الفرق بين المراجعتين لصفحة: «الإمام حسن البنا يكتب في علوم القرآن»

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لا ملخص تعديل
لا ملخص تعديل
سطر ١: سطر ١:
'''<center><font color="blue"><font size=5>الإمام [[حسن البنا]] يكتب في علوم القرآن</font></font></center>'''
'''<center><font color="blue"><font size=5>[[الإمام حسن البنا]] يكتب في علوم القرآن</font></font></center>'''


'''بقلم: الامام [[حسن البنا]]'''
'''بقلم: [[الإمام حسن البنا]]'''


== مقدمة ==
== مقدمة ==
سطر ٧: سطر ٧:
==التفسير وعلوم القرآن==
==التفسير وعلوم القرآن==


[[ملف:الإمام-الشهيد-حسن-البنا-15.jpg|تصغير|200بك|<center>'''الإمام حسن البنا'''</center>]]
[[ملف:الإمام-الشهيد-حسن-البنا-15.jpg|تصغير|200بك|<center>'''[[الإمام حسن البنا]]'''</center>]]


"لا بد لمثل هذه المجلة أن تتناول تفسير القرآن الكريم وعلومه كأول مصدر من مصادر الإسلام الحنيف وأقدمها وأهمها، ولقد فكرت طويلا فى المدخل الذى ألج منه هذا الميدان الفسيح المتشعب النواحى، وخطر لى أن أتناول تفسير المنار فأبدأ من حيث انتهى صاحبه السيد [[رشيد رضا]] رحمه الله، وخصوصًا وقد بدأت بذلك فعلا حين أسند تحرير المنار وإصدارها إلى [[الإخوان المسلمين]] خلال سنة [[1940]] الميلادية، فكتبت فى تفسير صدر سورة "الرعد" وعطلت المجلة بعد صدور ستة أعداد كانت تمام المجلد الخامس والثلاثين.  
"لا بد لمثل هذه المجلة أن تتناول تفسير القرآن الكريم وعلومه كأول مصدر من مصادر الإسلام الحنيف وأقدمها وأهمها، ولقد فكرت طويلا فى المدخل الذى ألج منه هذا الميدان الفسيح المتشعب النواحى، وخطر لى أن أتناول تفسير المنار فأبدأ من حيث انتهى صاحبه السيد [[رشيد رضا]] رحمه الله، وخصوصًا وقد بدأت بذلك فعلا حين أسند تحرير المنار وإصدارها إلى [[الإخوان المسلمين]] خلال سنة [[1940]] الميلادية، فكتبت فى تفسير صدر سورة "الرعد" وعطلت المجلة بعد صدور ستة أعداد كانت تمام المجلد الخامس والثلاثين.  
سطر ٢٥: سطر ٢٥:


فليس المقصود من القرآن مجرد التلاوة، أو التماس البركة -وهو مبارك حقًّا- ولكن بركته الكبرى فى تدبره وتفهم معانيه ومقاصده، ثم تحقيقها فى الأعمال الدينية والدنيوية على السواء، ومن لم يفعل ذلك أو اكتفى بمجرد التلاوة بغير تدبر ولا عمل فإنه يخشى أن يحق عليه الوعيد الذى يرويه البخارى عن حذيفة رضى الله عنه: "يا معشرَ القُرَّاء، استقيموا؛ فقد سَبَقْتُم سَبْقًا بعيدًا، وإنْ أخذتم يمينًا وشِمَالا لقد ضَلَلْتُمْ ضَلالا بعِيدًا".
فليس المقصود من القرآن مجرد التلاوة، أو التماس البركة -وهو مبارك حقًّا- ولكن بركته الكبرى فى تدبره وتفهم معانيه ومقاصده، ثم تحقيقها فى الأعمال الدينية والدنيوية على السواء، ومن لم يفعل ذلك أو اكتفى بمجرد التلاوة بغير تدبر ولا عمل فإنه يخشى أن يحق عليه الوعيد الذى يرويه البخارى عن حذيفة رضى الله عنه: "يا معشرَ القُرَّاء، استقيموا؛ فقد سَبَقْتُم سَبْقًا بعيدًا، وإنْ أخذتم يمينًا وشِمَالا لقد ضَلَلْتُمْ ضَلالا بعِيدًا".


== الحاجة إلى التفسير ==
== الحاجة إلى التفسير ==
سطر ٣٤: سطر ٣٣:


ومن هنا نشأ علم التفسير بسيطًا، ثم ما زال الناس يتوسعون فى شأنه حتى ورثنا مجموعة ضخمة من التفاسير كان بعضها هداية ونورًا، وكان بعضها موسوعات علمية فيها كل شىء إلا تفسير القرآن.
ومن هنا نشأ علم التفسير بسيطًا، ثم ما زال الناس يتوسعون فى شأنه حتى ورثنا مجموعة ضخمة من التفاسير كان بعضها هداية ونورًا، وكان بعضها موسوعات علمية فيها كل شىء إلا تفسير القرآن.


