التضحية والفداء في الإسلام

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
التضحية والفداء في الإسلام


بقلم : الأستاذ جمعة أمين

المقدمة

إهداء وتقديم

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى من ضحى بنفسه وجاد بروحه في سبيل هذه الدعوة إلى روح الإمام الشهيد حسن البنا وإلى كل من سار على دربه ممن قضى نحبه ومن ينتظر وما بدلوا تبديلا .

تقديم : فضيلة الشيخ محمد عبد الله الخطيب

الحمد لله رب العالمين الرحيم بخلقه العليم بعباده أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه ليخرجهم من الظلمات إلى النور وفرض على الرسل ومن سار على نهجهم دعوة الخلق للحق إلى طريق النجاة والفوز فذاق من استجاب لدعوة الرسل طعم الأمان في رحاب الإيمان وشقي وذل وضل كل من حاد عن منهج الرحمن والصلاة والسلام على سيد الدعاة وإمام المتقين ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين .

وبعد ..... ،

ففي إطار الفهم الصحيح المتوازن الهادف الدافع والمحرك إلى الالتزام بهذا الحق يأتي كتاب التضحية والفداء في الإسلام للداعية الفاضل الأخ جمعة أمين عبد العزيز يأتي نسقا دعوياً متجانسا يجمع بين وضوح الرؤية وفهم الواقع كما يحتوى النظرة الشمولية للإسلام والوسطية والاعتدال والفهم الصحيح الذي من خلاله يستطيع أن يشق المسلمون طريقهم إلى النصر والسيادة على ظهر الأرض .

فقدر وضح لنا المؤلف : أن الإيمان العميق الذي مقره القلوب لابد أن يولد عاطفة متأججة ملتهبة غيرة على دين الله وتذوب كمدا على أحوال المسلمين ويدعو للبذل والعطاء والتضحية لدفع ما يصيب أمة الإسلام من مسخ وغزو وانحلال ولا يتم تمام الإيمان إلا بالارتباط الوثيق بين الإنسان وربه فتكون الربانية منبع الإيمان والعاطفة معاً إن دعوة الإسلام في أشد الحاجة إلى هذا العطاء المنطلق من الفهم العميق القائم على العلم والحجة والبرهان ، إن الفهم الشامل للإسلام يحفظنا من الوقوع في خطر التجزئة ويمنعنا من الاندفاع والتهور .

ولقد أفاض المؤلف في بيان حقيقة العمل المتواصل وهو لا يتم إلا بوجود العاطفة التي تحفز إليه والعقل المفكر الذي يوجهه والواقعية التي يحدد بموجبها تكييف الأساليب والوسائل المتكافئة والتخطيط الدقيق المحكم الذي يربط الأسباب بالمسببات حتى تسير على بصيرة بترتيب ونظام .

وجهد الأستاذ المؤلف يذكرنا بأن الحق تبارك وتعالى شرفنا وطوق أعناقنا بأمانة التبليغ والبيان والتعريف بجوانب هذا الدين العظيم وحمل الدعاة مسؤلية إيصال دعوته إلى الناس كافة انه لا خيار أبدا لمن آمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبياً ورسولا أن يهدأ أو يقعد عن نشر هذا الحق وإيصاله إلى الناس وهي مسئولية كل مسلم قادر على البلاغ وإلا فعاقبة كتمان هذا الحق خطير خطير والقعود عن أداء هذا الواجب وخيمة ومسؤليته جسيمة .

يقول الحق سبحانه وتعالى { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم } البقرة : 159 - 160 ) .

إن موضوع الرسالة في دعوتها إلى التضحية والفداء لهو موضوع هام وخطير بالنسبة لأوضاع المسلمين اليوم وظروفهم التي يمرون بها فلن نخرج من هذا التيه إلا بالحرص على الكفاح والتضحية والفداء والعطاء والجهاد والمجاهدة والمرابطة في سبيل الله .

ولا خيار لمن يرى المغنم في هداية الناس وإرشادهم مع علمه بعظيم ثواب من يهدى الله إنساناً واحدا على يده بعد ما بلغه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لأن يهدى الله بك رجلا واحداً خير مما طلعت عليه الشمس ) ولا خيار لمن عرف موقف الرعيل الأول من السلف الصالح وهم يقطعون الفيافي والوهاد يرفعون راية الإسلام في فجاج الأرض وهضابها وأوديتها حين يقرأ تراجم أولئك الرواد ويتعرف على مواقع استشهاد قادة الفتوح وتضحياتهم على أسوار القسطنطينية وجبال الأناضول وسفوح جبال السند أقول لا خيار لمن يعرف هذا التاريخ العظيم أن يقعد أو يستكين دون أن يضرب بسهم في ميدان إبلاغ دعوة الله عز وجل للناس .

وفي ضوء هذه النصوص وهذا الواقع التاريخي وما أثبته من قناعات كان الإمام البنا عليه الرضوان يقول [ وددت أن أبلغ هذه الدعوة للطفل في بطن أمه ] .

ولقد كان لصاحب هذا الكتاب نصيب وافر من هذه الجهود يحتسبه دائماً عند الله وهو مجهود نحتاج إليه لنتمكن من بناء جيل يعي حقائق الإسلام الصحيحة ومفاهيمه ويعيش بها ولها حتى يلقى الله .

وتقع هذه الرسالة في مائة وخمسة وثمانين صفحة من القطع المتوسط وتحتوى على مقدمة وتوطئة وستة أبواب وخاتمة ويشتمل الباب الأول على معنى التضحية وهدفها في الإسلام وأنها من أجل الحق ولمواجهة أعداء البشرية والإنسانية ثم ساق نماذج عظيمة من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف قام ثلاثة وعشرين عاماً بأمر الله وحده لم يعرف الراحة ولا النوم بل قال لأم المؤمنين خديجة رضى الله عنها : مضى عهد النوم يا خديجة .

أما الباب الثاني :

فعن التضحية بالمنافع المادية والدنيوية والعلاقات الاجتماعية والصبر والاحتساب والرضا فالمسلمون لا ولاء لهم إلا مع المؤمنين : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ثم بعد التحليل الدقيق لما يجب أن يكون عليه المسلمون في هذا الأمر ربط التضحية بنماذج من حياة الصحابة في هجرتهم وجهادهم رجالاً ونساء لقد كانوا فذاً في التضحية والاحتساب والتجرد لله رب العالمين .

والباب الثالث :

أشار فيه المؤلف إلى شمول التضحية فليست بالمال وحده لكنها بالوقت والجهد وبذل الوسع والطاقة ثم ضرب المؤلف الأمثلة والنماذج الحية من تاريخ الإسلام البعيد والقريب أمثلة من الواقع العملي لدعاة الإسلام على مر العصور .

أما الرابع :

فقد خصصه المؤلف لنوع من التضحية وهو التضحية بالمال زينة الحياة الدنيا وعصبها وغاص في جوانب كثيرة من هذا الأمر فاستخرج جواهر ولآلئ وهي موجودة في تاريخنا ولا يوجد لأمة من الأمم مثل هذا التاريخ الزاخر بالرجال الأبرار الذين أنفقوا كل غال ورخيص في سبيل الله ثم ختموا تاريخهم بتقديم أرواحهم فداء لدينهم ووفاء لحق الله عليهم ثم مضى في الباب الخامس في الحديث عن التضحية بالنفس وهي تلي التضحية بالمال وتحدث عن ضرورة الجهاد في سبيل الله وذكر تربية القرآن لنوعية المجاهدين من الرجال وأشار إلى أن الموت في سبيل الله هو بداية الحياة الحقة وأشار إلى النماذج الكريمة ثم عن قضية فلسطين وجذورها وجهاد رجالها والطريق الصحيح إلى تحريرها ثم أشار في الباب السادس إلى ((منهج الإسلام في التربية على التضحية ))فأشار إلى ضرورة الفهم الصحيح الذي يسبق العمل دائماً وأشار إلى الركائز والنماذج للمجاهدين والأبطال .

ثم ختم كتابه بحديث ن أصحاب اهمم العالية ووضع الضوابط المحددة لذلك ووضع النقاط فوق الحروف فجزاه الله خيراً عن كل ما قدمه للإسلام ولدعوة الإسلام وتقبل الله هذه الأعمال وجعلها في ميزانه .

والحمد لله رب العالمين ...،

محمد عبد الله الخطيب

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

يقول ربنا عز وجل { لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وألئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم }[التوبة : 88، 89 ]

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ألا أخبركم بخير الناس وشر الناس إن خير الناس رجل عمل في سبيل الله على ظهر فرسه أو ظهر بعيره أو على قدمه حتى يأتيه الموت وإن شر الناس رجل يقرأ كتاب الله تعالى لا يرعوى لشيء منه )) رواه النسائي .

ويقول الإمام الشهيد حسن البنا :(( لقد قام هذا الدين بجهاد أسلافكم على دعائم قوية من الإيمان بالله والزهادة في متعة الحياة الفانية أو إيتاء الخلود .. والتضحية بالدم والروح والمال في سبيل مناصرة الحق وحب الموت في سبيل الله والسير في ذلك كله على هدى القرآن الكريم .

فعلى هذه الدعائم القوية أسسوا نهضتكم وأصلحوا نفوسكم وركزوا دعوتكم وقودوا الأمة إلى الخير والله معكم ولن يتركم أعمالك )) [ رسالة المؤتمر الخامس ] .

ويقول : (( أيها الإخوان : إن الأمة التي تحسن صياغة الموت وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة يهب الله لها الحياة العزيزة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة وما الوهن الذي أذلنا إلا حب الدنيا وكراهية الموت فأعدوا أنفسكم لعمل عظيم واحرصوا على الموت توهب لكم الحياة ))[ من رسالة الجهاد ] .

توطئة

لم كانت التضحيات ؟

إذا كانت التضحية هي بذل كل ما يملك وما نستطيع من أجل حماية الدين والوطن والأرض والعرض والأمة الإسلامية .. وإذا كان صاحب كل مبدأ وقيمة لا يمكن أن تبقى مبادئه أو تستمر إلا إذا دعا إليها وضحى من أجلها أين كان هذا المبدأ وهذه القيمة ... فما بالك بدين هو الخاتم الذي أتم الله به النعمة { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } المائدة :3] ألا يستحق هذا الدين أن نضحي بكل ما نملك في سبيل نشره وحفظه ؟ ونحن لا نتجنى إذا قلنا إن العالم الغربي أعلن العداء للإسلام بعد أن كان مستترا بل بعد سقوط الشيوعية وانتهائها لم يجد له عدوا إلا الإسلام فماذا عسانا أن نفعل حين تنتهك الحرمات وتداس المقدسات وينال من الأعراض وتلتهم الأوطان ؟

ماذا عسانا أن نفعل بعد أن أصبح واضحاً لكل ذي عينين أن العالم الإسلامي يعانى من عدو شرس يجرده من كل قوة سواء أكانت مادية أو معنوية ويعاونه على ذلك نظام عالمي جديد يكيل بمكيالين ويزن بميزانين ميزان يحقق لهذا العدو أسباب القوة والسيطرة السياسية والاقتصادية التي تمكنه من تحقيق مأربه وأغراضه وأهدافه وميزان آخر يعمل على إضعاف تبعيتنا وانسلاخنا من هويتنا وانتمائنا الإسلامي .

فالعدو الصهيوني ومعه الصليبية العالمية والعلمانية الكارهة للدين المحاربة له تجعل من إسرائيل رأس الحربة التي توجهها ضد كل ما هو إسلامي باسم هذا النظام وتواصوا بذلك بالرغم من اختلافهم فيما إلا أنهم يتحدون جميعا ضد الإسلام وقيمه ونظمه ومنهاجه .

وليس هذا الذي نقول استنتاج عقل وإن كان الأمر لا يحتاج لهذا الاستنتاج بعد أن صرح قادة هؤلاء الأعداء بذلك جهارا نهارا والواقع المؤلم يشهد بذلك في كل ساعة من ساعات النهار والليل على السواء لذلك فإننا نتساءل ألا يحتاج ذلك إلى تضحية بكل عزيز وغال لنعيش كراما أو نموت أعزة ؟ لنصون العرض والأرض والوطن والدين .

والتضحية التي نقصدها ليست وقفا على النفس بل الأمر يبدأ ببذل الطاقة والتوسع لفهم للدين دقيق نعرف به ربنا ونتعرف به على أنفسنا ونحدد به رسالتنا في الوجود ونسخر به الكون كله لتنعم الدنيا بمنهاجنا ثم معرفة بالعدو وإمكاناته والإعداد له لنتصدى لمكره ودهائه رداً على افتراءاته وتفنيدا لادعاءاته وتوضيحا لشبهاته فكرا بفكر وقولا بقول ولا نقف عند حد الكلام بل نقدم الأنموذج الفذ فردا وأسرة ومجتمعا ليكون الكلام سلوكا والعلم عملا واقعا معاشا وكل ذلك لا يتحقق إلا بتضحيات بالوقت والمال والجهد بل والنفس أيضا ولذلك لا يجوز أن يصرف معنى التضحية على النفس والمال فحسب فكون بذلك قد ضيقنا واسعا بل إن التضحية كما نقول الإمام الشهيد حسن البنا عليه الرضوان : (بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شئ في سبيل الغاية وليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه ولا تضيع في سبيل فكرتنا تضحية وإنما هو الأجر الجزيل والثواب الجميل ومن قعد عن التضحية معنا فهو آثم { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } التوبة :12 ] { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم } التوبة 24] { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأً ولا نصب } التوبة 120 ] { فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا} الفتح : 16] وبذلك نعرف معنى هتافنا الدائم (الموت في سبيل الله أسمى أمانينا ) .

فالتضحية ألوان متعددة وأشكال متنوعة بالمال والوقت والجهاد والأهل والعشيرة بل والنفس في سبيل نشر الدعوة وإقامة الدين وحفظه وهكذا أقيم المجتمع المسلم الأول على أكتاف رجال ضحوا بكل أنواعها إنفاقا للمال ومفارقة للأهل والولد وبذل للوقت والجهد وتضحية بالنفس وتبعهم بإحسان رجال واصلوا المسيرة من التابعين وتابعيهم وإلى يومنا هذا بل وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها فلن تخلو الأرض يوما من هذا الصنف المخلص والمخلص ليكونوا جند الله على أرضه وتتحول بهم المبادئ والقيم والعقائد واقعاً على الأرض .

القيم والواقع

إن المبادئ السامية تظل مثلا عالية في عالم الذهن حتى يوجد من يمثلها في عالم الواقع وكم من إنسان يتصور هذه المبادئ في ذهنه ويتحمس للدفاع عنها في تخيله ويراها هي الحق كل الحق حتى إذا تحول إلى عالم الواقع جبن عن الدفاع عنها وضعف عن تمثيلها بنفسه وفضل مداراة الناس بما هم عليه من باطل على مجابهتهم بما هو عليه من الحق .

إن أهل الباطل يتفانون في الدفاع عن باطلهم ويغتنمون الفرص المناسبة للهجوم على المعتقدات التي يرون أنها تهدد وجود باطلهم الذي يتوقف وجودهم عليه وتتمثل زعامتهم في علو رايته وقيام أمره فيضحون بكل عزيز لديهم ليصدوا عن السبيل ويبغونها عوجا بشراستهم المعهودة وحروبهم المعروفة وهم يقولون :{ أجعل الآلهة إلها واحداً إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق أؤنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب } [ص 5-8] أفليس أولى بالذين يقولون ربنا الله ثم استقاموا أن يضحوا بكل ما يملكون من أجل الحق الباقي ببقاء الدنيا وما بعدها ليعيشوا أعزة في دنياهم منعمين في أخراهم { تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم } [فصلت 3. - 32] لأنهم عاشوا على لا إله إلا الله محمد رسول الله وماتوا عليها وفي سبيلها جاهدوا وعليها لقوا الله تعالى فصنع خير أمة لأنهم { رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا } [الأحزاب : 23].

رجال العقيدة والتضحية

إن عقيدة التوحيد هي صانعة الرجال الذين ينفقون في سبيلها الأموال ويقولون : أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا ويضحون بأنفسهم ويقولون فلا نامت أعين الجبناء إنهم الرجال الذين يرجون تجارة لن تبور يقبلون على الموت وهم يقولون : غدا نلقى الأحبة محمدا وصحبه أنشودتهم هبي ريح الحنة هبي .

وسل التاريخ عنهم قبل المصطفي علية الصلاة والسلام وبعده سل عن الذين اصطفاهم الله من بين خلقه من النبيين والرسل الكرام سل الكرام سل عن إيمانهم ومواقفهم وثباتهم وتضحياتهم سله عن زكريا ويحيى وعيس وإلياس وإبراهيم وموسى سل عن أصحاب الأخدود (النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود } [البروج 5-6] وماذا صنعوا ؟ وكيف ضحوا ؟ وتأمل حال سحرة فرعون وكيف صنعت عقيدة التوحيد فيهم ؟ وهم الذين ما عرفوا لهم قبلها ربا إلا فرعون فأقسموا بزته واحتموا بقوته وافتقروا إليه فلما دخل الإيمان قلوبهم صاروا رجالا فضحوا بكل ما يملكون وما تصبوا إليه أنفسهم وهانت عليهم أرواحهم فما ووهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا .

وسل التاريخ عن ياسر وعمار وسمية وبلال وصهيب وخباب وغيرهم الكثير رجالا كانوا أم نساء شبابا أم شيبة سل عنهم في بدر وأحد وحمراء الأسد يوم قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ويوم تحزب الأحزاب { ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليماً } الأحزاب 23 ].

وما حدث في هذه الغزوات من المواقف الإيمانية والتضحيات البطولية حدث مثلها في اليرموك وحطين وعين جالوت والقادسية وغيرها من المواقف والمواقع التي سجلها التاريخ قديماً وحديثاً لرجال العقيدة في فلسطين والقنال والبوسنة والهرسك والشيشان وكوسوفو في كل أرض يحميها رجال العقيدة فإنك تجد صورا من التضحيات الفريدة والبطولات النادرة .

التضحية دليل صدق وإخلاص

فالتضحية من المواقف الإيمانية التي هي دليل صدق وإخلاص وثبات على دين الله وإعزاز لراية الله إنها مواقف غالية سامية عزيزة وببركة هذه المواقف تفتح حصون وتسقط مدائن وتهزم جيوش الكفر المتكاثرة ويتنزل نصر الله عز وجل على النفوس المؤمنة هذه المواقف الإيمانية يحبها الله عز وجل ويحب أهلها والموقفين إليها إنها تشهد للمؤمنين بقوة الإيمان ومحبة الرحمن .

والموفق إلى هذه الواقف الكريمة الشريفة قليل لأن المؤمنين قلة والمضحون أقل { وقليل من عبادي الشكور } سبأ: 13] ولكن ببركة هذا القليل ينتصر حزب الله وترفع رايته .

والصحابة رضى الله عنهم هم الأمثلة الصادقة والنماذج الفريدة لأنهم أولى الأولياء بمواقف الرجال بعد الأنبياء وهذا شاهد قوى على قوة يقينهم وعظيم صبرهم وبركة جهادهم وصغر الدنيا في أعينهم وعظم الآخرة عندهم لأنهم آمنوا بما أنزل على محمد صلى الله ليه وسلم وهو الحق من ربهم وعلموا أن سلعة الله غالية تستحق التضحية .

فالإسلام يعلمنا ألا نعز شيئا على الله عز وجل فلا نبخل بشيء نبذله لله عز وجل فمحبة المؤمنين لله عز وجل تملأ قلوبهم وتحرك جوارحهم وتتضاءل أمام هذه المحبة محبة الآباء والأبناء والزوجات والأموال قال تعالى { قل إن كان آباؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين } التوبة 42] وقال النبي صلى الله عليه وسلم ((لا يؤمن أحدكن حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين )) وبهذه المحبة تهون التضحيات .

فهذه المعاني الإيمانية كيف تستقر في القلوب وتعيها النفوس إذا لم ير المؤمنون أمثلة حية أمامهم تترجم هذه المحبة إلى واقع عملي ومواقف إيمانية يضحي فيها المؤمن بكل ثمين وغال ويظهر فيها شرف الإيمان ومحبة الرحمن عز وجل وإيثار أمره وشرعه على طبائع النفوس البشرية ومن أولى بهذه المواقف الشريفة من الأنبياء الكرام وأصحاب النبي محمد عليه الصلاة والسلام ولذلك رأينا صور التضحيات متمثلة فيهم ومتجسدة في أعمالهم وأقوالهم ومواقفهم لأنهم أصحاب مبادئ وقيم فمن أراد أن يستعيد مجد الأمة وشرفها وعزها وعزتها لابد وأن يحذو حذوهم ويسير على طريقهم إيمانا وحبا وتضحية في سبيل إعلاء العقيدة وتطبيق الشريعة وتعميق الأخلاق لنستعيد مجد خير أمة أخرجت للناس .

وإذا تحدثنا في الصفحات التالية عن ركن التضحية فلسنا بمعطيه حقه فليس الفرض من هذه الصفحات تعريف التضحية من الجانب النظري وإن كنا قد فعلنا كما أننا لا يكون مجلدا من المجلدات وإنما ركزنا مع أنواع من التضحية نحسب أنها الأهم وهي التضحية بالعلاقات الاجتماعية والتضحية بالوقت والجهد والتضحية بالمال والتضحية بالنفس وإن كنا قد عرجنا بإيجاز على أنواع أخرى ولكن التركيز واضح على الجانب العملي والنماذج المضحية والأثر التربوي لغرس هذا الركن في قلوب أتباع محمد صلى الله عليه وسلم لتهون عندهم الحياة في سبيل المبدأ والعقيدة والقيمة .

فضلا عن كيفية تحقيق هذا الركن الركين بالمجاهدة مع النفس ونزع الهوى من القلب وترسيخ الإيمان حتى تصبح الآخرة أكبر همنا وغير ذلك من الأمور التي تجلى حقيقة هذا الركن .

ولقد قسمت الكتاب بعد التوطئة إلى ستة أبواب .

  • 1- التضحية معناها ودوافعها .
  • 2- التضحية والعلاقات الاجتماعية الحميمة والعدية .
  • 3- التضحية بالوقت والجهد .
  • 4- التضحية بالمال .
  • 5- التضحية بالنفس .
  • 6- منهج الإسلام في التربية على التضحية .

فإن كنت قد وفقت إلى ذلك فمن توفيق الله سبحانه وإن كانت الآخرة فأسأل الله أن يغفر لي زلتي وينم على بنعمة الفهم والإخلاص .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

02 ربيع أول 1418 هـ الموافق 24 يوليو 1998 م

الفقير إلى عفو ربه

جمعه أمين عبد العزيز

الباب الأول - التضحية معناها ودوافعها

معنى التضحية

كلمة التضحية في اللغة مصدر للفعل ضحى .

وضحى بالشاة أو نحوها مما يحل أكله أي ذبحها في الضحى يوم عيد الأضحى وقد سميت بذلك في الشر ع لقول النبي صلى الله عليه وسلم (( من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين ))

وضحى الحاج : ذبح ضحيته وهو شاة في أي وقت من أيام التشريق وهذا المعنى قريب من معنى التضحية بالنفس والمال والجهد والوقت في سبيل الله تعالى .

ولا يمكن لفكرة أن تسود أو مبدأ أن ينتشر أو قيمة أن تعلو أو منهج أن يطبق أو نظام أن يستقر إلا برجال يؤمنون به ويدعون إليه بالحسنى ويضحون من أجله بكل ما يملكون من نفس أو مال أو جهد أو وقت مهما كلفهم ذلك من نقص في الأموال والأنفس والثمرات فيجود بالنفس التي بين جنبيه والمال الذي يجمعه والولد الذي أنجبه والزوجة التي يحبها بل والدنيا كلها وما فيها { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين } التوبة : 24 ] .

ومعنى ضحى بوقته أو جهده أو ماله أو نفسه في سبيل الله أي تبرع به حسبة لوجه الله تعالى وتلك من المعاني التي جدت على مفهوم الكلمة الأصلي وهذه التضحية بأي معنى من معانيها عندما تكون لوجه الله تعالى وتقربا إليه فإن لها عنده سبحانه أحسن الجزاء .

ولم يرد في القرآن الكريم لفظ التضحية بهذه الصياغة كما سنرى ولكن ورد معناه في عديد من الآيات الكريمة حيث وردت معاني البذل والطاء سواء أكان ذلك البذل والعطاء خاص بالنفس أو المال أو الولد أو نحو ذلك .

وهذه المعاني كلها مطلوبة بل وهامة لكل دارس ومتعلم لكن يبقى بعد ذلك ما هو أهم ألا وهو كيفية تحقيق هذه التضحية ؟ وكيف نغرسها في النفس ؟ وكيف تتحقق على أرض الواقع ؟ وكيف تكون هذه المعاني منهج حياة وواقع ملموس؟ سلوك لازم لكل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر يراه الناس جميعا أبيضهم وأسودهم مؤمنهم وكافرهم فيثبت الاتباع حين يروا هذه النماذج العملية بل قد يفتح الله بهم قلوبا غلفا وأعينا عميا وآذانا صما فينتشر الحق الذي يحملونه وذلك ما نبغي .

من أجل الحق نضحي

لا شك أن المسلم يضحي من أجل الحق الذي يحمله ويهون الموت عليه في سبيله ذلك لأن الحق هو كل ما شرعه الله لعباده من أحكام تنظم علاقتهم بالله أو علاقتهم بالكون والحياة أو علاقتهم بعضهم ببعض أفرادا وأسرا وجماعات ولذلك وجب الاحتكام إليه والإذعان له والتسليم بعدالته { فماذا بعد الحق إلا الضلال } يونس 32] .

فكيف لا يضحي المسلم من أجل الحق الذي علمنا أسرار الوجود وغايات الحياة ودستور العدالة الذي يفصل بين الناس ويوزع الحقوق والواجبات بالقسطاس فيعطى كل فرد أو كل أسرة أو جماعة ماله ويطالبه بما عليه لأن مصدر هذا الحق هو رب الخلق الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي يعلم ما يحتاج إليه عباده وما يصلحهم أو يفسدهم وهم جميعا لديه سواء .

إن الحق في أجمل صوره وأعمق معانيه يتجلى في هذا الكتاب الإلهي الذي أودع الله فيه نبأ من قبلنا وخبر ما بعدنا وحكم ما بيننا وضمنه من جواهر الحكم وجوامع الكلم وروائع العبر ودقائق المعاني وأسرار التشريع وحقائق الوجود وآيات البيان وبينات الهدى والفرقان ما ينير العقول ويشفي الصدور ويزكى الأنفس ويصلح الحياة ويهدى الأفراد والجماعات إلى أقوم سبيل .

فهو يهدى إلى الحق لأنه يهدى إلى القيم الخالدة والفضائل الأصيلة التي تستقر بها الحياة وتنظم بها المعاملة ويتقيم بها ميزان الخلق والسلوك أفلا يستحق هذا كله التضحية بكل ما نملك ؟.

إننا إذا عرفنا الحق وتبين لنا الرشد من الغي لا يكفينا هذا لنكون من أهله وحزبه لأن المعرفة النظرية المجردة للحق وإن كان لابد منها لنكون على بصيرة لا تجدي ولا تجعل الإنسان من أهله إلا إذا رسخت جذورها في النفس وكان لها مذعن وبها يعتز فيدعو لها ويعمل على تكثير جنده ويضحي من أجله بل وينتصر له ويثبت عليه ويتحمل الأذى في سبيله .

والمسلمون باعتبارهم أمة مطالبون أن يقيموا الحق في الأرض ويتواصوا به ويهدوا إليه { والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } سورة العصر .

ويقينا أن الحق لا ينتصر وحده ولكن سنة لله أن ينصر الحق إذا كان له رجال يؤمنون به ويدعون إليه ويتجردون له ويعيشون من أجله ويموتون في سبيله ولهذا كثر أهل الباطل ليكونوا حجة الله على خلقه وفي القرآن { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } الأعراف 181 ] وفي الحديث (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك إلى قيام الساعة )) رواه مسلم .

وظهورهم على الحق يحتاج إلى تضحيات وتضحيات وهذه الطائفة يحدوهم دائما الأمل الحلو ويمر جوانحهم الرجاء الباسم ولا يعرف ظلام اليأس إلى صدورهم سبيلا { قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون } الحجر 56 ] .

إنهم كلما ادلهم الباطل من حولهم ازدادوا إيمانا بحاجة الناس إلى النور الذي يحملونه فزادوا إيمانا بتضحياتهم وكلما أمعن الفساد في الظهور والانتشار امتلئوا يقينا بضرورة الإصلاح فبذلوا الجهد والوقت والأموال والأنفس وكلما زحف تيار الكفر الصريح أو المقنع ازدادوا قدرة وإصرار على المقاومة بكل ما يملكون .

ويوم ترى الإنسانية الحق ممثلا في أمة تعرفه وتحبه وتحرسه وتنشره وتدعو إليه وتضحي في سبيله يومها ستسلم لها الزمام وتسير خلفها طوعا أو كرها يومها يهرب الظلام وينكمش الباطل ويتراجع الشيطان بتضحيات الرجال الذين تربوا على مائدة الرحمن ونهلوا من نبع محمد صلى الله عليه وسلم فالأمر لا يحتاج إلى تهور يؤدى إلى التهلكة ولكن يحتاج إلى تربية متأنية تصنع الرجال لأننا أمة مضحية في سبيل قيمة وعقيدة ومبدأ وفكرة .

ولكي يكون للتضحية مذاق حلو لابد أن تكون ضمن منظومة القيم الإسلامية التي يعيش لها وبها المسلم فهي لا تنفصل عنها لأن المسلم صاحب منهاج رباني شامل متكامل وصاحب فكرة إيمانية نوارنية تضئ الكون كله يشعر بعظمتها ويعتز بالانتساب إليها ويثق في نصر الله لها طالما أخذ بالأسباب واحترم السنن الإلهية .

متى تنجح الفكرة ؟

ولا تنجح الفكرة إلا إذا قوى الإيمان بها وتوفر الإخلاص في سبيلها وازدادت الحماسة لها ووجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها ومن هنا يشعر المسلم بكثرة الواجبات والتبعات وثقل الأمانة فيتقدم للإنقاذ ليعطى أمته حقها كاملا وهو يشعر بأنه ينتمي إلى أمة مجاهدة عاملة في سبيل نشر الحق والخير والعدل والحرية .

فالمسلم يؤمن إيمانا لا جدال فيه ولا شك معه ويعتقد اعتقادا أثبت من الرواسي وأعمق من خفايا الضمائر بأنه هناك إلا فكرة واحدة هي التي تنقذ الدنيا المعذبة وترشد الإنسانية الحائرة وتهدى الناس السبيل وهي لذلك تستحق أن يضحي في سبيل إعلائها والتبشير بها بكل ما يملك بالأرواح والأموال وكل ثمين وغال هذه الفكرة هي الإسلام الحنيف الذي لا عوج فيه ولا شر معه ولا ضلال لمن اتبعه { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام } آل عمران 18: 19 ] .

ففكرتنا إسلامية بحتة على الإسلام ترتكز ومنه تستمد وله تجاهد وفي سبيل إعلاء كلمته تعمل لا تدل بالإسلام نظاما ولا ترضى سواه إماما ولا تطيع لغيره أحكاما { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } [آل عمران 85 ] لهذا كله كان لابد من تربية إيمانية التضحية ركن من أركانها فبدونها لا تتحقق قيمة ولا تنتشر فكرة ولا يقوم على الأرض بناء للإسلام .

حجم العداوات يستوجب التضحيات

ولقد أتى على الإسلام والمسلمين حين من الدهر توالت فيه الحوادث وتتابعت الكوارث وعمل خصوم الإسلام على إطفاء روائه وإخفاء بهائه وتضليل أبنائه وتعطيل حدوده وإضعاف جنوده وتحريف تعاليمه وأحكامه تارة بالنقص منها وأخرى بالزيادة فيها وثالثة بتأويلها على غير وجهها .

وساعد على ذلك ضياع سلطة الإسلام السياسية وتمزيق إمبراطوريته العالمية وتسريح جيوشه المحمدية ووقوع أممه في قبضة الكفر مستذلين مستعمرين فكان لزاما علينا أن نضحي بالجهد والوقت والمال نصبر على الإيذاء لنبين للناس حدود الإسلام واضحة كاملة بينة لا زيادة فيها ولا نقص بها ولا لبس معها بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن دون قهر أو إجبار أو إكراه { فمن شاء فيؤمن ومن شاء فليكفر } الكهف 29 ] وهذا يحتاج إلى جهد يبذل ووقت ينفق .

إن الإسلام دين سلام وعقيدة حب ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله الوارف وأنواره الوضاءة وأن يقيم فيه منهجه وأن يجمع الناس تحت لواءه إخوة متحابين متعارفين وليس هناك من عائق دون اتجاهه هذا إلا عدوان أعدائه عليه وعلى أهله أما إذا سألوه فليسر الإسلام براغب في الخصومة ولا متطوع بها كذلك وهو حتى في حالة الخصومة يستبقى أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة انتظارا لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع ولا ييأس الإسلام من هذا اليوم الذي تستقيم فيه النفوس نتيجة هذا الاتجاه المستقيم .

وترى هذا الرجاء الذي لا يغلب عليه اليأس في معرض التخفيف على النفوس في قوله تعالى { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم لا ينهاكم الله عن الذين لن يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } الممتحنة 7-9 ] ألا تستحق هذه المعاني القيمة التضحية من أجل تثبيتها ونشر نورها متحملين كل أنواع الإيذاء في سبيل ذلك ؟

أين هذا المنهج من أعداء الإسلام الذين لم يتركوا أي نوع من الأسلحة في حربهم للإسلام إلا استخدموه لإبعاد المسلمين عن دينهم بسلاح الفتنة تارة وسلاح الهوية تارة أخرى وسلاح الأبهة تارة ثالثة فضلا عن سلاح الجدل العقيم والدعاوى الباطلة فإذا لم يجد ذلك كان القتل والقتال مضحين بالنفس من أجل باطلهم .

إن التيارات التي تحاول سلب روحنا والمعدية لإسلامنا كثير قديما وحديثا وهي تتزايد يوما بعد يوم وليس في هذا ما يدو إلى الدهشة أو الاستغراب لأن أعداء الحق كثرة في كل زمان ومكان { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } يوسف 103 ].

وهذه التيارات المعادية للإسلام تمثلت اليوم في الصهيونية الماكرة والصليبية الحاقدة والشيوعية الملحدة وما تفرع من هذا كله من دعوات زائفة وأفكار هدامة وتصورات باطلة تبذل جهدها وتنفق مالها بل وتضحي برجالها ليصدوا عن سبيل الله .

وبفضل الله لم يتوقف الإسلام عن الانتشار منذ بزوغ فجره حتى في أشد أيام غزوه من القوى المعادية له بإخلاص رجال ضحوا بالمال والأهل والولد والنفس فأعداء الإسلام يريدون له الحصار والله يريد له انتشار {ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون }التوبة 32 ] فمهما بذلوا من جهد ليطفئوا نور الله بأفواههم فالله متم نوره ولو كره الكافرون ولك أن ترى مقدار العداوة والبغضاء والجهود المبذولة منهم للصد عن سبيل الله لتقف على مقدار التضحيات التي يجب أن يبذلها المسلمون .

فإن ننسى لا ننسى يوم صعد جلادستون على منصة مجلس العموم البريطاني ومعه نسخة من القرآن يلوح بها في وجه الأعضاء ويقول : إنه مادام هذا الكتاب باقيا في الأرض فلا أمل لنا في إخضاع المسلمين فإذا بأحدهم يأخذ الكتاب ويمزقه فيقول له : ليس هذا ما أردت إنما أردت أن نفرغه من معانيه ! ألا يحتاج هذا إلى يقظة رجال وتضحية أتباع يقولون : فلا نامت أعين الجبناء .

وحتى لا يخيل إلى البعض أننا نستثير العواطف أو نؤمن بنظرية المؤامرة ونبالغ في تصورنا في حرب أعداء الإسلام لنا دون بينة أو دليل إليك ما قاله بعض أعداء هذا الدين وما كتبوه بأيديهم ليبينوا لنا سواد قلوبهم { قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر } آل عمران 118] .

يقول وليم جيفر : متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيدا عن محمد وكتابه.

ويقول الصليبي كاتلى : يجب أن نستخدم القرآن وهو أخص سلاح الإسلام ضد الإسلام نفسه حتى نقضى عليه تماما كما يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس بجديد وأن الجديد ليس بصحيح .

ويقول زويمر : مخاطبا من يسمونهم بالمبشرين : إن مهمة التبشير التي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست هي إدخال المسلمين المسيحية فإن هذا هداية لهم وتكريم إن مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقا لا صلة له بالدين .

إن الناظر البصير يرى من يوم أن انحسرت الخلافة الإسلامية عن بلاد المسلمين وغاب الحكم الإسلامي عن واقع حياتهم تحركت قوى خارجية وداخلية عالمية ومحلية تعمل ليلا نهار من أجل تحقيق هدف واحد أثيم وغاية دنيئة لئيمة استخدم من أجلها شتى أنواع الحروب العسكرية والفكرية والاقتصادية والنفسية تحاول أن تقوض بذلك أركان الإسلام وتطوى الإيمان وتطفئ النور الذي أضاء الدنيا وما هم ببالغيه .

ولن نسوق لك أدلة من التاريخ البعيد ولكن خير شاهد على ذلك حديثا التهديد بسحق العراق والذين يقولون اليوم ما كنا نقوله بالأمس وما زلنا نقوله كتاب لا ينتمون للتيار الإسلامي من قريب أو بعيد فها هو ذا الأستاذ جمال الغيطانى يكتب تحت عنوان (حملة صليبية جديدة ) فيقول يجب ألا يغيب عنا جوهر هذه الحملة العسكرية الشرسة ضد العراق إن المستهدف ليس شعب العراق شبه الأعزل المنهك المستباح في مواجهة هذه الآلة الحربية الرهيبة إن الهدف الحقيقي هم العرب والإسلام ليس في ذلك أي مبالغة بل إن الحجج والأغطية الإعلامية المختلفة للسياسة الأمريكية تسفر عن حقيقتها من خلال تصريحات هنا أو هناك في برنامج (لارى كينج) الشهير يحاور هذا المذيع الصهيوني الليكودى المتعصب عضو من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي ويتهجم على الإسلام والمسلمين مباشرة ثم يتحدث عن الحشود الموجودة في الكويت فيقول : طائرات تقلع وأخرى تنزل فوق الحاملات الجبارة جنوده يحملون صواريخ مختلفة ربما يكون هناك صاروخ جديد مطلوب تجربته في أطفال ورجال وشيوخ العراق العرب المسلمين ... ينطلق بعدها صاروخ فتاك لينهي حياة آلاف مؤلفة من بشر يحملون أسماء محمد وعلى وحسين وحسن .. ولا بأس من إبادة هذه الجموع المسلمة كما يقول : أي مصلحة لهؤلاء في ضرب العراق هل اعتدى العراق على حدود استراليا أو نيوزيلندا ؟ هل ألحق أذى بمصالح هاتين الدولتين النائيتين ؟ لماذا يجئ هؤلاء مع عدم ودود غطاء قانوني أو شرعي من الأمم المتحدة الأمن ؟ إنني لا أرى إلا العنصرية المقيتة ضد العرب والمسلمين .

هذه هي ثمرة النظام العالمي الجديد الذي لم يجد له عدوا إلا الإسلام والمسلمين يريد أن يستأصل شأفتهم وينكس رايتهم ويمحو منهجهم وتعلن الحرب عليهم بشتى أنواعها ولكن { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوى عزيز } المجادلة 21 ].

أقول هذا كله لتوضيح الرؤى حتى يعلم كل مسلم جاد كم من التضحيات يحتاجها الطريق وكم من التضحيات نحتاجها في سبيل نشر ديننا والمحافظة على هويتنا والزود عن حياضنا إن الأمر يحتاج إلى تربية شاقة ومعاناة طويلة وأمل في نصر الله كبير وجهاد في سبيل تحقيق فكرتنا نبذل كل شئ في سبيلها فنحيا بها كراما أو نموت كراما .

إننا في حاجة إلى رجال امتلأت قلوبهم بإيمان لا يتزعزع وعمل لا يتوقف وتضحية بكل غال وثمين وثقة بالله لا تضعف وأرواحا أسعد أيامها يوم تلقى الله شهيدة في سبيله لأنهم أصحاب قضية .

لذلك كله فإنه يتحتم على من يتصدى لهذه المعركة الشرسة لاستعادة بناء الأوطان على الإيمان بالله لينعم الجميع بالخير العميم والأمن الوفير والسلام العادل أن يتصف بقوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور :

1- إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف .

2- وفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر .

3-تضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل .

4- معرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والخديعة بغيره .

ولا يتحقق ذلك إلا بالشعور بالمسئولية .

التضحية والمسئولية

إن منهج القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم استطاعا تخريج جيل عظيم يدرك سر السعادة في تحمل المسئولية عن قناعة واختيار حتى أضحى الكنز المخبوء المدخر عنده هو العطاء والبذل والإنفاق حتى أصبحت التضحية والموت والاستشهاد هي عين الحياة .

وهناك ارتباط وثيق بين وضوح الفكرة والإيمان بها والعمل لها وبين مقدار التضحية فهي تزداد بزيادة هذه العوامل السابقة التي تجعل الباعث قوى وبالتالي فإن التضحية من أجله تعظيم والحب في تقديم هذه التضحية يدفع للتسابق والاستهانة بالمضحى به { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين } التوبة 24 ] .

ولذلك فإن أفراد المجتمع المسلم الأول كان الواحد منهم يرضى ويسعد بتحمله للمسئولية في أدنى صورها كإماطة الأذى عن طريق وفي أعلى صورها كبذل الدم والنفس استشهادا في سبيل إعلاء كلمة الله التي تنفع الناس وتسعدهم وبين أدنى صور المسئولية وأعلاها مراتب شتى من المسئولية ففي بذل النفس كان شعورهم الحقيقي الرغبة الشديدة في الاستشهاد إقتداء عمليا برغبة النبي صلى الله عليه وسلم التي عبر عنها بقوله : (( .... لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل )) .

والشهادة هي ذروة التضحية حفاظا على المجتمع ونمائه وازدهاره في ظل المبادئ الإسلامية وبذل النفس طواعية يعنى من ناحية أخرى ارتقاء الأفراد إلى أعلى معدلات التنمية الاجتماعية تعاونا وإيثار وتفانيا ويقتضي هذا النص الشريف الرغبة الشديدة في أن تتاح الفرصة للمؤمن كي يتحمل المسئولية في أرفع مستوياتها عدة مرات يجود خلالها بنفسه ودمه ولا شك أن هذه الرغبة القوية في احتماله المسئولية إنما كانت على هذا النحو بسبب نجاح الإسلام في إبراز جزائها العظيم وربطه بالمسئولية بمثل قوله تعالى :{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } آل عمران 169] وبمثل قوله صلى الله عليه وسلم ((إن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة ))وفي رواية مسلم ((أرواحهم في أجواف طير خضر لها قناديل معلقة بالوشى تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل )) .

وأما التضحية بالمال فقد كان شعارهم قوله صلى الله عليه وسلم :((ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا لعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه )) فهذا الحديث يستنهض في المسلم ثلاث ملكات من ملكات المسئولية حتى تصل بها إلى درجة من الكفاءة العليا القادرة على رعاية أدق الخيوط الفاصلة بين مخاطر النقص في المال مع استدامة النفقة ومخاطر الضعف مع استمرار العفو ومخاطر الهوان مع الحفاظ على التواضع وبذلك يتحمل المسلم المسئولية دون وجل فلا خوف من الإفلاس عند النفقة ولا رهبة من الضعف والمذلة عند العفو والتواضع ولا يمكن أن يضحي المسلم بماله وينفق وهو لا يخشى من ذي العرش إقلالا إلا إذا أطاع الله ورسوله في كيفية إدارة المال إدارة إسلامية واحترام الأسباب التي خلقها الله لتصل بالناس إلى مسبباتها ولقد بين القرآن هذه المسئولية :

أولا : قوله تعالى : { آلمص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أوهم قاتلون فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين } الأعراف 1-6 ].

ثانيا: قوله تعالى :{ فاستمسك بالذي أوحى إليك إنك على صراط مستقيم وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون } الزخرف : 43، 44 ].

ولما كانت المسئولية شاملة للناس كافة فقد أورد الإمام ابن كثير في تفسيرها الحديث النبوي الذي رواه ابن عمر فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام يسأل عن رعيته والرجل يسأل عن أهله والمرأة تسأل ن بيت زوجها والعبد يسأل عن مال سيده ثم قرأ { فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين } الأعراف :6 ] ))

فالشعور بالمسئولية نتاج الباعث الداخلي الذي أحدثته عقيدة التوحيد في قلوب أتباعها فرفوا رسالتهم فصغرت الدنيا في أعينهم وتشوقوا إلى ملاقاة ربهم وهم يقولون { وعجلت إليك رب لترضى } طه : 84 ].

التضحية أنواع وألوان

نحن أمة لها يقين تعيش عليه وغاية تعمل للوصول إليها وتضحي من أجلها وحاضر يجب أن يكون امتدادا لماضي تليد في قيمه ومقوماتها فأمر هذه الأمة لن يصلح في حاضرها إلا بما صلح به في ماضيها المشرق الكريم من :

  • -استمساك بعروة الإيمان الوثقى .
  • - وتدرع بدرع اليقين الحصين .
  • - واعتصام بحبل الله القوى المتين .
  • -واجتماع على روح الجهاد حتى الاستشهاد ، و التضحية بالغالي و النفيس .
  • - والتقاء على بيعة لله صادقة وفية وتباركها يد الله ويؤيدها بعونه وهداه { وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم } آل عمران 126 { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز } الحج 4.
  • - مع إدراك بصير بهذه الحقائق وشعور عميق بحاجتنا إليه فتتلقاها الهمم العالية { وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم } البقرة 143 ، فتضحي بالعزيز و النفيس لديها حتى ولو كانت الروح التي بين الجنوب من أجل حق يؤمن به صاحب الهمة العالية وعقيدة يعتنقها ويخضع لها مع علمه بهول الأخطار التي يتعرض لها في سبيل ذلك .

ولا يدفع إلى التضحية الصادقة إلا إيمان عميق ويقين وطيد بعقيدة دينية أو نزعة وطنية ، أو غيرة على حق أو حرمة أو حرية ، و المضحى الأصيل لا يندفع إلى عمله البطولى لغرض أو عرض ، ولا لمتعة أو منفعة ، ولا لشهرة أو ذكر .

ولا يفوتنا أن نقول : إن الفداء و التضحية يستعملان بمعنى واحد ( فالضحية أو الأضحية في الشرع هي الذبيحة التي يقدمها الإنسان لمقصد ديني ، ولعل استعمال كلمة ( التضحية ) بمعنى الفداء كان تشبيه الإنسان الذي يقدم روحه فداء لعقيدته ، بمن يذبح هذه الروح ويجعلها ضحية وفداء ، وعلى هذا جاء قول الله تعالى في شأن الذبيح إسماعيل { وفديناه بذبح عظيم } الصافات 107 أي جعلنا هذا المذبوح فداء له وخلصناه به من الذبح .

ولا ينبغي أن نفهم من هذا أن العمل الفدائي و الذي يتحقق به التضحية لا يتحقق إلا بالموت ، لأن التضحية ألوان وأنواع فالجندي الذي يقذف بنفسه في أتون الحرب متوقعاً الموت أكثر من توقعه الحياة إنسان مضحى، سواء أنال الشهادة أم نجا وعاد مترقباً جوالة فدائية أخرى قادمة ، و الرجل الذي يبذل ماله في سبيل حق أو خير ، وهو لا يدرى من أين ينفق بعد ذلك وهو إنسان مضحى ، وكذلك العالم الذي يبحث بين مخابيرة ومناظيره وأدوات بحثه لمعرفة دواء أو كشف ميكروب دون أن يبالي بالأخطار التي يتعرض لها رجل مضحى ، و الذي يقذف بنفسه لينقذ غيره وهو غير متأكد في هذا الموقف من سلامته هو رجل مضحى .

و الذي يجهر بكلمة الحق حين تخرس الألسنة أمام طغيان أو تجبر ، دون أن يبالي العاقبة ، قاصد الخير والإصلاح رجل مضحى ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ) .

و الطبيب المخلص الذي يعالج المرضى ويختلط بهم ، لأن واجبه يقتضيه ذلك ، ويتعرض لألوان من الجراثيم و الميكروبات ، وأسباب العدوى ، ومع ذلك يمضى في طريقه يكافح الداء ، ويطلب البرء ، رجل مضحى ، وهكذا فالتضحية متعددة الأشكال والألوان .

و القرآن الكريم وهو أساس الإسلام ودستوره يلفت أبصارنا وبصائرنا إلى وجود التضحية و الفداء منذ مطلع الخليقة فهو يحدثنا في سورة المائدة فيقول { واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقُبِل من أحدهما ولم يُتَقبَّل من الآخر } المائدة 27 وفي القربان هنا معنى التضحية و الفداء لأن القربان هو ما يتقرب به الإنسان إلى الله ، وصار في التعارف اسما للنسكية ، أي الذبيحة وجمعه قرابين .

كما يحدثنا القرآن الكريم عن ألوان من الفدية في الدين ، ففي الصوم يقول { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } البقرة 184 ، وفي الحج يقول { فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } البقرة 126 وفي الطلاق يقول { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } البقرة 229 ويحدثنا عن الفداء في الحرب فيقول { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منَّاً بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها } محمد 4 .

وكأن القرآن الكريم يريد بهذا الحديث أن يربينا ويشيع فينا جو الفداء ، وإذا كان القرآن لم يذكر مادة التضحية فإذا أشار إليها بكلمة ( النحر ) وهو الذبح ، ولا يتحقق الذبح إلا بذبيحة وتقديمها تضحية وفداء ، فقال في سورة الكوثر { إنا أعطيناك الكوثر فصلى لربك وانحر } وجاء في الحديث الشريف " إن على كل أهل بيت أضحية كل عام ".

ليس كل تضحية تُقبل

وإذا كان القرآن الكريم قد حث المؤمنين به على البذل والتضحية و الفداء في سبيل الحق و العدل و العزة و الكرامة و الحرية ووعد بقبول الفداء الصادق المستقيم الخالص ، وضمن لأصحابه عاجل الثواب وآجله ، فإنه حذرنا ألواناً من التضحية لا تجدي ولا تنفع ، لأنها لم تصدر عن إيمان ، ولم تقصد إلى الحق فقال في سورة آل عمران { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار لن يُقبَلَ من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به أولئك لهم عاب أليم وما لهم من ناصرين } آل عمران 91 ، وقال في سورة المائدة {إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تُقُبِّل منهم ولهم عذاب أليم } المائدة 36 وقال في سورة الحديد { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير } الحديد 15 .

