الحلقة الرابعة من ذكريات المأمون الهضيبي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
ذكريات المستشار محمد المأمون الهضيبي
"الحلقة الرابعة"

نعم، علم بقيامها؛ لأن (الإخوان) كانوا مشاركين فيها كما هو معروف.


  • وهل صحيح أنه هو الذي أجل موعد قيامها إلى يوم 23 يوليو؟

كان التحضير لقيام الثورة لما بعد 23 يوليو بسنة، ولكنهم علموا أن الملك وصلته معلومات عنهم، وأنه أتى بحسين سري عامر عدوهم اللدود وزيرًا للحربية ليقضي عليهم.. فوجدوا أنفسهم أمام خيارين: إما أن "يتغدوا به أو يتعشى بهم"، فقرروا قيام الثورة يوم 21 أو 22 يوليو، واستدعوا من كان يتعامل معهم من الإخوان، وأذكر منهم "حسن العشماوي" و"صالح أبو رقيق"، رحمهما الله، و"فريد عبدالخالق"، وأبلغوهم بهذا القرار.

فرحب الإخوان بالتعجيل بالثورة لكنهم قالوا: أما من ناحية موعد قيام الثورة فلا نستطيع الموافقة عليه لأننا لم نحصل على إذن من المرشد العام..، هنا تضايق "جمال عبدالناصر".. وحاول الحصول على موافقتهم، لكنهم أصروا على موافقة المرشد العام، وطلبوا مهلة 24 ساعة ذهبوا خلالها للمرشد العام، فناقشهم في الأوضاع كاملة، وتمت في ضوء ذلك، الموافقة.

وقد سألت المستشار "حسن الهضيبي" بعد ذلك- بعد أن قامت الثورة-: لماذا وافقت على قيامها؟ فقال لي: إن المسائل وصلت إلى حد ضرورة قيام الثورة.. فهم كانوا سيقومون بها على أي حال، فكان لابد لي أن أوافق وإلا أصبحت عدوهم الأول.


  • لكن الصدام حدث مع "عبدالناصر".. ما السبب في رأي فضيلتكم؟

في رأيي يعود السبب إلى الاختلاف بين شخصية الأستاذ "الهضيبي" من ناحية، وتطور شخصية "جمال عبدالناصر" من ناحية أخرى.. من ضابط ضمن الإخوان، كان من الممكن أن يأتمر بأمر "حسن البنا" أو الصاغ "محمود لبيب" أو "حسن الهضيبي" أو "عبدالرحمن السندي".. وكان هذا يحدث، ثم إنه كان طبيعيًا خلال جلساته- هو و"عبدالحكيم عامر" مع الأخوين "منير دلة" و"حسن العشماوي" وغيرهما- أن ينادي بعضهم البعض بأسمائهم الأولى، ولم يكن هناك تمييز.. أناس في مستوى واحد.


عبد الناصر مع الإخوان

لكن بعد قيام الثورة وجد "عبدالناصر" نفسه ملكًا لمصر.. ووجد الناس تتعامل معه بالخضوع بينما بقى الإخوان يعاملونه بنفس المعاملة التي كانوا يتعاملون بها من قبل.. المساواة.. وذلك أمر أصبح غريبًا على "عبدالناصر" ولم يعد يتحمله.

وهناك أمر مهم يجب الانتباه إليه وهو أن الثورات تدبر بليل ولا يمكن غير ذلك.. ومن هنا تكون فاقدة للقاعدة الشعبية لأنه إذا عرف أمرها فشلت.. وعندما تنجح تبحث بلا شك عن القاعدة الشعبية التي تساندها.. والقاعدة الشعبية التي كانت موجودة في ذلك الوقت هي الإخوان المسلمون؛ لأن الأحزاب الموجودة على الساحة آنذاك كانت قد فقدت شعبيتها في المجتمع المصري بما فيها حزب (الوفد).. ثم إن قادة الثورة كانوا متفقين مع الإخوان وكان بعضهم من الإخوان.