==عناية السلف به==
==عناية السلف به==
سطر ٤١: سطر ٣٩:


وقال ابن عبد البر: هو ضمرة بن حبيب . وقال ابن عباس: مكثت سنتين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يمنعنى إلا مهابته، فسألته فقال: هى حفصة وعائشة. وقال إياس بن معاوية : "مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره، كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلا وليس عندهم مصباح، فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما فى الكتاب. ومثل الذى يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرءوا ما فى الكتاب".  
وقال ابن عبد البر: هو ضمرة بن حبيب . وقال ابن عباس: مكثت سنتين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يمنعنى إلا مهابته، فسألته فقال: هى حفصة وعائشة. وقال إياس بن معاوية : "مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره، كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلا وليس عندهم مصباح، فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما فى الكتاب. ومثل الذى يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرءوا ما فى الكتاب".  


==التفسير بالرأى==
==التفسير بالرأى==
سطر ٥٤: سطر ٥١:


والمراد بالقول بالرأى هنا أن يقول بغير علم خجلا أو تورطًا أو هروبًا من الوصف بالجهل، أو أن يتحكم الهوى وتتغلب الأغراض فتجور بصاحبها عن نهج الصواب، وتعدل به عن طريق الحق، فلو أصاب أحدهم مع هذه النية فقد أخطأ وأثم. ولا شك أن الذين يجتهدون فى تحرى الحق متجردين له من أهوائهم فهم مثابون، إن أخطؤوا فلهم أجر، وإن أصابوا فلهم أجران إن شاء الله، وبهذا يجمع بين رغبة السلف فى التفسير وتعظيمهم لقدر المفسرين، وبين خوفهم من القول فى القرآن بالرأى وما ورد من النهى عن ذلك.
والمراد بالقول بالرأى هنا أن يقول بغير علم خجلا أو تورطًا أو هروبًا من الوصف بالجهل، أو أن يتحكم الهوى وتتغلب الأغراض فتجور بصاحبها عن نهج الصواب، وتعدل به عن طريق الحق، فلو أصاب أحدهم مع هذه النية فقد أخطأ وأثم. ولا شك أن الذين يجتهدون فى تحرى الحق متجردين له من أهوائهم فهم مثابون، إن أخطؤوا فلهم أجر، وإن أصابوا فلهم أجران إن شاء الله، وبهذا يجمع بين رغبة السلف فى التفسير وتعظيمهم لقدر المفسرين، وبين خوفهم من القول فى القرآن بالرأى وما ورد من النهى عن ذلك.


==تأثر أسلوب التفسير بالثقافات والعصور المختلفة==
==تأثر أسلوب التفسير بالثقافات والعصور المختلفة==
سطر ٦٢: سطر ٥٨:
وجاء عصر التدوين والقصص، فكتبت فى التفسير رسائل لا تعدو أن تكون روايات منقولة وأقاصيص، منها ما هو صحيح يتصل بأسباب النزول ووقائع الأحكام، ومنها ما هو منقول عن أهل الكتاب فيه الغث وفيه السمين. وعرف بذلك مفسرون، ووضعت كتب على هذا الأسلوب الذى يعرف بأسلوب الرواية أو التفسير "التفسير بالمأثور" لا شك أن من أعظمها وأجلها وأبقاها وأنفعها وأغزرها مادة تفسير الإمام محمد بن جرير الطبرى  المتوفى سنة 310هـ، واسمه "جامع البيان فى تفسير القرآن".
وجاء عصر التدوين والقصص، فكتبت فى التفسير رسائل لا تعدو أن تكون روايات منقولة وأقاصيص، منها ما هو صحيح يتصل بأسباب النزول ووقائع الأحكام، ومنها ما هو منقول عن أهل الكتاب فيه الغث وفيه السمين. وعرف بذلك مفسرون، ووضعت كتب على هذا الأسلوب الذى يعرف بأسلوب الرواية أو التفسير "التفسير بالمأثور" لا شك أن من أعظمها وأجلها وأبقاها وأنفعها وأغزرها مادة تفسير الإمام محمد بن جرير الطبرى  المتوفى سنة 310هـ، واسمه "جامع البيان فى تفسير القرآن".


