبد.

وهذه تدل دلالة واضحة على أن الصحابة كانوا يشعرون بأن الدعوة المحمدية قد تطورت فعلا.

- الحقيقة الرابعة هى أن القرآن الذى تحدث مرارا وبوضح عن " الأمة" ، أمة الإسلام والمسلمين " كنتم خير أمة أخرجت للناس" قد تجنب الحديث عن النظام السياسي الاجتماعي الذى بات يجسد تلك الأمة فى دولة .

فعلا، لقد قرر القرآن تشريعا وحدودا، وحل وحرم ، وفرض فرائض ، منها ما يقوم به المرء بنفسه، ومنها ما هو عمل جماعي، ومنها ما يحتاج فى تنفيذه إلى من يتولى " الأمر" فيه.

وقد دعا القرآن بصريح العبارة المسلمين إلى إطاعة هؤلاء " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم" ، كما ندد القرآن بالاستبداد والاستكبار وأثنى على الشورى والإحسان والعدل... الخ.

ولكنه لم ينص لا على أن أمة الإسلام يجب أن يتطابق معها " ملك" الإسلام أو " دولة " الإسلام، ولا على من يخلف الرسول فى تدبير شؤون هذه الأمة، ولا حتى على ضرورة أن يكون هناك من يخلفه فى ذلك، بل ترك المسألة للمسلمين وكأنها داخلة فى قوله عليه السلام:" أنتم أدرى بشؤون دنياكم".

وأول مبادرة يذكرها المؤرخون فى هذا الشأن هو ما يروى من أن ابن عباس عم النبي قال لعلى بن أبى طالب عندما لفظ النبي أنفاسه الأخيرة: " ابسط يدك أبايعك فيقال: عم رسول الله بايع على ابن عم رسول الله ، ويبايعك أهل بيتك، فإن هذا الأمر إذا كان لم يقل" فأجابه على : " ومن يطلب هذا الأمر غيرنا" .

وتضيف الرواية أن العباس كان قد سأل أبا بكر وعمر إن كان الرسول قد أوصى بشيء، فأجابا بالنفي.

ومهما يكن من صحة أو عدم صحة هذه الرواية، فإن الثابت تاريخيا هو أن الأنصار بادروا إلى الاجتماع فى سقيفة بنى ساعدة لاختيار " من يتولى الأمر" من بينهم ، وأن أبا بكر وعمر وآخرين من المهاجرين نازعوهم فى "الأمر".

- الحقيقة الخامسة هى أن النقاش الذى جرى فى سقيفة بنى ساعدة، والذي أسفر فى النهاية عن مبايعة أبى بكر خليفة للرسول ( يخلفه : بمعنى يتولى " أمر " المسلمين بعده) كان نقاشا سياسيا محضا، وقد حسمه ميزان القوى السياسي / الاجتماعي ( القبيلة) . لقد سبق أن عرضنا بإسهاب فى مكان آخر تفاصيل ذلك النقاش.

فلا داعي للانشغال بها هنا، فلنذكر فقط بالنتيجة العامة التى انتهينا إليها، بعد البحث والتقصي، وهى أن الصحابة عالجوا مسألة خلافة النبي معالجة سياسية محض.

لقد اعتبروا القضية مسألة اجتهادية ، وتعاملوا معها بوصفها كذلك، فاعتبروا ميزان القوى وراعوا المقدرة والكفاءة ومصلحة المجتمع الاسلامى الوليد، وكان ذلك محكوما بمنطق " القبيلة " ، أعنى مراعاة التوازنات، كما هو الشأن فى المجتمع القبلي عموما، أما " العقيدة" فقد كان المهاجرون والأنصار فيها على درجة سواء: لقد كان القول الفصل للتصريح الذى أدلى به أبو بكر قائلا:" لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش".

وهذا حكم موضوعي يقرر أمرا واقعا، وقد سلم الأنصار بذلك عندما تحرك فيهم مفعول " القبيلة" الضيق( التنافس بين الأوس والخزرج) ، وأيضا عندما رأوا أن منطق المهاجرين هو الراجح فى ميزان اعتبار المصلحة العامة المشتركة.

هذا ولا داعي هنا للوقوف مع ما يروى من تردد وتأخر بعض قرابة الرسول فى مبايعة أبى بكر، كعلي وفاطمة والعباس، والزبير بن العوام، وبعض المستضعفين من الصحابة، كالمقداد وسلمان وأبو ذر وعمار بن ياسر... الخ.

ولا داعي كذلك للتذكير بالطريقة التى بويع بها عمر وعثمان وعلى ، والتي اعتمدت كذلك النقاش والمشاورة وميزان القوى. إن السياسة، وليس الدين، هى التى كانت ميدانا للنقاش والخلاف، وفى إطارها وقع الحسم واتخذ القرار.

من هذه الحقائق التاريخية يبدو واضحا أن مسألة " العلاقة بين الدين والدولة" لم تطرح لا فى زمن النبي ولا فى زمن الخلفاء الراشدين.

أما فى زمن النبي ، فلقد كان الجهد كله متجها إلى نشر الدين والدفاع عنه، وكان " الأمر " كله فى هذا الشأن لصاحب الرسالة: للوحي الذى كان ينزل عليه ولاجتهاده الشخصي واجتهاد صحابته.

ولم يكن أحد منهم ينظر إلى هذا " الأمر" على أنه " ملك" ، فلقد كان لفظ " الملك" ممجوجا مرفوضا، ولا على أنه " دولة" فلم يكن لفظ " الدولة" يعنى ما يعنيه اليوم ، بل كان معناه، كما جاء فى لسان العرب: " الدولة بالفتح والدولة بالضم: العقبة فى المال والحرب" ، أي انتقالهما من حال إلى حال.

ومنه تداول المال بين الأيدي ( وأيضا تداول الناس الخبر) ، وكذلك : " الأيام دول" .

وفى القرآن عن المال : " كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم " ، وعن الحرب: "وتلك الأيام نداولها بين الناس" ( تارة ينتصر هذا الفريق، وتارة ينتصر فريق آخر).

ولم يكن المسلمون زمن الصحابة ينظرون إلى الإسلام على أنه " دولة " بهذا المعنى، معنى الشيء الذى تتناقله الأيدي والذي يختفي بعد وجود...الخ.

كلا، لقد كان المسلمون ينظرون إلى الإسلام على أنه الدين الذى يختم الأديان جميعا ، والذي سيبقى قائما إلى يوم القيامة ، ولذلك ربطوه بـ " الأمة" ونسبوا الأمة إلى الإسلام ورسول الإسلام: أمة الإسلام، أمة محمد.

والأمة بهذا المعنى كيان اجتماعي وروحي لا يتوقف وجوده على أي تنظيم سياسي.

وهكذا فإذا كانت الأمم السابقة قد أنشأتها " دول"، أعنى النظام السياسي العسكري الذى يقيمه الفاتحون مؤسسو الدول ، فإن أمة الإسلام، فى نظر المسلمين ، قد نشأت من خلال الدعوة المحمدية وتبلور كيانها، قبل أن تتطور تلك الدعوة فى النهاية إلى ذلك التنظيم السياسي الذى نسميه اليوم دولة.

ولم يظهر مصطلح " الدولة" كمصطلح سياسي إلا مع انتصار الثورة العباسية حين جرى على لسان العباسيين وأنصارهم قولهم: " هذه دولتنا" ، أو ما يشبه ذلك، إشارة إلى انتقال " الأمر" إليهم من يد الأمويين.

ومن هنا جاءت على لسان المؤرخين عبارات: " الدولة الأموية" ، " الدولة العباسية" " دولة معاوية" ، " دولة هارون الرشيد"... الخ.

وهى عبارات تفيد انتقال " الأمر" من أسرة إلى أخرى ، ومن ملك إلى آخر، وهى مصطلحات تجد معناها الأصلي فى قوله تعالى: " وتلك الأيام نداولها بين الناس".

لم تكن العلاقة بين الدين والدولة، إذن ، من المفكر فيه، لا زمن النبي ولا زمن الخلفاء الراشدين، وإنما الذى صار مركز التفكير والاهتمام منذ أن مرض الرسول مرضه الأخير هو ما عبر عنه المتكلمون فيما بعد بمصطلح " الإمامة" أو الخلافة الكبرى فى الإسلام.

يقول أبو الحسن الأشعري فى مستهل كتابه مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ما نصه: " اختلف الناس بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم، فى أشياء كثيرة ضلل بعضهم بعضا وبريء بعضهم بعضا، فصاروا فرقا متباينين وأحزابا متشتتين، إلا أن الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم".

ويضيف : " وأول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم اختلافهم فى الإمامة" ، ثم يذكر اجتماع سقيفة بنى ساعدة والنقاش الذى جرى فيها.

ويعطينا الشهرستانى فى كتابه الملل والنحل قائمة بالأمور التى اختلف فيها المسلمون زمن النبي وبعده فيقولك " وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف فى الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة فى كل زمان".

ثم يذكر اختلاف الأنصار والمهاجرين حول تعيين خليفة للنبي، ثم شكوى بعض الصحابة من تعيين أبى بكر لعمر بن الخطاب قائلين : " لقد وليت علينا فظا غليظا" ، واختلاف " أهل الشورى" أي الستة الذين عينهم عمر لاختيار الخليفة من بينهم بعد وفاته ، وقد اختير عثمان حول مآخذ أخذوها عليه، وهو الخلاف الذى تطور إلى ثورة دموية ذهب ضحيتها عثمان نفسه، ثم اختلاف طلحة والزبير وعائشة مع على بن أبى طالب وخروجهم عليه، والحرب بينه وبينهم، ثم الخلاف بين على وعاوية والحرب بينهما وحروب على مع الخوارج... الصحابة، أعنى ما جرى على عهد الخلفاء الراشدين.

وبما أن المسألة السياسية كانت فى هذا العهد موضوع خلاف متشعب كما رأينا فلقد تنوعت النظريات والآراء حول الإمامة والخلافة وتباينت إلى حد التناقض ، لأن كل صاحب رأى كان يختار مما جرى على عهد الخلفاء الراشدين ما يصلح أن يكون مرجعية لرأيه ، أي ما به يبرر موقفه السياسي من مسألة الحكم فى عصره.

وإذا نحن نظرنا إلى جميع النظريات والآراء التى أدلى بها المتكلمون والفقهاء فى موضوع الإمامة من منظور العلاقة بين الدين والدولة ، أمكن حصرها فى مواقف ثلاثة:

1- الموقف الأول يرى أصحابه أن الإمامة، أي تنصيب الإمام، وبالتالي إقامة الدولة فى المجتمع الاسلامى، فرض من فروض الدين وركن من أركانه.
فالإمامة عند هذا الفريق، وهم الشيعة " ليست قضية مصلحية تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم- كما يقول الشهرستانى- بل هى قضية أصولية، وهى ركن من الدين لا يجوز للرسل عليهم السلام إغفاله وإهماله ولا تفويضه إلى العامة وإرساله" أي تركه للناس من دون سابق تحديد.
ويضيف الشهرستانى شارحا وجهة نظر الشيعة قائلا:" ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص، وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوبا على الكبائر والصغائر" .
ويقول الشيعة بناء على ذلك:" إن النبي نص على على بن أبى طالب خليفة وإماما من بعده، وأن عليا نص ووصى ، وكذلك فعل الأئمة من بعده من ذريته ونسله...".
2- الموقف الثاني مناقض تماما للأول يرى أصحابه أن الإمامة ( والدولة) ليست بواجبة، بمعنى أن الدين لا ينص على وجوب إقامتها، ولا على وجوب تركها، بل ترك أمرها للمسلمين ، فإن هم استطاعوا نصب إمام عادل من دون إراقة الدماء، ومن دون حروب وفتن، فذلك أفضل، وإن هم لم يفعلوا ذلك، وتكفل كل واحد منهم بنفسه وأهله، وطبق أحكام الشريعة كما هى منصوص عليها فى الكتاب والسنة، جاز ذلك وسقطت عنهم الحاجة إلى إمام. وقد قال بهذا الرأي بعض أوائل الخوارج و" النجدات" أتباع نجدة الحنفي زعيم فرقة من الخوارج، كما قال به أيضا فريق من المعتزلة على رأسهم أبو بكر الأصم وهشام بن عمر الفوطى وعباد بن سليمان...
ويشرح الشهرستانى رأى هذا الفريق فيقول: " قالت النجدات من الخوارج وجماعة من القدرية ( يقصد المعتزلة) مثل أبى بكر الأصم وهشام الفوطى إن الإمامة غير واجبة فى الشرع وجوبا لو امتنعت الأمة من ذلك استحقوا اللوم والعقاب ، بل هى مبنية على معاملات الناس.
فإن تعادلوا وتعاونوا وتناصروا على البر والتقوى واشتغل كل واحد من المكلفين بواجبه وتكليفه استغنوا عن الإمام ومتابعته، فإن كل واحد من المجتهدين مثل صاحبه فى ا لدين والإسلام والعلم والاجتهاد، والناس كأسنان المشط، والناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة ( أي حديث: أي متساوون يقل فيهم المقتدر المرضى، كما يندر وجود بعير يقوى على مشاق السفر البعيد) ، فمن أين يلزم وجوب الطاعة لمن هو مثله".
ويعرض الشهرستانى حجج هؤلاء، وهى تتلخص فى القول:" وجوب الطاعة لواحد من الأمة ( أي الإمام) إما أن يثبت بنص من الرسول ، فقد دللتم على أنه لا نص على أحد ( الخطاب هنا موجه إلى أهل السنة أصحاب الرأي الثالث الآتي بعده) ، وإما أن يكون باختيار من المجتهدين، والاختيار من كل واحد من الأمة إجماعا بحيث لا يقدر فيه خلاف، لا يتصور عقلا ولا وقوعا"، أي أن إجماع الأمة على واحد من المجتهدين مستحيل نظريا وعمليا،
وقد برهنت الأحداث على عدم إمكانية الإجماع فى الخلافة الأولى زمن الصحابة: فقد اختلف المهاجرون والأنصار وبايع عمر أبا بكر " فلتة" وارتجالا ، أي من دون مشاورة الناس بسبب استعجال الأنصار، " وفى ا لغد لما بايعوه انحازت بنو أمية وبنو هاشم" عنه فحاولوا حمل على بن أبى طالب على التقدم وطلب البيعة لنفسه ، لكونه أقرب إلى الرسول وأولى بها فى نظرهم... ولذلك، يقول هؤلاء، وإذا لم يتحقق الإجماع على يد الصحابة فلن يتحقق على يد غيرهم.
ومن الحجج التى أدلوا بها لتأييد موقفهم قولهم: إن " نصب الإمامة باختيار، متناقض من وجهين" .
فمن جهة، إذا اختار الناس الإمام وجبت عليهم طاعته، فكيف يكونوا ملزمين بطاعته وهم الذين اختاروه ونصبوه؟ ومن جهة أخرى، فكل واحد من المجتهدين الناصبين للإمامة لو خالف الإمام فى المسائل الاجتهادية جاز ذلك،
وما من مسألة إلا ويجوز للمجتهدين مخالفة الإمام فيها، فكيف نجعله إماما واجب الطاعة بشرط مخالفته إذا أدى الاجتهاد إلى ذلك؟ ويذكر مؤلفو الفرق حججا أخرى للقائلين بعدم وجوب الإمام، منها قولهم إن " تولية الإنسان على من هو مثله ليحكم عليه فيما يهتدي إليه وفيما لا يهتدي إضرار به لا محالة" ،
بمعنى أن نصب الإمام وإقامة الدولة لابد من أن ينشأ عنه ما يضيق على الناس ويحد من حريتهم وهذا إضرار به لا يجوز" ومنها أن الناس قد يثورون ضد هذه المضايقات والأضرار " كما جرت به العادة، فيفضى ذلك إلى الفتنة" ، ومنها أيضا أن الإمام غير معصوم، لأن العصمة للأنبياء وحدهم،
وبالتالي فمن الممكن أن يكفر الإمام ويفسق " فإن لم يعزل أضر بالأمة بكفره، وإن عزل أدى إلى الفتنة" . وإذن فترك نصب الإمام آمن وأفضل.
ولابد من التنبيه هنا إلى أن إدلاء هؤلاء بهذه الحجج ليس معناه أنهم يقولون بعدم جواز نصب الإمام، بل هم يؤكدون فقط عدم الوجوب.

ومعنى ذلك أن إقامة الغمامة( أو الخلافة الشرعية) مسألة لا تدخل فى دائرة ما هو واجب شرعا أو ممنوع شرعا، بل هى من الأمور المباحة التى يجوز العمل بها ويجوز تركها.

ولذلك نجدهم يكررون أنه إذا دعت الضرورة الناس إلى نصب الإمام، فلهم ذلك شرط أن يكون عادلا وأن يبقى عادلا. ويشرح الشهرستانى فكرتهم هذه فيذكر قولهم : " نعم إذا احتاجوا ( اى الناس) إلى رئيس يحمى بيضة الإسلام ويجمع شمل الأنام وأدى اجتهاده إلى نصبه مقدما عليهم جاز ذلك بشرط أن يبقى فى معاملاته على الضفة والعدل، حتى إذا جار فى قضية على واحد وجب عليهم خلعه ومنابذته، وهذا كما فعلوا بعثمان وعلى رضي الله عنهما، فإنه لما أحدث عثمان تلك الأحداث خلعوه، فلما لم ينخلع قتلوه. ولما رضي على بالتحكيم وشك فى إمامته خلعوه وقتلوه".
3- أما الموقف الثالث، فهو فى جملته رد على الموقفين السابقين، وهو موقف عموم أهل السنة وأكثرية المعتزلة والخوارج والمرجئة ، ويجمعهم جميعا القول بأن الإمامة واجبة من جهة، وإنها تكون بالاختيار لا بالنص من جهة أخرى.
وفيما عدا هذا وذاك يختلفون اختلافا كبيرا: فمنهم من يرى أن وجوب الإمامة يفهم بالعقل، ومنهم من يرى أنه يفهم بالشرع، ومنهم من يجمع بين الاثنين .
والخلاف فى هذه المسألة يرجع فى الحقيقة إلى أصول المذاهب القول بأن العقل يدرك بنفسه الحسن والقبيح قالوا إن العقل يقضى أن صلاح الأمة، بمعنى رعاية مصالح الناس ودفع الضرر عنهم، يتطلب إقامة نظام من الحكم فيهم. وإن إدراك الصحابة بعقولهم لهذه المصلحة هو الذى جعلهم يبادرون إلى اختيار خليفة للنبي بمجرد ما علموا بوفاته.

وأما أهل السنة الذين يعارضون المعتزلة فى أصلهم القائل إن العقل يدرك الحسن والقبيح قبل ورود الشرع، ويقررون بالتالي أن المرجع فى ا لتمييز بين الحسن والقبح إنما هو الشرع الذى به نعرف الحلال والحرام، فإنهم—أعنى أهل السنة – يقولون: إن وجوب الإمامة مسألة تدرك وتعرف بالشرع لا بالعقل.

والدليل الشرعي الاساسى، إن لم يكن الوحيد الذى يذكرونه فى هذا الصدد، هو " الإجماع" ، إجماع الصحابة على تعيين خليفة للرسول.

ومعلوم أن " الإجماع" مصدر من مصادر التشريع فى الإسلام عند عموم أهل السنة، ولكنه لم يقرر بوصفه كذلك إلا مع الشافعي، أي بعد نحو قرن ونصف من وفاة الرسول. وواضح أن لجوء أهل السنة إلى "الإجماع " فى الاحتجاج لرأيهم فى هذه المسألة على رغم اختلاف المجتهدين فى حجية الإجماع وزمانه وكيفيته... الخ.

إنما يعكس حقيقة أن القائلين بأن وجوب الإمامة يدرك بالشرع لم يجدوا لا فى الكتاب ولا فى السنة ما به يحتجون لصالح رأيهم.

وبعبارة أخرى، إن المرجع هنا هو التجربة التاريخية للأمة وليس النص الديني.

وكما اختلفوا فى مستند الوجوب، وجوب الإمامة، اختلفوا فى مسألة الاختيار: من يختار الإمام؟

وكم عدد الذين يصح بهم نصب الإمام؟ مما لا حاجة إلى بسطه هنا، ما دام المرجع الوحيد الذى استند إليه القائلون بالاختيار هو التجربة التاريخية للأمة، وهى غنية ومتنوعة تسعف كل صاحب رأى ومذهب بما يؤيد به وجهة النظر التى يتبناها. فلننظر إلى الكيفية التى وظف بها المتكلمون فى الإمامة هذه التجربة.

يمكن على العموم ، تصنيف توظيف المتكلمين فى الإمامة للتجربة التاريخية للأمة إلى ثلاثة أصناف:

1- توظيف من أجل تبرير حوادث واختيارات سابقة، خصوصا تلك التى تنتمي إلى الحقبة التاريخية المرجعية، حقبة الخلفاء الراشدين. لقد شككت بعض الفرق من الشيعة والخوارج فى شرعية الطريقة التى جرى بها " تعيين " الخلفاء الراشدين وطرحوا مسألة الأفضلية.
لقد رأى بعضهم أن على بن أبى طالب كان أفضل من أبى بكر وعمر وعثمان، ومع ذلك جرى تعيين هؤلاء قبله، وفى هذا تولية للمفضول على الأفضل ، وهو مبدأ قبل به الإمام الشيعي زيد بن على وإليه ينتسب الزيدية، وهم معتدلة الشيعة،
وعارضه ورفضه القسم الأكبر منهم فسموا " رافضة" ، وهم الشيعة الإمامية... فآراء المتكلمين فى الإمامة من أهل السنة كانت تهدف أساسا إلى الرد على هذه الشكوك والطعون التى أدلى بها الشيعة بصورة خاصة، مما جعل منها نظريات سياسية فى تبرير ما حدث ، وليس لبيان ما يجب أن يكون.
2- توظيف من أجل تبرير الحاضر وإضفاء الشرعية عليه، وذلك باتخاذ بعض أحداث الماضي أصولا تقاس عليها أحداث الحاضر لتبريرها.
وهكذا اتخذوا من مبادرة عمر بن الخطاب إلى مبايعة أبى بكر فى اجتماع السقيفة أصلا يبررون به القول بجواز انعقاد الإمامة بمبايعة شخص واحد، وذلك لتبرير غياب الشورى فى عصرهم والعصور السابقة.
كما اتخذوا من التصريح الذى حسم به أبو بكر الموقف فى اجتماع السقيفة ، أعنى قوله: " لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش" ، اتخذوا منه أصلا لتبرير شرعية استيلاء أهل الشوكة والغلبة على الحكم بعد الخلفاء الراشدين، باعتبار أن الناس لا ينقادون إلا إلى الأقوى ،
وقد انتهى بهم الأمر فى هذا المجال إلى تكريس نظرية " الشوكة والغلبة" والسكوت عن الشورى ، بل إسقاطها صراحة عندما صاغوا المبدأ القائل:" من اشتدت وطأته وجبت طاعته".
3- وتوظيف من أجل تفضيل " حالة الدولة" – مهما بعدت هذه الدولة عن المثل الأعلى الاسلامى- على " حالة اللادولة" ، وذلك بإبراز الأخطار التى تهدد الأمة والدين فى حال الفتنة والخروج على " الإمام " ، متخذين من النزاع بين على ومعاوية، ومن حرب صفين بصورة خاصة، مثالا لما يمكن أن تؤول إليه الأمور فى حالة الخروج على " الإمام".
ومن ثم اتخذوا مبايعة الحسن بن على لمعاوية، وتسليم الأمر له، أصلا يبرزون من خلاله أهمية ولو كان المخالف صاحب حق.
إن مصطلح " أهل الجماعة" الذى سيرتبط فيما بعد بـ " السنة" ( أي أهل السنة والجماعة) يرجع إلى هذه الواقعة بالذات.
ومن هنا ذلك الاضطراب والتناقض اللذين وقع فيهما منظرو " الإمامة" من أهل السنة : إنهم إذ يجمعون على أن الخلافة انقلبت مع معاوية إلى " ملك عضوض" يجعلون من تنازل الحسن لمعاوية ومبايعته له وانضمام معظم ما تبقى من الصحابة وكثير من التابعين إلى هذه البيعة- يجعلون من ذلك مثالا مرجعيا على الإجماع السياسي، حتى إنهم سموا ذلك العام بـ " عام الجماعة".
وواضح أن الربط بين هذا وذاك وهما مرتبطان تاريخيا وسياسيا ، يجعل " انقلاب الخلافة إلى ملك" قد تم بإجماع سياسي فى " عام الجماعة".

وللتخفيف من مأساوية هذه النتيجة روجوا لحديث نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه : " الخلافة فى أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك" ، ومدة ثلاثين سنة هى مدة خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة.

وهناك حديث آخر أكثر دلالة فيما نحن بصدده يروونه بالعبارات التالية:" قال صلى الله عليه وسلم إن هذا الأمر بدأ نبوة ورحمة وخلافة ثم يكون ملكا عضودا ثم يكون عتوا وجبرية وفسادا فى الأمة".

والأحاديث التى من هذا النوع، وهو فى هذه الحالة يخدم وجهة نظر طرف معين ، وهو فى هذه الحالة يخدم قضية الأمويين، أحاديث مشكوك فيها، والغالب أنها موضوعة .

وإذا كان من الممكن حمل هذا " الحديث" على محمل النقد للأوضاع التى عاشها مروجوه، فإن فيه تعزيزا مباشرا لعملية " انقلاب الخلافة إلى ملك معضوض " بوصفها عملية " تنبأ " بها الرسول.

والمعنى السياسي لهذا النوع من التوظيف للتاريخ وللحديث معا هو تقرير وتكريس مبدأ " ليس فى الإمكان أبدع مما كان".

هذه الأصناف من التوظيف للتجربة التاريخية للأمة فى الفقه السياسي السنة تجعل العلاقة بين الدين والدولة علاقة ملتبسة وغامضة.

غير أن غياب نصوص صريحة واضحة، من القرآن والسنة، تنظم شؤون الحكم والدولة لا يعنى أن الإسلام فى جملته غير معنى بمسالة الحكم، فالتجربة التاريخية للأمة تكذب ذلك تكذيبا : لقد تطورت الدعوة المحمدية زمن النبي نفسه إلى دولة ، وحافظ المسلمون على هذه الدولة، بشكل أو بآخر ، بوصفها ضرورية لحفظ الدين والدفاع عن " الحوزة" ( أرض الإسلام) .

هذا من جهة، ومن جهة أخرى ، فالقرآن والحديث يشتملان على ما يمكن أن يعتبر ، على الأقل، أصولا لأخلاقية الحكم فى الإسلام، مثل مدح الشورى والترغيب فيها، والدعوة إلى إقامة العدل، وإلى ا لتكفل بالفقراء والمساكين ومن فى معناهم، .. الخ.

وواضح أن تجسيم هذه الأصول الأخلاقية فى الدولة يتطلب أن يكون الحكام " علماء" بالدين مخلصين له قائمين بأمره.

فالعلاقة بين الدين والدولة لا تكون علاقة اتصال إلا إذا كان الإمام يشخص وحدة الدين والدولة بوصفه الممثل للأمة المتصرف باسمها.

و" العلم" بالدين هنا لا يعنى مجرد المعرفة بأحكامه، بل أيضا- وهذا أهم- امتلاك القدرة والصلاحية على الاجتهاد فيه اجتهادا يجعل أحكامه تستجيب للتطور وتعتبر وجه المصلحة العامة فى كل وقت وعصر . ولذلك اشترط المتكلمون الأوائل " العلم" فى الإمام.

والجمع فى شخصية الإمام بين الدين والدولة على هذه الصورة، إن تحقق على عهد الخلفاء الراشدين، فقد تعذر بعدهم، ولم تزده الأيام والسنون إلا صعوبة وندرة، وذلك إلى درجة أن كبار علماء الإسلام رأوا فى ذلك قاء وقدرا لا راد لهما.

يقول أبو بكر ابن العربي الفقيه الأشعري الأندلسي المعروف : " كان الأمراء قبل هذا اليوم وفى صدر الإسلام، هم العلماء، والرعية هم الجند، فاطرد النظام، وكان العوام القواد فريقا والأمراء آخر، ثم فصل الله الأمر بحكمته البالغة وقضائه السابق، فصار العلماء فريقا والأمراء آخر، وصارت الرعية صنفا وصار الجند آخر، فتعارضت الأمور ولم ينتظم حال الجمهور، وطرح الناس عن الطريق ثم أرادوا الاستقامة بزعمهم فلم يجدوها ، ولن يجدوا أبدا، فإنه من المحال أن يبلغ القصد من حاد عنه".

وإذا كان ابن العربي يرى أن انفصال الأمراء ع العلماء بعد الخلفاء الراشدين كان قضاء وقدرا، وأنه لا أمل فى العودة إلى ما كان عليه الحال فى صدر الإسلام، فإنه يرى بالمقابل ضرورة استشارة الأمراء للعلماء والعمل بفتواهم.

يقول فى شرح قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم" : " أولى الأمر منك" فيها قولان: أحدهما يرى أن المقصود بهم هم أصحاب السرايا ، أي القادة العسكريون الذين عينهم النبي على سراياه وجيوشه، وهو أقدم القولين .

أما القول الثاني فير أن المقصود بهم هم " العلماء" وهذا هو رأى التابعين والأئمة المتأخرين . ثم يعلق ابن العربي على ذلك قائلا:" والصحيح عندي أنهم هم الأمراء والعلماء جميعا.

أما الأمراء فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم. وأما العلماء، فلأن سؤالهم واجب متعين على الخلق، وجوابهم لازم، وامتثال فتواهم واجب" .

ويبقى السؤال: ومن يلزم الحكام بسؤال العلماء والعمل بفتواهم سؤالا معلقا؟

هل يحملون على ذلك بمجرد النصيحة، وقد بينت التجربة أن النصيحة وحدها لا تكفى؟

أن أنه لابد من حملهم على ذلك بالقوة، وذلك بتعبئة العامة ضدهم ( وهذه هى القوة الوحيدة التى يمكن أن يتصرف فيها العلماء) ، وفى هذه الحالة : من يضمن أن ذلك لا ينقلب إلى فتنة، ، والعلماء أكثر الناس وعيا بأضرار الفتنة وأشدهم حرصا على تجنبها؟

هذه التساؤلات تنقلنا مباشرة إلى القسم التالي من هذا البحث، أعنى إلى مسألة تطبيق الشريعة.

إذا كان موضوع العلاقة بين الدين والدولة فى الإسلام يعانى من عدم وجود نصوص من الكتاب والسنة تبين وجوب أو عدم وجوب نصب الإمام( وإقامة الدولة) ، وتحدد كيفية اختياره ومدى صلاحياته.. . الخ.

فى حال الوجوب، فإن هناك حقيقة لا يمكن أن تكون موضوع جدال، وهى أن الإسلام عقيدة وشريعة .

فإذا كانت العقيدة تخص الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، مما يمكن حصره فى علاقة الإنسان بربه، فإن الشريعة تتضمن فضلا عن العبادات التى تدخل هى الأخرى فى إطار العلاقة نفسها، أحكاما ذات طبيعة اجتماعية تنظم علاقات الناس بعضهم ببعض مما لا بد فيه من سلطة تنفذ تلك الأحكام، كالحدود والعقوبات.. الخ.

هذا فضلا عن واجب الدفاع عن حوزة الإسلام وثغوره مما يدخل فى إطار الجهاد الذى هو فرض ديني، على اختلاف الفقهاء فى نوعية الحالتين لابد فيه من قيادة تتولى التجنيد والتجهيز ورسم الخطط والاستراتيجيات... الخ.

ويمكن القول بصورة عامة إن الدولة فى الإسلام إنما نشأت زمن الرسول وتوطدت واتسعت زمن الخلفاء الراشدين من خلال هذين الأمرين: تطبيق الأحكام الشرعية من جهة، والجهاد والفتح من جهة أخرى.

وهكذا ، وسواء قلنا بوجوب نصب الإمام وإقامة الدولة أو بعدم وجوب ذلك من الناحية الدينية ، فإن هناك أحكاما شرعية يحتاج تنفيذها إلى سلطة.

والسؤال الآن هو : كيف طبقت أحكام الشرع خلال التجربة التاريخية للأمة الإسلامية بقطع النظر عن شكل السلطة التى تتولى تطبيقها؟ ( دولة وجهازها القضائي كما فى البلاد الإسلامية التى فيها دولة، أو مرجعية روحية، أو فقهية ، فى الأقطار التى يشكل فيها المسلمون أقلية داخل دولة لا ينتمي أهلها إلى الإسلام).

ولعل أول ما يجب الانطلاق منه فى هذه المسألة كون الشريعة الإسلامية لم تنزل على النبي مرة واحدة، بل نزلت بالتدريج والتدرج.

فالتدريج لمسايرة تطور الجماعة الإسلامية ومراعاة تغير الأحوال العامة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية... الخ.

والتدرج لمسايرة تغلغل العقيدة فى النفوس ومدى تشبع الناس بها وإدراكهم لمقاصدها ووجه المصلحة فيها.

ومن هنا الناسخ والمنسوخ: فكثير من الأحكام قررها القرآن فى آيات نسخت بأحكام أخرى فى آيات لاحقة.

ليس هذا وحسب، بل إن مجمل الأحكام الشرعية الواردة فى القرآن إنما نزلت بمناسبة حوادث( أو نوازل) حدثت لأفراد، أو جوابا على أسئلة طرحوها.

ومن هنا ارتباط جميع الأحكام تقريبا بما يعبر عنه بـ " أسباب النزول" أي المناسبات التى ارتبط بها نزول الحكم أول مرة .

ولابد من أن نضيف هنا أن جميع الأحكام الشرعية فى الإسلام ينتظمها مبدأ واحد، هو المصلحة العامة، فهي إما لجلب مصلحة أو لدفع مضرة.

والمصلحة هى مقصد الشرع، وإذن فالأحكام الشرعية فى الإسلام ينتظمها ثلاثة أركان : النسخ، وأسباب النزول، والمقاصد.

هذا الارتباط الوثيق بين الأحكام الشرعية وبين الحياة وتطورها، والذي تجسمه وترسخه المعطيات الثلاثة التى ذكرنا ( النسخ ، وأسباب ا لنزول، ومقاصد الشرع- أو المصالح) قد ظهر واضحا أيضا فى الدور الذى قام به الصحابة فى التشريع زمن النبوة نفسها: فكثيرة هى النوازل والحوادث التى كانت تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم من دون أن يكون قد جاءه الوحي الذى يجيب عنها، فيستشير الصحابة، فيفتون بناء على خبرتهم بالأمور وعلى معرفتهم بوجه المصلحة، ويستحسن النبي ما أفتوا به ويصبح ذلك تشريعا. وقد يأتي الوحي فيما بعد أو فى الحين ، لتقرير ما أفتى به الصحابة.

