الحلقة الثالثة من ذكريات المأمون الهضيبي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٦:٠٤، ٢٧ أغسطس ٢٠١٦ بواسطة Admin (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
ذكريات المستشار محمد المأمون الهضيبي
"الحلقة الثالثة : التحالف الإسلامي"
  • قلت لفضيلته: هناك حدث مهم شاركت فيه وهو تجربة التحالف الإسلامي بين الإخوان وحزبي العمل والأحرار في الانتخابات البرلمانية عام 1987م التي أسفرت عن أكبر كتلة برلمانية (36 نائبًا للإخوان من بين 60 نائبًا للتحالف)، كيف برزت فكرة التحالف، خاصةً أن تلك الأحزاب لم تكن إسلامية؟

الحقيقة أنني عارضت فكرة هذا التحالف عندما تمَّ طرحها في البداية.


  • لماذا؟

عارضت أن يكون لنا تحالف مع حزب العمل وكان هو الأساس في التحالف... فأنا لم أكن مقتنعًا في البداية.


  • إذًا... كيف نشأت الفكرة بالأساس عند الإخوان؟

الذي حدث أن الأستاذ "إبراهيم شكري" رئيس حزب العمل- أسأل الله أن يحفظه- شعر في ذلك الوقت أن مجلس الشعب الموجود في طريقه للحل بعد أن قدم مفوضو المحكمة الدستورية العليا تقريرًا بعدم دستورية قانون الانتخابات، فسعى بين الأحزاب الموجودة على الساحة لتشكيل تحالف معارض يدخل الانتخابات بقائمة موحدة أمام الحكومة، وكان رأيه أن جهة أو حزبًا وحده لن يستطيع مواجهتها انتخابيًا لأنها مستأسدة... واقترح "شكري" أن تكون القائمة الموحدة هي قائمة حزب الوفد، وطرح الاقتراح على "فؤاد باشا سراج الدين"- رحمه الله- رئيس حزب الوفد في ذلك الوقت لإقناعه، كما سعى لدى الأحزاب الأخرى وشعر أن لدى الجميع قبولاً بالفكرة، ثم جاء إلينا وطرح علينا فكرة أن يدخل الإخوان على قائمة الوفد، مع قوى المعارضة... الوفد والعمل والشيوعيون والناصريون وحزب الأحرار.

بالنسبة لنا كان لابد أن نبحث عن حل لأن الانتخابات كانت تجري بالقائمة الحزبية ونحن غير مصرَّح لنا بحزب، واتفق الإخوان- من حيث المبدأ- على الانضمام لهذا الجمع والدخول على قائمة الوفد.

لكن الذي حدث أن قيادات حزب الوفد لسبب أو لآخر أقلعت عن الفكرة وانفضت القائمة الموحدة قبل تشكيلها.

وفي إحدى مناقشاتنا داخل الإخوان قال أحد أعضاء مكتب الإرشاد: إذا كان هذا التحالف الكبير بين قوى المعارضة قد انفض فلم لا يكون هناك تحالف صغير؟ وقال: إننا يمكن أن نكوّن تحالفًا مع الأستاذ "إبراهيم شكري"-حزب العمل- وبعض الأحزاب الأخرى، واتفقنا على مواصلة دراسة الأمر.

بالنسبة لحزب العمل، فقد كان به تيار علماني اشتراكي ناصري قوي، وكان من الصعب علينا في بداية الأمر قبول التحالف معه في ظل هذا التيار... ولذا لم أُبدِ استعدادًا للتحالف مع العمل، وشعرت أن المسألة ستكون غريبة جدًا، لكن بعض الإخوة أشار إلى أنه أصبح في داخل الحزب تيار إسلامي قوي، وأن هذا التيار تغلب وحصل على رئاسة تحرير جريدة (جريدة الشعب)، ولم نكن قد عرفنا بعد "عادل حسين" رئيس التحرير- يرحمه الله-وقيل وقتها: إن تحالفنا يقوِّي هذا التيار ويسانده، وفي ذلك مصلحة للدعوة.

وتم الاتفاق على الاتصال بحزب العمل لمناقشة الأمر معه، وطلب مني الأستاذ "محمد حامد أبوالنصر" المرشد العام في ذلك الوقت- رحمه الله- أن أتصل بالأستاذ "إبراهيم شكري" فقلت له: هل هذا معقول؟! أنا الذي أتصل! وأنا أعارض ذلك التحالف.