وجاء عصر الترجمة والفلسفة، والاتصال بعلوم الفرس واليونان، ووقع الخلاف بين فلاسفة الإسلام وعلمائه فى كثير من الشئون العقدية والفروع الفقهية وما إلى ذلك، فنحت كتب التفسير نحو هذا الأسلوب، من حيث تضمنها لكثير من النظرات الفلسفية، والاستدلال بالآيات على الآراء والمذاهب العقدية المختلفة؛ بل إن كثيرًا من المفسرين كان يجتهد أن يستنبط من الآية ما يوافق مذهبه فى الفروع، وذلك أمر طبيعى. وكثير من كتب التفسير إنما كان الدافع إليه مجرد الرد على بعض الكتب السابقة، ويرى ذلك واضحًا فى تفسير الفخر الرازى  المتوفى سنة 606هـ، والمسمى "مفاتيح الغيب"، وفى تفسير الزمخشرى  المتوفى سنة 538هـ، وهو المسمى بـرضي الله عنهالكشاف)، وأضرابهما، ويطلق بعض الباحثين على هذا الأسلوب "التفسير بالمعقول".
وجاء عصر الترجمة والفلسفة، والاتصال بعلوم الفرس واليونان، ووقع الخلاف بين فلاسفة [[الإسلام]] وعلمائه فى كثير من الشئون العقدية والفروع الفقهية وما إلى ذلك، فنحت كتب التفسير نحو هذا الأسلوب، من حيث تضمنها لكثير من النظرات الفلسفية، والاستدلال بالآيات على الآراء والمذاهب العقدية المختلفة؛ بل إن كثيرًا من المفسرين كان يجتهد أن يستنبط من الآية ما يوافق مذهبه فى الفروع، وذلك أمر طبيعى. وكثير من كتب التفسير إنما كان الدافع إليه مجرد الرد على بعض الكتب السابقة، ويرى ذلك واضحًا فى تفسير الفخر الرازى  المتوفى سنة 606هـ، والمسمى "مفاتيح الغيب"، وفى تفسير الزمخشرى  المتوفى سنة 538هـ، وهو المسمى بـرضي الله عنهالكشاف)، وأضرابهما، ويطلق بعض الباحثين على هذا الأسلوب "التفسير بالمعقول".


وكثيرًا ما تناول بعض اللغويين تفسير القرآن الكريم فصرفوا وجهتهم إلى النكات البلاغية والتوجيهات اللغوية، والاستعمالات النحوية، وهكذا، كما ترى ذلك فى تفسير الزجاج  والواحدى  وأبى حيان الأندلسى ، وما زال بين أيدينا كتاب المفردات للراغب الأصفهانى  من رجال القرن السادس الهجرى.
وكثيرًا ما تناول بعض اللغويين تفسير القرآن الكريم فصرفوا وجهتهم إلى النكات البلاغية والتوجيهات اللغوية، والاستعمالات النحوية، وهكذا، كما ترى ذلك فى تفسير الزجاج  والواحدى  وأبى حيان الأندلسى ، وما زال بين أيدينا كتاب المفردات للراغب الأصفهانى  من رجال القرن السادس الهجرى.
سطر ٧١: سطر ٦٧:


ولا نريد أن نتناول هنا جميع كتب التفسير بالوصف والتحليل؛ فذلك ما لا نقصد إليه، ولا هو من مواد هذا البحث، وحسبنا ما ذكر على سبيل المثال.
ولا نريد أن نتناول هنا جميع كتب التفسير بالوصف والتحليل؛ فذلك ما لا نقصد إليه، ولا هو من مواد هذا البحث، وحسبنا ما ذكر على سبيل المثال.


==مزالق المفسرين==
==مزالق المفسرين==
سطر ١٠٣: سطر ٩٨:
من المقرر أن القرآن الكريم لم ينزل ليكون كتاب هيئة أو طب أو فلك أو زراعة أو صناعة، ولكنه كتاب هداية وإرشاد، وتوجيه اجتماعى إلى أمهات المناهج الاجتماعية التى إذا سلكها الناس سعدوا فى دنياهم وفازوا فى آخرتهم. وهو إنما يعرض للعلوم الكونية، ولمظاهر الوجود المادية الطبيعية بالقدر الذى يعين على الإيمان بعظمة الخالق جل وعلا، ويكشف عن بديع صنعه، وعما أودع فى هذا الكون من المنافع والفوائد لبنى الإنسان؛ حتى ييسر لهم بذلك طرائق الاهتداء إلى الاستفادة من هذه الخيرات فى الأرض وفى السماء وفيما بين ذلك، ثم ترك بعد ذلك للعقل الإنسانى أن يجاهد ويكافح فى سبيل الكشف عن مساتير هذا الوجود والاستفادة مما فيه من قوى ومنافع، وحثه على ذلك وجعل هذا من أفضل العبادة وأعلى أنواع ذكر الله  قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [يونس: 101]،  إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِى الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 190-191].
من المقرر أن القرآن الكريم لم ينزل ليكون كتاب هيئة أو طب أو فلك أو زراعة أو صناعة، ولكنه كتاب هداية وإرشاد، وتوجيه اجتماعى إلى أمهات المناهج الاجتماعية التى إذا سلكها الناس سعدوا فى دنياهم وفازوا فى آخرتهم. وهو إنما يعرض للعلوم الكونية، ولمظاهر الوجود المادية الطبيعية بالقدر الذى يعين على الإيمان بعظمة الخالق جل وعلا، ويكشف عن بديع صنعه، وعما أودع فى هذا الكون من المنافع والفوائد لبنى الإنسان؛ حتى ييسر لهم بذلك طرائق الاهتداء إلى الاستفادة من هذه الخيرات فى الأرض وفى السماء وفيما بين ذلك، ثم ترك بعد ذلك للعقل الإنسانى أن يجاهد ويكافح فى سبيل الكشف عن مساتير هذا الوجود والاستفادة مما فيه من قوى ومنافع، وحثه على ذلك وجعل هذا من أفضل العبادة وأعلى أنواع ذكر الله  قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [يونس: 101]،  إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِى الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 190-191].