المهم كان لابد من الاستناد إلى القاعدة الشعبية للإخوان، لكن "عبدالناصر" أُصيب بالضيق والحنق عندما وجد الناس في كل مكان يذهب إليه يرددون شعارات الإخوان «الله أكبر ولله الحمد».. حتى قال لهم مرة وهو غاضب: هل أنتم ببغاوات؟! ترددون أشياء لا تفهمونها!.

لقد شعر "عبدالناصر" أنه يستند إلى شعبية لا يمتلكها فاعتقد بضرورة التخلص منها بالقوة.. ولا قوة إلا قوة الجيش والشرطة، وهنا كان لابد أن يظل متكئًا على الجيش والشرطة.. وهذا يعني أن القوة هي التي تحكم.. وأنه لن يستطيع أن يواصل الحكم إلا بالحكم الدكتاتوري المستبد.. هذا هو تحليلي الشخصي للأمور.


  • بعد قيام الثورة.. هل تذكر ما دار في أول لقاء بين الوالد وعبدالناصر؟

كان اللقاء في منزل "صالح أبو رقيق"- رحمه الله- وبعد دردشة في أول اللقاء، قال الأستاذ "الهضيبي": لنتكلم الآن في الأمور التي اتفقنا عليها.

فرد عليه "جمال عبدالناصر": نحن لم نتفق على شيء!

هنا فوجئ "الهضيبي" من الرد وأدرك حقيقة الوضع، ونظر للإخوان الجالسين وقال لهم:

"شوفوا" أخوكم.. ماذا يقول؟!.. "أخوكم".. ونهض وهمَّ بالخروج لكن الجالسين ألحوا عليه بالجلوس.. وقال لهم: إذًا طالما الأمر كذلك ننظر إليكم كحركة إصلاحية.

لكن انطباعه من أول لقاء كما قال: رأيت في عيونهم الغدر، وكلما التقى بهم بعد ذلك تأكد لديه هذا الانطباع .. (الغدر).


  • هل كنت محتكًا بالأحداث في تلك الفترة؟

أنا كما قلت لك سابقًا كنت أعمل في غزة، كنت على صلة بالإخوان، لكن.. كنت بعيدًا عن الناحية التنظيمية بسبب طبيعة عملي.


  • الانتظام في عمل الجماعة ذاتها.. متى حدث بالنسبة إلى فضيلتك؟

بعد اعتقالات عام 1965م حين اعتقلت مع الإخوان.


  • كيف جرى الاعتقال؟

حدث أمر جعل الأمن يشتبه في أنني أخفي شيئًا في بيتي..والذي حدث هو أن زوجتي عندما علمت من الإذاعة بقضية الشهيد "سيد قطب" قامت بإخفاء كتبه التي كانت بمكتبتي.. أخفتها في حوش المنزل، في تلك الآونة كان الأمن يرصد البيت فاشتبهوا في أن (أسلحة) كان يتم إخفاؤها.. فداهموا البيت وفتشوه أكثر من مرة، وعسكروا في البيت أكثر من يوم.. فلم يجدوا إلا الكتب.. اقتادوني إلى إدارة المباحث ثم نقلوني إلى سجن أبي زعبل، وهناك مارسوا عملياتهم التي كانوا يمارسونها مع المعتقلين: التعليق.. الضرب.. والمحمصة.. وغيره!.

ثم نقلوني إلى طرة ثم السجن الحربي حتى أنهوا التحقيقات، وأصدروا الحكم بالسجن ثم نقلوني مرة أخرى إلى سجن أبي زعبل حتى عام 1967م، ثم نقلونا إلى سجن طرة ومكثنا به حتى مات "جمال عبدالناصر".. ثم في عهد السادات، بدأت الإفراجات وخرجت مع الدفعات التي خرجت من طرة.