فقال لي: نحن رشحناك للاتصال.

فقلت: سمعًا وطاعة (وهذه قاعدة عندنا، إذا اتخذ القرار فإن الرأي الشخصي ينتهي، وهذا أمر مهم وإلا فإن السيارة لو جرها كل واحد من اتجاه ما تحركت).

وهنا طلبت برنامجًا واضحًا ونقاطًا محددة لمناقشتها مع حزب العمل، وتم الاتفاق على مناقشة المجال الذي نريده من التحالف.

اتصلت بالأستاذ "إبراهيم شكري" وكان وقتها يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للحزب، ورد عليَّ السكرتير بأنه في اجتماع، فأخبرته بأنني أريده لأمر مهم سيعرضه على هذا الاجتماع.

فأخبر الأستاذ "إبراهيم" الذي رد عليَّ واتفقنا على اللقاء في اليوم نفسه، فذهبت إليه ومعي الأستاذ "صلاح شادي"- رحمه الله- والتقينا "شكري" والدكتور "حلمي مراد"- رحمه الله- الأمين العام للحزب في ذلك الوقت، وعددًا آخر من قيادات الحزب وعرضت فكرة التحالف فوافقوا.

وقد أصررت على أن يكون حزب الأحرار موجودًا في هذا التحالف.


  • لماذا؟

لأنه حزب قانوني، وله الحق في قائمة انتخابية، ويطمع أن نكون على قائمته، فإذا حدث خلاف مع حزب العمل تكون هناك قائمة أخرى، وهذا احتياط كان واجبًا لأني لم أعرف بعد بدقة طبيعة حزب العمل، ولا كيف يكون التعامل مع الأستاذ "إبراهيم شكري".. لم نتعامل معهم من قبل.. بل إن ظني به لم يكن جيدًا، وكان تقديري أننا إذا اختلفنا مع حزب العمل يكون هناك حزب الأحرار.

وقلت له: إن الوقت المتبقي على الترشيح ضيق، فأرجو عرض الأمر على اللجنة التنفيذية وإذا اتفقتم من حيث المبدأ، نبدأ في مناقشة التفصيلات.

ورد عليَّ بالموافقة في اليوم نفسه، ثم بدأنا في مناقشة نسب الترشيح (40% للإخوان) و(40% للعمل) و(20% للأحرار)، وجرت الانتخابات وجاءت النتائج التي تحدثنا عنها من قبل، والتي كشفت إقبال الناس على الدعوة وحبهم لها ولله الحمد.


اكتشفت أنه رجل صادق وأمين وأقدِّر فيه دائمًا كريم أخلاقه، وكريم أمانته، وقصده الطيب دائمًا، ويكفي أن تكون خلال التعامل معه مطمئنًا ألا يطعنك من الخلف أبدًا ولا يقول عنك كلمة في غيابك.


  • الممارسة داخل البرلمان لأول مرة بهذا العدد الكبير من الإخوان، واحتكاككم عن قرب بالبرامج الحكومية وبالقوى السياسية... ماذا تقول فيها خاصةً أنك كنت تقود الهيئة البرلمانية للإخوان؟

هذه تعد من أزهى الفترات.. فقد تعلمنا فيها الشيء الكثير.


  • ما أهم ما تعلمتموه؟

تعلمنا كيف تُدار الدولة.. البرلمان به ثماني عشرة لجنة، وهذه اللجان تمثل المطبخ لكل أمور الدولة، قبل العرض على المجلس... وذلك أعطانا صورة لكيفية إدارة الدولة... وقد دعانا ذلك وقتها لتشكيل لجان فنية تقابل لجان المجلس، حتى تزود أعضاءنا في لجان المجلس بمعلومات وتقارير وتقوم بدراسة مشاريع القوانين من خلال متخصصين... وكل ذلك قدم للإخوان دفعة قوية ثقافية وعلمية واسعة.

وقد كانت الحركة في المجلس قوية جدًا، ولأول مرة يتم تقديم استجوابات تطرح الثقة في وزير بالحكومة.

هذه التجربة أعطتنا كيانًا قويًا داخل المجلس وفي الدولة وهو من الناحية الواقعية قانوني.


طبعًا... زاد تدخلها في الانتخابات بشكل كبير، وأوقفت تقدمنا في كثير من الدوائر.