ولقد ذهب كثير من المؤلفين والمفسرين فى القديم والحديث إلى أن القرآن الكريم قد تضمن كل أصول العلوم الكونية، وحاولوا أن يصلوا إلى ذلك بتطبيق آيات الخلق والتكوين وما إليها على ما عرف الناس من هذه العلوم؛ ومن هؤلاء الإمام الغزالى قديمًا فى جواهر القرآن، والشيخ [[طنطاوى جوهرى]] حديثًا فى تفسيره الجواهر، والدكتور عبد العزيز إسماعيل فى كتابه عن القرآن والطب، وأمثالهما، وهو جهد مشكور ولا شك، ولكنه تكليف بما لم يكلفنا الله به قد يصل فى كثير من الأحيان إلى التكلف، وخروج بالقرآن عما نزل له من الهداية والإصلاح الاجتماعى وتقرير قواعدهما فى النفوس والمجتمعات، وتعريض لمعانى كتاب الله -تبارك وتعالى- لاختلاف الآراء، وتضارب المقررات العلمية، واختلاف أقوال العلماء. ولهذا كره بعض السلف هذا المعنى وأشار إليه، كما فعل ذلك الشاطبى فى الجزء الثانى من رضي الله عنهالموافقات)، وناقشه مناقشة دقيقة خلص منها إلى: "أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء من هذه العلوم وإن كان قد تضمن علومًا هى من جنس علوم العرب أو ما ينبنى على معهودهما مما يتعجب منه أولو الألباب ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الاهتداء بأعلامه، والاستنارة بنوره، أما أن فيه ما ليس من ذلك فلا".  
ولقد ذهب كثير من المؤلفين والمفسرين فى القديم والحديث إلى أن القرآن الكريم قد تضمن كل أصول العلوم الكونية، وحاولوا أن يصلوا إلى ذلك بتطبيق آيات الخلق والتكوين وما إليها على ما عرف الناس من هذه العلوم؛ ومن هؤلاء الإمام الغزالى قديمًا فى جواهر القرآن، والشيخ [[طنطاوى جوهرى]] حديثًا فى تفسيره الجواهر، والدكتور عبد العزيز إسماعيل فى كتابه عن القرآن والطب، وأمثالهما، وهو جهد مشكور ولا شك، ولكنه تكليف بما لم يكلفنا الله به قد يصل فى كثير من الأحيان إلى التكلف، وخروج بالقرآن عما نزل له من الهداية والإصلاح الاجتماعى وتقرير قواعدهما فى النفوس والمجتمعات، وتعريض لمعانى كتاب الله -تبارك وتعالى- لاختلاف الآراء، وتضارب المقررات العلمية، واختلاف أقوال العلماء.  
 
ولهذا كره بعض السلف هذا المعنى وأشار إليه، كما فعل ذلك الشاطبى فى الجزء الثانى من رضي الله عنهالموافقات)، وناقشه مناقشة دقيقة خلص منها إلى: "أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء من هذه العلوم وإن كان قد تضمن علومًا هى من جنس علوم العرب أو ما ينبنى على معهودهما مما يتعجب منه أولو الألباب ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الاهتداء بأعلامه، والاستنارة بنوره، أما أن فيه ما ليس من ذلك فلا".  