وكأن القرآن المجيد حينما حذرنا هذه الألوان التي لا تنفع ولا تشفع من الفداء ، أراد أن نفهم أن الفداء إذ لم يأت في ميعاده ، ولم يقدم على وجهه لم يثمر ثمرته ، فتضحيات هؤلاء الذين كفروا ولهوا في حياتهم وبغوا على غيرهم ، يأتون بعد فوات الأوان ، وفي يوم القيامة يحاولون أن يقدموا الفداء ، وليس إلى قبوله سبيل .

ويزيد القرآن هذا المعنى وضوحاً حينما يحدثنا عن فداء لا يطال ولا ينال فهو ميئوس من وقوعه وتحققه ، ومن هنا لا يتحقق شئ من وراء محاولته ، فيقول في سورة الرعد{ للذين استجابوا لربهم الحسنى و الذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد } الرعد 18 .

ويقول في سورة يونس { ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون } يونس 54 ، ويقول في سورة الزمر { ولو أن للذين ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } الزمر 47 وفي سورة المعارج { يود المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذٍ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه كلا إنها لظى } المعارج 11-15 .

وهكذا يثبت القرآن في قلوبنا أن التضحية المقبولة يجب أن تكون عن عقيدة سليمة وإيمان صحيح ، وأن تكون مضبوطة التوقيت والأوان ، وأن الافتداء الخائب المردود هو ما كان مع الكفران ، أو بعد فوات الأوان .

وهكذا كان لابد للتضحية من أن تكون مشروعة يحكمها الشرع مكاناً وزماناً ونوعاً إخلاصاً ومتابعة حتى يقبلها الله سبحانه وتعالى من عبده ، فتنفعه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم فهي تقبل بإخلاص النية وصلاح العمل ، وإلا فهي مردودة عليه في الآخرة ، وبذلك يكون قد خسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين .

نماذج من تضحيات الرسول صلى الله عليه وسلم وتحمله الأذى

و الرسول صلى الله عليه وسلم أول من ضحى بوقته كله وجهده وأهله وعشيرته ووطنه وماله وعصمه المولى سبحانه وتعالى من الناس فقال { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } المائدة 67 بل لقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في التضحية من أجل الدين أروع الأمثال ، ولقد كان من تضحيته صلى الله عليه وسلم أن تحمل الشدائد واحتمل صنوف الأذى - وكيف لا وهو القدوة والأسوة الحسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر .

ومن صور إيذاء المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكره ابن اسحق في السيرة النبوية قال : وفيمن نصب لعداوته منهم : أبو لهب وامرأته أم جميل بنت حرب بن أمية حمالة الحطب ، وإنما سماها الله بهذا الاسم لأنها كانت تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يمر ، فأنزل الله تعالى { تبت يدا أبى لهب وتبّ ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى ناراً ذات لهب ، وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد } سورة المسد .

أما قصة زوجها أبى لهب فكلنا يعرفها ، فعداؤه للرسول صلى الله عليه وسلم معروف لكل من قرأ سيرته صلى الله عليه وسلم .

ومنهم أمية بن خلف بن وهب الذي كان يهمز الرسول صلى الله عليه وسلم ويلمزه أمام الناس ونزل فيه { ويل لكل همزة لمزة } الهمزة 1 ، فضلاً عن النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبى معيط وغيرهم الكثير .

- نماذج من الأذى :

وفيما يلي نماذج من أنواع الأذى التي تعرض لها الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه علماء الحديث الشريف :

- روى الإمام أحمد بسنده عن أنس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لقد أوذيت في الله ، وما يؤذى أحد ، وأخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت علىَّ ثلاثون ليلة من بين يوم وليلة ومالي ولبلال رضى الله عنه ما يأكله ذو كبد إلا ما يوارى إبط بلال ) .

وأخرجه ابن ماجة وابن حبان و الترمذى .

- وأخرج الطبرانى في الكبير بسنده عن الحارث بن الحارث قال : قلت لأبى : ما هذه الجماعة ؟ قال : هؤلاء القوم الذين اجتمعوا على صابئ لهم قال : فنزلنا فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى توحيد الله عز وجل والإيمان وهم يردون عليه ويؤذونه - وفي رواية فمنهم من تفل في وجهه ومنهم من حثا عليه التراب ومنهم من سبه - حتى انتصف النهار وانصدع الناس عنه ، أقبلت امرأة قد بدا نحرها تحمل قدحاً ومنديلاً فتناوله منها فشرب ، وتوضأ ثم رفع رأسه فقال : يا بنيّه خمري نحرك ولا تخافي على أبيك - وفي رواية ولا تخشى على أبيك - غيلة ولا مذلة ، فقلت من هذه ؟ قال زينب بنت رسول الله صلى .

-وروى ابن أبى شيبة بسنده عن عمرو بن العاص رضى الله عنه قال : ما رأيت قريشا أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم إلا يوما ائتمروا به وهم جلوس في ظل الكعبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى عند المقام فقام إليه عقبة بن أبى مقتول فأقبل أبو بكر رضى الله عنه يشتد حتى أخذ بضبعى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه وهو يقول :{ أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله } غافر 28 . ثم انصرفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فلما قضى صلاته مرّ بهم وهم جلوس في ظل الكعبة فقال يا معشر قريش :أما والذي نفس محمد بيده : ما أرسلت إليكم إلا بالذبح وأشار بيده إلى حلقه فقال له أبو جهل : ما كنت جهولا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أنت منهم )) .

وروى البزار بسنده عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وأبو جهل بن هشام وشيبة وعتبة ابنا ربيعة وعقبة بن أبى معيط وأمية بن خلف ورجلان آخران كانوا سبعة وهم في الحجر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى فلما سجد أطال السجود فقال أبو جهل أيكم يأتي جزور بنى فلان فيأتينا بفرثها فنكفوه على محمد ؟ فانطلق أشقاهم : عقبة بن أبى معيط فأتى به فألقاه على كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد قال ابن مسعود : وأنا قائم لا أستطيع أن أتكلم وليس عندي منعة تمنعني فأنا أذهب إذ سمعت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلت حتى ألقت ذلك عن عاتقه ثم استقبلت قريشا تسبهم فلم يرجعوا إليها شيئا ورفع رسول الله صلى الله عليه رأسه كما كان يرفع عند تمام السجود فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال :(( اللهم عليك بقريش ثلاثا عليك بعتبة وعقبة وأبى جهل وشيبة )) ثم خرج من المسجد فلقيه أبو البخترى بسوط يتخصر به فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنكر وجهه فقال : مالك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((خل عنى )) قال : علم الله لا أخلى عنك أو تخبرني ما شأنك ؟ فلقد أصابك شئ فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه غير مخل عنه أخبره فقال (( إن أبا جهل أمر فطرح على ّ فرث فقال أبو البخترى : هلم إلى المسجد فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو البخترى فدخلا المسجد ثم أقبل أبو البخترى إلى أبى جهل فقال : يا أبا الحكم : أنت الذي أمرت بمحمد فطرح عليه الفرث ؟ قال : نعم قال فرفع السوط فضرب به رأسه قال : فثار الرجال بعضها إلى بعض قال : وصاح أبو جهل : ويحكم هي له إنما أراد محمد أن يلقى بيننا العداوة وينجو هو وأصحابه )) .

- وأخرج الطبرانى في الكبير بسنده (( عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق حليف بنى زهرة مرسلا أن أبا جهل اعترض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفا فآذاه وكان حمزة رضى الله عنه صاحب قنص وصيد وكان يومئذ في قنصه فلما رجع قالت له امرأته وكانت قد رأت ما صنع أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا عمارة لو رأيت ما صنع تعنى أبا جهل بابن أخيك فغضب حمزة رضى الله عنه ومضى كما هو قبل أن يدخل بيته وهو معلق قوسه في عنقه حتى دخل المسجد فوجد أبا جهل في مجلس من مجالس قريش فلم يكلمه حتى علا رأسه بقوسه فشجه فقام رجال من قريش إلى حمزة يمسكونه عنه فقال حمزة : ديني دين محمد صلى الله عليه وسلم أشهد أنه رسول الله فوا الله لا أنثنى عن ذلك فامنعوني من ذلك إن كنتم صادقين فلما أسلم حمزة رضى الله عنه عز به رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وثبت لهم بعض أمرهم وهابت قريش وعلموا أن حمزة رضى الله عنه سيمنعه )) .

- وأخرج البخاري بسنده عن عروة رضى الله عنه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حديثه أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد ؟

قال : (( لقد لقيت من قومك ما لقيت وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبرائيل عليه السلام فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم على ثم قال : يا محمد فقال ذلك فما شئت ؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا )) أخرجه مسلم والنسائي .

- وأخرج أبو نعيم نسنده في دلائل النبوة عن عروة بن الزبير رضى الله عنه قال : مات أبو طالب وازداد من البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة فعمد إلى ثقيف يرجو أن يؤووه وينصروه فوجد ثلاثة نفر منهم سادة ثقيف وهم إخوة عبد يا ليل بن عمرو وخبيب ابن عمرو ومسعود بن عمرو فغرض عليهم نفسه وشكا إليهم البلاء وما انتهك قومه منه .

فقال أحدهم : أنا أسوق ثياب الكعبة إن الله بعثك بشيء قط .

وقال الآخر : أعجز الله أن يرسل غيرك ؟

فأفشوا ذلك في ثقيف أي الذي قال لهم صلى الله عليه وسلم واجتمعوا يستهزئون برسول الله صلى الله عليه وسلم وقعدوا له صفين على طريقه فأخذوا بأيديهم الحجارة فجعل لا يرفع رجله ولا يضعها إلا رضخوها بالحجارة وهم في ذلك يستهزئون ويسجرون .

فلما خاص من صفيهم وقدماه تسيلان الدماء عمد إلى حائط من كرومهم فأتى ظل حبلة أي شجرة عنب من الكروم فجلس في أصلها مكروبا موجعا تسيل قدماه الدماء فإذا في الكروم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة فلما أبصرهما كره أن يأتيهما لما يعلم من عداوتهما لله ورسوله وبه الذي به فأرسلا إليه غلامهما عداسا بعنب وعداس نصراني من أهل نينوى فلما أتاه وضع العنب بين يديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

بسم الله .

فتعجب عداس .

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من أي أرض أنت يا عداس ))ظ

قال : أنا من أهل نينوى .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم (( من أهل مدين الرجل الصالح يونس بن متى ))

فقال له عداس : وما يدريك من يونس بن متى ؟

فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن يونس ما عرف وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحقر أحدا يبلغه رسالات الله تعالى .

قال : يا رسول الله أخبرني خبر يونس بن متى .

فلما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن يونس ابن متى ما أوحى إليه من شأنه خر ساجدا للرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جعل يقبل قدميه وهما تسيلان الدماء .

فلما أبصر عتبة وأخوه شيبة ما فعل غلامهما سكنا فلما أتاهما قالا له :

ما شأنك سجدت لمحمد وقبلت قدميه ولم نرك فعلت هذا بأحد منا ؟

قال : هذا رجل صالح حدثني عن أشياء عرفتها من شأن رسول بعثه الله تعالى إلينا يدعى يونس بن متى فأخبرني أنه رسول الله .

فضحكا وقال : لا يفتنك عن نصرانيتك إنه رجل يخدع .

ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة .

وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا الموقف :(( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربى إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمنى أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب على فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علىّ سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك )) .

- وأخرج البخاري ومسلم والترميذى بأسانيدهم عن أنس رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في رأسه فجعل يسلب الدم عن وجهه ويقول : (( كيف يصلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله ؟ )) .

فنزل قول الله تعالى { ليس لك من الأمر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } آل عمران 128 ] فكان الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة لأصحابه فهذا على بن أبى طالب رضى الله عنه يقف من وراء الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى من دروس التضحية والفداء فيعيها ويهتدي بنورها وعلى هو الذي كان يقول : ((والله ما أبالي أدخلت على الموت أو خرج الموت إلى )) وكان يقول : ((والذي نفس ابن أبى طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون على من ميتة الفراش في غير طاعة الله )) وهو القائل (( ولقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا ما يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليما ومضينا على اللقم أي الطريق المعتدل وصبرا على مضض الألم وحدا في جهاد العدو ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين يتخالسان أنفسهما أيهما يسقى صاحبه كأس المنون فمرة لنا من عدونا ومرة لعدونا منا فلما رأى صدقنا أنزل بعدونا الكبت أي الذل وأنزل علينا النصر حتى استقر الإسلام ملقيا جرانه ومتبوئا أوطانه .

والموقف البطولي الذي وقفه الإمام على رضى الله عنه ليلة الهجرة مشهور لا يحتاج إلى إطالة في عرضه حيث نام مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنه هدف للمتآمرين من المشركين ففدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وحياته وإن يكن الله تعالى قد كتب له النجاة والسلامة .

وقد قال بعض المفسرين أن قول الله تعالى في سورة البقرة { ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد } نزل في شأن على رضى الله عنه حين نام على فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة .

وتمضى المسيرة فنجد فريقا من المؤمنين يتألقون في طليعتها مدافعين ومضحين من أجل دعوتهم أولئك هم شهداء غزوة بدر الكبرى وهي الغزوة التي قال في أهلها رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم )) ولقد كان أهل بدر قدوة رائعة في الإقدام على التضحية والفداء وكان شهداؤهم أروه وأسمى .

والرسول صلى الله عليه وسلم هو المثل الأكمل في الأسوة الحسنة في هذه المعاني بل هو المعلم والمربى أصحابه على الفداء والتضحية ولقد رأيناه ليلة الهجرة يقدم على الرحلة الخطيرة المحفوفة بالأهوال والأخطار بعد أن تآمرت جموع الشرك على البطش به حتى قال القرآن الكريم في سورة الأنفال : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } .

وكذلك رأيناه في أحرج موقف وهو داخل الغر والكفار على بابه وصاحبه أبو بكر رضى الله عنه يقول له مشفقا : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موطئ قدمه لرآنا فلا يضطرب الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يخاف بل يطمئن أبا بكر في شموخ يقيني قائلا : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا .

هذا غيض من فيض كريم لكننا نراه صلى الله عليه وسلم وهو يضرب القدوة الطيبة والأسوة الحسنة في مواقفه الكريمة العالية والغالية وهو يوجه صحابته رضوان الله عليهم إلى مواقف التضحية والفداء عليه من ربه والعباد أفضل صلاة وأتم سلام حتى صار شعار التضحية عندهم كأنه ترنيمة يطيب لها أذن السامع وكل منهم يقول : فداك أبى وأمي يا رسول الله .

ذلك كله لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان القدوة في هذه التضحيات فلقد ضحى بكل شئ سواء أكانت التضحية في المجال المادي أو الأدبي أو المعنوي ضحى بالوقت والجهد والمال ومع هذه التضحيات كان الصبر الجميل .

الباب الثاني - التضحية بالعلاقات الاجتماعية الحميمة والعادية

أولا : التضحية بالعلاقات الاجتماعية الحميمة والعادية

العلاقات الاجتماعية الحميمة هي علاقة الأبوة والبنوة والزوجية والأخوة والعشيرة وهو الأقربون الأدنون .

كل هذه العلاقات الوشيجة يمكن أن نضحي بها المسلم في سبيل الله وفي سبيل دينه إن تعارضت ودعوته ومسيرته وطريقه وإن حاربوا صده عن سبيل فلو فعل فهو مأجور عند الله تعالى لاستجابته لما طلب منه ولو لم يفعل فإن الله تعالى يتهدده بعذاب عليه أن ينتظره هو وأمثاله من الفاسقين الذين خرجوا عن أمر الله تعالى .

ومعنى ذلك أن المؤمن مطالب بأن يفضل حق الله تعالى وحبه سبحانه وتعالى على حق نفسه وذويه وأن يحب الله أشد مما يحب نفسه وذويه قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين } التوبة 23- 24 ].

وهاتان الآيتان الكريمتان فيهما كثير من المضامين التي تتصل بالتضحية في سبيل الله مثل :

التضحية بالقرابة مهما كانت وشيجة .

والتضحية بالمال والتجارة .

والتضحية بالمساكن الطيبة .

التضحية بكل ذلك إيثارا للإيمان بالله وما يوجبه على المؤمن .

كل هذه الآيات من سورة ((براءة)) وهي السورة الكريمة التي جاءت بوجوب البراءة من المشركين والكافرين .

-فالآية الأولى من هاتين الآيتين الكريمتين وهي :{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } التوبة 33 ].

قال المفسرون :

إن هذه الآية الكريمة جاءت جواباً عن شبهة قامت في بعض النفوس مؤدى هذه الشبهة أن البراءة من الكفار في بداية الإسلام كانت متعذرة فقد يكون الرجل في ذلك الوقت مؤمنا وأبوه أو ابنه أو أخوه أو زوجته على الكفر وحصول البراءة في مثل هذه الحالة متعذر أو ممتنع فجاءت هذه الآية لتنزل هذه الشبهة وتبين أن الله تعالى لما أمر المؤمنين بالتبرى من المشركين بل أوجبه إيجابا قال بعضهم : كيف يمكن ذلك ؟ وكيف تكون مقاطعة تامة بين الرجل وأبيه أو ابنه أو أخته أو زوجته ؟

فأوضح الله تعالى أن هذه المقاطعة ممكنة بل واجبة بسبب كفرهم وإصرارهم على عدم الدخول في الإيمان .

وقال العلماء : هذا النهي { لا تتخذوا آباءكم ..} الآية لا يمنع أن يتبرأ الرجل من أبيه في الدنيا كما لا يمنع من قضاء دين الكافر ولا من استعماله في أعماله بل وأن يحسن إليه ويبره ويقسط إليه والولاء هو القرب الشديد المؤدى إلى النصرة بما يعتقد من يواليه وذلك قد نهي الله عنه ومن يتولهم من المسلمين فهو من الظالمين وهناك فرق بين الموالاة والمودة وهي تتصل بحركة القلب أما البر والقسط فهما يتصلان بحركة الجوارح والمنهي عنه هو حركة القلب يقول ابن عباس رضى الله عنه أي يكون مشركا مثلهم لأه رضى بشركهم والرضا بالكفر كفر كما هو مقرر معروف عند المسلمين والآية الثانية وهي : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم ..} إلى نهاية الآية الكريمة وقد تضمنت هذه الآية الكريمة تقرير الجواب عن الشبهة التي ذكرت في الآية السابقة وذلك أن جماعة من المسلمين قالوا : يا رسول الله : كيف يمكن البراءة منهم بالكلية ؟ في حين هذه البراءة توجب انقطاعنا عن آبائنا وإخواننا وعشيرتنا وذهاب تجارتنا وهلاك أموالنا وخراب ديارنا وإبقائنا ضائعين ؟

فبين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه يجب تحمل جميع هذه المضار الدنيوية ليبقى الدين سليما .

وأوضحت الآية الكريمة أنه إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله فتربصوا بهذا الذي تحبون حتى يأتي الله بأمره أي انتظروا عقوبة عاجلة أو آجلة والمقصود من ذلك وعيد الله لهم على اختيار مصالح دنياهم دون مصالح دينهم .

وقوله تعالى : { والله لا يهدى القوم الفاسقين } أي لا يهدى الخارجين عن طاعته إلى معصيته وهذا يتضمن تهديدا ووعيدا .

وهذه الآية الكريمة تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين وجميع مهمات الدنيا وجب على المسلم أن يرجح الدين على الدنيا .

وقد أثارت هذه الآية الكريمة الأمور الداعية إلى مخالطة الكفار أو التي تخدع في مخالطتهم وهي أمور أربعة هي :

الأول : إنهم أقارب وذكروا من هؤلاء الأقارب أربعة أصناف هم : الأباء ، والأبناء والإخوان والأزواج ، وسائر القرابة وقد عبر عنهم بالعشيرة لأن هذا اللفظ يدل عليهم جميعا .

والثاني : الميل إلى إمساك الأموال المكتسبة

والثالث : الرغبة في تحصيل الأموال بالتجارة ونحوها

والرابع : الرغبة في المساكن الطيبة والخوف من فقدها .

وهذه الآية الكريمة ترغب في إنفاق المال والتضحية به في سبيل الله تعالى وتحذر من أن تكون أعراض الحياة الدنيا من قرابات وتجارات وأموال ومساكن أحب إلى المؤمن من الله ورسوله والجهاد في سبيله بل تتوعد من كان هذا شأنه .

هذا فضلا عن التضحية بالصداقات والجوار والعلاقات الاجتماعية بشتى ألوانها وأنواعها إذا تعارضت مع العقيدة والقيم والأخلاق { فذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير } الشورى 15 .

مع التضحية صبر واحتساب

الأصل في التضحية في سبيل الله أن يكون معها صبر بل صبر جميل واحتساب للأجر والثواب عند الله تعالى ومعنى ذلك ألا يكون فيها شئ من الضيق أو التبرم فضلا عن السخط واليأس .

وقد كان ذلك هو المنطق النبوي الكريم في تضحياته منطق لا يستكين ولا يضعف وإنما يعلن : (( إن لم يكن بك على ّ غضب فلا أبالي )).

فالعبرة في أن يكون ما بين الداعي إلى الله وربه سبحانه عامراً بالصلاح والتقوى والصبر والاحتساب عندئذ يستطيع الداعي إلى الله أن يعيش حالة من لرضا والسعادة وانتظار فرج الله وتأييده ونصره بالكيفية التي يشاءها الله وفي الوقت والمكان والظروف التي يريد سبحانه وتعالى .

وليس مضحياً ولا صبرا ذلك الذي يقول : لقد ضحيت وصبرت !! يقول مستبطئ : متى نصر لله ؟ لأن ذلك معناه أن ثقته في الله قد اهتزت بعض الاهتزاز وأن تضحيته وصبره لم تكن جميعاً لله تعالى وإنما شابتها بعض الشوائب والعياذ بالله .

  • جزاء التضحية عند الله تعالى أعظم الجزاء :

فلقد ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ضحى به وجزاه الله تعالى عن تضحياته خير الجزاء في الدنيا والآخرة .

أما في الدنيا فقد طهر جزيرة العرب من الشرك قبل أن يلحق بربه واستطاع أن يجلى اليهود وأن ينتصر عليهم وهم أعداؤه الألداء الذين خانوا وغدروا وحاربوا قتله أكثر من مرة .

وعاش حتى جاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا واستطاع أن يرد وأن يناوش جيوش الروم لطامعة وما مات صلى الله عليه وسلم حتى كان الله تعالى قد عز به وبصحبه الإسلام وعزهم به .

وأما في الآخرة فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأعطه فيها الشفاعة وأعد له من لجزاء م لا يعلم عظمته وضخامته إلا لله تبارك وتعالى .

والدعاة إلى الله كذلك :

تضمن الله تعالى لهم بأحسن الجزاء الأخروي إذا كانت تضحياتهم خالصة لله تبارك وتعالى وعد الله لا يخلف الله وعده فقال سبحانه { وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم } التوبة 72 .

وأما الجزاء الدنيوي فمحتمل وليس قطعيا لأنه سبحانه وعد بالنصر لمن نصره ونصر دينه وأخلص له القول والعمل والدعوة والحركة والجهاد وعند تخلف شئ من ذلك قد يتأخر النصر وقد يختار له أقواماً أشد إيمانا وأقوى يقينا قال سبحانه { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } محمد 38 أي خيرا منكم .

وقد يكون من حكمة الله تعالى أن تستمر التضحيات من أجل هذا الدين ليزيد الرصيد من العمل الصالح ويتنزل النصر وقد مهدت له الأرض والنفوس والأحداث .

وليس لأحد من الدعاة إلى الله أو العاملين في مجالات التمكين لدين الله في الأرض أن يقلل من شأن التضحيات لا يتصور أن يكون التمكين لدين الله في الأرض .

والصحابة رضوان الله عليهم طبقات في مقدمتهم العشرة المبشرون بالجنة ثم أهل بدر ثم أهل أحد إلى غيرهم من طبقات التي أفاض العلماء فيها غير أنهم جميعا من أفضل المسلمين كما تحدثت عنهم آيات القرآن الكريم وكما وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهم رضى الله عنهم الذين حملوا العلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ونشروه في الناس وهم الذين انطلقوا بالدعوة إلى آفاق الدنيا يتحملون في سبيل نشرها مالا يتحمله سواهم من المسلمين وبفضل الله عليهم ثم بفضلهم وصل هذا الدين الخاتم إلى الأجيال والقرون التي جاءت من بعدهم ولذلك لم يكن عجيبا أن يصف الرسول صلى الله عليه وسلم القرن الذي عاشوا فيه بأنه خير القرون ووصفهم بأنهم خير الناس روى البخاري وأحمد والترميذى بأسانيدهم عن عبد الله ابن مسعود رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم تجئ أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه شهادته )).

التضحية بالجوار وبالصداقات بجميع أشكالها

الصداقة والجوار والعلاقات الاجتماعية غير اللصيقة أولى ألا تشغل المؤمن عن الإيمان بالله ورسوله و الجهاد في سبيله وما يتطلبه هذا الجهاد من تضحيات ، وذلك لأن العلاقات الوشيجة كالأبوة و البنوة ونحوها مما ذكرنا ، لا ينبغي أن تؤثر ولا أن تفضل على الإيمان بالله ورسوله و الجهاد في سبيله ، وعلى هذا فإن العلاقات غير الوشيجة يجب أن يضحي بها من أجل الدين من باب أولى .

إن الآية الكريمة - التي أشرنا إليها توجه عاطفتي الحب والبغض ، وتجعل الحب حباً لله ولرسوله ولما أمر به ، و البغض بغضاً لأعداء الله ورسوله ولو كانوا آباء أو أبناء أو أصدقاء أو جيراناً ، فتحرم مصادقة الفاسقين و العصاة ، ومن يكونون بأقوالهم وأعمالهم حيث نهاهم الله تعالى .

وفي تأكيد هذا المعنى وتقريره نجد قول الله تبارك تعالى { لا تجد قوماً يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } .المجادلة 22 .

و الموالاة : التأييد و المظاهرة و الحب و النصح وطلب النصح ممن والاه .

وهذه الآية الكريمة تنفي الإيمان عن أولئك الذين يتخذون أعداء الله أولياء ، أياً كانت علاقة هؤلاء الأعداء لله ورسوله بمن والاهم من المسلمين إذ يجب أن تبرأ منهم فضلاً عن أن يواليهم ، هذه الآية الكريمة توحي ببعض المعاني و التوجيهات نذكر بعضها :

إن المؤمنين الذين يضحون بعلاقاتهم - الصداقة و الجيرة و القرابة غير اللصيقة - بهؤلاء الأعداء الذين يحادون الله ورسوله هؤلاء المؤمنون إنما يؤكدون بهذه العداوة إيمانهم بالله ورسوله ، وينالون بذلك تأييد من الله في الدنيا وأجراً عظيماً في الآخرة .

وإن هؤلاء المؤمنين الذين تبرأوا من أعداء الله ورسوله ولم يوالوهم ، مضحين في هذا البراء بمصالحهم الدنيوية عند هؤلاء ، هؤلاء المؤمنون بهذه الصفة هم حزب الله وأوليائه وأحبابه ، ومن كانوا حزب الله كتب الله لهم الفلاح ورضى عنهم ورضوا عنه .

وهكذا تحبب هذه الآية الكريمة في التضحية في سبيل الله تعالى وسبيل دينه ومنهجه ونظامه ، يقول جل وعلا في معنى قريب من ذلك { الإخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } الزخرف 67

كما توضح أن الصداقة لابد أن تكون لله تعالى وفي الله ، وإلا أصبحت عداوة وندامة يوم القيامة ، فالأصدقاء الذين جمعهم الباطل في الدنيا - مؤمنين كانوا أو كافرين - يصبحون أعداء يوم القيامة ، فتنقطع بينهم كل محبة كانت بينهم في الدنيا لأنها لم تكن لله بل كانت للشيطان ، تلك قاعدة عامة في الصداقات بين الناس في الدنيا وما تصير إليه .

ويستثنى من هذه القاعدة الذين اتقوا الله فكانت صداقتهم مع الناس لله وفيما يرضى الله تعالى ، فلابد إذن أن يضحي المؤمن بكل صداقة قد تجد فيها مصلحة دنيوية مادية أو معنوية من أجل الله ورسوله ، ومن أجل أن يرضى الله تعالى عنه ، وفي هذا المعنى أو في قريب منه جاء قوله تعالى { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله و اليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } التوبة 18 .

وهذه الآية الكريمة تدل على أن أهل الإيمان بالله و اليوم الآخر الذين يعمرون مساجد الله بحفظ بنائها أو الإقامة فيها و التردد عليها ، و الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويعملون الصالحات ، ولا يخشون أحداً أو عظيماً خشية تعظيم أو طاعة ، أي أنهم لا يبالون أحداً من الناس مهما كانت تربطه بهم علائق من أي نوع : قرابة أو صداقة أو مصالح متبادلة .

هؤلاء يجب أن يضحوا بهذه العلائق إيثاراً لما عند الله وحباً فيه وفيما يأمر به ، هؤلاء بهذه التضحية يرجى أن يكونوا عند الله من المهتدين .

وفي قريب من هذه المعاني للتضحية في سبيل الله تعالى ، جاء قوله سبحانه وتعالى { ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين } العنكبوت 10 .

قال ابن القيم في تأويل هذه الآية الكريمة .

والإنسان لابد أن يعيش مع الناس ، والناس لهم إرادات وتصورات فيطلبون منه أن يوافقهم عليها ن وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه ، وإن وافقهم حصل لهم العذاب تارة منهم وتارة من غيرهم ، كمن عنده دين وتقى ، حل بين قوم فجار ظلمة ، لا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم أو سكوته عنهم .

فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء ، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم ، وإن سلم منهم فلابد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم .

فالحزم كل الحزم في الأخذ بما قال به أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها لمعاوية رضى الله عنه :( من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مئونة الناس ، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً ) .

فهذه هي التضحية كما وردت معانيها في القرآن الكريم سواء التي اشتملت على التضحية بالنفس في سبيل الله تعالى أي الجهاد ، وعلى التضحية بالمال وبذله في سبيل الله تعالى ، في الوجوه التي أوجبها أو حبب فيها ، أو التضحية بالقرابات القريبة كالآباء والأبناء والإخوان و الزوجات من أجل إرضاء الله تعالى بمعاداة أعدائه ، وترك موالاتهم و التضحية بكل منفعة ترد منهم ، وأيضاً على التضحية بالصداقات و القرابات البعيدة والجيران من أجل ما أمر الله تعالى ، و التضحية بكل منفعة قد يتسببون فيها .

كل هذه التضحيات إنما طولب بها المؤمنون إيثاراً لما عند الله واستجابة لأمره وتقرباً إليه وحباً فيه وفي رسوله صلى الله عليه وسلم وكتابه ومنهجه .

وسأضرب مثالين فيهما العظة و العبرة و الدروس المستفادة وأول هذين المثالين لامرأة هاجرت إلى المدينة هي أم سلمة لتلحق بزوجها هناك ثم هجرة عمر بن الخطاب وقصته مع عياش بن أبى ربيعة ، ونختم بقصة زيد بن حارثة مع أهله وأسرته .

- هجرة أم سلمة إلى زوجها :

قال بن اسحاق : فكان أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين ، من قريش ، من بنى مخزوم أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، واسمه عبد الله ، هاجر إلى المدينة قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة ، كان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من أرض الحبشة ن فلما آذته قريش وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار خرج إلى المدينة مهاجراً .

قال ابن إسحاق : فحدثني أبى إسحاق بن يسار عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبى سلمة عن جدته أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره ثم حملني عليه ، وحمل معي ابني سلمة بن أبى سلمة في حجري ن ثم خرج بي يقود بي بعيره ، فلما رأته رجال بنى المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم قاموا إليه فقالوا هذه نفسك غلبتنا عليها ، أرأيت صاحبتك هذه ؟ علام نتركك تسير بها في البلاد ؟ قالت : فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه .

قالت : وعند ذلك غضب بنو عبد الأسد رهط أبى سلمة ، فقالوا : لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا ، قالت : فتجاذبوا بنى سلمة بينهم حتى خلعوا يده وانطلق به بنو عبد الأسد ، وحبسني بنو المغيرة عندهم ، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة ، قالت : ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني .

قالت : فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكى حتى أمسى سنة أو قريباً منها ، حتى مر بي رجل من بنى عمى ، أحد بنى المغيرة ، فرأى ما بي فرحمني فقال لبنى المغيرة : ألا تخرجون هذه المسكينة ! فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها ! قالت : فقالوا لي : إلحقى بزوجك إن شئت ، قالت : ورد بنو عبد الأسد إلى عند ذلك ابني .

قالت : فارتحلت بعيري ، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري ، ثم خرجت إلى زوجي بالمدينة ، قالت : وما معي أحد من خلق الله ، قالت : فقلت : أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي ، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بنى عبد الدار فقال لي : إلى أين يا بنت أب أمية ؟ قالت : فقلت أريد زوجي بالمدينة ، قال : أو ما معك أحد ؟ قالت : فقلت : لا والله ، إلا الله وبنى هذا . قال : والله ما لك من مترك ، فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوى بي فوا الله ما صحبت رجلاً من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه ، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عنى ، حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه ثم قيده في الشجرة ، ثم تنحى عنى إلى شجرة فاضجع تحتها ، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله ، ثم استأخر عنى ، وقال اركبي ، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقاده ، حتى ينزل بي ، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمنى المدينة فلما نظر إلى قرية بنى عمرو بن عوف بقباء ، قال زوجك في هذه القرية - وكان أبو سلمة نازلاً فيها - فادخليها على بركة الله ، ثم انصرف راجعاً إلى مكة .

قال : فكانت تقول : والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبى سلمة ، وما رأيت صاحباً قط كان أكرم من عثمان بن طلحة .

في هذا الخبر مثل من قساوة المشركين وفظاظتهم ، حتى لا يردعهم عن الظلم رادع إلا خوف محاسبة الناس في الدنيا وانتقامهم، وقد أمنوا حساب الدنيا في معاملتهم لهذه المرأة المسكينة ، وهم لا يؤمنون بحساب الآخرة الذي لا يفرق بين قوى وضعيف وشريف ووضيع لأنهم لا يؤمنون بالآخرة .

وهذه امرأة ضحت بالأهل والأقارب والأحباب لتصل إلى زوجها المهاجر بعد أن أدركت الرحمة أحد أقارب أم سلمة رضى الله عنها فطالب بإنصافها بدافع من القرابة ، ونجت من يد الأعداء ، ولكن كيف لها أن تسافر ذلك السفر الطويل وحدها ؟ وهنا يقيض الله تعالى لها عثمان بن طلحة العبدرى رضى الله عنه الذي أبت شهامته أن يتركها تسافر وحدها فصحبها طول الطريق وقام بشئونها خير قيام .

وإن ظهور هذا السيد الشهم لها واستعداده للسفر معها وهي على أبواب مغادرة مكة دليل واضح على عناية الله تعالى بأوليائه وتسخيره لهم ، فهو جل وعلا الذي سخر قلب ذلك الرجل للعناية بها وبذل الجهد و الوقت من أجلها .

ومما ينبغي أن يلاحظ أن عثمان ابن طلحة لم يكن آنذاك مسلماً ، ومع ذلك قدم هذه الخدمة الجليلة لامرأة كانت على دين أعدائه ، وهذا مثل مما كان العرب يتصفون به من مكارم الأخلاق ، وخاصة قبيلة قريش التي اختارها الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم منها .

- هجرة عمر بن الخطاب وقصته مع عياش :

قال ابن اسحاق : ((ثم خرج عمر بن الخطاب وعياش بن أبى ربيعة المخزومى حتى قدما المدينة فحدثني نافع مولى عبد الله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب قال : اتَّعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبى ربيعة وهشام بن العاصي بن وائل السهمي التناضب من أضاة بنى غفار فوق سرف وقلنا : أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه قال : فأصبحت أنا وعياش بن أبى ربيعة عند التناضب وحبس عنا هشام وفتن فافتتن .

فلما قدمنا المدينة نزلنا في بنى عمرو بن عوف بقباء وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبى ربيعة وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما حتى قدما علينا المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فكلماه وقالا له : إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك ولا تستظل من شمس حتى تراك فرق لها )).

وهكذا ندرك كيف يبذل دعاة الضلالة من وقتهم وجهدهم وأموالهم في سبيل نصرة باطلهم ومحاولة إخماد دعوة الحق حيث خرج أبو جهل وأخوه من مكة إلى المدينة وتحملا عناء السفر من أجل محاولة فتنة فرد واحد عن دينه أفلا يتحمل المسلمون مثل هذا الجهد أو أفضل منه من أجل دعوة الناس إلى الرشد واتباع الحق ؟!

لقد حاول أبو جهل أن يدخل على عياش من الجانب المؤثر عليه حيث ذكر وضع أمه ليكسب موافقته على العودة وهو يعلم أن عياشا من أهل البر والصلة .

وهذا مشهد يبين لنا صورة من مخططات أعداء الإسلام التي يحاولون بها صرف المسلمين عن التمسك بدينهم .

((قال عمر رضى الله عنه في سياق روايته : فقلت له : ياعياش إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم فوا الله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت )).

وهكذا كان عمر رضى الله عنه فطنا مدركا لمكائد الكفار فقد تفرس في وجوه القوم فعرف فيهم الغدر والمكيدة مع ما اشتهر عن أبى جهل قبل ذلك من عداء المسلمين .

وهكذا ينبغي لكل مسلم أن يكون حذرا من الكفار حتى ولو كانوا أهله وعشيرته وإن أظهروا النوايا الحسنة وأن يغلب جانب إساءة الظن بهم وأن لا يضع ثقته بهم لأن الأصل فيهم أنهم لا يراعون في مسلم عهداً ولا ذمه لشدة حقدهم على الإسلام والمسلمين كما قال الله تعالى {لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } التوبة 1. أي لا يراعون حرمة القرابة ولا الجوار ولا العهد .

((قال : فقال يعنى عياش أبر قسم أمي ولى هناك مال فآخذه )) وهنا وقع عياش في شباك عاطفة القرابة ولم يثنيه تحذير القرآن من هذا الأمر كما ذكرنا فاستطاع عدو الإسلام أبو جهل أن يخدع عياشا وأن يستميله للموافقة على العودة إلى مكة .

((قال أي عمر : فقلت والله إنك لتعلم أنى لمن أكثر قريش مالاً فلك نصف مالي ولا تذهب معهما قال فأبى علىّ إلا أن يخرج معهما فلما أبى إلا ذلك قال : قلت له : أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها فإن رابك من القوم ريب فانج عليها )).

وهذه تضحية كبيرة من عمر حيث تنازل لعياش عن نصف ماله وهو صاحب المال الكثير في مقابل حمايته من الفتنة في الدين وإن بذل المال في سبيل الخير دليل على قوة الإيمان ووضوح الهدف الإسلامي العالي ألا وهو ابتغاء رضوان الله تعالى والدار الآخرة وذلك لأن المال من أعز المحبوبات لدى الإنسان فإذا جاد به من أجل الله تعالى فهو من أهل الإيمان الراسخ كما سنرى في التضحية بالمال .

((قال عمر : فخرج عليها يعنى على ناقة عمر معهما حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل : يا ابن أخي والله لقد استغلظ علىّ بعيري هذا أفلا تعقبني على ناقتك هذه ؟ قال : بلى قال : فأناخ وأناخا ليتحول عليها فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه رباطا ثم دخلا به مكة وفتناه فافتتن .

قال ابن إسحاق : فحدثني به بعض آل عياش بن أبى ربيعة : أنهما حين دخلا به مكة دخلا به نهاراً موثقا ثم قالا : يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا )) .

وهكذا تحقق ظن عمر بأبي جهل وأمثاله ووقع عياش في مكائد المشركين لأنه وضع ثقته بهم ولم يغلب جانب الحذر منهم .

وفي ذلك عبرة للمسلمين حتى لا يأمنوا الكفار وإن أظهروا لهم المودة وقدموا لهم المعونة فإن ذلك نوع من الطعم الذي يصطادون به المسلمين كما قال الله تعالى { يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون } التوبة 8] .

وفي المشهد المؤلم الذي دخل فيه عياش مكة موثقاً ووصفه بالسفاهة إمعان من أبى جهل في إذلال المسلمين وتحطيم معنوياتهم فكيف يثق المسلمون بالكفار وهم لا يريدون بهم إلا الشر ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم .

ومما ينبغي الإشارة إليه أن أخا أبى جهل الحارث بن هشام قد أسلم بعد فتح مكة وحسن إسلامه وكان له في الجهاد بلاء كبير .

قال ابن إسحاق : وحدثني نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر في حديثه قال : فكنا نقول : ما الله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم ! قال : وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون } الزمر 53- 55 ] .

قال عمر بن الخطاب فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاصي قال : فقال هشام بن العاصي : فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها حتى قلت : اللهم فهمنيها قال فألقى الله تعالى في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا قال : فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة .

وذكر الحافظ الهيثمى نحو هذا الخبر وقال : رواه البزار ورجاله ثقات وهكذا كانوا يهاجرون تاركين البلاد والعباد ابتغاء مرضاة الله . وهكذا كانوا يظنون أن من فتنه الكفار فافتتن ورضى بالعيش معهم أن الله تعالى لا يقبل منه توبة حتى نزلت هذه الآيات ففرح بها عمر رضى الله عنه وقد كان في هم وأسف على إخوانه الذين استجابوا لفتنة فبادر بكتابة هذه الآيات إلى هشام بن العاصي .

وقد كان هشام وأمثاله في حالة يأس وقنوط من رحمة الله تعالى لظنهم بأن من كان في مثل حالهم لا توبة له فلما أخذ الصحيفة التي كتبها عمر وقرأ الآيات أصبح في حيرة من أمره إذ أنه لم يكن يتصور أن رحمة الله تعالى تتسع لأمثاله فسأل الله تعالى أن يفهمه المقصود من الآية وإن كان يفهم معناها فألهمه الله سبحانه أنه وأمثاله هم المقصودون بها فتاب إلى الله تعالى وعزم على الهجرة .

قصة زيد بن حارثة مع أسرته :

أخرج الحاكم رحمه الله بإسناده عن أسامة بن زيد بن حارثة رضى الله عنه قال : كان حارثة بن شراحبيل تزوج امرأة في طىء من نبهان فأولدها جبلة وأسماء وزيداً فتوفيت واختلفت أولادها في حجر جدهم لأبيهم وأراد حارثة حملهم فأتى جدهم فقال ما عندنا فهو خير لهم فتراضوا إلى أن حمل جبلة وأسماء وخلف زيداً .

وجاءت خيل من تهامة من بنى فزارة فأغارت على طىء فسبت زيداً فصيروه إلى سوق عكاظ فرآه النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أن يبعث فقال لخديجة رضى الله عنها : يا خديجة رأيت في السوق غلاماً من صفته كيت وكيت : يصف عقلاً وأدباً وجمالاً لو أن لي مالاً لاشتريته فأمرت ورقة بن نوفل فاشتراه من مالها فقال: يا خديجة هبي لي هذا الغلام بطيب من نفسك فقالت : يا محمد أرى غلاماً وضيئاً وأخاف أن تبيعه أو تهبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا موفقة ما أردت إلا لأتبناه فقالت : نعم يا محمد فرباه وتبناه فكان يقال له زيد بن محمد .

فجاء رجل من الحي فنظر إلى زيد فعرفه فقال : أنت زيد بن حارثة قال : لا أنا زيد بن محمد قال : لا بل أنت زيد بن حارثة من صفة أبيك وعمومتك وأخوالك كيت وكيت قد أتعبوا الأبدان وأنفقوا الأموال في سبيلك فقال زيد :

أحن إلى قومي وإن كنت نائياً

فإني قطين البيت عند المشاعر

وكفوا من الوجه الذي قد شجاكم

ولا تعملوا في الأرض فعل الأباعر

فإني محمد الله في خير أسرة

خيار معد كابراً بعد كابر

فقال حارثة لما وصل إليه :

بكيت على زيد ولم أدر ما فعل

أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل

فوا الله ما أدرى وإني لسائل

أغالك سهل الأرض أم غالك الجبل

فيا ليت شعري هل الدهر رجعه

فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل

تذكرنيه الشمس عند طلوعها

ويعرض لي ذكراه إذا عسعس الطفل

وإذا هبت الأرواح هيجن ذكره

فيا طول أحزاني عليه ويا وجل

سأعمل نص العيس في الأرض جاهداً

ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل

فيأتي أو تأتى علىّ منيتي

وكل امرئ فان غره الأمل

فقدم حارثة بن شراحيل إلى مكة في إخواته وأهل بيته فأتى النبي صلى الله عليه وسلم في فناء الكعبة فينفر من أصحابه فيهم زيد بن حارثة فلما نظروا إلى زيد عرفوه وعرفهم ولم يقم إليهم إجلالً لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

فقالوا له : يا زيد فلم يجبهم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : من هؤلاء يا زيد ؟ قال : يا رسول الله هذا أبى وهذا عمى وهذا أخي وهؤلاء عشيرتي .

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قم فسلم عليهم يا زيد فقام فسلم عليهم وسلموا عليه ثم قالوا له : امض معنا يا زيد .

فقال : ما أريد برسول الله صلى الله عليه وسلم بدلاً ولا غيره أحداً فقالوا : يا محمد إنا معطوك بهذا الغلام ديات فسم ما شئت فإنا حاملوه إليك .

فقال : أسألكم أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى خاتم أنبيائه ورسله وأرسله معكم فتأبوا وتلكئوا وتلجلجوا فقالوا : تقبل منا ما عرضنا عليك من الدنانير ؟ فقال لهم : ها هنا خصلة غير هذه قد جعلت الأمر إليه فإن شاء فليقم وإن شاء فليرحل .

قالوا : ما بقى شئ قالوا : يا زيد قد أذن لك الآن محمد فانطلق معنا قال : هيهات هيهات ما أريد برسول الله صلى الله عليه وسلم بدلاً ولا أوثر عليه والداً ولا ولداً فأداروه وألاصوه واستعطفوه وأخبروه من وراءه من وجدهم فأبى وحلف أن لا يلحقهم .

قال حارثة : أما أنا فأواسيك بنفسي أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله وأبى الباقون .

وأخرج الحاكم أيضاً من طريق أبى عمرو الشيبانى : حدثني جبلة بن حارثة أخو زيد ابن حارثة قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ابعث معي أخي زيداً فقال هو ذا هو إن أراد لم أمنعه فقال زيد : لا والله لا أختار عليك أحداً قال جبلة : إن رأى أخي أفضل من رأيي .

وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه وهو شاهد للحديث الماضي وأٌره الذهبي .

في هذا الخبر موافق : الأول في اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الإسلام حيث اغتنم فرصة قدوم عشيرة زيد بن حارثة رضى الله عنه ليدعوهم إلى الإسلام خاصة وانهم في فرحة غامرة بلقاء ابنهم وفي شوق بالغ لرجوعه معهم فلم يطلب من زيد مالاً وإنما جعل مقابل سماحه بالعودة معهم أن يدخلوا في الإسلام .

والموقف الثاني : في تعففه صلى الله عليه وسلم وترفعه عن الأموال التي حكموه في عددها في مقابل تخليه عن زيد فلما فات ما قصده من إسلامهم جعل الجيار إلى زيد نفسه ففرحوا بذلك واعتبروه غاية التكرم والتفضل .

والموقف الثالث : في تعلق زيد بن حارثة برسول الله صلى الله عليه وسلم وحبه الشديد له الذي فاق حب والده وعشيرته حيث رفض الذهاب معهم رغم إلحاحهم الشديد ويترتب على ذلك إيثار الحب في الله تعالى على جميع العلاقات الدنيوية التي أبرزها حب القرابة .

لقد كان في شعور زيد كأي إنسان ميل فطرى إلى الأهل والعشيرة والوطن الذي درج فيه وهو في صباه ولقد كان في إمكانه أن يذهب مع أسرته ويبقى على إسلامه ولكن بحبه للنبي صلى الله عليه وسلم قد ملأ قلبه حتى أصبح حبه لأبيه وأسرته لا يساوى شيئاً عند المقارنة بحبه لسيده ورسوله صلى الله عليه وسلم لذلك قال : هيهات هيهات ما أريد برسول الله صلى الله عليه وسلم بدلا ولا أوثر عليه والدا ولا ولد فكان مصمما في قراره على البقاء في مكة من اللحظة الأولى التي عرض عليه فيها أبوه العودة إلى بلده ولم يحصل منه أي تردد في هذا الأمر .

وهكذا تبنى العلاقات في الإسلام على أساس العقيدة وليست على أساس الدم .

الباب الثالث - التضحية بالوقت والجهد

فهم لا غنى عنه

إن العبرة في حركة التاريخ أو فينمو الحضارة وازدهارها ليست بوجود الأفراد المخلصين مهما بلغ صلاحهم وتقواهم وإداركهم لحقائق الأمور فحسب ولكن العبرة والأهم أن تكون هناك حركة جماعية وصلاح يشبه أن يكون تيارا قويا هادرا غالبا لا ضعيفا ولا مغلوبا مؤثرا في غيره وهذا كله يحتاج إلى وقت وجهد مضن للتعريف بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن حتى تنتشر الفكرة الإسلامية بالإقناع والاقتناع .

ذلك لأنه إذا لم ينجح الفرد المخلص في تحويل دعوته إلى تيار عام يحمله المخلصون ويعتصمون بحبل الله ويكونون على قلب رجل واحد كان من الخاسرين (فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ) فما كانت عناية الإسلام بتربية الفرد إلا ليكون لبنة في جماعة تتحمل مشاق الطريق وعبء الدعوة من حيث نشرها والتضحية من أجلها والجهاد في سبيل نصرتها وإقامة الدولة التي دعي الإسلام إلى تشييدها وتدعيم أركانها .

لذلك جعل المولى سبحانه وتعالى الأمة الإسلامية كلها أمة دعوة فبينما بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأمة وإلى البشرية كافة أتبعث هذه الأمة المسلمة إلى سائر الناس من أجل ذلك قالها ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس : ((إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عباده العباد إلى عبادة الله ومن جور الحكام إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة )).