  • كيف عايشت هذه المحنة بكل ما فيها؟

كان لابد أن أصبر مع الصابرين.. وكان لابد أن أعايشها.. ماذا كنت أفعل في مصيبة وقعت سوى الصبر والاحتساب؟ لم يكن هناك شيء آخر يجدي سوى الصبر والاحتساب.. ثم إنني شاهدت من حولي الكثيرين أصيبوا بهذه المحنة.

إضافةً إلى ذلك، فأنا كنت أعلم ما يجري داخل السجون منذ عام 1954م.. صحيح أنا لم أعتقل ولكن الوالد وأخواي اعتقلوا في محنة 1954م بالسجن الحربي.. وأعرف ما حدث للشهداء الذين شُنقوا، يعني كنت أعايش الجو داخل الأسرة ومن خلال معرفتي بما حدث للإخوان من قبل.


  • (العنف) اتهام قديم متجدد للإخوان المسلمين، ومع كل قضية أو موجة اعتقالات لهم يزداد الإلحاح عليه لإلصاق هذا الاتهام بالإخوان تبريرًا لتلك الموجة.. ولعل (التنظيم الخاص) الذي تم تشكيله في عهد الإمام "البنا" يمثل القاسم المشترك للتدليل على عنف الإخوان؟

في عهد الإمام "البنا" رضوان الله عليه تم تشكيل (النظام الخاص) وكان الدافع لتشكيله هو مقاومة الاحتلال الإنجليزي لمصر، والذي تمثَّل وقتها في 80 ألف جندي بريطاني كانوا ينتشرون في القاهرة والإسكندرية، ثم استقروا في منطقة قناة السويس بعد معاهدة عام 1936م، وكان هناك المندوب السامي البريطاني وله قوته النافذة وذلك معروف.

أما بالنسبة للأجواء السياسية على الساحة المصرية، فقد كان حزب الوفد صاحب الأغلبية الشعبية، وكان الملك يستجيب للضغوط الشعبية أحيانًا ويسمح له بتشكيل الحكومة ثم يقيله ويأتي بأناس آخرين لتشكيل الوزارة ثم يشكلون حزبًا جديدًا.. وهكذا.

الانتخابات البرلمانية كانت في أغلبها مزوَّرة، وكانت الانتخابات التي تولى فيها "سعد زغلول" رئاسة البرلمان هي الوحيدة النظيفة، ولم يكمل البرلمان يومها بضعة أشهر وتم حله لتجرى انتخابات مزوَّرة.

وهكذا، كان الموجودون في الحكم أشخاصًا عملاء للملك، والملك عميل للإنجليز، ألم تسمع اليوم عن عملاء فلسطينيين للكيان الصهيوني يعملون ضد حماس والمقاومة؟

ثم جاءت حرب فلسطين وما حدث فيها من خيانة وأسلحة فاسدة تم تسليح الجيش بها، مما تسبب في الهزيمة، حتى إن اللواء "أحمد باشا صادق" قائد القوات المصرية في فلسطين، أرسل برقية للمسئولين مشهورة نشرتها الصحف يومها تقول: اكفوني "شراتيك" القاهرة أكفيكم "شرتوك اليهود".

"شرتوك اليهود" هو أحد قادة الكيان الصهيوني البارزين في الحرب، و"شراتيك القاهرة" يعني بها قيادات القاهرة التي سببت له الهزيمة ولم تمكنه من قيادة الجيش للنصر.

وعندما يرسل قائد القوات مثل هذه البرقية وتنشر علنًا في الصحافة، كيف ينظر الناس إلى شراتيك مصر في ذلك الوقت؟ ينظرون إليهم على أنهم وطنيون أم عملاء؟!

فإذا كان بعض أعمال العنف قد وقع في ذلك الوقت من رجال التنظيم الخاص، فإنه لم يكن مقصودًا بها أبدًا إحداث ذعر ولا إحداث انقلاب، أو الاستيلاء على السلطة، وإنما جاءت نتيجة الفساد الذي كان منتشرًا في ذلك العهد والذي فرح الناس بزواله وإزالته.