ومن المقرر كذلك أن القرآن قد تعرض لكثير من مظاهر الوجود الكونية، فتناول خلق الإنسان، وتكوين الأرض والسماء، وجريان الشمس والقمر، وتسخير الكواكب والنجوم والأفلاك، وتراكم السحاب ونزول المطر، وظاهرة الرعد والبرق، ونمو النبات وتنوع أصنافه، وعجائب البحار، وأعلام الطريق والجبال الرواسى على هذه الأرض، وأطوار الأجنة فى بطون أمهاتها، إلى غير ذلك مما يتناوله علماء الكون بالتمحيص والبيان، وما هو موضوع بحوثهم ومحل عنايتهم وتجاربهم.
ومن المقرر كذلك أن القرآن قد تعرض لكثير من مظاهر الوجود الكونية، فتناول خلق الإنسان، وتكوين الأرض والسماء، وجريان الشمس والقمر، وتسخير الكواكب والنجوم والأفلاك، وتراكم السحاب ونزول المطر، وظاهرة الرعد والبرق، ونمو النبات وتنوع أصنافه، وعجائب البحار، وأعلام الطريق والجبال الرواسى على هذه الأرض، وأطوار الأجنة فى بطون أمهاتها، إلى غير ذلك مما يتناوله علماء الكون بالتمحيص والبيان، وما هو موضوع بحوثهم ومحل عنايتهم وتجاربهم.
سطر ١٤٠: سطر ١٣٧:
==أفضل التفاسير وأقرب طرائق الفهم==
==أفضل التفاسير وأقرب طرائق الفهم==


وبعد، فقد سألنى أحد الإخوان عن أفضل التفاسير وأقرب طرق الفهم لكتاب الله تبارك وتعالى، فكان جوابى على سؤاله هذا هذه الكلمة: "قلبك"، فقلب المؤمن ولا شك هو أفضل التفاسير لكتاب الله تبارك وتعالى، وأقرب طرائق الفهم؛ أن يقرأ القارئ بتدبر وخشوع، وأن يستلهم الله الرشد والسداد، ويجمع شوارد فكره حين التلاوة، وأن يلم مع ذلك بالسيرة النبوية المطهرة، ويعنى بنوع خاص بأسباب النزول وارتباطها بمواضعها من هذه السيرة، فسيجد فى ذلك أكبر العون على الفهم الصحيح السليم. وإذا قرأ فى كتب التفسير بعد ذلك فلِلْوقوف على معنى لفظ دق عليه أو تركيب خفى أمامه معناه أو استزادة من ثقافة تعينه على الفهم الصحيح لكتاب الله، فهى مساعدات على الفهم، والفهم بعد ذلك إشراق ينقدح ضوؤه فى صميم القلب.  
وبعد، فقد سألنى أحد [[الإخوان]] عن أفضل التفاسير وأقرب طرق الفهم لكتاب الله تبارك وتعالى، فكان جوابى على سؤاله هذا هذه الكلمة: "قلبك"، فقلب المؤمن ولا شك هو أفضل التفاسير لكتاب الله تبارك وتعالى، وأقرب طرائق الفهم؛ أن يقرأ القارئ بتدبر وخشوع، وأن يستلهم الله الرشد والسداد، ويجمع شوارد فكره حين التلاوة، وأن يلم مع ذلك بالسيرة النبوية المطهرة، ويعنى بنوع خاص بأسباب النزول وارتباطها بمواضعها من هذه السيرة، فسيجد فى ذلك أكبر العون على الفهم الصحيح السليم. وإذا قرأ فى كتب التفسير بعد ذلك فلِلْوقوف على معنى لفظ دق عليه أو تركيب خفى أمامه معناه أو استزادة من ثقافة تعينه على الفهم الصحيح لكتاب الله، فهى مساعدات على الفهم، والفهم بعد ذلك إشراق ينقدح ضوؤه فى صميم القلب.  


ومن وصايا الأستاذ الإمام الشيخ [[محمد عبده]] -رحمه الله- لبعض تلامذته: "وأدم قراءة القرآن، وفهم أوامره ونواهيه، ومواعظه وعِبَره كما كان يتلى على المؤمنين أيام الوحى، وحاذر النظر إلى وجوه التفاسير إلا لفهم لفظ غاب عنك مراد العرب منه، أو ارتباط مفرد بآخر خفى عليك متصله، ثم اذهب إلى ما يشخصك القرآن إليه، واحمل نفسك على ما يحمل عليه".  
ومن وصايا الأستاذ الإمام الشيخ [[محمد عبده]] -رحمه الله- لبعض تلامذته: "وأدم قراءة القرآن، وفهم أوامره ونواهيه، ومواعظه وعِبَره كما كان يتلى على المؤمنين أيام الوحى، وحاذر النظر إلى وجوه التفاسير إلا لفهم لفظ غاب عنك مراد العرب منه، أو ارتباط مفرد بآخر خفى عليك متصله، ثم اذهب إلى ما يشخصك القرآن إليه، واحمل نفسك على ما يحمل عليه".  