ومن الإخلاص للدعوة أن يبذل الوسع والجهد في سبيل نشرها لا ينتظر من وراء هذا الجهد والتعب أن يحقق عن طريقها رغبة أو مصلحة أو فائدة شخصية يسعى إليها من خلال دعوته أو يتخذ منه سببا للجاه أو الشرف أو الرياسة أو ينفع بها قريبا في نسب أو بعيداً في حسب وهذا ما فعله الإمام البنا رحمه الله فالقارئ لسيرته الذاتية يرى كم من الجهد بذل ومن الوقت أنفق حتى جاد بنفسه في سبيل دعوته وكم من المراكز عرضت عليه فأبى وكم من الأموال قدمت له فتعفف وواصل الليل بالنهار يجول الفيافي والقفار ويقول للناس : لا نريد منكم جزاء ولا شكورا .

لأن كل نبي أو رسول من الرسل الكرام أكد لقومه أنه لا يبتغى من وراء رسالته جزاء ولا شكورا ولا فائدة مادية ولا معنوية على أدائها وإن كان هناك جزاء أو فائدة فهي تلك التي تعود من وراء هداية المهتدين بها ومن أجل ذلك فهو يضحي بوقته وجهده وكل ما يملك في سبيل تحقيق هذه الفائدة النبيلة .

وهذا مبدأ عام لتخليص الدعوة إلى القيم الإنسانية من أي شائبة تشوبها إذ أن الدعوة إلى الله تبحث عمن يحملها ولا تحمله ويعطيها كل ما يملك لا ليأخذ منه بسعيه لنشرها يبتغى بذلك الشهرة والصيت فإذا لم تحقق له ذلك نكص على عقبيه وبخل بكل شئ بل وتنكر للطريق لأنه وجد مصلحته في غيره ، يقول مؤمن ((سورة يس)) الذي جاء من أقصى المدينة يسعى : { قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون } يس 20- 21] بينما سحرة فرعون كانوا يقولون : {أين لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين } الشعراء 41-42 ] وهم أنفسهم الذين حين مس الحق قلوبهم حولهم وقالوا { قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى } طه 72- 73 ] لأن الإخلاص إذا تمكن من القلوب لا يحفل المرء بما يفقده من مال أو جاه أو سلطان ولا بما ينفقه من وقت وجهد بل لا يبالي بما يقع عليه من عذاب لأن القلب الذي يرجو الآخرة لا يهمه من أمر هذه الدنيا قليل ولا كثير فتتضاءل في عينه حتى تصبح نفسه التي بين جنبيه رخيصه في سبيل نشر هذه الدعوة إلى درجة أنه يستطيل الوقت الذي يأكل فيه تمرات ويقول : أبيني بين الجنة تلك التمرات الله إنها لحياة طويلة .

لا تقدم على دعوتك شيئا

إن اصطياد الدنيا بالدين مأساة وقد نبه القرآن الكريم أن نفرا من الذين يلبسون شارات الإيمان ويصدون الناس عنه وممن يتملكون عن الله يأكلون باسمه أموال الناس سحتا ويتقاضون عن أوقاتهم أجرا ويحققون مغنما وذلك في قوله تعالى : إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } التوبة 34] إن المسلم المخلص لدعوته لا يقدم على هذه الدعوة نفسا أو أهلا أو مالا أو تجارة { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين } التوبة 24 ].

إن القرآن يضع في الآية الكريمة الوشائج والمطامع واللذائذ كلها في كفة ويضع العقيدة ومقتضياتها في الكفة الأخرى الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة وشيجة الدم والنسب والقرابة والزواج والأموال والتجارة مطمع الفطرة ورغبتها والمساكن المريحة متاع الحياة وزينتها وفي الكفة الأخرى : حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله الجهاد بكل مقتضياته وبكلل مشتقاته الجهاد وما يتبع من تعب ونصب وما يتبعه من تضييق وحرمان وما يتبعه من جراح واستشهاد مجردا من الصيت والظهور والمباهاة والفخر والخيلاء .

وعلى المسلم أن يختار ليختبر إخلاصه لدعوته وصدقه من ربه هل يضحي بالفانية بكل ما فيها من زينة الحياة الدنيا في سبيل دعوة تقوده إن فعل ذلك إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين يصحبه فيها الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا أو الأخرى التي يخسر فيها الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين لذلك كانت التضحية بالوقت والجهد أهون التضحيات بالنسبة لصاحب الدعوة فإن بخل على الله بوقته وجهده سيكون بغيرهم أبخل .

إن صاحب الدعوة كما قلنا الذي يحمل فكرة يؤمن بها لابد له من أن يبذل الوقت والجهد بل المال والنفس في نشرها والتضحية في سبيل أن تسود وتنتشر وهذا سبيل الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين .

فلقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم للدعوة إلى الحق في تجرد عن الدنيا وزينتها وفي جلد وتحمل وصبر على المكاره والشدائد المادية والمعنوية لنجاحها ولشدة قضاء كل وقته لها وحرصه الشديد على أن تصل للناس قال له ربه : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً } الكهف 6 إن صاحب الدعوة يعلم أن عمره كله لله فما خلقه الله إلا لعبادته عمارة للكون ، وأمناً للناس ، ونشراً للسلام والإسلام ، ولا يتحقق ذلك بفضول الأوقات { قل إن صلاتي ونسكى ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } الأنعام 162-163 لذا وجدنا الصحابة رضوان الله عليهم بذلوا أعمارهم وأوقاتهم في سبيل الله ، ولقد علمهم القرآن ذلك حين قص عليهم قصص الرسل الذين قضوا حياتهم يدعون إلى الله على بصيرة ليلاً ونهاراً سراً وجهراً وهم يتحملون كل أنواع الإيذاء .

الأمر الثقيل

إنهم يحملون الأمر الثقيل الهائل العظيم أمر رقاب الناس ، أمر حياتهم ومماتهم ، أمر سعادتهم وشقائهم ، أمر ثوابهم وعقابهم ، أمر هذه البشرية التي إما أن تبلغ إليها الرسالة فتقبلها وتتبعها فتسعد في الدنيا والآخرة ، وإما أن لا تبلغ إليها فتكون لها حجة إلى ربها ، ويكون تبعة شقائها في الدنيا وضلالها معلقة بعنق من كلف التبليغ فلم يبلغ ، فأما رسل الله عليهم الصلاة و السلام فقد أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة ومضوا إلى ربهم خالصين من هذا الالتزام الثقيل ، وهم لم يبلغوها باللسان فحسب بل ضحوا بكل ما يملكون من جهد ووقت ومال ونفس في سبيل نشرها .

وبقى هذا الواجب الثقيل على من بعدهم ، على المؤمنين بالرسالة و الطريق ، فهناك أجيال وراء أجيال جاءت وتجئ بعد الرسل ، وبعد رسولنا صلى الله عليه وسلم ، وتبليغ هذه الأجيال منوط بعده بأتباعه ، ولا فكاك لهم من التبعة الثقيلة تبعة إقامة حجة الله على الناس وتبعة استنقاذ الناس من عذاب الآخرة وشقوة الدنيا إلا بالتبليغ والأداء على ذات المنهج الذي بلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدى ضارباً المثل و القدوة في التضحية .

لذلك قص علينا القرآن قصص رجال آمنوا فتحركوا وضحوا وبذلوا الجهد و الوقت في سبيل نشر دعوهم وحماية صاحبها فهذا رجل جاء من أقصا المدينة يسعى قال { يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين } القصص 2. .

فكم من الجهد بذل في زمان لم تكن وسائل المواصلات والاتصالات ميسرة وسهلة كما في أيامنا هذه ، وكم من الثمن دفع تضحية لإنقاذ حامل الحق الذي أراد أن يبلغه .

إنه الإيمان بالفكرة و الدعوة و الطريق وهو إيمان كله أمل أن المستقبل لهذا الدين ، إيمان وأمل يدفع الرجال إلى العمل الجاد للوصول إلى النصر الأكيد ، ولن يكون ذلك كذلك إذا بخلنا بأوقاتنا وجهدنا فضلاً عن أموالنا وأنفسنا ، بل لابد أن نرتفع إلى مستوى هذا الدين فلا نعطيه فضل أوقاتنا وفضل جهودنا وفضل أموالنا { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ... } التوبة 111 وهذا يتطلب أن نرتفع إلى مستوى هذا الدين في حقيقة إيماننا ، ونرتفع إلى مستواه في حقيقة عبادتنا ونرتفع إلى مستواه في معاملاتنا ونرتفع إلى مستواه في فهمنا ووعينا .

إن النصر يحتاج إلى جهاد طويل - أقول جهاد ولا أقول قتال - لأن جسامة التحديات التي تواجه الإسلام و المسلمين في هذه الحقبة كثيرة ،" وكلكم على ثغر من ثغور الإسلام فالله الله أن يؤتى من قبله " فعدم البخل بوقتك وجهدك وكل ما تملك لهذه الدعوة جهاد في سبيل الله و الصابر على ذلك حتى يتحقق نصر الله الموعود من المجاهدين الصادقين .

لذلك فإن الدعاة اليوم هم طلائع النور في أمة طال عليها الليل ، وبوادر اليقظة في أمة تأخر عنها النور ، وأمل العالم في عصر أجدبت فيه الدنيا من رسل الرحمة و اليقين ، وامتلأت بزبانية الأثرة والإلحاد ، فهل يجوز لمسلم صادق الإيمان أمام هذا كله أن يبخل بوقته أو جهده لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها أو ولد يرجو ل مستقبلاً يفخر به لا ليورثه الطريق ، ويكون له دعوة صالحة بعد فراقه لهذه الدنيا الفانية ؟ .

رجال ورجال

لقد حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهم أسباب القعود و النكوص و الكسل و التراخي وعدم الإقبال على التضحيات فبين صلى الله عليه وسلم أن ذلك راجع إلى مرض خطير فتاك أصاب الشخصية الإسلامية في مقتل فأحبت الدنيا وكرهت الموت ، نعم إنها أحبت الدنيا وتعلقت بها وخدعتها وغرتها وزين لها { حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة والأنعام و الحرث } آل عمران 14 نسيت أن ذلك كله متاع الحياة الدنيا ، و الله عنده حسن الثواب ، وهذا سر هزيمة المسلمين اليوم مع كثرتهم ، وانتصار الرجال الذين كانوا حول الرسول صلى الله عليه وسلم مع قلتهم .

هذه القلة صنع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم جيلاً فريداً فهم يقومون الليل ، ويصومون النهار ، فرسان رهبان ، ينفقون بأيمانهم ما لا تعلمه شمائلهم ، قطعوا المسافات هجرة إلى الله بدينهم ، وقضوا الليل و النهار عبداً لله ، وعمارة للكون فعمروه بمنهج الله ، لذلك لم يشعروا بالتفاهة و الضياع ولم يعيشوا والدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم إنما عاشوا لإقامة الحق ، وإفاضة الخير وإشاعة الجمال في هذا الكون لتسعد البشرية بمنهاج ربها .

إنه شعور بجسامة المسئولية ، وعظم الأمانة التي يحملها الرجل منهم ، فكيف ينام قرير العين صاحب هذا الشعور ؟ وهو مستشعر أن الواجبات أكثر من الأوقات ، فيجب أن يقتنص العاقل في هذه الدنيا كل لحظة لصالح دعوته ، من أجل ذلك كان من دعاء الصديق رضى الله عنه “ اللهم لا تدعنا في غمرة ولا تأخذنا على غرة ولا تجعلنا من الغافلين " وكان عمر رضى الله عنه يدعو أن يرزقه الله البركة في الأوقات وإصلاح الساعات ، لأنه لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه ؟ وعن ماله مم اكتسبه ؟ وفيما أنفقه ؟ .

إن هذا الجهد الذي يبذله الداعي ، وهذا الوقت الذي ينفقه في الدعوة لا يحتاج من الفئة التي عاهدت الله على حمل الرسالة ومواصلة الطريق مهما كانت الصعاب إلى من يأمرهم بهذا أو يكلفهم به أو حتى يذكرهم به ، فهذا الأمر الجلل - الدعوة إلى الله - لا يغيب عنهم لحظة من ليل أو نهار ، فهي الهواء الذي يتنفسونه وهي الحياة التي بها ولها يحيون ، فهل الإنسان في حاجة إلى تذكرة ليستنشق الهواء ؟ فكيف بالداعي الذي تجرى في عروقه الدعوة ، وهي بالنسبة له الحياة ؟ أيحتاج إلى توجيه من أحد يكلفه وهي حركته التلقائية أينما كان في بيته أو مكتبه أو متجره أو وظيفته ، مع أهله أو جيرانه أو مجتمعه إنه يشعر بأنه مكلف بذلك سلفاً من قبل الله عز وجل .

يشعر بذلك ويعمل على نشرها في الآفاق كما فعل هدهد سليمان حين تفقد الطير فقال { مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين } النمل 2. ، فإذا بالهدهد يقول له { أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين } النمل 22 ، ولكي ترى كم من المسافات قطع وكم من الجهد بذل وضحى ؟ لك أن عرف أن مملكة سبأ تقع في جنوب الجزيرة باليمن فقطع الهدهد هذه المسافات الشاسعة و الفيافي و القفار وبلغ قائده بما رآه حتى يرسل أتباعه لينشروا دعوة الله .

إذا كان هذا حال هدهد يسعى بدعوته ، فهذا رجل سمع الدعوة فاستجاب لها بعدما رأى فيها من دلائل الحق و المنطق ما يتحدث عنه في مقالته لقومه ، وحينما استشعر قلبه حقيقة الإيمان ، تحركت هذه الحقيقة في ضميره فلم يطق عليها سكواً ، ولم يقبع في داره بعقيدته وهو يرى الضلال من حوله و الجحود و الفجور ، ولكنه سعى بالحق الذي استقر في ضميره وتحرك في شعوره ، وسعى به إلى قومه ، وهم يكذبون ويجحدون ويتوعدون ويهددون ، وجاء من أقصى المدينة يسعي ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق ، وفي كفهم عن البغي ، وفي مقاومة اعتدائهم الأثيم الذي يوشكون أن يصبوه على المرسلين ، وظاهر أن الرجل لم يكن ذا جاه ولا سلطان ، ولم يكن في عزوة من قومه أو منعة من عشيرته ولكنها العقيدة الحية في ضميره والإخلاص لدعوته الذي دفعه لهذه التضحية فجاء من أقصى المدينة إلى أقصاها { قال : يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون }يس 2.-21 ، إن الذي يسعى هذا السعي ، ويبذل هذا الجهد ، وهو لا يطلب أجراً ولا يبتغى مغنما ، إنه لصادق في تضحيته مخلص لدعوته يريد لها انتشاراً وإلا فما الذي يحمله على هذا العناء إن لم يكن يلبى تكليفاً من الله ؟ ما الذي يدفعه إلى حمل هذه الدعوة ومواجهة الناس بغير ما ألفوا من العقيدة ؟ و التعرض لأذاهم وشرهم واستهزائهم وتنكيلهم ، وهو لا يجنى من ذلك كسباً ، ولا يطلب منهم أجراً ، بل بذل جهده وأنفق وقته ليلقى بكلمة الإيمان الواثقة المطمئنة وأشهدهم عليها ، وطلب منهم أن يقولوها كما قالها .

إن إخلاص الداعي الذي يبذل الطاقة ويقضى وقته في الدعوة إلى دين الله لينتشر بين الناس جميعاً ، ويكون رأياً عاماً لدعوته لا ينتظر تكليفاً من أحد ولا أمراً من قيادة ، إنما هي تلقائية الحركة بدافع الإخلاص لها - كما ذكرنا -.

وصنف تحمله الدعوة

أين هؤلاء الرجال من هؤلاء الذين تحملهم الدعوة ولا يحملونها بل ربما يسببون إعاقة للصف ، وداء يسبب العدوى ، وقدوة للكسالى ، وحجة للبطالة ، يضعفون الهمم ، فتراهم ينشغلون بأعمالهم ومشروعاتهم ، ومصالحهم وأولادهم ودنياهم فإذا ذكرتهم فما أكثر الأعذار ، وإن عاتبتهم فما أكثر الحجج ، وإن حاسبتهم فما أشد غضبهم ، هم للدنيا يعطون وللدعوة يبخلون ، إن الدعوات لا تنتصر بأصحاب المصالح ، ولا بطلاب الدنيا ، ولا المعطين للدعوة فضول أوقاتهم وجهدهم ، ولا طالبي الأضواء وعبادة الشهرة و الظهور ، بل بمن سماهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف ( الأبرار الأتقياء الأخفياء ، الذين إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا قلوبهم مصابيح الهدى ) .

إنهم وقفوا حياتهم لدعوتهم فتراهم شامة في جبين الزمن في مواقعهم بين أساتذة الجامعات هم في المقدمة علمياً وأخلاقياً ودعوياً يعطى من وقته لبنى جلدته ليورثه الطريق علماً ودعوة ، وتراهم في المصانع مهندساً كان أم إدارياً أم عاملاً يتقدم الصفوف ويشهد له الجميع بأنه في القمة في خصصه أولاً ، خادماً به دعوه ، قدوة لغيره في جودة الأداء ، كما تراهم بين من يفكرون في إيجاد الوسائل التي تناسب العصر نشراً لهذه الدعوة ، فإذا اخترع الأعداء آلة أو جهازاً ليستخدموه في مصالحهم وأفكارهم ومعتقداتهم بذلوا جهدهم لكي يستغلوه في دعوتهم ، فجميع أوقاتهم مسخرة لدعوتهم ، إنهم في هم دائم وانشغال مستمر أينما كانوا في بيوتهم أو بين جيرانهم أو في مواقع عملهم يضحون بمصالحهم الشخصية في سبيل نشر دينهم ودعوتهم ، لا يبالون بسخرية ولا استهزاء ، ولا إيذاء حتى لو قدر لهم أن تكون أوقاتهم التي يبذلون بين الجدران و الزنازين تراهم في شغل دائم وتفكير مستمر وبذل للجهد واستغلال للوقت لصالح دعوتهم ، يقولون كما قال نبي الله يوسف { يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } يوسف 39 وقدوتهم في ذلك رسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه الغر الميامين ، كمصعب بن عمير الذي هاجر إلى المدينة بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فترك الأهل و الوطن و المال وبذل كل وقته سعياً بين الأوس و الخزرج داعياً إلى الله على بصيرة بحكمة وموعظة حسنة ومجادلة بالتي هي أحسن ، فمهد لهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه فكان خير سفير ، وعاد باثنين وسبعين رجلاً وامرأتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن آمنوا خلال عام واحد قضاه ، وكذلك جعفر بن أبى طالب وإخوانه الذين هاجروا إلى الحبشة والأمثلة كثيرة من أصحاب الهمم العالية .

وفي عصرنا الحديث و القريب أمثلة مشرفة كذلك من رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، أنذروا حياتهم لدعوتهم ، واستغلوا كل ثانية ودقيقة لصالح هذه الدعوة ، فالوقت بالنسبة لهم ليس من ذهب كما يقول الذين يقيسون الوجود من الناحية المادية ، ولكنه الحياة لأن حياة الإنسان في هذا الوجود هي الوقت الذي يمضى بين الوفاة و الميلاد ، فقد يذهب الذهب وينفذ ولكنك تستطيع الحصول عليه بعد ذلك ، وتستطيع أن يكون معك منه أضعاف ما فقدت ، ولكن الوقت الذاهب و الزمن الفائت لا تستطيع له إعادة أو إرجاعاً ( فما إن ينبثق فجر يوم جديد إلا وينادى مناد يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمنى فإني لن أعود إليك إلى يوم القيامة ) .

ولذلك كان أعظم الناس تعرضاً للخسارة والإخفاق أولئك المضيعون لوقتهم الغافلون عن رسالتهم { ولقد ذرأنا لجهنم كثير من الجن والإنس لهم قلوب لا يعقلون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } الأعراف 179 .

من النماذج الحية

من هذه النماذج الحية التي بذلت الوقت و الجهد و القوة و الثبات على الدين ما كان من أبى ذر الغفارى رضى الله عنه لما أعلن إسلامه بمكة وذلك في أول الإسلام . أخرج الإمام البخاري ومسلم من عدة طرق ومنها ما أخرجاه عن عبد الله بن عباس رضى الله عنه قال :لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قال لأخيه : اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء فاسمع من قوله ثم ائتني .

فانطلق الآخر حتى قدم مكة وسمع من قوله ثم رجع إلى أبى ذر فقال : رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاماً ما هو بالشعر فقال : ما شفيتني فيما أردت .

فتزود وحمل شنة له فيها ماء حتى قد م مكة فأتى المسجد فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل فاضطجع فرآه على رضى الله عنه فعلم أنه غريب فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شئ حتى أصبح ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد فظل ذلك اليوم ولا يرى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى فعاد إلى مضجعه فمر به على فقال : ما آن للرجل أن يعلم منزله ؟ فأقامه فذهب به معه ولا يسأل واحد منهما صاحبه عن شئ حتى إذا كان اليوم الثالث فعل مثل ذلك فأقامه على معه ثم قال : ألا تحدثني ما الذي أقدمك هذا البلد ؟

قال : إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت ففعل فأخبره فقال : فإنه حق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي ففعل فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه فسمع من قوله وأسلم مكانه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :((أرجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري )) فقال : والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم .

فخرج حتى أي المسجد فنادى بأعلى صوته : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه فأتى العباس فأكب عليه فقال : ويلكم ألستم تعملون أنه من غفار وأن طريق تجارتكم إلى الشام عليهم ؟ فأنقذه منهم ثم عاد من الغد لمثلها وثاروا إليه فضربوه فأكب عليه العباس فأنقذه .

في هذا الخبر بيان للرعب الشديد الذي أثاره زعماء الكفار في مكة حتى أصبح القادم لا يستطيع أن يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بحذر شديد كما فعل أبو ذر الغفارى رضى الله عنه وأصبح المسلمون لا يستطيعون أن يصبحوا القادمين ظاهراً بل لابد من الاحتيال لإخفاء هذا الاصطحاب كما فعل على بن أبى طالب رضى الله عنه فانظر لترى كم من الجهد بذل أبو ذر وكم عانى للوصول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكم تحمل من مشاق ؟ وكم مكث من الليالي مستخفياً ؟

وكان مصرا إلى الاستخفاء حتى يحصل على بغيته من الوصول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يمنع من ذلك فلما وصل إليه وآمن به كان قوياً في إعلان إسلامه لأنه لا يخشى على نفسه وإنما كان يخشى أن يمنع من سماع دعوة الحق .

لذلك رأينا أبا ذر رضى الله عنه يجهر بأيمانه بهذا الدين أمام أعدى أعدائه آنذاك بعدما اقتنع أنه دين الحق لا يخشى في الله لومه لائم .

وهذه نفحة من نفحات قوة الإيمان أبت إلا أن تبدو في صورة ظاهرة من الاعتزاز بالإسلام والتحدي القوى لأعدائه .

إن إعلان الإسلام بهذه الصورة من رجل ليس له عشيرة ولا حلفاء في مكة أمام أعداء يهيمنون على الوضع القائم آنذاك ويعذبون المسلمين .. إن هذا الإعلان سلوك جرئ يشف عن محرك قوى من الإيمان جعله يضحي بكل شئ .

وإنه إذا كان المسلمون في فترات ضعفهم وقلتهم بحاجة إلى المداراة والاستخفاء فإن بروز أفراد منهم يتحملون ويضحون في سبيل إعلان دعوة الحق له أثره البالغ في توهين قوى الأعداء وتقوية إيمان المسلمين وربط قلوبهم .

وكون النبي صلى الله عليه وسلم لأبى ذر :(( ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري )) دليل على اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم العظيم بنشر دعوته وإشعار المسلمين بواجبهم نحو ذلك .

وقد جاء في رواية أخرى أخرجها الإمام مسلم ما هو أبلغ في الدلالة على ذلك وذلك في قوله صلى الله علي وسلم لأبى ذر : (( إنه قد وجهت لي أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب فهل أنت مبلغ عنى قومك عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم ! )) .

قال أبو ذر : فأتيت أنيسا فقال : ما صنعت ؟ قلت : صنعت أنى أسلمت وصدقت قال : ما بي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت وصدقت فأتينا أمنا فقالت : ما بي رغبة عن دينكما فإني قد أسلمت وصدقت فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفارا فأسلم نصفهم وكان يؤمهم ((إيماء بن رحضة الغفارى )) وكان سيدهم وقال نصفهم : إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأسلم نصفهم الباقي )) .

وهكذا أسلمت قبيلة غفار بدعوة أبى ذر بعد أن بذل ما بذل من جهد ووقت وتحمل الأذى في سبيل نشر دعوته وكان له ولقومه مواقف مشرفة في الدعوة والجهاد .

أهمية الوقت للمسلم

ولأهمية الوقت وضرورة تنظيمه وحسن توزيعه على العمل أو على الواجبات نود أن نقرر حقيقة واقعة في مجال العمل من أجل الإسلام بالنسبة للوقت .

تلك الحقيقة هو أن الوقت وتنظيمه وحسن توزيعه على العمل هو أهم أسباب النجاح وأن تضييعه أو سوء تنظيمه وتوزيعه على العمل هو أهم أسباب الفشل والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى .

-إن الوقت وإنفاقه فيما يعود على الإسلام والمسلمين بالفائدة من أهم ما يسأل عنه الإنسان يوم القيامة أمام من منحه هذا الوقت أو ذاك العمر فقد روى الترمذى بسنده عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس :

عن عمره فيم أفناه ؟ وعن شبابه فيما أبلاه ؟ وعن ماله من أين اكتسبه ؟ وفيم أنفقه ؟ وماذا عمل فيما علم ؟ ))

والسؤال بين يدي الله تعالى عن خمس هو سؤال عن الوقت إذ العمر وقت والشباب وقت وكسب المال يقع في وقت وإنفاق المال يحدث في وقت والعمل وعاؤه الوقت بل العلم يحصل في وقت !!! .

ومما يدعم هذه الأهمية للوقت في حياة الإنسان ما رواه الحاكم بسنده في المستدرك عن ابن عباس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( اغتنم خمسا قبل خمس : حياتك قبل موتك وصحتك قبل سقمك وفراغك قبل شغلك وشبابك قبل هرمك وغناك قبل فقرك ))

إذ الحياة والصحة والفراغ والشباب والغنى كلها أمور لا تكون إلا في وقت .

وكذلك ما رواه البخاري بسنده عن ابن عباس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعمتان من نعم الله مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ )) وكلاهما لا يكون إلا في وقت وأيضا في مجالات العمل من أجل الإسلام : الدعوة والحركة والتربية والإعداد للتمكين لدين الله في الأرض .

في هذه المجالات تبرز أهمية الوقت وأهمية تنظيمه وملئه بالنافع المرضى لله تعالى من الأقوال والأعمال .

وما يؤتى العمل من أجل الإسلام في مقتل كمثل ما يؤتى من تضييع الوقت أو سوء تنظيمه .

وكثيرا ما يدور حوار فينفس بعض العاملين من أجل الإسلام حول الوقت وتنظيمه وحسن توزيعه على الواجبات .

وأغلب الظن أن هذا الحوار يؤدى إلى الوصول لإحدى نتائج ثلاث :

أولا : أن يضحي بوقته كله من أجل العمل الإسلامي :

وهذا المسلم الذي أعطى كل وقته للدعوة وواجباتها ينجز في هذا المجال ما لا ينجزه سواه ويحظى بكل تقدير إخوانه بل إعجابهم به والدعاء له وغبطته على ما هو فيه من نعمة هذا العمل الجليل .

- وليس هذا فيما أتصور بأحسن المنازل ولا بأجود ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من التزام بأولويات بعينها في العمل من أجل الإسلام .

- وأغلب الظن أن هذا المسلم الكريم إذ أعطى وقته كله للدعوة وأهمل حق نفسه وحق أهله وذويه وما لهم من حقوق في وقته فقد جار وما عدل ومن هنا وقع في الإجلال بتنظيم الوقت وهذا الإجلال تقصير قد يصل إلى الإهمال والمعصية لأن الإسلام دين التوازن والأولويات وإعطاء كل ذي حق حقه إن لربك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا وإن لأهلك عليك حقا فاعط كل ذي حق حقه .

ومما يؤكد هذا التوازن ما رواه أبو داود بسنده عن عائشة رضى الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان بن مظعون : (( يا عثمان أراغب عن سنتي ؟ فإني أنام وأصلى وأصوم وأفطر وأنكح النساء فاتق الله يا عثمان فإن لأهلك عليك حقا وإن لضيفك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا فصم وأفطر وصل ونم )) .

وكان عثمان بن مظعون رضى الله عنه من المجتهدين في العبادة الراغبين في التفرغ لها من كل مشاغل الدنيا فوجهه النبي صلى الله عليه وسلم هذا التوجيه الذي طالبه فيه بأن يوازن بين أصحاب الحقوق في وقته ولا يغلب شيئا على شئ ولو كانت العبادة لله تعالى وذلك أن من عبادة الله إعطاء كل ذي حق حقه .

والذي أود أن أؤكده هنا أن إعطاء الوقت كله للدعوة على حساب وقت الأهل والأبناء والأرحام والأقارب وعلى حساب القراءة والاطلاع وتربية الأخ لنفسه تربية ذاتية كل ذلك ليس من الصواب ولا من فقه الموازنات بين الواجبات ولا من فقه الأولويات بين هذه الواجبات .

ثانيا : أو أن يضحي بعض المسلمين بهامش الوقت أو ما يفيض عن حاجتهم ويفضل الواحد منهم أن يعطى أكثر وقته لحاجاته الشخصية وما يفيض عن ذلك يعطيه للدعوة .

ومن المعروف أن حاجات الإنسان كثيرة ولو أعطاها الإنسان من وقته ما يكفيها ما بقى له من وقته شئ أو بقى له نزر يسير لا يكفي للقيام بواجبات الدعوة إلى الله .

فلا يجوز أن يبرر لنفسه هذا التوزيع السيئ الظالم لوقته بقوله (( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها )) أو بقوله (إن لبدنك عليك حقا ولأهلك عليك حقا )) وهذا سوء فهم جاء عن غفلة وهمزة شيطان لأن المطلوب هو أن ينسق بين هذه الواجبات ويعطيها ما تستحق من الأوقات بهذا التبرير المغلوط إنما يتكالب على الدنيا ويرضخ لمطالبها التي لا تنتهي والتي لا يجوز الرضوخ لها إلى حد تضييع وقت الدعوة .

روى ابن ماجة بسنده عن أبى حميد الساعدى رضى الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أجملوا في طلب الدنيا فإن كلاً ميسر لما كتب له )) وروى الحاكم بسنده في مستدركه عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((اقتربت الساعة ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصا ولا يزدادون من الله إلا بعداً )) . وروى البيهقى بسنده عن خباب بن الأرت رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إنما يكفي أحدكم ما كان في الدنيا مثل زاد الراكب )) .

وروى الترميذى بسنده عن أنس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له )) .

ثالثا : أو أن يضحي ببعض وقته للدعوة وبعضه لمطالب العيش ومعنى ذلك أنه يوازن بين مطالب دنياه دون تكالب ومطالب دينه ودعوته دون توغل فيعطى كلا من الوقت ما يناسبه وما من شأنه أن يصلح العمل إذا أدى بأمانة وإخلاص وهذا الذي فقه وعمل هو الذي ينجح بمثله العمل وتتحقق الأهداف وتنمو الدعوة إلى الله وتصل إلى من يجب أن تصل إليه هو بفضل الله بأحسن المنازل عند الله تعالى إذ قام بواجباته دون إخلال وهو عند الناس بأحسن المنازل أيضا لأنه لم يهمل أصحاب واحب ولا قصر في حق أحد .

وإنما كان تنظيم الوقت علامة على المنزلة الحسنة عند الله تعالى وعند الناس كذلك لأن تنظيم الوقت مطلب شرعي دعا إليه الدين وحث عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

روى ابن حبان في صحيحه بسنده عن أبى ذر الغفارى رضى الله عنه قال : مما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن صحف إبراهيم : ((ينبغي للعاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله - أن يكون له أربع ساعات : ساعة يناجى فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يتفكر في صنع الله عز وجل وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب )) .

روى البخاري بسنده عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه سلم قال (( إن الدين يسر لن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشئ من الدلجة )).

وإن الناظر في دين الإسلام يجد كل ما فيه من عبادات ومعاملات منظما وموقتا توقيتا دقيقا فالصلاة اوالصيام والزكاة والحج عبادات لها نظام إن اختل فسدت أو بطلت والزواج والطلاق وسائر العقود لها نظام دقيق إذا اختل فسدت أو بطلت كذلك والعبادات توقيت لا تتم إلا فيه وللمعاملات توقيت كذلك في كثير من أنواعها .

فتلك هي التضحية بالوقت من أجل الغاية التي جاء بها الإسلام بل المطلوب أن تكون التضحية بالحياة كلها وبكل شئ في سبيل الغاية وهذا التعبير بالحياة كلها وبكل شئ يعنى أن تكون التضحية في سبيل الغاية بكل ما يستطيع الإنسان أن يضحي به من ماديات ومعنويات وجهود في ظل المثل العليا .

وهذه الغاية يجب أن يضحي في سبيلها بالحياة وبكل شئ لأن تلك الغاية قد فرض الله تحقيقها على كل مسلم بما يستطيع من إمكانا سواء أكان هذا الفرض عينيا أو كفائيا وبغير هذه التضحية لن يصل المسلم إلى الله إرضاء تعالى بالاستجابة لما أمره به .

وإنما كانت هذه الغاية فرضا لأنها التي تمكن لدين الله في الأرض وتحكم الناس بمنهج رب الناس سبحانه وتعالى وذلك واجب كل مسلم قادر على التضحية بأي شئ إن هذه الأغراض إلى جاء الإسلام ليحققها والتي هي الغاية تشمل كل أنواع العمل من أجل الإسلام .

وانظر إلى الإمام البنا رضوان الله عليه وهو يضرب المثل لأتباعه في بذل الجهد بل والتضحية بكل شئ لقد زار ثلاثة آلف قرية من أربعة آلاف هي مجموع قرى القطر المصري بل إنه استقال من وظيفته ليفرغ لواجبات دعوته وكان ينام في أسفاره ليدخر الوقت لأتباعه وقد ضحى براحته وكان يتمثل قول الإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه : من أراد الراحة ترك الراحة وكذلك كان حال المخلصين من أتباعه إلى يومنا هذا .

الباب الرابع - التضحية بالمال

من موازين الإيمان

يقول الله تعالى { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } الحجرات 15 ] .

إن المؤمنين حقا هم الذين تحققوا بالإيمان في باطنهم وظهر أثره على جوارحهم فالإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل إنهم الذين لا يشكون ولا يترددون في كل ما يتصل بالإيمان من قواعد وهم قائمون بالجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم .

والجهاد بالمال وإن لم يتصل إلى مرتبه الجهاد بالنفس له منزلته العظيمة في الإسلام ولقد تحدث الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم عن الإنفاق والبذل والتضحية بالمال في سبيله وبين قواعده العامة التي نرجو أن يسير المسلم على هداها طيلة حياته ويقول سبحانه : { فأما من أعطى وأتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وما يغنى عنه ماله إذا تردى } الليل 5- 11 ] .

ويسمر القرآن في بيان المبدأ وشرح الموضوع فيقول الله سبحانه : { إنا علينا للهدى وإنا لنا للآخرة والأولى فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتى ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى}. الليل : 12- 21 ٍ في هذه الآيات الكريمة ترشد إلى أن الأنفاق في سبيل الله من شروط التيسر في هذه الحياة تيسر الرزق وتسير الشفاء وتيسر الفرج وإزالة الضيق وتيسر إزالة الهم وتيسر كل خير في هذه الدنيا وفي يوم الدين إما الشح بالمال فإنه من أسباب العسر في كل هذه الأمور .

على أن الله سبحانه وتعالى قد وعد إنه يخلف المال الذي ينفقه المؤمن في سبيله فقال {وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه وهو خير الرازقين } . سبأ 39 وبين سبحانه وتعالى أنه لا يخلفه بمثله ولكن بأضعاف ، فضرب هذا المثل الذي يتناسب مع كرمه سبحانه { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منَّاً ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } البقرة 261-262 ، وبين سبحانه أن الإنفاق في سبيله قرض حسن فقال { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون } البقرة 245 .

إن المشهد الأول الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة إسرائه يتناسق مع هذا الكرم الإلهي الذي غمر اله سبحانه وتعالى المجاهدين في سبيله ، لقد رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم ، كلما حصدوا عاد كما كان فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا جبريل ما هذا ؟ قال : هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة لسبعمائة ضعف { وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه وهو خير الرازقين } سبأ 39 .

فالنساء يتبرعن بحليهن ومالهن ، و الرجال بما يستطيعون - كما حدث في غزوة العسرة - وها هو ذا أبو بكر الصديق يأتي بماله كله ، وكان أربعة آلاف درهم ويسأله رسول الله هل أبقيت لأهلك شيئاً ؟ فيقول رضى الله عنه : أبقيت لهم الله ورسوله .

ويجئ عبد الرحمن بن عوف بمائة أوقية من الذهب الخالص ، ويجئ سيدنا عثمان بثلاثمائة بعير ، وبألف دينار ، ويضع الدنانير في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسر الرسول بها ، ويدخل يده فيها يقلبها ويقول : اللهم ارض عن عثمان فإني راض عنه ، ويقول : ما على عثمان ما عمل بعد اليوم ، وتتوالى التبرعات من الرجال و النساء ، حتى تنتهي بتجهيز الجيش وقيامه بالمهمة التي أرادها الله ورسوله .

فللإنفاق في سبيل الله منزلة كبيرة في الإسلام ، يقول الله تعالى في الإنفاق في سبيله { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم } البقرة 261 .

وحينما فسر مكحول رضى الله عنه هذه الآية الكريمة ، قال : يعنى بها الإنفاق في الجهاد من رباط الخيل ، وإعداد السلاح وغير ذلك ومما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك قوله :

( من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم يوم القيامة ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم وأقام في بيته أي لعذر كالمرض مثلاً ثم يستكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه الشريف فيقول :( ومن غزا في سبيل الله وأنفق في جهة ذلك فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم ) ثم تلا صلوات الله وسلامه عليه هذه الآية { والله يضاعف لمن يشاء } .

الإنفاق في سبيل الله

والإسلام يحث ويشجع على الإنفاق في سبيل الله في الحالات التي لا يكون فيها العدو داخل حدود بلاد الإسلام ، أما إذا اقتحم العدو الحدود ، فإن الإسلام كما يوجب الجهاد بالنفس إيجاباً ، فإنه يوجب البذل والإنفاق إيجاباً أيضاً كل بقدر ما يستطيع .

يقول ربنا { آمنا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير } إلى قوله { وله أجر كريم } سورة الحديد 7-11 ، وهذه الآيات الكريمة تطالب بأمرين وتستنكر أمرين وتحض على عمل جليل ، له عند الله أعظم الأجر ، فهي تطالب بالإيمان بالله ورسوله على سبيل الوجوب في قوله سبحانه { آمنوا بالله ورسوله } وتطالب بالإنفاق أي التضحية بالمال ، وهو مال قد استخلف الله تعالى الناس فيه { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } ، والآية تعد بالأجر الكبير على الإيمان والإنفاق ، { فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير } ، وتستنكر أمرين وتوبخ على تركهما :

- أحدهما : ترك الإيمان مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو للإيمان ، والله تعالى قد أخذ الميثاق على الناس أن يؤمنوا يوم أخرجهم من ظهر آدم عليه السلام قائلاً لهم { ألست بربكم قالوا بلى } الأعراف 172 .

وما لهم لا يؤمنون والله تعالى قد أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم الآيات البينات ليخرج الناس من الظلمات إلى النور رأفة بهم ورحمة { وما لكم لا تؤمنون بالله ... } إلى آخر الآيتين الكريمتين .

- والآخر : ترك الإنفاق للمال و التضحية به في سبيل الله ، أي البخل به ، وإنما استحق هذا البخل الاستنكار و التوبيخ لأن البخيل يبخل بما سوف يموت عنه ويتركه لسواه ، وذلك أن الله تعالى سوف يرث المال ويرث كل ما في السموات والأرض { وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والأرض ... } الآية .

وتوضح الآية الكريمة حقيقة هامة وهى أن التضحية بالمال في سبيل الله في وقت يحتاج فيه المسلمون إلى التضحية أفضل من التضحية به في وقت آخر ، وإن كان في كل خير .

ولقد حدث ذلك الإنفاق في وقت الحاجة إليه أيام كان المسلمون في مكة ، فنالوا تلك الأفضلية وهذه الدرجة .

و المسلمون في كل وقت عليهم أن ينظروا إلى الظروف التي يتم فيها الإنفاق ، فعلى وجه اليقين سيكون الإنفاق في بعضها أفضل من الإنفاق في بعض آخر ، قال تعالى :{ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير } الحديد 10 .

وأما ما تحض عليه الآية الكريمة ، وتعد فيه بالأجر المضاعف فهو إقراض الله تعالى ، والله سبحانه لا يحتاج إلى قرض ولا إلى شئ ، وإنما الذي يحتاج هم عباده ، فمن أقرض محتاجاً فكأنما أقرض الله تعالى .

فالآية الكريمة الأخيرة من هذه الآيات ترغب الناس في أن ينفقوا أموالهم ويضحوا بها في سبيل نصرة المسلمين وفي قتال أعدائهم وفي سد حاجة المحتاجين ومواساتهم ، وتسمى ذلك كله قرضاً لله تعالى و القرض هو ما يدفع إلى الإنسان من مال بشرط رد بدله - و الذي يرد البدل في هذه الحالة هو الله الكريم ، قال الله تعالى { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له وله أجر كريم } الحديد 11 .

قال مقاتل : القرض الحسن هو ما أخرجه الإنسان طيبة به نفسه .

وقال الكلبي : يتصدق به لوجه الله .

وقال بعض العلماء : لا يكون الإنفاق أو القرض حسناً حتى يستوفي شروطاً أو أوصافاً عشرة نشير إليها بإيجاز فيما يلي :

1- أن يكون من الحلال

2- وأن يكون من أكرم ما يملك .

3- وأن يتصدق به وهو يحبه .

4- وأن يعطى لمن هو أحوج .

5- وأن يكتم ولا يتحدث عنه صاحبه .

6- وأن لا يتبعه بمن أو أذى .

7- وأن يقصد به وجه الله ولا يرائي .

8- وأن يستحقر ما يعطى وإن كثر .

9- وأن يكون من أحب أمواله إليه .

10.- وأن يرى الفقير المعطى غير ذليل ولا ضعيف .

وكل وصف من هذه الأوصاف للقرض الحسن أيدته آيات قرآنية كريمة وأحاديث نبوية صحيحة ، فهذا هو شأن التضحية بالمال و إنفاقه في سبيل الله تعالى .

الإنفاق ودلالته

و التضحية بالمال تضحية كبيرة ذات دلالات عميقة لأن المال في حقيقته هو القدرة على الاستمتاع بطيبات الحياة الدنيا من مطعم ومشرب وملبس ومسكن ومركب ، بل هو السبب في كسب المحامد و الثناء عند الناس ، فضلاً عن رضا الإنسان عن نفسه وهو يعطى ويدفع الحاجة عن المحتاجين .

وقد أثنى الله تبارك وتعالى على من ينفق المال ابتغاء وجه الله ، وفي وجوهه التي شرعها الله تعالى ، بل سمى الله تعالى المال خيراً فقال جل شأنه { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم الذين ينفقون أموالهم بالليل و النهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } البقرة 272-274 .

ووعد الله تعالى في هذه الآيات الكريمة بأن يصل ثواب هذا الإنفاق للمال بصاحبه كاملاً ، وهؤلاء المنفقون للمال في وجوهه لهم عند الله أجر عملهم ولا ينالهم خوف من أمر مستقبلهم ، ولا حزن على شئ فاتهم ، والصديق رضى الله عنه كان رأس هؤلاء المنفقين .

ولقد أشاد القرآن بالإنفاق في سبيل الله تعالى عموماً ، وبخاصة في الأوقات التي يكون فيها المسلمون قلة أو ضعفاء يقع عليهم الاضطهاد ، في هذه الأحوال يكون الإنفاق في سبيل الله ذا أهمية أكبر من أهميته في الأوقات الأخرى ، قال الله تعالى { وما لكم لا تنفقون في سبيل الله و لله ميراث السموات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى و الله بما تعملون خبير } الحديد 1. .

قال الكلبي : نزلت هذه الآية في فضل أبى بكر الصديق لأنه كان أول من أنفق المال على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله .

قال عمر رضى الله عنه : كنت قاعداً عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر ، وعليه عباءة قد خللها في صدره بخلال ، فنزل جبريل عليه السلام : فقال : ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة خللها في صدره بخلال ؟

فقال صلى الله عليه وسلم : :" أنفق ماله علىّ قبل الفتح " وقال فخر الرازى في تأويلها : وأعلم أن الآية دلت على أن من صدر عنه الإنفاق في سبيل الله ، والقتال مع أعداء الله قبل الفتح يكون أعظم حالاً ممن صدر عنه الأمر بعد الفتح .

" وجعل علماء التوحيد هذه الآية دالة على فضل من سبق إلى الإسلام وأنفق وجاهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الفتح وبينوا الوجه في ذلك وهو عظم موقع النصرة للرسول صلى الله عليه وسلم بالنفس وإنفاق المال في تلك الحال ، وفي عدد المسلمين قلة ، وفي الكافرين شوكة وكثرة عدد ، فكانت الحاجة إلى النصرة المعاونة أشد بخلاف ما بعد الفتح فإن الإسلام صار في ذلك الوقت قوياً والكفر ضعيفاً "

وأخرج أبو داود في الزهد بسنده من عروة بن الزبير رضى الله عنه قال : أسلم أبو بكر وله أربعون ألف درهم ، قال عروة : وأخبرتني عائشة رضى الله عنه أنه مات وما ترك ديناراً ولا درهماً .وقد أعتق أبو بكر رضى الله عنه ست رقاب في سبيل الله وهم :

عامر بن فهيرة ، ونذيرة ، و النهدية ، وابنة النهدية ، وجارية بنى المؤمل ، وأم عيسى ، وكان بلال رضى الله عنه سابعهم .

وفي رواية أن أبا بكر رضى الله عنه اشترى بلالاً وهو مدفون بالحجارة بخمس أواق ذهب فقالوا : لو أبيت إلا أوقية لبعناكه ، فقال : لو أبيتم إلا مائة أوقية لأخذته .

ولئن كانت التضحية بالمال في سبيل الله تعنى انخلاع الإنسان من شئ يحبه ويحتاج إليه فإن التضحية بالجاه و المكانة بين الناس من أجل الدين تضحية كبرى وهكذا كان أبو بكر رضى الله عنه فهو من قريش في مكانة رفيعة لخلقه وعلمه بالأنساب وأمانته في تجارته وثروته وكرمه .

قال عنه ابن اسحق في السيرة : " كان أبو بكر رجلاً مؤلفاً لقومه محبباً سهلاً ، وكان أنسب قريش لقريش ، وأعلمهم بما كان منها من خير وشر ، وكان تاجراً ذا خلق ومعروف وكانوا يألفونه لعلمه وتجاربه وحسن مجالسته "

لقد ضحى أبو بكر بهذه المنزلة ، وتلك الوجاهة الاجتماعية ، ودخل في دين الإسلام ، وتعرض من ذلك للإهانة و الضرب حتى أشرف على الموت .

روى الأصبهاني في الحلية بسنده عن أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنها قالت :" أتى الصريخ آل أبى بكر ، فقيل له أدرك صاحبك ، فخرج من عندنا وإن له لغدائر ، فدخل المسجد وهو يقول : ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ! فلهوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبى بكر فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئاً من غدائره إلا جاء معه وهو يقول : تباركت يا ذا الجلال والإكرام " .

فهذا شأن أبى بكر رضى الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة في التضحية بماله وجاهه ومكانته في عشيرته بل في قريش كلها من أجل دينه ، وتلاه باقي العشرة المبشرين بالجنة : عمر بن الخطاب ، عثمان بن عفان ، على بن أبى طالب ، عبد الرحمن بن عوف ، طلحة بن عبيد الله ، الزبير بن العوام ،سعد بن أبى وقاص ، سعيد بن زيد ، أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنهم أجمعين .

ولقد كان الصحابة جميعاً رضوان الله عليهم يضحون بأموالهم ومكانتهم ووجاهتهم بل بأنفسهم من أجل هذا الدين ، ولا يتسع المجال هنا لسرد تفاصيل إنفاقهم وسنكتفي بضرب الأمثلة القليلة التي تبين فضلهم رضوان الله عليهم بعد قليل .

أولئك هم المؤمنون حقاً

إن المؤمنين حقاً هم الذين يحسنون إدراك العواقب ، وهم الذين يعلمون أن ما في أيديهم من مال أو عرض من أعراض الدنيا ، إنما هو إلى زوال أنفقه أو أمسكه ، ولكنه يبغي ما عند الله تعالى إذا أنفق في مرضاته قال الله تعالى { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم } البقرة 261 .

و الذين يحسنون صنعاً هم أولئك الذين يدركون أن الإنفاق في سبيل الله هو لمرضاة الله تعالى ، وهو لا ينقص من المال شيئاً على وجه الحقيقة ويعلمون علم اليقين أن الإمساك عن الإنفاق إنما يكون بهمز الشيطان ولمزه وتخويفه الناس من الفقر ، قال الله تعالى { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم } البقرة 268 .

و الذين يصفون إيمانهم من الشوائب والأغيار ، هم الذين يخشون عذاب الله ويتجنبون ما يوقعهم فيه ، ويعلمون أنه مما يوقع في عذاب الله إمساك المال أو كنزه ومنعه من أصحاب الحقوق فيه ، بل يوقنون بأن التضحية به هي الأصل ، قال الله تعالى { و الذين يكنزون الذهب و الفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } التوبة 34-35 .

و الذين لا يحبون أن تضيع منهم الفرص ، ولا يرغبون في أن يشعروا بالندم على ما فات ، أولئك الذين يبادرون إلى الإنفاق في سبيل الله و التضحية بالمال ، قال الله تعالى في خطابه للذين آمنوا { و أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها و الله خبير بما تعملون } المنافقون 1.-11

إن مفهوم التضحية في كلمة الإمام البنا هو بذل المال في سبيل الله ، وهكذا ينفق المال في سبيل الله ، وسبيل الله باب واسع في الإنفاق ، وكانت الجماعة تعطى فيه لليتامى والأرامل وتقيم المشروعات الاقتصادية الصغيرة و المتوسطة وترصد كثيراً مما تغله تلك المشروعات لسبيل الله تعالى.