أما محاولة إلصاق هذه التهمة عبر التاريخ، فقد باءت كلها بالفشل، وصارت الحقيقة واضحة جلية للجميع، وهي أن الإخوان أبرياء تمامًا من هذه التهمة، ولم يثبت على أي منهم شيء من ذلك.


  • قلت في فضيلته: في سجون 1965م برزت فتنة التكفير التي عالجها المستشار "حسن الهضيبي" بدراسته القيمة (دعاة لا قضاة) وقد شاركه فيها نفر من الإخوان داخل السجون وكان لفضيلتك دور ومشاركة.. ما قصة هذه الفتنة كما عايشتها؟

قال: بداية ظهور هذه الفتنة كان في آخر أيام لنا في معتقل أبي زعبل قبل نقلنا إلى معتقل (طرة)، وكنت في البداية أسمع عن أفكار التكفير هذه ولم أكن أصدق أن أحدًا من الإخوان يمكن أن يرددها أو يصدقها أو يعتنقها.. وعندما وقعت حرب عام 1967م طلبت إدارة السجن منَّا كتابة رسالة تأييد لعبدالناصر لكني كنت من الرافضين فنقلوني إلى زنزانة جديدة كان بها الأستاذ "محمد قطب"، وهناك رأيت أناسًا يقفون لأداء الصلاة وكأنهم لا يصلون، ثم جاءني الشيخ "علي عبدالفتاح"- رحمه الله- وأخبرني بأن هناك- في الزنزانة- مَن يقولون: إننا في العهد المكي، وليس علينا صوم ولا زكاة!.

سألته: مَن يقول بذلك؟

فأشار إليهم.. ثم قال لي: إنهم يقولون إن والدك موافق على ذلك!

تعجبت.. وقلت: إنني لم أسمع شيئًا من ذلك من والدي.

ثم أجلسني الشيخ "علي عبدالفتاح" معهم وسمعت منهم وأكدوا لي ما نقله وقالوا: هذا هو مذهبنا ومن لم يقبل به يكون كافرًا.. وإن والدك قد وافق على هذا الكلام، وإذا لم يكن موافقًا فليس له عندنا بيعة في أعناقنا.

سألتهم: كيف علمتم أن والدي يوافق على هذا الكفر؟

قالوا: أكد لنا أنه موافق!

قلت: أؤكد لكم أنه لم يوافق على ذلك.. أما من ناحية البيعة وغيرها فهذه مسألة تخصكم أنتم.. وما أؤكده لكم هو أنني لم أسمع بشيء من هذا الفكر من والدي أبدًا.. ولم يكلمني في مثل هذه الأمور مطلقًا.

ثم إنكم تقولون بأن من لم يعرف بهذه العقيدة (الفكر) ولا يؤمن بها يكون كافرًا.. وتقولون في نفس الوقت إن والدي يعرف بها ويوافق عليها!. وأنا أسألكم وفق منطقكم هذا: كيف يترك أب ابنه في الكفر؟!! ثم يقبل أن يكون مرشدًا.. مرشدًا لمن، إذا لم يرشد ابنه إلى الصواب، وإلى العقيدة الصحيحة ويتركه في الكفر- وفق منطقكم؟!.

ثم ما الذي يمنعه أن يقول لي ويرشدني إلى الحق؟

ثم قلت لهم: ليس من الممكن قبول كلامكم أو تصديقه.. هذه واحدة.. والثانية: تقولون إن عموم الناس ليسوا على الإسلام حتى نمتحنهم ونتبين فهمهم لـ(لا إله إلا الله)، لنحكم بإسلامهم، وأنا لي تجربة مع والدي ومثال يرد على ما تقولون بأنه غير موافق على كلامكم.. فقبل الاعتقالات بأشهر كنت مع والدي في الإسكندرية، وكان- كعادته- يمارس رياضة المشي وكنت أسير معه، وعند عودتنا كان يؤذن للصلاة في مكان مهجور قام الناس بتنظيفه وتهيئته، فيتوقف ونذهب لأداء الصلاة وراء رجل لم يعرفه والدي ولم يلتق به ولم يمتحن إسلامه وهو بالكاد يستطيع قراءة الفاتحة.. ومع ذلك صلى خلفه.