ولا شك أن من أخذ بهذه الطريقة سيجد أثرها بعد حين فى نفسه ملكة تجعل الفهم من سجيته، ونورًا يستضيء به فى دنياه وآخرته إن شاء الله.
ولا شك أن من أخذ بهذه الطريقة سيجد أثرها بعد حين فى نفسه ملكة تجعل الفهم من سجيته، ونورًا يستضيء به فى دنياه وآخرته إن شاء الله.


==سورة الفاتحة==
==سورة الفاتحة==


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة] .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة] .


===فضلها===
===فضلها===
سطر ١٥٩: سطر ١٥٤:


وروى على بن أبى طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاتحةُ الكتابِ، وآيةُ الكرسى، وشَهِدَ اللهُ أنّه لا إلهَ إلا هُو، وقل اللَّهُمَ مَالكِ الْمُلكِ، هذه الآياتُ مُعَلَّقاتٌ بالْعَرْشِ ليس بينَهُنَّ وبينَ اللهِ حِجابٌ". أسنده أبو عمرو الدانى فى كتاب "البيان" له، ونقله القرطبى عنه.  
وروى على بن أبى طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاتحةُ الكتابِ، وآيةُ الكرسى، وشَهِدَ اللهُ أنّه لا إلهَ إلا هُو، وقل اللَّهُمَ مَالكِ الْمُلكِ، هذه الآياتُ مُعَلَّقاتٌ بالْعَرْشِ ليس بينَهُنَّ وبينَ اللهِ حِجابٌ". أسنده أبو عمرو الدانى فى كتاب "البيان" له، ونقله القرطبى عنه.  


===أين ومتى نزلت؟===
===أين ومتى نزلت؟===
سطر ١٦٨: سطر ١٦٢:


وذهب الأستاذ الإمام الشيخ [[محمد عبده]] فى تفسيره إلى أنها أول سورة نزلت من القرآن، محتجًا لذلك بأن سنة الله -تبارك وتعالى- قد جرت بأن يسبق الإجمال التفصيل، وسورة الفاتحة قد تضمنت مقاصد القرآن الكريم إجمالا، وذلك يقتضى أن تسبق فى النزول. وأفاض فى تفصيل ذلك، وقد يقال: إن هذا يصح علة للترتيب لا للنزول، والذى كان يتبع غالبًا الحوادث والوقائع.
وذهب الأستاذ الإمام الشيخ [[محمد عبده]] فى تفسيره إلى أنها أول سورة نزلت من القرآن، محتجًا لذلك بأن سنة الله -تبارك وتعالى- قد جرت بأن يسبق الإجمال التفصيل، وسورة الفاتحة قد تضمنت مقاصد القرآن الكريم إجمالا، وذلك يقتضى أن تسبق فى النزول. وأفاض فى تفصيل ذلك، وقد يقال: إن هذا يصح علة للترتيب لا للنزول، والذى كان يتبع غالبًا الحوادث والوقائع.


===أم القرآن===
===أم القرآن===
سطر ١٧٧: سطر ١٧٠:


قال القرطبى: سميت القرآن العظيم لتضمنها جميع علومه، وذلك أنه تشتمل على الثناء لله -عز وجل- بأوصاف كماله وجلاله، وعلى الأمر بالعبادات والإخلاص فيها، والاعتراف بالعجز عن القيام بشىء منها إلا بإعانته تعالى، وعلى الابتهال إليه فى الهداية إلى الصراط المستقيم، وكفاية أحوال الناكثين، وعلى بيانه عاقبة الجاحدين ، كذا قال رحمه الله. ويمكن أن يقال: إنها تضمنت مقاصد القرآن الكريم إجمالا؛ بمعنى آخر هو أن القرآن الكريم إنما جاء لبيان حقوق الخالق على خلقه، وحاجة الخلق إلى خالقهم، وتنظيم الصلة بين الخالق والمخلوق، وهذه هى جملة المقاصد التى جاء بها القرآن؛ بل جاءت بها الكتب السماوية والأديان كلها، وقد أشارت إليها الفاتحة؛ فآياتها الأولى بيان لحقوق الله على خلقه، و إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ مع طلب الهداية منه تعالى إلى الصراط المستقيم بيان لحاجة الخلق إلى خالقهم، والصراط المستقيم هو نظام هذه الصلة بين المخلوقين والخالق، كما تضمنت الفاتحة كذلك الإشارة إلى الرد على كل طوائف المبطلين الخارجين عن المستقيم، وبيان أسباب هذا الخروج وهى لا تتعدى الغضب عليهم أو الضلال منهم، وبهذا استحقت الفاتحة أن يطلق عليها أم القرآن؛ بل القرآن العظيم.
قال القرطبى: سميت القرآن العظيم لتضمنها جميع علومه، وذلك أنه تشتمل على الثناء لله -عز وجل- بأوصاف كماله وجلاله، وعلى الأمر بالعبادات والإخلاص فيها، والاعتراف بالعجز عن القيام بشىء منها إلا بإعانته تعالى، وعلى الابتهال إليه فى الهداية إلى الصراط المستقيم، وكفاية أحوال الناكثين، وعلى بيانه عاقبة الجاحدين ، كذا قال رحمه الله. ويمكن أن يقال: إنها تضمنت مقاصد القرآن الكريم إجمالا؛ بمعنى آخر هو أن القرآن الكريم إنما جاء لبيان حقوق الخالق على خلقه، وحاجة الخلق إلى خالقهم، وتنظيم الصلة بين الخالق والمخلوق، وهذه هى جملة المقاصد التى جاء بها القرآن؛ بل جاءت بها الكتب السماوية والأديان كلها، وقد أشارت إليها الفاتحة؛ فآياتها الأولى بيان لحقوق الله على خلقه، و إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ مع طلب الهداية منه تعالى إلى الصراط المستقيم بيان لحاجة الخلق إلى خالقهم، والصراط المستقيم هو نظام هذه الصلة بين المخلوقين والخالق، كما تضمنت الفاتحة كذلك الإشارة إلى الرد على كل طوائف المبطلين الخارجين عن المستقيم، وبيان أسباب هذا الخروج وهى لا تتعدى الغضب عليهم أو الضلال منهم، وبهذا استحقت الفاتحة أن يطلق عليها أم القرآن؛ بل القرآن العظيم.