وقد اشتهر عمر بن الخطاب فى هذا الشأن وتميز على غيره من الصحابة ، فكانت فتواه فى الغالب موافقة لما يأتي به الوحي، مما عبر عنه بعضهم بـ " موافقات عمر" ، فصنفوا فيها كتبا.

وهم يروون فى هذا الموضوع أحاديث عن النبي تنوء بذلك، مثل ما يروى عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" كما يروى عن ابن عمر نفسه قوله:" ما نزل بالناس أمر قط فقالوا وقال ، إلا نزل على نحو ما قال عمر" .

وعن مجاهد قال :" كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن" . ويذكرون فى هذا الصدد أن عمر بن الخطاب نفسه كان يعي ذلك ويعتز به من دون شك،

وأنه قال: " وافقت ربى فى ثلاث : قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" ، وقلت : " يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهم البر والفاجر فلو أمرتهم أن تحتجبن ، فنزلت آية الحجاب .

واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه فى الغيرة فقلت لهن : عسر ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن، فنزلت كذلك" الآية التى تقول هذا.

وتضيف رواية أخرى موافقة رأى عمر فى أسرى بدر لما نزل به الوحي بعد ذلك فى هذا الموضوع، كما يذكرون آيات أخرى من القرآن نزلت بالصيغة نفسها التى نطق بها عمر بن الخطاب قبل نزولها، وقد أطلقوا على هذه الآيات اسم:" ما نزل من القرآن على لسان عمر".

إن " موافقات عمر " هذه ، إن دلت على شيء، فهي تدل على أن الشريعة الإسلامية كانت تنزل وفق ما يقتضيه الوضع الاجتماعي القائم، أعنى المصلحة فيه.

فلم يكن الوحي ينزل على عمر، وإنما كانت خبرته الاجتماعية، وحسه القانوني المرهف، وحرصه على توخي المصلحة فى نظرته إلى الأمور، هى التى جعلت اتجاه تفكيره فى الشأن الاجتماعي يلتقي مع مقاصد الشريعة التى تلتقي عند مقصد واحد أساسي، هو المصلحة العامة.

ومن هنا كان الاجتهاد مصدرا للتشريع فى الإسلام. فالاجتهاد إنما يبتغى وجه المصلحة، أولا وأخيرا: أولا، لأن المجتهد لابد من أن ينطلق من الرغبة الصادقة فى التماس وجه المصلحة فى الموضوع الذى يبحث فيه، وأخيرا، لأن النتيجة التى ينتهي إليها، أعنى الحكم الذى يرتئيه ، لابد من أن يتوخى فيه تحقيق مصلحة ( أو دفع مضرة)..

إن هذا المبدأ ، مبدأ المصلحة، هو المستند الذى كان الصحابة يرتكزون عليه فى تطبيقهم للشريعة، سواء تعلق الأمر بما فيه نص أو بما ليس فيه.

والأمثلة التالية، وهى قليل من كثير، تقدم لنا صورة واضحة عن الكيفية التى مارس بها الصحابة عملية تطبيق الشريعة، وهى كما سنرى، ممارسة اجتهادية تتخذ المصلحة مبدأ ومنطلقا، فإذا تعارضت المصلحة مع النص فى حالة من الحالات وجدناهم يعتبرون المصلحة ويحكمون بما تقتضيه ويؤجلون العمل بمنطوق النص فيها. من ذلك مثلا:

1- كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد اعتمد على ما نسميه اليوم بـ "اللامركزية " فى علاقته بأجزاء الجزيرة العربية التى كانت قد دخلت فى الإسلام كلها تقريبا قبيل وفاته.

فالنواحي التى اعتنق أهلها الإسلام بالفتح، مثل الحجاز ونجد، كان يولى عليها عماله، وأما النواحي الأخرى فقد كان يقر عليها أمراءها ورؤساءها بمجرد إعلانهم الدخول فى الإسلام.

وبما أن " الزكاة" كانت هى وحدها الفريضة الإسلامية التى يمكن اتخاذها معيارا اجتماعيا وسياسيا للحكم على بقاء أولئك الرؤساء والأمراء ملتزمين بالاسم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط عليهم دفع الزكاة له.

وهكذا كانت الزكاة، فى هذا السياق، رمزا للولاء السياسي، فضلا عن معناها الديني الاجتماعي.

وبوصفها رمزا للولاء كان كثير من رجال القبائل يعتبرونها " إتاوة" ( أي ضريبة) يدفعونها لنلبى شخصيا بوصفه رئيسا يدينون له بالولاء، ولذلك امتنع كثير منهم عن دفعها لأبى بكر عندما تولى الخلافة، معللين ذلك بأنهم إنما كانوا يدفعون الزكاة للنبي صلى الله عليه وسلم بموجب عقد أو اتفاق بينهم وبينه.

وبما أن هؤلاء كانوا يعلنون تمسكهم بالإسلام واستمرار اعتناقهم له، فلقد كان لابد من أن يكون موقفهم مثيرا للتساؤل بين الصحابة: هل يعتبرونهم " مرتدين" كباقي القبائل التى أعلنت عن ردتها وخروجها عن الإسلام بزعامة رؤسائها ومدعى النبوة فيها، أن أنه يجب اعتبار كونهم يعلنون تمسكهم بالإسلام؟

تلك كانت أولى المسائل التى واجهت الصحابة فى مجال تطبيق الشريعة مباشرة بعد وفاة النبي.

كان منهم من قال: لا نقاتلهم قتال الكفرة المرتدين، بينما قال آخرون : بل نقاتلهم وكان عمر بن الخطاب من الذين ارتأوا عدم قتالهم، بينما كان أبو بكر مع الرأي الآخر.

وتذكر المصادر أنه جرى بينهما نقاش عميق فى هذه المسالة .

لقد اعترض عمر بن الخطاب بشدة على قتالهم، قائلا:" كيف نقاتلهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها فقد عصموا منى دماءهم وأموالهم؟ " ويذكرون أن أبا بكر رد عليه قائلا : " أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا : " إلا بحقها" ، ومن حقها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة" ، ثم أضاف " والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه". وقد فعل.

وهكذا نرى أن الصحابة وجدوا أنفسهم فى هذه المسألة الخطيرة إزاء موقفين مختلفين إلى درجة التناقض، وكل منهما مبرر :" الموقف الأول ينظر إلى الأمر من زاوية " الدين" وحده: فالقوم يعلنون تمسكهم بالإسلام، والنص صريح فى هذه المسألة : لا يجوز قتالهم .

والموقف الثاني ينظر إلى المسألة من زاوية " الدولة" وحدها: فالزكاة لم تكن مجرد فريضة دينية يمكن أن يؤتيها المرء بصرفها بنفسه لأهلها الذين ينص عليهم القرآن، بل لقد كانت الزكاة فضلا عن ذلك رمزا للولاء السياسي، ولذلك كان دفعها لأبى بكر يعنى استمرار الاعتراف برئيس الجماعة الإسلامية ( أي بالدولة) ، بينما يعنى منعها عدم الاعتراف.

تمسك أبو بكر برأيه وانصاع عمر لقرار الخليفة، فكان فتال المرتدين بما فيهم مانعو الزكاة.

وانتصر أبو بكر وأعاد للمسلمين وحدتهم وللدولة هيبتها وهيمنتها. ويبدو أن عمر بن الخطاب قد بقى طيلة خلافة أبى بكر يرى، بينه وبين نفسه، أن الصواب هو ما سبق أن ارتآه بشأن مانعي الزكاة ، أي عدم وجوب قتالهم.

ولذلك بادر بمجرد ما تولى الخلافة، بعد وفاة أبى بكر، إلى رد الاعتبار لأولئك الذين كانوا قد مانعوا فى دفع الزكاة مع تمسكهم بالإسلام، فقرر " رد السبايا والأموال إليهم وإطلاق المحبوسين منهم والإفراج عن أسراهم".

وهكذا يكون الخليفة عمر بن الخطاب قد عاد إلى تطبيق الشريعة على الوجه الذى أداه إليه اجتهاده، حتى بعد أن كان أبو بكر قد طبقها قبله على وجه آخر فى هذه المسألة .

ولم ير الناس، لا الصحابة ولا غيرهم ، أي حرج فى هذا الاختلاف حول تطبيق الشريعة فى مسألة واحدة بعينها. لقد فهموا الأمر كما يجب أن يفهم: لقد غلب أبو بكر مصلحة الدولة يوم كانت الدولة مهددة فقاتل مانعي الزكاة.

ما عمر بن الخطاب الذى تولى الخلافة، والدولة وطيدة الأركان، فقد ارتأى أنه من المصلحة رد الاعتبار إليهم وطي الصفحة طيا، وذلك وفاقا مع " الدين " ، أي نص حديث الرسول الذى استشهد به.

وهكذا نرى أن تطبيق الشريعة هنا قد دار مع المصلحة. وهذا لا يعنى أن الشريعة يجب أن تتغير بتغير المصالح، كلا.

الشريعة ثابتة ومطلقة لأنها إلهية، ولكن بما أن قصد الشارع هو جلب المنافع ودرء المضار، وبما أن المنافع والمضار أمور نسبية تتغير بتغير الظروف والأحوال، فإن " التطبيق " وحده هو الذى يجب أن يتغير بتغير المصالح ، فالأمر إذن لا يعنى " تعطيل " النص، بل يعنى فقط تأجيله بالتماس وجه آخر فى فهمه وتأويله.

2- ومن التدابير التى اتخذها عمر بن الخطاب وغلب فيها وجه المصلحة على منطوق النص، قراره بعدم توزيع أرض سواد العراق على المقاتلين، واللجوء بدلا من ذلك إلى فرض الخراج عليها.

هنا نجد عمر بن الخطاب مرة أخرى يعطى الأولوية للمصلحة على النص، أعنى لمصلحة المسلمين فى المستقبل على مصالح بعضهم فى الحاضر.

لقد نص القرآن بصريح العبارة على أن الغنائم تقسم على الجند الفاتحين، سواء فى ذلك الغنائم المنقولة أو غير المنقولة، كالأرض وغيرها.

وعندما فتح المسلمون العراق وأراضيه الخصبة( أي السواد) حصل نقاش بين الصحابة فى شأنها. لقد ارتأى فريق منهم تطبيق الشريعة فيها بالعمل بنص القرآن، وذلك يقتضى توزيعها بين المقاتلين.

غير أن عمر بن الخطاب قد استحضر مصلحة المستقبل والأجيال القادمة، فاعترض على ذلك الرأي متسائلا: " فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الآباء وحيزت؟ ما هذا برأي؟ " فقال له عبد الرحمن بن عوف : " فما الرأي ؟ ما ألأرض والعلوج إلا ما أفاء الله عليهم؟" فقال عمر : " ما هو إلا كما تقول، ولست أرى ذلك. والله لا يفتح بعدى بلد فيكون فيه كبير نيل ، بل عسى أن يكون كلا على المسلمين .

فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها وأرض الشام بعلوجها فما يسد به الثغور ؟ وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد وبغيره من أهل الشام والعراق؟".

واشتد النقاش بين عمر من جهة ، والمطالبين بالقسمة من أصحاب الحق من الجند من جهة أخرى، فاستشار عمر الصحابة، وكان مما قاله لهم:" وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها وأضع عليهم الخراج" مبينا وجه المصلحة كما رآه،

فقال : " أرأيتم هذه الثغور لابد لها من رجال يلزمونها؟ أرأيتم هذه المدن العظام كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر لا بد لها من أن تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وتجرى عليهم مما يتقوتون به، وإلا رجع أهل الكفر إلى مدنهم . فقالوا، أي الصحابة الذين استشارهم : بان الأمر، فأمر بوضع الخراج".

3- من المعلوم أن القرآن ذكر " المؤلفة قلوبهم" من بين مستحقي الزكاة. وكان ا لرسول صلى الله عليه وسلم يعطى بعض كبار قريش ممن أسلموا حديثا، حتى ممن كانوا لم يعتنقوا الإسلام بعد، وذلك استمالة لهم.

وقد ذكر أنه قال :" إني لأن أعطى الرجل وغيره أحب إلى تأليفا لقلبه" .

ولما تولى أبو بكر الخلافة سار فى هذا الموضوع سيرة النبي واستجاب لطلب رجلين من " المؤلفة قلوبهم" بأن يقطعهما أرضا . ولما علم عمر بذلك ثارت ثائرته ،

وقال لهما: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألف كما والإسلام يومئذ قليل ، وأن الله قد أغنى الإسلام، اذهبا فأجهدا جهدكما ، لا يرعى الله عليكما إن رعيتما".

وواضح من هذا أن أبا بكر قد سار فى تطبيق الشريعة على هذه النازلة وفق ما ينص عليه القرآن ، وعلى ما كان يفعل النبي ، ولكن عمر رأى أن المصلحة التى كانت فى إعطاء " المؤلفة قلوبهم" لم تعد قائمة، إذ صار الإسلام قويا فى غير حاجة إلى تأليف قلب أحد.

ولا ينبغي أن يفهم من هذا أن عمر رضي الله عنه قد عطل النص، بل يجب النظر إلى عمله لهذه المسألة على أنه رجع إلى اعتبار ما يمكن وصفه بـ " المصلحة الأصل " فى الزكاة، وهى التخفيف من حاجة الفقراء والمساكين، وأهمل " المصلحة الفرع" ، أعنى استمالة " المؤلفة قلوبهم" ، وهى مصلحة كانت مؤقتة ولم تعد قائمة.

4- ومن المسائل التى عمد فيها ا لصحابة إلى تطبيق الشريعة على أساس مراعاة الظروف وعدم التقيد بحرفية النص مسألة قطع يد السارق.

من ذلك ما هو مشهور عن عمر بن الخطاب " عام المجاعة" حيث نهى عن قطع يد السارق بسبب الجوع . وقد روى أن غلمانا سرقوا ناقة لرجل، فاشتكاهم إلى عمر بن الخطاب ، فاستدعى عمر صاحب الغلمان وقال له:" أراك تجيعهم" . ثم سأل صاحب الناقة عن ثمنها، وأمر صاحب الغلمان أن يدفع ذلك لصاحبها، وترك الغلمان.

وقال عمر لصاحب الغلمان:" أما لولا أنى أظنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى لو وجدوا أمام ما حرم الله لأكلوه، لقطعتهم.

ولكن والله إذ تركتهم ، لأغرمنك غرامة توجعك". ويروى فى هذا الصدد أن ابن عباس فعل الشيء نفسه عندما عرض عليه عبد سرق حمارا ونحره قائلا : ط خفت أن أموت جوعا" ، فترك العبد من دون قطع، وأمر سيده بأن يدفع ثمن الحمار.

كما ذكروا أن عمر بن الخطاب قال فى رجل سرق من بيت المال:" لا يقطع ، لأن له فيه حقا" ، وأنه قال فى عبد سرق مرآة زوجة سيده :" ليس عليه قطع: خادمكم سرق متاعكم".

5- ومن ذلك أيضا ما يروى عن النبي من أنه قال: " لا تقطع الأيدي فى السفر" وقيل : " فى الغزو" .

وعن زيد بن ثابت أنه قال :" لا تقام الحدود فى دار الحرب مخافة أن يهرب الذين تجب فيهم إلى العدو ". كما روى عن حذيفة أنه نهى عن إقامة حد شرب الخمر على أمير من أمراء الجيش، وذلك خوفا من أن يستغل العدو ذلك لمصلحته.

وهذا ما يسميه الفقهاء: تأخير الحد لعارض. ومثله تأخير الحد عن الحامل والمرضع، وعند المرض وزمن البرد والحر، لأن تطبيق الشريعة بإقامة الحد فى مثل هذه الظروف، ظروف الحمل والرضاعة والمرض والبرد والحر، يتسبب فى إيذاء الشخص المحدود، إيذاء لا يدخل فى الحد.

والأصل هنا: مراعاة مصلحة المحدود. وهكذا فالمصلحة يجب أن تكون حاضرة دوما فى تطبيق الشريعة، ويجب أن يكون لها الاعتبار الأول.

6- أما شارب الخمر، فلم ينزل فيه حد معين. وعندما أوتى بشارب خمر ذات يوم إلى النبي قال لمن كان معه من الصحابة: " اضربوه" .

فكان منهم من ضربه بيده، وكان منهم من ضربه بثوبه أو نعله. فلما انصرف صاح فيه بعض الحاضرين :" أخزاك الله" ، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلك : " لا تقولوا هذا ، لا تعينوا الشيطان عليه".

وسار الأمر كذلك فى تطبيق الشريعة على شارب الخمر، أعنى نهره وضربه من دون تحديد عدد الضربات إلى أن حدث فى خلافة عمر أن بعث إليه خالد بن الوليد قائد الجيش يشتكى إليه من أن الناس منهمكون فى شرب الخمر، وأنهم قد استهانوا بالعقوبة ( أي مجرد الضرب) ، فاستشار عمر الصحابة، فقال على بن أبى طالب :" إن الرجل إذا سكر هذى وإذا هذى افترى، وعلى المفترى ثمانون جلدة" . فقال عمر: " يجلد ثمانون جلدة كالمفترى" .

وهكذا فعندما كان شرب الخمر غير متفش كان مقدار العقوبة قليلا، ولكن عندما كثر وبات يهدد العلاقات الاجتماعية بالخلل والفتنة زادوا فى مقدار العقوبة، لكون درء المضرة يقتضى ذلك.

7- ومثل ذلك مسألة الزواج ببنات أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهو أمر أجازه القرآن .

وحدثت ظروف خاصة جعلت عمر بن الخطاب يمنعه. فقد ذكروا أن حذيفة تزوج يهودية ، فلما علم الخليفة عمر بذلك، كتب إليه يطلب منه أن يخلى سبيلها.

ولما سأله حذيفة عن السبب ، مع أن ذلك جائز بنص القرآن، قال عمر:" إني أخاف أن تواقعوا المومسات منهن" .

وفى رواية أخرى أنه قال:" إني أخاف أن يقتدي بك المسلمون فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن، وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين " .

لقد عدل عمر عن التطبيق الحرفي للنص فى هذه المسألة واعتبر الأصل ، وهو دفع المضرة .

ومع أن المضرة هنا غير حاصلة بعد، إلا أن رجحان حصولها يكفى، خصوصا أن الزمن كان زمن التجنيد العام من أجل الفتح.

وقد عاد المسلمون إلى النص عندما تغيرت الحال وصار الضرر المتوقع من الزواج بالكتابية ضعيفا وغير محتمل.

تلك كانت نماذج من " تطبيق الشريعة" على عهد الصحابة، وتشهد كلها على أنهم كانوا ينظرون إلى "التطبيق " من خلال ما يترتب عنه من مصلحة أو مضرة .

يقول الجوينى إمام الحرمين : " إن سبر ( أي اختيار) أحوال الصحابة رضي الله عنهم، وهم القدوة والأسوة فى النظر، لم ير لواحد منهم فى مجالس الاستشوار ( أي الاستشارة) تمهيد أصل واستثارة معنى، ثم بناء الواقعة عليه ( أي كما يفعل الفقهاء فى قياساتهم) ، ولكنهم يخوضون فى وجوه الرأي من غير التفات إلى ا لأصول، كانت أو لم تكن " ، ويقصد " الأصول" التى وضعها الفقهاء لمذاهبهم الفقهية .

ويقول أيضا :" إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يجرون على مراسم الجدليين من نظار الزمان ( أي زمنه هو) فى تعيين أصل والاعتناء بالاستنباط به، وتكلف تحرير على الرسم المعروف المألوف فى قبيله وإنما كانوا يرسلون الأحكام ويعقلونها فى مجالس الاستشوار بالمصالح الكلية".

المصالح الكلية هى الأصل الوحيد الذى كان الصحابة يعتمدونه فى تطبيقهم لأحكام الشرع.

وعندما تطور الفقه وأصبح " نظريا" يتجاوز ما هو واقع وحاصل من الحوادث والنوازل إلى ما هو ممكن واحتمالي، أي إلى مجال وضع الافتراضات ، وما يمكن أن يتخيل من حالات، عمد الفقهاء إلى وضع أصول تحكم النظر الفقهي وتنتظم حولها الفروع، أى الجزئيات، الواقعية منها والمتخيلة.

ثم تطور الأمر إلى أن أصبحت بعض الفروع أصولا لفروع أخرى وهكذا ... وكان ذلك كله – أعنى الواقع والمتخيل – محكوما بالظروف والأحوال السائدة ، وكانت كلها متقاربة متشابهة.

أما اليوم ، وقد تطورت الأحوال الاجتماعية والاقتصادية تطورا هائلا جعل من الحياة المعاصرة واقعا يختلف نوعيا عن الحياة الماضية، فإن تطبيق الشريعة يتطلب اليوم إعادة تأصيل الأصول على أساس اعتبار المصلحة الكلية كما كان يفعل الصحابة .

وبعبارة أخرى، إن تطبيق الشريعة، التطبيق الذى يناسب العصر وأحواله وتطوراته ، يتطلب إعادة بناء مرجعية للتطبيق. والمرجعية الوحيدة التى يجب أن تعلو على جميع المرجعيات الأخرى هى عمل الصحابة .

إنها المرجعية الوحيدة التى يمكن أن تجمع المسلمين على رأى واحد ، لأنها سابقة على قيام المذاهب وظهور الخلاف، وهى أيضا الصالحة لكل زمان ومكان لأنها مبنية على اعتبار المصالح الكلية.

القسم الأول مسألة الدين والدولة

1- الدين والدولة .. فى المرجعية التراثية

أ‌- مسألة تنفيذ الأحكام

... نعم يمكن أن تنجح فى إقناع من يفكر من د\اخل المرجعية التراثية وحدها بأن الأمر لا يتعلق قط بإنشاء دولة ملحدة ولا بنزع الصبغة الإسلامية عن المجتمع، يمكن أن تحلف له بأغلظ الأيمان بأن المقصود ليس هو هذا ولا ذاك، وسيكتفي بالقول " الله أعلم" ويسكت.

ولكنك لا تستطيع أبدا أن تقنعه بأن " فصل الدين عن دولة" ليس معناه حرمان الإسلام من " السلطة" التى يجب أن تتولى تنفيذ الأحكام.

وإذن فيجب البدء بالتمييز بين السلطة المنفذة للأحكام وبين الهيئة الاجتماعية المسماة : الدولة.

لا شيء يعتم الرؤية ويوقع فى التيه الوجداني والضلال الفكري كالأسئلة المزيفة. الأسئلة المزيفة هى ، كأسئلة الأطفال، أسئلة تطرح مشاكل مزيفة يعيشها الوعي على أنها مشاكل حقيقية .

وخطورة السؤال المزيف تكمن فى أنه يستدعى جوابا مزيفا يثير بدوره مشكلة أو مشاكل مزيفة.

ذلك لأن كل سؤال يطرح إلا ويحمل معه مشروع جواب. وعندما يطرح السؤال فى صيغة زوج تقابلي مثل:" هل الإسلام دين أم دولة؟" فإنه يضع المسئول ، وبالتالي الفكر، أمام قسمة عقلية ثنائية محصورة ، مما يفرض أحد أمرين ، أما : " الإسلام دين لا دولة " وأما : " الإسلام دين ودولة" .

أما الاحتمال الثالث أي " الإسلام دولة لا دين" فهو احتمال غير وارد، لأن الإسلام، بالتعريف دين.

والأسئلة المزيفة هى ، فى الغالب، أسئلة لا تستمد إشكاليتها من الواقع، بل هى تعبر عن إشكالية فكر حالم، أو فكر مجرد، ميتافيزيقي ، أو تطرح فى مجال معين مشكلة تستقى مضمونها وتحديداتها من مجال آخر. والثنائية التى نحن بصددها، ثنائية الدين والدول، فى الفكر العربي الحديث ، هى من هذا النوع الأخير من المشاكل .

ذلك أن السؤال " هل الإسلام دين أو دولة" سؤال لم يسبق أن طرح قط فى الفكر الاسلامى منذ ظهور الإسلام حتى أوائل القرن الماضي، وإنما طرح ابتداء من منتصف القرن الماضي بمضمون لا ينتمي إلى التراث الاسلامى، مضمون نهضوى يجد أصوله وفصوله فى النموذج الحضاري الأوروبي الذى كان العرب وما يزالون يطمحون إلى تحقيقه فى أوطانهم، وبالخصوص ما يتعلق منه بالتقدم والنهضة.

نعم إن المشاكل لا تقبل النقل من مجال إلى مجال إلا إذا كان هناك فى المجال المنقول إليه ما يجعل عملية النقل تلك مبررة نوعا من التبرير ، بمعنى أن الثأثيرات الخارجية لا يكون لها مفعول إلا مع وجود استعداد ( داخلي) مسبق. ومع ذلك فالمنقول، حتى فى هذه الحالة، سيظل غريبا شاذا ، يثير المشاكل ويتسبب فى احتكاكات واصطدامات داخل المنقول إليه، إذا لم تتم تبيئة هذا الأخير تبيئة تامة ملائمة ناجحة.

ومشكلة العلاقة بين الدين والدولة كما نقلت إلى المجال العربي ، فى القرن الماضي وأوائل هذا القرن، لم يتم بعد تبيئتها تبيئة ملائمة فى الواقع العربي الفكري والحضاري كي تصبح معبرة بالفعل عن همومه وتطلعاته ، وليس عن هموم وتطلعات الواقع الأوربي الذى نقلت منه.

سنحاول إذن أن نعمل على التحرر من حبائل السؤال المزيف، وذلك بوضعه هو نفسه موضع السؤال، حتى إذا جردناه من عناصر التزييف أمكن طرحه حينئذ بالصيغة التى يكون بها معبرا عن الواقع العربي: عن معطياته الخاصة الماضية والحاضرة وعن مطامح الأمة العربية وتطلعاتها المستقبلية .

ومن أجل هذا الغرض سنتناول الموضوع على أربع مراحل، نطرح فى كل منها مستوى من مستويات المشكل كما طرح ويطرح فى الفكر العربي الحدي والمعاصر: سننظر أولا فى الكيفية التى يجب أن تطرح المسألة بها داخل المرجعية التراثية حتى يمكن أن يكون لها جواب مستمد من هذه المرجعية نفسها، ثم نعرض ثانيا لتحليل العناصر التى يتحدد بها الجواب الذى تقدمه هذه المرجعية ، ثم ننظر ثالثا فى الكيفية التى طرح بها المشكل فى المرجعية النهضوية العربية الحديثة والمعاصرة، ثم نعرض رابعا وأخيرا لعلاقة المسألة بالواقع العربي الراهن وآفاق مستقبله.

لنبدأ بطرح المسألة على المستوى الأول.

واضح أن هدفنا هنا ليس القيام بتحليل أكاديمي، وإنما هدفنا تأطير الموضوع تأطيرا يسمح بتوفير حد أدنى من الفهم والتفهم والتفاهم، اقتناعا منا بأن من أهم عوائق التواصل والتفاهم بين تيارات الفكر العربى المعاصر انغلاق كل منها داخل مرجعيته الخاصة وانشداده المطلق إليها ونفى كل ما عداها، إما بجهله أو تجاهله، وإما بتصنيفه تصنيفا أيديولوجيا ، بالمعنى الذى تكون فيه الأيديولوجيا هى " آراء خصمي ".
المرجعية التراثية لموضوع " الدين والدولة" تتكون من التاريخ الاسلامى السياسي والفكري ، الرسمي منه بصفة خاصة، منذ ظهور الإسلام إلى أوائل القرن الماضي، إنها الفترة التى كان الإسلام فيها يشكل عالما حضاريا يكفى نفسه بنفسه لا يعرف من المشاكل إلا ما نشأ فيه ووجد حلولا ما داخله.
هذا العالم " المغلق" ، المستقل بنفسه المتسع لمشاكله هو الذى يفكر داخله وبواسطة معطياته قسم كبير جدا من مثقفي الوطن العربي، ليس الشيوخ والعلماء منهم وحسب، بل الشبان والمثقفون أيضا. والمبدأ المؤسس لهذه المرجعية والمتحكم فى توجيهها هو أن كل ما يوضع فى مقابل الإسلام فهو ليس من الإسلام.
وبخصوص الثنائية التى تعنينا هنا، ثنائية الدين والدولة، فإنها إذا طرحت بمضمونها الأصلي، الأوربي ، الذى يفيد المطالبة بفصل الدين عن الدولة، إنها إذا طرحت بهذا المضمون فى مرجعيتنا التراثية تلك، فإن هذا الطرح سيفهم حتما على أنه " اعتداء على الإسلام" ومحاولة مكشوفة لـ " القضاء" عليه.

*لماذا ؟

للجواب عن هذا السؤال ، جوابا مثمرا، يجب تجنب الاتهامات المجانية من قبيل الرمي بالتعصب وضيق الأفق... الخ، فضررها أكثر من نفعها ، عن كونها تنم عن عدم فهم، أو على الأقل عن عدم تفهم لمحددات تفكير من يصدر عن المرجعية التراثية. لننظر إذن إلى الكيفية التى تفهم بها عبارة " فصل الدين عن الدولة" داخل مرجعيتنا التراثية، المرجعية التى لا تحتمل هذه الثنائية ( ثنائية دين/ دولة) ، لأنه لم يكن هناك فى التاريخ الاسلامى بمجمله " دين" متميز أو يقبل التمييز والفصل عن الدولة، كما لم يكن هناك قط " دولة" تقبل أن يفصل الدين عنها.
فعلا كان هناك حكام اتهموا بالتساهل فى أمر من أمور الدين كالجهاد أو مقاومة البدع ... الخ،
ولكن لا أحد من الحكام فى التاريخ الاسلامى استغنى، أو كان فى إمكانه أن يستغنى، عن إعلان التمسك بالدين، لأنه لا أحد منهم كان يستطيع أن يلتمس الشرعية لحكمه خارج شرعية الإعلان عن خدمة الدين والرفع من شأنه.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم يكن هناك فى التاريخ الاسلامى، فى أية فترة من فتراته، مؤسسة خاصة بالدين متميزة من الدولة، فلم يكن الفقهاء يشكلون مؤسسة، بل كانوا أفرادا يجتهدون فى الدين ويفتون فيما يعرض عليهم من النوازل أو تفرزه تطورات المجتمع من مشاكل.
وإذن فعبارة " فصل الدين عن الدولة" ستعنى بالضرورة، داخل المرجعية التراثية ، أحد أمرين أو كليهما معا: إما إنشاء دولة ملحدة غير إسلامية، وإما حرمان الإسلام من " السلطة" التى يجب أن تتولى تنفيذ الأحكام.
نعم يمكن أن تنجح فى إقناع من يفكر من داخل المرجعية التراثية وحدها بأن الأمر لا يتعلق قط بإنشاء دولة ملحدة ولا بنزع الصبغة الإسلامية عن المجتمع، يمكن أن تحلف به بأغلظ الأيمان بأن المقصود ليس هو هذا ولا ذاك، وسيكتفي بالقول " الله أعلم" ويسكت.
ولكنك لا تستطيع أبدا أن تقنعه بأن " فصل الدين عن الدولة" ليس معناه حرمان الإسلام من " السلطة" التى يجب أن تتولى تنفيذ الأحكام .
وإذن فيجب البدء بالتمييز بين السلطة المنفذة للأحكام الشرعية وبين الهيئة الاجتماعية المسماة: الدولة.
  • لماذا ؟
لأن الدين فى نظره يشتمل على أحكام يجب أن تنفذ وأن الدولة هى " السلطة" التى يجب أن تتولى التنفيذ.
وإذن فالسؤال الذى انطلقنا منه، سؤال " هل الإسلام دين ودولة؟" لا يجد معناه الاسلامى، أي القابل لأن يجاب عنه من داخل التجربة الحضارية الإسلامية إلا إذا أعدنا صياغته بأن وضعنا فيه كلمة " أحكام" مكان كلمة " دين" ، وكلمة " سلطة" مكان كلمة دولة .

*فكيف ينبغي أن نفهم الصيغة الجديدة لهذا السؤال؟

ب‌- "الخلافة " .. وميزان القوى

... وإذن فالشيء الثابت الوحيد الذى تمدنا به المرجعية التراثية هو أن هناك أحكاما ينص عليها القرآن وتحتاج إلى " ولى الأمر" ليتولى تنفيذها نيابة عن الجماعة الاسلامية .
ومفهوم " ولى الأمر" مفهوم متسع، إذ يصدق على رئيس العائلة وعلى رئيس القبيلة ، كما يصدق على العلماء والفقهاء وعلى الحاكم المسلم فى دار الإسلام، سواء كان واليا أو أميرا أو خليفة...
تتحدد العلاقة بين الدين والدولة فى المرجعية التراثية فى إطار الحقيقة التاريخية التالية، وهى أن الإسلام ظهر فى مجتمع لم تكن فيه دولة.
وأن الدولة العربية الإسلامية نشأت بصورة تدريجية ، ولكن بوتائر سريعة، من خلال انتشار الدعوة الإسلامية وانتصار النبي فى غزواته وبكيفية خاصة فتح مكة، أو، ثم ثانيا من خلال انتشار الفتوحات ونجاح العرب فى الظهور كقوة عالمية، والدخول بالتالي فى علاقات دولية واسعة.
هذه حقيقة تاريخية لا تحتمل الجدال ولا النقاش، غير أن تفسير هذه الحقيقة التاريخية تفسيرا يسمح باستخلاص نتائج تشريعية واحدة ليس بالأمر الهين، لأن الأدلة التى يمكن بها إثبات وجهة نظر معينة متكافئة مع الأدلة التى يمكن بها إثبات وجهة نظر أخرى مضادة.