وفقه التضحية في سبيل الله إنما يعرف قيمته ويدرك المكانة التي يكون فيها عند الله من أنار الله بصيرته ، ففقه الحياة الدنيا على حقيقتها وعلم أنها معبر للحياة الآخرة ودار ممر إلى دار المقر ، عندئذٍ قد ينفق ماله كله في سبيل الله تعالى ، ولا يبقى لأهله شيئاً أو يبقى لهم القليل ، كما حدث من أبى بكر الصديق رضى الله عنه ، وكما حدث من كبار الصحابة رضوان الله عليهم .

أخرج ابن اسحق بسنده عن أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنها قالت :

لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج معه أبو بكر رضى الله عنه أي في الهجرة احتمل أبو بكر ماله كله معه خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم فانطلق بها معه .

قالت : والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه !!

- قالت : قلت : كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا قالت وأخذت أحجاراً فوضعتها في كوة البيت الذي كان أبى يضع ماله فيه ثم وضعت عليه ثوبا ثم أخذت بيده فقلت : يا أبت ضع يدك على هذا المال .

قالت : فوضع يده عليه فقال : لا بأس إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن وفي هذا بلاغ لكم .

- تقول أسماء رضى الله عنها : لا والله ما ترك لنا شيئا ولكن أردت أن أسكت الشيخ بذلك .

أخرجه الإمام أحمد وقال الهيثمي : رجال أحمد رجال الصحيح غر ابن إسحاق .

فهذه أضواء على مفهوم التضحية كما تحدث عنها الإمام البنا في كلمته الوجيزة .

وكان رحمه الله في هذه الكلمة يشجع المسلمين على بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شئ في سبيل الغاية يشجعهم على ذلك ليقاوموا عدوا محتلا لأرض الوطن في مصر وفي العالمين العربي والإسلامي ولكي يواجهوا اليهود وما يدبرونه من كيد وحرب للاستيلاء على فلسطين وكانت مقدمات ما قام به اليهود في فلسطين توحي بالنتائج .

ولقد ضحى الإخوان بأنفسهم وأموالهم وأوقاتهم وبكل شئ يملكونه ويقدرون عليه من أجل مقاومة اليهود وطرد الإنجليز من مصر

والتضحية بالمال في سبيل الله تعالى من أنواع التضحية ذات الشأن الكبير في إحقاق الحق وتأمينه وتأمين أهله والمنادين به إذ لا يخفي على أحد ما للمال من أهمية في حياة الإنسان .

والنصوص الإسلامية التي تطالب المؤمنين بالتضحية بالمال في سبيل الله وإنفاقه في أوجهه التي أمر الإسلام بها أو ندب إليها إنها نصوص ليست بالقليلة في الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة مما سيذكر بعضه في هذا المجال .

والتضحية بالمال أنواع  :

  • - منها بذل المال في تجهيز الجيوش المجاهدة في سبيل الله ،
  • - ومنها تأمين الاحتياجات المتوقعة لهذه الجيوش في المستقبل القريب أو البعيد ،
  • - ومنها تأمين احتياجات المسلمين في حالة السلم ،
  • - ومنها بذل لدفع ضرر عن المسلمين في الحاضر أو في المستقبل ،
  • - ومنها بذله في وجوه الخير والبر عموما .

شروط قبول التضحية بالمال - من أوجه الإنفاق

وفي جميع أحوال التضحية بالمال في سبيل الله يجب أن تتوفر فيه شروط حتى يحظى صاحبه برضا الله تعالى ومن هذه الشروط ما نشير إلى بعضه فيما يلي :

  • - وأن يكون هذا المال قد اكتسبه بالمال من أي من أو أذى أو رياء أو سمعة
  • - وأن يكون هذا المال المبذول في سبيل الله من أحب أموال المنفق إلى نفسه .

بكل هذه الشروط في بذل المال والتضحية به في سبيل الله وردت نصوص إسلامية كثيرة نذكر منها ما يلي :

- قال الله تعالى { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } البقرة 261، 262 ].

وعند النظر في هاتين الآيتين الكريمتين نستطيع أن نتبين ما يلي :

أن إنفاق المال والتضحية به يجب أن يكون في سبيل الله وسبيل الله هو : طريقه والمقصود بذلك ما ينفق في الجهاد أو في طريق الخير والبر تدخل فيه سائر الصدقات التطوعية فضلا عن أن المنفقين أموالهم في سبيل الله يضاعف الله لهم الثواب أضعافا كثيرة كما تتضاعف الحبة التي تزرع في الأرض فتنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة أي سبعمائة ضعف .

- وأن المنفقين في سبيل الله ووجوه البر والخير لا يجوز لهم أن يتبعوا ما أنفقوا بمن أو تفاخر أو تطاول على من أحسنوا إليهم هؤلاء لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم من شئ ولا يصيبهم حزن على شئ .

قال جل شأنه : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شئ في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون } الأنفال : 6. ]

وهذه الآية الكريمة لا تكتفي بالوعد بأحسن الجزاء عند الإنفاق في سبيل الله وإنما توضح للمسلمين إلى جانب ذلك أوجه الإنفاق في سبيل الله تعالى .

  • ومن أوجه الإنفاق :

الإعداد لمواجهة الأعداء بكل أنواع القوة التي تدفع كيد الأعداء كالعتاد بأنواعه والمرابطة في الثغور وتجهيز المقاتلين والتكفل بأبنائهم وذويهم وتطوير السلاح بحيث يستطيع أن يواجه سلاح الأعداء .

  • وأهداف هذا الإعداد :

-إرهاب أعداء الله من الكفار الذين يتربصون حاليا بالمؤمنين ،

- إرهاب أعداء الله الذين يخططون ويدبرون للكيد للإسلام والمسلمين .

ولإنفاق المال في هذه الأوجه لتحقيق هذه الأهداف فإنما يلقى صاحبه عند الله أوفي الجزاء دون أن ينقصكم الله مثقال ذرة مما تستحقون من فضل الله .

والامتناع عن الإنفاق في سبيل الله أو الضن بالمال وعدم التضحية به عمل مستنكر لا يليق بمسلم بل عمل لا مبرر له لأن المال على وجه الحقيقة مال الله يرثه ويرث كل ما في السموات والأرض والإنفاق في سبيل قرض لله تعالى يصلح به المؤمن أحوال إخوانه في الإسلام وله على هذا القرض أحسن الجزاء .

قال الله تعالى : { وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم } الحديد 10-11 ].

وفي الآيتين الكريمتين عدة حقائق منها :

أنه ما ينبغي أن يثنى المؤمن عن الإنفاق في سبيل الله والتضحية بالمال شئ وأن إنفاق المال في سبيل الله واجب إذ المعنى أنكم ستموتون فتورثون فهلا قدمتم المال للإنفاق في سبيل الله وطاعته ؟

وأن الناس في التضحية بالمال في سبيل الله درجات فالذي يضحي بماله في وقت يكون المسلمون فيه أحوج إلى المال يكون أعلى درجة من الذي أنفق ماله في غير هذه الظروف وإن كان الاثنان مأجورين بالحسنى من الله تعالى .

وأن الله تعالى رغب المسلمين في أن ينفقوا أموالهم في نصرة المسلمين وقتال الكافرين ومواساة فقراء المسلمين وسمى ذلك الإنفاق قرضا من حيث وعد به الجنة إذا كان قرضا حسنا .

  • شروط القرض الحسن :

ولا يكون القرض حسنا كما يرى العلماء إلا إذا استوفي شروطا منها :

-أن تكون نفسه طيبة بهذه التضحية بالمال ،

-وأن يكون لوجه الله تعالى وحده ،

-وأن يكون المال الذي أنفقه من الحلال ،

-وأن يكون من أكرم ماله عليه أي يحبه ويحتاج إليه ،

-أن يكتمه إن كان صدقة تطوعية ،

-ألا يتبعه بمن ولا أذى ،

- وأن يخلو من الرياء ،

-وأن يرى أن ما ينفقه قليل ،

- وأن يرى عز الفقير وذل نفسه هو ،

-وأن يوجهه إلى الأحوج الأولى بأخذه ،

ومن كان قرضه كذلك فقد أقرض الله سبحانه عندما أقرض عباده الفقراء فضحى بماله من أجلهم وعندئذ يستحق عند الله الأجر المضاعف أي الثواب الجزيل .

وأي رفع لشأن التضحية بالمال في سبيل الله أعلى من تسميته قرضا لله تعالى ؟ وإنما هو قرض للمحتاجين من الناس لكنه التشريف لهذا العمل الجليل وفي الحديث الصحيح ما رواه أحمد بسنده عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى : ((استقرضت عبدي فلم يقرضني )) .

وهناك بعض آيات القرآن الكريم التي تهدد من دعي إلى الإنفاق في سبيل الله فيخل بماله أن يقدمه في سبيل الله مثل قوله تعالى { هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغنى وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } محمد 38 ] .

التضحية بالمال كما جاءت في السنة

قال علماء السلف : إن التقريب إلى الله بالمال نوعان :

أولا : نوع بطريق تمليك المال للغير استجابة لأمر الله وهو الصدقات ما فرض منها وما ندب إليها .

ثانيا : نوع بطريق ذبح ما يحل أكله والإسهام به في دفع حاجة المحتاجين وتأليف قلوب الأصدقاء بالهدايا .

وفي الأضحية بما يذبح هذان النوعان من التقرب إلى الله .

والتضحية بالمال معناه بذل المال للمحتاجين وردت فيه أحاديث كثيرة تصفه بالكرم والجود كما في حديث مسلم الذي رواه أبو هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا )).

وروى البيهقى بسنده عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (( إياكم والفحش فإن الله لا يحب الفاحش المتفحش وإياكم والظلم فإنه عند الله ظلمة يوم القيامة وإياكم والشح والبخل فإنه دعا من قبلكم إلى أن يقطعوا أرحامهم فقطعوها ودعا إلى أن يستحلوا محارمهم فاستحلوها ودعا إلى أن يسفكوا دماءهم فسفكوها )).

وروى البيهقى بسنده عن عبد الله بن عمر رضى الله عنه قال قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم (( خلتان يحبهما الله وخلتان الله فأما اللذان يحبهما الله فالسخاء والسماحة وأما اللذان يبغضهما الله فسوء الخلق والبخل فإذا أراد الله بعبد خيرا استعمله على قضاء حوائج الناس )) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفي هذا الباب أحاديث كثيرة نذكر منها :

ما رواه الدارمى بسنده عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال : قيل يا رسول الله أي الناس أفضل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله قالوا ثم من ؟ قال مؤمن في شعب من الشعاب يتقى الله ويدع الناس من شره )).

-وروى النسائي بسنده عن سبرة بن أبى فاكه رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه فقعد له بطريق الإسلام فقال : تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك ؟ فعصا فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال : تهاجر وتدع أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول (الحبل يربط في يد الدابة ) فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال : تجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصاه فجاهد .

فمن فعل ذلك كان حقا على الله أن يدخله الجنة ومن قتل كان حقا على الله أن يدخله الجنة وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة وإن وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة )) .

- وروى البيهقى بسنده عن عتبة بن عبد السلمي وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((القتلى ثلاثة : رجل مؤمن جاهد بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل فذلك الشهيد الممتحن في جنة الله تحت عرش لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة ورجل مؤمن فرق (خاف) على نفسه من الذنوب والخطايا جاهد بماله ونفسه في سبيل الله حتى إذا لقي العدو وقاتل حتى يقتل فتلك مخمصة تحط من ذنوبه وخطاياه إن السيف محاء الخطايا وأدخل من أي أبواب الجنة شاء فإن لها ثمانية أبواب ولجهنم سبعة أبواب وبعضها أفضل من بعض ورجل منافق جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقي العدو قاتل في سبيل الله حتى يقتل فإن ذلك في النار إن السيف لا يمحو النفاق )).

- وروى أبو داود بسنده عن معاذ رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الغزو غزوان فأما من غزا ابتغاء وجه الله تعالى وأطاع الإمام وأنفق الكريمة (أي من المال ) وياسر الشريك واجتنب الفساد في الأرض فإن لن يرجع بالكفاف )).

- وروى مسلم بسنده عن ابن مسعود رضى الله عنه أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بناقة مزمومة (أي مربوطة بزمامها - أي لجامها ) صدقة يعنى في سبيل الله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ولك يوم القيامة بها سبعمائة ناقة مزمومة )) .

- وروى الترمذى بسنده عن خزيم بن فاتك الأسدى رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من أنفق نفقة في سبيل الله كتب له سبعمائة ضعف )).

- وروى الدارمى بسنده عن صعصعة بن معاوية قال : لقيت أبا ذر رضى الله عنه وهو يسوق جملا له أو يقوده في عنقه قربة قلت : يا أبا ذر مالك ملك ؟ قال : لي عملي فقلت : مالك ؟ قال : لي عملي قلت : حدثني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (( ما من مسلم أنفق زوجين من مال في سبيل الله إلا ابتدرته حجبة الجنة ))قال أبو محمد :((زوجين أي درهمين أو أمتين أو عبدين أو دابتين )).

- وروى الإمام أحمد بسنده عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ومن أنفق زوجاً أو قال زوجين من ماله أراه قال : في سبيل الله دعته خزنة الجنة يا مسلم هذا خير هلم إليه قال أبو بكر رضى الله عنه : هذا رجل لا تردى عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما نفعني مال قط إلا أبى بكر فبكى أبو بكر رضى الله عنه وقال : وهل نفعني الله إلا بك وهل نفعني الله إلا بك وهل نفعني الله إلا بك ؟!)) .

- وروى البيهقى بسنده في كتابه شعب الإيمان عن محمد بن عقبة القاضي عن أبيه عن جده قال : أتينا تميما الدارى رضى الله عنه وهو يعالج شعيرا لفرسه فقلنا له : يا أبا رقية أما لك من يكفيك ؟ (أي يكفيك خدمة فرسك ) قال : بلى ولكنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من ارتبط فرسا في سبيل الله عز وجل عالج علفه بيده كان له بكل خبة حسنة )) .

- وروى البيهقى بسنده عن صعصعة بن معاوية قال : دخلت على أبى ذر رضى الله عنه قال : قلت مالك؟ قال : لي عملي لي عملي لي عملي قلت : حدثني رحمك الله قال : نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما من عبد ملم ينفق من ماله زوجين في سبيل الله تعالى : إن كانت رجلا فرجلين وإن كانت إبلا فبعيرين وإن كانت بقرا فبقرتين )).

فهذه هي التضحية في السنة النبوية المطهرة في مجال بذل المال وإنفاقه في سبيل الله تعالى وبذل كل ما دون النفس من جهد وقت وإمكانات فهي واجب شرعي .

التضحية واجب شرعي

هذه التضحية بالنفس والمال والوقت والحياة وكل شئ في سبيل الله قد تكون واجباً لا فكاك عنه إذا كان لابد منها لدفع ضرر عن المسلمين أو رد عدو عن أرضهم .

وقد تكون التضحية مندوبا إليها ومستحبة عما لا تكون واجبة وقد طالب الإسلام المسلمين بالتضحية في سبيل الله ووعد بالجزاء عليها أحسن الجزاء وبالأضعاف المضاعفة ودلت على ذلك نصوص إسلامية كثيرة من الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة ونكتفي بالاستشهاد بالمثال أ المثالين محيلين من أراد أكثر من ذلك إلى كتاب الله سنة رسوله صلى الله عليه سلم .

قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } الحشر 18 ].

قد جاء في تفسير هذه الآية الكريمة ما ذكره ابن كثير القرشي قال : روى الإمام أحمد بسنده عن جرير بن عبد الله عن أبيه رضى الله عنه قال :

((كنا عند رسول الله صلى الله عليه سلم صدر النهار فجاءه قوم حفاة عراة مجتابى النمار أو العباء متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأي بهم من الفاقة ،

قال : فدخل ثم خرج فأمر بلال فإذن وأقام الصلاة فصلى أي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خطب فقال :

{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زجها وبث منهما رجالاً كثيرا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا } النساء 1 ] .

ثم قرأ : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال : ولو بشق تمرة

قال : فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه كأنه مذهبة .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شئ ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شئ )) .

أخرجه الإمام مسلم والترمذى والنسائي وابن ماجة بأسانيدهم عن جرير بن عبد الله رضى الله عنه

فالتضحية كما يفهم من نصوص الكتاب السنة إما أن تكون واجبا وإما أن تكون مستحبا والمسلم مطالب بالتضحية على كل حال .

والضحية في حياة المسلمين هي التي تغذى الجهاد في سبيل الله وتمده بأسباب القوة وتهيئ له الاستمرار حتى الوصول إلى إحدى الحسنيين : النصر على العدو في المعركة أو الاستشهاد في سبيل الله .

والجهاد في سبيل الله هو الذي يحمى الإسلام والمسلمين من أعدائهم الذين يواجهونهم ومن أعدائهم الذين لا يعلمونهم ولكن يعلمهم الله تعالى وهل يتصور الجهاد بغير تضحية ؟

وإذا قلنا كما هو مقرر إن الجهاد قد يكون فرض عين وقد يكون فرض كفاية وقد يكون مندوبا إليه فإن التضحية في سبيل الله كذلك .

والتضحية هي التي تغذى الجهاد في سبيل الله وتمكن المسلمين من نشر دعوة الإسلام بين الناس والدعوة إلى الله كما نعلم واجب شرعي فرضه الله على القادرين عليه ولا يمكن أن يتم هذا الواجب إلا بالتضحية التضحية بالمال والوقت والجهد في سبيل نشر الدعوة الإسلامية .

وسنعرض بعض المواقف الإيمانية في الإنفاق في سبيل الله عز وجل مبتدئين برسول الله صلى الله عليه وسلم :

رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائل البردة

عن سهل بن سعد قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ببردة فقالت : يا رسول الله أكسوك هذه فأخذها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم محتاجاً إليها فلبسها فرآها عليه رجل من الصحابة فقال : يا رسول الله ما أحسن هذه فاكسنيها فقال : نعم )) فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم لامه أصحابه فقالوا : ما أحسنت حين رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجاً إليها ثم سألته إياها ، وقد عرفت أنه لا يُسأَلُ عن شيئاً فيمنعه ، فقال : رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم لعلى أُكفَّن فيها ) .

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان ، كما في حديث ابن عباس رضى الله عنه .

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه لا يسأل شيئاً فيقول : لا .

وفي صحيح مسلم عن أنس رضى الله عنه قال : ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه ، فجاء رجل فأعطاه غنماً بين جبلين ، فرجع إلى قومه فقال : يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطى عطاء من لا يخشى الفاقة .

والأحاديث عن عطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذله لا تعد ولا تحصى فهي مصاحبة لحياته كلها لا نستطيع أن نحصيها .

- مع أبى بكر الصديق رضى الله عنه :

عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً أن نتصدق ، فوافق ذلك مالاً عندي ، فقلت : اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً ، فجئت بنصف مالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما أبقيت لأهلك ؟ فقال : مثله ، قال : وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أبقيت لأهلك ؟ قال : أبقيت لهم الله ورسوله ، قلت لا أسابقك إلى شئ أبداً ) .

فقد كان أبو بكر رضى الله عنه أجود الصحابة الكرام ، واسبقهم إلى كل خير .

وكان عمر رضى الله عنه يقول : أبا بكر سيدنا وأعتق بلالاً سيدنا ، ولقد تحدثنا عن إنفاقه من قبل ، ومن المعروف أن الصحابة رضوان الله عليهم سبقوا إلى كل خير ، وتسابقوا في الخيرات عملاً بقول الله عز وجل { فاستبقوا الخيرات } البقرة 148 وبقوله عز وجل { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض } الحديد 21 .

مواقف من تضحية الصحابة رضوان الله عليهم

- مع عثمان بن عفان رضى الله عنه :

عن ثمامة بن حزن القشيرى قال : شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان فقال : ائتوني بصاحبيكم اللذين ألَّباكم علىّ ؟

قال : فجئ بهما كأنهما جملان أو كأنهما حماران ، قال : فأشرف عليهم عثمان .

فقال : أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غبر بئر رومة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من يشترى بئر رومة فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة ) فاشتريتها من صلب مالي ، فأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب منها حتى أشرب من ماء البحر : قالوا اللهم نعم .

فقال : أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من يشترى بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة ) فاشتريتها من صلب مالي ، وأنتم اليوم تمنعوني أن أصلى فيها ركعتين ؟ قالوا : اللهم نعم .

قال : أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أنى جهزت جيش العسرة من مالي ؟ قالوا : اللهم نعم .

قال : أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على ثبير مكة ومعه أبو بكر وعمر وأنا ، فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض قال : فركضه رجله فقال :( اسكن ثبير فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان ) .

قالوا : اللهم نعم ، قال : الله أكبر شهدوا لي ورب الكعبة أنى شهيد ثلاثاً .

- مع صهيب بن سنان رضى الله عنه :

لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وخرج معه أبو بكر رضى الله عنه يقول صهيب : وكنت قد هممت بالخروج معه فصدني فتيان قريش .... وقالوا : أتيتنا صعلوكاً حقيراً ثم أصبت بين أظهرنا المال ، وبلغت الذي بلغت ثم تريد أن تخرج أنت ومالك ؟ والله لا يكون ذلك ، فقال صهيب : أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون أنتم سبيلي ؟ فقالوا : نعم ، فخلع لهم ماله ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ربح صهيب ، ربح صهيب .. ونزلت على النبي صلى الله عليه وسلم { ومن الناس من يشر نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد } البقرة 2.7 ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال : أبا يحي ربيع البيع ، وتلا عليه الآية .

فهذا موقف جليل لصهيب بن سنان رضى الله عنه حيث ضحى بماله وفدى به دينه ، وهو نموذج لعموم المهاجرين الذين تركوا أموالهم التي لا يمكن نقلها كالبيوت وبعض الأموال الأخرى التي غلبهم عليها الكفار ، كما تركوا مصالحهم التجارية حيث كان أهل مكة يتمتعون برحلتي الشتاء و الصيف لليمن و الشام ووفادة العرب على مكة ، تركوا ذلك ابتغاء مرضاة الله .

وهذا دليل على أن الكفار وأعداء الإسلام أصحاب مصالح وليسوا أصحاب مبادئ فهم ينظرون أولاً وقبل كل شئ إلى مصالحهم الخاصة من وقاية أنفسهم وحصولهم على أكبر قدر ممكن من متاع الدنيا ، أما النظر إلى المبادئ المقدسة عندهم فهو أمر ثانوي ، بخلاف المسلمين الذين يعتبرون الإسلام هو المطلب الأسمى و القضية الكبرى ، كما فعل صهيب وغيره من الصحابة رضى الله عنهم ، وهذا هو أحد أسرار انتصار المسلمين الساحق على الكفار رغم ضعف المسلمين الواضح من الناحية المادية .

فانظر إلى ذلك المهاجر الذي كان يترك أهله ، ويفارق أرضه في مكة ، ويفر بدينه مضحياً بكل ما يملك ، كان يجد أمامه صوراً أخرى من التضحيات ، كان يجد أبناء الإسلام من فتيان يثرب ينظرون وكلهم شوق إليه ، وحب له وسرور بمقدمه ، وما كان لهم سابق معرفة ولا قديم صلة ، وما ربطهم وشيجة من صهر أو عمومة ، ما دفعتهم إليه غاية أو منفعة ، وإنما هي عقيدة الإسلام إلى جعلهم يضحون بكل ما يملكون ، لدرجة أنهم يعدونه جزءاً من أنفسهم ، وشقيقاً لأرواحهم ، وما هو إلا أن يصل إلى المسجد حي يلف حوله الغر الميامين من الأوس و الخزرج ، كلهم يدعوه إلى أبيه ويؤثره على نفسه ويفديه بروحه وعياله ، ويتشبث بمطلبه هذا حي يؤول الأمر إلى الاقتراع ، فلقد روى الإمام البخاري ما معناه :( ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة ) وحي خلَّد القرآن للأنصار ذلك الفضل أبد الدهر ، فما زال يبدو غرة مشرقة في جبين السنين في قول الله تبارك وتعالى { و الذين بوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أووا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } الحشر 9

إن هؤلاء الرجال لا يبخلون على دعوهم يوماً من الأيام بقوت أولادهم ، وعصارة دمائهم ، وثمن ضرورياتهم و الفائض من نفقاتهم ، وأنهم يوم أن حملوا هذا العبء عرفوا جيداً أنها دعوة لا رضى بأقل من الدم و المال ، فخرجوا عن ذلك كله ، وفقهوا معنى قوله تعالى { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } التوبة 111 فقبلوا البيع وقدموا البضاعة عن رضى وطيب نفس معتقدين أن الفضل كله لله فاستغنوا بما في أيديهم عما في أيدي الناس ، منحهم الله البركة في القليل فأنتج الكثير ... وهكذا يجب أن يكون حال الدعاة الصادقين .

ذلك لأن هذه الدعوة لا تنتصر إلا بالجهاد و التضحية ، والبذل وتقديم النفس و المال ، ولذلك قدم هؤلاء الرجال النفوس وبذلوا الأرواح ، وجاهدوا في الله حق جهاده ، وسمعوا هاتف الرحمن يهتف بهم { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين } التوبة 24 فأصاخوا للنذير ، وخرجوا عن كل شئ طيبة بذلك نفوسهم ، راضية قلوبهم مستبشرين ببيعهم الذي بايعوا الله به .

يعانق أحدهم الموت وهو يهتف : ركضاً إلى الله بغير زاد ، ويبذل أحدهم المال كله قائلاً : أبقيت لعيالي الله ورسوله ، ويخطر أحدهم و السيف على عنقه :

ولست أبالي حين أقتل مسلما ً

على أي جنب كان في الله مصرعي

كذلك كانوا : صدق جهاد ، وعظيم تضحية ، وكبير بذل ، وكذلك يجب علينا أن نكون مثلهم .

- مع عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه :

عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  :( خيركم خيركم لأهلي من بعدي )

قال : فباع عبد الرحمن بن عوف حديقة بأربعمائة ألف ، فقسمها في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .

وعن أم بكر بنت مسور أن عبد الرحمن بن عوف باع أرضاً له من عثمان بأربعين ألف دينار ، فقسم ذلك في فقراء بنى زهرة ، وفي ذي الحاجات من الناس ، وفي أمهات المؤمنين .

قال المسور : فأتيت عائشة بنصيبها من ذلك فقالت : من أرسل بهذا ؟

قلت : عبد الرحمن بن عوف ، فقالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لا يحنو عليكن بعدي إلا الصابرون ) سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة .

- مع طلحة بن عبيد الله رضى الله عنه :

سأله أحدهم وتقرب إليه برحم فأعطاه ثلاثمائة ألف .

وعن موسى عن أبيه أنه أتاه مال من حضرموت سبعمائة ألف ، فبات ليلته يتململ ، فقالت له زوجته : مالك ؟ قال : تفركت منذ الليلة فقلت : ما ظن رجل بربه يبيت وهذا المال في بيته ؟ قلت : فأين أنت من بعض أخلائك فإذا أصبحت فادع بجفان وقصاع فقسمه فقال لها : رحمك الله إنك موفقة بنت موفق وهى أم كلثوم بنت الصديق ، فلما أصبح دعا بجفان فقسمها بين المهاجرين والأنصار ، فبعث إلى على منها بجفنة .

فقالت له زوجته : أبا محمد أما كان لنا في هذا المال من نصيب ؟ قال : فأين كنت منذ اليوم ؟ فشأنك ما بقى ، قال : فكان صرة فيها نحو ألف درهم .

وعن علىّ بن زيد قال : جاء أعرابي إلى طلحة يسأله ، فتقرب إليه برحم فقال : إن هذه لرحم ما سألني بها أحد قبلك ، إن لي أرضاً قد أعطاني بها عثمان ثلاثمائة ألف فاقبضها ، وإن شئت بعتها من عثمان ، ودفعت إليك الثمن فقال : الثمن ، فأعطاه .

إنه طلحة الخير ، وطلحة الفياض ، وطلحة الجود .

- مع أبى طلحة الأنصاري :

عن أنس ابن مالك رضى الله عنه قال : ( كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس : فلما أنزلت هذه الآية { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } آل عمران 92 ] . قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وإن أحب أموالي إلى بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبنى عمه )) .

- مع أبى الدحداح الأنصاري رضى الله عنه :

قال الحافظ : روى أحمد والبغوى والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رجلاً قال : يا رسول الله : إن لفلان نخلة وأنا أقيم حائطي بها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ((أعطه إياها بنخلة في الجنة )) فأبى قال فأتاه أبو الدحداح فقال : بعني نخلتك بحائطي قال / ففعل فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ابتعت النخلة بحائطي فاجعلها له فقد أعطيتكها .

فقال : ((كم من عذق وداح لأبى الدحداح في الجنة )) قالها مراراً قال : فأتى امرأته فقال : يا أم الدحداح اخرجي من الحائط فإني قد بعته بنخلة في الجنة فقال : ربح البيع أو كلمة تشبهها .

فانظر إلى صدق الإيمان كيف يدفع إلى البذل والنفقة في سبيل الله عز وجل كما قال تعالى { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } الحجرات 15 .

- مع عائشة رضى الله عنها :

عن أم ذرة وكانت تغشى عائشة قالت : بعث إليها الزبير بمال في غرارتين . قالت : أراه ثمانين ومائة ألف فدعت بطبق وهى يومئذ صائمه فجلس تقسمه بين الناس فأمست وما عندها من ذلك درهم فلما أمست قالت : يا جارية هلمي فطرى فجاءتها بخبز وزيت فقالت لها أم ذرة أما استطعت مما قسمت اليوم أن نشترى لنا بدرهم لحماً نفطر عليه ؟ فقالت لها : لا تعنفيني لو كنت ذكرتينى لفعلت

وعن عروة قال : لقد رأيت عائشة تقسم سبعين ألفا وهى ترفع درعها .

فرحم الله أم المؤمنين ورضى الله عنها وقد امتلأ قلبها وبالإيمان ومحبة الرحمن حتى نسيت إلى جنب ذلك نفسها وهى صائمة والعبد إذا أكثر من طاعة الرحمن تكون سعادته في الطاعة والإنفاق والصيام والقيام فليست سعادتهم في الشراب والطعام وهكذا المؤمن تحبب إليه الطاعات والقربات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :(( وجعلت قرة عيني في الصلاة )) وكان يواصل وينهى عن الوصال فيقال له : إنك تواصل فيقول : (( إني لست كهيئتكم إني أبيت لي معكم يطعمني وساق يسقيني )) .

* مع أبى عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل رضى الله عنهما :

روى مالك الدار قال : إن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرة فقال للغلام : أذهب بها إلى أبى عبيدة ثم تله ساعة في البيت حتى تنظر ما يصنع .

قال : فذهب بها الغلام فقال : يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك قال : وصله الله ورحمه ثم قال : تعالى يا جارية : اذهبي بهذه السبعة إلى فلان وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها .

فرجع الغلام إلى عمر وأخبره فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل فقال : أذهب بها إلى معاذ بن جبل وتله في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع .

فذهب بها إليه فقال : يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك فقال : رحمه الله ووصله : تعالى يا جارية اذهبي إلى بيت فلان بكذا واذهبي إلى بيت فلان بكذا .

فاطلعت امرأة معاذ فقالت : نحن والله مساكين فأعطنا ولم يتبق من الحرقة إلا ديناران فدحا بهما إليها فرجع الغلام إلى عمر فأخبره بذلك فسر بذلك وقال إنهم إخوة بعضهم من بعض .

- مع أبى أمامة رضى الله عنه

عن عبد الرحمن بن يريد بن جابر قال : حدثتني مولاة أبي أمامة قالت : كان أبو أمامة يحب الصدقة ويجمع لها وما يرد سائلاً ولو ببصلة أو بتمرة أو بشيء مما يؤكل .

فأتاه سائل ذات يوم وقد افتقر من ذلك كله وما عنده إلا ثلاثة دنانير فسأله فأعطاه ديناراً ثم أتاه سائل فأعطاه ديناراً ثم أتاه سائل فأعطاه ديناراً .

قالت : فغضبت وقلت : لم تترك لنا شيئاً .

قالت : فوضع رأسه للقائلة فلما نودي للعصر أيقظته فتوضأ وراح إلى المسجد فرفقت عليه صائماً فتقرضت وجعلت له عشاء ً وأسرجت له سراجاً وجئت إلى فراشه لأمهد له فإذا بذهب فعددتها فإذا ثلائمائة دينار قلت : ما صنع الذي صنع إلا وقد وثق بما خلف فأقبل بعد العشاء فلما رأي المائدة ورأي السراج تبسم وقال : هذا خير من عنده .

قالت : قمت على رأسه حتى تعشى فقلت : يرحمك الله خلفت هذه النفقة سبيل ولم تخبرني فأرفعها قال : وأي نفقه؟! ما خلفت شيئاً .

قالت : فرفعت الفراش فلما أن رآه فرج واشتد عجبه .

قالت : فقمت فقطعت زنارى وأسلمت .

قال ابن جابر : فأدركتها في مسجد حمص وهى تعلم النساء القرآن والسنن والفرائض وتفقههن في الدين .

إن صحت الرواية فهي كرامة لأبى أمامة رضى الله عنه ومن أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء وهى كثيرة في الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح رضى الله عنه فمن ذلك قوله عز وجل { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله يرزق من يشاء بغير حساب } آل عمران 37 )

وكذا قصة أصحاب الكهف وفي الصحيح قصة قصعة الصديق رضى الله عنه وكان حبيب ابن عدى يؤتى بقطف من العنف وهو أسير بمكة وما بمكة ثمرة ومن أولى بالكرامة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنهم أجمعين .

- مع عبد الله بن عمر :

عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال : أعطى ابن جعفر عبد الله بن عمر بنافع عشرة آلاف أو ألف دينار فدخل عبد الله على صفية فقال لها : إنه أعطاني ابن جعفر بنافع عشرة آلف أو ألف دينار فقالت : يا أبا عبد الرحمن فما تنتظر أن تبيعه ؟ فقال : فهلاً ما هو خير من ذلك هو لوجه الله قال أبى : فكان يخيل إلى أن عبد الله ابن عمر كان ينوى قول الله عز وجل { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } آل عمران 92 .

وعن عبيد الله عن نافع قال : ما أعجب ابن عمر شئ من ماله إلا قدمه بينا هو يسير على ناقته إذ أعجبته فقال : إخ إخ فأناخها وقال : يا نافع حط عنها الرحل فجللها وقلدها وجعلها في بدنه .

وعن محمد بن زيد عن أبيه أن ابن عمر كاتب غلاماً له بأربعين ألفاً فخرج إلى الكوفة يعمل على حمر له حتى أدى خمسة عشر ألفاً فجاءه إنسان فقال : أمجنون أنت ؟ أنت هاهنا تعذب نفسك وابن عمر يشترى الرقيق يميناً وشمالاً ثم يعتقهم ارجع إليه فقل : عجزت فجاء إليه بصحيفة فقال : يا أبا عبد الرحمن قد عجزت وهذه صحيفتي فامحها فقال : لا ولكن امحها أنت إن شئت فمحاها ففاضت عينا عبد الله وقال : اذهب أنت حر قال : أصلحك الله أحسن إلى ابني قال : هما حران قال : أصلحك الله أحسن إلى أمي ولدى قال هما حرتان .

وعن ابن عمر قال : خطرت هذه الآية ببالي { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } آل عمران: 92 ]. ففكرت فيما أعطاني الله عز وجل فما وجدت شيئاً أحب إلى من جاريتي رميثة فقلت : هي حرة لوجه الله فلولا أنى لا أعود في شئ جعلته لله لنكحتها فأنحكها نافعاً فهي أم ولده .

مع شعبة بن الحجاج رضى الله عنه :

عن النضر بن شميل قال : ما رأيت أرحم لمسكين من شعبة إذا رأي المسكين لا يزال ينظر إليه حتى يغيب عن وجهه .

وقال يحيى القطان : كان شعبة من أرق الناس يعطى السائل ما أمكنه .

وعن أبى داود الطيالسى قال : كنا عند شعبة فجاء سليمان بن المغيرة يبكى فقال له شعبة : ما يبكيك يا أبا سعيد ؟ قال : مات حماري وذهبت منى الجمعة وذهبت حوائجي قال : فبكم أخذته : قال بثلاثة دنانير قال : فعندي ثلاثة دنانير والله ما أملك غيرها يا غلام هات تلك الصرة فإذا فيها ثلاثة دنانير فدفعها إليه وقال : اشتر بها حماراً ولا تبك .

وعن أبى داود قال : كنا عند شعبة نكتب ما يملى فسأل سائل فقال شعبة : تصدقوا فلم يتصدق أحد فقال : تصدقوا فإن أبا إسحاق حدثني عن عبد الله بن معقل عن عدى بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( اتقوا النار ولو بشق تمرة )) قال : فلم يتصدق أحد فقال : فإن عمرو بن مرة حدثني عن خيثمة عن عدى بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة )) . فلم يتصدق أحد فقال : تصدقوا فإن محلاً الضبي حدثني عن عدى بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((استتروا من النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة )) فلم يتصدق أحد فقال : قوموا عنى فوا الله لا حدثتكم ثلاثة أشهر ثم دخل منزله فأخرج عجيناً فأعطاه السائل فقال : خذ هذا فإنه طعامنا اليوم .

وعن سليمان بن حرب قال : لو نظرت إلى ثياب شعبة لم تكن تساوى عشرة دراهم إزاره ورداؤه وقميصه وكان شيخاً كثير الصدقة .

فمع أنه رحمه الله كان فقيراً وكان جلده قد لصق على عظمه ليس بينهما لحم وكان إذا حك جلده تساقط التراب إلا أنه سخي النفس كريم الطبع وكم من أناس يملكون الأموال الضخمة الفخمة ومع ذلك جبلوا على البخل والشح فلا ينفقون إلا على شهوات نفوسهم ولا يتصدقون عليها { ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغنى وأنتم الفقراء } محمد : 38 ].

* مع الأعمى في قصة الثلاثة من بنى إسرائيل :

عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :(( إن ثلاثة من بنى إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى بدا لله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص فقال :أي شئ أحب إليك ؟ قال : لون حسن و جلد حسن قد قذرنى الناس قال : فمسه فذهب عنه فأعطى لونا حسنا وجلداً حسناً .

فقال : أي المال أحب إليك ؟ قال : الإبل أو قال : البقر هو شك في ذلك أن الأبرص والأقرع قال أحدهما : الإبل وقال الآخر : البقر فأعطى ناقة عشراء فقال : يبارك لك فيها .

وأتى الأقرع فقال : أي شئ أحب إليك : قال : شعر حسن ويذهب عنى هذا قد قذرنى الناس قال: فمسحه فذهب وأعطى شعراً حسناً قال فأي المال أحب إليك ؟ قال : البقر قال : فأعطاه بقراً حاملاً وقال : يبارك لك فيها .

وأتى الأعمى فقال : أي شئ أحب إليك قال : يرد الله إلى بصري فأبصر به الناس قال : فمسحه فرد الله إليه بصره قال فأي المال أحب إليك ؟ قال : الغنم فأعطاه شاة والداً .

فأنتج هذان وولد هذا فكان لهذا من الإبل ولهذا واد من البقر ولهذا واد من غنم .

ثم أنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال . رجل مسكين تقطعت بي الحبال في سفرة فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيراً أتبلغ عليه في سفره فقال له إن الحقوق كثرة فقال له كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس فأعطاك الله؟ فقال لقد ورثت لكبار عن كابر .

فقال : إني كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت

وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا فرد عليه مثل ما رد عليه هذا .

فقال : إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت .

وأتى الأعمى في صورته فقال : رجل مسكين وابن سبيل وتقطعت به الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري ، فقال : قد كنت أعمى فرد الله علىّ بصري، وفقيراً فقد أغناني فخذ ما شئت ، فوا الله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله فقال : أمسك مالك ، فإنما ابتليتم فقد رضى الله عنك ، وسخط على صاحبيك ) .

قال الدكتور عمر الأشقر : أما الأعمى فقد كان ذا نفس صافية عامرة بالإيمان و التقوى ، فذكره بصورته وحاله التي كان عليها قبل أن يرد الله عليه بصره ، ويعطيه ما أعطاه من المال ، وكشف للسائل حقيقة ما كان عليه من قبل :( قد كنت أعمى فرد الله علىّ بصري وفقيراً فقد أغناني ) .

ولم يجد له بشاة واحدة ، إنما ترك له الخيار أن يأخذ ما يشاء ، ويترك ما يشاء ، وقال للسائل :( فخذ ما شئت فوا الله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله ) عند ذلك كشف الملك له عن حقيقته وقال له :( أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضى الله عنك ، وسخط عن صاحبيك ) إن هؤلاء الثلاثة يمثلون أنموذجين مختلفين ، أنموذج الشاكر لأنعم الله ، و الكافر بها وبالشكر تدوم النعم ، وبالكفر يكون زوالها وبوارها .

- مع عبد الله بن جعفر رضى الله عنه :

عن هشام ابن عروة عن أبيه قال : كتب رجل إلى عبد الله بن جعفر رقعة فجعلها في ثنى وسادته التي يتكئ عليها فقلب عبد الله الوسادة فبصر بالرقعة فقرأها وردها في موضعها وجعل مكانها كيساً فيه خمسة آلاف دينار ، فجاء الرجل فدخل عليه فقال : اقلب الرقعة فانظر تحتها فخذه ، فأخذ الرجل الكيس فخرج فأنشأ يقول :

زاد معروفك عرفاً عظيماً

أنه عندك مستور حقير

تتناساه كأن لم تأته

وهو عند الناس مشهور كبير

وعن الشعبي قال : كان لعبد الله بن جعفر على رجل من أهل المدينة خمسون ألفا فاستعان عليها بعبيد الله بن عباس في ذلك فقال : قد حططت عنه شطرها وأخزته بالشطر الآخر إلى ميسرة قال : فجزاه عبيد الله خيراً وانصرف فأتبعه ابن جعفر رسولاً: إني قد طيبت له النصف الآخر .

عن الداودى قال : قيل لمعاوية بن عبد الله بن جعفر : ما بلغ من كرم عبد الله بن جعفر ؟ قال : كان ليس له مال دون الناس هو والناس في ماله شركاء من سأله شيئاً أعطاه ومن استمنحه شيئاً منحه إياه لا يرى أن يفتقر فيقتصر ولا يرى أنه يحتاج فيدخر .

* مع عبد الله بن المبارك رضى الله عنه :

قال محمد بن عيسى : كان المبارك كثير الاختلاف إلى طرسوس وكان ينزل الرقة في خان فكان شاب يختلف إليه ويقوم بحوائجه ويسمع منه الحديث فقدم عبد الله مرة فلم يره فخرج في النفير مستعجلاً فلما رجع سأل عن الشاب فقيل له : محبوس على عشرة آلاف درهم فاستدل على الغريم ووزن له عشرة آلاف وحلفه ألا يخبر أحداً ما عاش فأخرج الرجل وسرى ابن المبارك فلحقه الفتى على مرحلتين من الرقة فقال له : يا فتى أين كنت ؟ لم أرك قال : يا أبا عبد الرحمن كنت محبوساً بدين . قال : وكيف خلصت ؟ قال : جاء رجل فقضى ديني ولم أدر قال : فاحمد الله ولم يعلم الرجل إلا بعد موت ابن المبارك .

وإذا كانت هذه أمثلة حية للصحابة والتابعين ومن بعدهم فإن هناك أمثلة حية في عصرنا الحديث أكتفي بضرب المثل بالقليل منها .

نماذج معاصرة

  • مجاهدون بأموالنا :

جاء مبعوث من السفارة الإنجليزية إلى دار المركز العام وقابل الإمام الشهيد وقال له : إن الإمبراطورية من خططها مساعدة الجمعيات الدينية والاجتماعية وهى تقدر جهودكم ونفقاتكم .. لذلك فهي تعرض عليكم خدماتها بدون مقابل وقد قدمنا مساعدات لجمعية كذا وكذا .. ولفلان وفلان .. وهذا شيك بعشرة آلاف جنيه معاونة للجماعة .

فتبسم الإمام الشهيد وقال :

إنكم في حالة حرب وأنتم أكثر احتياجاً إلى هذا الآلاف .

فأخذ المبعوث يزيد في المبلغ والإمام يرفض .

وكان بعض الإخوة يتعجبون ويتهامسون :

لم لا نأخذ المال ونستعين به عليهم .

فكان جواب الإمام الشهيد : إن اليد التي تمتد لا تستطيع أن ترتد واليد التي تأخذ العطاء لا تستطيع أن تضرب .

إننا مجاهدون بأموالنا لا بأموال غيرنا وبأنفسنا لا بأرواح غيرنا .

  • تعفف عن الهدايا :

في السنة التي حج فيها الأستاذ الهضيبى منحه الملك سعود هدية .

قال لرجال القصر : لا أستطيع قبول مثل هذه المنح .

فألحوا عليه وذكروا محاسن القبول ومساوئ الرد .

فقبل أخيراً ولكنه أودع الهدية في خزانة الجماعة .

  • تحويل الشيك :

أرسلت وزارة الثقافة بدولة الإمارات دعوة للأستاذ عمر التلمسانى عام 1982 م فلبى الدعوة .

وألقى محاضرة في النادي الثقافي بأبي ظبي حيث جاء جمع غفير ملأ القاعة وخارج القاعة ولم يأت قبله مثله كما عقد التليفزيون عدة ندوات مع الأستاذ المرشد وكذلك جريدة الاتحاد ...

وفي نهاية الزيارة قدمت الوزارة تحية لضيفها الكبير شيكاً بخمسة وثلاثين ألف درهم فشكر الأستاذ عمر لهم هذا الصنيع الكريم .

ثم قال للأستاذ جابر رزق في الحال :

-حول هذا الشيك إلى المجاهدين الأفغان .

ندوة بلا أجر :

عقدت إحدى المجلات الدينية ندوة دعت إليها الأستاذ عمر التلمسانى فلبى الدعوة . ثم قدم إليه موظف ورقة وطلب منه التوقيع عليه فقال الأستاذ : ما هذا ؟

قال : لو كنت أعلم أن الدعوة إلى الله تدفعون لها مقابل لما حضرت .

قال : مصاريف الركوب والانتقال .

قال : عندي سيارة أعدها الإخوان لمثل هذه الأمور .

قال : ولكنهم جميعاً يأخذون .

قال : أنا لست من هذا الجميع أنا رجل على باب الله وانصرف دون قبض أو توقيع .

  • محاولة للرشوة :

قابل الأستاذ عمر التلمسانى أحد رؤساء الوزارات المصرية في عهد السادات وتبادلا الحديث وفي النهاية قال رئيس الوزراء : كيف أحوالكم المالية ؟

فقال الأستاذ المرشد : بخير والحمد لله مستورة .

فقال : إن الدولة تدعم كل الصحف والمجلات المصرية .

ومجلة الدعوة كمجلة إسلامية أحق بهذا الدعم .

فقال الأستاذ وهو يتمالك أعصابه :

يا شيخ .. سايق عليك النبي ماتكلمنيش في هذه الناحية .

  • ما جئت جابيا :

ذهب الأستاذ عمر التلمسانى لأداء فريضة الحج .

ولقيه أحد الإخوة وقال له : إن شخصية كبيرة من السعودية تريد مقابلتك .

فقبل الأستاذ وحدد الموعد .

وأثناء اللقاء تحدث هذا الكبير عن الدعوة الإسلامية ومستقبلها ... ثم عرج على مجلة الدعوة وكانت لم تصدر بعد .

وقال : إنه يريد تدعيمها .. فأدرك الأستاذ هدفه وقال مقاطعاً : سيادتكم طلبتم مقابلتي كداعية لا كجاب فأنا جئت داعياً لا جابياً .

ولو كنت أعلم أنك ستتحدث معي في مسألة نقود لاعتذرت ولذلك أرجو أن تسمح لي سيادتكم بالانصراف .

هذا لا يأخذ أجرا :

انتدب الأزهر الأستاذ عمر التلمساني لإلقاء بعض المحاضرات في الشريعة والقانون بالجامعة .

وكان ذلك أيام فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود .

فلما جاء كشف صرف المكافآت للسادة الأستاذة المحاضرين المنتدبين إذا بالدكتور عبد الحليم محمود يجد اسم الأستاذ عمر التلمسانى مدرجاً بالكشف فقال للمسئول : ارفع اسم الأستاذ عمر من الكشف هذا لا يأخذ أجراً (ده مش بتاع كده ) .

ودار حوار ولم يرفع المسئول اسم الأستاذ عمر

ولما حان وقت صرف المكافآت ذهب المسئول بالكشف للأستاذ عمر ليوقع فأبى .

فذهب المسئول للدكتور عبد الحليم محمود فقال الدكتور عبد الحليم محمود : ألم أقل لك أن الأستاذ عمر ( ده مش بتاع كده )

وهكذا المؤمن الصادق الإيمان لا يسأل الناس أجرا بل ينفق بيمينه ما لا تعلم شماله فإن لم يجد بكى حزنا من الفاقة وعدم القدرة على الإنفاق .

يبكون شوقاً إلى الجهاد لا للغنائم

قال ابن إسحاق : فبلغني أن ابن عمير بن كعب النضرى لقي أبا ليلى وعبد الله بن مغفل وهما يبكيان فقال : ما يبكيكما ؟

قالا : جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه فأعطاهما ناضحاً له فارتحلاه وزودهما شيئاً من تمر فخرجا مع النبي صلى الله عليه وسلم زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال : وأما علبة بن زيد فخرج من الليل فصلى من ليلته ما شاء الله ثم بكى وقال : اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها مال أو جسد أو عرض .

ثم أصبح على الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين المتصدق هذه الليلة ؟ فلم يقم أحد ثم قال : أين المتصدق فليقم )) فقام إليه فأخذه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أبشر فوا الذي نفسي بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة )) .