===البسملة فى الفاتحة===
===البسملة فى الفاتحة===
سطر ١٩٣: سطر ١٨٥:
وما روى عن أم سلمة أم المؤمنين -رضى الله عنها- أنها سُئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان يقطع قراءته آية آية؛ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين. رواه أحمد وأبو داود بهذا اللفظ وغيرهما.  
وما روى عن أم سلمة أم المؤمنين -رضى الله عنها- أنها سُئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان يقطع قراءته آية آية؛ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين. رواه أحمد وأبو داود بهذا اللفظ وغيرهما.  


وما رواه النسائى وغيره عن نعيم المجمر قال: صليتُ وراءَ أبى هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأمِّ القرآن وفيه يقول إذا سلمَ: والذى نفسى بيده؛ إنى لأشْبهكم صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم.  وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال: على شرط البخارى ومسلم. وأقره الذهبى، وقال البيهقى: صحيح الإسناد، وله شواهد. وحديث على -كرم الله وجهه-: سُئلَ عن السبع المثانى فقال: الحمدُ لله رب العالمين، قيلَ: إنما هى سِتٌ، فقالَ: بسم الله الرحمن الرحيم. رواه الدارقطنى، وله حديثان آخران عنه وعن عمار بن ياسر فى إثبات جهر النبى صلى الله عليه وسلم بالبسملة، وإن تكلم فى سندهما.
وما رواه النسائى وغيره عن نعيم المجمر قال: صليتُ وراءَ أبى هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأمِّ القرآن وفيه يقول إذا سلمَ: والذى نفسى بيده؛ إنى لأشْبهكم صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم.   
 
وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال: على شرط البخارى ومسلم.  
 
وأقره الذهبى، وقال البيهقى: صحيح الإسناد، وله شواهد. وحديث على -كرم الله وجهه-: سُئلَ عن السبع المثانى فقال: الحمدُ لله رب العالمين، قيلَ: إنما هى سِتٌ، فقالَ: بسم الله الرحمن الرحيم.  
 
رواه الدارقطنى، وله حديثان آخران عنه وعن عمار بن ياسر فى إثبات جهر النبى صلى الله عليه وسلم بالبسملة، وإن تكلم فى سندهما.
 
وحديث أنس رضى الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.  رواه الحاكم وقال: ورواته عن آخرهم ثقات، وأقره الحافظ الذهبى.
وحديث أنس رضى الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.  رواه الحاكم وقال: ورواته عن آخرهم ثقات، وأقره الحافظ الذهبى.


واحتج القائلون بأنها ليست آية من الفاتحة بما رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذى والنسائى عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صلى صلاةً لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهى خداجٌ". يقولها ثلاثًا، فقيل لأبى هريرة: إنا نكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها فى نفسك، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله -عز وجل-: قسمتُ الصلاة بينى وبين عبدى نصفين، ولعبدى ما سأل، فإذا قال العبدُ:  الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال اللهُ: حمدنى عبدى، فإذا قال:  الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال اللهُ: أثنى علىَّ عبدى، فإذا قال:  مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال: مَجَّدنى عبدى -وقال مرة: فوَّضَ إلىَّ عبدي- وإذا قال:  إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال: هذا بينى وبين عبدى، ولعبدى ما سأل، فإذا قال:  اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ قال: هذا لعبدى ولعبدى ما سأل".  فهو لم يذكر فيه بسم الله الرحمن الرحيم، ولو كانت من الفاتحة لذكرت.
واحتج القائلون بأنها ليست آية من الفاتحة بما رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذى والنسائى عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صلى صلاةً لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهى خداجٌ".  
 