وهكذا فمن جهة:

- ليس من الممكن إطلاقا الجزم بشيء حول ما إذا كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد وضع من جملة أهدافه، فى بداية دعوته، إنشاء دولة.
إنه ليس هناك، لا فى الحديث ولا فى المرويات عن الصحابة ما يمكن الاستشهاد به لإثبات هذه المسألة ، بل بالعكس هناك خبر متواتر يؤكد أن النبي رفض رفضا مطلقا العرض الذى قدمه له أهل مكة عند ابتداء دعوته، والذي يقترحون عليه فيه أن ينصبوه رئيسا عليهم مقابل تخليه عن الدعوة إلى دينه الجديد، مما يدل دلالة قاطعة على أنهدف النبي – فى البداية على الأقل- كان نشر الدين الجديد، وليس تكوين دولة ولا الحصول على زعامة.
- كما أنه ليس فى القرآن ما يفيد بصورة واضحة أن الدعوة الإسلامية دعوة إلى إنشاء دولة أو ملك أو إمبراطورية.. الخ.
ومن جهة أخرى ، هناك بالمقابل حقيقتان لا يمكن الجدال فيهما:
- الحقيقة الأولى هى أن القرآن يتضمن أحكاما يأمر المسلمين بالعمل بها، وأن من بين هذه الأحكام ما يتطلب وجود سلطة تنوب عن الجماعة فى تنفيذه، كحد السرقة مثلا.
- أما الحقيقة الثانية فهي أن تنفيذ هذه الأحكام التى من بينها القيام بالجهاد والفتح.. الخ. قد أدى فى نهاية المطاف إلى تطور الدعوة الإسلامية إلى دولة منظمة ذات مؤسسات تطورت واتسعت مع تطور واتساع عالم الإسلام الجغرافي والحضاري والفكري.
- وإلى جانب هذه الحقائق الأربعة المتكافئة مثنى مثنى، والتي لا تسمح بالخروج بنتيجة حاسمة فى ا لموضوع، هناك التجربة التاريخية الإسلامية والفكر الفقهي المنظر لها.
معروف تاريخيا أن أول خلاف جدي وخطير قام بين المسلمين هو اختلافهم ، مباشرة بعد وفاة النبي، فى تعيين من سيخلفه.
وكان الخلاف بين المهاجرين والأنصار، كل منهم يرى أنه أحق بأن يكون خليفة الرسول من بينهم.
وبحسب ما تذكره كتب ا لتاريخ، يبدو أن الحجج النظرية والشرعية التى أدلى بها كل فريق كانت متكافئة ، وأن الذى حسم الأمر، فى النهاية ، هو تذكير المهاجرين إخوانهم الأنصار بأن " العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش" ، بمعنى أن القبيلة الوحيدة المؤهلة للزعامة هى قبيلة قريش، وبالتالي فميزان القوى هو الذى حسم الأمر،
وكانت النتيجة أن استبعدت فكرة " منا أمير ومنكم أمير" وصار الأمر كله للمهاجرين بمبايعة أبى بكر بالخلافة، خلافة النبي، وبإعلانه :" نحن الأمراء وأنتم الوزراء" ، مخاطبا بذلك الأنصار.
كانت هذه الحادثة، حادثة اجتماع المهاجرين والأنصار فى سقيفة بنى ساعدة بالمدينة لاختيار الخليفة، هى الإطار المرجعي الرئيسي، إن لم يكن الوحيد، الذى استند إليه فقهاء أهل السنة فى تشييد نظريتهم فى الخلافة.
وعلى رغم اجتهاد الفقهاء فى إضفاء الشرعية الإسلامية على جميع الحكام الذين عرفهم تاريخ الإسلام، فإنهم ظلوا مع ذلك متمسكين بوقائع اجتماع سقيفة بنى ساعدة، معتبرين ما دار فيها وما انتهت إليه من نتائج سوابق إسلامية لها قوة القانون، وبعبارتهم اعتبروها " أصلا" يقاس عليه.

ويتكون هذا الأصل من ثلاثة عناصر رئيسية :

- العنصر الأول يتمثل فى حصر المشكلة كلها فى " من سيخلف النبي"، أي فى اختيار الشخص الذى سيكون ولى أمر المسلمين .
وبالتالي فنظرية الخلافة السنية لا تطرح الدولة كمؤسسة، بل تهتم فقط بالشخص الذى سيبايع على أن يحكم فى ا لناس بكتاب الله وسنة رسوله، لأمد غير محدود، ومن ددون أية شروط تخص المؤسسات والقنوات والأجهزة التى سيمارس بها السلطة المطلقة التى فوضت له.
ذلك أن الجماعة الإسلامية تفوض الأمر تفويضا كاملا تاما للخليفة فيما يخص أدوات التنفيذ وبناء أجهزة الدولة واختيار الوزراء والأعوان والولاة..الخ.
كما أنها لا تحتفظ لنفسها بحق الرقابة على الحاكم، لأنه بمجرد ما تتم له البيعة يصبح مسئولا أمام الله وليس أمام من بايعوه. وبالتالي فليس على هؤلاء إلا الطاعة ، ما دامت أوامره وأحكامه لا ينطبق عليها المبدأ الاسلامى القائل: " لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق".
- أما العنصر الثاني فى نظرية الخلافة السنية فهو وحدانية الخليفة، بمعنى أن الخليفة لا يكون إلا واحدا فى جميع بلاد الإسلام.
نعم لهذا الخليفة أن ينيب عنه من يحكم باسمه من الوزراء والولاة، وله أن يفوض لهم جزءا من سلطته بحسب الظروف والأحوال.
ولكن مع ذلك يبقى خليفة المسلمين من الناحية النظرية الفقهية واحدا، ولا يجوز الاعتراف بشرعية أكثر من خليفة واحد.
وعندما قامت الخلافة الأموية فى الأندلس ، والخلافة الفاطمية فى القاهرة، إلى جانب الخلافة العباسية فى بغداد ، كانت كل واحدة من هذه تعتبر نفسها، ويعتبرها أتباعها ، هى الخلافة الشرعية الحقة.
هذا طبعا من الناحية النظرية الفقهية، أما فى الواقع ، فلقد شهدت بلاد الإسلام دولا متعددة متزامنة متنافسة، وأحيانا متحاربة. وكانت كلها، وما زالت ، دولا إسلامية.
- وأما العنصر الثالث فهو أن الخلافة ، بحسب رأى أهل السنة، إنما تكون بـ " الاختيار" وليس بـ " النص" ( وهذا المبدأ موجه ضد الشيعة) .
ذلك لأنه ما دام الصحابة قد تداولوا بعد وفاة النبي واختلفوا ثم اتفقوا وبايعوا أبا بكر، فإن ذلك يعنى أن الرسول لم يعهد إلى أحد بالخلافة من بعده.
غير أن " الاختيار" فى نظرية الخلافة عند أهل السنة لا يتجاوز تقرير : أن النبي لم ينص لأي أحد من بعده.
أما كيفية " اختيار الخليفة" فهذا موضوع تقرر فيه موازين القوى، فمن قام يطلب الخلافة لنفسه وغلب بشوكته واستطاع أن يجمع الناس حوله راضين أو مكرهين فهو الخليفة .
نعم لقد اشترطت الأغلبية فى العصور الإسلامية الأولى أن يكون الخليفة من قريش ، ولكن هذا الشرط قد نوزع فيه من طرف فرق أخرى لأنه لا يستند إلى أساس شرعي واضح.
وكيفما كان الأمر، فقد كان الحسم للقوة ، وليس للنسب ، تماما مثلما أن البيعة كانت تأتى بعد انتصار المطالب بالخلافة.
فالبيعة كانت من الناحية العملية نوعا من التسليم بالأمر الواقع.

وإذن فنظرية الخلافة عند أهل السنة هى فى جملتها محاولة تقنين لأمر واقع.

وبالتالي فلم يكن هناك فرق كبير بين نظريات الفقهاء فى موضوع الخلافة وبين الصورة أو الصور الواقعية التى كان عليها الحكم فى الإسلام.
وهكذا فالشيء الثابت الوحيد الذى تمدنا به المرجعية التراثية هو أن هناك أحكاما ينص عليها القرآن وتحتاج إلى " ولى الأمر" ليتولى تنفيذها نيابة عن الجماعة الإسلامية.
ومفهوم " ولى الأمر" فى الإسلام مفهوم متسع يدق على رئيس العائلة، وعلى رئيس القبيلة ، كما يصدق على الفقيه، وعلى الحاكم المسلم فى دار الإسلام، سواء كان واليا أو أميرا أو خليفة.

ومما تجدر ملاحظته فى هذا الشأن أن القرآن استعمل صيغة " أولى الأمر" ، بالجمع لا بالمفرد، فى الآية المرجعية فى مسألة الحكم، وهى قوله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم" . ومعنى هذا أنه ليس من الضروري شرعا أن يكون " ولى الأمر" واحدا بالعدد.

والخلاصة أنه لما كان النبي قد ترك الأمر لصحابته ليفصلوا فيه من بعده، فإن ما أقره الصحابة وما صنعه الخلفاء من بعدهم وما قاله الفقهاء فى الخلافة، كل ذلك يؤول أمره إلى الاجتهاد .

والاجتهاد فى مسالة ترك أمرها للمسلمين سيختلف حتما باختلاف العصور وتغير الظروف، والشىء الثابت الوحيد شرعا، هو كما قلنا إن هناك أحكاما شرعية يتطلب تنفيذها وجود " ولى الأمر" ، أما الدولة السلامية فلقد كانت منذ اجتماع سقيفة بنى ساعدة دولة يقرر المسلمون فى شأنها بحسب ما يمليه عليهم ميزان القوى، القوى المعنوية والقوى المادية.

وبما أنهم كانوا جميعا مسلمين، أو على الأقل يتصرفون بوصفهم كذلكن فإن مسألة علاقة الدولة بالدين لم تكن مطروحة ولا كان يمكن أن تطرح.

إنها من المسائل التى لم يكن من الممكن التفكير فيها لأن كل شاء فى المجتمع الاسلامى هو الإسلام، ما عدا ما حرمه الله بنص من القرآن أو على لسان الرسول.

وليس هناك نص من هذا النوع يلزم المسلمين بنوع من الحكم معين، ولا وجود لنص ينهاهم عن نوع من الحكم معين، وهذا ما جعل بعض رجالات الفرق الإسلامية يقولون بإمكانية الاستغناء عن الخليفة مطلقا،

وبالتالي عن الدولة، إذا قام كل منهم بما له وما عليه من الناحية الدينية ، الشيء الذى تسقط معه الحاجة إلى حاكم.

ج- " الخلافة" ثغرات دستورية

وبعد، فليس هناك نظام فى الحكم شرع له الإسلام، وإنما قام مع تطور الدعوة المحمدية نظام فى الحكم اعتمد فى البداية ، وعقب وفاة النبي، نموذج " الأمير على القتال" ، وكان ذلك ما يحتاجه الوقت وتفرضه الظروف.

وعندما تطورت الدولة العربية الإسلامية مع الفتوحات والغنائم وانتشار الإسلام، بات نموذج " أمير الحرب" غير قادر على استيعاب التطورات التى حصلت، فبرز فراغ دستوري..

من الأمور اللافتة للنظر أن الكتاب والمؤلفين فى " الفكر الاسلامى المعاصر" من معتدلين ومتشددين يتجنبون الخوض بتفصيل فيما هو أساسي وتأسيسي بالنسبة إلى متطلبات عصرنا، وينشغلون بما هو أقل شانا بالقياس إلى التحديات التى تواجهنا اليوم. ‘ن هناك شعارا يرفعه من يصنفون ضمن ما يسمى بـ " الاتجاه الاسلامى" شعار: " الإسلام هو الحل" .

ومع أن هذا الشعار يطرح قضية غير ذات موضوع عندما يرفع فى وجه مسلمين – إذ كيف يمكن أن يكون الشخص مسلما من دون أن يعتقد أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان ، وأنه هو الحل دائما ، تماما مثلما يعتقد المسيحي فى مسيحيته واليهودي فى يهوديته والبوذي فى بوذيته... – فإن رافعيه إنما يقصدون توظيفه كشعار سياسي أيديولوجي فى وجه شعارات أخرى، وفى هذه الحالة يجب أن يدور النقاش حول المضمون أو المضامين التى تعطى لهذا الشعار فى وضعية معينة وإزاء قضايا ومشاكل محددة.

وإذن فالسؤال الذى يفرض نفسه هنا هو التالي: ما هو المضمون أو المضامين التى تعطى لهذا الشعار السياسي " الإسلام هو الحل" من طرف رافعيه؟ هنا يجد الباحث والسائل والتابع وكل من يهمه هذا الشعار من وجه أو آخر، يجد نفسه أمام فراغ: ما هو النظام السياسة الذى يقبل أن يوصف بأنه " إسلامي" ويكون فى نفس الوقت متلائما مع ظروف عصرنا مستجيبا لحاجاته واتجاه تطور التاريخ. إنه لا يكفى أن يقال إن الحكم فى الإسلام مبنى على " الشورى" وعلى " العدل" وعلى " الإخاء" .. الخ.

فجميع الديانات وجميع المذاهب السياسية والاجتماعية ترفع شعارات من هذا النوع لسبب بسيط هو أنها شعارات تعبر عن قيم إنسانية خالدة ومثل عليا يتطلع البشر جميعا فى كل وقت إلى تحقيقها.

وبما أن ليس هناك، لا فى القرآن ولا فى السنة ، نص تشريعي ينظم مسألة الحكم، وبما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد توفى من دون أن يعين من يخلفه ومن دون أن يبين طريقة تعيينه ومن دون أن يحدد اختصاصاته ولا مدة ولايته، فإن المسألة برمتها قد بقيت تنتمي إلى جنس المسائل التى يصدق عليها قوله عليه السلام: " أنتم أدرى بشؤون دنياكم" ، فهي إذن متروكة لـ " الدراية" و" الاجتهاد" .

وبالتالي فشعار " الإسلام هو الحل" عندما يرفع كشعار سياسي، سيبقى شعارا فارغا ما لم يكن رافعه يبشر باجتهادات معينة واضحة ومفصلة فى المسألة السياسية ، مسألة الحكم بصورة خاصة.

والاجتهاد فى الإسلام، كما فى جميع الديانات والمذاهب، لا ينطلق من فراغ، من لا شيء فليس ثمة شيء يبنى على لا شيء. إن الاجتهاد فى الإسلام، إما أن يكون فى المسائل التى يمكن أن تدرج تحت حكم شرعي فيه نص، وإما أن يكون فى مسائل لا نص فيها.

وفى هذه الحالة تكون المصلحة العامة التى تقتضيها ظروف العصر هى المرجع، والخلقية الإسلامية هى الموجه، والتجربة التاريخية للأمة هى موطن العبرة والاعتبار.

لنبدأ بهذا الجانب الأخير ولنتساءل: ما هو الدرس الاساسى الذى تقدمه لنا التجربة التاريخية للأمة العربية فى مسألة الحكم؟ الجواب الذى قد لا يختلف عليه اثنان يمكن صياغته كما يلي: إن الواقعة السياسية الرئيسية فى التاريخ العربي الاسلامى هو:" انقلاب الخلافة إلى ملك" .

ومن هنا السؤال الضروري التالي: لماذا " انقلبت الخلافة إلى ملك"؟ لماذا لم تعالج الأزمة السياسية التى حدثت فى أواخر عهد الخليفة عثمان معالجة سياسية دستورية تجعل حدا لتدهور الوضع وتجنيب الأمة ما آل إليه أمرها من فتنة وحرب أهلية انتهت بـ " انقلاب الخلافة إلى ملك".

إذا نحن أردنا أن نستخلص الدروس السياسية من أحداث " الفتنة الكبرى" أحداث السنين السن الأواخر من عهد عثمان، وجب القول " إن ما حدث كان تعبيرا عن فراغ دستوري كبير فى نظام الحكم الذى قام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويتجلى لنا هذا الفراغ اليوم،

نحن أبناء القرن العشرين ن فى المسائل الثلاث الرئيسية التالية:

1- عدم إقرار طريقة واحدة مقننة لتعيين الخليفة.

لقد تم تعيين أبى بكر فى ظروف استعجالية استثنائية ، فكان تعيينه " فلتة" كما قال عمر بن الخطاب، مشيرا بذلك غلى أن بيعة أبى بكر قد تمت من دون تدبير سابق،

وأن مبادرة الأنصار إلى الاجتماع فى سقيفة بنى ساعدة لاختيار واحد منهم خليفة هو الذى جعل الأمور تمر بالطريقة التى بها مرت، حيث احتدم النقاش وتباينت الآراء،

وكان أن يتطور النزاع إلى ما لا تحمد عقباه لولا أن بادر عمر إلى مبايعة أبى بكر فتبعه المهاجرون والأنصار... وكانت النتيجة فى النهاية على أفضل ما كان يمكن أن يكون عليه الأمر لو لم يكن فيه استعجال، فلقد كان أبو بكر أكثر الصحابة حظا فى نيل رضي الناس واختيارهم...

ولقد تلافى أبو بك تكرار مثل تلك " الفلتة" بتعيينه عمر بن الخطاب بعد استشارة الناس وحصول رضاهم، وتلافاها عمر بتعيين ستة مرشحون واحدا من بينهم ، وقد وقع الاختيار على عثمان.

إذن لم تكن هناك واحدة لتعيين " الخليفة" فبقى الباب مفتوحا لكل الاجتهادات وأيضا كل الاحتمالات.

وإذا كان من الممكن الرجوع بجذور الثورة على عثمان إلى الصراع الذى احتدم بين مؤيديه وبين أنصار على بن أبى طالب أيام " الشورى" أي خلال تلك المداولات والنقاشات التى أسفرت عن تعيين عثمان خليفة، فإن ما حدث من ميوعة سياسية ومن فتنة دموية انتهت بقتل عثمان ما كان ليحدث بالصورة ومن فتنة دموية انتهت بقتل عثمان ما كان ليحدث بالصورة التى بها حدث لو لم يكن هناك فراغ دستوري يتمثل، إضافة إلى ما ذكر ، فى القضيتين التاليتين:

2:1- عدم تحديد مدة ولاية " الخليفة" : وهذا شيء يمكن أن نفهمه إذا استحضرنا فى أذهاننا أن وظيفة " الخليفة" الأساسية ، فى ذلك الوقت، هو أن يكون " أميرا" للمسلمين يقود جهادهم فى حروب الردة أولا، ثم فى حروب الفتوحات .

إن " ألأمير " فى الاصطلاح العربي القديم هو قائد الجيش فى المعركة.

وبما أنه لا أحد يعرف كم ستدوم الحرب فلم يكن من المعقول قط تحديد مدة إمرة " الأمير" : إن ولايته تمتد ما دامت الحرب قائمة، اللهم إلا إذا عزل أو قتل وحينئذ يعين آخر مكانه.

ولكن مهمته كانت تنتهي حتما بانتهاء الحرب فيفقد لقب " أمير" ويعود إلى مكانه كبقية الناس.

وبما أنه لم يكن هناك نص تشريعي، لا من القرآن ولا من السنة، ينظم مسألة الحكم والدولة، فإن نموذج " الأمير" الذى كان حاضرا فى مخيال المسلمين عقب وفاة النبي هو نموذج أمير الجيش، وسيكون هذا النموذج هو المهيمن على العقل السياسي العربي آنذاك.

وهكذا فعندما بايع الصحابة أبا بكر خليفة للنبي صلى الله عليه وسلم إنما فعلوا تلك " الشؤون" وعلى رئسها: قتال المرتدين ،وإذن فقد بايعوه قائدا عام لجيوش المسلمين، وبالتالي لم يكن من المعقول أن يخطر ببالهم تحديد مدة ولايته.

وعندما توفى ، بعد سنتين فقط من تعيينه، وبايع الناس عمر بن الخطاب وصاروا يدعونه : " يا خليفة ، خليفة رسول الله" استثقل هذه العبارة واستحسن عبارة أخرى ناداه بها حدهم ، عبارة " أمير المؤمنين " ، استحسنها لأنه رآها تعبر عن جوهر وظيفته، وهى قيادة جيوش المسلمين فى الحرب التى كانوا يخوضونها ضد المرتدين، ثم ضد الفرس فى العراق ، والروم فى الشام.

لقد كان عمر إذن قائدا عاما لجيوش المسلمين ، أميرا على أمرائها، ولم يكن من المعقول قط تحديد مدة ولايته والمسلمون خائضون فى حروب الفتوحات الكبرى. وطعن عمر بن الخطاب والحرب قائمة، وعين عثمان خليفة له للقيام بنفس المهمة، فلم يكن من المعقول أن يحددوا مدة ولايته للسبب نفسه.

والجديد الذى حدث على عهد عثمان هو أن مدة ولايته طالت " حتى مله الناس" ، وكان رجلا مسنا بويع فى السبعين من عمره.

لقد تفاقمت المشاكل فى السنين الأخيرة من ولايته، واستفحل الخلاف، ونشبت أزمة دستورية، والخليفة طاعن فى السن يحيط به جماعة من الأقارب وأصحاب المصالح يصنعون له القرار ويسيئون التصرف.

ولم تجد النصيحة فى إصلاح الوضع لأن " جماعة الضغط" و" صانعة القرار" المحيطين بالخليفة كانوا يعرفون كيف يحملونه على التراجع عن وعوده بالإصلاح.

وهكذا لم يكن أمام الثوار إلا أن يطلبوا منه الاستقالة. ولكن كيف؟ ومن سيتولى الأمر بعده؟ ونأى " قانون" أو سابقة يطلب منه أن يستقيل ؟ أزمة دستورية خطيرة لم تحل إلا بالدم ، ذلك لأنه عندما يغيب القانون تكون للسيف الكلمة...

3- عدم تحديد اختصاصات " الخليفة" لا عند بيعة أبى بكر، ولا عند بيعة عمر، ولا عند بيعة عثمان، والسبب هو أن النموذج الذى كان يهيمن على العقل السياسي العربي آنذاك، نموذج " أمير الجيش" ، لم يكن يسمح بطرح مسألة الاختصاصات .

إن مسألة الاختصاصات لم تكن من " المفكر فيه" فى ذلك العصر لأنه كان عصر فتوحات وغنائم وانتشار فى الأرض. ولكن عندما كثرت المغانم وتبدلت الأحوال بالناس ، وظهرت مظاهر لم يكن من الممكن إلا أن تكون موضوع اعتراض واحتجاج ، عندما حدث كل ذلك أصبحت مسالة الاختصاصات تفرض نفسها.

لقد طرحت بحدة من خلال المآخذ من خلال المآخذ التى أخذها الثوار على عثمان، والتي تتلخص فى مسألة واحدة وهى أنه تجاوز اختصاصاته : عين أقاربه وتصرف فى خمس الغنائم.. الخ.

وعندما قامت الثورة ضده خطب فى الناس ، وكان من جملة ما قال:" ألا فما تفقدون من حقكم ؟ والله ما قصرت فى بلوغ ما كان يبلغ من كان قبل ولم تكونوا تختلفون عليه ( يعنى عمر بن الخطاب) فضل من مال، فمالي لا أصنع فى الفضل ما أريد؟ فلم كنت إماما؟".

وعندما حاصره الثوار وقالوا له :" اعزل عنا عمالك الفساق واستعمل علينا من لا يتهم على دمائنا وأموالنا واردد علينا مظالمنا . قال عثمان: " ما أراني إذن فى شيء إن كنت استعمل من هويتم وأعزل من كرهتم الأمر إذن أمركم".

وهكذا كشفت الثغرة الدستورية الثالثة عن وجهها على لسان الخليفة نفسه: لقد رفض انتقادات الثوار ومطالبهم لأنه كان يرى أن من اختصاصاته التصرف فى " فضل المال" كما يشاء، وأن من اختصاصاته التصرف فى " فضل المال" كما يشاء ، وأن من اختصاصاته وحده اختيار العمال والولاة وأن " الأمر" ( أي الحكم والسلطة) يفقد معناه ومضمونه إذا هو جرد من هذه الاختصاصات .

أما جواب الثوار، وقد كان يقف إلى جانبهم صحابة كبار مثل عمار بن ياسر، فضلا عن مساندة طلحة والزبير وعلى بن أبى طالب لهم، أما جواب الثار على هذا النوع من الفهم لوظيفة " الخليفة" ، الفهم الذى يجعل اختصاصات الحاكم غير مقيدة، فلقد كان ما يلي:" قالوا: والله لتفعلن أو لتعزلن أو لتقتلن ، فانظر لنفسك أو دع" .

فلما أبى أن يستجيب لما طلبوا وأصر على البقاء فى الحكم قائلا:" لم أكن لأخلع قميصا قمصنيه الله" حاصروه أربعين ليلة ، ثم انتهى الأمر بأن تسلقت جماعة جدران قصره يقودها محمد بن أبى بكر . وقد قتل عثمان وفى يده مصحف يقرأ فيه القرآن.

وبعد، فليس هناك نظام فى الحكم شرع له الإسلام،وإنما قام مع تطور الدعوة المحمدية نظام فى الحكم اعتمد فى البداية، وعقب وفاة النبي ، نموذج " الأمير على القتال" وكان ذلك ما يحتاج إليه الوقت وتفرضه الظروف.

وعندما تطورت الدولة العربية الإسلامية مع الفتوحات والغنائم وانتشار الإسلام ، بات نموذج " أمير الحرب" غير قادر على استيعاب التطورات التى حصلتـ فبرز فراغ دستوري كشف عن نفسه من خلال الثغرات الثلاث التى أبرزنا.

وبما أن المسألة لم تعالج معالجة سلمية فقهية، فقد بقى القول الفصل للسيف ، وبذلك " انقلبت الخلافة إلى ملك"...

د- الأيديولويجا السلطانية... والخلقية

الإسلامية إن تحديد طريقة ممارسة " الشورى " بالانتخاب الديمقراطي الحر، وإن تحديد مدة ولاية رئيس الدولة فى حال النظام الجمهوري مع إسناد مهام السلطة التنفيذية لحكومة مسئولة أمام البرلمان، فى حال النظام الملكي والجمهوري معا، وإن تحديد اختصاصات كل من رئيس الدولة والحكومة والبرلمان بصورة تجعل هذا الأخير هو وحده مصدر السلطة ، تلك مبادئ لا يمكن ممارسة " الشورى" فى العصر الحاضر من دون إقرارها والعمل بها...

لم تكن الثغرات الدستورية التى برزت فى أواخر عهد عثمان والتي كانت وراء " انقلاب الخلافة إلى الملك" هى وحدها الدروس السياسية التى يمكن استخلاصها من التجربة التاريخية للأمة العربية الإسلامية ( انظر البحث السابق).

هناك جوانب أخرى لابد من إبرازها، وبالخصوص منها الكيفية التى دأب الحكام فى الإسلام على اعتمادها فى إضفاء الشرعية على حكمهم ابتداء من معاوية أول " ملك" فى الإسلام.

لقد كان معاوية يعرف جيدا أنه اغتصب الحكم بالسيف، وأنه بالتالي يفتقد الشرعية التى تأسس عليها الحكم فى الإسلام منذ أبى بكر، شرعية " الشورى" ، فراح يلتمس الشرعية لحكمه من " القضاء والقدر" من جهة، ومن العمل، من جهة أخرى، على استرضاء الناس بالتلويح لهم بإشراكهم فى ثمار الحكم، خصوصا المادية منها.

وهكذا نجده من جهة يكرر فى خطبه أن ما حدث من حرب بينه وبين على بن أبى طالب ، وما كان من انتصاره وانتزاعه الحكم، إنما كان " بقضاء الله وقدره"،

وبالتالي فالله هو الذى قضى " بسابق علمه" أن يتولى الأمويون الحكم لأنهم أهل له وأكثر الناس خبرة بشؤونه. وقد ردد عماله هذه الفكرة نفسها، ومنهم زياد بن أبيه فى خطبته المشهورة بـ " البتراء" التى قال فيها : " أيها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة نسوسكم بسلطان الله الذى أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذى خولنا..." وخطب معاوية أمام معارضي تولية ابنه يزيد وليا للعهد فكان مما قاله:" وإن أمر يزيد قد كان قضاء من الله وليس للعباد خيرة فى أمرهم".

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، سلك معاوية سياسة " واقعية"، وعمل جهده على حمل الناس على النظر إلى مسألة الحكم بعين" الواقعية السياسية " التى تقوم على التسليم بالأمر الواقع.

خطب فى المدينة بعد تمام " البيعة" له عام الجماعة فقال: " أما بعد فإني ما وليتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرة بولايتي، ولكنى جالدتكم بسيفي هذا مجالدة" ثم قال إنه حاول أن يحمل نفسه على سيرة أبى بكر أو عمر أو عثمان ، ولكنها أبت ذلك ولم تستطيعه ، ثم أضاف قائلا:" فسلكت بها طريقا لي ولكم فيه منفعة: مواكلة حسنة ومشاربة جميلة.

فإن لم تجدوني خيركم فإني خير لكم ولاة..." .

وسار " الخلفاء " الأمويون من بعده على هذا النهج فاعتمدوا القول بالجبر كأيديولوجيا والعطاء كممارسة سياسية ، فكان هذا وذاك هو أساس الشرعية التى بنوا عليها حكمهم.

وعندما نجحت الثورة العباسية فى إقامة دولتها، لم يكن من الممكن أن يعتمد رجالها أيديولوجيا الجبر الاموى، وهم الذين كان فى صفوفهم رجال قياديون عارضوا الأمويين وحاربوهم رافعين شعارات أيولوجية مضادة، وفى مقدمتها شعار " القدر" أى القول بحرية الإنسان واختياره،

وبالتالي مسؤوليته على أعماله. من أجل ذلك عمدوا إلى التماس الشرعية لحكمهم، لا من القضاء والقدر، كما فعل الأمويون ، بل من " إرادة الله ومشيئته"، فقالوا إن الله هو الذى شاء أن يحكموا، وأنهم إنما يحكمون بإرادته ويتصرفون بمشيئته.

خطب أبو جعفر المنصور، المؤسس الفعلي للدولة العباسية ، فقال : " أيها الناس أنا سلطان الله فى أرضه، أسوسكم بتوفيقه ، وتسديدة وتأييده، وحارسه على ماله أعمل فيه بمشيئته وإرادته وأعطيه بإذنه..." وهكذا أصبح " الخليفة" الذى كان زمن الخلفاء الراشدين خليفة للنبي ( أبو بكر) ، أو خليفة لخليفته ( عمر) ، أو خليفة لخليفة خليفته( عثمان) ، أقول أصبح " الخليفة" العباسي " خليفة الله" و" سلطانه فى أرضه" ، وأصبح ذلك هو أساس الشرعية عنده.

وقد تكرس هذا الأساس، البعيد عن الإسلام كل البعد، بما نقله ابن المقفع وغيره من " الكتاب" ( كتاب السلاطين) من مقولات الآيديولوجيا السلطانية الفارسية وغيرها التى تقوم على المماثلة بين الحاكم الطاغية المستبد وبين الاله... وفى بعض الأحيان المطابقة بينهما باتخاذ الحاكم إلها.

أما " فقه السياسة" ، فلم يظهر إلا فى فترة متأخرة مع الماوردى بصورة خاصة .

لقد كان قبل ذلك " كلاما فى الإمامة" ، يرد به متكلمو أهل السنة على آراء الشيعة والروافض منهم بصورة خاصة: لقد رفض هؤلاء الاعتراف بخلافة أبى بك وعمر وعثمان،

وقالوا إن النبي كان قد أوصى لعلى بن أبى طالب بالإمامة من بعده، فقام متكلمو أهل السنة يردون على ذلك بإثبات صحة خلافة كل من أبى بكر وعمر وعثمان وعلى مستندين إلى الوقائع التاريخية، ثم بنوا على ذلك ما اعتبروه شروطا فى الإمامة وطريقة تعيين الإمام... الخ.

محاولين الارتفاع بالكيفية التى جرت بها الأمور زمن الخلفاء الراشدين إلى مستوى " السوابق" التشريعية، وكان ذلك كله بهدف مواجهة الباطنية والروافض من الشيعة، فكان " فقه السياسة" ، فى حقيقته وجوهره، تشريعا لماضي الحكم فى الإسلام، وبالخصوص فترة الخلفاء الراشدين، ولم يكن تشريعا لحاضره ولا لمستقبله.

نعم لقد حاول الماوردى إضفاء نوع من الشرعية على ا لحكم فى عصره على مستوى " الأحكام السلطانية" أي الوظائف الإدارية و" الولايات الدينية " من قضاء وغيره، ولكن " تشريعية " ذاك لم يكن سوى وصف لأمر واقع ، ومحاولة لإضفاء نوع من الشرعية الفقهية عليه.

وقد تطور " فقه السياسة" بعد الماوردى عبر سلسلة من التنازلات والتخلي عن الشروط، حتى انتهى به الأمر إلى الاعتراف بأن الحكم إنما يتم بالشوكة والغلبة ( الغزالي ومن جاء بعده) ثم انتهى الأمر بالفقهاء إلى صياغة " مبدأ كلى" يلغى " فقه السياسة" إلغاء تاما، مبدأ يقول : من اشتدت وطأته وجبت طاعته، وقد عبرت عنه " العامة" فى المغرب بالقول:" الله ينصر من أصبح".

تلك هى ا لدروس السياسية التى تقدمها لنا التجربة التاريخية للأمة العربية الإسلامية، الدروس المستخلصة من السياسة المطبقة ، أولا قبل " انقلاب الخلافة إلى ملك" ( الثغرات الدستورية المطبقة، أولا قبيل " انقلاب الخلافة إلى ملك" ( الثغرات الدستورية التى برزت فى أواخر عهد عثمان : انظر البحث السابق) ثم بعد أن نقربها إلى نظام فى الحكم يلتمس الشرعية لنفسه من التمويه الآيديولوجى والعطاء السياسي، وقبل ذلك وبعده: من الشوكة والغلبة.

ولكن التجربة التاريخية للأمة العربية الإسلامية ليست هى السياسة المطبقة وحدها، بل إنها أيضا ما نعبر عنه هنا بـ " الخلقية الإسلامية" فى الحكم، تلك الخلقية التى بقيت تلهم الفكر الحر وتنعش الآمال فى الإصلاح والتغيير .

والعناصر الأساسية فى هذه الخلقية، التى يجب التماسها فى عهد النبوة ، هى التالية:

1- الشورى . لقد جعل القرآن الكريم من الشورى خصلة من الخصال الحميدة، جنبا إلى جنب مع الإيمان بالله والتوكل عليه وتجنب الكبائر وإقامة الصلاة.

فقال تعالى:" فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا، وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.

والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون . والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون.
والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون" ، ويؤكد القرآن الكريم هذا المعنى نفسه متوجها بالخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليجعل من الشورى صفة من الصفات الحميدة التى يجب أن تبنى عليها علاقته بأصحابه،
فقال تعالى:" فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر".
2- المسؤولية وتوزيعها فى جسم المجتمع. لقد كان الفكر السياسي فى حضارات الشرق القديم ، من فرعونية وبابلية وعبرانية وفارسية ، يقوم على نموذج " الراعي" الذى يرعى قطيعا من الغنم.
فالحاكم " راع" والباقي قطيع ( أي رعية) . ويقوم هذا النموذج على المطابقة بين " راعى الكون" ( الله) وراعى " القطيع" من البشر ( الرعية) .
أما فى الإسلام – إسلام عصر النبوة لا إسلام الآيديولوجيا السلطانية- فقد أصبح لمضمون " الراعي" معنى آخر- وذلك من خلال الحديث النبوي الشهير القائل:" ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالإمام الذى على الناس راع ، وهو مسئول عن رعيته ،
والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهو مسئولة عنهم ، وعبد الرجل راع على مال سيده ، وهو مسئول عنه، ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" ، وواضح أن الرعاية هنا تعنى حفظ الأمانة وتحمل المسؤولية ، وهى ليست من اختصاص شخص بمفرده، بل هو موزعة فى جسم المجتمع كله من أعلى الناس إلى أدناهم.
والأهمية السياسية التى ينطوي عليها هذا المبدأ هو أنه ينص على توزيع المسؤولية، فلا استئثار بها ولا استبداد.
3- أما العنصر الثالث من العناصر المؤسسة للخلقية الإسلامية فى ميدان الحكم والسياسة وغيرهما من شؤون الدنيا التى ليس فيها نص فهو قوله عليه السلام:" وأنتم أدرى بشؤون دنياكم " . لقد م ذات يوم بأناس يلقحون النخل فسألهم عما يفعلون ،
فقالوا: نلقحه لينتج، فقال : هلا تركتموه ، ولما تركوه ولم ينتج أخبروه بذلك، فقال لهم: " أنتم أدرى بشؤون دنياكم" .
وبما أنه توفى عليه السلام من دون أن يعين من يخلفه، ولا طريقة تعيينه، ولا نوع اختصاصاته، ولا غير ذلك من شؤون الحكم والسياسة، فإنه لا مناص من اعتبار هذه الشؤون من جملة ما يدخل فى قوله: " أنتم أدرى بشؤون دنياكم".

وقد أكد أبو بكر حينما خطب عند مبايعته قائلا:" أيها الناس، إني قد وليتم عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني وإن رأيتموني على باطل فسدد ونى...".

تلك فى نظرنا هى الأسس التى تقوم عليها " الخلقية الإسلامية " فى شؤون الحكم والسياسة.

ونحن نستعمل هنا كلمة "الخلقية " لأن النصوص التى تقرر تلك المبادئ ليست نصوصا تشريعية، أو على الأقل اعتبرت وتعتبر كذلك، وهذا ما يجعل مجال الاجتهاد فى شؤون الحكم واسعا غير محمد إلا بحدود المثل العليا التى يقررها الإسلام...

ومن هنا يتجلى بوضوح أن إعادة بناء الفكر السياسي فى الإسلام يجب أن تنطلق، لا من الرجوع إلى آراء الماوردى وغيره، فتى ليست آراء ملزمة لنا، بل إنما أملتها ظروف عصرهم، بل يجب أن تنطلق عملية بناء الفكر السياسي الاسلامى المعاصر من إعادة تأصيل المبادئ الثلاثة المنوه بها أعلاه".

وذلك بالصورة التى تجعلها تستجيب لحاجات عصرنا ومتطلباته: إن تحديد طريقة ممارسة " الشورى" بالانتخاب الديمقراطي الحر، وإن تحديد طريقة ولاية رئيس الدولة فى حال النظام الجمهوري مع إسناد مهام السلطة التنفيذية لحكومة مسئولة أمام البرلمان، فى حال النظام الملكي والجمهوري معا،

وإن تحديد اختصاصات كل من رئيس الدولة والحكومة والبرلمان بصورة تجعل هذا الأخير هو وحده مصدر السلطة ، تلك مبادئ لا يمكن ممارسة " الشورى" فى العصر الحاضر من دون إقرارها والعمل بها. إنها المبادئ التى بها وحدها يمكن سد الثغرات الدستورية الثلاث التى برزت فى أواخر عهد عثمان، فأدت إلى " انقلاب الخلافة إلى ملك عضو ض"(البحث السابق).

وبعد ، فليس هناك فى نظرنا ما يبرر تحفظ بعض الحركات السياسية ( الإسلامية) من الديمقراطية الحديثة. إن تبرير ذلك بالزعم بأن الخليفة فى الإسلام يمكن أن يعين بمبايعة فرد واحد أو أفراد معدودين،

ويكون مدة ولايته لا تحدد بدعوى أن عقد البيعة أشبه بعقد البيع لا رجوع فيه، وبكون مبايعته تقتضى تفويض الأمر له وعدم تحديد اختصاصاته... إن هذه التبريرات ى تستند إلى أي أساس ، لا من النقل ولا من العقل ،

وإنما تستعيد آراء فقهاء السياسة كالماوردى وغيره، أولئك الذين قلنا عنهم إنهم إنما أدلوا بما أدلوا به من آراء استجابة لحاجات أملتها عليهم ظروفهم: إما ردا على الشيعة الرافضة، وإما تكريسا للأمر الواقع الذى كان قد فرضه حكام زمانهم بالقوة والغلبة.

2- الدين والدولة فى المرجعية النهضوية

أ‌- ضرورة تجنب تعميم المشاكل القطرية

... والوطن العربي ليس الآن بلدا واحدا، ليس مجتمعا واحدا، بل هو بلدان ومجتمعات- نريدها أن تصبح بلدا واحدا ومجتمعا واحدا ويجب أن نعمل من أجل هذا – وهى فى الظرف التاريخي الراهن ما زال كل منها موسوما بخصوصية قوية تطبع بطابعها جملة من المسائل، مثل مسألة العلاقة بين الدين والدولة. وإذن يجب أن ننظر إلى هذه المسألة على ضوء واقع كل بلد عربي على حدة.

يجب أن نتجنب تعميم المشاكل القطرية تعميما يجعل منها مشاكل قومية.

" وما دام قومنا لا يميزون بين الأديان التى يجب أن تكون بين العبد وخالقه، والمدنيات التى هى بين الإنسان وابن وطنه أو بينه وبين حكومته، والتي عليها تبنى حالات الهيئة الاجتماعية والنسبة السياسية، ولا يضعون حدا فاصلا بين هذين المبدأين الممتازين طبعا وديانة، لا يؤمل نجاحهم فى أحدهما ولا فيهما جميعا كما لا يخفى" .

ومن هنا :" وجوب وضع حاجز بين الرياسة، أي السلطة الروحية، والسياسة، أي السلطة المدنية.

وذلك لأن الرئاسة تتعلق ذاتا وطبعا بأمور داخلية ثابتة لا تتغير بتغير الأزمان والأحوال، بخلاف السياسة فإنها تتعلق بأمور خارجية غير ثابتة وقابلة للتغير والإصلاح بحسب المكان والزمان والأحوال.

والمتضادتين فى متعلقاتهما وموضوعهما، من شأنه أن يوقع خلافا بيننا وضررا واضحا فى الأحكام والأديان حتى لا نبالغ إذا قلنا إنه يستحيل معه وجود التمدن وحياته ونموه".

- هذا ما كتبه بطرس البستاني فى سياق تعليق لع على الفتنة الطائفية التى اشتعلت نارها فى لبنان وسوريا سنة 1860، وذلك فى صحيفته نفير سورية التى كان يصدرها آنذاك.

وككثير من النصوص يتحدد هذا النص بمنطوقه ووضعية قائله والمناسبة التى قيل فيها.

لنقل كلمة عن كل من هذه الجوانب الثلاثة، وسنرى أنها هى نفس العناصر التى تتحدد بها مسألة "الدين والدولة " فى المرجعية النهضوية العربية الحديثة.

- أما منطوق النص فواضح : إنه دعوة صريحة إلى فصل الدين عن الدولة، إلى وضع حد فاصل بين الأديان والمدنيات: إلى وجوب وضع حاجز بين السلطة الروحية والسلطة المدنية : وبالعابرة المشهورة : إعطاء ما لله لله وما لقيصر لقيصر. وذلك هو شرط التقدم والنهضة.

- وواضح أن هذه الدعوة إنما يكون لها معنى بالنسبة إلى فكر يميز بين الله وقيصر، ويجد فى خزينة الصور الذهنية التى تؤطره وتوجهه صورة أو صورا يقف الله فيها فى جانب، وقيصر فى جانب : إما كخصمين وإما كمتحالفين ،

وهذه الوضعية نجدها فى تجربة أوروبا المسيحية على صول لعل أهمها ثلاث: الصورة الأولى هى التى عرفتها المسيحية فى بداية ظهورها : لقد كانت هناك من جانب دولة على رأسها قيصر، الإمبراطور الروماني ، لا تدين بدين معين بوصفها دولة، وكان هناك من جانب آخر المسيح ابن مريم، ومن بعده " الآباء" الذين تولوا نشر المسيحية فى أرجاء الإمبراطورية الرومانية.

والعلاقة بين الدين والدولة هنا كانت علاقة عداء. لقد حاربت الدولة المسيحية واضطهدتها واعتبرتها نشاطا مخربا.. الخ.

- أما الصورة الثانية فتبدأ مع القيصر قسطنطين الأول، أو قسطنطين الكبير، الذى قرر إثر انتصاره فى إحدى حروبه سنة 312 للميلاد الاعتراف بالمسيحية كدين للإمبراطورية الرومانية ، مما فتح الباب للكنيسة الكاثوليكية لتصبح دولة داخل الدولة ،

بل لتتحول فى فترات طويلة من تاريخ أوروبا إلى مؤسسة تعلو على الدولة لها السيطرة على الحياة الروحية و النفوذ والهيمنة على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية . أما الصورة الثالثة فهي التى ارتبطت بالنهضة الأوربية وظروفها، والتي انتهت إلى فصل الدين عن الدولة.

إلى " العلمانية" . والعلمانية لا تعنى معاداة الدين ولا محاربته، وإنما تعنى فصل ما هو دنيوي عما هو أخروي، وذلك بجعل السلطة السياسية والتعليم وجميع المرافق العامة فى أيدي رجال محايدين من الناحية الدينية ، وإبعاد القسس والأساقفة، وكل من يمثل الكنيسة ، عنها.

فى جميع هذه الصور أو الحالات هناك الدين وهناك الدولة: إما متخاصمين ، وإما متداخلين ، وإما منفصلين ، وفى جميع هذه الحالات فالدين مؤسسة تتمثل فى الكنيسة وفروعها المتغلغلة هى الأخرى داخل المجتمع.

ذلك هو منطوق النص المذكور. إنه يتخذ كمرجعية له التجربة، بل التجارب التى عرفتها أوروبا على مستوى العلاقة بين الدين والدولة.

أما صاحب النص، بطرس البستاني، فهو مسيحي عربي لبناني من رواد النهضة العربية الحديثة عاش فى القرن الماضي، أي فى زمن كان فيه لبنان ولاية عثمانية كجل الأقطار العربية.

وكما هو معروف ، فالإمبراطورية العثمانية كانت تحكم باسم الخلافة وتمارس الاستبداد والتعسف على العرب، مسلمين ومسيحيين ، باسم الإسلام.

ومن هنا ارتبطت النهضة فى ذهن بطرس البستاني ، كما فى أذهان مفكرين عرب آخرين ، والمسيحيين منهم بصفة خاصة ، بفصل الدين عن الدولة، أولا لأن نموذج النهضة الذى كانوا يفكرون بواسطته هو النموذج الأوربي وثانيا لأن الاستبداد التركي والخلافة التى كانت الأتراك يحكمون باسمها وتاريخ علاقتهم مع العرب،

كل ذلك جعلهم فى أعين هؤلاء مصدرا للتخلف والتأخر ، الشيء الذى يعنى أن التقدم لا يمكن أن يتحقق إلا بالاستقلال عنهم، مما يعنى فى نفس الوقت الانفصال عن " الخلافة" وبالتالي فصل الدين عن الدولة .

يتضح مما تقدم إذن أن العوامل الأولى المحددة لثنائية الدين والدولة فى المرجعية النهضوية العربية ثلاثة رئيسية: استلهام التجربة الدينية الأوربية، مشكل الطائفية الدينية ، ربط النهضة بالفصل بين الدين والدولة، أي استلهام النهضة الأوروبية.

وهذه العوامل الثلاثة تختلف اختلافا كليا عن تلك التى تحدد العلاقة بين الدين والدولة فى المرجعية التراثية بين من يفكر داخل هذه المرجعية، ومن يفكر داخل المرجعية النهضوية المحددة بالعوامل المذكورة، خصوصا عندما تربط قضية النهضة بفصل الدين عن الدولة.

هنا يجد المفكر داخل المرجعية التراثية أن الأمر على العكس تماما مما يقوله المفكر " العلماني" ، فالتجربة العربية الإسلامية تمده بحقيقة تاريخية لا جدال فيها، هى أن العرب إنما نهضوا بظهور الإسلام الذى مكنهم أو تمكنوا به من إنشاء دولة وفتح ممالك وتشييد حضارة ..الخ،

مما جعل الصورة التى ترتسم فى ذهن صاحبنا صورة ثابتة لا تتزعزع ، صورة تربط بين التمسك بالدين وبين النهضة، ربط علة بمعلول وشرط بمشروط، تماما مثلما يربط المفكر العربي، داعية العلمانية ، بين فصل الدين عن الدولة وبين النهضة، ربط علة بمعلول وشرط بمشروط.

هنا يكمن الزيف فى هذه الثنائية : ثنائية الدين والدولة فى الفكر العربي المعاصر. إنه يتمثل فى تمسك كل طرف بما تعطيه مرجعيته معتبرا إياه الحقيقة الوحيدة الخالدة.

هذا فى حين أن شروط النهضة ليست واحدة، بل متعددة ومتشابكة وتتغير بحسب الظروف والعصور، فقد يكون بالعكس من ذلك، إما عنصرا محايدا، وإما عنصرا عائقا للنهضة.

وإنما كانت ثنائية الدين والدولة فى الفكر العربي المعاصر مشكلة مزيفة لأنها تغطى مشاكل الحاضر وتقفز عليها وتطرح بدلا عنها مشاكل أخرى تجعل حلها شرطا للنهضة وضرورة مستقبلية.

ونحن نعتقد أن التخلص من هذا الزيف الذى تطرحه هذه الثنائية يكمن أولا، وقبل كل شيء، فى الفصل بين مشكل العلاقة بين الدين والدولة ومشكل النهضة والتقدم، والنظر بالتالي إلى كل واحد منهما على أنه مشكل مستقل بذاته يخضع لمتغيرات عديدة من بينها، إن لم يكن على رأسها، نوع التركيب الاجتماعي ونوع العلاقات الاجتماعية الاقتصادية السائدة ونوع السلطة السياسية وطبيعتها... الخ.

وبعبارة قصيرة ، إن مسألة العلاقة بين الدين والدولة يجب أن تعالج على ضوء المعطيات الواقعية الخاصة بكل بلد عربي على حدة.

لابد من الانطلاق إذن من الحقيقة الواقعية الراهنة، وهى أن الوطن العربي ليس الآن بلدا واحدا، ليس مجتمعا واحدا، بل هو بلدان ومجتمعات- نريدها أن تصبح بلدا واحدا ومجتمعا واحد ، ويجب أن نعمل من أجل هذا – وهى فى الظرف التاريخي الراهن ما زال كل منها مطبوعا بخصوصية قوية تطبع بطابعها جملة من المسائل، مثل مسألة العلاقة بين الدين والدولة.

وإذن يجب أن ننظر إلى هذه المسألة على ضوء واقع كل بلد عربي على حدة. يجب أن نتجنب تعميم المشاكل القطرية تعميما يجعل منها مشاكل قومية ويجعل من الدعوة إلى الوحدة العربية دعوة إلى نقل المشاكل من إطار الخاص إلى إطار العام.

إن مشكلة العلاقة بين الدين والدولة فى الوطن العربي ليست مشكلة قومية، بل هى مشكلة قطرية ... فكيف يجب أن نعالجها معالجة تخدم المسألة القومية؟

ب‌- الطائفية والديمقراطية

ثنائية الدين والدولة فى الفكر العربي الحديث والمعاصر ثنائية مزيفة. وهى مزيفة لأنها تخفى مشكلة أخرى حقيقية، بصورة نسبية، هى مشكلة الطائفية فى بعض الأقطار العربية، وهذه المشكلة تعكس حقيقة نسبية فقط لأنها لا تعم الوطن العرى كله، وإنما يراد منها أن تنوب عن حقيقة كلية هى غياب الديمقراطية، السياسية والاجتماعية، فى الوطن العربي من الخليج إلى المحيط.

انتهينا فى البحوث السابقة من تحليل ثنائية الدين والدولة فى الفكر العربي الحديث والمعاصر إلى النتيجة التالية وهى أن المرجعية الثنائية التى يفكر بها ومن داخلها قطاع واسع عريض من الشيوخ والكهول والشبان فى الوطن العربي لا تستسيغ هذه الثنائية، بمعنى أن مشكلة العلاقة بين الدين والدولة، سواء تعلق الأمر بالمطالبة بالوصل بينهما، أو بفصل أحدهما عن الآخر، مشكل غائب عن المرجعية التراثية ، وبالتالي عن فكر من يفكر بها ومن داخلها.

أما عندما تطرح المشكلة نفسها فى المرجعية النهضوية العربية الحديثة، فهي لا تعكس فى الحقيقة مشكلا قوميا يعم الوطن العربي كله، وإنما تعكس وضعا اجتماعيا وسياسيا يخص أقطارا عربية معينة بصور ودرجات متفاوتة، هو الوضع المعبر عنه بالطائفية الدينية .

وهكذا خرجنا بهذه النتيجة العامة، وهى أن مسألة العلاقة بين الدين والدولة يجب أن تعالج على ضوء معطيات كل قطر عربي على حدة، وأنه يجب أن نتجنب تعميم المشاكل القطرية تعميما يجعل منها مشاكل قومية.

كيف نعالج المسألة إذن على الصعيد القطري بصورة تخدم المصلحة القومية؟

لعل الخواطر التالية تفسح المجال لتفكير جدي فى المسألة.

ذا نحن ألقينا نظرة عامة، ولو سريعة، على الأقطار لا تطرح نفسها كمشكل، لا على الفكر، ولا على المجتمع ولا على السلطة، إلا فى الأقطار التى توجد فيها الطائفية الدينية كمكون أساسي من مكونات المجتمع.

وهذه البلدان هى بالتحديد: لبنان وسوريا ومصر والسودان.

أما بقية أقطار الوطن العربي، أعنى المغرب وموريتانيا والجزائر وتونس وليبيا والأردن والسعودية واليمن ودول الخليج والعراق، فهي لا تعانى من طائفية دينية إطلاقا، أو أن الأقليات الدينية فيها لا تمثل نسبة تجعل من الطائفية فيها مشكلا اجتماعيا ، وبالتالي سياسيا.

والأقطار العربية التى تعانى من مشكل الطائفية الدينية لا تعيش هذا المشكل على صورة واحدة، وليس له نفس الوزن فيها جميعا. فالمسألة فى لبنان هى غيرها فى سوريا.

وأما فى مصر، فالمسألة فيها ذات خصوصية تاريخية جعلت من الطائفية تعددا داخل وحدة، هى وحدة الوطن، لا بل وحدة الشعور الوطني. وأما فى السودان، فالوضع يختلف ، غذ تطرح المشكلة هناك على مستوى الدين واللغة، وأيضا على مستوى الانتماء الاثنى. إن ذلك يعنى أن الحل الذى يناسب طبيعة المشكل فى لبنان مثلا لا يصلح بالضرورة لكل من مصر وسوريا والسودان، بل يتطلب المشكل نوعا من الحل خاصا قد يختلف قليلا أو كثيرا من قطر إلى آخر.

وما دام الأمر كذلك، أي ما دام ليس هناك حل واحد يصلح لكل قطر من الإطار المذكورة ، فإن الحل المطلوب والمناسب لا يمكن أن يملى على أبناء هذا القطر أو ذاك من خارج، بل إنهم وحدهم الذين عليهم أن يبحثوا عن الحل المناسب.

ليس من حقنا، ولا من اختصاصنا، إذن وليس من حق أي مفكر عربي، ولا من اختصاصه ، تنصيب نفسه نائبا عن أبناء هذا القطر أو ذاك، من أقطار الوطن العربي، فى التفكير فى مشاكلهم القطرية الخاصة. وليس هذا الموقف منا تهربا، بل هو موقف موضوعي علمي تفرضه المصلحة القومية.

ذلك لأن أي مفكر عربي، مهما كان اجتهاده، ومهما كان إخلاصه، سيرتكب خطأ جسيما إذا هو نصب نفسه نائبا عن مفكري قطر عربي آخر غير قطره وراح يفكر لهم فى المشكل المطروح عليهم وحدهم، ويفتى عليهم الحلول.

وقد لا يكون الخطأ الذى يرتكبه هذا المفكر خطأ على مستوى المعرفة، ولا على مستوى صواب الحل، ولكنه سيكون حتما خطأ على مستوى المصلحة القومية .

ذلك لأن ما يحدث فى الغالب هو أن المفكر العربي عندما يفكر فى مشكل قطري يخص قطرا آخر غير القطر الذى ينتمي إليه، يفكر فيه من منظور قومي، وبالتالي يسقط فى خطر التعميم، فيفكر مثلا فى الوطن العربي ككل من خلال حالة خاصة، هى حالة لبنان، أو حالة سوريا، أو حالة مصر...

سينادى مثلا، كما حصل مرارا وتكرارا ، إن " لا حل لمشاكل الوطن العربي إلا بتبني العلمانية ".

ومن دون شك ، فإن اللبناني قد يجد العبارة صحيحة ، فيتخذ منها شعارا تقدميا نضاليا.

أما المغربي أو الموريتاني ، أو الجزائري ، أو التونسي ، أو الليبي، أو الأردني ، أو السعودي.. فالغالب أن رد فعلهم سيكون من قبيل طرح التساؤلات التالية، وما هى " العلمانية" ؟ أو لماذا " العلمانية" ؟ إلى غير ذلك من التساؤلات التى تظهر أن المشكل لا يعنيه كثيرا.

كان كل ما تقدم هن جانب " الخاص" فى المسألة. ولكن " الخاص" الخالص المطلق لا وجود له: إن فى " الخاص" دوما شيئا من " العام" كما أن " العام" ليس إلا الخلاصة التركيبية لما هو مشترك بين عناصر كل فئة من فئات " الخاص". فيجب إذن أن لا نغفل الجانب " العام" الثاوي وراء " الخاص" الذى تشكله المسألة الطائفية فى هذا القطر العربي أو ذاك.

وإذا نحن نظرنا الآن من زاوية " العام" إلى مشكل الطائفية الدينية فى الوطن العربي، فإننا سنجدها واقعا اجتماعيا وتاريخيا، ما فى ذلك شك.

ولكن هذا الواقع الطائفي لا يطرح نفسه كمشكل إلا حينما يكون الواقع الاجتماعي ككل يعانى من مشكل عام .

والمشكل العام الذى يعانى منه الواقع العربي ككل من الخليج إلى المحيط هو مشكل الديمقراطية ببعديها السياسي والاجتماعي، فإذا أخذنا فى الحسبان هذا المشكل ظهرت لنا مشكلة الطائفية، ومشكلة العلاقة بين الدين والدولة، كمجرد نتيجة من نتائجه.

لنأخذ لبنان مثالا. لقد رتبت هناك العلاقة بين الطائفية الدينية وبين السياسة، منذ الأربعينات، ترتيبا كان يعكس فى البداية الواقع اللبناني إلى درجة كبيرة.

لقد كان ميزان القوى، طائفيا ، لصالح الطائفة المارونية لأنها كانت أكثر تطورا وأكثر تغلغلا فى جسم المجتمع اللبناني الحديث، وذلك لأسباب تاريخية يعرفها الجميع.

فكان طبيعيا أن يتم ترتيب العلاقات " ديمقراطيا" على أساس هذا الواقع، فنالت الطائفة المارونية نصيب الأسد فى السلطة السياسية، الشيء الذى كان يعكس قوتها ( المشروعة أو غير المشروعة، ليس هنا مجال الحكم فى المسألة) ، قوتها الفعلية أو على الأقل الظاهرية بين الطوائف.

وعلى الرغم من كل الحيف الذى لحق بالطوائف الأخرى، فلقد ظل لبنان البلد الديمقراطي، نسبيا، على المستوى السياسي والفكري والصحفي على الأقل.

غير أن " الديمقراطية " اللبنانية، بدل أن تتطور بتطور الواقع اللبناني نفسه، بقيت مسجونة فى نفس الترتيب و" التوضيع" الذى قامت عليه أول مرة.

لقد بقيت الطائفة المارونية مهيمنة سياسيا واقتصاديا ، وازدادت هيمنتها فى ظل " الديمقراطية" اللبنانية نفسها،

وفى نفس الوقت تطورت الطوائف الأخرى ديمغرافيا واقتصاديا وسياسيا وفكريا، وأصبح الفارق بين " الكيف" المارونى وبين " الكيف" اللبناني ككل، يميل غلى درجة الصفر، على الأقل على مستوى الوعي.

وحينئذ أصبحت " الديمقراطية" اللبنانية تكرس استبدادا مقنعا، سياسيا واقتصاديا، فى جو من العلمانية، وفى جو من حرية الفكر وحرية التعبير .

وبطبيعة الحال، فالعلمانية وحرية الفكر والتعبير لا تعوضان الفوارق فى المجالات الأخرى، كما أنهما لا يمكن أن تخففا إلى الأبد من وقع الظلم الناتج من استئثار فئة من الفئات بالقسط الأكبر من السلطة السياسية والاقتصادية .

لقد كبر جسم لبنان على قميص " الديمقراطية" الذى ألبسه فى الأربعينات، فكان لابد من أن يتمزق هذا القميص ليظهر الجسم على حقيقته ، جسما مريضا بالطائفية التى تتخذ هنا معنى خاصا، هو استغلال طائفة معينة لطوائف أخرى استغلالا مباشرا أو غير مباشر.

وما دام اللبنانيون لم يتواصلوا إلى صنع قميص ديمقراطي جديد يتسع للتطور الذى عرفته مختلف الطوائف ، فن الحرب الأهلية ستستمر.

مثال لبنان هو المثال الطائفي العربي الذى يصرخ بغياب الديمقراطية مستعملا صوت المدافع. وهناك فى الوطن العربي أصوات أخرى تعبر عن نفس الظاهرة بطرق أخرى، أو بنفس الوسيلة، ولكن فى صورة مخالفة، كما فى السودان.

أما فى البلدان العربية الأخرى التى لا تعانى من الطائفية الدينية ، فإن أبناءها يعبرون عن حاجة المجتمع إلى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية بشعارات مختلفة: هناك من يرفع شعار الديمقراطية نفسها، وهناك من يرفع شعار تطبيق الشريعة، وهناك من يرفع شعار حقوق الأقلية، وهناك من ينادى بضرورة الثورة على الإقطاع .. الخ.

ثنائية الدين والدولة فى الفكر العربي الحديث والمعاصر ثنائية مزيفة. وهى مزيفة لأنها تخفى مشكلة أخرى حقيقية بصورة نسبية، هى مشكلة الطائفية فى بعض الأقطار العربية، وهذه المشكلة تعكس حقيقة نسبية فقط لأنها لا تعم الوطن العربي كله، وإنما يراد منها أن تنوب عن حقيقة كلية هى غياب الديمقراطية، السياسية والاجتماعية، فى الوطن العربي من الخليج إلى المحيط.

ج- بدلا من " العلمانية" : الديمقراطية والعقلانية

... وفى رأيى أنه من الواجب استبعاد شعار " العلمانية" كم قاموس الفكر القومي العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية، فهما اللذان يعبران تعبيرا مطابقا عن حاجات المجتمع العربي...

يمكن القول إجمالا إنه ما من شعار من شعارات الفكر العربي الحديث كان – وما يزال- مدعاة للبس وسوء التفاهم كشعار " العلمانية" .

والكلمة ترجمة غير موفقة لـ" اللايكية" بالفرنسية، ذلك لأن كلمة " لايك" لا ترتبط بأية علاقة اشتقاقية مع لفظ " العلم" إن أصل الكلمة يوناني: " لايكوس" ومعناها ما ينتمي إلى الشعب، إلى العامة،

وذلك فى مقابل " كليروس" أي الكهنوت : رجال الدين الذين يشكلون فئة خاصة ( رجال الكنيسة بالنسبة إلى المسيحية) .

وإذن فاللايكى هو كل من ليس كهنوتيا، من لا ينمى إلى رجال الكنيسة.

ذلك هو المعنى الأصلي للكلمة. ثم حصل نوع من الشطط فى استعمالها ( بالفرنسية) فاستعملت للدلالة على العداء للدين ورجاله.

وبما أن تعليم الدين كان من اختصاص الكنيسة، وكان يتم فى الأديرة، فإن التعليم العمومي الذى أقامته الدولة كان مقصورا فى الغالب على العلوم، الرياضية والطبيعية والإنسانية.

ومن هنا ارتبطت اللايكية فى فرنسا بالتعليم ، فأصبحت تعنى " تعليم العلم فى المدرسة وتلقين التربية الدينية فى الكنيسة" ، وكما يقول جان لاكروا ، فإن " فكرة اللايكية ليست المقابل المعارض لفكرة الدين،

ولكنها تستدعى على الأقل التمييز بين ما هو دنيوي وما هو مقدس. إنها تفترض أن جانبا من الحياة البشرية لا يخضع لقبضة التعاليم الدينية ، أو على الأقل يقع خارج سلطة رجال الدين" .

ومن هنا كان المذهب اللايكى هو المذهب الذى يطالب بجعل الحياة العامة غير خاضعة لسلطة الدين ورجاله ( الدين مفهوما هنا على أنه تعاليم الكنيسة باعتبارها مؤسسة تنازع الدولة فى السلطة على الناس: الدولة تملك أبدانهم والكنيسة تملك أرواحهم).

واضح إذن أن اللايكية فكرة مرتبطة أصلا بوضعية خاصة، وضعية المجتمع الذى تتولى فيه الكنيسة السلطة الروحية: المجتمع الذى يكون فيه الدين مبنيا لا على العلاقة المباشرة بين الإنسان والله، بل على علاقة تمر عبر " رجل الدين"، الرجل الذى يتخذ العمل الديني مهنة ووظيفة ويرتبط تنظيميا بهيئة دينية عليا تعتبر نفسها المشرع الوحيد فى ميدان الحياة الروحية...

وأوضح من ذلك أن هذه الفكرة غريبة تماما عن الدين الاسلامى وأهله: فالدين الاسلامى قوامه علاقة مباشرة بين الفرد البشرى وبين الله، فهو لا يعترف بأي وسيط ، وليس فيه سلطة روحية من اختصاص فريق وسلطة زمنية من اختصاص فريق آخر.

وباختصار، فإن طرح شعار اللايكية ، أي ما ترجم بـ " العلمانية" فى مجتمع يدين أهله بالإسلام هو طرح غير مبرر، غير مشروع، و لا معنى له. فلماذا طرح هذا الشعار فى العالم العربي إذن ؟ وما هى الحاجات التى أريد منه تلبيتها؟

طرح شعار " العلمانية" أول ما طرح فى ا لعالم العربي، فى منتصف القرن الماضي، وكان الذين طرحوه هم مفكرون مسيحيون من الشام، وكان الشام يومئذ، مثله مثل معظم الأقطار العربية المشرقية خاضعا للدولة التركية العثمانية التى كانت تحكم إمبراطورية واسعة باسم" الخلافة الإسلامية" ( صراحة أو ضمنا) .

والمسيحيون العرب الذين نادوا بـ " العلمانية" يومئذ إنما أرادوا التعبير، بكيفية متواضعة خجولة، عما عبر عنه بقوة وصراحة مفكرون عرب آخرون حينما حملوا شعار " الاستقلال عن الترك" ثم حدث أن التقى الشعاران، أو التياران، فى شعار واحد وتيار واحد، هو ما عبر عنه بتيار " العروبة" ، ثم بـ " القومية العربية" .

وإذن فشعار "العلمانية" طرح فى العالم العرى فى ارتباط عضوي مع شعار " الاستقلال عن الترك" وبما أن " الاستقلال عن الترك" كان يعنى فى نفس الوقت قيام دولة عربية واحدة( على الأقل فى المشرق، أى فى الولايات العثمانية العربية) فقط ارتبطت المفاهيم الثلاثة ببعضها ارتباطا عضويا: العلمانية والاستقلال والوحدة، لتعنى شيئا واحدا هو قيام دولة عربية فى المشرق غير خاضعة للسلطة العثمانية.

ومن هنا جاء تبنى الفكر القومي العربي لشعار العلمانية الذى كانت دلالته ملتبسة بمضمون شعار الاستقلال والوحدة. وعندما قامت حركة منافسة تطرح شعار " الجامعة الإسلامية" وكان ذلك فى الغالب نوعا من المعارضة لاستقلال الأقطار العربية عن الترك،

وبإيعاز وتوجيه من السلطات العثمانية، عندما حدث ذلك، أخذ التعارض يتبلور بين اتجاهين ، اتجاه يدعو إلى جامعة إسلامية بزعامة الأتراك، واتجاه يدعو إلى دولة عربية أو اتحاد عربي. ولم يكن يقصد دعاة " العروبة" هؤلاء، استبعاد الإسلام ولا الدين . إن شعار " العروبة" فى الأصل رفع فى وجه سياسة " التتريك" العثمانية كما هو معروف.

ذلك باختصار هو الإطار الذى طرح فيه شعار العلمانية فى بلاد الشام( سورية الكبرى)، ولابد من ملاحظة أن هذا الشعار لم يرفع قط فى بلدان المغرب العربي، ولا فى بلدان الجزيرة، ولربما لم يرفع بمثل هذه الحدة فى مصر نفسها حيث توجد أقلية قبطية مهمة، وعندما استقلت الأقطار العربية وبدأ التنظير لفكرة العروبة و" القومية العربية" ، طرح شعار " العلمانية" من جديد، وخصوصا فى الأقطار العربية التى توجد فيها أقليات دينية ( مسيحية بصفة خاصة) .

وهذا الطرح كان يبرره شعور ههذ الأقليات بأن الدول العربية الواحدة التى تنادى بها القومية العربية ستكون الأغلبية الساحقة فيها من المسلمين، الشيء الذى قد يفرز من جديد وضعا شبيها بالوضع الذى كان قائما خلال الحكم العثماني. وإذن فالدلالة الحقيقية لشعار " العلمانية" فى هذا الإطار الجديد ، إطار التنظير لدولة الوحدة، كانت مرتبطة ارتباطا عضويا بمشكلة حقوق الأقليات الدينية، وبكيفية خاصة حقها فى أن لا تكون محكومة بدين الأغلبية،

وبالتالي فـ " العلمانية " على هذا الاعتبار كانت تعنى بناء الدولة على أساس ديمقراطي عقلاني وليس على أساس الهيمنة الدينية .