فالجهاد في سبيل الله بذل وتضحية وبذل المال والإنفاق في سبيل الله يقترن في القرآن غالباً بذكر الجهاد والقتال ولقد مرت على المسلمين مرحلة كان الجهاد فيها تطوعا والمجاهد يومئذ ينفق على نفسه وقد يقعد به المال حين لا يقعد به الجهاد { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قل لا أجد ما أحمكم عليه ولوا وأعينهم فيض من الدمع جزنا ألا يجدوا ما ينفقون } التوبة : 92 ] . فلم يكن بد من الحث المستمر على الإنفاق ليسير الطريق للمجاهدين في سبيل الله كما ذكرنا وهنا جئ الدعوة إلى الإنفاق { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة } البقرة 245 ]. فنفق يمينه ما لا تعلم شماله .

فإذا كان الموت والحياة بيد الله والحياة لا تذهب بالقتال إذا قدر الله لها البقاء فكذلك المال لا يذهب بالإنفاق إنما هو قرض حسن لله مضمون عنده يضاعفه أضعافاً كثيرة يضاعفه في الدنيا مالا وبركة وسعادة وراحة ويضاعفه في الآخرة نعيماً ومتاعاً ورضى وقربى من الله ومرد الأمر في الغنى والفقر إلى الله لا إلى حرص وبخل ولا إلى بذل وإنفاق فأين يكون المال والناس أنفسهم راجعون بقضهم وقضيضهم إلى الله فلا فزع من الموت ولا خوف من الفقر ولا محيد عن الرجعة إليه وإذن فيجاهد المؤمنون في سبيل الله وليقدموا الأرواح والأموال وليستيقنوا أن أنفاسهم معدودة وأن أرزاقهم مقدرة وأنه من الخير لهم أن يعيشوا الحياة قوية طليقة شجاعة كريمة ومردهم بعد ذلك إلى الله { والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون } البقرة 245 ].

التربية إبتداءً وانتهاء

لقد أنشأت التربية الإيمانية و الجهادية مجموعة من الناس تتمثل فيهم الأمانة والورع يرون الغنائم أمام أعينهم فلا تطلع أنفسهم إليها ولا تمتد أيديهم فيغلون إنما كانوا يتحرجون الغلول في أية صورة من صوره كما لم تتمثل قط في مجموعة بشرية وقد كان الرجل في أفناء الناس من المسلمين يقع في يده الثمين من الغنيمة لا يراه أحد فيأتي إلى أميره لا تحدثه نفسه بشيء منه خشية أن ينطبق عليه قول الله تعالى المرهوب : { وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } آلا عمران : 161 ].

وخشية أن يلقى نبيه على الصورة المفزعة المخجلة التي حذره أن يلقاه عليها يوم القيامة .

فقد كان المسلم يعيش هذه الحقيقة فعلا وكانت الآخرة في حسه واقعاً وكان يرى صورته تلك أمام نبيه وأمام ربه فيتوقاها ويفزع أن يكون فيها وكان هذا هو سر تقواه وخشيته وتحرجه وهو يسمع لمقولة الرسول صلى الله عليه وسلم :(( يا أيها الناس من عمل لنا منكم عملا فكتمنا منه مخيطاً فما فوقه فهو غل يأتي به يوم القيامة ))فقام رجل من الأنصار أسود قال مجاهد : هو سعد بن عبادة كأني أنظر إليه فقال : يا رسول الله أقبل منى عملك قال : وما ذاك ؟ قال : سمعتك تقول : كذا وكذا قال : أنا أقول ذلك الآن من أستعملناه على عمل فليجئ بقليله وكثيره فما أوتى منه أخذه وما نهي عنه انتهي )) فالآخرة كانت حقيقة يعيشها المسلم لا وعداً بعيدا وكان على يقين لا يخالجه شك من أن نفس ستوفي ما كسبت وهم لا يظلمون .

روى ابن جرير الطبري في تاريخه قال : لما هبط المسلمون المدائن وجمعوا الأقباض أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض فقال الذين معه : ما رأينا مثل هذا قط ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه فقالوا : هل أخذت منه شيئاً فقال : أما والله لولا الله ما أتيتكم به فعرفوا أن للرجل شأناً فقالوا : من أنت ؟ فقال : لا والله لا أخبركم لتحمدوني ولا غيركم ليقرظوني ولكنى أحمد الله وأرضى بثوابه فاتبعوه رجلاً حتى انتهي إلى أصحابه فسأل عنه إذا هو عامر بن عبد قيس .

وقد حملت الغنائم إلى عمر رضى الله عنه بعد القادسية وفيها تاج كسري وإيوانه لا يقومان بثمن فنظر رضى الله عنه إلى ما أداه الجند في غبطة وقال : إن قوما أدوا هذا لأميرهم لأمناء وفي رواية قال أحد الجالسين : يا أمير المؤمنين عففت فعفوا ولو رتعت لرتعوا .

ولقد ربى الإسلام المسلمين تلك التربية العجيبة التي تكاد أخبارها تحسب في الأساطير ونقلهم نقلة تصغر في ظلها الغنائم ويصغر في ظلها التفكير في هذا الأعراض ليلتمس المسلمون لمسات المنهج القرآني العجيب في تربية القلوب ورفع اهتماماتها وتوسيع أفاقها وشغلها بالسباق الحقيقي في الميدان الأصيل ألا وهو اتباع رضوان الله وهذا هو مجال الطمع ومجال الاختيار وهذا هو ميدان المكسب والخسارة وشتان بين من يبع رضوان الله فيفوز به ومن يطمع في عرض من أعراض الدنيا الفانية { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموها مدحوراً ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً } الإسراء 18: 21 ].

هاجس الرزق - حاجة الجهاد للمال

إذا كان خوف الموت هو السبب الأول في الجبن فإن السبب الثاني ما يوسوسه الشيطان للإنسان من جانب الرزق وكيف يتوافر للأولاد ولذويه من بنين وبنات وزوجة إذا ذهب للحرب وإذا قدر له الشهادة فيها وكما استفاض الله ورسوله في البيان عن تحديد الآجال فقد استفاض الله ورسوله في بيان أن الرزق مقسوم .

وكم حرر الإسلام المجتمع الإسلامي من خوف الموت فقد حرره أيضاً من هم الرزق بالنسبة للإنسان نفسه الذي يكفل الأسرة وبالنسبة للأسرة نفسها فرداً فرداً يستوي في ذلك حالة السلم والحرب ذلك أن الرزق بيد الله { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها } هود 6 ]. { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم } فاطر : 2].

وقد أخبر سبحانه وتعالى أن الرزق في السماء محدد وأقسم سبحانه على أن ذلك حق واقع ولقد أقسم سبحانه { وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } الذاريات 22 - 23].

على أن صاحب الثراء العريض الذي يعمد على ثرائه غير ناظر إلى الله تعالى واهب الرزق والثراء قد يخسف الله به وبداره الأرض كما صنع بقارون أو يطوف ببساتينه ومزارعه طائف منه سبحانه فتصبح خاوية على عروشها كما فعل سبحانه بأصحاب الجنة التي قص علينا أمرهم في القرآن الكريم في سورة القلم .

وما من شك في أن السعي على الرزق مطلوب وأن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا السعي على الرزق وأن العمل الجاد الكادح إنما هو من سمات الإسلام كل ذلك حق ,إذا كان الرزق بيد الله وإّذا كان العمل مطلوباً فإن ما ينهي عنه الإسلام إنما هو هذه الصورة الجشعة القلقة التي تحاول اقتناص المال من السبل غير المشروعة أو التي ترى أن عبداً من عباد الله بيده الرزق إعطاءً ومنعاً وبيده الرزق زيادة ونقصاً أو أخذً وتركاً وقد حرر الإسلام بموقفه هذا المجتمع الإسلامي من أن يكون هم الرزق سببا في ضعفه أو ذلته .

والجهاد كما يحتاج للرجال يحتاج للمال ولقد كان المجاهد المسلم يجهز نفسه بعدة القتال ومركب القتال وزاد القتال لم تكن هناك رواتب يتناولها القادة والجند إنما كان هناك تطوع بالنفس وتطوع بالمال وهذا ما تصنعه العقيدة حين تقوم عليها النظم إنها لا تحتاج حينئذ أن تنفق لتحنى نفسها من أهلها أو من أعدائها إنما يتقدم الجند ويتقدم القادة متطوعين ينفقون هم عليها من أموالهم .

ولكن كثيرا من فقراء المسلمين الراغبين في الجهاد والذود عن منهج الله وراية العقيدة لم يكونوا يجدون ما يزودون به أنفسهم ولا ما يجهزون به من عدة الحرب ومركب الحرب وكانوا يجيئون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون أن يحملهم إلى ميدان المعركة البعيد الذي لا يبلغ على الأقدام فإذا لم يجد ما يحملهم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع جزنا ألا يجدوا ما ينفقون كما حكى عنهم القرآن الكريم .

من أجل هذا كثرت التوجهات القرآنية والنبوية إلى الأنفاق في سبيل الله الإنفاق لتجهيز الغزاة وصاحب الدعوة إلى الجهاد دعوة إلى الإنفاق في معظم المواضع حتى جعل القرآن عدم الإنفاق تهلكة ينهي عنها المسلمون { وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين } البقرة : 195 ] فالإمساك عن الإنفاق في سبيل الله تهلكة للنفس بالشح وتهلكة للجماعة بالعجز والضعف وبخاصة في نظام يقوم على التطوع كما كان يقوم الإسلام ثم يرتقى بهم إلى مرتبة الإحسان وهي عليا المراتب في الإسلام وهي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )) وحين تصل النفس إلى هذه المرتبة فإنها تفعل الطاعات كلها وتنتهي عن المعاصي كلها وتراقب الله في الصغيرة والكبيرة وفي السر والعلن على السواء وهكذا يكل النفس في أمر الجهاد إلى الإحسان أعلى مراتب الإيمان .

الجهاد في سبيل الله وفضل النفقة عليه

الدين كما نعلم رأسه الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ولما كان الجهاد هو بذل الجهد والطاقة في إعلاء كلمة الله ونصرة دينه والذود عن حياض المسلمين وحقوقهم وحرياتهم تعددت أوجه الجهاد فجهاد الحجة والبيان وجهاد القوة والرجال كما يكون بالمال ولما كانت الدنيا دار بلاء كان الجهاد كذلك { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين } محمد - 31 ] يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم )) .

لذلك كان الجهاد هو التجارة الرابحة في الأجر كما أنه من أسباب العز والنصر { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين } الصف 1. - 13 ] وإلا كان الذل والصغار كما أخبر المصطفي صلى الله عليه وسلم بأنه : (( ما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا سلط الله عليهم ذلاً لا ينزعه حتى يراجعوا دينهم )) ولذلك كان الصحابة منهم الباذل لماله حمية دينية أو منهم البائع لنفسه لعلمهم { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفي بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم } التوبة 111] .

فالرسول صلى الله عليه وسلم بمجرد أن حث المؤمنين على الجهاد في سبيل الله في غزوة العسرة وكان زمن مجاعة وجهد قال عثمان بن عفان رضى الله عنه : على مائة بعير بأحلاسها وأقتابها ثم لما حثهم أخرى قال عثمان : على مائة بعير بأحلاسها وأقتابها قم جاء بصرة دنانير كادت كفه تعجز عنها فوضعها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها يقول : ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم غفر الله لك يا عثمان ما قدمت وما أخرت .

أما عبد الرحمن بن عوف فقد قدمت عير له من الشام تقدر بسبعمائة بعير تحمل طعاماً وثياباً وأدما فتصدق بها كلها في سبيل الله كما تصدق عمر بشطر ماله رضوان الله عليهم أجمعين والحديث في هذا الباب يطول عن إنفاق الصحابة رضوان الله عليهم المال في سبيل الله .

ولأن المال بمثابة الترس للإسلام يستجلب به العدد والعتاد وسائر وسائل الجهاد وليدفع به صولة أهل الكفر والإلحاد والعناد فهو المحور الذي تدور عليه رحى الحرب ويستعان به في الطعن والضرب فالمسلم يجاهد بنفسه وماله وقد فرض الله في أموال الأغنياء نصيبا مفروضا يصرف في الجهاد والمجاهدين في سبيل الله فيجوز أو يستحب للتاجر أن يصرف زكاته في هذه الحالة إلى المجاهدين في سبيل الله وفي المال حق سوى الزكاة فمن كان عنده زكاة وجب أن يساهم بقدر استطاعته كل حسب مقدرته والدرهم بسبعمائة درهم وعند الله أضعاف كثيرة وصدق الله إذ يقول : { لكن الرسول والذين أمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وألئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم } التوبة 88- 89 .

إن الله سبحانه قد يربى بالابتلاء كما أنه سبحانه قد يبتلى بالنعم والمؤمن الحق هو الذي لا يفرح بالنعمة إلا على أساس أنها توصل إلى مرضاة الله وأن المال قد يكون ابتلاء إذا أقبل وقد يكون ابتلاء إذا أدبر وقد يكون نعمة إذا أقبل وقد يكون نعمة إذا أدبر والمثل الأعلى هو ألا تجعل المال في إقباله وإدباره إلهاً يعبد من دون الله وأن نسموا بأنفسنا وألا نجعلها من عبيد المال وأن نحررها من رق الذهب والفضة وذلك بأداء حق الله والإنفاق في سبيله .

عن أبى واقد الليثى قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوحي إليه أتيناه يعلمنا مما أوحى إليه فجئته ذات يوم فقال الله عز وجل يقول (( إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولو كان لابن آدم واديا من ذهب لأحب أن يكون له ثان ولو كان له الثاني لأحب أن يكون له الثالث ولا يملأ جفون ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب )) .

ويقول صلوات الله عليه ((خلقان يحبهما الله عز وجل وخلقان يبغضهما الله عز وجل فأما اللذان يحبهما الله فحسن الخلق والسخاء وأما اللذان يبغضهما الله فسوء الخلق والبخل وإذا أراد الله بعبد خيراً استعمله في قضاء حوائج الناس )) .

الإنفاق والجهاد - لماذا الجهاد بالمال

روى مسلم والنسائي بسندهما عن أبى مسعود الأنصاري قال (( جاء رجل بناقة مخطومة فقال : يا رسول الله .. هذه في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة )).

والرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يرسم صورة لناحية خاصة من نواحي الجهاد هي : الجهاد بالمال أو التجهيز ويبين ثواب هذا اللون من ألوان الجهاد .

وأساس التحديد بسبعمائة ضعف قول الله تعالى { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم } البقرة 261 ].

قال مكحول : المراد بالإنفاق : الإنفاق في الجهاد من الإعداد والاستعداد ويؤيد حديث النياق المخطومة وقال ابن عباس : في الجهاد يضاعف الله المال إلى سبعمائة ضعف .

قال ابن كثير : وهذا المثل { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } البقرة 261 ]. فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل لأصحابها كما ينمى الزرع لمن يذره في الأرض الطيبة وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف روى أحمد بسنده عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( كل عمل ابن آدم يضاعف : الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله )) .

ومن أجل ذلك يمكننا أ نقول : إن ثواب الإنفاق في الجهاد أعلى مراتب الثواب والله يضاعف لمن يشاء : أي بحسب إخلاصه في عمله والله وأسع في فضله عليم بمن يستحق ومن لا يستحق .

ولقد ركز الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الحقيقة تنشيطاً للهمم وقمعاً لكل المثبطات عن الإنفاق في سبيل الله فقال :((من أنفق نفقه في سبيل الله كتبت له بسبعمائة ضعف )).

وعن أبي هريرة رضى الله عنه أ ن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء سار وسار معه جبرائيل عليه السلام فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم كلما حصدوا عاد كما كان... قال :يا جبرائيل .. من هؤلاء ؟قال :هؤلاء المجاهدون في سبيل الله .. تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف {وما أنفقتم منشئ فهو يخلفه } (سبأ :39 )

ولذلك :أطلق الصحابة في ميدان الإنفاق في سبيل الله وتنافسوا في ذلك فكانت مظاهرة رائعة إن دلت فإنما تدل على إيمان متأصل وعقيدة راسخة فقد قدم أبو بكر ماله كله في سبيل الله فلما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم ماذا أبقيت لأهلك ؟قال :أبقيت لهم الله ورسوله وكانت لعثمان موافق رائدة في مجال الإنفاق في سبيل الله ذكرنا بعضها .

لقد كان المال ذخيرة تبذل في وقت الشدائد في سبيل الله وتقدم فيه مصلحة الأمة قبل كل شئ وكان هذا البذل سبيل النصر ووسيلة النجاح وقد أخلفه الله عليهم ففاضت عليهم الخيرات في الدنيا أضعافاً مضاعفة عند الله ولهم في الآخرة جزيل الثواب .

وصدق الله العظيم إذ يقول : { وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون } البقرة -272

للجهاد بالمال مغزى مميز وذاتية فريدة وحكم بالغة ...

من ذلك ما يلي :

أولا : يعتبر الجهاد بالمال اختبارا لقوة العقيدة ومقياسا لصدق الإيمان ووسيلة لتطهير النفس البشرية من الشح والبخل فمن غرائز الإنسان حب المال .. ولقد أشار القرآن ذلك فقال : { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب } آل عمران 14 ] إن التضحية بالمال في سبيل الله مع حبه وتفضيل حب الله ورسوله لدليل قوى على العقيدة والإيمان .. ولقد عبر القرآن عن ذلك فقال الله تبارك وتعالى { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شئ فأن الله به عليم } آل عمران 92 ] وليس هناك أدنى شك في أن أفضل مجالات الإنفاق هو الإنفاق في سبيل الله .

ثانيا: ومن الجهاد بالمال امتثال لأمر الله سبحانه وتعالى المالك الحقيقي والأصلي للمال فملكية الناس للمال ملكية حيازية مؤقتة ووسيلة لمساعدة الفرد على عبادة الله وعمارة الأرض وأصل ذلك قول الله تبارك وتعالى { آمنوا بالله ورسوله الذي آتاكم } النور 33] ولقد أمرنا الله في كثير من الآيات بإنفاق المال في سبيل الدعوة الإسلامية والذود عن الإسلام وقد وعد من يطيعه بالفوز برضائه والهداية إلى الطريق المستقيم فقد قال تعالى { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } العنكبوت 69 ].

ثالثا :يعطى الجهاد بالمال فرصة للمسلم المؤمن والذي رزقه الله سعة من المال ولم يؤت قدرات الجهاد بالنفس أن ينال ثواب الجهاد وشرفه وهؤلاء الذين أطلق عليهم القرآن بأولى الضرر وأصل ذلك قول الله تبارك وتعالى { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ...} النساء 95 ] فجهاد الإنسان بماله يشعره بذاتيته ودوره في مجال الجهاد والذود عن الإسلام والمسلمين وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فقال :((من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا ))أخرجه الشيخان .

رابعا: وفي الجهاد بالمال ضرورة حتمية للمحافظة على أعراض المسلمين وأموالهم وتقوية اقتصاد الأمة الإسلامية فنحن نعلم أن الطواغيت والكفار والفراعنة ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ويعتدون على المسلمين فينهبون أموالهم ويهتكون أعراضهم وييتمون أولادهم ويشردون شيوخهم .. وهذا ما نشاهده في فلسطين وأفغانستان وسوريا والفلبين ... ولابد لهؤلاء من قوة وعتاد لردعهم .. حتى ينقلبوا خاسرين ولقد صور القرآن العظيم ذلك تصويرا بليغاً فيقول الله تبارك وتعالى :{ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون و الذين كفروا إلى جهنم يحشرون } الأنفال 36 ، أما الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ... فقال تعالى { و الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله و الذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم } الأنفال 74 .

ففي الجهاد بالمال اختبار لقوة العقيدة وصدق الإيمان ودليل على إخلاص العمل لله ... وفي الجهاد بالمال امتثال لأمر الله سبحانه وتعالى ، وفي الجهاد بالمال فرصة لأولى الضرر أن ينالوا شرف وثواب الجهاد ، وفي الجهاد بالمال كل معاني التكافل و التعاون و التضامن بين المسلمين ضد الكفرة و الطواغيت و الفراعنة ، وفي الجهاد بالمال ضرورة المحافظة على أعراض المسلمين وشرفهم وكرامتهم وأموالهم حتى تتحقق العبودية لله وحده ويتحرر الناس من عبودية الطواغيت .

الباب الخامس - التضحية بالنفس

ذروة الجهاد

فرض الله الجهاد على كل مسلم فريضة لازمة حازمة لا مناص فيها ولا مفر منها ورغَّب فيه أعظم الترغيب ، وأجزل ثواب المجاهدين و الشهداء فلم يلحقهم في مثوبتهم إلا من عمل بمثل عملهم ومن اقتدى بهم في جهادهم ومنحهم من الامتيازات الروحية و العملية في الدنيا والآخرة ما لم يمنحها سواهم ، وجعل دماءهم الطاهرة الزكية عربون النصر في الدنيا وعنوان الفوز و الفلاح في العقبى ، وتوعد المخلفين القاعدين بأفظع العقوبات ، ورماهم بأبشع النعوت و الصفات ووبخهم على الجبن و القعود ونعى عليهم الضعف و التخلف ، وأعد لهم في الدنيا خزياً لا يرفع إلا أن جاهدوا ، وفي الآخرة عذاباً لا يفلتون منه ، ولو كان لهم مثل أحد ذهباً ، واعتبر القعود و الفرار كبيرة من أعظم الكبائر ، وإحدى السبع الموبقات المهلكات .

ولست تجد نظاماً قديماً أو حديثاً دينياً أو مدنياً عنى بشأن الجهاد و الجندية واستنفار الأمة ، وحشدها كلها صفاً واحداً للدفاع بكل قواها عن الحق كما تجد ذلك في دين الإسلام وتعاليمه ، وآيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فياضة بكل هذه المعاني السامية داعية بأفصح عبارة وأوضح أسلوب إلى الجهاد و القتال و الجندية ، وتقوية وسائل الدفاع و الكفاح بكل أنواعها من برية وبحرية وغيرها على كل الأحوال و الملابسات .

فللقرآن منهج فريد في الدعوة إلى الجهاد وبيان فضله وحث المؤمنين عليه وتبشير أهل بالثواب الجزيل ، و الجزاء الجميل فهو يبدأ بتحديد مهام المسلم وغايته في الحياة بعد أن حدد غايات الناس ومقاصد الناس فيها ، فبين أن فقوماً همهم من الحياة الأكل و المتعة ، فقال تبارك وتعالى { و الذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام و النار مثوى لهم } محمد 12 .

وبين أن قوماً آخرين مهمتهم الزينة و العرض الزائل ، فقال تبارك وتعالى { زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة والأنعام و الحرث ذلك متاع الحياة الدنيا و الله عنده حسن الثواب } آل عمران 14 .

وبين أن قوماً آخرين أيضاً شأنهم من الحياة إيقاد الفتن وإحياء الشرور وأولئك الذين قال الله فيهم { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث و النسل و الله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد } البقرة 204-206 .

تلك مقاصد من مقاصد الناس في الحياة نزه الله المؤمنين عنها ... وبرأهم منها ... وكلفهم مهمة أرقى ، و ألقى على عاتقهم واجباً أسمى ذلك الواجب هو هداية البشر إلى الحق ، وإرشاد الناس جميعاً إلى الخير ، وإنارة العالم كله بشمس الإسلام .

فذلك قول الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير } الحج 77،78 .

و المؤمن في سبيل هذه الغاية قد باع نفسه وماله ، فليس له فيها شئ إنما هي وقف على نجاح هذه الدعوة ، وإيصالها إلى قلوب الناس ، وذلك قوله تبارك وتعالى { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل و القرآن ومن أوفي بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم } التوبة 111 .

ومن ذلك نرى أن المسلم يجعل دنياه وقفاً على دعوته ، وليكسب آخرته جزاء تضحيته وهو على يقين من أن جبنه وخوفه من السير في هذا الطريق لا يطيل عمراً ولا جرأته وشجاعته وإصراره على السير مهما كانت الصعاب و التضحيات لا يقصر أجلاً { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } الأعراف 34 فنقول " فلا نامت أعين الجبناء " ، وقد تحرر من رق المادة ، وتطهر من لذة الشهوات ، وترفع عن سفاسف الأمور ودنايا المقاصد ووجه وجهه لله الذي فطر السموات والأرض ليعلى كلمة الله ويجاهد في سبيل الله ، وينشر دينه ويزود عن حياض شريعته بكل وسائل الدعوة إلى الله ويجاهد في الله حق جهاده بهذه الفريضة الماضية إلى يوم القيامة ، و المقصود بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من مات ولم يغز ولم ينو الغزو مات ميتة جاهلية " وأول مراتب هذا الجهاد إنكار القلب وأعلاها القتال في سبيل الله وبين ذلك الجهاد باللسان و القلم واليد - بقواعده الشرعية وضوابطه الفقهية - وكلمة الحق عند السلطان الجائر .

لا تحيا الدعوة إلا بالجهاد

ولا تحيا الدعوة إلا بالجهاد ، وبقدر سمو الدعوة وسعة أفقها تكون عظمة الجهاد في سبيلها ، وضخامة الثمن الذي يطلب لتأييدها وجزالة الثواب للعاملين .

هذه المعاني التي تربى عليها المجاهدون فهانت الدنيا في أعينهم وعظمت الآخرة ، وهم يرون جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ، فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فأسرعوا إليها راغبين في نعيمها وأبديتها .

و المتأمل في كتاب الله يرى كيف يحض المولى المسلمين على الحذر وممارسة القتال في جيوش ، أو عصابات ، أو فرادى كما يقتضيه الحال ، وكيف يوبخ القاعدين و الجبناء و المخلفين و النفعيين ، وكيف يستثير الهمم لحماية الضعفاء وتخليص المظلومين ، وكيف يقرن القتال بالصلاة والصوم ويبين أن مثلهما من أركان الإسلام ، وكيف يفند شبهات المترددين ويشجع الخائفين أكبر تشجيع على خوض المعامع ومقابلة الموت بصدر رحب وجنان جرئ مبيناً لهم أن الموت سيدركهم لا محالة وأنهم إن ماتوا مجاهدين فسيعوضون عن الحياة أعظم عوض ، ولا يظلمون فتيلاً من نفقة أو تضحية .

كما ترى فيه إشادة بموقف المجاهدين ، وعلى رأسهم سيدهم الكريم صلى الله عليه وسلم ، وبيان أن هذه مهمته المطهرة ، وسنة أصحابه الغر الميامين في قوله تعالى { لكن الرسول و الذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم } التوبة 88 ، 89 .

وفي القرآن سورة بأكملها تسمى " سورة القتال " في كتاب الله الحكيم تبين أن أساس الروح العسكرية كما يقول أمران - لتحقيق التضحية بأسمى معانيها - ألا وهما : الطاعة و النظام ، وقد جمع الله هذا الأساس في آيتين من كتابه ، فأما الطاعة ففي قوله تعالى { ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم } محمد 20،21 . وأما النظام ففي سورة الصف في قوله تعالى { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص } الصف 4 ، وترى إشادة بموقف رائع من مواقف الجهاد الكريم تحت ظل الشجرة المباركة ، حيث أعطيت البيعة على الثبات و الموت ، فأثمرت السكينة و الفتح وذلك في قوله تعالى { لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً } الفتح 18 ، وفي السنة المكرمة ترى هذا الحث البليغ على الجهاد من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جند الله .

أمثلة موجزة - الفرق بين رجلين

إن المجاهدين من المسلمين الأوائل كانت الجنة تنسيهم الهموم و المصائب ، وتحملهم على الصبر عند المكاره ، فعن أم حارثة بنت سراقة أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة ، وكان قبل يوم بدر قد أصابه سهم غرب ، فإن كان في الجنة صبرت ، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء قال : يا أم حارثة إنها جنان في الجنة ، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى )

وعن عبد الله بن أبى أوفي رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( اعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف )

وعن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ألا أخبركم بخير الناس وشر الناس ؟ إن من خير الناس رجلاً عمل في سبيل الله على ظهر فرسه أو ظهر بعيره أو على قدمه حتى يأتيه الموت ، وإن من شر الناس رجلاً يقرأ كتاب الله تعالى لا يرعوى بشيء منه )

وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله )

وعن سهل بن حنيف رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه )

وعن المقداد بن معد يكرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( للشهيد عند الله ست خصال : يغفر له في أول دفعة ن ويرى مقعده من الجنة ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفع في سبعين من أقربائه )

وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال : لما قُتِل عبد الله بن عمرو بن حزام يوم أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا جابر ألا أخبرك ما قال الله عز وجل لأبيك ؟ قلت : بلى ، قال : ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب وكلم أباك كفاحاً فقال : يا عبدي تمنى علىّ أعطك ، قال : يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية ، قال : إنه سبق القول منى أنهم إليها لا يرجعون قال : يا رب فأبلغ من ورائي ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } آل عمران 169 الآية.

- الفرق بين رجلين :

ولكن لضعف اليقين في الآخرة ، وشدة تعلق الإنسان بالدنيا ، يكره المرء الجهاد ، يقول ربنا { ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت } محمد 2. .

هذا الذي وصفه المولى هو قلب مريض وسبب المرض هو اقتراف الذنوب وعلاجها بالتوبة الصادقة التي تصقل القلب حتى يصفو فإذا ما صفا القلب وطهر صار سليماً ، أحسن استقبال وحي الله عز وجل ، وبذل كل غال وثمين طاعة لله ورضاء له ولكي يستمر هذا الصفاء القلبي يجب أن نراعى :

أولاً : قطع علائق الدنيا ، وإخراج حب غير الله من القلب ، فأحد أسباب ضعف حب الله قوة حب الدنيا ، فبقدر ما يأنس القلب بالدنيا ينقص حبه وأنسه بالله ، و الدنيا والآخرة ضرتان ، لذلك كان سبب الغثائية في أمتنا الإسلامية كما بين الحديث الشريف : حب الدنيا وكراهية الموت ، وإذا أحب المرء الدنيا وكره الموت فإن معنى ذلك أن كرهه للجهاد أشد لأنه أحد الأسباب الموت الذي يكرهه كما يعتقد .

ثانياً : معرفة الله تعالى ، لأنه إذا حصلت المعرفة تبعها المحبة ، ولا يوصل إلى هذه المعرفة إلا التفكر و التدبر ، وتفاوت الحب إنما يرجع إلى تفاوت المعرفة ، و الجهل بالله سبب كل بلاء وكفر ، و المعصية ليست دليلاً على عدم حب الله ، ولكن دليلاً على عدم كمال ذلك الحب ونقصانه ، و الدليل على ذلك قصة الصحابي النعمان الذي كان يؤتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحده إلى أن أتاه يوماً فحده فلعنه رجل وقال : ما أكثر ما أوتى به !! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله ) فلم تخرجه المعصية عن المحبة وإنما تخرجه عن كمالها .

فالإنسان إما أن يعيش لدنياه فتصبح أكبر همه ، أو يعيش لآخرته فيعمل لها ويضحي من أجلها ، وذلك كله يرجع إلى العقيدة الصحيحة قوة وضعفاً لأن العقيدة هي صانعة الرجال .

وما أعظم الفرق بين رجلين ، يعيش أحدهما وهو يعتقد في نفسه أنه مجرد حيوان من فصيلة راقية ليس له قبل حياته جذور وليس بعد موته امتداد ، وليس له في حياته صلة بالوجود الكبير أكثر من صلة القرود به .

ويعيش الآخر وهو يعتقد أنه خليفة الله في الأرض ، ونائبه في إقامة الحق ، وإفاضة الخير ، وإشاعة الجمال في هذا الكون ، ويشعر أن الكون كله في خدمته و الملائكة في حراسته ، وأن رب الوجود في معيته ، وأنه من فصيلة الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء والصالحين ، وأن وجوده لا ينتهي بالموت ، ودوره لا ينتهي بالقبر ، فإنما خلق للخلود الأبدي الذي لا ينقطع ولا يزول هذا هو المجاهد بحق .

لذلك يجب على كل مسلم أن يحصن نفسه ، ويطهر قلبه ، ويحاسب جوارحه العين على ما ترى ، والأذن على ما تسمع ، و اليد على ما امتدت ، و الرجل على ما سعت ، و البطن على ما حوت ، بل يكون حارساً لخواطره حذراً من إهمالها والاسترسال معها ، فإن أصل الفساد كله يكون من قِبَلها ، لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس ).

ويقول الإمام البنا : إن رجل القول غير رجل العمل ، ورجل العمل غير رجل الجهاد ، ورجل الجهاد فقط غير رجل الجهاد المنتج الحكيم الذي يؤدى إلى أعظم النتائج بأقل التضحيات ، إن كثيرين يستطيعون أن يقولوا ولكن قليل من هذا الكثير يثبتون عند العمل ، وكثير من هذا القليل يستطيعون أن يعملوا ولكن قليل منهم يقدرون على حمل أعباء الجهاد الشاق و العمل العنيف ، وهؤلاء المجاهدين هم الصفوة القلائل من الأنصار قد يخطئون الطريق ولا يصيبون الهدف إن لم تتداركهم عناية الله ، وفي قصة طالوت بيان لما أقول ، فأعدوا أنفسكم وأقبلوا عليها بالتربية الصحيحة والاختبار الدقيق وامتحنوها بالعمل القوى البغيض لديها ، الشاق عليها ، وافطموها عن شهواتها ومألوفاتها وعاداتها إننا كي نحقق الآمال الكبار التي ننشدها في حاجة إلى أصحاب النفوس العالية ذات الإرادة القوية و الوفاء الثابت والإيمان الصادق و التضحية الكريمة بكل غال ليعلوا المبدأ وتبقى القيمة ويستمر فيض القرآن يروى الظمأى إليه .

تربية القرآن للمجاهدين

يقول ربنا عز وجل { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم } البقرة 243،244 إلى قوله تعالى { تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين } البقرة 252 .

هذه الآيات الكريمة تبين لنا منهج القرآن في حث المسلمين على الجهاد في سبيل الله بأسلوب يستجيش العواطف ، ويناقش العقول ويعمق الإيمان فيقبل المؤمن على الجهاد بقلب ملئ بالإيمان مطمئناً لقضاء الله محتسباً مخلصاً له الدين مقبلاً غير مدبر ، وهو يسمع كلمات الله فيلبى نداءه { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ون يولهم يومئذٍ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } الأنفال 15، 16 فيخشى عاقبة الإدبار فيردد بثقة واطمئنان نفس { وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون } إبراهيم 12 فيتوكل على الله وهو حسبه آخذاً حذره ، طائعاً لقيادته ، ثابتاً على عقيدته ذاكراً الله في كل حين ، محافظاً على أخوته ووحدته مصغياً لنداء ربه { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } الأنفال

على هذه المعاني يربى القرآن أتباعه ، لا يخشون في الله لومة لائم ، فلا يهابون الموت ، ولا يخافون الفقر ، وفي الآيات السابقة :

ترى جماعة { خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت } البقرة 243 فلم ينفعهم الخروج و الفرار و الحذر من الموت وأدركهم قدر الله الذي خرجوا حذراً منه فقال لهم الله { موتوا } ، { ثم أحياهم } لم ينفعهم الجهد في إتقان الموت ، ولم يبذلوا جهد في استرجاع الحياة وإنما هو قدر الله في الحالين .

وفي ظل هذه التجربة يتجه إلى الذين آمنوا يحرضهم على القتال ، وعلى الإنفاق في سبيل الله ، واهب الحياة وواهب المال و القادر على قبض الحياة وقبض المال .

إنه تصحيح التصور عن الموت و الحياة وأسبابه الظاهرة وحقيقتها المضمرة ورد الأمر فيهما إلى القدرة المدبرة والاطمئنان إلى قدرة الله فيهما والمعنى في حمل التكاليف و الواجبات دون هلع ولا جزع ، فالمقدر كائن و الموت و الحياة بيد الله في نهاية المطاف .

يراد أن يقال : الحذر من الموت لا يجدي ، وإن الفزع و الهلع لا يزيدان الحياة ولا يمدان أجلاً ، ولا يردان قضاء ، وإن الله واهب الحياة وهو آخذ الحياة ، وإنه متفضل في الحالتين حين يهب وحين يسترد و الحكمة الإلهية الكبرى كامنة خلف الهبة وخلف الاسترداد ، وأن مصلحة الناس متحققة في هذا وذاك ، وإن فضل الله عليهم متحقق في الأخذ و المنح سواء { إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } البقرة 243 .

ومن هنا فليس الفزع و الجزع و الحذر يغير المصير ، ولا يدفع الموت ولم يرد القضاء ، فالأولى الثبات و الصبر و الرجوع إلى الله واهب الحياة بلا جهد من الأحياء ، إذن فلا نامت أعين الجبناء .

أما الدرس الثاني : فكان في حياة بنى إسرائيل من بعد موسى عليه السلام ، وبعد ما ضاع ملكهم ونهبت مقدساتهم وذلوا لأعدائهم ، وذاقوا الويل بسبب انحرافهم عن هدى ربهم وتعاليم نبيهم ، ثم انتفضت نفوسهم انتفاضة جديدة واستيقظت في قلوبهم العقيدة واشتاقوا القتال في سبيل الله فقالوا :{ لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله } البقرة 246 .

ومن خلال القصة يتعلم المسلمون أن انتفاضة العقيدة على الرغم من كل ما يعتورها من نقص وضعف - كما في القصة - ومن تخلى القوم عنها فوجا بعد فوج في مراحل الطريق ، على الرغم من هذا كله فإن ثبات حفنة قليلة من المؤمنين قد حقق لبنى إسرائيل نتائج ضخمة جداً ، فقد كان فيها النصر والعز والتمكين ، بعد الهزيمة المنكرة ، و المهانة الفاضحة ، و التشريد الطويل ، و الذل تحت أقدام المتسلطين ، ولقد جاءت لهم بملك داود ، ثم ملك سليمان وهذه أعلى قمة وصلت إليها دولة بنى إسرائيل في الأرض ، وهي عهدهم الذهبي الذي يتحدثون عنه ، و الذي لم يبلغوه من قبل في عهد النبوة الكبرى وكان هذا النصر كله ثمرة مباشرة لانتفاضة العقيدة من تحت الركام وثبات حفنة قليلة عليها أمام جحافل جالوت ، كل ذلك ليتعلم المسلمون الدروس المستفادة من هذه المواقف في كل زمان ومكان و التي تعود عليهم بالنفع العميم ، ومن هذه الدروس:

1- أن الجماعة المسلمة المجاهدة لا تخدع القيادة فيها الحماسة الجماعية الظاهرة ، ويجب أن يضع القادة هذه الحماسة على محك التجربة قبل أن يخوضوا بها المعركة الحاسمة ، فهذا النبي الكريم أراد أن يستوثق من صحة عزيمة الجند على القتال وقال لهم { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا } البقرة 246 فاستنكروا عليه هذا القول وارتفعت حماستهم إلى الذروة وهم يقولون له { وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا } البقرة 246 .

ولكن هذه الحماسة البالغة ما لبثت أن انطفأت شعلتها وتهاوت على مراحل الطريق - كما تذكر القصة - فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم .

2- أن اختبار الحماسة الظاهرة والاندفاع الغائر في نفوس الجماعات ينبغي ألا يقف عند الابتلاء الأول ، فإنه مع كثرة بنى إسرائيل هؤلاء إلا أنهم تولوا بمجرد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم ولم يتبق إلا قلة مستمسكة بعهدها مع نبيها ، وهم الجنود الذين خرجوا مع طالوت بعد الحجاج و الجدال حول جدارته بالملك و القيادة ووقوع علامة الله باختياره لهم ورجعة تابوتهم وفيه مخلفاتهم تحمله الملائكة ، ومع هذا فقد سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولي ، وضعفوا أمام الامتحان الأول الذي أقامه لهم قائدهم ، وحتى القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية .

فأمام الهول الحي أمام كثرة الأعداء وقوتهم تهاوت العزائم وزلزلت القلوب { قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } البقرة 249 وأمام هذا التخاذل ثبتت الفئة القليلة المختارة ، اعتصمت بالله ووثقت وقالت :{ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله و الله مع الصابرين } البقرة 249 وهذه هي التي رجحت الكفة وتلقت النصر واستحقت التمكين .

وفي ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة الحازمة المؤمنة تبرز منها الخبرة بالنفوس ، وعدم الاغترار بالحماسة الظاهرة ، وعدم الاكتفاء بالتجربة الأولى واختبار الطاعة و العزيمة في نفوس الجند قبل المعركة ، وفصل الذين ضعفوا وتركهم وراء ، وعدم التخاذل و الثقة في قوة الإيمان الخالص ووعد الله الصادق للمؤمنين .

3- إن القلب الذي يتصل بالله تتغير موازينه وتصوراته لأنه يرى الواقع الصغير المحدود بعين تمتد وراءه إلى الواقع الكبير الممتد الواصل ، وإلى أصل الأمور كلها وراء الواقع الصغير المحدود ، فهذه الفئة المؤمنة الصغيرة التي ثبتت وخاضت المعركة وتلقت النصر كانت ترى مع قلتها وكثرة عدوها ما لا يراه الآخرون الذين قالوا { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } ولكنها لم تحكم حكمهم على الموقف ، إنما حكمت حكماً آخر ، فقالت { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله و الله مع الصابرين } البقرة 249 ثم اتجهت لربها تدعوه { ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } البقرة 25. وهي تحس أن ميزان القوى ليس في أيدي الكافرين ، إنما هي في يد الله وحده فطلبت منه النصر ، ونالته من اليد التي تملكه وتعطيه ، وهكذا تتغير التصورات و الموازين للأمور عند الاتصال بالله حقاً وعندما يتحقق في القلب الإيمان الصحيح ، وهكذا يثبت أن التعامل مع وعد الله الواقع الظاهر للقلوب أصدق من التعامل مع الواقع الصغير الظاهر للعيون ، فتصغر الدنيا وتهون التضحيات .

حقيقة تملأ قلب كل مؤمن - الموت ليس نهاية المطاف

ويتعلم المسلمون الأوائل - ويجب أن يتعلم من بعدهم - أن الفئة القليلة الواثقة بلقاء الله ، و التي تستمد صبرها كله من اليقين بهذا اللقاء وتستمد السراء بالزهو ، ولا تطير نفسه لهذه أو تلك ، ولا يتحسر على أنه لم يصنع كذا ليتقى كذا ، أو ليستجلب كذا ، بعد وقوع الأمر وانتهائه ، فمجال التقدير و التدبير و الرأي و المشورة كله قبل الإقدام و الحركة ، فأما إذا تحرك بعد التقدير و التدبير - في حدود أمر الله ونهيه - فكل ما يقع من النتائج فهو يتلقاه بالطمأنينة و الرضا و التسليم ، موقناً أنه وقع وفقاً لقدر الله وتدبيره وحكمته ، فأما الذي يفزع قلبه من العقيدة في اله على هذه الصورة المستقيمة فهو أبداً مستطار ، وابد في قلق ويخاف الموت ، وما أدرك أن " الله يحي ويميت " فبيده إعطاء الحياة ، وبيده استرداد ما أعطى ، في الموعد المضروب والأجل المرسوم ، سواء كان الناس في بيوتهم و بين أهليهم أو في ميادين الكفاح للرزق و العقيدة وعنده سبحانه الجزاء ، وعنده العوض .

- الموت ليس نهاية المطاف :

" هاجس الموت "

على أن الأمر لا ينتهي بالموت أو القتل - كما يظن أهل الباطل - فهذه ليست نهاية المطاف ، وعلى أن الحياة في الأرض ليست خير ما يمنحه الله للناس من عطاء فهناك قيم أخرى واعتبارات أرقى في ميزان الله { ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون } آل عمران 157، 158 .

فالموت أو القتل في سبيل الله - بهذا القيد وبهذا الاعتبار - خير من الحياة وخير مما يجمعه الناس في الحياة من أعراضها من مال ومن جاه ومن سلطان ومن متاع خير بما يعقبه من مغفرة الله ورحمته ، وهي في ميزان الحقيقة خير مما يجمعون ، وإلى هذه المغفرة وهذه الرحمة يكل الله المؤمنين ، إنه لا يكلهم في هذا المقام - إلى أمجاد شخصية ولا إلى اعتبارات بشرية ، إنما يكلهم إلى ما عند الله ، ويعلق قلوبهم برحمة الله وهي خير مما يجمع الباطل ، وخلال المعركة سيجدون قتلى يخرون شهداء في معركة الحق ، شهداء في سبيل الله ، قتلى أعزاء أحياء ، قتلى كراماً أزكياء ، فالذين يخرجون في سبيل الله و الذين يضحون بأرواحهم في معركة الحق هم عادة أكرم القلوب وأزكى الأرواح وأطهر النفوس ، هؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتاً ، إنهم أحياء فلا يجوز أن يقال عنهم أموات ولا يجوز أن يعتبروا أمواتاً في الحس و الشعور ولا أن يقال عنهم أموات بالشفة و اللسان إنهم أحياء بشهادة الله .

- الموت في سبيل الله حياة :

إن سمة الحياة الأولى هي الفاعلية والنمو والامتداد وسمة الموت الأولى هي السلبية والخمود والانقطاع وهؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله فاعليتهم في نصرة الحق الذي قتلوا من أجله فاعلية مؤثرة والفكرة التي من أجلها قتلوا تروى بدمائهم وتمتد وتأثر الباقين وراءهم باستشهادهم يقوى ويمتد فهم ما يزالون عنصرا فعالاً دافعاً مؤثرا في تكييف الحياة وتوجيهها وهذه هي صفة الحياة الأولى فهم أحياء بهذا الاعتبار الواقعي في دنيا الناس ثم هم أحياء عند ربهم إما بهذا الاعتبار وإما باعتبار آخر لا ندرى نحن كنهه وحسبنا إخبار الله تعالى به وصدق الله القائل { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا يشعرون } البقرة - 154 .

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فاطلع عليهم ربك إطلاعة فقال : ماذا تبغون ؟ فقالوا : يا ربنا وأي شئ نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا قالوا : نريد أن تردنا إلى دار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى لما يرون من ثواب الشهادة فيقول الرب جل جلاله : أنى كتبت أنهم إليها لا يرجعون )) .

ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضى الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( تضمن الله تعالى لمن خرج في سبيل الله لا يخرجه إلا الجهاد في سبيلي وإيماناً بي وتصديقا برسلى فهو علىّ ضامن أن أدخله الجنة وأرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئة يوم كلم لونه لون دم وريحه ريح مسك والذي نفس محمد بيده لو لا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله عز وجل أبداً ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة فيتبعوني ويشق عليهم أن يتخلفوا عنى والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل )) .

إن هذه المفاهيم تعديل كامل لمفهوم الموت متى كان في سبيل الله وللمشاعر المصاحبة له في نفوس المجاهدين أنفسهم وفي النفوس التي يخلفونها من ورائهم وإفساح لمجال الحياة ومشاعرها وصورها بحيث تتجاوز نطاق هذه العاجلة كما تتجاوز مظاهر الحياة الزائلة وحيث تستقر في مجال فسيح عريض لا تعترضه الحواجز التي تقوم في أذهاننا عن هذه النقلة من صورة ومن حياة إلى حياة .

  • الموت في سبيل الله قمة التضحية :

كل بصير بالنفس الإنسانية يعلم أن الذي يخيف الناس إلى المسارعة إلى التضحية والفداء هو التهيب من لقاء الموت والرهبة في انتهاء الحياة ولذلك أراد القرآن أن يلفت إلى حقيقة لا ريب فيها ولا معدل عنها وهي أن الموت آت آت ولابد من وقوعه ولا وسيلة للتخلص منه فقال في سورة الرحمن { كل من عليها فان } الرحمن - 26 ] وقال في سورة الواقعة { نحن قدرنا بينكم الموت } الواقعة -6. ] وكرر قوله { كل نفس ذائقة الموت } ثلاث مرات في ثلاثة سور هي آل عمران والأنبياء والعنكبوت .

وأكد أنه لا سبيل إلى الفرار من هذا الموت فقال في سورة النساء { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة } النساء - 78] وقال في سورة الأحزاب { قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل } الأحزاب 16] وقال في سورة الجمعة { قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم } الجمعة -8 .

وما دام الموت لا بد منه ولا محيد عنه فإن الموت تضحية في سبيل الله وهو موطن كريم خير من الموت في موضع لئيم والمتنبي يقول :

وإذا لم يكن من الموت بد

فمن العجز أن تعيش جبانا

وما دام الأمر كذلك فالأجدر بالإنسان العاقل أن ينطلق إلى ساحة الجهاد معتمدا على ربه واثقا في نهاية سعيدة له وهي النصر أو الشهادة وهي أعلى صور التضحية بالنفس غير هياب ولا وجل فلن يصيبه إلا ما كتبه الله له وهو خير على كل حال كما قال القرآن في سورة التوبة للمؤمن الموقن { قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون } التوبة 51- 52 ] ويقول في سورة آل عمران مذكرا بتقرير الأجل مفضلا ثواب الآخرة وطريقه الجهاد والتضحية على متاع الدنيا الزائل { وما كان لنفس أن تموت إلا بأذن الله كتاباً مؤجلاً ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نوته منها وسنجزى الشاكرين } لآل عمران 145

ويرشد القرآن أهله إلى أن طريق الجهاد والتضحية ليس مفروشا بالورود والرياحين وإنما هو طريق شاق له متاعبه وتبعاته ولكنه طريق المجد وإذا كان المؤمنون المحقون ينالهم شئ من الألم أو الجراح في هذا الطريق فإن الكافرين المبطلين من أعدائهم يصيبهم مثل ذلك أو أكثر ومع ذلك يصبرون على باطلهم بل ويضحون من أجله فكيف لا يكون المؤمنون أصبر منهم على الحق والرشاد ونهاية المؤمنون إلى النعيم ونهاية أعدائهم إلى الجحيم يقول الله تعالى للمؤمنين في سورة النساء { ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيماً } النساء 104] وفي سورة آل عمران يقول { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين لآمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين} آل عمران -140- ] .

وإذا كانت كلمة الفداء التضحية في أصل معناها اللغوي تدل على جعل شئ فدية لشيء مقابلا لتحقيقه فإن كتاب الله العزيز قد أكد ذلك حين صور الإقدام المخلص على التضحية والفداء في سبيل الله تعالى بصورة صفقة مباركة يعقدها الله جل جلاله مع عباده المؤمنين الصالحين بيقينهم وعباداتهم وأخلاقهم وفضائلهم لشرف الجهاد ونعمة الاستشهاد تضحية فقال في سورة التوبة { إن الله أشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفي بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين } التوبة 111- 112 ].

كما يقدمها في صورة أخرى رائعة فهو يقصر على المؤمنين الدعوة إلى عقد الصفقة وإرشادهم إليها وهو يرسم لها طريقها ويوضح لهم فيها ثمن السلعة الغالية المعروضة والتي يضحون من أجلها كما يوضح هم جلال هذه السلعة وثمراتها القريبة والبعيدة أو العاجلة والآجلة فيقول في سورة الصف { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ؟ تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين } الصف 10-12 ].