وقلت لهم: كيف إذًا يصلي والدي وراء كافر في عرفكم؟!

ورويت لهم ما شاهدته بنفسي في بيت والدي.. عندما ذهبت لزيارته حيث وجدت إحدى السيدات عنده في حضرة والدتي.. وسمعت هذه السيدة تتحدث عن السيدات "الكفرة"- كما كانت تقول- اللاتي يلبسن القصير من الثياب ويخرجن في تبرج صارخ، فتصديت أنا لها وقلت لها: لماذا تكفرينهن؟.. ألا يمكن أن يكنَّ غير فاهمات أو جاهلات بالحكم الشرعي؟.. فهناك كثيرات يلبسن هذه الملابس وهن غير فاهمات.. وإذا كنَّ يعلمن بالخطأ فهن في حكم العاصيات.

ثم تحدث والدي قائلاً لهذه السيدة: إن زوجتي كانت في فترة من الفترات تنظم درسًا دينيًا داخل البيت للسيدات، وكان الذي يحاضر في هذا الدرس الشيخ "حامد" أحد علماء أنصار السنة.. وفي يوم الدرس دق جرس البيت، فذهبت لتفتح فإذا بالباب سيدتان من الأتراك في قمة التبرج يطلبن حضور الدرس، فترددت زوجتي ولكنها لم تشأ منعهما من الحضور بهذه الهيئة وتركتهما يدخلان قائلة في نفسها: الشيخ يتصرف معهما كيفما أراد.

وحضر الشيخ فوجد السيدتين على هذه الهيئة، فترك الدرس وأخذ في توبيخهما فترة طويلة، وأخذ يبيِّن لهما الحكم الشرعي في زي المرأة.. وكيفية خروجها والآداب المرعية في ذلك.

لكن إحداهما- كان يبدو عليها أنهما من طبقة اجتماعية عالية جدًا- قاطعته محتجة: ماذا جرى يا فضيلة الشيخ.. لماذا كل هذا الكلام؟.. نحن لم نسمع بكل ما قلته من قبل ولا ندري عنه شيئًا.. بدلاً من أن تشتمنا.. أرشدنا.. نحن جئنا هنا لنسمع ونعرف الصحيح.

ففوجئ الشيخ واضطر للصمت ثم تحول إلى موضوع الدرس.. وفي الموعد التالي تقول والدتي إنها ظنت أن السيدتين لن تعودا مرة أخرى بعد ما لقيتاه من الشيخ فإذا بها تفاجأ بالسيدتين تحضران بالزي الشرعي الإسلامي.. ثم داومتا على الحضور ولم تنقطعا.

وهنا قال والدي للسيدة الجالسة، لافتًا انتباهها: انظري.. هاتان السيدتان تؤكدان أنهما لم تسمعا بالحكم الشرعي ولم يخبرهما أحد.. فكيف تحكمين على الأخريات- إذًا- بالكفر؟!.

وقلت لمن يحاورني من أصحاب فكر التكفير داخل السجن: هذه هي الوقائع التي عاينتها مع والدي وكلها مخالفة لكلامكم عن التكفير ولا يمكن أن يكون قد وصله علم بهذا الفكر الذي يمنع صلاة الجمعة ويوقف الزكاة وكل شرائع المدينة.. إن كل هذا الكلام.. لا يمكن أن يكون قد علم به أو قبله فضلاً عن أن واقع الحال يؤكد ذلك.

وقلت لهم: نحن هنا في الزنازين مجردون من الكتب ومن كل شيء.. حتى من المصاحف.. ولا نستطيع أن نجري نقاشًا علميًا، فالمسألة لا تحتاج لمزيد من المشكلات بين بعضنا البعض.