  • هل تكرار تجربة التحالف مازال قائمًا لدى الإخوان؟

لا أعتقد أن الأحزاب القائمة تقبل التحالف معنا، فالتخويف الحكومي منَّا كبير، كما أن حزب العمل الذي تحالفنا معه سابقًا تم حله وتجميده.

وعندما يظهر النظام الانتخابي الذي يعدون له سيكون لنا موقفنا... لكننا في كل الأحوال نعلم أن الحكومة تمكر مكرًا نحن نعلم أن هدفه استبعادنا نهائيًا... وعدم تمكين أي منا من دخول البرلمان... وقد تأكد ذلك في انتخابات عام 2000م.

لكن رأينا النهائي لا نستطيع إعلانه الآن، وأردد قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَّتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ (الطلاق: 2،3).

نحن يجب أن نكون دائمًا على فهم ووعي وثقة من أمر الله.


  • الظروف الدولية الدائرة التي تهدد دول وأنظمة في وجودها... ألا تستدعي أن تتحرك الحكومات لإتاحة الحرية لشعوبها وتحقيق مصالحة شاملة؟

هذا ما نقوله ونكرره، والأحداث تتسارع دون أن تنتظر أحدًا، بل إنه، وبدون أن تكون هناك تحديات دولية، فإن التحديات الداخلية تحتم أن يكون هناك تلاحم وتواصل بين الشعب والدولة والسلطات.

الشعب المهضومة حقوقه والمسلوبة إرادته والممنوع من أن يكون له كيانه، والمطلوب منه أن يصمت وينفذ دون فهم أو وعي... هذا الشعب بهذه الطريقة لا يمكن أن يكون سندًا لأي نظام في أي دولة كانت، ولا يمكن أن تشعر الدولة بعد ذلك أن لها كيانًا تعتمد عليه، لذا فإنها تعتمد على القهر والخسف والقوة المسلحة... وذلك لا يجدي وإنما يؤدي إلى انهيار الدولة.


تأثير القضاء

  • تجربة عملك في القضاء.. ما تأثيرها في صياغة شخصيتك وحياتك؟

قطعًا لها تأثير كبير.. لأن هذه حياة وعندما يعيشها الإنسان لابد أن يتأثر بها ولابد أن تؤثر في وجهات نظره وتقديره للأوضاع.. ثم إن هذه التجربة قدمت لي خبرة على مدى 35 عامًا لأنني رأيت قضايا الناس بجميع أنواعها.


  • مسيرتك في العمل القضائي.. كيف كانت.. التعيين في النيابة.. كيف تم، وهل كان لعمل الوالد مستشارًا أثر في ذلك؟

الحمد لله.. كان ترتيبي العاشر مكرر على دفعتي في كلية حقوق الإسكندرية (كانت هناك كلية حقوق واحدة في القاهرة، والإسكندرية فرع منها) وتم يومها تعيين ثلاثة عشر من الدفعة بالنيابة، وتدرجت في العمل من وكيل نيابة إلى قاض، وانتدبت للقضاء في غزة عام 1954م، وفي هذا العام حدثت محنة الإخوان.. وقد نصحني أحد قيادات المخابرات هناك- وكان رجلاً طيبًا- بعدم النزول للقاهرة وقال لي: إذا نزلت إلى القاهرة ستعتقل.. ثم انتقلت للعمل في القاهرة حتى عام 1965م عندما حدثت المحنة الثانية للإخوان، وتم اعتقالي في سبتمبر 1965م مع المجموعات التي تم اعتقالها ومكثت في المعتقل حتى أول يوليو عام 1971م؛ حيث خرجت مع المجموعات التي أخرجها الرئيس السادات بعد توليه الحكم.


  • بعد الخروج.. هل عدت إلى عملك في القضاء؟

عند اعتقالي طلبوا مني الاستقالة من القضاء فاستقلت مكرهًا.. وبعد الخروج.. بعض الإخوة لم يصدقوا أننا سيمكننا العيش في هذا البلد، وبعضهم سافر إلى الخارج وأرسل لي دعوة لزيارة الكويت، ومن هناك ذهبت للحج حيث التحقت بالعمل في قسم الحقوق العامة وقسم الحقوق الخاصة بوزارة الداخلية السعودية، والعمل فيهما عمل قضائي بحت وفيه جانب شرعي، ولم تكن لي أي علاقة بأي إدارة أخرى بالوزارة.