فهي إذن أخذ الخالد الباقي الدائم بالفاني الذاهب الزائل وفيها الثواب الجزيل وفيها اللجوء إلى ولاية الله ونصره وهو خير الناصرين وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم وفيها الوعد بالغلبة على حزب الشيطان وأوليائه كما بين في سورة النساء { فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا وأجعل لنا من لدنك نصيراً الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً } النساء 74- 76 ].

والقرآن يجزم ويؤكد الوعد الإلهي المحقق للمجاهدين المضحين الباذلين الفادين فيقول في سورة محمد { والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } محمد 4-7 ] ويقول في سورة آل عمران { ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون } آل عمران 157] ويقول في السورة نفسها {فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجرى من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب } آل عمران 195 ] .

فالقرآن هو المعلم لدروس التضحية والفداء وهو الوجه إلى روح البذل والإقدام فهو يجعل الجهاد فريضة مكتوبة وركيزة مطلوبة من حرص عليها وصدق فيها عز ومن أهملها أو خادع فيها ذل فقال في سورة العنكبوت { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } العنكبوت 69 ]

وأرشد إلى أن الجهاد يكون ببذل الأموال وتقديم الأنفس فداء لغاية الجهاد وهدفه فأمر عباده المؤمنين بذلك فقال يخاطبهم في سورة التوبة { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } التوبة 41] ووصف المؤمنين بأنهم هم الذين { جاهدوا بأموالهم وأنفسهم } أربع مرات في سورة الأنفال مرة وفي سورة التوبة مرتين وفي سورة الحجرات مرة .

ومن هنا فإن القرآن الكريم يطالب أهله بتبعاته الفدائية والتضحية في القتال فالفدائي لا يليق به ولا يجوز منه أن يفر أو يلقى السلاح إلا إذا كان يتأخر ليكر ويتقدم أو إذا أن يتأخر في الميدان لينضم إلى جماعة من إخوانه في الجهاد يتقوى بهم ويشد ساعده وفيما عدا هاتين الحالتين لا يباح ل أن يترك مواجهة عدوه مضحيا بكل غال ونفيس حتى ولو كانت نفسه التي بين جنبيه حتى يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده وعليه أن يثبت ويقاوم ذاكرا ربه مستمدا من إيمانه به قوة تعينه على بلوغ النجاح ولذلك يقول القرآن في سورة الأنفال { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } الأنفال :16 ] ثم يقول في السورة نفسها { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون } الأنفال 45].

ولقد ترجم هذا المعنى الإمام البنا رضوان الله عليه مخاطباً أتباعه قائلا : أيها الإخوان قبل أن آخذ معكم في حديث الدعوة أحب أن أوجه إليكم هذا السؤال هل أنتم على استعداد بحق لتجاهدوا ليستريح الناس ؟ وتزرعوا ليحصد الناس ؟ وأخيرا لتموتوا وتحيا أمتكم ؟ وهل أعددتم أنفسكم بحق لتكونوا القربان الذي يرفع الله به هذه الأمة إلى مكانتها والإجابة إن كانت بالإيجاب فأصحابها لا يعرفون القهقرى بل التقدم والمسارعة .

فهم يجب أن يسود - حقيقة ينساها الكثير

عن أبى عمران قال : كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم وأكثر وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل بينهم فصاح الناس وقالوا : سبحان الله يلقى بيده إلى التهلكة فقام أبو أيوب الأنصاري فقال : أيها الناس أنتم تتأولون هذه الآية هذا التأويل وإنما نزلت فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه قال بعضنا لعض سرا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أموالنا قد ضاعت وإن الله تعالى أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا وأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله تعالى على نبيه ليرد علينا ما قلناه { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } البقرة 195]. وكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم .

هذا هو المعنى والفقه الذي يجب أن يسود بعد أن فهمها كثير من المسلمين بل مازالوا يكررون هذا المعنى الخاطئ حتى يومنا هذا فإذا قام رجل ليقول كلمة الحق أمام سلطان جائر أو بذل ن ماله أو ضحى بنفسه في سبيل مبدأ أو عقيدة أو قيمة قالوا له : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، وما علموا أن التهلكة في تركهم للباطل يستشري وللحق أن يتواري فكيف يسود المبدأ ويبقى ويستمر إذا لم يكن له رجال يضحون لتعلو القيمة وتثبت العقيدة ويسود الحق ويقام شرع الله على الأرض ؟ .

  • حقيقة ينساها الكثير :

{ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً ون يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزى الشاكرين } آل عمران : 144- 145] .

إن البشر إلى فناء والعقيدة إلى بقاء ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس من الرسل والدعاة على مدار التاريخ وما محمد صلى الله عليه وسلم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن العميقة في منابت التاريخ المبتدئة مع البشرية تحدو لها بالهدى والسلام مع مطالع الطريق .

وهي أكبر من الداعية وأبقى منه فدعاتها يجيئون ويذهبون وتبقى هي على الأجيال والقرون ويبقى أتباعها موصولين بمصدرها الأول الذي أرسل بها الرسل وهو باق سبحانه يقوم إليه المؤمنون وما يجوز أن ينقلب أحد منهم على عقبيه ويريد عن هدى الله والله حي لا يموت وما أطيب كلام النضر بن أنس رضى الله عنه حين أشيع أن محمدا قتل فقال لهم : فما تصنعون بالحياة من بعده فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والقرآن مع هذه القصة يلمس مكمن الخوف من الموت في النفس البشرية لمسة موصية تطرد ذلك الخوف عن طريق بيان الحقيقة الثابتة في شأن الموت وشأن الحياة وما بعد الحياة والموت من حكمة لله وتدبير ومن ابتلاء للعباد وجزاء { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزى الشاكرين } آل عمران 145.

إن لكل نفس كتابا مؤجلا إلى أجل مرسوم ولن تموت نفس تستوفي هذا الأجل المرسوم فالخوف والهلع والحرص والتخلف لا تطيل جلاً والشجاعة والثبات والإقدام والوفاء لا تقصر عمراً فلا كان الجبن ولا نامت أعين الجبناء فالأجل المكتوب لا ينقص منه يوم ولا يزيد .

بذلك تستقر حقيقة الأجل في النفس فتترك الاشتغال به ولا تجعله في الحساب وهي تفكر في الأداء والوفاء بالالتزامات والتكاليف الإيمانية وبذلك تنطلق من عقال الشح والحرص كما ترتفع على وهلة الخوف والفزع وبذلك تستقيم على الطريق بكل تكاليفه وبكل التزاماته في صبر وطمأنينة وتوكل على الله الذي يملك الآجال وحده .

فإذا كان العمر مكتوبا والأجل مرسوما فلتنظر نفس ما قدمت لغد ؟ ولتنظر نفس ماذا تريد؟ أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان وأن تحصر همها كله في هذه الأرض وأن تعيش لهذه الدنيا وحدها ؟ أم تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى وإلى اهتمامات أرفع وإلى حياة أكبر من هذه الحياة ؟ مع تساوى هذا الهم وذلك فما يختص بالعمر والحياة ؟

وشتان بين حياة وحياة وشتان بين اهتمام مع اتحاد النتيجة بالقياس إلى العمر والأجل والذي يعيش لهذه الأرض وحدها ويريد ثواب الدنيا وحدها إنما يحيا حياة الدنيا والدواب والأنعام ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب !! والذي يتطلع إلى الأفق الآخر إنما يحيا حياة الإنسان الذي كرمه الله واستخلفه وأفرده بهذا المكان ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب { وما كان لنفس أن تموت إلا بأذن الله كتاباً مؤجلاً ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن رد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزى الشاكرين } آل عمران 145 ] الذين يدركون تفهم التكريم الإلهي للإنسان فيشكرون الله على هذه النعمة فينهضون بتبعات الإيمان .

وهكذا يقر القرآن حقيقة الموت والحياة وحقيقة الغاية التي ينتهي إليها الأحياء وفق ما يريدون لأنفسهم من اهتمام قريب كاهتمام الدود أو اهتمام بعيد كاهتمام الإنسان بذلك ينقل النفس ن الانشغال بالخوف من الموت من التكاليف وهي لا تملك شيئا في شأن الموت والحياة إلى الانشغال بما هو أنفع للنفس في الحقل الذي تملكه وتملك فيه الاختيار فتختار الدنيا أو تختار الآخرة وتنال من جزاء الله وتختار .

مثال حي

ويضرب القرآن المثل الحي لأولئك الذين صدقوا في إيمانهم وقاتلوا مع أنبيائهم فلم يعجزوا عند الابتلاء وتأدبوا وهم مقبلون على الموت بالأدب الإيماني في هذا المقام مقام الجهاد فلم يزيدون على أن يستغفروا ربهم وأن يجسموا أخطاءهم فيروها (إسرافاً) في أمرهم وأن يطلبوا من ربهم الثبات والنصر على الكفار وذلك في قوله تعالى : { وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } آل عمران 146- 147 ].

مجاهدون لم تضعف نفوسهم أمام الموت ولا تتضعضع قواهم ولا تلين عزائمهم ولا يستكينون أو يستسلمون وفي هذا الموقف لم تشغلهم الدنيا لذلك لم يطلبوا نعمة ولا ثراء بل لم يطلبوا ثوابا ولا جزاء لقد كانوا أكثر أدبا مع الله وهم يتوجهون إليه بينما هم يقاتلون في سبيله فلم يطلبوا منه سبحانه إلا غفران الذنوب وتثبيت الأقدام والنصر على الكفار فحتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم إنما يطلبون هزيمة الكفر وعقوبة الكفار إنه الأدب اللائق بالمؤمنين في حق الله الكريم

كذلك أعطاهم الله من عنده كل شئ أعطاهم كل ما يتمناه طلاب الدنيا وزيادة وأعطاهم كذلك كل ما يتمناه طلاب الآخرة ويرجونه { فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة } وشهد لهم المولى بالإحسان فقد أحسنوا الأدب وأحسنوا الجهاد وأعلن المولى حبه لهم وهو أكبر نعمة وأكبر ثواب { والله يحب المحسنين } آل عمران 134 ].

ولقد ترجم هذه المعاني إلى حياة ترى ومواقف مشهودة نماذج من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا .

نماذج من الشهداء ( رجال استوعبوا الدرس )

فهذا حنظلة الأنصاري (الملقب بحنظلة الغسيل ) شد على أبى سفيان فلما تمكن منه حمل على حنظلة شداد ابن أوس فقتله وكان جُنُبا فإنه لما سمع صيحة الحرب وهو مع امرأته قام من فوره إلى الجهاد فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن الملائكة تغسله ثم قال سلوا أهله ما شأنه ؟ فسألوا امرأته فأخبرتهم الخبر !!

أما زيد بن ثابت فيقول بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع قال : فجعلت أطوف بين القتلى فأتيته وهو بآخر رمق وبه سبعون ضربة ما بين طعنة رمح وضربة بسيف ورمية بسهم فقلت أبا سعد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام ويقول لك ؟! أخبرني كيف تجدك ؟ فقال : وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام قل له يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أجد ريح الجنة وقل لقومي الأنصار : لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف وفاضت نفسه من وقته .

ويقول خيثمة وكان ابنه قد استشهد يوم بدر لقد أخطأتنى موقعة بدر وكنت والله عليها حريصا حتى ساهمت ابني في الخارج فخرج سهمه فرزق الشهادة وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها يقول : الحق بنا ترافقنا في الجنة وقد كبرت سني ورق عظمى وأحببت لقاء ربى فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقتل بأحد شهيدا .

وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج وكان له أربعة بنين شباب يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا فلما توجهوا إلى أحد أراد أن يتوجه معهم فقال له بنوه : إن الله قد جعل لك رخصة فلو قعدت ونحن نكفيك وقد وضع الله عنك الجهاد فأتى عمرو بن الجموح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن بنى هؤلاء يمنعوني أن أخرج معك والله إني لأرجو أن استشهد فأطأ بعرجتى هذه في الجنة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد وقال لبنيه وما عليكم أن تدعوه ؟ لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة ؟ فخرج مع رسول الله فقتل يوم أحد شهيداً .

إن الذي حقق هذه المشاعر الصادقة في قلوب هؤلاء الرجال هو حب الموت في سبيل الله فعبدوا الله حتى أتاهم اليقين .. الحقيقة التي ينساها كثير من الناس .

ووفقاً لهذا المفهوم الجديد الذي أقامته في قلوب المؤمنين آيات القرآن الكريم التي عالجت هذه القضية سارت خطى المؤمنين المجاهدين الكرام في طلب الشهادة في سبيل الله لا يهابون الموت وهم يقولون : أن نموت أعزة خير من أن نعيش أذلة وإليك صور من التضحيات المختلفة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده هي دروس لأمة الإسلام لو وعوها وطبقوها لانتصروا في الدنيا ولفازوا في الآخرة .

  • مع سيدنا إبراهيم الأمة :

وإذا كان القرآن المجيد قد تحدث عن الجهاد والفداء باعتباره أعلى صور التضحية حديثا موسعا قائما على الدعوة المؤكدة إلى استشعار روح التضحية والتدثر بدروع الثبات والإقدام فإنه في الوقت نفسه قد أعطانا نماذج باهرة للذين سبقوا بمواقفهم البطولية الفدائية فعرض علينا من هذه النماذج ما قام به سيدنا إبراهيم عليه السلام من عمل فيه الفدائية والتضحية حين سخر من قومه عبدة الأصنام والأوثان ووقف وهو فرد في وجه الطغيان الاعتقادى والضلال الفكري والسفه الوثني وأقدم على إظهار السخرية بآلهة هؤلاء فسألهم باستخفاف { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } الأنبياء 52] فأجابوه إجابة المقلدين لمن سبقوهم تقليدا أعمى كأنهم لا عقول عندهم ولا شخصية لهم { وجدنا آباءنا لها عابدين} الأنبياء 53] فجابههم بالرد المقذع الموجع { لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين } الأنبياء 54 ].

وقصته مع الأصنام معروفة فنزعة التضحية لإحقاق الحق هي التي دفعته أن يفعل ما فعل .

وما قصته مع سيدنا إسماعيل ببعيدة عنا حين رأى في المنام أنه يذبح هذا الابن الحليم الغالي ورؤيا الأنبياء جزء من وحي الله تعالى إليهم فلم يتردد إبراهيم عليه السلام في الإقدام على الفداء والتضحية { قال يا بنى إني أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت أفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين } الصافات 102- 105 ].

إن العبد قد يبذل نفسه لله عز وجل ويعلم أنها لحظات ثم تخرج روحه إلى رحمة الله عز وجل وكرامته والشهيد لا يذوق من مس القتل إلا كما يذوق من مس القرصة أما أن يمسك سكيناً بيده ويطرح ولده على وجهه ويمر السكين على رقبته وتسيل دماء الولد على يده وثيابه !! فهذا كله دليل صدق للتضحية في سبيل المبدأ والغاية .

لله هذه النفوس التي تبتلى بمثل هذا الابتلاء الله أعلم حيث يجعل رسالته وأن تعجب من هذا الموقف الإيماني من الشيخ الذي شاب في التوحيد ومحبة الرب العزيز الحميد فاعجب من الغلام الذي يقول لأبيه وهو يعرض عليه أن يذبحه بقوله :{ إني أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى } فقال : { يا أبت أفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين } الصافات 102]. ما قال : ما ذنبي ؟ وهل تطاوعك نفسك أن تذبحني بيدك ؟ أو ما جوابك لأمي ؟ إنه غلام حليم كما وصفه الله عز وجل وكان صادقاً في كلامه وفي وعده لأبيه كما وصفه الله عز وجل بقوله { واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً } مريم 54 .

إنها ذرية مباركة طيبة تتوارث النبوة والشرف والسيادة إن الله عز وجل رفعها بالإيمان واليقين فمن أولى بالموقف الإيمانية من إبراهيم وذريته وهذه الموقف الإيمانية التي يحبها الله عز وجل هي مراد الله عز وجل من العباد ومطلوبه منهم والله عز وجل لا يستفيد شيئا من طاعات العباد ولا يتضرر بشيء من معاصيهم { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم } الحج 37 .

فلما استسلم الأب لتنفيذ أمر الله واستسلم الولد للذبح فدى الله عز وجل الولد بذبح عظيم وارتفعت راية من رايات الإيمان وعلا منار من منارات العقيدة وضرب إبراهيم عليه السلام وولده إسماعيل أروع الأمثلة في البذل والتضحية أمر الله وتقديم محبته .

  • الملك الجبار :

وهذا ملك جبار استبد بقومه وطغى عليهم وأرد أن يخرجهم من دينهم إلى ضلاله وكفره فاستمسكوا بالحق وقاوموا الباطل فأمر السلطان المتجبر جنده بأن يحقروا أخاديد فحفروها على أفواه الطرق وأضرموا فيها النيران وجعل هذا الجبار يعرض المؤمنين على هذه الأخاديد واحدا بعد الآخر فمن ارتد عن دينه عفا عنه ومن أصر على إيمانه قذفه في النار فجعل المؤمنون يصبرون على التضحية بأرواحهم ويلاقون الموت في النار بصبر وثبات حتى إن امرأة بينهم ترددت قليلا حين همت بإلقاء نفسها في النار فقال لها ابنها : يا أماه قعي ولا تتقاعسي اصبري فإنك على الحق اثبتي على ما أنت عليه فإنما هي غميصة امضي ولا تجزعي فألقت المرأة بنفسها وتبعها ولدها .

يقول الله تعالى عن ذلك في سورة البروج { والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شئ شهيد إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق } البروج 1-9

وإذا كان هذا الذي أشرنا إليه كان دروسا للمسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعوها وتأثروا بها فإننا سنذكر أمثله ن هؤلاء الرجال الذين ضحوا بالوطن والأهل والولد والنفس ومن بعدهم رجال نهلوا من نفس النبع الصافي وما زال بذكرهم التاريخ وإن كنا لا نستطيع لهم حصرا فيكفي أن نسوق منهم أمثلة ونماذج :

  • نموذج منهم :

هم سحرة فرعون يستدعيهم ليردوا على معجزة موسى الإلهية حين ألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين فيقبلون عليه وهم مازالوا في ضلالهم يطمعون في الأجر المجزى من فرعون إن أفلحوا قالوا { أئن لنا لأجر إن كنا نحن الغالبين } الشعراء 41] وبدأ الصراع بين محاولة المخلوق العاجز وقدرة الخالق المسيطرة فألقى السحرة حبالهم وعصيهم وقالوا من اغترارهم بفرعون وانخداعهم بسلطانه { بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون } الشعراء 44] ولكن موسى ألقى عصاه بوحي من الله { فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون } الأعراف 117، 118 ].

وانتصر موسى واندحر الساحرين وسطع ضوء وانمحى تمويه الباطل فاستبان للسحرة نور الإيمان وظهر الطريق المستقيم للعيان لكن فرعون ما زال هناك بجنوده وبنوده بقهره وفجوره ليكن ما يكون فمن عرف الحق وآمن به ضحى من أجله بكل ثمين وال ولو كانت نفسه التي بين جنبيه ولذلك رأينا عمق الإيمان في التضحية الصادقة { قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى } طه 72، 73 . فلتعذب الأجساد أو تزهق الأرواح وتقطع الأيدي والرجل من خلاف ولتصلبنا في جذوع النخل فافعل ما تشاء .

ولكأن القرآن الكريم قد حرص على أن يبرز وسائل التعذيب التي هدد بها فرعون أولئك الذين أشرق الإيمان في صدورهم ليشير إلى أن أصحاب العقيدة الذين يضحون بكل ما يملكون لا يذلون ولا يهنون ولا يضعفون مهما لاقوا من وسائل التعذيب بل يظلون أوفياء للفداء شرفاء عند الابتلاء أقوياء يتحدون جبروت الأعداء ومهما تكرر الوعيد أمامهم فإنهم يلجئون إلى الاعتصام بحبل الله القوى المتين قائلين { ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين } الأعراف 126] فهم لا يبدلون ولا يغيرون ولا يشترون بل هم مضحون من أجل المبدأ والقيم والعقيدة والإيمان لأنهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فصاروا بعدما قضوا نحبهم أحياء بتضحياتهم ومواقفهم .

  • مع عوف بن الحارث :

قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عوف بن الحارث وهو ابن عفراء قال : يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده ؟ قال : غمسه يده في العدو حاسراً فنزع درعاً كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل .

وهذا مثل من اهتمام الصحابة رضى الله عنه الحياة الآخرة يتمثل في طلب مواطن رضوان الله تعالى يقدمه عوف بن مالك الأنصاري رضى الله عنه حيث يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المواطن الذي بلغ فه الدرجات العلي من رضوان الله تعالى فأتى جواب النبي بأنه كون في إقحام النفس في المغامرات المهلكة طلبا للشهادة ومن ذلك أن نطلق المجاهد في نحر العدو كالسهم الحدد الذي لا تحول العوائق دون بلوغه هدفه وهو حاسر غر متدرع بما قه من سلاح الأعداء .

ومثل هذا غلب على الظن وقوعه شهيدا في ساحة الأعداء ولكن بعد أن يثخن فيهم قتلا لأن النفوس التي لا تؤمن بالآخرة يفر أصحابها من الشجعان المغاوير خاصة الحسر من الدروع لأن رمى الدرع يعتبر علامة على الاستقتال وطلب الموت ومن كان كذلك فإن مواجهته تعتبر من الخطر الذي يحذر منه طلاب الدنيا .

  • مع عمير بن حمام :

أخرج الإمام مسلم من حديث أنس بن مالك رضى الله عنه في سياقه لغزوة بدر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض )) قال : يقول عمير بن الحمام الأنصاري : يا رسول الله !جنة عرضها السماوات والأرض ؟ : قال : نعم قال : بخ بخ .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ما يحملك على قولك بخ بخ )) قال : لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها قال : ((فإنك من أهلها فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة قال فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل .

وفي هذا الخبر نجد مثلاً عالياً من قوة ارتباط النبي صلى الله عله وسلم وأصحابه رضى الله عنه بالجنة فالرسول صلى الله عليه وسلم يعد الشهداء بالجنة والمؤمنون تسابقون إلى الشهادة حرصا على الظفر بالجنة .

ونجد عمير بن الحمام يبلغ به حرصه على الجنة إلى أن يرمى التمرات من يده وأن يرى أن وقت أكلها وقت طويل لأنه يفصل بينه وبين دخول الجنة وإن كان ذلك الوقت في عرف الناس قصراً

لقد كان الشعور القوى بالحياة الآخرة متمثلاً في حياة الصحابة رضى الله عنهم فكانت قلوبهم عامرة بالخوف من النار والشوق إلى الجنة وكان تردد خواطرهم بين مقامي الخوف والرجاء حافزاً قوياً على تقوى الله تعالى والزهد في الحياة الدنيا والتسابق في ميادين الجهاد في سبيل الله تعالى .

  • مصعب بن عمير رضى الله عنه :

هذه الأسماء المضيئة الطاهرة الطيبة التي استعملها الله عز وجل في الدعوة إلى دينه وفتح البلاد وقلوب العباد لرسالة نبيه صلى الله عليه وسلم إنه أول سفير في الإسلام إنه مبعوث النبي صلى الله عله وسلم إلى طيبة الطيبة وكان من أنعم شباب مكة وهجر هذا النعم وهاجر بأمر النبي الكريم صلى الله عله وسلم وكان الذين يدخلون الإسلام ببركة دعوته أكثر ممن يدخله في مكة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وما مضى عليه عام حتى دخل الإسلام كل بيت في المدينة إما آمن كله أو بعضه عن عمر بن الخطاب قال : نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلاً وعليه إرهاب كبش قد تنطق به فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نور الله قلبه لقد رأيته بين أبوين يغدوانه بأطيب الطعام والشراب فدعاء حب الله ورسوله إلى ما ترون )).

والمواقف الإيمانية العظيمة يوفق لها الصادقون .

على قدر أهل العزم تأتى العزائم

وتأتى على قدر الكرام المكارم

عن محمد بن شرحبيل قال : حمل مصعب اللواء يوم أحد فلما جال المسلمون ثبت به مصعب فأقبل ابن قميئة فضرب يده اليمنى فقطعها ومصعب يول { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } آل عمران 144] وأخذ اللواء بيده اليسرى وحتى عليه فضربها فقطعها فحنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول (( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } أل عمران 144 .

ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه رضى الله عنه .

فكان مصعب رضى الله عنه من السابقين من المهاجرين هاجر الهجرتين إلى الحبشة ثم اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح المدينة بالإسلام ويعلم أهلها القرآن وختم له بالشهادة والسعادة ولم يطل عمره حتى يقطف ثمره جهاده وصبره .

عن خباب قال : هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتغى وجه الله فوجب أجرنا على الله عز وجل فمنا من مضى ولم يأكل من أجره شيئاً منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم نجد له شيئاً نكفنه فيه إلا نمره كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطينا رجليه خرج رأسه فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطى بها رأسه ونجعل على رجليه إذخراً ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهد بها )).

  • أنس بن النضر رضى الله عنه :

عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : غاب عمى أنس بن النضر عن قتال بدر فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعنى أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعنى المشركين .

ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال : يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني لأجد ريحها من دون أحد قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع .

قال أنس : فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة بالرمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه .

قال أنس : كنا نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أمثاله { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بلوا تبديلاً } الأحزاب 23.

  • مع عاصم بن ثابت رضى الله عنه ويوم الرجيع :

عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عيناً وأمر عليهم عاصم بن ثابت وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذكروا لحى من هذيل يقال لهم : بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رام فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة فقالوا : هذا تمر يثرب فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم فلما انتهي عاصم وأصحابه لجئوا إلى فدفد أي مكان مرتفع وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا : لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلاً .

فقال عاصم : أما أنا فلا أنزل في ذمه كافر اللهم أخبر عنا نبيك فقاتلوهم حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل .. وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه وكان عاصم عظيماً من عظمائهم يوم بدر فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته .

وكان يجوز لعاصم رضى الله عنه أن يقبل الأمان ولكن قوة إيمانه وعزته على الكافرين أبت ذلك فقاتل حتى قتل رضى الله عنه ولكرامته على الله عز وجل منع الكافرين من الوصول إلى جسده فوفي هو مع الله عز وجل فلم يقبل أمان المشركين وأن يجرى عليه حكم الكافرين وأن يسمه المشركون ووفي الله عز وجل ببقية عهده فمنعهم من الوصول إليه بعد قتله فإن قال قائل : لماذا لم يمنعهم الله عز وجل من قتله ؟ فالجواب : لما يريده الله عز وجل له من الكرامة ودرجة الشهادة والله تعالى يحب أن يرى عباده المؤمنين وهم يبذلون نفوسهم لله عز وجل فيبوئهم منازل الكرامة ويزيدهم من فضله .

  • مع جعفر بن أبى طالب :

قال ابن إسحاق : وحدثني بن عباد عن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد قال : الذي أرضعني وكان أحد بنى مرة بن عوف وكان في ذلك تلك الغزوة غزوة مؤتة قال : والله لكأنى أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء ثم عقرها ثم قاتل حتى قتل .

وقال ابن هشام وحدثني من أثق به من أهل العلم أن جعفر بن أبى طالب أخذ اللواء بيمينه فقطعت فأخذه بشماله فقطعت فاحتضنه بعضديه حتى قتل رضى الله عنه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فآتاه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء ويقال : إن رجلاً من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعه نصفين .

وعن نافع أن ابن عمر أخبره أنه وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل قال : فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شئ في دبره أي ظهره .

قال عبد الله : (( كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبى طالب فوجدناه في القتلى ووجدنا ما في جسده بضعا وتسعين من طعنة ورمية )).

قال الحافظ : وظاهرهما التخالف ويجمع بأن العدد قد لا يكون له مفهوم أو بأن الزيادة باعتبار ما رمى فيه من السهام فإن ذلك لم يذكر في الرواية الأولى أو الخمسين مقيدة بكونها ليس فيها شئ في دبره وهو محمول على أن الرمي إنما جاء من جهة قفاه أو جانبيه ولكن يؤيد الأول أن في رواية العمرى عن نافع : فوجدنا ذلك فيما أقبل من جسده بعد أن ذكر العدد بضع وتسعون .

وعن عامر قال : كان ابن عمر إذا حيا ابن جعفر قال : السلام عليك يا ابن ذي الجناحين .

  • عبد الله بن رواحة رضى الله عنه وغزوة مؤتة :

قال ابن إسحاق : كما حدثني عبد الله بن أبى بكر أنه حدث عن زيد بن أرقم قال كنت يتيماً لعبد الله بن رواحة في حجره فخرج في سفرته تلك مردفى على حقيبة راحلته والله إنا لنسير ليلة إذ سمعته يتمثل بيته هذا .

إذا أرديتني وحملت رحلي

مسيرة أربع بعد الحساء

فلما سمعته منه بكيت فخفقني بالدرة وقال : ما عليك يالكع أن يرزقني الله الشهادة وترجع من شعبتي الرحل .. ولما نزل المسلمون بمعان من أرض الشام بلغهم أن هرقل في ماب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم وقد اجتمعت إليهم المستعربة من لخم وجذام وبلقين وبهرام وبلى في مائة ألف قاموا بمعان ليلتين ينظرون في أمرهم وقالوا : نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا فإما أن يمدنا وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له فشجع عبد الله بن رواحة الناس وقال : يا قوم والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم له تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين : إما الظهور وإما الشهادة .

وعن عباد بن عبد الله بن الزبير قال : حدثني أبى الذي أرضعني وكان أحد بنى مرة ابن عوف وكان في تلك الغزاة غزوة مؤتة قال : والله لكأنى أنظر إلى جعفر بن أبى طالب حين اقتحم عن فرس له شقراء ثم عقرها ثم قاتل القوم حتى قتل فلما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه وتردد بعض التردد ثم قال :

أقسمت يا نفس لتنزلن

طائعة أو لتكرهن

مالي أراك تكرهين الجنة

إن أجلب الناس وشدوا الرنة

لطالما قد كنت مطمئنة

هل أنت إلا نطفة في شنة

وقال عبد الله بن رواحة :

يا نفس إلا تقتلي تموتي

هذا حمام الموت قد صليت

وما تمنيت فقد أعطيت

إن تفعلي فعلاهما هديت

ثم نزل ، فلما نزل أتاه ابن عم له بعظم من لحم فقال : اشدد بهذا صلبك فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت ، فأخذه في يده فانتهش منه نهشة ثم سمع الحطمة في ناحية الناس ، فقال : وأنت في الدنيا ، ثم ألقاه من يده ، ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قتل رحمه الله ورضى عنه .

وعن أنس رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال :( أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب ثم أخذ عبد الله بن رواحة فأصيب - وعيناه تذرفان - حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم )

- البراء بن مالك رضى الله عنه يوم اليمامة وحديقة الموت :

عن أنس مرفوعاً قال : " كم من ضعيف متضعف ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره "

ولقي البراء زحفاً فقالوا : ا براء أقسم على ربك ، فقال : أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم ، ولقي زحفاً آخر فقالوا : يا براء أقسم على ربك ، فقال : أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم ، والحقنى بنبيك ، فمنحوا أكتافهم وقتل البراء رضى الله عنه .

في يوم اليمامة أغلقت بنو حنيفة أنصار مسلمة الكذاب الباب عليهم ، وأحاط بهم الصحابة ، فقال البراء بن مالك : يا معشر المسلمين ألقونى عليهم في الحديقة ، فاحتملوه فوق الجحف ، ورفعوها بالرماح حتى ألقوه عليهم من فوق سورها ، فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه ، دخل المسلمون الحديقة من حيطانها وأبوابها يقتلون من فيها من المرتدين من أهل اليمامة حتى خلصوا إلى مسيلمة لعنه الله .

وقال الذهبي : بلغنا أن البراء يوم حرب مسيلمة الكذاب أمر أصحابه أن يحتملوه على ترس على أسنة رماحهم وأن يلقوه في الحديقة ، فاقتحم إليهم وشد عليهم وقاتل حتى افتتح باب الحديقة ، فجرح يومئذٍ بضع وثمانين جرحاً ، ولذلك قام خالد بن الوليد عليه شهراً يداوى جراحه .

فلله هذه المواقف الإيمانية ما أعظمها بركة على الأمة وما أكثر عائدتها ، وأعظم فائدتها ، إنها مواقف الأبطال في ساحات القتال ، إنها مواقف رجال باعوا أنفسهم للكبير المتعال ، فما تلكئوا في تسليم المبيع ، ولا تعللوا بالأباطيل فلله درهم وعلى الله أجرهم .

- عبد الرحمن بن ثعلبة ( أبو عقيل ) رضى الله عنه :

عن جعفر بن عبد الله بن أسلم قال : لما كان يوم اليمامة واصطف الناس كان أول من جرح أبو عقيل ، رمى بسهم فوقع بين منكبيه وفؤاده في غير مقتل ، فأخرج السهم ووهن له شقه الأيسر في أول النهار ، وجُرَّ إلى الرحل ، فلما حمى القتال وانهزم المسلمون وجاوزوا رحالهم - وأبو عقيل واهن من جرحه - سمع معد بن عدى يصيح : يا للأنصار الله الله و الكرة على عدوكم ، قال عبد الله بن عمر ، فنهض أبو عقيل يريد قومه ، فقلت : ما تريد ؟ ما فيك قتال ، قال : قد نوه المنادى باسمي .

قال ابن عمر : قلت له : إنما يقول : يا للأنصار ، ولا يعنى الجرحى ، قال أبو عقيل : أنا من الأنصار ، وأنا أجيبه ولو حبواً .

قال ابن عمر : فتحزم أبو عقيل ، وأخذ السيف بيده اليمنى ، ثم جعل ينادى : يا للأنصار كرة كيوم حنين ، فاجتمعوا رحمكم الله جميعاً ، تقدموا فالمسلمون رديئة دون عدوهم ، حتى أقحموا عدوهم الحديقة ، فاختلطوا ، واختلفت السيوف بيننا وبينهم .

قال ابن عمر : فنظرت إلى أبى عقيل وقد قطعت يده المجروحة من المنكب فوقعت إلى الأرض ، وبه من الجراح أربعة عشر جرحاً كلها قد خلصت إلى مقتل ، وقتل عدو الله مسيلمة .

قال ابن عمر : فوقفت على أبى عقيل وهو صريع بآخر رمق فقلت : يا أبا عقيل قال : لبيك - بلسان ملتاث - لمن الدبرة ؟ قلت : أبشر قد قتل عدو الله فرفع إصبعه إلى السماء ، ومات يرحمه الله .

قال ابن عمر : فأخبرت عمر بعد أن قدمت عليه خبره فقال : رحمه الله ما زال يسعى للشهادة ويطلبها ، وإن كان ما علمت من خيار أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم ، وقديم إسلامهم رضى الله عنه .

- أعرابي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه :

عن شداد بن الهاد رضى الله عنه أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه ، ثم قال : أهاجر معك ، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ، فلما كانت غزوة غنم النبي صلى الله عليه وسلم سبياً فقسم وقسم له ، فأعطى أصحابه ما قسم له ، وكان رعى ظهرهم ، فلما جاء دفعوه إليه ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم .

فأخذه فجاء به النبي صلى الله عله وسلم فقال : ما هذا ؟ قال :" قسمته لك " قال : ما على هذا اتبعتك ، ولكنى اتبعتك على أن أرمى هاهنا - وأشار إلى حلقه - بسهم فأموت فأدخل الجنة ، فقال :" إن تصدق الله يصدقك " .

فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو ، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم ُيحمَل قد أصاب السهم حيث أشار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" أهو هو ؟ قالوا : نعم ، قال: " صدق الله فصدقه " ثم كفَّنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته صلى الله عليه وسلم ، ثم قدمه فصلى عليه ، فكان فيما ظهر من صلاته :" اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً فقتل شهيداً أنا شهيد على ذلك " .

- رجل حضره أبو موسى الأشعرى رضى الله عنه :

عن أبى بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه - يعنى أبا موسى الأشعرى - قال : سمعت أبى وهو بحضرة العدو يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف " فقام رجل رث الهيئة فقال : يا أبا موسى أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا ؟ قال: نعم ، قال : فرجع إلى أصحابه فقال : أقرأ عليكم السلام ، ثم كسر جفن سيفه فألقاه ، ثم مشى بسيفه إلى العدو ، فضَرَب به حتى قُتِل.

قوله :” إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف “ قال النووي : قال العلماء : معناه أن الجهاد وحضور معركة القتال طريق إلى الجنة وسبب دخولها.

و المواقف الإيمانية لحظات يصدق فيها المؤمن مع ربه عز وجل ويصدق نفسه هذه اللحظات يرتفع بها المؤمن لأنه يرفع راية الله فهذا الرجل لم نقف على اسمه ولا يضيره ذلك لأنه معروف عند الله عز وجل موقفه الإيماني وصدق إيمانه كما لم نعرف اسم مؤمن آل فرعون ومؤمن آل يس ولكن المواقف الإيمانية الصادقة مدونة عند الله عز وجل يرفع بها أصحابها في الدنيا والآخرة والله تعالى يختص برحمته وفضله من يشاء والسعيد حقا من كان من أهلها فليس كل أحد يوفق لهذه المواقف التي ترفع راية الإيمان وتعز دين الرحمن .

فعن سعيد بن المسيب أن رجلاً سمع عبد الله بن جحش يقول قبل يوم أحد بيوم : اللهم إنا لاقوا هؤلاء غداً ، وإني أقسم عليك لما يقتلوني ويبقروا بطني ويجدعونى ، فإذا قلت لي : لم فُعِل بك هذا ؟ فأقول : اللهم فيك ، فلما التقوا فعل ذلك به ، فقال الرجل الذي سمعه : أما هذا فقد استجيب له ، وأعطاه الله ما سأل في جسده في الدنيا وأنا أرجو أن يعطى ما سأل في الآخرة .

وعن إسحاق بن سعد بن أبى وقاص قال : حدثني أبى أن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد : ألا ندعوا الله ؟ فخلوا في ناحية فدعا عبد الله بن جحش فقال : يا رب إذا لقيت العدو غدا فلقني رجلاً شديداً بأسه شديداً حرده أقاتله فيك ويقتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني فإذا لقيتك غداً قلت : يا عبد الله من جدع أنفك وأذنك؟ فأقول : فيك وفي رسولك فتقول : صدقت .

قال سعد : فقد لقيته آخر النهار وإن أذنه وأنفه لمعلقتان في خيط مع عكرمة بن أبى جهل رضى الله عنه والمبايعة على الموت يوم اليرموك .

  • عكرمة بن أبى جهل :

لما كان يوم اليرموك تقدم خالد إلى عكرمة بن أبى جهل والقعقاع بن عمرو أن ينشئا القتال فبدرا يرتجزان ودعوا إلى البراز وتنازل الأبطال وتجادلوا وحميت الحرب وقامت على ساق فنادى عكرمة : قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل موطن وأفر منكم اليوم ؟ من يبايع على الموت ؟ فبايعه أربعمائة من وجوه الناس وفرسانهم فبايعه عمه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور فاستبسلوا وقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعاً جراحا وأتى خالد بعكرمة جريحاً فوضع رأسه على فخذه وبعمرو بن عكرمة فوضع رأسه فوجدوا به بضعاً وسبعين ن طعنة ورمية وضربة .

  • مع عبد الله بن حذافة السهمي رضى الله عنه :

كان ملك الروم يسمع عن شجاعة الصحابة رضى الله عنه وصبرهم وجهادهم بما يشبه الأساطير فوقع عبد الله بن حذافة السهمي أسيراً فذهبوا به إلى ملكهم فقالوا : إن هذا من أصحاب محمد صلا الله عليه وسلم فأراد أن يختبره فقال : هل لك أن تنتصر وأعطيك نصف ملكي ؟ قال : (( ولو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملك العرب ما رجعت عن دين محمد صلا الله عليه وسلم طرفة عين )) قال : إذا أقتلك قال : ((أنت وذاك )) فأمر به فصلب وقال للرماة : ارموه قريبا من بدنه وهو عرض عليه ويأبى فأنزله ودعا بقدر فصب فيه ماء حتى احترقت ودعا بأسيرين من المسلمين فأمر بأحدهما فألقى فيها وهو يعرض عليه النصرانية وهو يأتي ثم بكى فقيل للمك : إنه بكى فظن أنه قد جزع فقال : ردوه ما أبكاك؟ قال : قلت : هي نفس واحدة تلقى الساعة فنذهب فكنت أشتهي أن يكون بعدد شعري أنفس تلقى في النار في الله فقال له الطاغية : هل لك أن تقبل رأسي وأخلى عنك)) فقال له عبد الله : ((وعن جميع الأسارى ؟ )) قال نعم فقبل رأسه وقدم بالأسارى على عمر فأخبره خبره فقال عمر : (( حق على كل مسلم أن يقبل رأس ابن حذافة وأنا أبدأ فقبل رأسه )).

إن الموقف الإيمانية لا يقتصر برها ونفعها على أصحابها وحدهم بل تعم بركتها على من شاء الله من المؤمنين فتنزل بها الرحمات وتنفرج بها الكربات لأنها مواقف يحبها الله عز وجل ويحب أصحابها والمؤمن مبارك أينما كان .

  • مع سعيد بن عمرو بن زيد بن نفيل يوم اليرموك :

قال سعيد بن عمرو بن نفيل : لما كان يوم اليرموك كنا أربعاً وعشرين ألفا ونحواً من ذلك فخرجت لنا الروم بعشرين ومائة ألف وأقبلوا علينا بخطىً ثقيلة كأنهم الجبال تحركها أيد خفية وسار أمامهم الأساقفة والبطارقة والقسيسون يحملون الصلبان وهم يجهرون بالصلوات فيرددها الحبش من ورائهم ولهم هزيم الرعد فلما رآهم المسلمون على حالهم هذه هالتهم كثرتهم وخالط قلوبهم شئ من خوفهم عند ذلك قام أبو عبيدة بن الجراح يحض المسلمين على القتال فقال : عباد الله انصروا الله نصركم وثبت أقدامكم عباد الله اصبروا فإن الصبر منجية من الكفر ومرضاة للرب ومدحضة للعار وأشرعوا الرماح واستتروا بالتروس والزموا الصمت إلا من ذكر الله عز وجل في أنفسكم حتى آمركم إن شاء الله .

قال سعيد : عند ذلك خرج رجل من صفوف المسلمين وقال لأبى عبيدة : إني أزمعت على أن أقضي أمري الساعة فهل لك من رسالة تبعث بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أبو عبيدة : نعم تقرئه منى ومن المسلمين السلام وتقول له : يا رسول الله إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً .

قال سعيد : فما إن سمعت كلامه ورأيته يمتشق حسامه ويمضى إلى لقاء أعداء الله حتى اقتحمت إلى الأرض وطعنت أول فارس أقبل علينا ثم ثبت على العدو وقد انتزع الله كل ما في قلبه من الخوف فثار الناس في وجوه الروم وما زالوا يقاتلونهم حتى كتب الله للمؤمنين النصر .

  • عبد الله بن الزبير وفتح ‘إفريقية :

كان عدد المسلمين عشرين ألفا وعدد الكفار عشرين ومائة ألف في فتح إفريقية وكان قائد المسلمين عبد الله بن أبى سرح في خلافة عثمان رضى الله عنه ورأى عبد الله بن الزبير جرجير ملك إفريقية وراء عسكره على برذون أشهب ومعه جاريتان تظلانه بريش الطواويس وبينه وبين عسكره أرض بيضاء فاختار ثلاثين فارساً من المسلمين وأخذهم معه ثم حمل في الوجه الذي فيه جرجير وقال للفرسان الذين معه : احملوا ظهري فخرق الصف إلى جرجير وخرج صامداً له وما يظن هو وأصحابه إلا أن ابن الزبير رسول إليه حتى دنا منه فعرف الشر فثنى برذونه مولياً ولكن ابن الزبير أدركه فطعنه ودافعه بالسيف وحز رأسه ونصبه في رمح وكبر فحمل المسلمون من الوجه الآخر فانهزم العدو من كل وجه ومنح الله المسلمين أكتافهم . فهذا موقف إيماني من الفارس عبد الله بن الزبير وكما يقولون : هذا الشبل من ذاك الأسد فقد أخذ هذه الشجاعة النادرة وهذا الإيمان والثبات ورباطة الجأش من أبيه الزبير رضى الله عنه وما أكثر المواقف الإيمانية وما أكثر الأبطال في تاريخ الإسلام فهذا غض من فيض وقطرة من بحر تنبئك بشرف هذه الأمة وكرامتها وتبرهن لك على شرف الإيمان والمواقف الإيمانية .

مع الشباب والصبية - مع الغلمان

  • معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء رضى الله عنهم :

عن عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه قال : إني لواقف يوم بدر في الصف فنظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما تمنيت أن أكون بين أضلع منهما فغمزني أحدهما فقال : يا عماه أتعرف أبا جهل ؟ فقلت : نعم وما حاجتك إليه ؟ قال : أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا فتعجبت لذلك فغمزنى الآخر فقال لي أيضاً مثلها فلم أنشب أن نظرت إلى أبى جهل وهو يجول في الناس فقلت : ألا تربن هذا صاحبكم الذي تسألاني عنه ؟ فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه قال كل منهما : أنا قتلته قال : (( هل مسحتما سيفيكما ؟ ))قال : لا قال : فنظر النبي صلى الله عليه وسلم في السيفين فقال : ((كلاهما قتله )) وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموع والآخر معاذ بن عفراء .

هذا موقف من المواقف الإيمانية لشابين من الأنصار والأنصار مدحهم الله عز وجل بالإيمان فقال عز وجل { والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم } الحشر 9] انقضا رضى الله عنهما على قائد كتيبة الكفر يوم الفرقان كأنهما صقران وقد حز في نفس أبى جهل أن يقتله شباب من الأنصار واعتبر ذلك إهانة له ففي الصحيح عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من ينظر لنا ما فعل أبو جهل ؟ )) فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد فأخذ بلحيته فقال / أنت أبو جهل .

فقال : وهل فوق رجل قتلتموه أو قال : قتله قومه .

قال : وقال أبو مجلز ، غير أكّار قتلني .

قال النووي : قوله : (( لو غير أكار قتلني )) الأكار : الزراع والفلاح وهو عند العرب ناقص وأشار أبو جهل إلى ابني عفراء اللذين قتلاه وهما من الأنصار وهما أصحاب زرع ونخيل ومعناه لو كان الذي قتلني غير أكار لكان أحب إلى وأعظم لشأني ولم يكن على نقص في ذلك .

مع الغلمان

  • عبد الله بن عمر وصحبه :

قال محمد بن عمر الواقدى في سياق رواية له : ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الشيخين فعسكر به وعرض عليه غلمان : عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وأسامة بن زيد والنعمان بن بشير وزيد بن أرقم والبراء بن عازب وأسيد بن ظهير وعرابة بن أوس وأبو سعيد الخدرى وسمرة بن جندب ورافع بن خديج فردهم قال رافع بن خديج فقال ظهير بن رافع : يا رسول الله إنه رام ! وجعلت أتطاول وعلى خفان لي فأجازنى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فلما أجازنى قال سمرة بن جندب لربيبه مرى بن سنان الحارثى وهو زوج أمه : يا أبة أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج وردني وأنا أصرع رافع بن خديج فقال مرى بن سنان الحارثى : يا رسول الله رددت ابني وأجزت رافع بن خديج وابني يصرعه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تصارعا ! فصرع سمرة رافعا فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت أمه امرأة من بنى أسد .

في هذا الخبر مثل جيد على حب الصحابة رضى الله عنهم للجهاد وارتفاع مستواهم التربوي حيث حببوا الجهاد لأنبائهم فأصبح غلمانهم يتسابقون إلى ميادين الجهاد .

وتتبدى هذه المظاهر المتأصلة في نفوس هؤلاء الغلمان في خروجهم مع جيش المسلمين وكلهم أمل في أن جزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يشاركوا في الجهاد كما تتبدى في إلحاح رافع بن خديج على ولى أمره ليقنع النبي صلى الله عليه وسلم بالسماح له بالجهاد بحجة أنه يجيد الرماية ويشفق على نفسه من رد النبي صلى الله عليه وسلم بالرفض فينتصب قائما على أصابع قدميه ليبدو طويلا قد بلغ مبلغ الرجال مخفيا هذا التطاول بخفيه السابغين اللذين يخفيان عقبيه ويتم فوزه بإجازة النبي صلى الله عليه وسلم إياه .

وتأخذ الحسرة سمرة بن جندب الذي رد مع الغلمان ويعصف به الشوق إلى الجهاد فيدلى بمسوغ آخر للقبول وأليس يصرع رافعا ؟ فهو إذا أقوى منه وما دام الأمر كذلك فهو أحق منه بالإجازة ويهمس بذلك في أذن وليه فينطلق بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرحا مسرورا بظفر ابنه بذلك المسوغ ويتصارعان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ويتم لسمرة ما أراد من تلك الإجازة .

إن فرحة هذين الغلامين وأمثالهما بالمشاركة في الجهاد تفوق كل ما خطر على بال أقرانهم من أسرى المباهج الدنيوية والأهداف القربة وذلك شاهد على ارتفاع مستوى المجتمع الإسلامي آنذاك في المثل السامية والقيم العالية .

مع النساء المضحيات

  • أم عمارة رضى الله عنهما :

أخرج محمد بن عمر الواقدى بإسناده عن شيوخه قالوا : وكانت نسيبة بنت كعب أم عمارة وهي امرأة غزية بن عمرو وشهدت أحداً هي وزوجها وابناها وخرجت معها شن لها في أول النهار تريد أن تسقى الجرحى فقاتلت يومئذ وأبلت بلاء حسنا فجرحت اثني عشر جرحا بين طعنة برمح أو ضربة بسيف .

فكانت أم سعد بن الربيع تقول : دخلت عليها فقلت لها : يا خالة حدثيني خبرك فقالت : خرجت أول النهار إلى أحد وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيد ماء فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين لما أنهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسل فجعلت أباشر القتال وأذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وأرمى بالقوس حتى خلصت إلى الجراح .

فرأيت على عاتقها جرحا له غور أجوف فقلت : يا أم عمارة من أصابك بهذا ؟ قالت : أقبل ابن قميئة وقد ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح : دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا فاعترض له مصعب بن عمير وأناس معه فكنت فيهم فضربني هذه الضربة ولقد ضربته على ذلك ضربات ولكن عدو الله كان عليه درعان .