ثم قلت لهم: نحن في نظركم كفرة.. ولو قام أي منَّا للصلاة، وأمَّ المصلين ألاحظ أنكم لا تصلون خلفه.. بينما أنتم في نظرنا مسلمون.. فصلوا أنتم ونحن نصلي خلفكم.

وعندما تم نقلنا إلى سجن طرة، ونقل أيضًا عدد من الإخوان من سجن القناطر إلى طرة أيضًا.. اشتعلت المسألة أكثر وطلب منِّي الحاج "مصطفى مشهور"- رحمه الله- وقتها أن أتحدث مع حاملي هذا الفكر من القادمين من سجن القناطر، وأوضح لهم، خاصةً أنهم يقولون إن أخي "إسماعيل الهضيبي" موافق على أفكارهم.. وحاولت الحديث معهم لكن لم أتمكن فقد كانت المسألة مشتعلة جدًا.


  • كم كان مقدار انتشار هذا الفكر بين الإخوان؟

الغالبية من الإخوان كانت ترفضه.. ولكن الدليل الشرعي للرفض لم يكن متبلورًا لديهم، فلم تكن هناك دراسة فقهية ولا رأي واضح يفند هذا المذهب الجديد، بينما أصحاب مذهب التكفير كانوا قد رتبوا أمورهم بدراسة ومفاهيم وأسانيد فقهية تؤدي للنتيجة والقناعة التي يرغبونها.


كان في سجن (ليمان طرة) ونحن كنا في معتقل (طرة).


  • كيف علم بهذه الفتنة؟

عندما نقل من (ليمان طرة) إلى حيث نحن في معتقل (طرة)، وكان ذلك النقل مفاجئًا لنا.. وقد اعتقد الإخوان يومها أن المرشد لن يمكث إلا ليلة واحدة في مستشفى السجن ثم يتم نقله إلى مكان آخر.. وقد تم السماح لي بمرافقته.. ولذا فقد تجمع الإخوان على نافذة المستشفى وأخذوا يلحون عليَّ في سؤاله عمَّا أثير حوله من أفكار التكفير.. كان الإخوان خائفين من ضياع الفرصة.. فرصة استجلاء الأمر منه.

لقد كان متعبًا جدًا.. ولكنه شعر بالموضوع فسألني: ما الأمر؟

فأبلغته بكل ما حدث وكل ما عاينته.. فاستغرب.. وأخذ يسترجع بعض العبارات التي سمعها من بعض هؤلاء الذين كانوا معه في (ليمان طرة)، وأخذ يحللها وفق مقاصدهم التي تبدت بعد ذلك.. بينما لم يؤولها هو هذا التأويل.


  • هل قضى المرشد ليلة واحدة بالمستشفى ثم نقل؟

لا.. ظل بالمستشفى.


  • ماذا حدث؟

أخذ الإخوان في السجن يتصلون به وبي باعتباري كنت مرافقًا له.. ثم التقى بعد ذلك عددًا من حملة فكر التكفير وناقشهم، ثم قال لهم كلمته التي جاءت بعد ذلك عنوانًا للبحث الذي أعده، قال لهم: نحن "دعاة لا قضاة".. لماذا تحكمون على الناس؟

وقال لهم: إن الداعية يقف بين ألف شخص ويتلو الآية: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة:44).. والناس تسمع الآية وكل واحد منهم يعرف نفسه، إنما أن تقول لفلان أنت كافر.. فهذه ليست مهمتك وإنما مهمتك الدعوة إلى الله.

ولست كذلك قاضيًا حتى تأتي بالناس لتحاكمهم.. فنحن دعاة لا قضاة.. وانتهى اللقاء.

لكن بعد فترة بدأ الإخوان يدخلون في مناقشات ساخنة كانت تتحول إلى مشادات بين أصحاب هذا الفكر ومخالفيهم من غالبية الإخوان.