وفى خضم الجدل السياسة الآيديولوجى بين الأحزاب والتيارات الفكرية، عبر بعضهم عن هذا المعنى بعبارة " فصل الدين عن الدولة" ، وهى عبارة غير مستساغة إطلاقا فى مجتمع إسلامي، لأنه لا معنى فى الإسلام لإقامة التعارض بين الدين والدولة. إن هذا التعارض لا يكون له معنى إلا حيث يتولى أمور الدين هيئة منظمة تدعى لنفسها الحق فى ممارسة سلطة روحية على الناس، فى مقابل سلطة زمنية تمارسها الهيئة السياسية: الدولة.

مسألة " العلمانية" فى العالم العربي مسألة مزيفة، بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات: إن الحاجة إلى الاستقلال فى إطار هوية قومية واحدة، والحاجة إلى الديمقراطية التى تحترم حقوق الأقليات، والحاجة إلى الممارسة العقلانية للسياسة، هى حاجات موضوعية فعلا، إنها مطالب معقولة وضرورية فى عالمنا العربي، ولكنها تفقد معقوليتها وضروريتها ، بل مشروعيتها عندما يعبر عنها بشعار ملتبس كشعار " العلمانية".

وما نريد أن نخلص إليه هو أن الفكر العربي مطالب بمراجعة مفاهيمه، بتدقيقها وجعل مضامينها مطابقة للحاجات الموضوعية المطروحة.

وفى رأيى أنه من الواجب استبعاد شعار " العلمانية" من قاموس الفكر العرى وتقويضه بشعاري " الديمقراطية " و " العقلانية" ، فهما اللذان يعبران تعبيرا مطابقا عن حاجات المجتمع العربي:الديمقراطية تعنى حفظ الحقوق: حقوق الأفراد وحقوق الجماعات، والعقلانبة تعنى الصدور فى الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية ، وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج.

هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنه لا الديمقراطية ولا العقلانية ، تعنيان بصورة من الصور استبعاد الإسلام، كي. إن الأخذ بالمعطيات الموضوعية وحدها يقتضى منا القول إنه إذا كان العرب هم " مادة الإسلام" حقا، فإن الإسلام هو روح العرب.

ومن هنا ضرورة اعتبار الإسلام مقوما أساسيا للوجود العربي: الإسلام الروحي بالنسبة للعرب المسلمين والإسلام الحضاري بالنسبة للعرب جميعا مسلمين وغير مسلمين.

إعادة تأسيس الفكر القومي على مبدأي الديمقراطية والعقلانية، وإحلال الإسلام المكانة التى يجب أن يحتلها فى النظرية والممارسة، تلك من جملة الأسس التى يجب أن تنطلق منها عملية إعادة بناء الفكر القومي العربي، الفكر الذى يرفع شعار الوحدة العربية والوطن العربي الواحد من المحيط إلى الخليج.

3- الدين والسياسة... والحرب الأهلية

... أما اختزال الإسلام كله فى " الحجاب" و" قطع يد السارق" وما أشبه ذلك .

فذلك هروب أو عجز عن طرح القضايا السياسية الحقيقية ، وبداية انزلاق نحو وضعية " الذين فرقوا دينهم شيعا" نحو الطائفية والحروب الأهلية.. حذار إذن من أنتحول السياسة الدين إلى عامل تفريق بدل أن يكون كما هو فى جوهره عنصر جمع وتوحيد.

لابد قبل ختم هذه السلسلة من البحوث التى تناولنا فيها مسألة الدين والدولة فى الفكر العربي المعاصر، من تحليل موجز للظاهرة التى تطبع الواقع السياسي العربي الراهن، ظاهرة توظيف الدين فى السياسة وما يتبع ذلك من حرب أهلية صريحة أو كامنة مضمرة.

ولكي نجعل القارئ يفكر معنا فى الحدود التى نفكر فيها، ولكي نتجنب بالتالي سوء الفهم الذى ينجم عن عدم التمييز والفصل بين المستويات المختلفة فى الظاهرة الواحدة، نرى من الضروري التنبيه هنا، مرة أخرى، إلى أننا نميز ونفصل بين العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة، من جهة، وبين حضور الإسلام كشريعة وكخلقية فى مجتمع تتكون الأغلبية الساحقة من أفراده من المسلمين ، من جهة أخرى.

إن العلمانية ، بمعنى فصل الدين عن الدولة شعار لا يستقيم، لا يطابق الواقع ولا يؤدى وظيفة إيجابية، إلا حيث تكون هناك مؤسسة تمثل الدين وتتكلم باسمه وفى نفس الوقت تنازع الدولة داخل دولة، فى مجتمع واحد.

وواضح أن الحل فى مثل هذه الحال هو الفصل بينهما بتحديد اختصاصات كل منهما تحديدا يجعل الواحدة منهما تمارس مهمتها دون أن تتشابك أو تتصادم مع الأخرى.

وقد حدث فى أوربا أن تم هذا الفصل بجعل الواحدة منهما مختصة بالسلطة الروحية ( الكنيسة) والأخرى مختصة بالسلطة الزمنية ( " السياسة" : الدولة) .

ما يحتاج إليه المجتمع الذى يدين أهله بالإسلام والذي لا توجد فيه، من هذا الدين نفسه ، مؤسسة دينية ، إذ الدين فى الإسلام من شأن الفرد وحده، فالعلاقة بينه وبين الله علاقة مباشرة تتم من دون توسط، ما يحتاج إليه مثل هذا المجتمع هو فصل الدين عن السياسة، بمعنى تجنب توظيف الدين لأغراض سياسية ، باعتبار أن الدين يمثل ما هو مطلق وثابت ، بينما السياسة ما هو نسبى ومتغير : السياسة تحركها المصالح الشخصية أو الفئوية ، أما الدين فيجب أن ينزه عن ذلك، وإلا فقد جوهره وروحه.

جوهر الدين وروحه أنه وحد ولا يفرق، والدين الاسلامى هو دين " التوحيد" بإطلاق: التوحيد على مستوى العقيدة ( إله واحد) ، والتوحيد على مستوى المجتمع ( أمة واحدة) ، والتوحيد على مستوى فهم الدين وممارسته:" إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم فى شاء".

أما السياسة فجوهرها وروحها أنها تفرق : السياسة تقوم حيث يوجد الاختلاف ، أو حيث يمكن أن يقوم اختلاف، وبالتالي فهي أقرب إلى أن تكون " فن إدارة الاختلاف" منها إلى أي شيء آخر.

والدارة أو التسيير تعنى هنا، إما إدارة الاختلاف القائم، وإما العمل على خلق اختلاف آخر جديد. ومن هنا كان ربط الدين بالسياسة- أيا كان نوع هذا الربط ودرجته- يؤدى ضرورة إلى إدخال جرثومة الاختلاف إلى الدين .

والاختلاف فى الدين إذا كان أصله سياسيا يؤدى ضرورة إلى الطائفية ومن ثم إلى الحرب الأهلية... والتاريخ، الحاضر منه والماضي، شاهد على ذلك: فمنذ زمن عثمان ، أي منذ أن بدأ توظيف الدين فى المجتمع الاسلامى توظيفا سياسيا والاختلاف فيه قائم ، والحرب الأهلية لا تهدأ إلا لتقوم من جديد ، بصورة أو بأخرى ، ولكن دائما بتوظيف الدين فى السياسة نوعا من التوظيف .

*كيف يؤدى توظيف الدين فى السياسة إلى حروب أهلية ؟

سؤال أساسي لابد من طرحه، ولابد من الوضوح عند الإجابة عنه، ذلك لأن القول بأن توظيف الدين فى السياسة يؤدى إلى حروب أهلية قول يبدو وكأنه يتناقض مع جوهر الدين، بما هو عنصر توحيد، إلى إقرار نوع من الوحدة فى السياسة، الوحدة التى أقل درجاتها منع الاختلاف من الانزلاق غلى حرب أهلية.
الواقع أن الأمر خلاف ذلك . فالذي يحدث هو أن توظيف الدين فى السياسة إنما يلجأ إليه " العقل السياسي" للجماعة عندما لا يكون من مصلحتها التعبير عن قضيتها الاجتماعية / الاقتصادية تعبيرا سياسيا صريحا ومطابقا، لأن ذلك يفضح الطابع المادي الاستغلالي لتلك القضية، أو عندما لا تستطيع تلك الجماعة ذلك، بسبب ضعف وعيها، نتيجة عدم بلوغها مستوى من التطور يجعلها قادرة على طرح قضيتها الاجتماعية/ الاقتصادية طرحا مكشوفا.
وفى كلتا الحالتين يكتسي توظيف الدين فى السياسة طابعا " طائفيا" أو مذهبيا قوامه استعادة نزاع قديم وبعث الحياة فى رموزه ومضامينه الإيديولوجية ، الشيء الذى لابد منه لجعل تلك الجماعة تتحول إلى " قبيلة روحية" ( وهو شيء ضروري لأن شروط وجودها الاجتماعي لا تجعل منها فئة فى مستوى " طبقة اجتماعية").

ولنا فيما يجرى فى لبنان خير مثال يوضح ذلك توضيحيا: فالجماعة المارونية توظف الدين فى السياسة، أي تتمسك بالطائفية ( التى تعنى توزيع المناصب الحكومية،

وبالتالي المصالح المادية على نفس الأساس الطائفي غير العادل الذى أسست عليه الدولة اللبنانية عند قيامها) ، لأنه ليس من مصلحتها طرح قضيتها، وهى الحفاظ على امتيازاتها الاقتصادية، طرحا سياسيا صريحا.

وبما أن السياسة ( السلطة) هى التى تحمى تلك المصالح، فإنها تلجأ، لكي تجعل هذه السياسة واقعا ثابتا لا يجوز تغييره، تلجأ إلى ربطها بالدين فتجعل حق الاختلاف فى الدين يحتوى احتواء الاختلاف القائم فى السياسة ( اى الفوارق الطبقية) .

هذا فى جانب ، أما فى الجانب الآخر، فإننا نرى الجماهير الفقيرة فى لبنان ، وهى المتضررة أكثر من احتكار المارونيين للسلطة السياسية والاقتصادية ، نراها لا تستطيع طرح هذا " الضرر" الذى يصيبها طرحا سياسيا مباشرا لأن شروط وجودها الاجتماعي الاقتصادي لم تبلغ المستوى الذى يجعل منها طبقة اجتماعية قادرة على طرح قضيتها كطبقة.

وإذا أضفنا إلى ذلك أن خصمها الاساسى( الذى يمارس الاستغلال السياسي الاقتصادي : المارونيون) يقدم نفسه كطائفة دينية ، وليس كطبقة اجتماعية، أدركنا كيف أن الوعي بالاستغلال لدى فقراء لبنان ومستضعفيه سيتخذ بدوره شكلا طائفيا ( الشيعة، الدروز، جماهير أهل السنة) .

ومن هنا ينزلق الصراع بسهولة إلى حرب أهلية طائفية حتى ولو اكتسى فى بداية الأمر شكل صراع طبقي.

وليس ما يجرى فى لبنان سوى نموذج لما يمكن أن يجرى فى أي بلد آخر يكون فيه توظيف الدين فى السياسة حاجة سياسية.

والبلدان العربية عموما مرشحة لأن تعانى من هذه "الحاجة" بصورة أو بأخرى، ولذلك فإن مسؤولية ما يسمى اليوم بـ" الاتجاه الاسلامى" أو بـ " الأصولية" أو بـ " الإسلام السياسي" مسؤولية عظيمة خطيرة. ذلك لأنه لا شيء أسهل من أن تتحول الدعوة الدينية إلى دعوة مفرقة، ويصبح الدين بالتالي عنصر تفريق وتمزيق، بدل أن يبقى جمع وتوحيد.

إن ما يبرر وجود " الإسلام السياسي" اليوم، أعنى وجوده التاريخ ، هو الاستبداد والظلم اللذان يطبعان سلوك الدولة والنخبة صاحبة السلطة، واللذان تعانى منهما( أي الاستبداد والظلم) الجماهير الفقيرة وقياداتها الروحية، فى البوادئ والمدن معاناة مادية ونفسية ن الاستبداد والظلم اللذان لم تنجح التيارات الإيديولوجية الحديثة – فى البلدان العربية- فى مقاومتهما وفرض البديل الديمقراطي مكانهما.

فإذا نظرنا إلى المسألة من هذه الزاوية وجدنا أن " الإسلام السياسي" يمثل اليوم صراع " طائفة" ضد " طائفة" : " طائفة" هى نظريا على الأقل ، الأغلبية الساحقة من الأمة وهم المستضعفون عموما/ وطائفة نخبة هى نظريا وعمليا الجماعة الحاكمة ومن تعلق بها من المستفيدين .

" الطائفة" الأولى هى ، أساسا ، غير طائفية لأنها تمثل موضوعيا الأغلبية الساحقة، ومع ذلك فهي مهددة فى كل وقت وحين بأن تنقلب إلى ميدان خصب للطائفية: ذلك لأنه من غير الممكن تجنب الاختلاف فى السياسة، الاختلاف الذى يعبر عن سبل مواجهة الخصم.. الخ.

ومن هنا ذلك المرض المزمن الذى تعانى منه الجماعات التى توظف الدين فى السياسة، مرض الانقسام إلى فرق وشيع يكفر بعضها بعضا، الشيء الذى ينسيها خصمها الحقيق ، فتنصرف عنه مشغولة بالتمزق الداخلي.

وإذن فـ " الإسلام السياسي" لا يمكن أن ينجح فى تحقيق أهدافه التاريخية التى تمنحه الوجود ومبررات هذا الوجود إلا إذا ارتفع بنفسه إلى مستوى هذه الأهداف، إلا إذا طرح مسألة الاستبداد والظلم وما يرتبط بهما أو يترتب عنهما من مسائل، سياسية واجتماعية واقتصادية، طرحا سياسيا واضحا وبخطاب سياسي صريح، إلا إذا دخل السياسة من بابها الرسم المعاصر والواسع.

أما اختزال الإسلام كله فى مسألة " الحجاب" و" قطع يد السارق " وما أشبه ذلك... فذلك هروب أو عجز عن طرح القضايا السياسية الحقيقية ومواجهة المهام التى تطرحها وبالتالي انزلاق نحو وضعية " الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا" نحو الطائفية والحروب الأهلية.. حذار إذن من أن تحول السياسة الدين إلى عامل تفريق بدل أن يبقى ، كما هو فى جوهره، عنصر جمع وتوحيد.

القسم الثاني مسألة تطبيق الشريعة

1- الصحوة ... والتجديد

... إن النائم الذى ينام ليلته ليصحو فى الغد، يستطيع أن يتابع مسيرة حياته كالمعتاد... أما أهل الكهف أو منهم فى معناهم فلا تكفيهم " الصحوة" لمتابعة مسيرة الحياة... بل يحتاجون إلى تجديد عقولهم أولا حتى يستطيعوا أن يروا الحياة الجديدة على حقيقتها.

شاعت فى السنوات الأخيرة على ساحة الخطاب العربي الاسلامى المعاصر عبارة " الصحوة الإسلامية" .

وعلى الرغم من ارتباط هذه العبارة بأحداث معينة على رأسها " الثورة الإيرانية" وظهور بعض التيارات والتنظيمات التى تتبنى " الدعوة" إلى تطبيق " النظام الاسلامى" فى مختلف مرافق الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن كلمة " الصحوة" تبقى مع ذلك، فى نظرنا، غريبة عن القاموس الاسلامى، أو أنها على الأقل لا تتناسب لا مع ما هو كائن ولا مع ما ينبغي أن يكون.

ذلك لأن وصف ما حدث فى إيران أو ما عرفته بلدان عربية أو إسلامية من حركات وتيارات تتبنى " الدعوة" إلى تطبيق " النظام الاسلامى" ، بأنه " صحوة إسلامية" ، يوحى بأن الإسلام كان قبل ذلك " نائما" أو غائبا، فى حين أن الإسلام سواء كعقيدة وشريعة ، أو كمثل أعلى للحياة لم " ينم" يوما ولم يغب لا عن وجدان المسلمين ولا عن سلوك كثير منهم.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن كلمة " صحوة" لا تفي، فى نظرنا، بما هو مطلوب من المسلمين فى هذه الظروف التى تتحداهم فيها الحياة المعاصرة بمختلف مظاهرها وتعقيداتها.

إن " الصحوة" انفعال لا فعل، والمسلمون محتاجون، بل مطالبون بالفعل ، وليس بمجرد الانفعال، حتى ولو كان الانفعال تعبيرا عما يفعل فى نفوسهم.

ونحن لا نستبعد أن تكون كلمة " صحوة " مجرد ترجمة لما يقابلها فى اللغات الأوربية.

فقد وصفت الصحافة الغربية التحركات التى عرفتها بلدان عربية وإسلامية أخرى، باسم الإسلام، وصفت ذلك بما ترجمته : " صحوة الإسلام".

ومهما يكن، فنحن نعتقد أن كلمة " صحوة" سواء كانت من وضع بعض الكتاب العرب المسلمين، أو كانت ترجمة للكلمة من لغة أجنبية، ليست من القاموس الاسلامى فى شاء.

ونحن عندما نقول " القاموس الاسلامى" نقصد المفاهيم التى يزخر بها تراثنا العربي الاسلامى، والتي تؤدى أحسن أداء ما يطلب من كلمة " الصحوة" أن تؤديه، وعلى رأس المفاهيم الإسلامية الأصل مفهوم " التجديد" .

ونحن عندما نفاضل هنا بين كلمتي " صحوة " و" تجديد" ، ونفضل استعمال الثانية على استعمال الأولى ، لا نفعل ذلك لمجرد أن هذه أصلية فى تراثنا وفكرنا ،

وأن تلك قد تكون منقولة من لغة أخرى، وبالتالي قد تنمى إلى تراث آخر، بل نفعل ذلك لأن البعد الذى تحيل إليه الكلمتان ليس واحدا: الصحوة تحيل إلى بعد سطحي وظرفي.

وفى الغالب فالذين استعملوا عبارة " الصحوة السلامية" من الأجانب قصدوا بها وصف ظاهرة ظرفية.

وإذا أخذت هذه الظاهرة فى ظرفيتها بقيت تتحرك على سطح التاريخ وليس فى أعماقه. أما " التجديد" فهو بالعكس من ذلك يحيل إلى عمل بعيد الأغوار ينزل بكل ثقله على المستقبل، ولذلك فهو يقع فى أعماق التاريخ، فى صلبه، يواكب صيرورته ويوجهها ويطمع فى التحكم فيها.

والحق أن ما يحتاج إليه المسلمون اليوم هو " التجديد " وليس مجرد " الصحوة" . إن التحديات التى تواجه العالم العربي والعالم الاسلامى تتطلب ليس فقط رد الفعل ، بل الفعل .

والفعل فى العصر الحاضر هو أولا وأخيرا فعل العقل. أما فعل اللسان ( الخطابة والوعظ والإرشاد...) ، أما فعل اليد والعضلات ( مهما كانت صورته وقوته) ، فهما لم يعودا يجديان اليوم، لأن العصر يقوم كل شيء فيه على الفعل العقلاني: على الضبط والتنظيم وحساب الخطوات وحصر التوقعات وتقليص دائرة المصادفات والمفاجآت إلى أقصى حد... وأمام هذا الواقع الجيد، فإن مجرد "الصحوة " لا تجدي، حتى ولو كانت " صحوة فكرية ".. وإنما " التجديد" وحده يجدي.

و" التجديد" بالنسبة إلى الرؤية الإسلامية جزء من الحياة نفسها، بدليل الحديث النبوي المشهور:" إن الله يبعث لهذه الأمة، على رأس كل مائة سنة، من يجدد لها دينها" (أو "أمر دينها").

وبما أن الإسلام لا يفصل بين الدين والدنيا، بل بالعكس من ذلك، يربط صلاح أمور الدين بصلاح أمور الدنيا، فإن تجديد أمور الدين يعنى فى ذات الوقت تجديد أمور الدنيا.

وبما أن أمور الدنيا تتغير من زمان إلى آخر، فإن مفهوم التجديد ومتطلباته لابد من أن يتغير بحسب الظروف والإعصار.

وهكذا فإذا كان بعض الفقهاء القدامى قد فسروا " التجديد" على أنه " كسر للبدعية" والعودة بالمسلمين إلى سيرة السلف الصالح، فينبغي ألا نقف نحن عند حدود هذا المعنى تقليدا لهم وتقليدا بالتعريف الذى أعطوه لـ" البدعة"، والذي استمدوه من ظروف عصرهم ومعطيات واقعهم.

على أن " البدعة" فى المصطلح الاسلامى ليست مذمومة دائما ولا محرمة بإطلاق، بين ما هو حسن فيه فائدة للناس أو صلاح للسلوك، وبين ما هو مذموم، لما فيه من ضرر يلحق الناس أو من انحراف عن السلوك المستقيم.

غير أن كثيرا من فقهاء عصر الجمود والانحطاط قد غالوا مغالاة، لا يسمح بها الإسلام إطلاقا، فى تطبيق مفهوم " البدعة" ، بمعناها الذى يفيد الذم، على كثير من المستجدات التى لم تكن من البدع بهذا المعنى فى شاء ، بل إن كثيرا منها كان من التجديدات الضرورية.

لقد كان هناك من فقهاء عصر الجمود الانحطاط من اعتبروا بناء المدارس " بدعة" بدعوى أن العلم إنما كان يتلقى، على عهد السلف الصالح، فى المساجد ، كما كان منهم من اعتبر بناء القناطر من " البدع" الضالة بدعوى أن الصحابة لم يعرف عنهم أنهم شيدوها... الخ.

ويعجبني رد الإمام الشاطبى ، الفقيه الأندلسي المجتهد المتوفى سنة 790 هجرية، يعجبني رده على هؤلاء لأنه كان ردا إسلاميا وعقلانيا تاريخانيا .

لقد دعاهم إلى النظر إلى " التجديد" لا من زاوية أنه لم يكن فى عصر الصحابة وأنهم لم يكونوا يأتونه، بل من زاوية ما قد يكون فيه المصلحة .

يقول عن هؤلاء الفقهاء:" ‘ن عدوا كل محدث العادات بدعة فليعدوا جميع ما لم يكن فيهم ( أي الصحابة) من المأكول والمشارب والملابس والكلام والمسائل النازلة التى لا عهد بها فى الزمان الأول- زمان الصحابة- بدعة.

وهذا تشنيع. فإن من العوائد ما تختلف بحسب الأزمان والأمكنة والأمم، فيكون كل من خالف العرب الذين أدركوا الصحابة اعتادوا مثل عوائدهم غير متبعين لهم، وهذا من المستنكرات جدا" .

من هنا يلح الشاطبى على التمييز بين البدع فى العبادات والأمور المتعبد بها، والبدع التى تتعلق بالأمور التى تجرى العاديات أي التى تقتضيها الحياة الاجتماعية وتطورها.

فكل ما لا يؤدى إلى ترك عبادة من العبادات التى نص عليها الإسلام ولا إلى إحداث عبادة لم ينص عليها، فليس بـ " بدعة" بالمعنى المذموم للكلمة.

من هنا يتضح ضيق التعريف القديم لـ " التجديد". فإذا نحن قصرناه على " كسر البدعة" ، كما يقول بعض الفقهاء،ضيقنا نطاقه إلى درجة يصبح معها مقصورا على محاربة الانحراف فى العبادات ، إما بالزيادة ، وإما بالترك .

وهذا إن كان يكفى فى العصور السابقة فهو اليوم لا يكفى ولا يفي بالغرض من التجديد" كما هو مطلوب.

نعم يمكن أن يسمى هذا " صحوة" وفى هذه الحالة سينصرف معنى العبارة الذائعة اليوم، عبارة " الصحوة الإسلامية" ، غلى ما يشاهد من إقبال على أداء الشعائر الدينية والتزام بعض مظاهر الخلقية الدينية .

أما ما عدا ذلك من شؤون الدنيا فسيبقى ينتظر " التجديد" ... وما أكثر ما فينا ينتظر الجديد.

صحيح أن من مظاهر ما يسمى اليوم بـ " الصحوة الإسلامية" المطالبة بتطبيق " النظام الاسلامى" على الحياة بجميع مرافقها ، وهذه كانت ولا زالت وستبقى مطلبا ينادى به كل مسلم. ذلك لأنه ليس هناك " نظام إسلاما" جاهز محدد ومعلوم يعم الحياة بجميع مرافقها.

فباستثناء ما يتعلق بالعبادات والأحوال الشخصية وبعض المعاملات التى تضبطها النصوص، فليس هناك ، فى مجال الاقتصاد والسياسة مثلا، سوى مبادئ عامة تقرر بصورة أو بأخرى الخلقية الإسلامية فى هذه الميادين، وبالتالي فـ " النظام الاسلامى" فى هذه المجالات متروك للاجتهاد.

وإذن فالصحوة الحقيقية المطلوبة، بل التجديد الحقيقي المطلوب هو إيجاد الحلول العملية لما يطرحه علينا عصرنا من قضايا لم يعرفها ماضينا، حلول تكون مشبعة بالخلقية الإسلامية، نعم، ولكن أيضا تكون قادرة على الدفع بنا فى طريق التقدم، طريق مواكبة العصر والمساهمة فى إغناء إنجازاته .

وعندما ننظر إلى المسألة من هذه الزاوية فإننا سنجد أن الأمر ليس هينا، وأنه يتطلب لا مجرد " صحوة" أو مجرد "بدعة حسنة" بل يتطلب تجديدا جذريا، تجديدا فى الأعماق ومن الأعماق.

ذلك أن الحضارة المعاصرة التى نعيشها، بل نعيش فيها، شئنا أم أبينا، ليست من جنس الحضارة التى عرفها أسلافنا، وليست امتدادا مباشرا لها، كما أنها ليست من صنعنا بل هى من صنع غيرنا، ونحن إنما تابعون فيها ولها فى مختلف الميادين: فى العلم والتقنية، والاقتصاد والعادات، والفكر والأيديولوجيا ،

وبالتالي فالتحديات التى تواجهنا ليست من النوع الذى يصدق عليه اسم " البدعة" حتى نربط التجديد بـ " كسر البدعة" ،ولا هى من النوع الذى تكفى فيه الصحوة، حتى نعتقد أننا قد أخذنا نشق الطريق فعلا، بل هى تحديات حضارة جديدة تماما تتطلب مواجهتها فكرا جديدا تماما وأساليب جديدة تماما... وهذا أعظم شأنا وأعمق غورا من مجرد الصحوة.

على أن الأمر كان سيكون هينا بعض الشيء لو أننا نواجه فقط الهوة التي تسبب فيها ما عانيناه ، من جمود وانحطاط قبل يقظتنا الحديثة، بل إن الهوة تزداد كل يوم، بمسافات شاسعة بيننا وبين ما تنتجه الحضارة المعاصرة من علم وتقنية حتى فى عهد " يقظتنا" هذه .

وإذن فالمسألة ليست مسألة مجرد "الصحوة" . ذلك لأن ا لنائم الذى ينام ليلته ليصحو فى الغد، يستطيع أن يتابع مسيرة حياته كالمعتاد..

أما أهل الكهف أو من هم فى معناهم فلا تكفيهم " الصحوة" لمتابعة مسيرة الحياة ، بل يحتاجون أولا وقبل كل شيء إلى تجديد عقولهم حتى يستطيعوا أن يروا بأبصارهم الحياة الجديدة على حقيقتها.

ونحن ، وإن كنا لم نعان من تجربة " أهل الكهف" الذى كان ثامنهم كلبهم، مثلما عانت الشعوب المسماة بدائية مثلا، فلقد عانينا وما نزال نعانى من كهف أفلاطون، الكهف الذى أرغم الذين ألقى بهم فيه على إدارة وجوههم نحو الجدار حتى لا يروا ضوء النهار ، وإنما يرون فقط الخيالات والظلال التى ترتسم على الجدار والتي يسقطها عليه ضوء النهار.

3- السلفية .. أم التجربة التاريخية للأمة؟

فالتجربة التاريخية للأمة العربية، تجربتها الراهنة مع الحضارة المعاصرة لا يكفى فيها استلهام نموذج " السلف الصالح" وحده. فهذا النموذج إنما كان نموذجا كافيا لنا يوم كان التاريخ هو تاريخنا، يوم كان العالم كله " يقع" فى عقر دارنا...

أذكر أننا عندما كنا أطفالا وشبانا، فى الأربعينات وبداية الخمسينات من هذا القرن، كانت الملامح الرئيسية المكونة لصورة " السلفي" فى أذهاننا هى : معاداة المستعمر، ومحاربة الشعوذة واستنكار زيارة الأضرحة، وشجب كثير من العادات والتقاليد الاجتماعية " الشعبية" التى تدخل فيما يطلق عليه اليوم اسم" الفولكور" ، هذا فضلا عن الورع والمواظبة على القيام بالشعائر الدينية... الخ.

وبصورة مختصرة، كان " السلفي" فى الوسط الثقافي والاجتماعي الذى كنا نعيش فيه ، حين بدأنا نفتح أعيننا على ال حياة فى الأربعينات وإلى بداية الخمسينيات ، رجلا مجددا، مناهضا للوضع القائم، سواء الجانب الذى يمثله الحكم الأجنبي ( الاستعمار) ، أو الجانب الذى يمثله الواقع الوطني المتخلف الموروث من فترة ما قبل الاستعمار.

ولم يكن هناك من لقب أشرف فى عين حامله من لقب " السلفي" ، فلقد كان يفوق فى اعتباره واعتبار الشعب لقب " الوطني" ، لأن الوطنية كانت جزءا مقوما للسلفية، فى حين أن السلفية، على الأقل كسلوك ديني واجتماعي، لم تكن بالضرورة من مقومات الوطنية. وبعبارة أخرى، فالسلفي وكأنه " وطني" فى الدنيا والآخرة. لقد كان بالفعل ملصا لهما معا ومتفانيا فى خدمة قضية كل منهما.

كان هذا فى المغرب الذى عشناه أطفالا، مغرب الأربعينيات ، وكان الأمر كذلك فى مغرب الثلاثينيات والعشرينيات... ومن دون شك، فلقد كان الأمر كذلك فى الأقطار العربية الأخرى فى ذات الفترة أو قبلها.

غير أن الوضعية فى المغرب تختلف مع ذلك عنها فى المشرق فى نقطة أساسية : فلقد اتجهت السلفية فى المغرب نحو الاندماج فى الحركة الوطنية وتبنى أهدافها التحديثية وانتهت بالذوبان فيها، خصوصا عندما جند المستعمرون الطرقية والقوى المتخلفة المتعاملة معهم، ضد الوطنية والسلفية معا، بل يمكن القول إن الوطنية المناضلة إنما خرجت من جوف السلفية تماما، مثلما أن السلفية انتشرت فى جسم المجتمع وتغلبت على الطرقية، خصمها الديني، باندماجها فى الحركة الوطنية ورفعها راية النضال ضد المستعمر وأعوانه وعملائه.

ومن دون شك، فإن السلفية فى المشرق قد سارت خلال تطورها فى اتجاه يختلف بعش الشيء، بسبب ظروف وأوضاع كان المغرب، ولا يزال، متحررا منها.. وليس ها هنا مجال الخوض فيها.

ومع ذلك، فلقد كانت السلفية فى تقدير السلفيين واعتقادهم، وأيضا فى تقدير فريق واسع من الجماهير العربية المسلمة تعنى: استقامة السلوك، والتجديد فى الدين، والعمل من أجل المستقبل من خلال الدعوة إلى الرجوع إلى " سيرة السلف الصلح" .

ولم تكن السلفية بهذا المعنى وليدة القرن العشرين أو القرن التاسع عشر، بل لقد كانت جميع الحركات الإصلاحية فى الإسلام التى ينتمي أصحابها إلى مذهب أهل السنة، سلفية بهذا المعنى.

فعلا ، كانت جميع تلك الحركات تستلهم صور المستقبل من حقبة معينة من التاريخ الاسلامى، وهى على العموم حقبة " السلف الصالح " الذى يقف به بعضهم عند عصر الصحابة والتابعين، عصر الخلفاء الراشدين بصورة خاصة، بينما يجعله بعضهم الآخر يضم جميع من اقتدى بالخلفاء الراشدين من الملوك والحكام كعمر بن عبد العزيز، أو من سار على نهج الصحابة من الفقهاء وعلماء الدين، من دون تقيد بحقبة ولا بعصر. وهذا الانشداد إلى " سيرة السلف الصالح" هو المعنى الذى يعطيه للسلفية كل من يتخذها شعارا للسلوك أو الفكر أو العمل الاصلاحى.

لقد تعمدنا إبراز هذا الوجه المشرق والواقعي مع الذى تتعرف فى السلفية من خلاله إلى نفسها ويعرفها التاريخ الاسلامى به، ليس من أجل الدعوة إلى سلفية أخرى قديمة أو جديدة، بل من أجل إبراز المضمون التاريخي والديني لشعار أصبح ينظر إليه اليوم على أنه قرين الماضوية والرجعية والإعراض عن التحديث والحداثة والأخذ بأساليب العصر، أفكاره وأدواته.

غير أن الحديث عن السلفية سيظل ناقصا وغير تاريخي إذا ما اقتصر على إبراز الوجه الذى أبرزناه وأغفل الباقي.

ولا نعنى بـ " الباقي" هنا أية جوانب سلبية، ولا أية وجوه نقص قد تكون السلفية عانت منها أو كرستها، قديما أو حديثا، بل نقصد أن السلفية ، سواء كحركة إصلاحية فكرية واجتماعية وسياسية، أو كمحنى معين على صعيد العقيدة والسلوك الديني ، لم تكن تقع خارج التاريخي العربي الاسلامى، وإنما كانت أحد مظاهر التجربة التاريخية للأمة، أحد مظاهرها الإصلاحية ، بل أحد مظاهر الإصلاح فيها.

والواقع أننا إذا نظرنا إلى جميع الحركات السلفية التى عرفها التاريخ الاسلامى، من داخل محيطها الحضاري الذى كان يتحدد بالحضارة العربية الإسلامية بوصفها حضارة العالم فى عصرها، وجدناها جميعا بمثابة تعبير عن عملية إعادة التوازن الذاتي للمسار الذى اتخذه التاريخ العربي منذ ظهور الإسلام.

وبمعنى آخر، إن السلفية كانت دائما ذلك الجزء من التجربة التاريخية للإسلام السني الذى تستعدي به هذه التجربة ما يحفظ لها الوجود والاستمرارية عندما يفرز تطورها الداخل ما يهددها بالاندثار. فهي إذن نوع من المقاومة الذاتية لأمراض داخلية ذاتية المنشأ.

وقد كانت كافية وناجعة عندما كانت الحضارة العربية الإسلامية هى حضارة العالم لعصرها، أعنى غير مزاحمة ولا مهددة بحضارة أخرى معاصرة لها على صعيد الزمن...