قلت : يدك ما أصابها ؟ قالت : أصيبت يوم اليمامة لما جعلت الأعراب ينهزمون بالناس ؟ نادت الأنصار : (( أخلصونا )) فأخلصت الأنصار فكنت معهم حتى انتهينا إلى حديقة الموت فاقتتلنا عليها ساعة حتى قتل أبو دجانة على باب الحديقة ودخلتها وأنا أريد عدو الله مسيلمة فيتعرض لي رجل منهم فضرب يدي فقطعها فوا الله ما كانت لي ناهية ولا عرجت عليها حتى وقفت على الخبيث مقتولاً وابني عبد الله بن زيد المازنى يسمح سيفه بثيابه فقلت : قتلته ؟ قال : نعم فسجدت شكراً لله وكان ضمرة بن سعيد يحدث عن جدته وكانت قد شهدت أحداً تسقى الماء قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان ! وكان يراها تقاتل يومئذ أشد القتال إنها لحاجزة ثوبها على وسطها حتى جرحت ثلاث عشر جرحاً فلما حضرتها الوفاة كنت فيمن غسلها فعددت جراحها جرحا جرحا فوجدتها ثلاثة عشر جرحا وكانت تقول : إني لأنظر إلى ابن قمئة وهو ضربها على عاتقها وكان أعظم جراحها لقد داوته سنة ثم نادى منادى النبي صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد فشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم ولقد مكثنا ليلنا نكمد الجراح حتى أصبحنا فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحمراء ما وصل إلى بيته حتى أرسل إليها عبد الله ابن كعب المازنى يسأل عنها فرجع إليه يخبره بسلامتها فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

قال الواقدى : حدثني سعيد بن أبى زيد عن مروان بن أبى سعيد بن المعلى قال قيل لأم عمارة : هل كن نساء قريش يومئذ يقاتلن مع أزواجهن ؟ فقالت : أعوز بالله ما رأيت امرأة منهن رمت بسهم ولا بحجر ولكن رأيت معهن الدفاف والأكبار يضربن ويذكرن القوم قتلى بدر ومعهن مكاحل ومراود فكلما ولى رجل أو تكعكع ناولته إحداهن مروداً ومكحلة ويقلن : إنما أنت امرأة ! ولقد رأيتهن ولين منهزمات مشمرات ولها عنهن الرجال أصحاب الخيل ونحوا على متون الخيل يتبعن الرجال على الأقدام فجعلن يسقطن في الطريق ولقد رأيت هند بنت عتبة وكانت امرأة ثقيلة ولها خلق قاعدة خاشية من الخيل ما بهن مشى ومعها امرأة أخرى حتى كر القوم علينا فأصابوا منا ما أصابوا فعند الله نحتسب ما أصابنا يومئذ من قبل الرماة ومعصيتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم

قال الواقدى : حدثني ابن أبى سبرة عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبى صعصعة عن الحارث بن عبد الله قال : سمعت عبد الله بن زيد بن عاصم يقول : شهدت أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما تفرق الناس عنه دنوت منه وأمي تذب عنه فقال : يا ابن أم عمارة ! قلت : نعم قال: ارم ! فرميت بين يديه رجلاً من المشركين بحجر وهو على فرس فأصبت عين الفرس فاضطرب الفرس حتى وقع هو وصاحبه وجعلت أعلوه بالحجارة حتى نضدت عليه منها وقراً والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر ويبتسم فنظر إلى جرح بأمي على عاتقها فقال : أمك أمك ! اعصب جرحها بارك الله عليكم من أهل بيت ! مقام أمك خير من مقام فلان وفلان ومقام ربيبك يعنى زوج أمه خير من مقام فلان وفلان ومقامك لخير من مقام فلان وفلان في الجنة رحمكم الله أهل بيت ! قالت : ادع الله أن نرافقك في الجنة قال : اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة قالت : ما أبالي ما أصابني من الدنيا .

إن هذه الأعمال الجهادية الخشنة لا يستغرب صدورها من الرجال لأنهم خصوصا في ذلك العهد قد مرنوا عليها وألفت عليها أجسامهم لكن صدور ذلك من النساء غير مألوف عادة فكون أم عمارة تقوم بذلك الجهد الكبير وتواصل الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم رغم إصابتها بتلك الجراح التي بلغت ثلاثة عشر يعتبر تضحية كبيرة وطاقة عالية غير معتادة ولا يشك المتأمل بأن هذه الصحابية الجليلة قد حظيت بعون من الله تعالى جعلها تصمد ذلك الصمود العجيب وتقدم ذلك الجهد الكبير .

ومن المدهش في خبر تلك المرأة العظيمة أنها لن تقدم نفسها في الجهاد فحسب بل قدمت ابنيها ليكونا فداء للنبي صلى الله عليه وسلم ولئن كان الدافع لدى زوجها وابنيها مألوفا في مجتمع الصحابة رضى الله عنهم فإن صدور ذلك من أمهما وهي تشاهدها وتتوقع في أي لحظة أن يكونا تحت سنابك الخيل شهيدين .. إن ذلك يعتبر مثالا عاليا لقوة الإيمان ورسوخ اليقين وعظيم التضحية

فلهذه الأفاعيل الكبيرة والتضحيات العالية من أم عمارة بنفسها وبحث بنيها على الجهاد نجد رسول لله صلى الله عليه وسلم يثنى عليه ذلك الثناء الطيب ولكنها لقوة إحساسها بالحياة الآخرة وشدة استحضارها لم أعده الله تعالى لأهل الجنة من النعيم المقيم لا تكتفي بسماع ذلك الثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم بل تهتبل هذه الفرصة الغالية لتطلب منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله تعالى لها ولأفراد أسرتها بمرافقته في الجنة وهي تعلم علم اليقين أنه في أعلى عليين .

ونجد أم عمارة مع هذا الجهد الكبير والجراح المتعددة المؤلمة تقوم لتشد عليها ثيابها لما سمعت منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو المسلمين لملاحقة جيش العدو في حمراء الأسد ولكنها لم تستطع المشاركة في هذه المهمة لأن جراحها مازالت تنزف دما فأي عزيمة كانت تملكها تلك المرأة وأي حيوية كان يشتمل عليها قلبها الكبير ؟!! .

إن الطاقة لدى الفرد المسلم لا تحدها الحدود المعتادة إذا كان وراء تلك الطاقة إيمان قوى محرك وإذا كانت هذه المرأة المؤمنة قد قامت بهذه العجائب وهي لم تكن مؤهلة لذلك بحكم طبيعتها النسوية فكيف بالرجال إذا ملكوا ذلك الإيمان القوى الحيوي ؟!

وتمر الأيام ويقع المسلمون في لحظات حرجة جداً وهم يواجهون أعنف مقاومة واجهوها في حروب الردة وتبرز أم عمارة بصحبة ابنها لتبحث عن رأس المشركين المرتدين مسيلمة الكذاب وهي تريد أن تتصدى لقتله وإراحة المسلمين منه ولا تبالي وهي تدفع نفسها لهذا الهدف العالي بيدها التي قطعت وهي تؤدى هذه المهمة لأن الله تعالى قد أبقى لها اليد الأخرى التي بإمكانها أن تبذل بها ما تستطيع من طاقة ولكن ابنها عبد الله ابن زيد المازنى يسبقها لأداء هذه المهمة فيشارك في قتل رأس الكفر مسيلمة وتقر عين أم عمارة بهذه النهاية الحميدة للمسلمين وبما قدمه ابنها للإسلام والمسلمين من عمل جليل .

ومن أمثال أم عمارة أسماء بنت أبى بكر التي قالت لابنها عبد الله بن الزبير حين أراد الحجاج قتله فقال لأمه : أخاف إن قتلونى أن يمثلوا بى فقالت : هل يضير الشاة سلخها بعد ذبحها ؟.

والخنساء التى استشهد أربعة من أبنائها في موقعة القادسية فقالت : الحمد لله الذي شرفنى باستشهادهم وأسأل الله أن يلحقني بهم في مستقر رحمته والتاريخ ملىء بهذه الصور والنماذج المشرفة قديما وحديثا لا نستطيع حصره .

إن المواقف الإيمانية يثمر بعضها بعضاً حتى يعظم أمرها ويكثر نفعها ويستحق المؤمنون نصر الله الذي وعده لعباده المؤمنين كما قال تعالى { ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } الروم 47 ] فإذا وفق بعض المسلمين لمثل هذه المواقف الإيمانية وبذل الناس في الله عز وجل عند ذلك يتنزل نصر الله عز وجل .

والإيمان هو الذي يدفع المؤمنين إلى البذل والتضحية كما قال الله عز وجل {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل لله أولئك هم الصادقون } الحجرات 15]

أما من يدعى الإيمان ويبخل عن البذل في سبيل الله ويجبن عن الجهاد لإعلاء كلمة الله فهيهات هيهات أين الصدق ، وإنما يكون عمل الجوارح تصديقاً لما في القلب فلما كانت قلوب المنافقين خالية من الإيمان كافرة بالرحمن { فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً } التوبة 81 ].

ووصف الله عز وجل عبادتهم فقال { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ً } النساء 142].

فبهذه المواقف الإيمانية تفتح الحصون وتسقط القلاع ويتنزل نصر الله عز وجل على المؤمنين وتقر أعينهم بالفتح المبين فأين للمسلمين اليوم بمثل هؤلاء الفرسان الشجعان ولا تعجب فالصحابة رضى الله عنهم أعمالهم كلها عجيبة وهي تدل على صدق إيمانهم وشجاعتهم .

ولا تزال طائفة من هذه الأمة تحمل الراية وتزود عن الحوض وتقدم النفس رخيصة فداء للدين والوطن والعرض لأنهم تربوا على ذات المنهج الذي تربى عليه الصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم ومنهم على سبيل المثال من استشهد في فلسطين والقتال وحرى بنا أن نعرج على هذه القضية لنرى مقدار تضحيات الرجال من أجلها ليرتبط الماضي بالحاضر في مسيرة التضحيات ولا نقصد بذلك الحديث عن التضحيات التي قام بها لا أقول الإسلاميون فحسب بل الوطنيون جميعًا وهذا لا يتسع له مجلدات ولكن أشير هنا إلى بعض ما قدمه الإسلاميون من تضحيات وأخص منهم الإخوان إذ أن الشعب الفلسطيني كغيره من الشعوب المضطهدة والمشردة والتي ما زالت تبذل النفس والمهج في سبيل استرداد الدين والعرض والأرض .

القضية الفلسطينية ... جذورها إسلامية !!

  • من أجلها نضحي :

إن القضية الفلسطينية ذات جذور موغلة في القدم فعلى ترابها قامت حروب عقائدية استمرت قرونا طوالا وحسب اللورد للبنى أنه كان مصيبا عندما وقف أمام قبر صلاح الدين مزهواً بانتصاره على جنود العثمانيين في الحرب العالمية الأولى وقال : (( الآن فقط انتهت الحروب الصليبية ..!! )) والحقيقة دون ذلك فقد تتابعت الأحداث وسجلنا منها اللقطات التالية التي تشير إلى أن هذه القضية الفلسطينية إسلامية وستظل كذلك جذورها وساقها وفروعها وأوراقها بله ثمارها !! ..

القضية الفلسطينية وجهاد رجالها:

أولا : استبسل الشيخ ((عز الدين القسام )) في مقاومته للاحتلال البريطاني فشكل في أوائل الثلاثينيات الجماعة المسماة ((سرايا الجهاد )) التي رفعت شعر ((الجهاد والاستشهاد !! وضرب رجالها أروع الأمثلة في التضحية بالمال والنفس .

ثانيا : قاد مفتى فلسطين الحاج (( أمين الحسيني )) الجماهير الفلسطينية في انتفاضته الشهيرة عام 1937 وكانت هتافاته ((اليوم المصاحف وغداً المدافع )) .

إشارة إلى التضحية المطلوبة وهي التضحية بالنفس قتالا لتحرير الأرض وصون العرض وحماية الدين .

ثالثا : الأستاذ ((عبد الرحمن البنا )) الرحال إلى المسجد الأقصى والتقى بمفتى فلسطين سماحة الحاج ((أمين الحسيني )) ... وكانت تلك بداية لتأسيس فروع للإخوان المسلمين في أرض فلسطين استعداداً للجهاد في سبيل الله حماية للأقصى والقدس .

رابعا: قام (كاتب هذه الأسطر ) بإلقاء خطب سياسية في كل من حيفا ويافا وغزة والقدس عامي 1947، 1948 وقد حضر آخرها الإخوان الراحلان ((الصاغ / محمود لبيب والحاج الفلسطيني / يوسف باميه )) وذلك لمساندة مرشحي الإخوان ومناصرتهم في انتخابات رئاسة البلديات هناك .

... هذا وقد استجاب المرحوم على علوبه باشا لاقتراح طلبة الجامعات المصرية آنذاك بضرورة قيام هيئة عليا لإنقاذ فلسطين وأن يتولى الشباب أمانتها .. وقد كانت تلك المهمة إلى (كاتب تلك الأسطر ) واشترك فيها رجالات الأحزاب جميعا وكذلك الإمام الشهيد (حسن البنا ) المرشد العام للإخوان المسلمين سنة 1947 ..

خامسا: الزيارات الميدانية لشعب (بالضم أي فروع ) الإخوان والتي قام بها الدكتور / سعيد رمضان في أعوام 47، 48 ، 1949 .. هذه الزيارات كانت لها آثارها الناجحة عقائديا وتنظيميا ..

سادسا : ولا مرية في أن (حزب التحرير الإسلامي ) الذي أسسه الشيخ ((تقي الدين النبهانى )) في حيفا عام 1952 وانخراط الإخوان ((خالد وعلى الحسن )) ضمن رجاله كان له أثره العميق على الساحة السياسية في أرض فلسطين ..

سابعا: أن قيام جماعات (( التوحيد الديني )) ظافر الشوا ، وشباب الثأر وكان ((صلاح خلف )) أحد عمدها الرئيسية ,(( كتيبة الحق )) التي أسهم ((خليل الوزير )) بدور بارز في قيادتها ثم قام تنظيم ((الشباب المسلم )).

كل هذه الجماعات استمرارية للمد الإسلامي البديل الذي ظهر عقب تعرض جماعة الإخوان المسلمين في مصر سنة 1954 وما بعدها لحملات البطش والقهر والإبادة الجماعية التي شنها عليهم الجبابرة الطواغيت .

ثامنا: الانتفاضة التي قادها الشيخ ((عبد الله نمر درويش )) من قرية (كفر قاسم ) عام 1979 وما بعدها والأصداء العالية لها التي رددها ونظمها الشيخ ((أحمد ياسين )) في غزة عام 1984 عرضته وآخرين للصدمات الكهربائية داخل السجون الإسرائيلية التي ضاقت بنزلائها رجالا ونساءا وأطفالا !!

تاسعا: عمليات مجموعة طارق وناصر حليس في القدس في أكتوبر الماضي وتزامنه مع إبعاد الشيخ عبد العزيز عودة من حي الشجاعية بغزة وانتسابهم جميعا إلى جماعة الجهاد الإسلامي أو سرايا الجهاد يعطى دلالة ذات مغزى ..

عاشرا : أن نتائج الاستفتاء وتقصى الحقائق التي قامت بعثة التلفزيون الكندي والمقابلات التي أذاعها التليفزيون الاسترالى بالتعاون مع جماعة النجاح وهو في نابلس وطولكرم كلها تؤكد على أن التيار الإسلامي في تصاعد وسموق وأن نحو ثلثي الشباب ينتمون إليه .

وهذا يعنى الرغبة في الجهاد والتضحية لاسترداد ما اغتصب من أرض وما انتهك من عرض وما دنس من مقدسات .

حادي عشر : تقدم الإسلاميين في الانتخابات الطلابية بالضفة الغربية والقطاع أكدت تسامى وتعاظم قوتهم في الكليات الجامعية بغزة والخليل والقدس مما أكد لأعداء الإسلام أن الجهاد ماض ولا مناص منه .

ثاني عشر : أن انتخابات رموز الإخوان المسلمين أمثال الدكتور عبد الله أبو عزة وعبد الرحمن الحورانى وفرض بصماتهما على أمانة سر المجلس المركزي له دلالته التي لا تخفي على ذي عينين .. ومن ثم فلا غرابة أن تكون الانتفاضة الحالية في مستهل عام 1988 إسلامية الهوية والمظهر والمضمون !!

فلا عجب أن يستمر إعلان الجهاد وليس الإرهاب كما يحلو للبعض تسميته فهو حق مشروع في كل الشرائع السماوية بل والوضعية لأنه دفاع عن العرض والأرض والدين والهوية ولهذه الأسباب كان الجهاز السري للإخوان للجهاد والتضحية وليس لقتل أبناء جلدته ووطنه كما شوهه البعض عن عمد .

قصة الجهاز السري في جماعة الإخوان

لم يبتدع الإخوان الأجهزة السرية فقد كانت منتشرة في مصر وفي العالم العربي الإسلامي وكانت ضرورة أملتها ظروف القهر والظلم والحرمان من ممارسة الحرية واستسلام الحكومات للدول المستعمرة فلا ضير على الإخوان إذا سلكوا هذه المسلك لأنهم يلتقون مع الجماهير في رغبتها للتصدي بالقوة لأحلاف الاستعمار من الحكومات علاوة على نزعتهم الدينية والتي وسعت دائرة نشاطهم فامتدت أيديهم لتضرب العدو الصهيوني في فلسطين والاستعمار البريطاني في القتال وتضرب مصالحه .

واتجه الجهاز السري للإخوان المسلمين بكل قوته لضرب المؤسسات الإسرائيلية في مصر عامة والقاهرة بصفة خاصة .. وكان قد تمكن من حصرها وإعداد خطة لتدميرها وقام بسلسلة من الهجمات على المحلات الكبرى وكان الشعب المصري يباركها ويبارك فاعليتها وكانت الأمة العربية والإسلامية تبدى إعجابها بهذا الأسلوب الفريد من نوعه .. ولعل إعجابها بعكس ما كان يذاع عن المذابح التي كان يتولاها اليهود في فلسطين وكانت في الواقع غاية في البشاعة .

لهذا فإن الضربات التي وجهها الجهاز للمصالح اليهودية في مصر كان المصريون والعرب والمسلمون يباركونها .. وعلى العكس من هؤلاء كان موقف الحكومة المصرية ملكا وحكومة وأجهزة وكان أخطر هذه الضربات وكالة أنباء كانت مملوكة لليهود .

ثم فتح أمام الجماعة باب كبير لتمارس فيه رغبتها الجامحة في قتال أعداء الله وتقديم تضحية فقد أغارت العصابات الصهيونية على فلسطين تعمل القتل والسلب في شعبها والتخريب في كل مدنها .. وتهدد المسجد الأقصى أولى القبلتين .. وكانت أخبار المذابح البشعة التي ترتكبها عصابات شتيرن وزفاى تشعل نار الثورة في صدور الجميع بسبب بقر بطون الحوامل وهتك أعراض الفتيات العربيات وتمزيق أطراف الشباب وإحراق البيوت على أهلها ..

كل هذه الأحداث كانت تستحث المواطنين جميعا فضلا عن المسلمين لمجابهة هذا العدو الباغي وهي تعطى المبرر الشرعي للقتال وتطمئن الجماعة إلى أنها قد رشحت لهذه المعركة أسوة بالصحابة الذين كان لهم السبق في تحرير الجزيرة العربية من العصابات اليهودية هذا الوازع الديني كان يسانده وازع عربي ويشد من أزره وطني فلسطين بلد عربي وتشترك مع مصر في حدود بعرض سيناء فالدفاع عن أرضها وشعبها واجب علينا كمسلمين وعرب ومصريين وقد تعاطفت كل الشعوب الإسلامية والعربية مع الجماعة عندما أعلنت أنها ستخرج للدفاع عن الأرض المقدسة في فلسطين وزاد من حماس أفراد الجماعة تعاطف الاستعمار الإنجليزي مع الصهيونية وكذلك تعاطف الشيوعية الدولية معها .. وهما عدوان لدودان للإسلام والمسلمين والعرب والمصريين .

أوليس الإنجليز هم الذين اصدروا وعد بلفور الذي وعد اليهود بمنحهم وطنا قوميا في فلسطين ؟ .. ثم إن إنجلترا بادت بالتصويت في هيئة الأمم لإقامة دولة فلسطينية .. أما روسيا وهي الدولة الحاضنة للشيوعية كانت من الدول السابقة في الاعتراف بالدولة الصهيونية في فلسطين وقد تعهدت بفتح باب هجرة اليهود إليها .

إذن لقد تجمعت كل العناصر التي تدعو الجماعة للجهاد في فلسطين العقيدة والعروبة والوطنية وتعاطف العالم معنا جميعا باستثناء الدول الاستعمارية وكانت الجماعة على ثقة كاملة بالنصر لأن جميع مقوماته كانت ماثلة أمامها الوعود القرآنية الواردة في سورة الإسراء وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهير (( لا تقوم الساعة حتى تقاتل أمتي اليهود وحتى يقول الحجر هذا يهودي خلفي فاقتله يا مسلم )).

وكأن أفراد الجماعة يحسبون أنفسهم المعنيين بهذا الموقف مم دعاهم للإكثار من العبادة والاجتهاد في العمل الصالح والإعداد للقاء هذا العدو .. وكان الجميع يمنون أنفسهم بالشهادة ويمتثلونها أمامهم ويحملون بها .. وأكتفي بسرد بعض ما قاله أحد المشاركين فيها .

  • يقول الأستاذ دوح :

كان من حظي مرافقة الأستاذ حسن البنا ومجموعة مصطفاة من أصحابه في رحلتنا عبر سيناء ، لنلحق بأول كتيبة إخوانية سبقتنا قبل أسابيع ، وكانت بقيادة الشهيدين الشيخ محمد فرغلى ، والأخ يوسف طلعت .

وصلنا إلى معسكر النصيرات القائم بين خان يونس وغزة ، واحتفي رجال المعسكر بالقائد الكبير حسن البنا ، وأمضى الرجل بيننا أياماً يفيض علينا بأحاديثه وتوجيهاته ويشحذ من هممنا ، وأحسبه راجع مع قادتنا خطة العمل ، وكانت سياسته تتسم بالتعقل و البعد عن المغامرة ، و الحرص ما أمكن على أرواح شباب الدعوة لأنه كان يلمس فيهم الرغبة الجامحة في التضحية و الاستشهاد .

لبثنا في هذا المعسكر فترة رائعة لا أنساها ، فقد شكلنا مدينة إسلامية نموذجية ... طبقنا فيها توجيهات حسن البنا ، وهي لا تخرج عن الالتزام بالمنهج و السلوك الإسلامي ....

من ذلك أن حسن البنا كان يولى الأخوة في الله كل اهتمامه ، وكان يبدأ بها كل محاضراته وخطبه ... وكان يضرب لنا الأمثال في الماضي ، ثم ينقل إلينا أمثلة من الأخوة الجديدة التي شاعت في صفوف الإخوان ... ولعله في اختياره لاسم الجماعة كان صادقاً كل الصدق في نفسه ومع جماعته ... فحرصنا على تطبيق الأخوة فيما بيننا ... فألغينا كل الفروق الطبقية في معاشنا وملبسنا وسكننا وهي فروق تشكلت في مجتمع كان ينصب الأثرياء و المثقفين وأرباب الشهادات سادة وقادة لغيرهم ، فقمنا بانتزاع هذه الطبقية من صفوفنا ، وزرعنا مكانها القاعدة الإسلامية :" إن أكرمكم عند الله أتقاكم “ ... فمثلاً ارتضينا الشهيد يوسف طلعت قائداً لنا ، وكان يعمل نجاراً ... واشهد للرجل أنه كان أهلاً لهذه المكانة فقد كان يستمتع بكل صفات القائد ، وقد أحببناه من كل قلوبنا وسمعنا وأطعنا لتوجيهاته وأوامره .

ولست هنا بسبيل وصف المعركة ، ولكنني أستطيع أن أقول عنها إننا أعددنا لها ما استطعنا من قوة ودبرنا لها هجوماً بليل ، وكان من نصيبي القيام بنسف البرج الكبير مستعيناً بعبوة ناسفة ، وكان يشاركني في هذه المهمة الخطيرة الأخ سيد عيد ... وانتهت المعركة باستشهاد ستة عشر شاباً من شبابنا ، ولم نتمكن من اقتحام المستعمرة فقد كانت محصنة بصورة محكمة ومعززة بأسلحة حديثة ، ويعمل بها شباب وفتيات أحسن تدريبهم .

وصور التضحيات بالنفس في فلسطين كتب عنها الأحباب والأعداء على حد سواء ، ولسنا بصدد سردها ولكننا نشير هنا إلى ما قام به الإخوان من تضحيات شهد لهم بها القريب و البعيد ، وما كان تكوين الجهاز السري إلا لهذه المهام الجسام ، وما حدث منه في فلسطين حدث مثله في القنال .

ففي معركة التل الكبير أعددنا العدة وأخذنا بالأسباب واكتفينا بثلاثين شاباً ليكونوا في الطليعة اخترناهم من أحسن الشباب إيمانا وأفضلهم تدريباً وأكثرهم حرصاً على القتال .

ولقد عانينا كثيراً ونحن نختار هذا الشباب فقد كان التنافس بينهم شديداً و الحرص على الشهادة كان رائدهم وحافزهم .

وتحت جنح الظلام وفي سرية تامة ، تحركت سيارة كبيرة تحمل الطليعة الأولى تبعتها سيارات تحمل المعدات ومستلزمات الحياة العسكرية لم تتجه السيارة إلى ميدان المعركة مباشرة فقد كان لابد من دورة تدريبية في أماكن مماثلة للميدان ، حيث مكثوا أسبوعين في قرية تابعة لأبى حماد ، ثم في سرية تامة انتقلوا إلى قرية التل الكبير ، وهو المكان الذي هزم فيه عرابي ، فقلنا لننتصر للرجل وجيشه .... وكان أول عمل قمت به هو استكشاف الموقع بنفسي وتم توزيع القوات في مواقعها واطمأننت على كل شئ ، وبت ليلة معهم في الموقع ، وبعد أن رتبت الأمر مع عمر شاهين و القيادات التي تعمل معي ، استأذنتهم في العودة ، وما إن وصلت إلى " القرين " إحدى مدن الشرقية ، حتى وصلتني رسالة عاجلة من التل الكبير تطالبني بالعودة ، ثم استمعنا إلى بيانات من الإذاعة عن وقوع معركة في التل الكبير .

استشهد فيها رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، وحققوا نصراً ظهرت في آيات الرحمن بعد أن ابلوا بلاءً حسناً .

ثم يستكمل الراوي قائلاً :

وعلى الفور قررت الاتصال بكل الجهات الحكومية لأستعين بها للوصول إلى التل الكبير بعد أن علمت أن الطريق الرئيسي قد أغلقه الإنجليز ، فاستجاب المسئول عن الشرقية وأرسل معي قوة من الشرطة ليساعدوني في إنقاذ الطلبة المحاصرين ، ولكن الرجل تراجع في منتصف الطريق فتركته ، وواصلت سيرى تحت جنح الظلام ، وكان معي مجموعة من المقاتلين الذين كانوا معسكرين في أبى حماد .

وصلنا إلى القرية ، وبعد جهد كبير ومساعدة الأهالي وصلنا إلى حيث كان الشباب يتجمعون في بيوت أهل القرية .

كانوا في حالة إعياء شديد ، وحزن كبر لأنهم أمضوا يوماً كاملاً وهم في معركة مع العدو ، ثم إنهم كانوا غير قادرين على المواجهة ثانية قبل أن يلتقطوا أنفاسهم ، وتم سحبهم تحت جنح الظلام إلى “ أبو حماد “ حيث تجمعات أخرى كانت أكثر مأمناً .

ومن " أبو حماد " حاولت الاتصال برئيس الوزراء ووزير الداخلية فلم أفلح ، وتمكنت بعد جهود من الاتصال بمدير الجامعة ، فأخبرته بكل ما حدث وطلبت منه استصراخ المسئولين لإنقاذ الشباب الستة ، وفك الحصار عن القرية ، وقام الرجل بمهمته خير قيام ... وفي اليوم التالي جاءني موفد من الحكومة يخبرني بموافقة الإنجليز على تسليم جثتي الشهيدين ، كما أخبرني بوجود خمسة من الأسرى لدى المعسكرات البريطانية ... هذا الخبر خفف عنى بعض الشيء لأن استشهاد اثنين في معركة كبيرة في مواجهة جيش بأكمله وقتل ضابط كبير وعدد من الجنود ، وإحداث فزع كبير بين الأعداء ، كل هذا في مقابل شهيدين لاشك أن المعادلة مقبولة .

واسمع إلى ما رواه لي أحد الناجين في المعركة يقول :

وصل إلى علمنا أن الإنجليز سيغيرون على القرية لتخريبها ، وعلى الفور انتشرت قواتنا لحماية مدخل القرية ، وكنا في الليلة السابقة قد فجرنا عبوات ناسفة تحت قضبان السكة الحديدية ، ووضعنا بالقرب منها عبوات أخرى ... لم يحدث شئ في هذه الليلة ولكن في صبيحة اليوم التالي وصلتنا أنباء عن تحرك القطار الحربي من بلدة العبادلة في طريقه إلى المعسكر الذي نتربص به ... وبسرعة حملنا أسلحتنا من قنابل ومدافع رشاشة ، ورابطنا في مواقعنا ...دوى انفجار كبير فطرنا فرحاً فقد وقع الصيد في الفخ ... وشاهدنا الجنود الإنجليز وهم يخرجون من المعسكرات لمعرفة حقيقة الانفجار ، ومن قبيل حب الاستطلاع ذهب بعض الجنود المصريين لمشاهدة الحادث ، إلا أن عمر أمرنا بأن نتريث حتى لا نقتل العساكر المصريين وتفتق ذهنه عن حيلة طيبة ... فألقى قنبلة صوتية تفرق على أثرها العساكر المصريين فأعملنا قتلاً في جنود العدو ... وزاد من فرحتنا وصول زميلنا محمد فريد و الذي تولى مهمة تفجير اللغم ، وأخبرنا أن أشلاء الإنجليز تطايرت في الهواء وتناثرت في كل مكان ... جاءت ثلاثة دبابات فاستقبلناها بالقنابل و الرشاشات ففرت هاربة وهي تطلق الرصاص في الهواء ثم جاءت ثلاثة مصفحات فاستقبلناها بوابل من نيراننا .

جن جنون العدو ، وظن أنها كتيبة كبيرة ، وجيش عرمرم ، فأرسلوا نيرانهم في كل مكان دون تفكير ، وأطلقوا قنابل الهاون على المزارع فاشتعلت ناراً .

سمعنا صوت الشهيد عمر شاهين وهو يأمرنا بالانسحاب ، ثم خفت صوته فقد أصيب برصاصة قاتلة ، واستشهد أحمد المنيسى وكذلك استشهد ستة من شباب القرية ، وجدنا أنفسنا محاصرين ن كل جانب وتم أسر ستة من إخواننا الطلبة .

وبعد أن وقع الشباب في السر لقوا ألواناً من العذاب على أيدي دعاة الحرية ودعاة المساواة ... لابد من ذكر بعضها حتى تتشكف لنا حقيقة هؤلاء القوم لنأخذ حذرنا منهم .

ولأترك أحد الذين وقعوا في السر يحكى لنا ما وقع لهم وهو أحمد شعبان قال :

جمعونا وأوقفونا في طابور ، ووقفت في مواجهتنا مجموعة من عساكرهم ، وصوبوا في وجوهنا مدافع رشاشة استعدادً لقتلنا جميعاً فلم نملك إلا الشهادة فتلوناها باطمئنان كامل وفجأة حضر ضابط كبير وأمرهم بالتوقف ... ثم اصدر إليهم أوامر أخرى ... فأمرونا بالتالي لنجرى بخطوة سريعة تجاه المعسكر ، ومن خلفنا كانت تطاردنا سيارات جيب لا نتوقف عن الجري ... ومن حولنا احتشد الآلاف من جنودهم وهم على أهبة الاستعداد ، وعلمنا فيما بعد أن عددهم كان خمسة آلاف جندي كما نشرت صحيفتهم التي تصدر في القناة بعنوان " أخبار القنال " خمسة آلاف في مواجهة خمسة وإمبراطورية في مواجهة قرية ... يا لها من معادلة عجيبة ! .

ويواصل الأسير حديثه :

أمرنا بالتوقف عن الجري ، وفتحت أمامنا أقفاص حديدية كبيرة وتحت التهديد بالقتل أمرونا بالدخول في هذه الأقفاص ، كانت هذه الأقفاص خاصة بكلابهم ... ثم أخرجونا منها على عجل ، ودفعوا بنا إلى غرفة التحقيق .

بدأت مهزلة التحقيق بداية عجيبة ، فقد تقدم منى أحد المحققين وأطفأ سيجارة مشتعلة في يدي وهو يهذي بحقد " مسلم " ... لم تؤلمني السيجارة بقدر ما آلمتني العبارة الحاقدة و التعصب المقيت .

كنا ظمآنين فطلبنا ماء ، جاءنا الجندي بكوب ماء ، وكان يقف بجانبه كلبه فقدم الكوب للكلب وبعد أن لعق منه قدمه لنا فرفضناه ...

نقلونا مخفورين إلى معسكرهم الكبير بالإسماعيلية حيث الحراسة أشد وهو المعسكر الذي يقيم فيه قائد عام جيوشهم الجنرال " أرسكين " ... طوال الطريق لم يتوقف الضرب و الركل و السباب و التهديد بالقتل ! .

ذات يوم جاءنا ضابط كبير من قبل القيادة العامة وقال لنا إن الجنرال " أرسكين " سمح لنا بكتابة رسالة لذوينا ليطمئنوا علينا ، واشترط أن نكتب فيها أننا نعامل معاملة طيبة ، واستجبنا للأمر ولكنا كتبنا رسالة لمدير الجامعة يفهم منها ما نلاقيه من عذاب .

واستقبلنا مقابلة الأبطال ، وكانت الفرحة تغمرنا إلا أن استشهاد الأخ عمر شاهين وأحمد المنيسى كتم أفراحنا ، وأضفي عليها حزن وأسى ، وهذا مثال واحد ، ولكن الملحمة كبيرة وطابور شهدائنا طويل لا نستطيع حصر أسمائهم ، إذ من يوم ما بدأت هذه الملحمة الجهادية و الشهداء يتساقطون إلى يومنا هذا ، لأن ثمن الحرية فضلاً عن المقدسات غال وثمين لا تسترد إلا بدماء الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم وأموالهم لينصروا دينهم { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز } الحج 4. .

وقصة تضحيات الرجال في فلسطين والقنال مشرفة ففي القنال كانت هناك سلسة المعارك الحربية على طول الجبهة الممتدة من بور سعيد إلى السويس أي بطول 16. كيلوا مترا إلا أنها كانت متمركزة في الإسماعيلية والسويس وبور سعيد والقنطرة وكان أبطال هذه المعارك من شباب الإخوان المسلمين الذين تدربوا في الجهاز الخاص أو في حرب فلسطين ومنهم عبد الرحمن القبان الذي استطاع بمفرده نسف قطار حربي بأكمله فضلا عن نسف معسكر أبو سلطان وكانت بإشراف الشهيدين الشيخ محمد فرغلى ويوسف طلعت وكانت مهمتهم نسف مخازن الذخيرة بهذا المعسكر .

وهذه البطولات والتضحيات في فلسطين أو القنال هي التي جعلت من الأسد البريطاني أرنبا وحملت ( تشرشل ) بعد معركة التل الكبير أن يصرح قائلاً : لقد نزل إلى الميدان عنصراً جديداً ، بينما يقول الدكتور محمد صلاح الدين الرجل الذي أعلن إلغاء المعاهدة مع بريطانيا : إنك لا يمكن أن تتصور مدى المكسب الذي أحرزناه في أوروبا وأمريكا بعد معارك القنال و التل الكبير بالذات .

و الغريب في الأمر أن هؤلاء الأبطال الذين ضحوا بكل عزيز من أجل دينهم ووطنهم ومقدساتهم سيقوا إلى السجون و المعتقلات وعذبوا عذاباً شديداً فمنهم من قضى نحبه بسبب هذا التعذيب ، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً .

ولقد رأى الحكام قبل الثورة وبعدها رؤوساً قد أينعت وعجز عن قطفها الأعداء ، ولكن للأسف ، ما لم يستطع الإنجليز والأمريكان و اليهود أن يقطفوه من هذه الرؤوس قطفها رجال ( الثورة المباركة ) وأكتفي أيضاً برواية بعض شهود العيان يقول :

- مع الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم :

لقد قضيت ليلة هي من أقسى الليالي التي قضيتها في السجن الحربي ، وفي غير السجن الحربي ، لقد بت الليلة الأخيرة مع ستة من أعز وأحب الناس إلى قلبي بت مع الشهداء الستة عبد القادر عودة ، القاضي و المحامى و العالم صاحب أعظم كتاب عن التشريع الجنائي الإسلامي و الشيخ محمد فرغلى العالم و الواعظ وقائدي في حملة فلسطين ، ويوسف طلعت قائدي الثاني في حرب فلسطين ، وإبراهيم الطيب ، وهنداوى دوير وكانا من خيرة المحامين ، و العاملين في حقل الدعوة ، ومحمود عبد اللطيف الذي أسهم في حرب فلسطين ... هؤلاء الرجال الستة أصدرت محكمة الشعب حكمها بإعدامهم شنقاً ... وجئ بهم إلى السجن الحربي ليلة إعدامهم وأفردت لكل واحد منهم غرفة خاصة ، وكانت غرفتي في مواجهتهم ، وقد أضيئت غرفهم طوال الليل ، وكان الحراس يراقبونهم من ثقب صغير في باب الزنزانة ، وقد نزعوا من غرفهم كل شئ مخافة أن يقدموا على الانتحار !.

لقد قضيت هذه الليلة متقلباً بين مشاعر الحزن و الغضب و الحيرة و التصديق و التكذيب فلم يكن يخطر ببالي أن الرؤوس التي صورت في جريدة الجمهورية منذ شهور كان المقصود قطعها ولكن الظروف وقتها لم تسمح فلما حانت الفرصة لم يترددوا في التحايل على قطعها ثم من هم الذين سيقتلون عبد القادر عودة الذي أنقذ رجال الثورة وأولهم جمال من غضب الشعب الذي كان يهتف في الطرقات مطالباً بتنحيتهم فتصدى عبد القادر عودة لهذه المظاهرات وصرفها بحكمته .... ثم الشيخ فرغلى العالم الوقور و الذي لا يخطر على البال أنه يشترك في مؤامرة لقتل عبد الناصر ... والآخرون والذين لا نعرف لهم دوراً في هذه المؤامرة ثم قلت لنفسي وحتى لو ثبت اشتراكهم في مؤامرة لقتل عبد الناصر فعقوبتها القانونية و الشرعية لا تعدو الحكم بالسجن ... فلم تقع المجزرة الرهيبة ؟ ... ثم عدت أسأل نفسي وهل أنا في مأمن من هذا المصير ؟ ... وقد كان رأسي من بين الرؤوس المصورة في صور جريدة الجمهورية وكل هذا الحشد من الأفكار و التخيلات تزاحم على رأسي وأنا أنظر من ثقب الباب إلى الأبواب المضاءة في مواجهتي ... ثم أشرف بصيص من الأمل في نفسي ، فقد تخيلت عبد الناصر وقد أخذته الشفقة على زملائه وإخوانه في الجهاد ، فأعلن الصفح عنهم وتخفيف الحكم ، ولكن كل هذا تبدد قبل مطلع الفجر ، فقد تزاحمت السيارات حول باب " الشفخانة " وسمعت صوت حمزة المنكر وهو ينادى بأعلى صوته على الرجال الستة ... وتدافع نحوهم الجنود ، وابتلعتهم السيارات السوداء ... إلى حيث نفذ فيهم حكم الإعدام رحمهم الله رحمة واسعة ..

هذه الليلة السوداء لن أنساها ما حييت ، وهؤلاء الرجال لن يغيبوا عن خاطري ما عشت ، بل هما ليلتان سوداوان ليلة مذبحة طرة وليلة إعدام سيد قطب ورفاقه ، و الحديث يطول وليس هنا مجاله وأكتفي أن أقدم لك شهيداً منهم قد لا يعرفه كثير من المعاصرين .

- يوسف طلعت رحمه الله :

إنه من رجال الإسماعيلية ، اشتغل بالتجارة في بداية الأمر ، واعتقل مع الإخوان المسلمين أول مرة عام 1936 وشارك رحمه الله في معارك الجهاد في فلسطين ، وجمع السلاح لمحاربة الإنجليز ، وكان في كل مسجد يؤدى فيه الصلاة ينادى على الجماهير فتجتمع إليه فيشرح لهم الجهاد ، ويحثهم على سرعة حمل السلاح و التضحية بالنفس في سبيل الله .

لم يهدأ لرجال المخابرات البريطانية بال ، حيث تتبعت المجاهد تجمع عنه المعلومات ، وتضيق عليه الطرقات يرصدون حركاته ، ويحاولون اغتياله ، ولكنه كثيراً ما نجح في خداعهم ، وكان النصر حليفه ، ورصدوا لمن يقتله أو أحد إخوانه من المال الكثير .

وبعد حادث المنشية اعتقل يوسف طلعت رحمه الله مع من اعتقل وذاق ألوان العذاب وفنون الإيذاء ، فأصيب بكسر في عموده الفقري وكسر ذراعه وشوه جسمه ، وضوعف عليه العذاب حتى كسرت جمجمته .

وقدم البطل للمحاكمة وحكم عليه - ظلماً وعدواناً - بالإعدام وقبل تنفيذ الحكم بلحظات قال البطل وهو مستبشر :" اليوم أقابل ربى وهو عنى راض ، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ... اللهم سامحني وسامح من ظلمني " فرحم الله شهداء الإخوان وغفر لنا ولهم .

لقد كان شعورهم وهم يلاقون رباً كريماً هو بالضبط كما حدث وعبر عن ذلك مرشدهم فضيلة الأستاذ المستشار حسن الهضيبى حين سؤل بعد الحكم عليه بالإعدام : ما شعورك عندما حكم عليك بالإعدام ؟ فأجاب كأني أنتقل من غرفة الجلوس إلى غرفة النوم .

أما الشهيد سيد قطب - رحمه الله - فقد هدد بهتك عرض أخته أمامه ، فلم يفت في عضده ، وعرضت عليه الوزارة فرفضها ، وهو القائل :" إن دماء الشهداء أبلغ في نفوس أتباعه من ألف خطبة يخطبها "

وقال :" إن إصبع السبابة التي تسبح لله في الصلاة تأبى أن تكتب كلمة تأييد لظالم " ونستمر مع موكب الرجال أصحاب التضحيات الغالية ، ونسمع إلى الأستاذ عمر التلمسانى يقول :" لقد أحيا الشهيد روح الجهاد في نفوس أبناء هذا الجيل .

وتأثر الإمام ن وتأثر الشباب وتأثر آباؤهم وكانت مواقف رائعة  :

- مع والد أحد الشهداء :

استشهد أحد أبناء الإخوان في فلسطين ، فذهب الإمام إلى والد الشهيد ليعزيه فسمع الناس ورأوا درساً باهراً .

قال الوالد للإمام : إن كنت جئت معزياً فارجع أنت ومن معك

وأما إن كنت جئت مهنئاً فمرحباً بك وبمن معك .

لقد علمنا الجهاد وبين لنا ما فيه من عزة ورفعة ، كما علمنا أنه بالتضحيات تسود المبادئ وتعز الأوطان .

- إنهم رجال :

لقد كان زبانية السجن الحربي يأخذون الإخوان يومياً ويصفونهم صفوفاً ويجبرونهم على أن يغنوا أغنية أم كلثوم :

يا جمال يا مثال الوطنية

أجمل أعيادنا الوطنية

بنجاتك يوم المنشية

ردوا عليا .....

وكان المحكوم عليهم بالإعدام عام 1954 يقومون بدور ( المايسترو )

وكان منهم الأستاذ الهضيبى .

وفي ذات مرة مرَّ جلاد السجن الحربي حمزة البسيونى وكلابه الثلاثة الشرسة وفي يده ( كرباج ) يلهب به ظهر الإخوان .

حتى وصل إلى الأستاذ الهضيبى ووقف أمامه وقال ك

عجبك هذا يا هضيبى ؟ مبسوط من صوت الإخوان يا هضيبى ؟ النغمة منتظمة يا هضيبى ؟!

فنظر إليه الأستاذ المرشد بجنب عينه وقال له :

اسمع .... اذهب إلى عبد الناصر بتاعك وقل له :

إن كل هؤلاء الإخوان أرواحهم في يد من خلقهم وليست في يده ... وأنهم برءاء من دمه براءة الذئب من دم ابن يعقوب ...!

امشي

فانسحب حمزة وكلابه الثلاثة دون أن ينبس بكلمة ، وعاد الأستاذ إلى العمل ( المايسترو ) كأن لم يكن شئ.

ليس الأمر واقفاً على من ضحوا بأرواحهم في مصر بل هناك أبطال في كل بقعة من بقاع الدنيا أعلن فيها الجهاد ، في سوريا ولبنان و السودان و الصومال ، في البوسنة وكوسوفا وفي الشيشان ، يقول أحد أبطال الشيشان :

إن الشيشانى يولد وعلامة الموت على جبهته فهو يعرف أنه في يوم أو آخر سوف يموت وسلاحه بين يديه ، هذا قدره وهو يعد نفسه منذ طفولته لهذا اليوم المجيد الذي يجمع روحه بأرواح إخوانه ، إن الأماكن ذاتها التي حارب فيها الإمام منصور وحمزة الخزاجى لا تزال هي نفسها التي تجرى الحرب اليوم عليها .

إن الشعب الشيشانى تاريخاً كان معلماً لبقية شعوب القوقاز الجهاد و التضحية واستمرار المقاومة ، لذا فإن نصره سوف يستمر .

و اليوم نرى هذه الصورة المشرقة من رجال ضحوا بأرواحهم في سبيل العقيدة في كردستان وألبانيا وجميع جمهوريات الإسلامية التي ظهرت بعد انهيار الشيوعية ، وغداً سنرى فجراً جديداً بفضل الله ثم بفضل دماء هؤلاء الشهداء الذين بلوها رخيصة ، وستستمر هذه المسيرة بفضل الله حتى ينصر الله دينه بمثل هؤلاء الرجال ليروا النصر في الدنيا كما سيرونه في الآخرة مصداقاً لقول ربنا { إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } غافر 51 ، ولن يتحقق هذا كله إلا بالمنهاج الفريد منهاج الإسلام في التربية على التضحية بالنفس .

الباب السادس - منهج الإسلام في التربية على التضحية

فهم لابد أن يسبق التضحية بالنفس

للقرآن منهج فريد في التربية بوجه عام والتربية الجهادية بوجه خاص سواء أكانت متمثلة في التضحية بالمال أو التضحية بالنفس .

ولما كانت رسالة الإسلام تربية قبل أن تكون رسالة تشريع ونظام كانت التربية سابقة ومرافقة وملازمة لكل خطواته التنظيمية والتعليمية والاقتصادية والسياسية والجهادية ...الخ .

وتناول هذه النواحي دون الالتزام بالتربية القرآنية لكل يفصلها فصلاً تاماً عن أصلها وتصير شكلا من الأشكال المتعددة التي لا صلة لها بالإسلام أو تصير قالبا بلا قلب وجسدا بلا روح فالذين يريدون أن يقيموا نظام الإسلام دون تربية الأفراد تربية إيمانية وأخلاقية أنا لهم إقامة هذا النظام الذي اهتم بالمشاعر قبل الشرائع وبالقلوب قبل الصفوف وتربية روحه وحياته لذلك فإن الذين يتصورون الجهاد استخداماً للقوة وإمساكاً بالسلاح وقتلاً للأعداء فحسب واهمين بل وجاهلين بطبيعة هذا الدين فلو أن الأمر كذلك لفرض القتال على المسلمين في مكة قبل المدينة والعرب يومها أهل حرب وشجاعة وفتوة .

لكن هذه الفريضة أتت متأخرة لتعطى للجماعة المسلمة الفرصة لكي يتوبوا بالأحداث تربية إيمانية لتصفوا النفوس وتتعلق القلوب بخالقها ويكون الدين لله فلا تكون الحرب لعصبية أو قبيلة أو شجاعة أو فروسية إنما هي لله رب العالمين لا شريك له .

لذلك اهتم الإسلام بصفات الجندي وليس بنوع السلاح فحسب وبكيف الجنود لا بعددهم وبالأيدي المتوضئة والجباه الساجدة والعيون الدامعة والأجساد الخاشعة قبل أن يهتم بالعدد والخطط والعتاد وإحراز النصر وتقديم التضحيات وفي الختام اهتم بإيجاد صنف من الرجال يعملون للآخرة وإن عمروا الدنيا فهم يبتغون فضلاً من الله ورضوان لذلك قال ربنا { فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة } النساء 74 ]

والمتأمل في القرآن الكريم والمتدبر في السنة المطهرة يلحظ هذا المنهج الفريد في صناعة الرجال ليصبحوا من هذا الصنف الذي قال الله فيهم { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا } الأحزاب 23] إنهم خريجوا بيوت الله { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار } النور 36، 37 ] فإذا لم تكن هذه هي البداية فلن تصلح النهاية فمن صحت بدايته صحت نهايته .

وأما أعيننا أمثلة جهادية لم تحظ بالتربية الكافية لكنها أمسكت السلاح وكان لها أن تمسكه دفاعاً عن عقيدتها ووطنها لكنهم بعد التضحيات وإحراز النصر أصبحوا طلاب دنيا أساءوا إلى المجاهدين وشمتوا فينا الحاسدين وأدخلوا السرور على الكافرين وأسالوا دماء إخوانهم المسلمين بعد أن انتصروا على الكافرين ولسنا بصدد الحديث عن هذه الحركات التي خذلت المسلمين بعد ما انتصرت على الملحين وأعطت الفرصة لأعداء الدين أن يشهروا بالجهاد والمجاهدين وأشاعوا اليأس بين المسلمين .

لكن الكيس من دان نفسه واكتسب من المواقف والدروس والعبر والتزم بمنهاج القرآن الكريم ومواقف المصطفي الأمين صلوات الله وسلامه عليه { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } الأحزاب 36 ] وما كانت السيرة بتسلسلها وأحداثها ومواقفها إلا منهجاً يلتزم به المسلمون اتباعا لطريق والتزاما لقواعد { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } الأعراف 157 ] .