  • وعملك في مصر.. ألم تعد إليه بعد الخروج من السجن؟

لا.. لم أعد وظلت الاستقالة الإكراهية سارية.. وظل هذا الوضع فترة طويلة حتى قضت محكمة النقض ببطلان الاستقالة وعودتي للعمل.

وكانت درجتي قد وصلت إلى نائب رئيس محكمة استئناف، وبعد صدور الحكم عدت إلى مصر واستكملت عملي لفترة بسيطة، ولم تكن السلطات مرحبة بعملي في القاهرة فصدرت تعليمات بانتدابي إلى السعودية حيث عدت مرة أخرى إلى هناك حتى أوشك سني على بلوغ الستين وجاء دوري لأكون رئيس محكمة استئناف القاهرة.. وقبلها أصبحت- خلال السفر- في درجة رئيس محكمة استئناف الإسكندرية، وصدر قرار جمهوري بالفعل من الرئيس "مبارك" بتعييني رئيسًا لمحكمة استئناف القاهرة بناءً على قرار مجلس القضاء الأعلى، وعلى اعتبار أنني منتدب في الخارج، فقطعت سفري وعدت وتسلمت عملي لأيام ثم صدر قرار إحالتي للتقاعد.. لكن وزير العدل في ذلك الوقت أراد أن يعبر عن أحاسيسه فحاول أن يكتب في قرار الإحالة بأنني رئيس محكمة استئناف الإسكندرية بدرجة رئيس محكمة استئناف القاهرة (استئناف القاهرة أعلى درجات محاكم الاستئناف) لكن عندما قدمت القرار الجمهوري اضطروا لتعديل البيانات.

عدت مرة أخرى إلى السعودية لمواصلة عملي حتى زار الأستاذ "عمر التلمساني"- مرشد الإخوان في ذلك الوقت- السعودية للحج في منتصف الثمانينيات وقابلته وطلب مني النزول إلى القاهرة..


  • التجربة القضائية الطويلة في العمل وقبلها النشأة في بيت قاضٍ.. هو والدك رحمه الله.. ما تأثيرها في صياغة الشخصية؟

نعم.. والدي كقاضٍ كان يعتد باستقلاله اعتدادًا كبيرًا.. وفي الوقت نفسه كان للقضاء هيبته.. وعدد مستشاري محكمة النقض وقتها كان عشرة مستشارين وكان والدي منهم. نشأت أعرف معنى القضاء، ولذلك اعتززت كثيرًا باستقلالي في عملي.


  • هل تتذكر بعض المواقف الهامة لوالدك في هذا الصدد؟

كان معروفًا عنه استقلاله واعتزازه بعمله.. وعندما كانوا يريدون شخصًا قويًا في مكان يأتون به.. فقد عين- مثلاً- مديرًا للتفتيش القضائي، وعندما كان نواب البرلمان وغيرهم يأتون للتوسط لبعض القضاة كانت الإدارة تحولهم إلى المدير (مدير التفتيش القضائي) للموافقة وبمجرد علم المتوسطين باسم المدير كانوا يعودون أدراجهم.. فقد كان- يرحمه الله- لا يجامل أحدًا.


  • هل هذه الشخصية القوية انعكست على البيت في التنشئة؟

نعم.. البيت كان في غاية الانضباط.. ولكن في الوقت نفسه في غاية الرحمة والأدب والشورى.. كان يسمح لكل واحد أن يدلي برأيه.

الحمد لله.. البيت كان مثالاً للسكينة.. والأم كانت مثالاً للأدب والأخلاق، وكان الوالد يحترمها احترامًا كبيرًا أورثنا أن نكون دائمًا تحت أرجلها.. كانت العلاقة بينهما متينة جدًا.


  • الوالدة يرحمها الله.. كيف كان دورها؟

لم تكمل تعليمها رحمها الله.. حصلت على التعليم الأولي، ولكنها أكملت تعليم نفسها بل تعلمت اللغة الفرنسية.. والدها يرحمه الله هو الشيخ "محمد خطاب" أحد علماء الأزهر.. لقد ارتقت بنفسها كثيرًا.. كانت تتحدث الفرنسية.. وفي الوقت ذاته تقرأ القرطبي وابن حزم وكتب التفسير.


  • هوايات الوالد؟

كان يفضل المشي كثيرًا بعد العصر.. وكان في مرحلة الشباب يلعب التنس.