فكانت تعليمات المرشد الصريحة للإخوان.. أن لا نقاشَ أبدًا.. ولكن.. العبوا كرة قدم.. العبوا كرة سلة.. العبوا راكت.. ولكن لا نقاش في هذه الموضوعات أبدًا.

ثم انتدب مجموعة من الإخوان وقال لهم: "إن حملة هذا الفكر أصحاب مذهب .. والرد الصحيح عليهم لا يكون من خلال الجدال، ولكن لابد أن يكون من خلال بحث فقهي يوضح مكامن الخلل وطريقة العلاج".

وقال: "إنه بدون ذلك لن يمكن معالجة هذا الفكر وستحدث مصادمات"، ثم شكل مجموعة لإعداد الدراسة الفقهية المطلوبة.


  • كيف وكل شيء كان ممنوعًا؟

في تلك الآونة بدأوا يسمحون ببعض الكتب، وأخذنا نطلب بعض المراجع.


  • إعداد البحث ومشاركة الوالد رحمه الله فيه.. كيف تم؟

نحن كنا مستوعبين الفكر الجديد تمامًا من خلال المناقشات المطولة المعمَّقة مع حملته، وتمكَّنا من رصد معالمه الرئيسة، وأعددنا الردود الفقهية.. وكنا كلما كتبنا جزءًا نعرضه على الوالد لمراجعته وإدخال ما يرى عليه وإقراره في صورته النهائية.. واستمر هذا العمل ما يقرب من عام، وبعد أن راجعه كاملاً وأقرَّ ما فيه التقى حملة هذا الفكر وأعطاهم نسخة منه وقال لهم: هذا البحث أنا راجعته ومسئول عن كل كلمة فيه.. وهذا هو مذهبنا.

وطلب منهم قراءته ودراسته.. وبالفعل قرأوه ووافقوا على ما فيه لأول مرة.. لكنهم عادوا وقالوا: إن هذا البحث مخالف لكلام "سيد قطب"!.

فقال لهم: نحن نناقش موضوعًا محددًا، والبحث يتناول هذا الموضوع، فإن كان لكم أي مأخذ أو تعقيبات على محتوياته من الآراء الفقهية المأخوذة من كل المراجع الفقهية فبيِّنوا لنا وجه الخلل فيها، وإن لم يكن لديكم وجه خلل فيها يكون عليكم الالتزام بما جاء في البحث.

هنا حدثت جَلَبة انتهت بإعلانهم أنهم يرفضون ما جاء في البحث.

فقال الوالد لهم: اسمعوا.. أنتم أخطر علينا من جمال عبدالناصر، وأخطر علينا من كل حكام البلد.. وما تقولونه من أفكار، فضلاً عن أنها مخالفة لأحكام الشريعة، فإن من شأنها أن تدفع كل حكام المسلمين لرفع السيف ضد الإخوان المسلمين لقطع رقابهم.

عندما تحكم بأن الناس والحكام كفرة.. فإن الجميع يكونون ضدك.. وأنتم بهذا الوضع تسعون للقضاء على الجماعة، ثم خلص من الكلام معهم إلى القول: إما أن تؤمنوا بالمبدأ الذي نحن عليه كما وضعه واستخلصه "حسن البنا" وهو ما يتناوله هذا البحث، أو تفعلوا ما تريدون وأنتم أحرار ولكن لا ترفعوا راية الإخوان المسلمين ، ولا تتحدثوا باسمهم، ونحن لا شأنَ لنا بكم ولن ننشغلَ بكم.

ثم سكتوا أيامًا عدة وعادوا مرة أخرى إلى المرشد وقالوا له: نظل في الجماعة على فكرنا، ولا نصرِّح بهذا الفكر أو نعلنه، فرفض رفضًا باتًا وقال: إما أن تظلوا داخل الجماعة بعقيدة صادقة صحيحة، وهي عقيدة الجماعة، وتكونوا مؤمنين بها وبصحتها وصدقها، أو تبحثوا لكم عن مكان آخر.