ركيزتان لابد منهما

تقوم الجماعة المسلمة المناط بها إقامة الدين وتحكيم شرع الله على ركيزتين تؤدى بهما دورها الشاق العظيم فإذا انهارت واحدة منهما لم تكن هناك جماعة مسلمة ولم يكن هناك دور لها تؤديه ولا كان لها انتصار في معركة ولا قيمة في حياة بل لا يحسب لها تضحياتها إلا بهما :

أولاها : ركيزة الإيمان والتقوى التقوى التي تبلغ أن توفي بحق الله الجليل التقوى الدائمة اليقظة التي لا تغفل ولا تفتر لحظة من لحظات العمر حتى يبلغ الكتاب أجله { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } آل عمران 102 ] .

فكلما اقترب العبد بتقواه من الله تيقظ شوقه إلى مقام أرفع مما بلغ وإلى مرتبة وراء ما ارتقى وتطلع إلى المقام الذي يستيقظ فيه قبله فلا ينام ولا يزال كذلك حتى يوفيه أجله والموت غيب لا يدرى الإنسان متى يدركه فمن أراد ألا يموت إلا مسلما فسبيله منذ اللحظة مسلما وأن يكون في كل لحظة مسلما إنه الاستسلام لله طاعة له واتباعاً لنهجه واحتكاما إلى كتابه .

هذه هي الركيزة الأولى التي تقوم عليها الجماعة المسلمة لتحقيق وجودها وتؤدى دورها أي أنه بدون هذه الركيزة لا تقوم لها قائمة ولا تسمى مسلمة إذ لا يكون هناك منهج لله تتجمع عليه الأمة وهذا الذي بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ قرأ باسم ربه فقام الليل إلا قليلا فتهجد بالقرآن وذكر الله كثيراً وربى أصحابه على هذه المعاني فكانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله .

ثانيا : ركيزة الأخوة في الله على مهج الله لتحقيق هذا المنهج أخوة تنبثق من التقوى والإسلام من الركيزة الأولى أساسها الاعتصام بحبل الله أي عهده ونهجه ودينه { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك بين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } آل عمران 103

إنها الأخوة المعتصمة بحبل الله وهي نعمة يمتن الله بها عليهم ويهبها لمن يحبهم من عباده دائما فتتألف بها القلوب وتتوحد بها الصفوف وتقوى بها الجيوش وتهون معها التضحيات وما كان إلا الإسلام وحده الذي يجمع القلوب المتنافرة ولا يمكن أن يجمع القلوب إلا أخوة في الله تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية والثارات القبلية والأطماع الشخصية والرايات العنصرية ويتجمع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال { وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم } الأنفال 36 ].

وهكذا ترجع هذه الجماعة إلى ميزان واحد تقوم به كل ما يعرض لها في الحياة وتتحاكم إلى شريعة واحدة من عند الله يقوم كيانها على الحب والتكافل اللذين تختفي في ظلالهما مشاعر الأثرة وتتضاعف بها مشاعر الإيثار فينضبط سلوكها في الحرب والسلم على حد سواء وعلى مثل ذلك الإيمان وبمثل هذه الأخوة يقوم منهج الله في الأرض في كل زمان ينشر الأمن والأمان ويحقق الرخاء والاطمئنان ويسود السلام مشارق الأرض ومغاربها حين يطبق هذا المناهج الذي يضحي من أجله بكل عزيز .

ولذلك كان من مهام هذه الجماعة المسلمة صيانة الحياة من الشر والفساد وأن تكون لها القوة التي تمكنها من نشر المعروف فتأمر به ومن منع المنكر فينتهي عنه لأنها خير أمة أخرجت للناس فعملها العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشرية من المنكر ولإقامتها على المعروف مع تحمل هذه التكاليف من متاعب وبكل ما في طريقها من أشواك لتحقيق الصورة التي يحب الله أن تكون عليها الحياة ولا يتحقق ذلك إلا بصنف من الرجال أعطوا للآخرة ما يملكون فجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله .

أنموذج المجاهد لا بطولاته

الذي يتأمل في الرجال الذين كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا بعضهم يجدهم نماذج فريدة في كل شئ وفي كل موقع كانوا فيه وفي كل موقف وقفوه بين يدي الله رجال أفذاذ أبطال مغاوير ونسأل من الذي صنعهم هذه الصنعة ورباهم هذه التربية فلا نجد إجابة غلا كلمات قلائل تقول : إنه الإسلام هو الذي حدد طريقهم وسلوكهم في الحياة وصاغها هذه الصياغة الربانية حتى اصبحوا أبطالاً أفذاذا الواحد منهم أمة وحده وصدق عمر بن الخطاب حين قال : وما عمر لولا الإسلام ؟

ومجتمعهم يعرف هذه الحقيقة مع بساطتها حتى أن الواحد منهم يقول : كنا أذلة فأعزنا الله بالإسلام فمن ابتغى العزة في غير الإسلام أذلة الله لذلك حين قيل لخامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز : جزاك الله خيرا عن الإسلام قال : بل جزى الله الإسلام عنى خيراً .

فالإسلام بعقيدته قوة هائلة قادرة على العطاء بغير حدود وما زال وسيزال قادرا على مد الحياة بأمثال هؤلاء الرجال الذين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم رهبان الليل فرسان النهار .

لذلك فإن من ينظر إلى هذه النماذج الإسلامية الفذة التي ضربت أروع المثل في التضحيات على أنها بطولات ذاتية أو أنها عبقريات نادرة حققت في الحياة ما حققت لشخصيتها المستقلة واهم ومخطئ في التقدير والتحليل لأنهم إذا انفصلوا عن هذا المعين ذبلوا وإذا سقطوا من هذه الشجرة جفوا وماتوا فالإسلام هو الذي صنع تلك المثل وهو الذي ربى هؤلاء الرجال وهو الذي صاغ ذلك الحشد الهائل من البطولات على مدار التاريخ الإسلامي .

إن منهج الفصل بين الإسلام وبين تلك المثل الرفيعة فضلا عما فيه من البعد عن الحق أو تضليل الخلق ظلم للإسلام وإبعاد عن منهجه لأننا إن فعلنا ذلك أبعدنا تلك المثل عن الناس والاقتداء ويجعل منها فلتات بعيدة المنال تأتى مصادفة كأنها من فلتات الحياة ليس لها سبب واقعي ولا باعث مستطاع والحق أن الفهم الصحيح والاتباع السليم والتطبيق الواعي لمبادئ الإسلام يؤدى تلقائيا إلى هذه المواقف وتلك البطولات التي سجلها التاريخ من جهاد بالنفس وتضحية بها وإنفاق للأموال إنفاق من لا يخشى الفقر أبدا .

وهذا لا يعنى بطبيعة الحال إنكار المواهب والقدرات الذاتية إنما يعنى أن الإسلام بمبادئه وقيمه يصقلها وينميها ويوجهها المثلى بما يعود على الإنسانية بالخير العميم وذلك بتهيئة المناخ الذي تعمل فيه وتبلغ فيه مداها .

وما أحوج الإنسانية في هذا العصر إلى منهج للتاريخ يحفظ لها إيمانها نظيفا وضميرها سليما وقيمها ثابتة وقدوتها صالحة لابد لهذا المنهج من ميزان توزن به البطولة ويقدر به الرجال وتقدم به الأعمال فالتاريخ الذي يجعل من الظالم عظيما ومن الخائن أمينا ومن المنافق زعيما ومن الكذب سياسيا ومن الجبان شجاعا ومن البخيل حريصا ومن الرعديد بطلا تاريخ خاطئ المنهج مختل الموازين .

فليست العظمة في الزعامة التي تتقن الكذب والخداع ولا في السياسة التي تقوم على الإفك والنفاق ولا في القيادة التي تبرع في الغدر والخيانة ولا في الحكم الذي يبطش وبذل بالسلطان مهما بلغت شخصية الزعيم والسياسي من قوة وتأثير ومهما اتسعت فتوحات القائد ومهما حقق الحاكم من أعمال وإنجازات وتضحيات .

إنما يوزن الرجال وتقدر العظمة ويحسب العظيم عظيما بما قدم للإنسانية من خير وبما أرسى في واقع الحياة من مثل وبما أقر في الضمير الإنساني من قيم وبما التزم في حياته من خلق وبما سكب في قلوب الناس من أيمان فجعلهم يبذلون المهج والأرواح والأموال في سبيل المبدأ والعقيدة ولا يتحقق ذلك إلا بمنهج التربية الإسلامية وبهذا تتقدم الإنسانية ويرقى الإنسان فإذا خلد التاريخ الرعديد والجبان والبخيل وعابد المال فسيكون الخاسر هو ضمير الإنسان وروح الإنسان ويومها قل على الدنيا العفاء .

صاحب الفكرة المضحى وسماته

إن صاحب الدعوة رجل مضحى غارم لا غانم من دنيا يصيبها لأن دعوته بريئة نزيهة قد تسامت في نزاهتها حتى جاوزت المطامع الشخصية واحتقرت المنافع المادية وخلفت وراءها الأهواء والأغراض ومضت قدما في الطريق الذي رسمها الحق تبارك وتعالى للداعين إليه { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين } يوسف 108 ] فالداعي لا يسأل الناس شيئا ولا يقتضيهم مالا ولا يطلب منهم أجرا ولا يزيد بهم وجاهة ولا يريد منهم جزاء ولا شكورا .

إنه حبيب إلى نفوس الناس لأنه يضحي بنفسه في سبيل عزتهم إن كان فيها الفداء وأن تزهق روحه ثمنا لمجدهم وكرامتهم ودينهم وإنه لعزيز على الدعاة جد عزيز أن يروا ما يحيط بقومهم ثم يستسلمون للذل أو يرضون بالهوان ويستكينون لليأس فهم يعملون للناس في سبيل الله أكثر مما يعملون لأنفسهم . إن صاحب الفكرة لابد وأن يؤمن بها إيمانا يحمله على نسف الجبال وبذل النفس والمال واحتمال الصعاب ومقارعة الخطوب حتى ينتصر بها أو تنتصر به .

فقد بين المولى سبحانه وتعالى أن المؤمن الذي يجعل غايته هي هداية البشر إلى الحق وإرشاد الناس جميعا إلى الخير وإنارة العالم كله بشمس الإسلام إنه في سبيل هذه الغاية قد باع لله نفسه وماله فليس له فيها شئ وإنما هي وقف على نجاح هذه الدعوة وإيصالها إلى قلوب الناس وذلك قوله تعالى { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } التوبة 111 ] .

من ذلك نرى أن المسلم المضحى دنياه وقفا على دعوته ليكسب آخرته جزاء تضحيته فإذا فهم هذا المعنى سمت نفسه وزقت روحه وتحرر من رق المادة وتطهر من لذة الشهوات والأهواء وترفع عن سفاسف الأمور ودنايا المقاصد ووجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفا يعلى كلمة الله ويجاهد في سبيلها ينشر دينه يزود عن حياضه ليسترد خير أمة أخرجت للناس لأن تكوين الأمم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور :

إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره .

على هذه الأركان الأولية التي هي من خصائص النفوس وحدها وعلى هذا القوة الروحية الهائلة تبنى المبادئ وتتربى الأمم الناهضة وتتكون الشعوب الفتية وتتجدد الحياة فيمن حرموا الحياة زمنا طويلا

وكل شعب فقد هذه الصفات الأربعة أو على الأقل فقدها قواده ودعاة الإصلاح فيه هو شعب عابث مسكين لا يصل إلى خير ولا يحقق أملا وحسبه أن يعيش في جو من الأحلام والظنون والأوهام { إن الظن لا يغنى من الحق شيئًا } يونس 36] هذا هو قانون الله تبارك وتعالى وسنته في خلقه ولن تجد لسنة الله تديلا .

من هنا فلقد اعتبر الإمام البنا التضحية ركن من الأركان وليست فضيلة من الفضائل فحسب ولما كان الإسلام بناء لا يقوم إلا بأركانه فكان لزاما على المسلم أن يضع التضحية في موضعها الصحيح ، وإذا كان أهل الباطل يقدمون التضحيات التي قد تصل إلى التضحية بالنفس من أجل باطلهم فأحرى بنا نحن المسلمين أهل الحق أن نقدم أغلى ما نملك تضحية من أجل ديننا وهو الحق الذي جاء من عند ربنا .

ولهذا كان لابد أن يكون للمضحى سمات وخلال يتحلى بها وتميزه عن غيره من البشر .

سمات المضحى :

لما كان صاحب الفكرة أول المؤمنين بها والعاملين على نشرها كان لزاما عليه أن يضحي من أجلها خاصة إن كانت هذه الفكرة تدعو إلى تكريم الإنسان وحريته وإعلاء شأنه واعتباره أكرم مخلوق على الأرض لذلك فهو :

أولا : يأبى لضيم ويرفض لهزيمة سواء كانت هزيمة في داخل نفسه أو خارجها لأن الله تعالى يقول { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } آل عمران 139 ].

فلا يبالي بما يصيبه بل يفضل الموت على ذل الحياة ويضع نصيب عينيه قول ربنا { يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متع الحية الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شئ قدير } التوبة 38، 39 ].

ثانيا : لديه الثقة بتقدير الأجل وانتهائه فلا يحرص على الحياة ولا يرهب الموت لأنه آت آت على كل حال فهو يرى أن طلب الشهادة يجعله الله بابا للحياة الكريمة في الدنيا أو حياة النعيم في الآخرة ولذلك قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه :( إحرص على الموت توهب لك الحياة ) وبذلك يحقق القدرة العملية للتضحية ولقد روى أن عوف بن الحارث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غزوة بدر : يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده ؟ قال : غمسه يده في العدو حاسرا فنزع عوف درعا كانت عليه وقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل .

ثالثا :يحتاج المضحى إلى طول نفس وجميل صبر ووطيد احتمال ولقد كان خالد ابن الوليد رضى الله عنه يقول وهو يسير بين الصفوف يذكر الجنود أي يشجعهم (يا أهل الإسلام إن الصبر عز وإن الفشل عجز وإن النصر مع الصبر ) .

خامسا: إنكار الذات وإحياء روح الجندية في نفس المسلم والعمل الصموت بلا مباهاة أو مفاخرة وما قصة مسلمة بن عبد الملك منا ببعيد وكان أميرا على جيش من جيوش المسلمين وكان يحاصر حصنا من الحصون استعصى عليهم فلم يفتحوه فحرض الأمير جنده على التضحية والإقدام حتى يحدثوا في ذلك الحصن ثغرة وينقبوا فيه نقبا فتقدم من عرض الجيش رجل ملثم غير معروف ودفع نفسه إلى الحصن غير مبال بالموت وأحدث فيه ثغرة كانت سببا في سقوط الحصن ودخل الخيش المسلم فيه ففرح مسلمة كثيرا ونادى : حاجبي بإدخاله على ساعة يأتي فعزمت أي حلفت عليه إلا جاء وكان يريد أن يخصه بشيء من الغنائم والتكريم .

فجاء رجل ملثم إلى حاجب مسلمة وقال له استأذن لي على الأمير فقال له الحاجب أأنت صاحب النقب ؟ فقال: أنا أدلكم عليه وأخبركم عنه فدخل الحاجب واستأذن الرجل على الأمير فلما مثل بين يدي مسلمة قال له : أيها الأمير إن صاحب النقب يشترط ثلاثا : 1- ألا تبعثوا باسمه في صحيفة إلى الخليفة . 2- وألا تأمروا له بشيء . 3- ألا تسألوا من هو .

فقال مسلمة : ذلك له فقال الرجل في استحياء : أنا صاحب النقب ثم ولى مسرعا فكان مسلمة لا يصلى بعد ذلك صلاة إلا دعا فيها فقال : اللهم اجعلني من صاحب النقب يوم القيامة .

سادسا: قوى الإرادة الذاتية والتي تقوده إلى المبادرة ومباشرة الأفعال والأعمال بإيمان واقتناع فلا يكن إمعة يوجهونه حيث يشاءون ولكنه يتعامل مع الناس وفق مفاهيم ومبادئ وأسس ثابتة لا يحيد عنها

سابعا: أن يكون على فقه بالأولويات والواقع ويسير في حياته وفق أسلوب الأهم فالمهم والضروري فالأقل ضرورة فلا يهتم بالأمور التافهة ويولى الأمور الحاسمة عظيم اهتمامه .

ثامنا : إيجابي الحياة ويأخذ بنصيبه منها فلا سلبية ولا انزواء ولا فرار من الواقع ولا تواكل فهو مقدام يسارع في الخيرات ويواجه الصعاب بواقعية .

تاسعا: قوى كريم لا يترخص في حقوقه ولا يتخاذل أمام ظلم أو عسف ولا يتخاذل أمام جسامة المسئوليات فهو مجاهد بالمفهوم الإسلامي للجهاد فيبدأ بمجاهدة نفسه ثم الجهاد في سبيل العلم ثم العيش وفي سبيل الله لأن الله غايته .

عاشرا : أخلاقي يملك من الصفات الحميدة الكثير كالبر والشجاعة والعدل والحلم والرحمة والوفاء بالعهد والتسامح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى آخر هذه الصفات الكريمة .

وهو من الأتقياء الأخفياء إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا وباختصار هو كما وصفه الإمام البنا :

أتصور المجاهد شخا قد أعد عدته وأخذ أهبته وملك عليه الفكر فيما هو فيه نواحي نفسه وجوانب قلبه .. فهو دائم التفكير .. دائم الاهتمام .. على قدم الاستعداد أبدا .

إذا دعي أجاب وإن نودي لبى ... غدوه ورواحه وحديثه وكلامه وجده ولعبه لا يتعدى الميدان الذي أعد نفسه فيه ولا يتناول سوى المهمة التي وقف عليها حياته وإرادته .

تقرأ قسمات وجهه وترى في بريق عينيه وتسمع في فلتات لسانه ما يدلك على ما يضطرم به قلبه من جوى لاق وألم دفين وما تفيض به نفسه من عزمة صادقة وهمة عالية وغاية بعيدة وذلك شأن المجاهدين من الأفراد والأمم .. فأنت ترى ذلك جليا في الأمة التي أعدت نفسها للجهاد .

أما المجاهد الذي ينام ملء عينيه ويأكل ملء ماضغيه ويضحك ملء شدقيه ويقضى وقته لاهيا عابثا ماجنا .. فهيهات أن يكون من الفائزين أو يكتب في عداد المجاهدين .

أمور تدفع إلى التضحية

أولا : التصور الصحيح للحية الدنيا فلا انكباب عليها ولا حرمان مما أحل الله { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون } الأعراف 32 ].

ثانيا : وضع الإنسان في موضعه الصحيح وفهمه لرسالته في الوجود وتكريم الله له { ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات } الإسراء 7. ]. لذلك خلق الوجود كله في خدمته والملائكة في حراسته وما عليه إلا أن يعبد ربه ليعمر الكون كما أراد الله سبحانه وتعالى مقدما نفسه وماله وولده تضحية لهذه الغاية الكريمة .

ثالثا : إن أثر العقيدة التي نضحي من أجلها يظهر جليا واضحا حين تجمتع هذه النفوس النفيسة والقلوب الطاهرة على محبة الله وتلتقي على طاعته فتعاهد الله على نصرة شريعته بالمهج والأرواح والأموال وهذا أسمى ما تتمنى لذلك كانت الأخوة ركن من الأركان .

فمن مقاصد الإسلام إقامة أمة صالحة ولا تصلح الأمة إلا إذا توافر فيها رسالة من مبادئ عليا وأن تكون أمة موحدة متحابة لتكون مضحية فادية مستعدة لبذل كل ما تملك والأمة التي وطنت نفسها على ذلك يحفظها الله ويحقق لها رسالتها على أرض الواقع بهذه التضحية .

رابعا : الباعث القوى عند المسلم والذي يتولد عنه :

أ- الالتزام الأخلاقي والأدبي بمنهج الإسلام .
ب- الشعور بالمسئولية الفردية أولا ثم التضامنية .
ج- تقدير الوقت والخوف على القوت فيستغل في التضحية به في سبيل الفكرة .
د- الإيجابية في تنفيذ المطلوب والمبادأة والمسارعة في التضحية في التنفيذ .
هـ - الحب في تأدية الواجبات مهما كانت النتائج .

خامسا : تجسيد الثقة بالذات وانتفاء الشعور بالنقص سواء عند مواجهة الآخرين والتعامل معهم أو في عملية الإنتاج والاستحداث الثقافي والمادي فالثقة بالنفس تشعر المسلم بالعزة بالانتماء لهذا الدين فيقدم نفسه فداء له وهو يباهي بهذا الدين .

سادسا : التخلص من الروح الانهزامية ونبذ التبعية التي أصبحت تكبل المسلم وتحد من نشاطه وحيويته وبالتالي تضحياته لأنه أسير مشاعر الدونية والانكسار .

سابعا : الاستقلال في الرأي والموقف وهذا يعنى وضوح ما يعتقد ويؤمن فلا يتردد في قول الحق الذي يحمله بل يقوله دون انتظار إذن من أحد فيتصدى لعوامل الهدم ومقاومة الحجة بالحجة (لا يخشى في الله لومة لائم ).

ثامنا : التمييز بين الحقوق والواجبات فلا يخلط بين الذي له وبين الذي عليه فالذي له كحق عليه أن يسعى لنيله والحصول عليه ون منه أو تفضل من أحد وأما الواجب فعليه أن يؤديه عن طيب كما أن عليه أن يعلم أن الحق لا يعطى ولكن يؤخذ ولو تطلب ذلك منه التضحية من أجله .

تاسعا: ترك حياة الترف والدعة والسكون إلى حياة الجد والنشاط والحيوية فمن لم يشغل نفسه بعظائم الأمور مضحيا من أجلها شغلته الدنيا بسفاسفها لأن المضحى يتحمل المسئولية كاملة فهو صاحب ضمير يهديه إلى كافة واجباته نحو نفسه وأسرته ومجتمعه .

عاشرا : شدة الشعور بالانتماء والذي يولد الولاء ويحدد الداء فيكون الحب لله والبغض لله والأخذ لله والترك لله وبذلك نعرف من نحب ونضحي من أجله ومن نبغض فنتبرأ من عمله وبذلك يصبح هناك وضوح للرؤى ومعالم للطريق وإخلاص يملأ القلب .

حادي عشر : شدة الشعور بالجزاء الأخروي الذي ينتظره بعد أن سعد بمذاق الإيمان في دنياه فيردد هبي ريح الجنة هبي .

ونكتفي بهذا القدر الذي لا يمثل حصرا للدوافع إلى التضحية بقدر ما يمثل أهم هذه الدوافع فحسب .

ولا ننس أنه إذا حدثت التضحية من المسلم فإن لها شروطا لكي تقبل منها :

1- أن تكون عن إيمان عن إيمان وعقيدة صحيحة وعمل سليم وإخلاص وتجرد لله رب العالمين .

2- أن تكون في وقتها مضبوطة التوقيت والأوان .

وبذلك يكون الفداء والتضحية الخائبة المردودة ما كان مع كفران وجهل أو بعد فوات الأوان .

  • معوقات التضحية :
1- عدم الإخلاص للفكرة أو إذا شاب الإخلاص شئ يقلل من فاعليته .
2- عدم وضوح الفكرة التي يضحي من أجلها واختلاط المفاهيم .
3- حب الذات والأثرة .
4- ضعف الشعور بأهمية العمل الجماعي مع ضعف الشعور بالانتماء لأفرادها .
6- الولاء لأعداء الله من الكفار والمنافقين والتبعية لهم .
7- البعد عن الله وضعف التعبد والتقرب إليه وترك السنن والنوافل والأوراد .
8- الانغماس في اللهو والترف والدعة .
9- إساءة الظن بإخوانه وعدم الثقة .
10- عدم الإخلاص للمنهج والأفراد والقيادة .
11- هاجس الرزق الذي يقعده عن لإنفاق والتضحية بالمال وهاجس الموت الذي يقعده عن الجهاد والتضحية بالنفس .
12- التعلق بالدنيا وزينتها وكراهية الموت حتى يصبح التنافس عليها هي المقياس هذا هو الداء الوبيل المهلك للأفراد والجماعات والأمم إذا فشي فيها هذا المرض اللعين ويكفي أنه يسبب نزع الله المهابة من قلوب الأعداء ويقذف الوهن في القلوب التي تعلقت بالدنيا ولقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرق بين رجلين في الحديث الذي رواه أبو هريرة وأخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد .. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (( تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع )).

لقد استهدف هذا الحديث رسم صورتين متقابلتين لهما وجودهما الواقعي في كل جيل صورة الرجل الذي استبعدته المطامع ولعبت به الأهواء وتعلق بالمتاع الزائل وتهالك على اللذة العاجلة فيلازمه الشفاء وتحيق به التعاسة من حيث قدر لنفسه السعادة وأراد لها الفوز .

وصورة رجل العقيدة والمبدأ الذي يضحي في سبيلها ثم لا يبالي بعد ذلك بما نال من متاع الحياة الدنيا ولا يحرص على أن يزاحم طلاب العاجلة في سوقها الحقير بل يبحث دائما عن ميدان من ميادين الجهاد ينفق فيه قوته ويبذل جهده ولا يحنقه بعد ذلك أن الناس لم يقدروا له جهاده ولا تضحيته أو لم يضعوه في المرتبة اللائقة به لأنه لم يعمل من أجلها ولم يجاهد في سبيل أن ينال شيئا مما في أيديهم وإنما كان جهاده وتضحيته خالصا لله وابتغاء رضوانه .

فهو آخذ بعنان فرسه في سبيل الله فهو مجاهد في أي ميدان من ميادين الجهاد في سبيل الله متهيئ دائما لبذل الجهد والتضحية فهو مجاهد وفارس ومرابط وهو جندي مجهول سامع مطيع لا يحرص على الظهور ولا يبتغى التصدر إنما يؤدى واجبه في أي موقع كان في الحراسة أو الساقة فهو منكر لذاته يقاوم نزعات الرياء والسمعة ى يبغي مكافئة فهو حتى إذا حضر في المجالس لم يعرف ولم تتجه إليه الأبصار وإن غاب منهم لم يفتقد لأنه ليس بذي شأن خطير في أوضاع الحياة المادية وإن كان عظيما في إيمانه وإخلاصه وتقواه وجهاده وتضحيته فهو رجل عقيدة لا يحرص على ما يحرص عليه غيره ولا يبتغى من الدنيا إلا ما يرضى الله .

وهذه المنزلة لا تتحقق إلا بالمجاهدة والمتابعة ولذلك كان لابد من منهج تربوي كما قلنا يغرس الفضائل ومنها التضحية فليست العبرة بالأحاديث النظرية ولكن بالمواقف العملية التي تصنع أصحاب الهمم العالية .

خاتمة في كلمة أخيرة

أصحاب الهمة العالية

صحيح أن للباطل قوة ومؤيدين رغم وهنه وفساده يحاول بها أن يصول ويجول ويسود فيتواري حيناً ويظهر آخر فلابد أن يكون للحق من سطوة وقوة ورجال يحملونه ويدافعون عنه ولقد مضت سنة الله أن يصطرع الحق والباطل ولا ينتصر الحق إلا على كواهل رجال تحقق اليقين في قلوبهم وصفت نفوسهم وسلمت صدورهم وعلت همتهم وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم إنهم لم يعتذروا عن شئ أمروا به بل بذلوا كل غال في سبيل دعوتهم ونصرة شريعتهم فدخل نصف أهل الأرض يومها في دين الله أفواجاً في خلال قرن من الزمان .

إن كثيراً من العاملين في حقل الدعوة الإسلامية لا يتكلمون إلا عن العلوم الإسلامية أو الشعائر التعبدية أو القوة المادية أو يتكلمون عن التخطيط والتنظيم والتنظير ويعجب إذا سألت أحدهم عن صلاة الفجر على وقتها ؟ أو عن قيام الليل والنوافل ؟ أو عن أوراده أو قرآنه ؟ أو عن حسن صلته بالله ؟ .

وقد تجد آخرين يعتبرون الدعوة صحبة أخيار وبث أشواق واستماع إلى خطبة أو درس مع بشاشة وجه ورقة كلمة وتبحث عنه وقت العمل فلا تجده وإن وجدته ففي فضل وقته ووقت التكاليف والعمل سرعان ما يتخلف .

إن الهمة العالية تقوم على العلم التكويني النافع والزاد الرباني البناء فهو سبحانه لا يحابى أحداً ينصر من ينصره ويعز من اعتز به فإذا أدبروا عن دينهم سلبهم النعمة التي أعطاها والعزة التي أولاها مصداقاً لقوله سبحانه { ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } الأنفال 53 ] فالفساد إذا ظهر وانتشر إنما بصنع أيدينا كما بين القرآن { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } الروم 41 ].

وهذا ما نراه بأعيننا اليوم من الذين عزلوا القرآن عن الحياة عزلاً صارماً تاماً وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعنيهم حين قال القرآن على لسانه { يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً } الفرقان 3. ] فها هم فرغوه من محتواه بسوء التأويل وتحريف التفسير حتى أصبح الحق باطلاً والحلال حراماً بل فرضوا على الناس حياة اجتماعية على غير ما رسم القرآن وربوا أتباعهم وتلاميذهم على الإلحاد والكفر والعلمانية والمادية فأحبوا الحياة وكرهوا الموت حتى أصبح أحفاد رجال الأمس هم غثاء اليوم .

وللأسف فإن كثيراً من الأجيال السابقة التي واجهت الاستعمار ظنت أن التماسها أساليب الغرب ومناهجهم في التربية والتعليم ربما يحقق لهم القدرة على الوصول إلى ما وصل إليه من ثقافة وعلم وقوة وتمكين .

ولم يكن ذلك إلا وهماً لأن أي أمة من الأمم لن تستطيع أن تبنى نفسها أو تجدد كيانها أو تقيم حضارتها إلا إذا استمدت ذلك من جذورها وأصولها وتصوراتها واعتقاداتها ومصادرها الأولى ومنابعها الحقة التي شكلتها في أول الأمر .

لذلك فإن أمة الإسلام لا تجد في أي منهج آخر سبيلاً إلى اليقظة والنهضة بل إن تطبيق المناهج الأخرى يعوقها ويشوه حقيقة الإسلام .

إننا في حاجة إلى وقفة ناقدة ونظرة فاحصة ومراجعة النفس ومحاسبتها والحركة الدؤبة المنضبطة ثم المسارعة في الخيرات لتحقيق المهام الجسام وهذا يتطلب فهم دقيق وأساس الفهم عقل راجح وإيمان عميق وأساس الإيمان قلب زكى وإخلاص صادق وأساس الإخلاص فواد نقى وحماسة منضبطة وأساس الحماسة شعور قوى وعمل مشروع وأساس العمل عزم فتى .. إن الدعوة المشقة والنصب ليتخلص من جواذب الأرض وشواغل العيش وهواتف النفس والحياة الرخيصة فيترك حياة عباد الدنيا وعشاقها فلا يهتم إلا بشيء واحد ولا يستحوذ على قلبه إلا هم واحد فلا يهرب من مرارة الواجب ولا يستطيع أن يحقق هذا الشعور وتصبح الآخرة أكبر همه إلا إذا تحقق الإيمان في قلبه .

لقد ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرين عاماً لم يسترح يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ عبء البشرية وعبء الأمانة الكبرى في الأرض عبء العقيدة بكفاحها في شتى الميادين ومعه أصحاب قائمون لا يلههم شأن عن شأن تركوا دفء الفراش في البيت الهادئ والحضن الدافئ .

وما عاشوا لأنفسهم لأن الذي يعيش لنفسه قد يخيل إليه أنه مستريح ولكنه يعيش صغيراً ويموت صغيراً لأن الكبير هو الذي يحمل العبء الكبير ويعمل للناس جميعاً ولذلك كان من دعاء أبى بكر الصديق ((اللهم لا تدعنا في غمرة ولا تأخذنا على غرة ولا تجعلنا من الغافلين )).

إن الحياة أمام أصحاب الهمم العالية تهون حين تعز العقيدة وإن الدنيا تصغر حين تكبر المقاصد وتسمو

غايات فما قيمة الحياة بغير لبلبها ولبابها العقيدة فإذا خلت منها فهي ذل وصغار وما غثاء الدنيا بدون شرفها وشرفها أن يعمل الإنسان على إقامة العثار ويعين على نوائب الحق .

لذلك كان انطلاق المسلم دائماً إنطلاقاً ربانياً يستمده من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فسلوكه وحركاته تبعاً لمنهاجه ومصدر تلقيه فهو يتحرك في جنيات الأرض ساعياً للخير بل مسارعاً إليه واضعاً نصب عينيه قول ربه :{ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} آل عمران 133 ].

فهو مأمور بالمسارعة والمسابقة { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } المطففين :26 ] فينطلق إلى العمل

صغيراً كان أو كبيراً { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } الزلزلة 7،8

فهو مدعو إلى العمل بمثاقيل الذر من الخير لأنه محاسب ومجزى بها أو عليها لينال جنة وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : (( هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة ألا هل من مشمر لها )) قال الصحابة : نحن المشمرون يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم ((قولوا إن شاء الله )) فقال القوم : إن شاء الله ألا تستحق هذا كله تضحية وفداء .

فعلام يتباطؤن في عبادتهم لله وهو سبحانه الغنى عن هذه العبادة وهم الفقراء إليه قد أعلمهم الرسول صلى الله عليه وسلم بحقيقة الأمر وحقيقة الآخرة وبما يدور في السماوات فقال : ((أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى )) (( والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون تضربون صدوركم وتبكون على أنفسكم )) يقول راوي الحديث لوددت أنى كنت شجرة تعض .

أبعد هذا البيان يكون التباطؤ ؟ أم يقول كل امرئ إلى كسله فينفضه عنه وإلى تقصيره فيبرأ إلى الله عز وجل منه وإلى عمل الخيرات فيستبقه متذكراً قول الله تعالى { إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً } مريم 93، 95 ].

ويومها سيجد ملكاً يسوقه وآخر يشهد عليه ويختم على فيه وتنطق جوارحه عليه فماذا سوف يفعل وقتها ؟ ليس أمامه من سبيل إلا أن يكون من المسارعين في الخيرات ومن السباقين إلى الطاعات ومن العاملين بمثاقيل الذر من الخيرات لا يترك باباً من أبوب الخير إلا ولجه ولا يترك علامة من علامات الخير إلا أتاها كل ذلك ليوم لا حيلة له منه ولا شفاعة ولن ينفعه وقتها إلا ما قدم من الصالحات ومن الطاعات ليرد النار عن نفسه ((اتقوا النار ولو بشق تمرة )) فهو يتقى النار بالكلمة الطيبة ويتقى النار بالعمل الصالح ويتقى النار بالدعوة الحكيمة ويتقى النار بكل أفعاله وكلماته بكل حركاته وسكناته يريد أن ينجو من الموقف العظيم بين يدي الله الديان { قل إني أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين } الأنعام 15، 16 ].

حاجتنا إلى الإيجابية

إن إيجابية المسلم تتحقق على أرض الواقع بوعيه حقيقة الآخرة وإدراكه قيمة الدنيا ومعرفته حقيقة وجوده وطبيعة رسالته فينطلق لينادى الناس بالرسالة حتى وإن خذله الناس وإن تكاتفت ضده قوى البغي وتحالف عليه الأعداء وتكالب عليه الخصوم وتحزب عليه الجميع وإن وجد نفسه وحيداً فريداً ضعيفاً في الميدان ليس بذي سطوة في قومه وليس له نفوذ بين أفراد مجتمعه فهو يسعى سعى الرجل الذي { جاء من أقصى المدينة رجل يسعى } يس 2. ] ينادى قومه { يا قوم اتبعوا المرسلين } يس 2. ]. فلا ينشغل بضعفه وقلة حيلته ولكنه يسرع الخطى من أقصى المدينة ليأتي أمام الكافرين ليعلنها صريحة أمامهم { إني آمنت بربكم فاسمعون } يس 25 ] مضحيا بكل شئ .

ولم يقل الرجل إنهم كفروا برسل الله فما تعنى كلماتي أو قال : لم يؤمن الناس بالرسل أفيؤمنون بكلام ضعيفهم ؟!! الذي خلا من أسباب الوجاهة والسلطان إن هذه الأمور كلها لم تشغل باله فتحرك من أقصى الأرض إلى أقصاها ليعلى كلمة الحق ليزف بعد ذلك إلى السماء شهيداً بعد أن قال ما قال وليعلن على الناس { يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربى وجعلني من المكرمين } يس 26، 27 ]. بعد أن قدم نفسه رخيصة في سبيل الحق الذي يحمله .

إن إيمانه أبى عليه السكوت وعدم التحرك وإن عقيدته أبت عليه الخضوع والاستكانة ولو أنه جلس في بيته وقبع في داره وتلا قرآنه وأدى صلواته وأقام شعائر الله في خاصة نفسه وأولاده فلعل في ذلك مندوحة له عند بعض الناس ولكن أي خسارة سيخسرها هو في ذاته وأي احترام سوف يكنه في نفسه ولرسالته حين يرى نفسه قد ضعف وجبنت ولم ينطق بكلمة الحق ولم يتحرك لينصر دعوة الله في الأرض ولينصر المرسلين من عباد الله عز وجل .

كما أمر سبحانه وتعالى في كتابه { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } آل عمران 81 ]. إنه الإيمان والنصرة اللذان بها الفلاح مع التصديق بالرسالة { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون الأعراف 157 ].

إننا مطالبون مع الإيمان بهذا الدين أن نكون { أنصار الله } كما قال عيسى بن مريم للحواريين { من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله } آل عمران 52 ]. إننا في حاجة إلى من يقول نحن أنصار الله لينال عز الدنيا وسعادة الآخرة وعز الدنيا ينال بصدق الإيمان { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } آل عمران 139]. والتمكين في الأرض يتحقق بتسخير كل الطاقات أخذاً بالأسباب وسعادة الآخرة تنال بتقوى الله التي يصلح بها العبد ما بينه وبين ربه فيحبه سبحانه وتعالى وحسن الخلق يصلح به ما بينه وبين الناس فيحبه الناس فيجمع بذلك بين حب الله وملائكته في السماء وحب الصالحين ن عباده في الأرض كما أخبرنا بذلك كتاب ربنا : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل له الرحمن ودا } مريم 96 ]. وبهذا كله تتحقق على أرض الواقع حضارة اليوم الآخر ثمرة هذا المنهج الرباني الذي أسس على التقوى من أول يوم لأن الحضارة كالعمارة لم تأت من عدم بل انبعثت من تصور ونشأت على أسس وأقيمت على جدر فنحن نقصد أولاً وأخيراً الجدار والأساس لا الشكل و البناء و الأثاث { أ فمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم } التوبة 1.9 ]. ولا يكون ذلك كذلك إلا بالتضحيات .

لذلك كان الواجب الأول لعمارة الكون ، وبناء حضارة الإسلام الوقوف مع النفس منطلقاً من الداخل إلى الخارج { قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها } الشمس 9 وصدق الله حين قال { قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين } الزمر 15 .

أولى مراحل النصر

إن المسلم أول ما ينتصر إنما ينتصر على نفسه التي بين جنبيه ، وعلى ذاته التي بين جوانحه ، فإن انتصر عليها فهو على غيرها أقدر ، وإن عجز عنها فهو عما سواها أعجز ، وكأن المؤمنين يتنادون عبر الأزمان بمنطق الإيمان الواحد فترى ذلك المنطق يسود بينهم في العصور والأزمان { وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين } القصص 2. فهو رجل مؤمن يحمل في قلبه معالم الحق و الرجولة و المروءة ، ولم يكن موسى عليه السلام قبل أن يخرج من مصر قد أوحى إليه بعد ، ولكنه يمثل لوناً من ألوان الحق و البعد عن الفحش السائد بين الناس ، لا تناله أرجاسهم ، ولا رذائلهم ، وإذا بالرجل المؤمن يعلم بالمؤامرة التي تحاك وتدبر لقتل موسى عليه السلام ليعلمنا القرآن الكريم من خلال المواقف أن نكون إيجابيين كمؤمن موسى ، ومؤمن سورة يس فكلا من الرجلين جاء من أقصى المدينة ساعياً ولم يأت متمهلاً لينصر حقاً وليذود عن مظلوم ، ليرد عنه مؤامرة توشك أن تفتك به ، لأن الحق إذ نما وترعرع في قلب الإنسان ، فإنه يقاد إلى الله عز وجل ويسير في طريق الله لا يرشده إليه أحد ، وإنما تمليه عليه فطرته السليمة ، لذا يعمد الظالمون إلى تخريب فطر الشعوب ، وإلى إرهاق تلك الروح الطيبة في نفوسهم فيعمدون إلى روح الكرامة و المروءة في نفوس الناس فيقتلوها ويزهقوها ويقيمون الحواجز و العوائق في دنيا الناس ويشغلونهم بلقمة العيش فلا يلتفت كل منهم إلا إلى خاصة نفسه وبيته ، ويترك الحياة تمر أحداثها ومشاغلها ، ولكن هذا المنطق لا يعرفه أصحاب الحق ، فما إن ينبلج النور في قلوبهم ويؤمنوا بدعوة الإسلام إلا وتحركوا كل بقدر ما يحمل من علم ويطبق من تكليف ، وما يتحمل من جهد " بلغوا عنى ولو آية " .

إنهم لا يرضون بالقهر بحال من الأحوال ، ولنا في أبى ذر الغفارى الأسوة ، هذا الرجل المؤمن الذي توجه بقلبه وفطرته إلى الله قبل أن يؤمن بدعوة الإسلام وأرسل أخاه إلى مكة ليستعلم له عن شأن نبي الإسلام ، وحين لم يأت بما يشفي غليله إذا به يرحل بنفسه ويذهب إلى مكة يتلمس الخير حتى ساقه قدره إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد شهادة الحق ، وما إن نطقت شفتاه بتلك الكلمات النيرات إلا قال : يا رسول الله و الذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين ظهرانيهم ، إنه رجل أتى من غفار وليست مكة موطنه ، ولا عشيرة له فيها ، يقول و الذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين ظهرانيهم ، لا يحملها فحسب بل يصرخ بها ، إنه يريد أن يدعو إلى الله بكل قواه وهو الغريب النائي عن الديار البعيد عن الأهل ، ولكنه لا يضع كل ذلك في تصوره فهو يرى استضعاف المؤمنين ونبيهم معهم ويرى ما يُحمل عليهم من عذاب ، ويحاول النبي صلى الله عليه وسلم أن يثنيه عما هو مقدم عليه رحمة به وشفقة ، ولكنه يأبى ويخرج حيث يجلس الناس حول الكعبة ، وينادى فيهم بشهادة الحق فإذا بالجالسين يستنكرون فعل هذا الغريب الذي جاء ليعلن تلك الدعوة التي يريدون خنق أصحابها ، فيأتيهم هذا الغريب معلناً الدعوة التي لا يريدونها بينهم فيجتمعون عليه ضرباً ولا يبعدهم عنه إلا العباس بعد أن استحال إلى نصب أحمر بسبب ما سال من دمه ، ويأتي في اليوم التالي ويفعل مثل ما فعل في اليوم الأول ولا يخلصه من بين أيديهم إلا العباس بمنطق القوة التي لا يفهم الظالمون غيرها ، قال لهم العباس : يا قوم أتدرون من أين الرجل ؟ إنه من قبيلة غفار التي تمر عليها قوافلكم ، وهم قطاع طريق ، فحينئذٍ كفوا أيديهم عنه فحمل أبو ذر كلمة الحق وصرخ بها بين الناس ، وما بين إسلامه وبين تلك الكلمات إلا دقائق معدودات ، لم يمكث سنوات في رحاب المسجد ليتعلم وجوب الدعوة إلى الله ، وفريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، ليتلقى في ذلك الدروس و المحاضرات و الخطب ، إنما حين شرح الله صدره لرسالة الإسلام أبى على نفسه أن يكون من الساكتين .

وكما فعل الطفيل بن عمرو الدوسى شاعر العرب اللبيب حين جاء الرجل إلى مكة وخافت قريش من إسلام هذا الرجل فهو يقول عن نفسه فما زالوا يخوفونني من محمد ودعوته ويقولون لي : أنت رجل شاعر وامرؤ لبيب ، ونخاف عليك من سحر محمد ، قال : فما زالوا يخوفونني حتى حشوت أذني بالكرسف ( القطن ) لكيلا أسمع دعوة الإسلام ولا دعوة القرآن ، فيقول : بينما أنا عند الكعبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحاورني إذ أبى الله إلا أن يسمعني بعض ما يقول : فتسلل القرآن إلى أذني حين شاء الله بالهداية أن تلامس بشاشتها قلبي ، قال : فقلت في نفسي : إني امرؤ ذو عقل وفطنة ، فما علىّ أن أستمع إليه ، فأخرج الكرسف من أذنيه فناقشه وحاوره واستمع إلى القرآن ، فآمن بالله عز وجل فما أن نطق بتلك الكلمات حتى قال : يا رسول الله إني راجع وإني داعيهم إلى الإسلام فأريدك أن تجعل لي آية أن تسأل الله تبارك وتعالى أن يؤيدني بآية من عنده فأيده الله تبارك وتعالى بمدد من عنده بنور في إبهامه ، فيقول : إذن يا رسول الله قد يسخروا منى فتحول هذا النور من إبهامه إلى طرف سوطه كأنه قنديل معلق يتدلى من طرف سوطه ، وما إن رجع إلى قومه فاستقبله أبوه بعد طول شوق فقال : يا أبى إليك عنى فلست منى ولست منك ، قال : لم يا بنى ، قال : يا أبت إنى آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قال : ديني هو دينك فدخل أبوه في الإسلام ، وجاءت زوجه فقال : إليك عنى فرق بيني وبينك الإسلام قالت : ديني دينك فآمنت بالله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وتحمل الرجل مشاق الدعوة وحمل أمانة الرسالة فأي فترة قضاها في مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، إنها فترة يسيرة ولكنه عاد ليحمل الرسالة ومشعل الإيمان لينير به لقومه الطريق ، فإذا بهم يستأثرون عليه ويحول الزنا بينهم وبين الإسلام ، ويذهب الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة ويقول : يا رسول الله قد غلب الزنا على دوس فادع الله فيرفع النبي صلى الله عليه وسلم يداه فيقول الناس هلك دوس فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم : اللهم اهد دوساً وأت بهم مسلمين ، فيرجع الرجل إليهم ويمكث فيهم ويرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من سبعين أو ثمانين بيت من دوس قد أسلموا لله رب العالمين فيحمل الرجل نور الهداية إلى قومه على الرغم من أنه لم يمكث كثيراً بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولكن تحرك في قلبه روح الإيمان وحبه لدعوته فجند كل إماكناته وكل طاقاته من أجل دعوة الإسلام فكان بذلك إيجابياً متحركاً لا يحتاج إلى أمر من أحد ولا يحتاج إلى تكليف من أحد وإنما ينطلق بما أملاه عليه إسلامه .

ولقد سجل التاريخ أن الرجل الذي حيل بينه وبين الجهاد بكى ، ما أدراك ما الجهاد ؟ إنه قطع رقبة ، أو فقدان حياة بين الناس إنه يثكل أمه ويرمل زوجه وييتم ولده أو يخلف مالاً ، ويورث متاعاً فهذا هو الجهاد في دنيا الناس !! مع ذلك كان يبكى الرجل لأنه حيل بينه وبين أن تقطع رقبته في سبيل الله وحيل بينه وبين أن يذهب ليرفع راية الله عز وجل بين الناس بل كان أحدهم لشدة فقره يذهب ويتحرك فيعمل في بساتين المدينة ليأخذ أجره آخر النهار ليساهم بها في تجهيز جيش العسرة ولأول مرة في التاريخ يعرف أن أناساً يعملون ليتصدقون ، وأناساً يعملون من أجل أن يقدموا المال لدعوتهم ودينهم ، فقد تعرف دنيا رجلاً يعمل ليكفي ذاته لينفق على أسرته ليحسن من أوضاع معيشته ، أما هذا الجيل الفريد فقد ذهب ليعمل لا من اجل احتياجه الشخصي ، وإنما لاحتياج جماعي لتجهيز الجيش ، للتصدق في سبيل الله ليكون له مهمة وتكون له مساهمة في النفقة وكل منهم يقدم ما لديه في سبيل الله عز وجل دونما توجيه دونما أمر ، حتى المرأة المسلمة ذهبت وأقامت خيمتها في المسجد " رفيدة " رضوان الله عليه لتمرض جرحى المسلمين وتضع كل طاقتها في هذا المجال وفي هذا العمل دونما توجيه أو تكليف من نبيهم صلى الله عليه وسلم بل يستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من نومه فيجد أبا أيوب واقفاً على الباب ومعه سلاحه فيقول : ما نابك ؟ فيقول : يا رسول الله قد سمعت صوتاً فخفت عليك .

فينتدب الرجل للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم دونما تكليف ، وحينما يغير بعض الأعداء على إبل الصدقة في المدينة المنورة ولم يكن أمامهم إلا سلمة بن الأكوع وقد رآهم أمامه فندى سلمة وأصحابه وانطلق وحده يطارد المعتدين وكان سلمة بن الأكوع رضوان الله عليه رجل يسابق الفرس ويسبقه فجرى خلفهم وأخذ يطاردهم بعد أن أطلق صيحته وأصحابه فأدرك المسلمون أن هناك عدواً على المدينة فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يبادر لكي يسد الثغرة .

فالمسلم إن كان وحده مطالب بأن يزود عن دولة الإسلام ، يقول بن مسعود : الجماعة أن تكون على الحق ولو كنت وحدك ، وإن خذلك الناس ن وإن تخلى عنك الناس فأنت الجماعة ، أنت - إذاً - مطالب بأداء دورك ، مطالب بالجهاد حين الهيعة لا تتباطأ ولا تتراجع .

ورضوان الله على الإمام البنا القائل مبيناً أن الأمة تحتاج إلى نهضة رجل ، فيقول : إن رجلاً باستطاعته أن يبنى أمة لو صحت رجولته ، وإن كل الدعوات الإصلاحية و التجديدية إنما قام بها أناس ، وقام بها أفراد في لحظة غفي فيها المسلمون ، فوقف هذا الرجل الذي أراد الله أن يجدد على يديه الدين فاستنهض عزائم الناس ، واستحث هممهم ، ورفع للخير راية فتجمع المسلمون من حوله فكانت نهضة بعد غفلة ، وكانت صحوة بعد منام ... إنه العمل الدءوب الذي لا يعرف الكلل ولا الملل { أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون } المؤمنون 61 ، ولا تتحقق الخيرات على الأرض إلا بتضحيات الرجال أصحاب الهمة العالية .