الشيخ "البنا" كان من الحصافة بحيث يدخر من الأسماء التي رأى فيها فائدة للدعوة دون أن يعلنها حتى لا يُعرضها للضرر.. ثم إن الوالد كان قاضيًا ولا يجوز له ممارسة أعمال سياسية.. ومهما كان الاتجاه والأساس الديني لجماعة الإخوان إلا أن السياسة داخلة في توجهها.. والقاضي لم يكن مسموحًا له بممارسة السياسة.

حتى أنا.. خلال عملي بالقضاء كنت على صلة بالإخوان ولكن لم أُمارس أي نشاط إخواني.


  • ما حدود معرفة الشيخ "البنا" بالشيخ "الهضيبي" كما عاينتها وعلمت بها؟

كانت العلاقة جيدة.. وبعد مقتل "محمود النقراشي" (رئيس الوزراء الذي حل جماعة الإخوان عام 1948م) كان "البنا" يزور "الهضيبي" بالمنزل كثيرًا لاستشارته.


العلاقة كانت خاصة جدًا.. وقد ذكر "حسن العشماوي"- من قيادات الإخوان- في مذكراته أنه ذهب مرة إلى الأستاذ "حسن الهضيبي" يستشيره في شيء فقال له: لماذا أتيت إلى هنا؟ وطلب منه الخروج وبينما هو على الباب- العشماوي- خارجًا نطق بكلمة.. وهنا انتبه "الهضيبي" وسأله مَن قال لك هذه الكلمة؟ قال "البنا".. قال له: هذه الكلمة لا يعلمها إلا الله ثم "حسن البنا" وأنا.. ثم أدخله "الهضيبي" مرة أخرى واستمع إليه.. هكذا كانت العلاقة.


  • عملية اختيار مرشد خلفًا للبنا أحيطت بخلافات وأحيانًا تنازع.. ماذا تتذكر من هذه الأحداث؟

بعد استشهاد "البنا".. لم تكن المجموعات التي تتنافس على موقع المرشد بالوضع أو الإمكانية التي تستطيع من خلالها جمع الكلمة، والصف ومواجهة الأحداث.. وأراد الإخوان بعد حملة الاعتقالات وقتل الإمام "البنا" أن يتولى أمر الإخوان شخصية قضائية كبيرة لأن في ذلك رد اعتبار كبير ونفيًا للاتهامات التي كانت تروج بقوة عن الجماعة.. وفي الوقت نفسه أراد الإخوان أخذ فترة من الهدوء والاستقرار.. وكان الرأي أن "الهضيبي" هو الشخص المناسب لذلك.. لكن المستشار "حسن الهضيبي" عندما عُرض عليه هذا الأمر رفض، وعلل ذلك بأنه لا يعرف شيئًا عن تنظيمات الجماعة، وليس له خبرة بإدارة مثل هذا العمل فهو قاضٍ تعود على دراسة القضايا ثم الحكم فيها، بل حتى لم يُشارك في إدارة نادِ مثلاً.. لكن "يوسف طلعت"- رحمه الله- ظلَّ يلح عليه إلحاحًا شديدًا، وذكّره بأنه المسئول عن الجماعة فكيف يتقاعس عن دعوة الله؟

في النهاية قبل أن يتولى المسئولية لمدة ستة أشهر فقط.. ووافق الإخوان وأخبروه أن كل المؤسسات والهياكل موجودة وستعمل معه.


  • كم كان عمره في ذلك الوقت؟

ستين عامًا


  • لكن حتى ولو لم يكن يعلم شيئًا عن تنظيمات الإخوان ولم يكن يمارس الإدارة.. لابد أن هناك عوامل ومقومات هامة جعلت قيادات من الإخوان يصرون على توليه موقع المرشد؟

نعم. هناك مقومات أذكر منها:

أولاً: بعض الإخوان أدرك أن "حسن البنا" أوصى بأنه عندما تدلهم الأمور يرجعون للهضيبي.