ومعلوم أن الحضارة المعاصرة التى نحياها اليوم والتا تفرض نفسها علينا وعلى غيرنا، بالفكر والتقنية والسلع والسلاح، كحضارة للعصر الحاضر كله، هى شيء آخر جديد تماما، يقع خارج الحضارة العربية الإسلامية التى أصيبت بالتراجع ، وفى ذات الوقت ينافسها ويهددها من خارجها وفى عقر دارها..

وبالتالي، فالتجربة التاريخية للأمة العربية الإسلامية، تجربتها الراهنة مع الحضارة المعاصرة لا يكفى فيها استلهام نموذج " السلف الصالح" وحده.

فهذا النموذج إنما كان نموذجا كافيا لنا يوم كان التاريخ هو تاريخنا، يوم كان العالم كله " يقع" فى عقر دارنا.. أما اليوم فيجب أن نقتنع- إذا كان بعضنا فى حاجة إلى اقتناع – بأننا لم نعد وحدنا، ومن المؤكد أننا لن نكون وحدنا فى المستقبل، على الأقل بالنسبة إلى المدى المنظور...

وإذن فالنموذج الذى يجب استلهامه من أجل إعادة بناء الذات، ذاتنا نحن ، وتحصينها ضد الذوبان والاندثار والاستلاب ، ينبغي ألا يكون من نوع " النموذج- السلف" الذى يقدم نفسه كعالم يكفى ذاته بذاته، بل يجب أن يشمل جماع التجربة التاريخية لأمتنا مع الاستفادة من التجربة التاريخية للأمم التى تناضل مثلنا من أجل الوجود والحفاظ على الوجود، وأيضا – ولم لا ؟ من التجربة التاريخية للأمم التى أصبحت اليوم تفرض حضارتها كحضارة للعالم أجمع.

لقد كانت السلفية كافية وفعالة وإجرائية يوم كنا وحدنا فى بيت هو بيتنا وبيت لنا فى نفس الوقت . أما وقد أصبحنا جزءا فى كل ، فإن الطريق الوحيد لإثبات وجودنا والحفاظ على خصوصيتنا داخل هذا الكل هو طريق التعامل معه بالمنطق الذى يؤثر فيه ، منطقه هو ، ولكن من مواقعنا لا من موقع غيرنا.

ومنطق الكل الذى ننتمي إليه اليوم، أعنى منطق الحضارة المعاصرة، يتلخص فى مبدأين: العقلانية والنظرة النقدية. العقلانية فى ا لاقتصاد والسياسة والعلاقات الاجتماعية، والنظرة النقدية لكل شيء فى الحياة، للطبيعة والتاريخ والمجتمع والفكر والثقافة والأيديولوجيا .

هذا فى حين أن منطق " سيرة السلف الصالح" التى تمثل " المدينة الفاضلة" فى التجربة التاريخية للأمة الإسلامية كان شيئا آخر: كان منطقا يقوم على المبدأ التالي: الدنيا مجرد قنطرة إلى الآخرة. وقد أدى هذا المنطق وظيفته يوم كان العصر عصر إيمان فقط، وليس عصر علم وتقنية وأيديولوجيات.

نعم، إن منطق الإيمان هذا صالح فى كل زمان ومكان، وللناس بصورة عامة، وللمسلمين بصورة خاصة، لأنه من تراثهم ، ولكنه صالح فقط، فى العصر الحاضر، كخلقية ، كموجه للسلوك الانسانى فى علاقة المرء مع ربه، مع استشرافاته الأخروية.

إن " السيرة" هنا يجب أن تبقى سيرة أخلاقية، منبعا للفضيلة والتقوى... الخ. أما ما يتعدى الأخلاق، فيجب أن نلتمس له منطقا آخر فى الحياة نفسها، أعنى فى قانون تطورها واتجاه سيرها وموازين القوى فيها.

نعم ، ليس الإسلام مجرد " سيرة سلف" مضى وانقضى... بل هو، كما يؤمن كل مسلم ، صالح لكل زمان ومكان.

غير أن تأكيد هذا بالقول شيء، وترجمته إلى الواقع شيء آخر... على أن جميع أهل الديانات ، قديما وحديثا يتمسكون بها ويعتبرونها تمثل الحقيقة العليا وتنطق بها، ولو كان أهل الديانات ، بوذيين كانوا أو يهودا أو نصارى... الخ، يعتقدون أن صلاحية أديانهم مقيدة بزمان أو مكان ، لو كانوا يعتقدون أن صلاحيتها نسبية أو مؤقتة، لما كانوا متدينين ولا محسوبين فى عداد المتدينين ، لأن التدين بدين ما ، ينطلق أولا وقبل كل شيء من الإيمان المطلق بصلاحية هذا الدين لكل زمان ومكان.

وإذن، فالمسألة ليست مسألة ما إذا كان الإسلام صالحا لكل زمان ومكان، فهذا ما يؤمن به كل مسلم، ولم يبقى المسلم مسلما إذا شك لحظة فى هذه المسلمة الدينية.

ولكن المسألة المطروحة، والتي يجب طرحها دائما، هى مسألة ما إذا كان المسلمون اليوم الحين لزمانهم، أي قادرين على أن يعيشوا عصرهم، على أن يدشنوا " سيرة " جديدة تكمل " سيرة السلف" القديمة، وتجعل منها واقعا حيا صالحا لأن تستلهمه الأجيال المقبلة فى بناء " سيرتها" الخاصة...

إن التجربة التاريخية للأمة هى التى يجب تحيينها- أي جعلها حية فى الحاضر- بتدشين فصل جديد منها، يمكنها من الدخول فى العصر الحاضر، هذا العصر الذى يصر كل شاء فيه إصرارا ، وكل يوم وكل ساعة، على أنه عصر " الخلف" وليس عصر " السلف".

3- التطرف.. يمينا ويسارا

والتطرف داخل التيار السلفي فى الفكر العربي المعاصر يجد بعض مبررات وجوده، من دون شك ، فى غياب الديمقراطية، السياسية منها والاجتماعية. ولكم من مبررات وجوده أيضا عدم تمكن هذا الاتجاه، حتى الآن ، من القيام بالتجديد المطلوب فى الفكر الاسلامى...

عندما يذكر " الإسلام" أو " الإسلاميون" فى الخطاب السياسي والصحفي المعاصر، فإن الذهن يستحضر فى الغالب الجماعات المتطرفة التى تحمل شعار" الإسلام" وتستظل به بطريقة من الطرق.

وهذا من الأخطاء الشائعة التى تجر إليها الألفاظ. فالتيار الاسلامى، أو ما يعبر عنه أحيانا بـ" الإسلام السياسي" يشمل قطاعا عريضا من الرأي العام العربي المعاصر يمتد من وسط اليسار إلى أقصى اليمين، حيث مواقع الجماعات الدينية المتطرفة، تماما مثلما أن التيار التحديثي فى الساحة الفكرية العربية يمتد من وسط اليمين إلى أقصى اليسار، حيث مواقع الجماعات المتياسرة، المتطرفة.

ونحن عندما نستعمل هنا الزوج يمين / يسار ، فإننا نفعل ذلك من أجل وظيفته الإجرائية وحسب، إننا نأخذه كوسيلة للتصنيف، لا غير.

أما المضمون الأيديولوجي الذى يحمله هذا الزوج فى الغرب، حيث يعبر ب، " اليمين " عن القوى الرأسمالية والليبرالية والرجعية، وبـ" اليسار" عن القوى الاشتراكية والتقدمية، فهو لا يدخل فى اهتمامنا هنا، فضلا عن أنه لا يطابق الوضع القائم فى العالم العربي، إذ ليس كل من يصنف فى تيار الحداثة اشتراكيا أو تقدميا، وليس كل من يصنف فى التيار الاسلامى رأسماليا أو رجعيا .

نحن نستعمل هنا الزوج يمين / يسار فقط من أجل تحديد مواقع الجماعات المتطرفة، وهى صنفان: صنف نضعه فى أقصى جهة نسميها " يسارا" ، وصنف نضعه فى أقصى الجهة المقابلة فنسميها ضرورة " يمينا".

والسؤال الذى نريد طرحه هنا هو التالي: ضد من يقوم التطرف الواقع فى أقصى اليسار، وضد من يقوم التطرف المقابل له ف أقصى اليمين؟ .

إن عدم طرح هذا السؤال يجعل الإنسان ينساق أحيانا مع سلطة الألفاظ، فيعتقد أن التطرف فى أقصى اليسار خصمه هو ذلك الذى يقع فى أقصى اليمين.

وهذا اعتقاد خاطئ، يكذبه تاريخ نشأة التطرف فى هذه الجهة أو تلك ، كما تكذبه مواقف وأطروحات المتطرفين فى الجهتين كلتيهما.

والواقع أن التطرف فى اليسار هو موجه أصلا ضد اليسار نفسه، كما أن التطرف فى اليمين موجه ضد اليمين، وغالبا ما يكون الخصم اللدود للمتطرف فى إحدى الجهتين هو أقرب " الناس" إليه، على يمينه أو على يساره.

لقد ظهر التطرف فى اليسار ، فى العصر الحاضر، خلال النصف الثاني من الستينات فى أوربا، وبلغ أوجه هناك وفى جهات كثيرة من العالم فى أواخر الستينات وأوائل السبعينات، فتكونت جماعات متياسرة قامت تطرح نفسها كبديل جديد لا لليمين ، بل لليسار نفسه، وبالتالي كان خصومها المباشرون ، أعنى الذين كانت تعتبرهم هن كذلك، هم الأحزاب الشيوعية التقليدية والأحزاب الاشتراكية عموما، ولم تكن الجماعات المتياسرة " تناضل" ضد اليمين أو يمين اليمين ، بل كانت تتجه بكل قواها ضد اليسار نفسه الذى كانت تضعه على يمينها.

ومثل ذلك التطرف فى اليمين، فالجماعات المتطرفة فيه إنما تتطرف احتجاجا واعتراضا عليه هو نفسه، وليس ضد اليسار.

والجماعات الإسلامية المتطرفة تتجه بالاعتراض والخصومة إلى التيار الاسلامى " الوسط" أو " المعتدل" / مثلها فى ذلك مثل " الخوارج" فى صدر الإسلام.

لقد كان على بن أبى طالب يمثل الاتجاه الديني، وكان معاوية يمثل الاتجاه الدنيوي، داخل الإسلام لا خارجه، والتطرف الذى ظهر فى صفوف على وسمة أصحابه باسم " الخوارج" قام أصلا ضد على نفسه، وقد سموا خوارج لأنهم خرجوا عليه. صحيح أنهم أيضا كانوا ضد معاوية، ولكن خروجهم لم يكن يضر معاوية فى شيء، بل بالعكس لقد كان لفائدته .

وأكثر من ذلك، فهم عندما خرجوا على على احتجاجا على قبوله التحكيم، لم يذهبوا إلى قتال معاوية مباشرة، بل قاتلوا عليا وأصحابه، ثم إنهم لم يدبروا مؤامرة لاغتيال معاوية بمفرده، بل لقد أرادوا اغتيالهما معا، ونجحوا فى اغتيال على ولم ينجحوا فى الوصول إلى معاوية.

ولو أنهم فكروا قبل الإقدام على تنفيذ مؤامرتهم، لتبين لهم أنهم من الممكن جدا أن ينجحوا فى اغتيال على ، لأنه لم يكن يحيط نفسه بالحراسة والحماية، بينما أن حظوظ نجاحهم فى اغتيال معاوية كانت ضئيلة جدا لأنه كان محروسا وكان يأخذ احتياطاته. إن التطرف يعمى صاحبه ويحجب عنه الحقائق الموضوعية ويجعله ينظر إلى العالم نظرة سحرية.

وشأن الجماعات المتطرفة على اختلاف مواقعها شأن " الخوارج" ، فهي وإن كانت " تخرج" ، أو " تثور" – فى الغالب – ضد تساهل أو اعتدال الجهة التى تنتمي إليها إزاء الجهة المقابلة الخصم( المتياسرون يثورون على اليسار احتجاجا على تعامله مع اليمين، والمتطرفون فى اليمين يثورون على هذا الأخير لجنوحه إلى نوع من الاعتدال) ، فإنه النتيجة فى الأغلب الأعم، تكون ضربة للجهة التى خرج منها التطرف ولفائدة الطرف الآخر.

وهذا يؤدى فى النهاية إلى انعزال الجماعات المتطرفة يمينا ويسارا، فتبقى على ا لهامش تكرر التجربة ذاتها مع نفسها، تجربة التطرف، فتنقسم غلى جماعات تخاصم بعضها، و" تكفر" كل جماعة منها الأخرى، كما حدث فى صفوف " الخوار" . ويكون الخصم الأول دائما هو الجار الأقرب، وهكذا تنتهي الحركات المتطرفة إلى التفتت والذوبان.

ومما يجب تأكيده هنا أنه لم يحصل قط، وما أظنه سيحصل يوما ما ، أن جماعة متطرفة فى هذه الجهة أو تلك غيرت الوضع أو صنعت التاريخ. التاريخ تصنعه القوى المتصارعة فى الوسط غالبا.

والثورات تنتهي، حتى ولو ساهم فيها المتطرفون، إلى نتيجة واحدة، هى أن السلطة يتسلمها " المعتدلون" الذين يقعون فى " الوسط" أو قريبا منه.

وهذه حقيقة يعرفها المتطرفون، ولذلك تجد شعارهم، فى الغالب، ليس استلام السلطة ، بل " الاستشهاد" من أجل القضية . أما نوع هذه القضية ، أما إمكانية تحقيقها، أما وسائل خدمتها بصورة عملية تاريخية، فهذا ما لا يفكر فيه المتطرف، ولا يستطيع أن يفعل.

إن التطرف فى مثل هذه الحال يصبح نوعا من النظرة السحرية إلى العالم، يكتسي طابع الهروب إلى الأمام.

ولذلك فليس غريبا أن ترى المتطرف يقفز من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار أو العكس، وقد يكتسي الهروب إلى ا لأمام طابع " الهجرة" إلى أوطان أخرى كانت فى الأصل خصما ، والقيام فيها بدور " الخادم" أو " الحاجب" المرتزق من أجل " لا قضية" ... " طالبا وحده الطعن والنزال" . إنه نمط من الوعي المزيف الذى ينسى معه الفرد حقيقته وطبيعة موقعه، فلا يرى إلا ما يعتقد أنه ليس هو إياه.

التطرف أشكال وأصناف... والتطرف داخل التيار السلفي فى الفكر العربي المعاصر يجد مبررات وجوده، من دون شك، فى غياب الديمقراطية، السياسية منها والاجتماعية، ولكن من مبررات وجوده أيضا عدم تمكن الاتجاه السلفي، حتى الآن، من القيام بالتجديد المطلوب فى الفكر الاسلامى، التجديد الذى يجعله يجارى التطور ويرتبط بالواقع، تماما مثلما أن التطرف فى اليسار ، الذى بلغ أوجه فى أواخر الستينات وأوائل السبعينات، كن يجد تبريره فى غياب الديمقراطية من جهة، وفى الجمود الفكري الذى أصاب " اليسار" عموما من جهة أخرى.

يبقى بعد هذا أن نشير إلى أن التطرف فى الدين يتبع السياسة دوما. فعندما تمارس السياسة فى الدين على مستوى العقيدة يكون التطرف فى ميدان العقيدة، وعندما تمارس السياسة فى ا لدين على مستوى الشريعة يكون التطرف فى ميدان الشريعة. وهذه ملاحظة سنفصل القول فيها فى البحث التالي.

4- التطرف بين العقيدة والشريعة

إن عمليات " التوفيق" السطحية قد انتهى عهدها، فهي أشبه بتلك التى عرفها علم الكلام فى المراحل الأولى من نشأته . إن المطلوب اليوم فى ميدان الشريعة هو القيام بمثل ما قام به فلاسفة الأشاعرة فى مجال العقيدة ( فخر الدين الرازي مثلا) ، أعنى إعادة بناء منهجية التفكير فى الشريعة، إن انطلاقا من مقدمات جديدة و" مقاصد" معاصرة.

وبعبارة أخرى، إن المطلوب اليوم هو تجديد ينطلق لا من مجرد استئناف الاجتهاد فى الفروع، بل منن إعادة تأصيل الأصول، من إعادة بنائها.

شهد التاريخ الاسلامى منذ العقود الأولى من القرن الأول للهجرة أنواعا من التطرف والغلو، ما زالت آثار بعضها حاضرة، بصورة أو بأخرى، فى الساحة الفكرية الدينية العربية المعاصرة، وإذا نحن استعرضنا حركات التطرف فى الإسلام منذ الفتنة الكبرى إلى الآن، فإننا سنجدها من دون استثناء ذات علاقة، مباشرة أو غير مباشرة، بالسياسة، وذلك إلى درجة تسمح بالقول إن التطرف فى الإسلام كان دائما نوعا من التعبير عن موقف سياسي معين.

وهذا أمر يسهل فهمه وتفهمه إذا أخذنا بعين الاعتبار ارتباط الدين بالسياسة، والسياسة بالدين، فى التجربة الحضارية الإسلامية. فالسياسة كانت تمارس باسم الدين وتلتمس الشرعية منه، مما جعل الصراع السياسي يجرى تحت مظلة الدين فى الغالب .

ولا نحتاج هنا إلى التذكير بحركات الغلو والتطرف فى الإسلام، ولا بالطابع السياسي لمواقفها وأطروحاتها، فهي معروفة ( الخوارج، الغلاة، الحركات الباطنية...الخ.) وإنما نريد أن نبرز هنا ما يميز الحركات الإسلامية المتطرفة المعاصرة من مثيلاتها فى العصور السالفة.

كانت ا لحركات الغالية المتطرفة القديمة تمارس التطرف والغلو على مستوى العقيدة، أما الحركات المتطرفة المعاصرة فه تمارسه على مستوى الشريعة.

لم يكن الخوارج ولا الحركات الباطنية بمختلف تياراتها وأصنافها تطرح مسألة " تطبيق الشريعة" ولا كانت تتخذ منها شعارا لها، بل لقد كانت جميع شعاراتها تقع على مستوى " العقيدة" ( العلاقة بين ذات الله وصفاته، الجبر والاختيار، العدل الالهى، كيفية الخلق الخ.).

صحيح أن القضية المركزية التى انطلق منها " الكلام" فى العقيدة هى قضية " الإمامة" ، القضية التى كانت أصل لخلاف فى الإسلام، ولكن صحيح أيضا أن هذه القضية ، قضية " الإمامة" أو " الخلافة" طرحت على مستوى " العقيدة" ، وليس على مستوى الشريعة. إن هذا يعنى أن السياسة كانت تمارس فى الدين على مستوى العقيدة، وليس على مستوى الشريعة.

أما اليوم، فالأمر على العكس من ذلك تماما : فالحركات الإسلامية المتطرفة تختلف مع غيرها من الاتجاهات السلفية فى أمور تتصل بالشريعة، وليس بالعقيدة، مما يعنى أن السياسة تمارس اليوم فى الدين على مستوى الشريعة، لا على مستوى العقيدة.

ويكفى أن نذكر هنا بالشعار الذى ترفعه هذه الحركات، شعار:" تطبيق الشريعة" ، لندرك المجال الذى تمارس فيه السياسة.

وهكذا، فبدلا من قضايا الجبر والاختيار والإيمان والكفر والتنزيه والتشبيه... الخ.، التى كان يدور حولها النقاش قديما وينقسم المتكلمون بشأنها إلى معتدلين ومتطرفين، نجد اليوم قضايا أخرى تتصل بالشريعة والفقه ، مثل قطع يد السارق والربا والحجاب...الخ، هى التى يدور النقاش فيها ويختلف الناس حول كيفية تطبيق الشريعة فيها ، وهذا يعنى أن السياسة تمارس اليوم، إسلاميا، على مستوى الشريعة، وليس على مستوى العقيدة، كما كان الشأن فى الماضي.

لماذا هذا التحول ؟ لماذا مارس المسلمون قديما السياسة على مستوى العقيدة ولم يختلفوا سياسيا فى أمور الشريعة ، ولماذا يجرى الاختلاف بينهم اليوم، سياسيا على مستوى الشريعة، وليس على مستوى العقيدة؟

الجواب عن هذا السؤال يجب أن يلتمس فى التاريخ، أي فى السياسة ، وليس فى الدين نفسه.

والتاريخ يدلنا على أن الاختلاف على مستوى العقيدة فى الإسلام قد مر بمرحلتين : مرحلة النشأة الأولى، وقد كانت القضية المركزية فيها، كما قلنا، هى مسألة الإمامة، وهى فى الأصل قضية داخلية، ومرحلة التكريس والترسيم،

وقد بدأت عندما اصطدم الإسلام بعقائد وديانات الشعوب الأخرى التى أسلمت، فاكتسى الاختلاف هنا فى بداية الأمر طابعا سياسيا اجتماعيا( الموالى، أهل التسوية، الشعوبية) ليتطور إلى اختلاف فكرى" خالص" ظهر فى شكل صدام بين النظام العقائدي الاسلامى والنظم العقائدية والفكرية الموروثة عن الحضارات السابقة على الإسلام.

كان هناك اختلاف على مستوى " العقيدة" لأنه كان هناك تعدد فى الأنظمة الفكرية الدينية .

أما على المستوى الاجتماعي فقد كان هناك نظام اجتماعي واحد ، على مستوى واحد من التطور، الشيء الذى لم يكن لينشأ عنه اختلاف على مستوى الشريعة( وإذا حصل ففي مسائل جزئية جدا، مثل تلك التى تقوم بين المذهب الحنفي، مذهب أهل العراق، وكانوا على درجة من التطور، ومذهب مالك، مذهب أهل المدينة، وكانوا على مستوى آخر من التطور، والفارق كان فى الدرجة ، وليس فى النوع).

وبالمثل يمكن القول، بل هذا ما حصل فعلا، إن التيار السلفي المعاصر قد نشأ هو الآخر نشأة داخلية، وكانت قضيته المركزية فى أول الأمر قضية البدع التى نشأت فى المجتمع الاسلامى من داخله ( زيارة الأضرحة، الطرق الصوفية) .

ثم ترسم ذلك التيار- وهذه هى المرحلة الثانية المعاصرة- من خلال اصطدام المجتمع الاسلامى بنظم الحضارة الأوربية الحديثة، الاقتصادية منها والسياسية والاجتماعية.

وكان الصدام فى أول الأمر ، هنا أيضا، ذا طابع سياسي ( أي مقاومة التوسع الاستعماري الأوروبي من جهة، والعلاقة مع، أو ضد ، الخلافة العثمانية من جهة أخرى) ، ثم تطور الأمر إلى أن أصبح الخلاف ذا طابع مذهبي، على مستوى النظام الاجتماعي( أي النظام الاسلامى والشريعة الإسلامية فى مقابل النظام الرأسمالي والنظام الشيوعي... الخ).

وكما عبر الغلو عن نفسه قديما على مستوى العقيدة ضدا على المذاهب المعتدلة، يعبر التطرف اليوم عن نفسه على مستوى الشريعة ضدا على المذاهب المعتدلة كذلك.

وكما اعتبرت قضايا الشريعة فى الماضي قضايا جانبية ( الخلافات بين المذاهب الفقهية لم تكن ترقى إلى مستوى التطرف) ، كذلك تعتبر اليوم الخلافات التى تنتمي إلى مجال العقيدة ( سنة ، شيعة، أشعرية، حنبلية) خلافات جانبية، وبالتالي فالتركيز يقع على مستوى الشريعة، فيرفع شعار تطبيقها...

ما نريد أن نخلص إليه من هذه المقارنات هو أن ظاهرة الاختلاف فى الإسلام، ومنها ظواهر الغلو والتطرف، كانت إذا ما نظر إليها من المنظور التاريخي، عبارة عن عملية تكيف وملائمة مع الوافد من النظم الفكرية،

وقد انتهى الأمر بتفتت التيارات المتطرفة عندما استطاع المذهب الأشعري أن يقوم فى الوسط السني( مثله فى ذلك مثل المذهب الاثنى عشري فى الوسط الشيعي) بإعادة بناء علم العقيدة، علم الكلام، بتوظيف المناهج والمفاهيم " المعاصرة" آنذاك، مناهج المنطق ومفاهيم الفلسفة، فغدا " الكلام" فى العقيدة يعتمد العقل " المجرد" بدل الخضوع للعقل العملي، أعنى السياسة، كما كان الشأن أول الأمر.

واليوم يبدو أن " الآتي" سيكون بالنسبة إلى الماضي" أشبه بالماء من الماء" كما يقولون ، نعنى بذلك أن التيارات الإسلامية المتطرفة ستنسحب من الساحة عندما يقوم وسط الاتجاه السلفي المعاصر رجال يقومون بمهمة إعادة بناء علم الشريعة ( الفقه) بتوظيف المناهج والمفاهيم المعاصرة، الآن، مناهج ومفاهيم علوم الاقتصاد والاجتماع والسياسة التى أفرزها تطور المعرفة وتطور المجتمع معا، توظيفا عمليا حقا. إن عمليات " التوفيق" السطحية قد انتهى عهدها، فهي أشبه بتلك التى عرفها علم الكلام فى المراحل الأولى من نشأته.

إن المطلوب اليوم فى ميدان الشريعة هو القيام بمثل ما قام به فلاسفة الأشاعرة فى مجال العقيدة( فخر الدين الرازي مثلا) ، أعنى إعادة بناء منهجية التفكير فى الشريعة انطلاقا من مقدمات جديدة و( مقاصد) معاصرة.

وبعبارة أخرى، إن المطلوب اليوم هو تجديد ينطلق، لا من مجرد استئناف الاجتهاد فى ا لفروع،بل من إعادة تأصيل الأصول، من إعادة بنائها. ونقطة البداية فى عصرنا يجب أن تكون إعادة تأهيل عقل المجتهد، إعادة بنائه.

فمن دون عقل جديد لا يمكن أن يقوم اجتهاد جديد.

5- من أجل اجتهاد مواكب...

إن المناداة بـ " الاجتهاد" و" فتح باب الاجتهاد" ستظل كلاما فى الهواء ما لم يتم " فتح" العقل الذى تقع عليه مهمة الاجتهاد... ذلك لأن باب الاجتهاد لم يغلق ، وإنما انغلق عندما انغلق الفكر الذى كان يمارسه، ضمن إطار حضاري توقف عن الحركة والنمو.

منذ بدء اليقظة العربية الحديثة، ومنذ أواخر القرن الماضي بصورة خاصة، وشعار " فتح باب الاجتهاد" يقدم من طرف الرافضين لـ " التغريب" الداعين إلى " التجديد" – فى إطار الفكر العربي الاسلامى، كحل للمشاكل والتحديات المعاصرة التى تواجه الإسلام كنظام للحياة وإطار للعلاقات الاجتماعية الخاصة منها والعامة.

وباستثناء بعض المحاولات التى قام بها مفكرون إسلاميون، والتي طغى على كثير منها الطابع الأيديولوجي السجالى، وما يرافق ذلك عادة من السطحية والقفز على جوهر المشاكل، فإن الدعوة إلى " الاجتهاد" بقيت وما زالت مجرد دعوة ، بل مجرد شعار ظرفي يرفع تحت ضغط تحديات وقتية ليسكت عنه من جديد وتتابع الحياة سيرها العادي، فتزداد المشاكل وتتعقد، وتتسع الهوة بين فقهاء الماضي وفقههم واجتهادهم، وبين واقع الحياة وتعقد مشاكلها.

وغنى عن البيان القول إن السبب فى هذه الوضعية يرجع إلى عدم ظهور مجتهدين تتوفر فيهم الشروط الضرورية لممارسة الاجتهاد ممارسة ترقى إلى مستوى طبيعة مشاكل العصر وتحدياته: نقصد الشروط الفكرية المنهجية بصورة خاصة .

ذلك أنه إذا كان الاجتهاد أصلا للتشريع فى الإسلام، فهو ليس نصوصا كالقرآن والسنة، ولا سوابق تحت أصل " إجماع الصحابة" أو " عمل أهل المدينة" – بالنسبة إلى الإمام مالك- وما أشبه... بل هو منهج قبل كل شيء، وبتعبير الأصوليين هو بذل المجتهد كامل وسعه وجهده، فى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها.

والجهد المقصود هو ، بطبيعة الحال، الجهد الفكر ، أما أدلة الأحكام، الرئيسية والأساسية، فمعروفة ، وهى القرآن والسنة وما وقع الإجماع عليه.

الاجتهاد ، إذن، هو أولا وقبل كل شيء جهد فكرى. وغنى عن البيان القول إن الجهد الفكري المطلوب بذله، سواء فى هذا المجال أو ذاك، يختلف نوعية،

وبالتالي أسلوبا وأدوات ، أي منهجا، باختلاف المشاكل التى يراد حلها والمسائل التى يقصد الباحث- أو المجتهد- معالجتها.

وبما أن مشاكل عصرنا تختلف نوعيا.. عن مشاكل الماضي فمن الضروري أن يكون الجهد الفكري المطلوب فى المجتهد اليوم مختلفا اختلافا نوعيا كذلك عن الجهد الذى كان مطلوبا فى مجتهدى الأمس.

وحتى لا نبقى فى إطار العموميات ، لنلق نظرة خاطفة على نوع الجهد الفكري الذى كان ضروريا وكافيا فى الاجتهاد أمس، لعلنا نتبين من خلال ذلك نوعية الجهد الفكري المطلوب اليوم.

لنلاحظ أولا أن حياتنا نحن العرب والمسلمين كانت إلى نهاية القرن الماضي، وأوائل هذا القرن، تشكل نمطا واحدا منذ ظهور الإسلام، أي أنها كانت تتم ضمن معطيات حضارية ، اقتصادية واجتماعية وسياسية ومؤسساتية، ظلت هى هى ، فى طبيعتها وجوهرها.

نعم كانت هناك نوازل جديدة كثيرة تواجه المسلمين، وكانت هى الدافع أو الحافز على نشاط الاجتهاد واتساعه وبروز ما يسمى بـ " الفقه النظري" الذى تعدى بكثير دائرة الفقه العملي،أو الحلول الإسلامية لمشاكل عملية.

غير أن طبيعة النوازل " الجديدة" التى كانت تطرح داخل الحضارة العربية الإسلامية على مدى القرون السابقة على احتكاكنا بالحضارة الغربية المعاصرة وارتباطنا بها وانتقال كثير من منتجاتها ومؤسساتها إلينا، كانت كلها من جنس النوازل" القديمة" ، التى عالجها عهد النبوة وعصر الصحابة.

ولذلك كان المنهج المعتمد فى الاجتهاد يقوم على القياس: قياس جزئيات على جزئيات ، قياس ما لم يرد فيه نص على ما ورد فى حكمه نص، قياس ما يستجد من النوازل والوقائع والمشاكل على " مثال سبق" ، أي على وقائع ونوازل سبق أن حكم فيها بحكم، إما استنادا إلى نص، أو إلى إجماع أو إلى اجتهاد مجتهدين سابقين.

ولقد كان من الطبيعي أن يتم، مع مرور الزمن وكثرة المجتهدين، استنفاد كل الإمكانيات التى يمكن أن يوفرها هذا النوع من القياس: فجزئيات الماضي، وهو متشابه متجانس، محصورة أو يمكن حصرها، والنصوص الشرعية محدودة، والاجتهاد فى فهم ألفاظها وتحديد دلالاتها... الخ.

كان لابد من أن يصل إلى نقطة لا يبقى معها مزيد... فكانت النتيجة المحتومة هى " انغلاق" باب الاجتهاد، وليس " إغلاقه" كما يقال.

والحق أنه لا أحد فى الإسلام يملك سلطة " إغلاق" باب الاجتهاد، لا الحكام ولا الفقهاء ولا غيرهم، فليس فى الإسلام كنيسة ، ولا أية مؤسسة تملك سلطة " إغلاق" أو " فتح" باب الاجتهاد.

فالاجتهاد أصل من أصول التشريع، وهو كما قلنا عبارة عن بذل الجهد الفكري فى طلب العلم بأحكام الشريعة، وهذا حق لك مسلم توفرت فيه الشروط المعرفية التى تمكنه من ذلك.

انغلق باب الاجتهاد إذن عندما لم يعد هناك مجال للمزيد من الاجتهاد ضمن الإطار الحضاري الذى كان المسلمون يعيشون فيه. فعندما تمت تغطية جميع المشاكل المطروحة، والتي يمكن أن تطرح داخل نفس الإطار الحضاري، وعندما تم استثمار جميع الإمكانيات التى يتيحها النص من حيث علاقة اللفظ بالمعنى،

واستنفدت السوابق التى يصح القياس عليها... الخ، كان لابد من أن ينغلق باب الاجتهاد من تلقاء نفسه ويعمد الناس إلى " التقليد" ، فانحصرت المذاهب الفقهية فى أربعة رئيسة اقتصر الناس على تقليد أيمتها وعلى إقامة أنواع من " المباريات" الجدلية بينها مما عرف بـ " الجدل والخلافيات"...

ومع ذلك كله لا يمكن أن يقال إن الاجتهاد قد توقف بصورة نهائية، بل لقد كان يظهر من حين إلى آخر علماء ينادون بترك التقليد وإنقاذ الفكر الفقهي مما آل إليه من الجمود فى حلقة " الخلافيات" المفرغة.

ومن دون شك، فلقد كانت هذه النداءات وما رافق بعضها من محاولات ، نابعة من إدراك ووعى بالمسافة التى كانت قد بدأت تفصل بين الوقائع القديمة والوقائع المستجدة، بين طبيعة تلك ونوعية هذه .

وقد بدأ مثل هذا الشعور بالأندلس، خصوصا حيث تضافرت عدة عوامل، تاريخية وفكرية وسياسية ، جعلت المسافة هناك بين " المثالات" السوابق ، وبين المستجدات اللواحق، أوسع وأعمق مما كان عليه الأمر فى المشرق.

من أجل ذلك ظهر الوعي هناك، فى الأندلس ، بالحاجة إلى منهجية فى الاجتهاد تقوم، لا على جزئيات ، بل منهجية تكون أكث قدرة على الاستجابة لما يطرحه التطور الحضاري من قضايا جديدة. وكان الشاطبى هو أبرز مجدد فى هذا المجال، مجال منهجية الاجتهاد.

لقد وعى الشاطبى بعمق أن الاجتهاد بالأسلوب القديم، قد استنفد كل إمكانياته، وأن " انفتاح" باب الاجتهاد من جديد أصبح يتطلب – بحسب عبراته- " تأصيل الأصول" ، وذلك باعتماد كليات الشريعة ومقاصدها بدل الاقتصار على تفهم معنى ألفاظ النصوص واستنباط الأحكام منها، أو على قياس حادثة على حادثة فيما لا نص فيه.