وقال: لا يمكن أن تظلوا داخل الجماعة بعقيدة مخالفة لها.. وكيف تتحركون داخل الجماعة وأنتم حكمتم بكفر الناس؟!.. كيف تتعاملون وتجلسون مع كفرة من وجهة عقيدتكم؟!.. وفاصلهم مفاصلة واضحة.


  • هل حدث عناد بعد ذلك وإصرار على نشر هذا الفكر؟

لا.. لم يسمع لهم أحد بعد بلورة رأي فقهي مدروس من الجماعة ، فقد أصبحت الصورة واضحة تمامًا للجميع.. بل إن تعداد حاملي هذا الفكر التكفيري تقلص ولم يبق عليه إلا سبعة أو ثمانية أشخاص أصرُّوا عليه.

ولكن تمت معالجة هذه الفتنة فكريًا وتم إنهاء هذا الفكر داخل السجن وخارجه.


  • لا شكَ أن هذا الفكر التكفيري كان قد امتد إلى سجون أخرى.. بل يمكن أن يكون قد امتد إلى خارج السجون.. هل راعت معالجة الإخوان وقتها ذلك؟

الإخوان نسخوا هذا البحث وأرسلوه إلى خارج السجن للإخوان في سجني قنا وطرة وغيرهما، ووردت إلينا ردود واستفسارات منهم وقد رددنا عليها.

وعندما استكمل البحث بعد الردود والاستفسارات خرج في صورته النهائية، وتم توزيعه على الإخوان الذين جددوا مرة أخرى بيعتهم.


بعد أن خرجنا من السجون وبعد وفاة الوالد- رحمه الله- عام 1973م زارني عدد من قيادات الإخوان وطلبوا مني طباعة البحث فوافقت، لكنهم طلبوا مني استئذان الورثة.

سألتهم: أي ورثة؟ وهل "حسن الهضيبي" كان قد أعد هذا البحث من أجل (مال).. وهل أحد من الورثة ينتظر شيئًا من ذلك؟ هذا البحث للإخوان ومن حق أي أخ طباعته.. سألوني عن العنوان المقترح.. فتذكرت كلمته التي قالها خلال المناقشات مع أصحاب فكر التكفير "نحن دعاة لا قضاة"، واقترحت عليهم أن يكون العنوان بهذا الاسم.. ويومها سُرَّ الأستاذ "عمر التلمساني" المرشد العام للإخوان في ذلك الوقت بهذا العنوان.. لكن البعض اقترح إعادة ترتيب البحث، فقلت لهم: هذا البحث بهذا الترتيب هو الذي وافق عليه "حسن الهضيبي" وإذا أردتم طباعته باسم "حسن الهضيبي" فلا تغيروا فيه حرفًا.. وإذا أردتم التغيير وإعادة الترتيب لا بأس ولكن انسبوه لشخص آخر غير "حسن الهضيبي" فوافقوا على طباعة البحث كما هو دون تغيير.


  • صدى هذا البحث في رأيك؟

ترجم إلى الأردية وإلى الإنجليزية ولغات أخرى.. وعندما قرأه "أبو الأعلى المودودي" ووجد فيه بعض الآراء التي نسبها أصحاب فكر التكفير إليه أرسل ردًا أكد فيه أنه لم يقصد أبدًا ما ذهب إليه أصحاب هذا الفكر وفهموه على أنه تكفير منه للناس.


  • كلمة أخيرة من فضيلتكم في ختام هذا الحوار؟

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل لقاءنا هذا لقاء خير وخالصًا لوجهه تبارك وتعالى، وأوصي إخواني بتقوى الله وبخير الوصايا التي جاءت في كتاب الله: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ (لقمان: 17) وبوصايا رسول الله الصحيحة.. فخير الكلام وخير الوصايا هي ما جاءت في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الصحيحة.