ثانيًا: قبل استشهاد "البنا".. أعد "السنهوري باشا" القانون المدني وعرض هذا المشروع على جهات كثيرة ومنها محكمة النقض التي كان "الهضيبي" مستشارًا بها.. وعندما عرض القانون على مجلس الشيوخ في ذلك الوقت وكان به علماء جهابذة، علم المجلس أن مستشاري محكمة النقض لهم رأي مخالف في هذا القانون.. فقررت اللجنة التي شكلها المجلس من المستشارين لدراسة القانون استدعاء عدد من المستشارين لسماع آرائهم وكان من بينهم "الهضيبي"، وعندما سألته اللجنة عن رأيه في القانون، فوجئت بقوله: إنه لم يقرأ القانون أصلاً!

فسأله أعضاء اللجنة: لماذا؟

قال: لأن لي مبدأ أرجو أن ألقى الله عليه وهو أنَّ (الحكم لله)، وأن الواجب هو تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية.. وأن كل قانون لا يقوم على أساس الشريعة الإسلامية باطل وأنا أرفضه.. وسيان عندي أن يكون صحيحًا في عالم القانون الوضعي أو غير صحيح.

فوجئت اللجنة بكلام عن الشريعة، والقانون الإسلامي، وهو ما لم يسمع به أحد من قبل من مستشار في ذلك الوقت!.

وشرح للجنة رؤيته الكاملة لأحكام الشريعة وقوانينها.. هنا انكشفت هوية المستشار "حسن الهضيبي" وذاع ما قاله أمام لجنة مجلس الشيوخ عند الأمن العام وعند الجماهير.

أما الإخوان.. فقد عبروا عن تحيتهم له في برواز كبير بجريدة الإخوان كتبه الإمام "البنا" تحت عنوان "حيا الله الهضيبي" وأورد تفاصيل موقفه في مجلس الشيوخ.

وفي موقف آخر.. تحدث الإمام "البنا" مرة عن الشريعة، وملاءمتها لكل الأحوال وتحدث عن تغير الفتوى بتغير الزمان مستندًا إلى الإمام الشافعي.. فأرسل له المستشار "الهضيبي" رسالة: قائلاً: «آسف أن يصدر هذا الكلام منك، وهو يحتاج إلى إيضاح، فحكم الله لا يتغير بتغير الزمان أو المكان إنما تتغير أشياء أخرى، وقال إن الإمام الشافعي عندما غير أحكامًا له بعد وصوله إلى مصر.. كان ذلك بناءً على أحاديث نبوية علم بها بعد وصوله إلى مصر ولم يكن يعلم عنها شيئًا من قبل فغير فتاواه، ولذلك صدرت عنه قولته المشهورة «إذا صح الحديث فاضربوا برأيي عرض الحائط».

وقال له: "إن الذي يتغير هو ظروف الناس وأحوالهم.. والتطبيق يكون وفق ظروف وأحوال الناس.. فالشريعة لا تتغير وفقًا لأحوال الناس وإنما الناس هم الذين يكيفون أنفسهم عليه".

وهكذا.. شرح الأمر في رسالة مطولة قام "البنا" بنشرها وحيا "الهضيبي" وقال "البنا" في تعليقه إن هذا ما قصدته.

ثالثًا: كان الأستاذ "الهضيبي" يحضر كثيرًا من الاحتفالات العامة التي يتحدث فيها "حسن البنا"، بل كان يحض المستشارين على حضورها..


  • هل كان يحضر درس الثلاثاء؟

لا.. لأنه كان ذا صبغة خاصة وإنما كان يحضر الاحتفالات العامة، وقد كانت منتشرة في ذلك الوقت ومقبولة ولم تكن محاطة بالأمن العام ولم يكن هناك تتبع أمني لمن يحضرها.. وكان علية القوم يشهدونها.


كان يرحمه الله شديد الصلة بأهله وأسرته، ولذلك كان حريصًا على قضاء إجازته في قريتنا (عرب الصوالحة.. شبين القناطر بمحافظة القليوبية في دلتا مصر) مع والدته وإخوانه، وكان كلما زار القرية جاء أهلنا وأقاربنا لزيارته وكذلك أهل القرية، لكن الشباب قلما كانوا يزورونه، وإذا زاروه تكلموا في التوافه من الأمور، حتى حدث الموقف التالي:

زارني مرة ناس، ووجدتهم يتحدثون عن فهم وإدراك ومعرفة، ومسائل شرعية عميقة.. وترددوا على زيارتي أكثر من مرة كلما زرت القرية.

وسألت: من هؤلاء؟.. فقيل لي إنهم من الإخوان المسلمين.. هنا أدرك أنه لابد أن هذه الحركة فيها شيء مختلف عن أولئك الذين يطوفون القرى ويتحدثون عن الدين.