وهكذا، فإذا نحن قمنا بعملية استقراء كاملة للجزئيات التى وردت فيها أحكام شرعية وصغنا نتائج هذا الاستقراء فى كليات عامة، فإننا سنتوفر حينئذ على قواعد كلية يمكن تطبيقها على أية جزئيات تواجهنا.

وبالمثل، فإذا انطلقنا من أن مقاصد الشريعة تؤول فى نهاية التحليل إلى اعتبار المصلحة العامة، وأن النصوص الشرعية ذاتها إنما تهدف إلى رعايتها، صارت المصلحة العامة هى المبدأ الذى يجب أن يسود على كل ما عداه.

وقد سار بفكرة الشاطبى هذه بعض من تأثروا به إلى حد القول إنه إذا تعارض نص شرعي مع المصلحة العامة عمل بالمصلحة العامة، لأن النص إنما جاء أصلا من أجل رعايتها.

ومهما يكن، فإنه لما لا جدال فيه أن المصلحة العامة تتلون بلون الظروف والمعطيات الحضارية والتطورات التاريخية، وبالتالي فإن الاجتهاد الذى يعتمدها وينطلق منها سيفقد معناه وجداره إذا لم يكن اجتهادا متجددا ، إذا لم يكن صادرا عن عقل متحرك ومتجدد.

ومن هنا يبدو واضحا أن المناداة بـ " الاجتهاد"، وفتح باب الاجتهاد، ستظل كلاما فى الهواء ما لم يتم " فتح" العقل الذى تقع عليه مهمة الاجتهاد... ذلك لأن باب الاجتهاد لم يغلق، وإنما انغلق عندما انغلق العقل الذى كان يمارسه ، ضمن إطار حضاري وثقافي توقف عن الحركة والنمو.

لابد إذن من انفتاح جديد للعقل العربي الاسلامى كي يستطيع مواجهة الانفتاح الحضاري الذى حصل . ومن دون هذا لن يكون هناك اجتهاد فى مستوى النوازل المعاصرة.

وانفتاح العقل يبدأ بالانفتاح على الحياة، على المعطيات الجديدة التى تحملها معها والقوانين التى تحكم تطورها. لقد كان الاجتهاد فى الماضي تكفى فيه المعرفة بعلوم العربية من لغة ونحو وبلاغة، وعلوم الدين من تفسير وحديث وفقه.

أما الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فلقد كانت من حيث طبيعتها هى هى ، أعنى أنها لم تكن تختلف فى عصر المجتهد عنها فى العصور السابقة له،

وبالتالي فـ" المصلحة العامة" كانت ، مثلها مثل جزئيات الماضي المعتمدة فى القياس ، من جنس واحد ومن طبيعة واحدة، وكانت تكفى فى معرفتها الخبرة اليومية. أما اليوم فالأمر يختلف.

إن التغير الهائل الذى حصل مع الحضارة الصناعية والذي يحصل اليوم مع عصر " الثورة العلمية" فى علوم الفضاء والذرة والبيولوجيا ، كما فى علوم الاقتصاد والاجتماع... يجعل الانفتاح على هذه العلوم ،

وبكيفية خاصة على أسسها المعرفية ونتائجها على المستوى الانسانى، ضرورة من ضرورات الحصول على الكفاءة التى تمكن من الاجتهاد.

إن الحاجة إليها فى هذا الشأن لا تقل عن الحاجة إلى علوم اللغة وعلوم الدين، ذلك لأنه بهذا الانفتاح على فكر العصر، وبه وحده، يكون الاجتهاد مواكبا، للحياة وتطورها.. وما ينقص الغالبية العظمى من علماء الإسلام اليوم هو القدرة على الاجتهاد المواكب للحياة. أما الاجتهاد الذى تخطته الحياة فهو لا ينفع الحاضر، والماضي فى غنى عنه.

الحاجة ماسة إذن إلى تدشين " عصر تدوين جديد" فى ميدان الاجتهاد، عصر تدوين تكون انطلاقته هى الاجتهاد المواكب، والمواكبة ، مواكبة الحياة المعاصرة، هى أولا وقبل كل شيء مسألة منهج... مسألة سلوك عقلي.

6- معقولية الأحكام الشرعية

بناء معقولية الحكم الشرعي على "أسباب النزول" فى إطار اعتبار المصلحة يفسح المجال لبناء معقوليات أخرى عندما يتعلق الأمر بـ " أسباب نزول أخرى" أي بوضعيات جديدة.

وبذلك تتجدد الحياة فى الفقه وتنبعث الروح فى الاجتهاد وتصبح الشريعة قابلة للتطبيق فى كل زمان ومكان.

أكدنا فى الصفحات الماضية ، فى إطار حديثنا عن إعادة بناء الفكر الاسلامى، على أن المطلوب اليوم هو إعادة بناء منهجية التفكير فى الشريعة انطلاقا من مقدمات جديدة و" مقاصد " معصرة .

وبعبارة أخرى ، إن المطلوب اليوم هو تجديد ينطلق لا من مجرد استئناف الاجتهاد فى الفروع، بل من إعادة " تأصيل الأصول ، من إعادة بنائها".

إعادة " تأصيل الأصول" ... ذلك كان مشروع الإمام الشاطبى الفقيه المالكي الأندلسي المتوفى سنة 790 هـ، صاحب كتاب الموافقات ، الكتاب الذى حاول فيه إعادة بناء منهجية التفكير الأصولي على أساس اعتبار المقاصد، مقاصد الشرع، بعد أن بقيت منذ الشافعي مبنية على " استثمار الألفاظ" و" استنباط العلل" واعتماد القياس .

وإذا كانت فكرة اعتبار المقاصد فكرة قديمة قدم التشريع الاسلامى نفسه ، فإن الفرق كبير وواسع بين من يؤسس تفكيره واجتهاده على القياس ، قياس فرع على أصل لجامع بينهما يسميه " علة" ،

وبالتالي لا ينظر إلى مقصد الشرع أو المصلحة إلا عندما يستعصى عليه العثور على " العلة" فيعتبر المصلحة حينئذ علة مناسبة ( كما فعل الغزالي مثلا... ) ، فرق كبير بين من يسلك هذا المسلك وبين من يجعل أساس تفكيره واجتهاده هو اعتبار المقاصد ويتخذ من " الباقي" ، بما فى ذلك العلل واستثمار الألفاظ... الخ، عناصر مساعدة.

أجل ، إن المنطلق ، فى نهاية التحليل ، منطلق واحد وهو الصدور عن فكرة أن الأحكام الشرعية، أي الأوامر والنواهي الواردة فى الكتاب والسنة، ليست أحكاما اعتباطية لا تستند إلى أي منطق ، بل هى أحكام تتوفر على معقولية ، على حكمة.

ولما كان الشرع لم يبين بنص صريح وجه المعقولية والحكمة فى معظم الأحكام( إذ لم ينص مثلا على سبب تحريم الخمر ولا على سبب تحريم الزنا..الخ)،

ولما كانت الأحكام الواردة فى الكتاب والسنة لا تستغرق جميع الجزئيات والنوازل والحالات التى تظهر وتستجد بفعل التطور، فإن " تطبيق الشريعة" يتطلب من المجتهد وضع أصول يعتمدها فى عملية التطبيق هذه ، أصول وظيفتها تأسيس معقولية الأحكام التى يصدرها بشأن النوازل والمستجدات.

وواضح أن المعقولية المطلوبة هنا ليست المعقولية المجردة وحدها- فهذا شأن القانون الوضعي البشرى- بل لابد من أن تكون هذه المعقولية مبنية على تلك التى تؤسس الأحكام الشرعية الواردة فى الكتاب والسنة.

وبما أن هذه الأخيرة غير منصوص عليها، فى الغالب، كما ذكرنا، فإنه لا مناص للمجتهد من العمل على بنائها، على تأصيلها: على وضع أصول ومقدمات ترجع إليها.

وهنا تفترق الطريقتان: الطريقة التى تعتمد القياس والتعليل واستثمار الألفاظ ، والطريقة التى تدعو إلى اعتبار المقاصد أساسا ومنطلقا.

الطريقة الأولى، تتجه غلى كل حكم على حدة، تبحث له عن العلة المظنون أن الشارع اعتبرها فى إصداره، ثم تعمل على طردها أي على تعميم ذلك الحكم على كل حالة توجد فيها تلك العلة. والمثال المشهور والبسيط فى هذا المقام هو مثال تحريم الخمر.

هناك نص قرآني يحرم الخمر، ولكنه لا يبين علة هذا التحري، فيأتي المجتهد ويبنى معقولية هذا التحريم على العلة التى يرجح أنها هى التى أنيط بها الحكم وهى " الاسكار" ( أي الاسكار مذهب للعقل، مسقط للتكليف...) ثم يعمم الحك، اى التحريم، على النبيذ وغيره من المشروبات الكحولية لنفس العلة، علة الاسكار. وهذا هو القياس: قياس النبيذ ، وهو فرع على ا لخمر ،وهو أصل ( لأنه منصوص عليه) .

هذه الطريقة بسيطة وإجرائية ، أي أنها مفيدة وسهلة التطبيق ، ولكن فقط عندما يتعلق الأمر بجزئيات من نفس النوع، صدر فى واحدة منها حكم.

أما عندما نكون أمام جزئيات لا تنتمي إلى نفس النوع أو أمام مستجدات لا نتوفر على حكم فى واحدة منها، فإن العملية تصبح معقدة، و" التعليل" يصير متكلفا وضعيفا ، وقد ينتهي الأمر بالمجتهد إلى التوقف والتقليد، لأن الدائرة التى يتحرك فيها، دائرة التعليل والقياس واستثمار الألفاظ دائرة ضيقة لا تسمح بمواصلة الاجتهاد من دون انقطاع.

أما الطريقة الثانية، فتقترح الانطلاق من المقاصد، مقاصد الشرع، فى عملية تأسيس معقولية الأحكام، وهى العملية التى من دونها لا يمكن تطبيق الشريعة على المستجدات ، ولا على الظروف والأحوال المختلفة المتباينة.

ولما كان مقصد الشارع، الأول والأخير، هو مصلحة الناس( الله غنى عن العالمين) ، فإن اعتبار المصلحة هو الذى يؤسس معقولية الأحكام الشرعية، وبالتالي فهو أصل الأصول كلها.

وواضح أن هذه الطريقة تتحرك فى دائرة واسعة لا حدود لها، دائرة المصلحة، وبالتالي فهي تجعل الاجتهاد ممكنا ولدى كل حالة.

ويكفى لبيان محدودية الطريقة الأولى، ولا محدودية الطريقة الثانية ، أن نذكر هنا أن صاحب الطريقة ألأولى، إذ يبحث عن " علة" الحكم يتجه باهتمامه إلى استنباط ما يمكن أن يكون ، فى ظنه، هو العلة التى اعتبرها الشارع فى ا لحكم.

ولمزيد من التوضيح نقول، ولو أن العبارة غير لائقة: إن المجتهد فى هذه الحالة ينظر إلى الشارع ( أي الله) نظرته إلى القاضي من البشر، يحاول أن يتعرف إلى نواياه: لماذا حكم بكذا ولم يحكم بكذا... واستطلاع النوايا : لماذا حكم بكذا ولم يحكم بكذا ... واستطلاع النوايا عملية تعتمد التخمين والظن، وليس فيها يقين قط،

وحدود الظن القوى الذى يسمح بترجيح أمر على آخر حدود ضيقة جدا... أما صاحب الطريقة الثانية، فهو ينطلق من مقدمة معقولة أصلا وهى أن هناك "علة" أولى تؤسس جميع الأحكام الشرعية، ويجب أن تؤسس عملية تطبيق الشريعة فى كل زمان ومكان، وهى اعتبار المصلحة العامة.

يبقى بعد هذا المبدأ الاساسى العام تحديد المصلحة فى كل نازلة وفى كل حكم، وهذا الشيء سهل لأن ميدان البحث هنا ميدان بشرى، ميدان الحياة الشخصية، وليس ميدان " النوايا" التى لا يعرف حقيقتها إلا صاحبها.

هذا فضلا عن أن هذه الطريقة تفتح الباب باستمرار أمام التجديد والاجتهاد لأن اعتبار المصالح يتطور بتطور المصالح وبتطور الأوضاع واختلاف الوضعيات.

هنا فارق آخر، وهو أن طريقة القياس والتعليل تشد صاحبها إلى اللغة إلى اللفظ ( أي نص الحكم)، فتصبح اللغة مساهمة فى التشريع. ذلك لأن " اكتشاف" العلة مرهون، فى كثير من الأحيان، بنوع ما من العلاقة التى يقيمها المجتهد بين اللفظ والمعنى: فإذا كان النص يحرم الخمر مثلا، فإن الطريقة " التعليل" و" القياس" تجر صاحبها إلى تحديد معنى " الخمر" فى لغة العرب زمن النبي،

وإلى النظر فى صيغة الأمر الصادر فى شأنه وهى " اجتنبوه" ، هل هو أمر ملزم أو غير ملزم ( هناك صيغ للأمر فى الكتاب والسنة غير ملزمة أو على الأقل ليست لها قوة تشريعية مثل: انتشروا... كلوا واشربوا... الخ) ،

كما تتطلب من المجتهد أن يفصل فى مسألة يصعب عادة الفصل فيها وهى هل اللفظ يراد به الخصوص، أي يشرع لحالة خاصة بعينها لا يتعداها أم أنه يراد به العموم، وقد يكون العكس..

والفصل فى هذه المسائل الصعبة يعتمد على الظن وليس على اليقين، ولذلك كان الفقه المبنى على هذه الطريقة ظنيا كله.

وللخروج من حالة " الظن " هذه ، ومن أجل بناء الأحكام على " القطع" ( وهو فى الشرعيات يوازن اليقين فى العقليات) لا سبيل إلا باعتبار المقاصد والمصالح أساسا للتشريع.

ذلك لأنه فى هذه الحالة يتجه المجتهد بتفكيره لا إلى اللفظ ( الحقيقة، المجاز، الاستعارة، الخصوص، العموم...9 بل إلى " أسباب النزول" وهذا باب عظيم واسع يفسح المجال لإضفاء المعقولية على الأحكام بصورة تجعل الاجتهاد فى تطبيقها وتنويع التطبيق باختلاف الأحوال وتغير الأوضاع أمرا ميسورا.

ولكي لا نترك ذهن القارئ غير المختص معلقا فى هذه التعميمات، التى هى بالنسبة إلى الأصولي المختص من باب "السماء فوقنا"، نوضح الأمر بمثال " قطع يد السارق" ، وهو حكم منصوص عليه فى القرآن بصريح العبارة كما هو معلوم ، فكيف يمكن بناء معقولية هذا الحكم؟

الطريقة الأولى التى تعتمد القياس والتعامل واستثمار الألفاظ عاجزة تماما عن بناء معقولية هذا الحكم بمنهجيتها الخاصة، ولذلك فلا سبيل أمامها إلا القول بأن تحريم السرقة روعي فيه اعتبار المصلحة ( أي حفظ الأموال) ، فهي إذن تلجأ إلى المصلحة والمقاصد لتجعل منها " علة الحكم".

ولكن بما أنها تصرف كل همها إلى العثور على " العلة" فهي تقف عند هذا الحد: حفظ الأموال ضرورة من ضرورات الحياة الاجتماعية البشرية ، وإذن فتحريم السرقة تفرضه المصلحة، وهو معلل بها، وكفى الله المؤمنين القتال...

ولكن إذا سأل سائل: لماذا جاء حد السرقة بـ " قطع يد السارق" ، وليس بسجنه أو جلده مثلا؟ فإن أصحاب هذه الطريقة، طريقة القياس والتعليل لا يجدون جوابا ، وإذا حاولوا تاهوا فى افتراضات قد تجر إلى تخرصات، إلى إلغاء المعقولية تماما. من ذلك مثلا أن " قطع اليد" يمكن أن يعلل – على سبيل الفرض فقط- بأن السرقة قد تمت بها، فوجب قطعها.

وبما أن هذه الطريقة تعتمد القياس فمن الممكن أن يعترض معترض تحكمه آلية القياس بالقول مثلا: ولماذا لا يكون حد الزنا بقطع العضو الذى يتم به، أو على الأقل باللجوء إلى الاخصاء، " قياسا" على حد السارق؟ وهكذا يدخل صاحب القياس فى عالم الافتراضات والتخرصات ويبتعد أكثر فأكثر عن المعقولية معقولية الأحكام الشرعية.

أما الطريقة الثانية فهي لا تقع فى مثل هذه المتاهات، ذلك لأنها تنطلق من المقاصد أساسا، أي من أن الحكم لابد من أن يكون مبررا ومعقولا وسط وضعية ما.

وهكذا فإذا تحررنا من سلطة القياس والانشداد إلى الألفاظ وانصرفنا باهتمامنا ، بدلا من ذلك، إلى البحث عن " أسباب النزول" ، وهى هنا الوضعية الاجتماعية التى اقتضت نوعا ما من المصلحة وطريقة معينة فى مراعاتها، فإننا سنجد أن " قطع يد السارق" تدبير مبرر ومعقول داخل تلك الوضعية.

وهكذا فبالرجوع إلى زمن البعثة المحمدية، والنظر إلى ا لأحكام الشرعية فى إطار الوضعية التى كانت قائمة يومئذ، سنهتدي إلى المعطيات التالية: أولا أن قطع يد السارق كان معمولا به قبل الإسلام فى جزيرة العرب.

ثانيا أنه فى مجتمع بدوى ينتقل أهله بخيامهم وإبلهم من مكان إلى آخر طلبا للكلأ لم يكن من الممكن عقاب السارق بالسجن، إذ لا سجن ولا جدران ولا سلطة تحرس المسجون وتمده بالضروري من المأكل والملبس.. الخ. وإذن فالسبيل الوحيد هو العقاب البدني.

وبما أن انتشار السرقة فى مثل هذا المجتمع سيؤدى حتما إلى تقويض كيانه، إذ لا حدود ولا أسوار ولا خزائن... فلقد كان من الضروري جعل العقاب البدني يلبى هدفين: تعطيل إمكانية تكرار السرقة إلى ما لا نهاية، ووضع علامة على السارق حتى يعرف ويحتاط الناس منه.

ولا شك فى أن قطع اليد يلبى هذين الهدفين معا. وإذن قطع يد السارق تدبير معقول تماما فى مجتمع بدوى صحراوي يعيش أهله على الحل والترحال.

ولما جاء الإسلام، وكان الوضع العمراني الاجتماعي زمن البعثة لا يختلف عما كان عليه من قبل، احتفظ بقطع اليد كحد للسرقة، من جملة ما احتفظ به من التدابير والأعراف والشعائر التى كانت جارية فى المجتمع العربي قبل الإسلام، مع إدراجها فى إطار خلقية الإسلام، الخلقية التى تجعل من التدبير حكما شرعيا وليس مجرد عرف ( ومثل ذلك يمكن أن يقال فى الشروط التى اشترطها الفقهاء فى إثبات فعل الزنا.

لقد اشترطوا كل تلك الشروط المعروفة لأنه كان من الممكن توفرها فى مجتمع كل شيء فيه بادية، فلا جدران ولا أسوار ولا غرف الخ, وبالتالي يمكن للشاهد أن يشاهد فعلا تفاصيل العملية.

فهل من المعقول اشتراط مثل تلك الشروط فى وضعية المدينة المعاصرة؟ إن ذلك يعنى استحالة إثبات الجريمة).

إن بناء معقولية الحكم الشرعي على "أسباب النزول"، فى إطار اعتبار المصلحة يفسح المجال لبناء معقولية أخرى عندما يتعلق الأمر بـ " أسباب نزول" أخرى، أي بوضعيات جديدة .

وبذلك تتجدد الحياة فى الفقه وتتجدد الروح فى الاجتهاد وتصبح الشريعة مسايرة للتطور قابلة للتطبيق فى كل زمان ومكان.

إن ما ذكرناه آنفا بطح مسألة أصولية مهمة، مسألة: هل يدور الحكم الشرعي مع " العلة" أو مع الحكم والمصلحة؟ ذلك ما سيكون مدار الحديث فى البحث التالي.

7- الأحكام .. والدوران

أما دوران الأحكام مع المصالح فشيء يفرض نفسه ما دمنا نرى أن المصلحة هى ألأصل فى التشريع، ومن ثمة فالاجتهاد يجب أن يكون لا فى قبول هذا المبدأ أو عدم قبوله، بل فى نزع الطابع الميكانيكي عن مفهوم " الدوران" والعمل على الارتفاع بفكرة المصالح الخلقية الإسلامية.

ثار جدل طويل عريض فى مصر مؤخرا بسبب فتوى أصدرها مفتى الديار المصرية، ذهب فيها إلى الحكم بالإباحة على الفوائد المترتبة على بعض المعاملات المالية التى من نوع شهادات الاستثمار وسندات البنوك، مستندا فى ذلك إلى عدم وجود الاستغلال فى هذا النوع من المعاملات.

ومعلوم أن منع الاستغلال هو الحكمة من تحريم الربا.

ومن جملة الردود التى تيسر لي الاطلاع عليها رد أحد كبار القانون فى مصر ممن يصنفون ضمن الاتجاه الاسلامى، وهو رجل مختص طويل الباع فى الميدان ، وقد عارض الفتوى المذكورة بحجج منها أن الأحكام الشرعية تدور مع عللها وليس مع حكمتها.

والفرق بين العلة والحكمة فى اصطلاح الفقهاء ، أن العلة وصف فى الشيء الذى صدر فيه الحكم، وبذلك الوصف يعرف وجود الحكم.

فالاسكار وصف فى الخمر، وبع عرف تحريمه، فهو إذن علة التحريم. والزيادة أو " الفائدة" التى ينطوي عليها بيع الربا هى الوصف الذى يعرف به تحريم هذا النوع من البيوع، فهو علة التحريم ، والسفر والمرض هما العلة فى إباحة الإفطار فى رمضان... الخ.

أما الحكمة فهي الباعث على الحكم، وهو إما جلب مصلحة ، وإما دفع مضرة: فالحكمة من تحريم الخمر هى دفع مضرة ذهاب العقل بالسكر، والحكمة من تحريم الربا هى دفع مضرة الاستغلال، والحكمة فى إباحة الإفطار فى رمضان للمسافر والمريض هى دفع مضرة المشقة ... ومعلوم أن دفع المضرة هى فى ذاته مصلحة، وإذن فالحكمة هى ، فى نهاية التحليل المصلحة التى روعيت فى إصدار الحكم.

والفقهاء ، عموما ، يقررون أن الحكم الشرعي يدور مع علته، وليس من حكمته، بحجة أن الحكمة قد تكون خفية غير ظاهرة، فى حين أن العلة من شروطها أنها وصف ظاهر منضبط، وقد تكون الحكمة أمرا راجعا إلى تقدير الناس، ومعلوم أن الناس يختلفون فى تقدير المصالح.

فالحكمة من إباحة الإفطار فى رمضان للمسافر والمريض هى دفع المشقة عنه، كما قلنا، فلو جعلنا الحكم يدور مع المشقة وجودا وعدما لوقعنا فى اختلاف كبير حول تقدير حجم المشقة التى يجوز فيها الإفطار أو لا يجوز، وقد يؤدى بنا ذلك إلى إباحة الإفطار فى مشانق أخرى غير تلك التى تحصل بالسفر والمرض، مثل مشاق العمل فى المصانع وغيرها،

ومن أجل تلافى كل ذلك قالوا إن الحكم يدور مع علته، لا مع حكمته، لأن العلة كما قلنا هى – باصطلاحهم- وصف ظاهر منضبط ينبني عليه الحكم ويربط به وجودا وعدما، ويكون مناسبا لحكمته، بمعنى أن بناء الحكم عليه من شأنه أن يحققها.

لا شك فى أن هذا النوع من الاستدلال والمحاجة مبرر تماما ومعقول تماما داخل إطار نظام معرفي استدلالي مبنى على القواعد الأصولية التى وضعه الفقهاء القدامى، والتي من جملتها القواعد الخاصة بالتعليل والقياس والدوران وما إلى ذلك، ولكن القواعد الأصولية هذه ليست مما نص عليه الشرع، لا الكتاب ولا السنة، بل إنها من وضع الأصوليين .

إنها قواعد للتفكير، قواعد منهجية، ولا شيء يمنع من اعتماد قواعد منهجية قواعد للتفكير، قواعد منهجية ، ولا شيء يمنع من اعتماد قواعد منهجية أخرى إذا كان من شأنها أن تحقق الحكمة من التشريع فى زمن معين بطريقة أفضل.

والمجتهدون إنما هم مجتهدون لأنهم يتميزون من غيرهم بما يضعونه من أصول وقواعد يلتزمونها، وهى تختلف قليلا أو كثيرا من مجتهد إلى آخر. والمذاهب الفقهية، من حنفية وشافعية ومالكية وحنبلية وظاهرية وغيرها، إنما تختلف عن بعضها بكون كل منها يعتمد قواعد منهجية تختلف من بعض الوجوه، هناك من يعتمد التعليل ، وهناك من يرفضه.

وهناك من يعمل بالقياس، وهناك من ينكره. هناك من يقول بدوران الأحكام مع عللها، وهناك من يرفض القول بالدوران ( ومنهم الحنفية) . وهناك من يقول إنه إنما يفيد الظن ( ألأشاعرة عموما) ، وهناك من يرى أن الدوران شرط فى صحة العلة، ولكنه ليس على صحتها ...الخ.

وإذن فالقول بأن الأحكام إنما تدور مع عللها وليس مع حكمها ( أي جمع حكمة) قول لا معنى له إلا عند من يقول بالتعليل ( بالعلة) وبالدوران. أما من لا يقول بهذا ولا بذاك، فلا يلزمه ذلك القول.

ونحن عندما نطرح هنا هذه المسألة فى إطار الدعوة إلى إعادة بناء الأصول، إلى إعادة تأصيلها، إنما نريد أن يتجه تفكير المجتهدين الراغبين فى التجديد حقا والشاعرين بضرورته فعلا إلى القواعد الأصولية نفسها ، إلى إعادة بنائها بهدف الخروج بمنهجية جديدة تواكب التطور الحاصل، سواء على صعيد المناهج وطرق التفكير والاستدلال، أو على صعيد الحياة الاجتماعية والمعاملات الجارية فيها التى تفرضها مستجدات العصر وضروراته وحاجاته...الخ.

إن القواعد الأصولية التى ينبني عليها الفقه الاسلامى حتى الآن ترجع إلى عصر التدوين، العصر العباسي الأول، وكثير منها يرجع إلى ما بعده. أما قبل عصر التدوين هذا ، فلم تكن هناك قواعد مرسومة تؤطر التفكير الاجتهادي بمثل ما حدث بعد.

والفقهاء الذين وضعوا تلك القواعد قد صدروا فى عملهم الاجتهادي ذاك عن النظام المعرفي السائد فى عصرهم، وعن الحاجات والضرورات والمصالح التى كانت تفرض نفسها فى ذلك العصر.

وبما أن عصرنا يختلف اختلافا جذريا عن عصر التدوين ذاك، سواء على مستوى المناهج أو المصالح، فإنه من الضروري مراعاة هذا الاختلاف والعمل على الاستجابة لما يطرحه ويفرضه.

وإذا كان عمر بن الخطاب قد عمل باجتهاده، واجتهاد الصحابة الذين استشارهم، فى مسألة فيها نص، فوضح الخراج على الأراضي المفتوحة عنوة بدل تقسيمها بين المقاتلين، مراعيا فى ذلك المصلحة، مصلحة الحاضر والمستقبل،

وإذا كان قد عدل عن قسمة الغنائم بالسوية، كما كان يفعل النبي وأبو بكر، وارتأى أن" العدل" يقتضى قسمتها على أساس السبق فى الإسلام والقرابة من الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذا كان عمر بن الخطاب- المشرع الأول فى الإسلام بعد الكتاب والسنة- قد اعتبر المصلحة ومقاصد الشرع، فوضعهما فوق كل اعتبار، فلماذا لا يقتدي المجتهدون والمجددون اليوم بهذا النوع من الاجتهاد والتفكير بدل الاقتداء بفقهاء عصر التدوين والترسيم..

لماذا نضيق على أنفسنا ونسجن اجتهادنا فى قواعد كانت تفي بالمصلحة والمقاصد، قليلا أو كثيرا، فى زمان، إذا لم تعد تفي بنفس الغرض اليوم على أكمل وجه، والحال أنها قواعد مبنية على ظن المجتهد، وليس فيها شيء من القطع واليقين باعتراف أصحابها أنفسهم؟

أما دوران الأحكام مع المصالح، فشيء يفرض نفسه ما دمنا نقرر أن المصلحة هى الأصل فى التشريع، وأعتقد أن هذا المبدأ هو الذى صدر عنه الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب .

وإذن ، فالاجتهاد يجب أن يكون لا فى قبول هذا المبدأ أو عدم قبوله، بل فى نزع الطابع بفكرة المصالح إلى مستوى المصلحة العامة الحقيقية كما تتحدد من منظور الخلقية الإسلامية.

إنه من دون هذا النوع من التجديد سيبقى كل " اجتهاد" فى إطار القواعد الأصولية القديمة اجتهاد تقليد، وليس اجتهاد تجديد، حتى ولو أتى بفتاوى " جديدة" ، حتى ولو جاء بتخريجات من ذلك النوع المعروف عند الفقهاء القدامى ب، " الحيل الفقهية" .

إن التطور الذى يطبع عصرنا لا تفيد فيه مثل تلك " الحيل" مهما كان شأنها ، إنه تور فى الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ،وطنيا ودوليا، لن يستوعبه إلا فكر يرتفع بالاجتهاد والتجديد إلى مستوى هذا التطور ذاته.

إن الاتجاه الاسلامى فى الفكر العربي المعاصر مطالب بإعادة البناء فى هذا الأفق، وعلى هذا الأساس، إذا هو أراد أن يتجاوز الشعارات العامة التى من قبيل "الإسلام هو الحل" إلى حلول عملية للمشاكل العملية التى تطرحها الحياة المعاصرة، حلول إسلامية فعلا، ولكن معاصرة أيضا.

8- ... ولكل عصر ضرورياته الخاصة

... وهكذا فعندما ننجح فى جعل ضروريات عصرنا جزءا من مقاصد شريعتنا، فإننا سنكون قد عملنا حينئذ، ليس فقط على فتح باب الاجتهاد فى وقائع عصرنا المتجددة المتطورة، بل سنكون أيضا قد بدأنا العمل فى إعادة تأصيل أصول شريعتنا نفسها بصورة تضمن لها الاستجابة الحية والفعالة لكل ما يحصل من تغيير أو يطرأ من جديد.

لا جدال فى أن أبرز سمات الحياة المعاصرة: التغير والتبدل. وسواء نظر الناس إلى هذا التغير الذى حصل ويحصل على أنه تقدم وصعود على مدارج الحضارة والرقى، أو نظروا إليه على أنه ينطوي على كثير من "الضلال" والرجوع القهقرى بـ" القيم الإنسانية الشريفة" فإن الواقع الذى لابد من الاعتراف به هو أن المستجدات فى مختلف المجالات تتعاقب وتتزاحم فى كل يوم، بل فى كل ساعة، الشيء الذى يفرض على الناس، أعنى على المتحضرين المواكبين للتطور، مراجعة ما يسنونه لأنفسهم من قوانين أو ما يتبعونه من شرائع ينظمون بها سلوكهم الفردي والجماعي.

وإذا كانت عملية المراجعة لا تعنى بالضرورة الحذف أو التعطيل لهذا القانون أو ذاك، لهذه القاعدة السلوكية أو تلك، فإنها كثيرا ما تفرض إعادة النظر فى الأولويات وإعادة ترتيب الحاجيات، وما قد يترتب عن ذلك من إضافة لوائح جديدة لهذه أو تلك.

ونحن فى العالم العربي الاسلامى، الذى نعيش التغير الذى يطبع العصر الحاضر وسط ميراث حي قائم متنوع انحدر إلينا من العصور الماضية، كثيرا ما نغفل هذه الحقيقة، فترانا نطالب بالتجديد متسائلين: ماذا يجب أن نأخذ من تراثنا، وماذا يجب أن نأخذ من قوانين عصرنا؟

أقصد قوانين دول هى التى تبنى حضارة العصر وتشرع لها، ونحن فى تساؤلنا ذاك ننسى أو نتناسى أن ما أصاب حياتنا من تبدل عميق واسع، وما نعرفه من تغير مستمر متواصل ، قد جعلنا فى وضعية تتطلب منا معالجتها القيام بمراجعة عميقة للمقاييس التى نعتمدها والقواعد الأصولية التى ننطلق منها، وليس مجرد التساؤل أو التفكير فيما ينبغي أخذه من هنا، وما ينبغي أخذه من هناك، وكأن الحياة جامدة على حالة معينة، كما كانت فى الماضي، أو كأن ركب التطور واقف ينتظرنا حتى نقرر ونختار.

هنا أو هناك. وأحسب أن الحياة البشرية على ممر العصور لم تكن تقوم عل مثل هذا الاختيار. وإذا كان من غير الجائز سلب الإنسان قدرته على ا لتحكم فى الأحداث، فإنه من غير الجائز كذلك إغفال الطابع النسبي لهذه القدرة: قدرة البشر على التحكم فى مجريات الأمور، وبالتالي قدرتهم على الاختيار بين الإمكانيات التى يتخيلون أنهم أحرار فى ممارسة فعل الاختيار فيها.

إن ما يفعله الناس فى الحقيقة، وهذا ما قد ينجحون فيه أو يفشلون ، هو التكيف مع المستجدات ، سواء تلك التى يساهمون فى إنتاجها، أو تلك التى تظهر من غير أن يقصدوها أو يفطنوا بها.

والتكيف يعنى الملائمة: ملائمة الذات، فردية كانت أو جماعية، مع الوقائع الجديدة، ولكن لا من أجل الخضوع لها والاستسلام أمامها، بل من أجل استعادة القدرة على السيطرة عليها نوعا من السيطرة.

وبقدر ما يكون الوعي بنوعية التطور الحاصل عميقا بقدر ما تتسع الإمكانيات أمام الذات للحفاظ على استقلالها وأصالتها ولضمان الاستمرار لأصولها ومراجعها خلال عملية الملائمة المطلوبة التى ستكتسي، حينئذ، أبعادا عميقة، فتجمع بين إعادة بناء الواقع وإعادة تأصيل الأصول.