يقول الأستاذ "حسن الهضيبي"- يرحمه الله-: حرصت بعد ذلك على حضور بعض الندوات للشيخ "البنا" في القاهرة.. وكنت إذا حضرت تجمعًا يخطب فيه خطيب أستعجل إنهاءه لخطبته وأتمنى أن ينتهي بسرعة، وكنت أشعر أن هذا هو شعور الحاضرين أيضًا، لكن عندما استمعت إلى "البنا" لم ينتابني هذا الشعور.. ولم أشعر لا أنا ولا الناس بالملل.. فأدركت أن تلك شخصية متميزة وليست كغيرها من المشايخ الذين كانوا يجوبون القرى والموالد يخطبون فيها.. ويضيف: بالطبع هؤلاء أناس طيبون ولكن "البنا" مختلف.

ويضيف الأستاذ "حسن الهضيبي": لقد لمست أثر "البنا" في تربية الشباب ووجدت ذلك واضحًا في أولئك الذين أخذوا يترددون لزيارتي كلما ذهبت إلى القرية، وبدأت أحرص على الاستماع ورؤية "حسن البنا".

يقول الأستاذ "مأمون": وتوثقت العلاقة بين "حسن البنا" و"حسن الهضيبي" وعلم الإخوان بتلك العلاقة وأكثروا من التردد عليه في القرية، بل إن الإخوان في "شعبة" القرية سجلوا اسمه ضمن أفرادها، لكن "البنا" طلب منهم شطب الاسم حرصًا عليه، وقال لهم: ليس هذا الذي يكتب اسمه هكذا.

ثم إن الصلة توثقت كثيرًا بين "حسن البنا" و"حسن الهضيبي"، كما قلت بعد مقتل "النقراشي"، وقد شعر "حسن الهضيبي" بأن "البنا" سيقتل وأبلغه بذلك وقال له: أعتقد أنهم سيقتلونك.. وكان "البنا" يتردد يوميًا تقريبًا على "حسن الهضيبي" لاستشارته فيما يدور.

كل ذلك شكل المقومات التي جعلت قيادات في الإخوان تلح على "حسن الهضيبي" لقيادة الجماعة بعد استشهاد "البنا".


  • ما الذي جرى بعد مرور الستة أشهر التي وضعها المستشار "حسن الهضيبي" سقفًا زمنيًا لإدارته للجماعة؟

وجد نفسه في وضع لا يستطيع معه الفكاك من المسئولية، فالجماعة أُعيدت بعد قرار مجلس الدولة بانعدام دستورية قرار حلها في عهد "النقراشي"، وتم استلام المركز العام وبدأ العمل.


في هذه الفترة كان المستشار "حسن الهضيبي" يتحسس الأمور، وفي هذه الفترة كما هو معروف حدثت معارضة من داخل الجماعة له ووقف أناس ضده.


  • لماذا حدثت هذه المعارضة في رأيك؟

لا أستطيع الدخول في نفوس الناس، ولم أكن متدخلاً في مثل هذه الأمور... ولكني أرى أن هناك من كان يريد أن يكون مرشدًا عامًا... ثم إن شخصية "حسن الهضيبي" كانت تختلف اختلافًا كليًا- كما قلت- عن شخصية "حسن البنا"... "البنا" كان شابًا ونشطًا ومتحركًا، يُعايش الناس.. يخطب فيهم ويزورهم ويأكل معهم ويتابع أحوالهم... أما "حسن الهضيبي" فهو قاض في محكمة النقض، عمره فوق الستين... تعوَّد أن يعيش في معزل عن الناس... بعيدًا عن التجمعات الشعبية كطبيعة عمل القاضي... وقد كان قديمًا إذا لُوحظ على القاضي الاختلاط الزائد بالناس يتم إعفاؤه، إذ كيف يحكم بينهم وهو مختلط بهم.. ومن هنا كانت المنطقة التي يتعامل فيها مع الناس محدودة جدًا.

هذه عوامل أسهمت فيما حدث، وفي الوقت نفسه لم يكن بمقدور "حسن الهضيبي" ترك الجماعة، لأن نشاطها استؤنف كما قلت، ثم حدث حريق القاهرة، ثم قامت ثورة يوليو 1952م وتلك أحداث كبرى وهامة جعلته يواصل قيادته للجماعة.