نقول هذا ونحن نفكر، أو على الأصح نساهم فى التفكير، مع كثيرين ممن يرون أنه بالإمكان التغلب على كثير من المشاكل التى تطرحها علينا الحياة المعاصرة بتحقيق نوع من التوافق والتكامل بين ما يفرضه العصر من تجديد وما يقدمه تراثنا من قيم وتشريعات تشكل جزءا من هويتنا وشخصيتنا الحضارية.

إننا نريد أن ن}كد فى هذا السياق أن الدعوة إلى تحقيق الأصالة والمعاصرة، وهى دعوة ما فتئت تتردد على ألستنا، وفى كتاباتنا، منذ أكثر من قرن، ومن دون جدوى، ستبقى مجرد دعوة تتقاذفها أمواج التغير والتبدل الذى يفرض نفسه على الحياة المعاصرة، ما لم ترتفع تلك الدعوة إلى ا لمستوى الذى يجعل منها دعوة إلى التكيف الواعي مع المستجدات قصد السيطرة عليها، ارتكازا على تأصيل جديد للأصول. وفيما يلي خواطر نعتقد أنها قد تساهم فى تعميق الوعي ببعض جوانب المشكل المطروح.

عندما أخذ بعض الأصوليين الفقهاء الذين اتجهوا اتجاها تجديديا بعد " انغلاق" باب الاجتهاد، يفكرون فى إعادة تأصيل أصول الفقه على أساس بنائها على مقاصد الشريعة بدل الاقتصار فى الاجتهاد على القياس، قياس جزئيات لم يرد فيها نص على جزئيات ورد فيها نص، انطلقوا من " الأصل " التالي، وهو أن " الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد فى العاجل والآجل معا" ، وأن مقاصدها، بناء على هذا ، لا تعدو أن تكون ثلاثة أقسام: ضروريات ، وحاجيات ، وتحسينات.

أما الضروريات فقد حصروها فى خمس هى على الترتيب كما يلي: الدين والنفس والعقل والنسل والمال( وبعضهم جعل النفس قبل الدين) ، وأما الحاجيات فهي كل ما قامت الحاجة إليه من أجل رفع الضيق والمشقة والحرج، كالترخيص بالإفطار فى رمضان لمن كان مريضا أو على سفر ، وكإباحة التمتع بالطيبات مما هو حلال فى جميع الميادين... الخ،

وأما التحسينات فهي الأخذ بما يستحسنه العقل من العادات والمستجدات وتجنب ما يستقبحه العقل من العادات والمستجدات وتجنب ما يستقبحه منها، سواء فى مجال الضروريات أو فى مجال الحاجيات.

ثم أضافوا إلى كل قسم من هذه الأقسام ما هو له كالتتمة والتكملة، مما لا يؤدى إلى إبطال أصل من الأصول، وجعلوا المقاصد الضرورية أصلا للحاجيات والتحسينات والتكميليات، باعتبار " أن مصالح الدين والدنيا مبنية على الأمور الخمسة المذكورة" ، أي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.

وقالوا إن هذه الأمور الخمسة قد ثبتت لديهم بالاستقراء، ليس من الدين الاسلامى وحده، بل أيضا بـ" النظر إلى الواقع وعادات الملل والشرائع".

وإذا كان ليس من مهمتنا هنا الخوض فى تفاصيل ميدانها علم الأصول، فإنه لا شيء يمنع مع ذلك من النظر إلى الضروريات والحاجيات والتحسينات والتكميلييات نظرة تاريخية، بل تاريخانية.

لقد حدد فقهاؤنا القدامى الضروريات وغيرها بالاستقراء كما سبق القول، اى باعتماد عصرهم الحضارية من جهة، والارتكاز على أوامر الشرع ونواهيه من جهة أخرى، فحصرو الضروريات فى ا لحفاظ على الدين والنفس والعقل والنسل والمال.

وفى الغالب فكروا فى هذه الأمور الخمسة داخل المجتمع الاسلامى الذى كان فى وقتهم يشكل عالما قائما بذاته مستقلا عن غيره من المجتمعات التى لم يكن لها شأن يذكر، لأن الشأن كل الشأن كان يومئذ للمجتمع العربي الاسلامى الذى كانت حضارته حضارة للعالم أجمع.

أما اليوم، ونحن نعيش فى عالم آخر، أصبحنا فيه تابعين لا متبوعين، عالم تغيرت فيه الأحوال وتطورت فيه الحقوق والواجبات وكثرت فيه المنافسات والتهديدات، فإنه لابد لكل من يفكر بشيء من الجدية فى التجديد، و" فتح" باب الاجتهاد، وتحقيق الأصالة والمعاصرة معا، لابد له من أن يدخل فى حسابه ما استجد من تحولات ، وهى كثيرة وعميقة.

فعلا، إن الأمور الخمسة التى حصر فيها فقهاؤنا القدامى " الضروريات" كانت ، وما تزال، وستبقى أمورا ضرورية بالفعل، أى مقاصد أساسية لكل تشريع يستهدف فعلا خدمة " مصالح العباد" .

غير أن " مصالح العباد" اليوم لم تعد مقصورة على حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، بل إنها تشمل بالإضافة إلى الأمور الخمسة المذكورة أمورا أخرى نعتقد أنه لابد من أن ندرج فيها: الحق فى حرية التعبير وحرية الانتماء السياسي، والحق فى انتخاب الحاكمين وتغييرهم، والحف فى الشغل والخبز والمسكن والملبس، والحق فى التعليم والعلاج... إلى غير ذلك من الحقوق الأساسية للمواطن فى المجتمع المعاصر.

أما الحاجيات، فبالإضافة إلى ما ذكره فقهاؤنا القدامى، هناك حاجيات جديدة، مثل الحاجة إلى توفير الصحة والوقاية من ألأمراض بإعداد ما يكفى من مستشفيات وغيرها،

والحاجة إلى ما لابد منه لتنشيط الإبداع الفكري فى مختلف المجالات العلمية والفنية والنظرية، والحاجة إلى ما لابد منه لاكتساب معرفة صحيحة بالواقع والأحداث... أما التح سينيات التى يتطلبها عصرنا، فحدث ولا حرج، كما يقولون.

غير أن ما تقدم ليس إلا وجها واحدا من الضروريات والحاجيات والتحسينيات التى يتطلبها العيش فى مستوى عصرنا، الوجه الذى يتعلق كما قلنا بحقوق المواطن وحاجاته فى المجتمع المعاصر. أما الوجه الآخر فيتعلق بما هو ضروري وحاجى وتحسيني وتكميلي بالنسبة إلى الأمة ككل.

ولا نعتقد أن هناك من يجادل فى أن الأمة العربية اليوم، من ضروريات وجودها القومي المنيع فى العصر الحاضر،

قيام حد أدنى من الوحدة بين دولها، قوامه التخطيط المشترك والتعاون الفعلي والتضامن الحقيقي وصولا إلى وحدة شاملة اتحادية أو فدرالية... ولا نشك فى أن جميع العرب يقرون اليوم بأن من ضروريات استقرار الوجود العربي وتحقيق الحد الأدنى من الوحدة المنشودة : تحرير فلسطين وتمكين شعبها من تقرير مصيره بنفسه ..

ولا نخال أن هناك من يجادل فى أن ضروريات التنمية والتقدم فى الوطن العربي فى العصر الحاضر تتطلب بناء السلطة فيه على أساس ديمقراطية حقيقية، وبناء العلاقات الاجتماعية فى كل بلد من بلدانه وقطر من أقطاره على العدالة الاجتماعية.

أما الحاجيات فأكثر من أن تحصى: إنها حاجيات التنمية ، وحاجيات التحرر، وحاجيات القوة والمناعة... الخ.

أما التحسينيات ، فهي أيضا لا حصر لها على هذا المستوى.

أما بالنسبة إلى ما يكمل الضروريات والحاجيات والتحسينات على هذا المستوى فيمكن أن نذكر ودائما على سبيل المثل، الحفاظ على سمعة الأمة بتجنب كل ما قد يسيء إلى قيمها وخليتها، كما يمكن أن نذكر ضرورة نشر قيمها المشرقة، وكسب الأنصار والحلفاء لقضاياها المصيرية، من جانب وعلى كل مستوى.

تلك هى الضروريات والحاجيات والتحسينات التى التى يطرحها عصرنا، ذكرنا بعضها على سبيل المثال، ولم نتوخ الحصر.

ومن دون شك، فإنها لا تلغى ولا تعوض تلك التى سبق أن حصرها فقهاؤنا بالأمس فى الأمور الخمسة المذكورة، بل بالعكس هى تكملها، وأكثر من ذلك توفر لها الشروط الضرورية لحفظها فى الحياة المعاصرة.

لنختم إذن بالقول إنه إذا كانت هناك ضرورات عامة خالدة كتلك التى أحصاها فقهاؤنا بالأمس، فإن لكل عصر ضرورياته وحاجياته وتكميلياته.

وهكذا فعندما ننجح فى جعل ضروريات عصرنا جزءا من مقاصد شريعتنا، فإننا سنكون قد عملنا ليس فقط على فتح باب الاجتهاد فى وقائع عصرنا المتجددة المتطورة، بل سنكون أيضا قد بدأنا العمل فى تأصيل أصول شريعتنا نفسها بصورة تضمن لها الاستجابة الحية لكل ما يحصل من تغيير أو يطرأ من جديد.

9- ادرأوا الحدود بالشبهات

" ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتهم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطى فى ا لعفو خير من أن يخطى فى العقوبة". -حديث شريف-

منذ بدء اليقظة العربية الحديثة التى ما لبثت أن هبت رياحها على مجموع العالم الاسلامى مع الأفغاني وعبده، وشعار " تطبيق الشريعة الإسلامية" من الشعارات التى تضمنها الجماهير المسلمة البدائل التى تطمح إليها فى الحياة الحرة الكريمة.

إن جميع أفراد الجماهير المسلمة فى أية جهة فى العالم تنتظر ذلك اليوم الذى تطبق فيه الشريعة الإسلامية بالصورة التى ترفع الظلم الاجتماعي والسياسي وتحقق الحرية والكرامة للفرد البشرى وتفسح المجال للعمل الصالح والخلق الفاضل، ليكون ذلك قاعدة للحياة فى المجتمع الاسلامى، لا بل فى المجتمع البشرى كله.

وإدراكا من وعى الأمة الإسلامية، وأيضا من كثير من مفكري الإسلام، بأن تحقق الحياة الفاضلة الإسلامية تحقيقا كاملا مطلقا لا يمكن أن يتم إلا فى ظروف خارقة للعادة، وفى نهاية الرحلة البشرية على هذه الأرض، ربطت تطبيق الشريعة تطبيقا كاملا وتحقيق العدل تحقيقا عاما، بمجيء " المهدي المنتظر".

وفكرة " المهدي المنتظر" هذه فكرة ذات دلالة عميقة: إنها ترمز إلى أن تطبيق الشريعة، أي تحقيق المدينة الفاضلة الإسلامية، سيظل نسبيا فى الزمن البشرى، زمن نظم الحكم البشرية، وأنه لن يكون كاملا تاما إلا بمجيء " المهدي المنتظر" الذى سيجسم بصورة شاملة ومباشرة إرادة الله على الأرض.

وأعتقد أن هذه الفكرة هى التى وجهت أهل الحل والعقد فى الإسلام منذ النبي إلى اليوم، سواء منهم الخلفاء ، أو الملوك، أو الفقهاء، أو غيرهم، ممن كان لهم نصيب الشريعة، قل أو كثر.

أزعم أن الجميع كان يرى أن تطبيق الشريعة الإلهية من طرف البشر على البشر- والبشر محل نقص- لا يمكن أن يكون إلا نسبيا، وهذه النسبية هى التى تعطى للحياة الإسلامية معنى، لأنه لو تم الكمال لما بقى للحياة ولا للشرائع معنى.

النسبية إذن هى التى طبعت تطبيق الشريعة الإسلامية على مر العصور ، وهذا منذ ظهور الإسلام نفسه.

ذلك أن القرن الذى يتضمن مبادئ الشريعة وأحكامها لم ينزل دفعة واحدة، وإنما جاء منجما مقسطا، وعلى مدى ثلاث وعشرين سنة،

وبالتالي فتطبيق أحكام الشرع كان نسبيا بهذا المعنى، حتى فى زمن النبي، أي أنه كان يتصف بالتدرج.

وقد اكتسى التدرج نوعا من المرحلية: ينص أولا على حكم،ثم يأتي حكم آخر يكمله أو يعدله ، وكأن الحكم الأول تمهيد للحكم النهائي.

ومنذ وفاة الرسول إلى يومنا هذا والنسبية هى الطابع الذى يطبع تطبيق الشريعة الإسلامية من طرف الخلفاء والحكام والفقهاء وغيرهم. وبطبيعة الحال، فلقد كان هناك تفاوت فى هذه النسبية.

فإذا كان تطبيق الشريعة قد ارتفعت نسبته إلى ثمانين أو تسعين فى المائة،أو أكثر، زمن الخلفاء الأربعة الراشدين، فإنها نزلت بعد ذلك نزولا كبيرا، حتى إذا مر قرن واحد فقط على ظهور الإسلام أحس الناس بأن الشريعة لم تعد تطبق، فارتفعت الأصوات المطالبة بذلك، وفى الحين تبلور وعى لدى المسئولين من ذوى العاطفة الدينية الصحيحة والخلق الفاضل بأن تطبيق الشريعة أصبح يتطلب التدرج، شيئا فشيئا، وكأن الإسلام فى بداية ظهوره.

ذلك ما عبر عنه الخليفة " الخامس" الصالح: عمر بن عبد العزيز. لقد قال له ابنه عبد الملك يوما:" ما لك لا تنفذ الأمور، فوالله ما أبالى لو أن القدور غلت بى وبك فى الحق؟ وبعبارة عصرنا، قال له . لماذا لا تعمد إلى تطبيق الشريعة تطبيق كاملا وليكن ما يكون .

أجاب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قائلا:" لا تعجل يا بنى.

فإن الله ذم الخمر فى القرآن مرتين وحرمها فى الثالثة. وإن أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة".

هذا جانب.هناك جانب آخر، وهو أن تطبيق الشريعة الإسلامية لا يعنى فقط إقامة الحدود، كقطع يد السارق مثلا.

إن هناك مبادئ وأحكاما أخرى يجب أن تطبق، مثل مبدأ "الشورى" فى الحياة السياسية ، ومبدأ " كاد الفقر أن يكون كفرا" فى الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، ومبدأ " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" فى الحياة الفكرية ومبدأ " الناس كأسنان المشط" فى مختلف مرافق الحياة... الخ.

وأعتقد أن تطبيق هذه المبادئ يجب أن يسبق تطبيق بعض الحدود الشرعية، خصوصا حد السرقة، لأن انتفاء الأسباب الموضوعية التى تدفع إلى السرقة شرط ضروري لجعل المسؤولية تنصرف إلى الأسباب الذاتية وحدها.

ومعلوم أن الحدود ليست غاية فى ذاتها، وإنما هى وسيلة لردع وزجر النوازع الذاتية الفردية الهدامة ، أي التى تمس مصلحة الجماعة، مصلحة الأمة.

ليس هذا وحسب، بل إن تنفيذ الحدود كقطع يد السارق ينظمه ويحكمه حديث نبوي يقول:" ادرأوا الحدود بالشبهات" ، هذا الحديث الذى صار مبدأ أساسيا فى التشريع الاسلامى. وهناك حديث نبوي أوضح وأقوى،

هذا نصه:" ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ فى العفو خير من أن يخطئ فى العقوبة".

وإدراكا من الفقهاء لمغزى هذا الحديث توسعوا فى نطاق الشبهة المسقطة للحدود حتى إنهم قالوا:" إن مجرد ادعاء الشبهة فى مظنتها من مرتكبي الجريمة الموجبة للحد يسقط الحد دون حاجة إلى إثباتها".

ولا يقف الأمر عند هذه النقطة، بل إن فقهاءنا، والأيمة الكبار منهم بصورة خاصة، كانت لهم جولات اجتهادية فى مسألة الحدود، نقتصر منها هنا على ذكر بعض ما يخص السرقة:

لقد اشترطوا أن يكون المسروق قد بلغ نصابا معينا حتى تقطع يد السارق، وحدد بعضهم هذا النصاب بثلاثة دراهم (الإمام مالك وفقهاء الحجاز) ، بينما حدده بعضهم الآخر بعشرة دراهم ( فقهاء العراق).

والاختلاف فى هذه النقطة راجع إلى اختلاف الصرف، لأن كل واحد قد المبلغ فى بلده بحسب قيمة ما قطعت به يد السارق زمن النبي. وقالوا إذا سرقت جماعة مالا يبلغ حد النصاب لكل منهم لا تقطع يد أى منهم عملا بمبدأ " لا تقطع أيد كثيرة فيما أوجب الشرع فيه قطع يد واحدة" واشترطوا فى المال المسروق أن يكون محروزا محفوظا من طرف مالكه بحيث يعسر أخذه.

واستندوا فى ذلك إلى حديث نبوي يقول:" لا قطع فى ثمر معلق ولا فى حريسة جبل" ، أي أن من أخذ من الثمار وعلى على الشجرة فى بستان غيره، أومن غنم يرعاها صاحبها فى جبل، أي فى محل مفتوح غير مغلق، لا تقطع يده، لأن الحرز والحفظ هنا غير متوفر.

واختلفوا فى الأوعية، واتفقوا على أن باب البيت مشتركة السكنى إنه لا تقطع يده حتى يخرج من الدار، واختلفوا فى الدار ا لمشركة، فقال بعضهم تقطع يد السارق إذا كان من سكانها بشرط أن يخرج من البيت ، وقال آخرون لا تقتطع يده إلا إذا غادر الدار.

وفى رأى الإمام ملك لا تقطع يد من أخذ ما على الصبي من حلى أو غيره ، لأن الصبي لا يقوى على حفظ وحرز ما عليه.

وعمل الأيمة أصحاب المذاهب كلهم والفقهاء التابعون لهم بمبدأ " ادرأوا الحدود بالشبهات" فقالوا: شبهة الملك القوية تدرأ الحد، وقضوا بأن العبد إذا سرق مال سيده لا تقطع يده،

وأن أحد الزوجين يسرق مال الآخر لا تقطع يده، وأن ألأب الذى يسرق من مال ابنه لا تقطع يده فى رأى الإمام مالك: وقال الشافعي لا يقطع عمود النسب الأعلى والأسفل، أي أن من سرق مال أبيه أو جده أو جد جده.. الخ. ،

أو مال ابنه وحفيده وابن حفيده .. الخ. ، لا تقطع يده. وعمم أبو حنيفة ذلك على ذي الرحم المحرمة، فأدخل الأم والأخت.. الخ.

أي كل من يحرم الزواج بينهما لقرابة النسب لا تقطع يد أحدهما إذا سرق من مال الآخر. واختلفوا فيمن يسرق من بيت المال، وفيمن يسرق السارق شيئا ما فقطعت يده، ثم سرقه ثانية لا يقطع فيه.

واشترطوا جميعا فى إثبات السرقة شهادة عدلين، أو اعتراف السارق إذا كان حرا، أما إذا كان عبدا، فقد اختلفوا هل يعتبر اعترافه أم لا .

وبطبيعة الحال، فإن سقوط الحد، أي عدم قطع اليد لقيام شبهة ما ، لا يعنى تبرئة المتهم بصورة آلية.

إن سقوط الحد، فى السرقة أو فى الزنا أو فى شرب الخمر والقذف، يعنى سقوط نوع العقوبة الخاصة المنصوص عليها ( قطع اليد ، الجلد...الخ.) وهذا يسمونه حق الله .

يبقى بعد ذلك الحق العام الذى قد يستوجب عقوبات أخرى ، كالسجن مثلا فى حال عدم ثبوت براءة المتهم، وذلك للتأديب والتعزيز... وهذا يعنى أن جميع الأحكام التى أصدرها الفقهاء قديما، وتصدرها محاكم الدول الإسلامية حديثا، هى أحكام إسلامية طبقت فيها الشريعة على سبيل التأديب والتعزيز .. أي تطبيق نسبيا .

أما التطبيق الكامل بإقامة الحد المنصوص عليه، فأعتقد أن العمل بمبدأ " ادرأوا الحدود بالشبهات" سيحمل كل قاض نظيف نزيه على التوقف طويلا قبل اتخاذ القرار.

وقد يضطر إلى الاكتفاء بالتعزيز بالسجن، خصوصا فى ميدان السرقة ما دام المجتمع الاسلامى العادل غير قائم بالشكل الذى يجعل الإنسان لا يضطر إلى السرقة تحت ضغط الحاجة. ومعروف أن عمر بن الخطاب أوقف الحد فى السرقة عام المجاعة.

وإذا أضفنا إلى ذلك أن شبهات عصرنا كثيرة ومتفرعة بسبب تعقد الحياة المعاصرة، وتنوع الحوافز فيها، أمكن القول إن الاكتفاء بالعقوبة التعزيزية، كالسجن والغرامة ، قد يصبح ضرورة. أما إذا أضفنا إلى ذلك الشبهات الراجعة إلى " السياسة" ، فإن الحدود حينئذ سيلتبس أمر تنفيذها بالأغراض والدوافع السياسية، وتلك شبهة ..وأية شبهة.

10- حول " التطبيق الكامل للشريعة"

وبعد، أفلست ترى معي، أخي القارئ، أن هناك كثيرا من القضايا التى تشغلنا وتفرق بيننا وتجرنا غلى التخاصم، وأحيانا إلى التنابز بالألقاب ... هى فى حقيقة أمرها قضايا غير ذات موضوع... قضايا تشغل عن المهم فضلا عن الأهم.

ثارت فى بداية الصيف الأخير فى مصر مناقشة لا تخلو من حدة حول مدى تطبيق الشريعة الإسلامية خلال عصور التاريخ الاسلامى.

لقد كتب الصحفي العربي المعروف أحمد بهاء الدين فى ركنه اليومي ب، الأهرام مقالا ورد فيه أن الشريعة الإسلامية لم تطبق خلال جميع مراحل التاريخ الاسلامى.

وقد أثار مقال الأستاذ بهاء الدين ردود فعل من طرف كتاب ومفكرين آخرين ممن يهتمون بقضايا الإسلام والفكر الاسلامى، ونشرت ردود فى أكثر من صحيفة، مما اضطر الأستاذ بهاء الدين إلى الرد على الردود، مستشهدا برأي عدد من أساتذة الأزهر أو خريجيه لتأكيد أن الشريعة الإسلامية لم تطبق كاملة فى جميع مراحل التاريخ الاسلامى، وإنما طبقت تطبيق كاملا فى فترة محدودة ، هى عصر الرسول والخلفاء الراشدين.

ولا شك فى أن الأستاذ بهاء الدين قد شعر بالرضى، حتى لا أقول " خرج من المأزق" عندما وجد أساتذة ذوى " سلطة" فى الموضوع، أعنى " أصحاب الفضيلة" الشيوخ المتخرجين فى الأزهر، يؤكدون له أن الشريعة الإسلامية إنما طبقت كاملة فى العصر الاسلامى الأول، عصر الرسول والخلفاء الراشدين، وأنه قد جاءت بعد ذلك عصور أو فترات لم تطبق فيها الشريعة تطبيقا كاملا.

ومنذ أن قرأت ما كتبه الأستاذ بهاء الدين، وما كتبه الذين ردوا عليه، وما رد به هو عليهم أخيرا، وأنا أشعر فى قرارة نفسي بأن المشكل الذى أثير هو من المشاكل " المزيفة" ، أعنى المشاكل التى لا أساس لها، ولا فائدة ترجى من إثارتها.

ذلك لأن الأهمية، بل الخطورة، التى أعطيت للموضوع لا تجد تبريرها، فى نظري، إلا فى جو محموم، حتى لا أقول " مسموم" ، الجو الذى تطغى فيه العاطفة والانفعال على العقل والتروي، ويسود فيه الحذر وما يتبع ذلك من المبادرة إلى " التصدي" للخصم قصد إفحامه وقمعه قبل أن ينهى كلامه ويدلى بجميع شكوكه.

وأعترف للقارئ وباعتزاز- وأحمد الله على ذلك- بأنني أشعر بأنني متحرر إلى حد كبير من مثل تلك الحالة الوجدانية التى تضع صاحبها فى موقف الدفاع والضعف، حتى لو لم يكن هناك ما يستوجب ذلك. أنا لا أجد حرجا، لا فى ديني ، ولا فى وجداني، ولا فى عقل، إذا قلت إن الشريعة الإسلامية لم تطبق قط" كاملة" فى يوم من الأيام.

أقول هذا وأنا أعطى لكل كلمة معناها وحقها من الدلالة، وبالخصوص كلمة " كاملة" التى أضعها بين مزدوجتين إبرازا لها وتأكيدا عليها، لأنها جوهر المسألة، ولا أقول " المشكلة" لأن الموضوع كله واضح، فى نظري ، لا مشكلة فيه ولا إشكال .

وفيما يلي البيان:

1- الشريعة الإسلامية لم تطبق " كاملة" فى زمن الرسول لسبب بسيط يعرفه جميع من له معرفة بالسرية النبوية، هو أن هذه الشريعة لم تنزل دفعة واحدة، ومرة واحدة، وإنما استغرق نزول ما نزل منها، وتقرير ما تقرر، حياة الرسول كلها من يوم بعثته إلى اللحظة التى لفظ فيها أنفاسه.
ذلك لأن القرآن وهو الأصل الأول للشريعة لم يكتمل إلا يوم نزلت الآية الشهيرة " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكن الإسلام دينا" .
ويقال إن الرسول لم يعش بعدها إلا واحدا وثمانين يوما ( قد تكون نزلت خلالها آيات. وآخر ما نزل من القرآن موضوع خلاف كما هو معلوم) .
أما المصدر الثاني للشريعة المبين للمصدر الأول والمفصل لما أجمل فيه فهو السنة النبوية، أي ما صدر عن النبي من قول أو فعل وما أقر الناس عليه، ومعلوم أن هذا الأصل الثاني لم يكتمل إلا فى اللحظة التى كف النبي فيها عن الكلام والفعل، لحظة وفاته عليه السلام.
وإذن فقبل انتهاء نزول القرآن، وقبل انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى، لم تكن الشريعة الإسلامية قد طبقت تطبيقا " كاملا" ، لسبب بسيط هو أنها لم تكن قبل ذلك قد اكتملت بعد. ومعنى ذلك أن ما طبق من الشريعة فى كل مراحل نزولها هو ما كان قد نزل منها، وهو جزء منها وليس كلها.
2- ولم تطبق الشريعة الإسلامية كاملة زمن الخلفاء الراشدين لسبب بسيط أيضا، هو أن الصحابة واجهوا نوازل ومستجدات لم تكن قد ظهرت زمن النبي، فكان عليهم أن يجتهدوا ، وكان لابد من أن يستشير بعضهم بعضا ،
وكان لابد من أن يناقشوا ، فيختلفوا ويتفقوا، وكان لابد فى جميع الأحوال، من أن يتصرفوا ، إنا عن اجتهاد، وإما بإجماع.
وكما نعرف جميعا، فالإجماع والاجتهاد هما الأصلان الثالث والرابع من أصول التشريع فى الإسلام.
وواضح أن الشريعة إنما تكمل باكتمال أصولها( ولا عبرة هنا بالنقاش حول حجية الإجماع والاجتهاد، فالجميع – باستثناء الشيعة- متفقون حول إجماع الصحابة واجتهادهم، والخلاف هو حول اجتهاد وإجماع من جاء بعدهم) .
وإذن فالحديث عن " تطبيق الشريعة كاملة" لا يصح، من الناحية المبدئية، إلا عندما تكون أصولها الأربعة قد تقررت كلها، وهذا لم يحدث إلا بعد أن انتهت الحقبة التى كان فيها الصحابة هم أهل الحل والعقد، حقبة الخلفاء الراشدين.
3- على أن الشريعة الإسلامية ليست مكونة فقط مما نص عليه القرآن والسنة، وما قرره إجماع الصحابة واجتهادهم ، بل هى تضم كذلك ما قرره الفقهاء المجتهدون فى كل العصور، وأيضا ما سيقرره الفقهاء المجتهدون الذين ستعرفهم العصور الآتية .
وإذن فما دامت الشريعة الإسلامية قد بدأت تتقرر مع البعثة المحمدية، فاكتملت مبادئها العامة وأركانها الأساسية فى عهد الرسول ( بالكتاب والسنة ) ، وتوضح جوانب كثيرة منها ، واغتنت باجتهاد الصحابة،
وهى تغتني دوما باجتهاد الفقهاء المجتهدين، فى الماضي والحاضر والمستقبل، فإنه لا معنى للقول إن الشريعة الإسلامية قد طبقت " كاملة" فى هذا العصر أو ذاك، لأن الشريعة الإسلامية، بما أنها شريعة جميع العصور والأزمان،على المجتهدين فيها أن يجدوا حلولا وصيغا شرعية لجميع ما يستجد فى مستقبل الأيام، أقول بما أن الشريعة الإسلامية هى كما وصفنا ، فلا معنى للقول إنها طبقت " كاملة" ، بل الأصح أن يقال إنها تكتمل باستمرار ( أو إن الأمر يجب أن يكون كذلك).
نعم قد يقال : ليس المقصود " الكمال " بهذا المعنى ، وإنما المقصود هو أن ما وجد من الشريعة فى زمن الرسول وزمن الخلفاء الراشدين قد طبق تطبيقا كاملا.

وهذه وجهة نظر يمكن أن تعارض ، على مستوى الجدل فقط، بالأمور التالية:

- إن الشريعة زمن الرسول قد عرفت، سواء على مستوى النص القرآني، أو على مستوى السنة النبوية، تطورا جعل منها شريعة حية، وليس شريعة جامدة، هو تطور يعكسه بوضوح وجود " الناسخ والمنسوخ" .
والسؤال الذى يمكن أن يطرح هنا هو التالي: هل الأحكام التى كان يجرى العمل بها، ثم نسخت " بخير منها أو مثلها" ، تدخل فى دائرة " كمال " تطبيق الشريعة أو لا تدخل ؟ أو ليس " الكمال " هنا للناسخ لا للمنسوخ؟ ثم هل كان جميع الذين أسلموا زمن النبي يقومون بما تقرر من الأحكام، فيصلون ويزكون ويرجمون الزاني أو يجلدونه،
ويقطعون يد السارق بمجرد الإعلان عن إسلامهم؟ ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقبل من وفود القبائل مجرد الإعلان عن إسلامهم( الشهادة)،
ثم تأتى بعد ذلك مرحلة " تعليمهم شؤون دينهم" بواسطة من يبعثه إليهم لهذا الغرض؟ ثم ألم يكن كثير من الأعراب الذين أسلموا " ولما يدخل الإيمان" فى قلوبهم مقصرين فى تطبيق ما كان موجودا فى الشريعة،
ولم يكن يخفى ذلك على رسول الله ؟ فهل يمكن القول، بإدخال هؤلاء وأولئك فى الحساب ، إن الشريعة ، أو ما كان موجودا منها، قد طبق تطبيقا كاملا على الناس جميعا زمن النبي، أعنى الناس الذين أعلنوا إسلامهم؟
- ومثل ذلك يقال بالنسبة إلى عصر الصحابة، عصر الفتوحات. فالناس الذين أسلموا حين الفتح، على عهد أبى بكر وعمر وعثمان، وفى العصور التالية كذلك ، لم يطبقوا الشريعة، أو لم تطبق عليهم، تطبيقا كملا بمجرد إعلان إسلامهم طوعا أو كرها، بل كان لابد من وقت يتعلمون فيه دينهم ،
وكان لابد من استقرار الأحوال حتى يعين القضاة والقراء الخ) أي كان لابد من وقت يمر عليهم من دون أن تطبق الشريعة عليهم، وهم مسلمون ، تطبيقا كاملا.
- وما القول فى اجتهادات الخلفاء الراشدين التى يوجد فيها ما يشبه الناسخ والمنسوخ : فقد وزع أبو بكر ، كما هو معروف ، الغنائم والعطايا على أسلوب وطريقة ومقاييس، ولما تولى عمر بن الخطاب عدل عنها إلى أسلوب ومقاييس أخرى.
وأما الخليفة الثالث عثمان بن عفان، فمعروف أنه سلك فى كثير من الأمور غير مسلك أبى بكر وعمر ، دع عنك ما كان يؤاخذ عليه خلال السنين الأخيرة من خلافته.
فأيه ينتمي إلى الشريعة المطبقة " كاملة" : مسلك أبى بكر الذى نسخه مسلك عمر ، أم الكيفية التى تصرف بها عثمان؟ علينا أن نقول كما قال الفقهاء: لقد اجتهدوا وكل مجتهد مصيب . ولكن هل يدخل كل اجتهاد فى دائرة " كمال" الشريعة؟
- ولننقل إلى عصرنا ، وما سيأتي بعده من العصور، ولنقل إن دائرة الشريعة الإسلامية حين ستطبق مثلا فى المسلمين ،
وهم يسافرون إلى القمر، أو يطوفون فى الفضاء، أو يتخذون موقفا من الحمل الاصطناعي عن طريق التلقيح داخل الأنابيب الزجاجية، هى دائرة أوسع كثيرا من دائرة نفس الشريعة كما تطبق اليوم، أو كما طبقت فى الماضي. وإذن أفليس ميلها واقترابها من الكمال فى هذه الحالة أقوى مما كان عليه الأمر فى اى زمن مضى؟

ما نريد أن نخلص إليه من هذه التساؤلات الجدلية هو الوصول إلى الحقيقة البديهية التالية: هى أن " الكمال" فى مجال تطبيق الشرائع كما فى أي مجال آخر، هو كمال نسبى، سواء تعلق الأمر بزمن الأنبياء ن أو زمن حوارييهم وصحابتهم، أو ما جاء ويجيء بعدهم من أزمان. إلا أنه لا نال فى هذه الدنيا، لا فى مجال تطبيق الشريعة، ولا فى غيره من المجالات.

وبعد، أفلست ترى معي ، أخي القارئ ، أن هناك كثيرا من القضايا التى تشغلنا وتفرق بيننا وتجرنا إلى التخاصم ، وأحيانا إلى المتنابز بالألقاب .. وهى فى حقيقة أمرها قضايا غير ذات موضوع: قضايا تشغل عن المهم فضلا عن الأهم.

والمهم والأهم يتعلقان دائما بالحاضر والمستقبل. فلننظر إلى ماضينا كله نظرة تاريخية ، نظرة تعتمد " أسباب النزول" ، فنأخذه فى كليته ونعترف به كتاريخ للإسلام وللمسلمين، تاريخ قوتهم وضعفهم، صوابهم وخطأهم ، ناظرين إلى المستقبل نفس النظرة، النظرة التاريخية التى ترى الكمال صيرورة، وليس جاهزا جامدا.