يقولها ثلاثًا، فقيل لأبى هريرة: إنا نكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها فى نفسك، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله -عز وجل-: قسمتُ الصلاة بينى وبين عبدى نصفين، ولعبدى ما سأل، فإذا قال العبدُ:  الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال اللهُ: حمدنى عبدى، فإذا قال:  الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال اللهُ: أثنى علىَّ عبدى، فإذا قال:  مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال: مَجَّدنى عبدى -وقال مرة: فوَّضَ إلىَّ عبدي- وإذا قال:  إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال: هذا بينى وبين عبدى، ولعبدى ما سأل، فإذا قال:  اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ قال: هذا لعبدى ولعبدى ما سأل".  فهو لم يذكر فيه بسم الله الرحمن الرحيم، ولو كانت من الفاتحة لذكرت.


وقد يرد على هذا بأن البسملة فيها الثناء على الله بما تكرر فى الفاتحة فلم يكن هناك ما يدعو إلى ذكرها، وبخاصة وهى مشتركة فى كل السورة.
وقد يرد على هذا بأن البسملة فيها الثناء على الله بما تكرر فى الفاتحة فلم يكن هناك ما يدعو إلى ذكرها، وبخاصة وهى مشتركة فى كل السورة.
سطر ٢١١: سطر ٢١٢:


وقد أفرد هذه المسألة بالتأليف جماعة من أكابر العلماء، وجمع فيها الشوكانى رسالة تشتمل على نظم ونثر أجاب بها على سؤال ورد، وبالغ بعضهم حتى عدها من مسائل الاعتقاد، والأمر أيسر من هذا كله، وحسبنا أن نراها مثبتة فى المصحف، وقد أجمع الصحابة -رضوان الله عليهم- على كتابتها فى صدر الفاتحة وتلاوتها حين القراءة، وأن ما بين دفتى المصحف قرآن نزل من عند الله. لنقول: إنها آية منها وكفى.
وقد أفرد هذه المسألة بالتأليف جماعة من أكابر العلماء، وجمع فيها الشوكانى رسالة تشتمل على نظم ونثر أجاب بها على سؤال ورد، وبالغ بعضهم حتى عدها من مسائل الاعتقاد، والأمر أيسر من هذا كله، وحسبنا أن نراها مثبتة فى المصحف، وقد أجمع الصحابة -رضوان الله عليهم- على كتابتها فى صدر الفاتحة وتلاوتها حين القراءة، وأن ما بين دفتى المصحف قرآن نزل من عند الله. لنقول: إنها آية منها وكفى.


===الفاتحة فى الصلاة===
===الفاتحة فى الصلاة===
سطر ٢٢٢: سطر ٢٢٢:


والذى تطمئن إليه النفس أن الفاتحة واجبة فى الصلاة على كل مصلٍّ قادر على تلاوتها، ولم يثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم ولا أحدًا من خلفائه أو أصحابه أو التابعين لهم بإحسان صلى صلاة بغير قراءة الفاتحة فيها، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده.
والذى تطمئن إليه النفس أن الفاتحة واجبة فى الصلاة على كل مصلٍّ قادر على تلاوتها، ولم يثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم ولا أحدًا من خلفائه أو أصحابه أو التابعين لهم بإحسان صلى صلاة بغير قراءة الفاتحة فيها، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده.


===تفسير سور ة الفاتحة===
===تفسير سور ة الفاتحة===
سطر ٢٤٠: سطر ٢٣٩:
وبهذا المعنى لا يستغنى بأحد الوصفين عن الآخر، ولا يكون الثانى مؤكدًا للأول، فإذا سمع العربى وصف الله -جل ثناؤه- بالرحمن وفهم منه أنه المفيض للنعم فعلا لا يعتقد منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائمًا؛ لأن الفعل قد ينقطع إذا لم يكن عن صفة لازمة ثابتة وإن كان كثيرًا، فعندما يسمع لفظ الرحيم يكمل اعتقاده على الوجه الذى يليق بالله تعالى ويرضيه سبحانه، ويعلم أن لله صفةً هى الرحمة التى عنها يكون أثرها، وإن كانت تلك الصفة على غير مثال صفات المخلوقين ويكون ذكرها بعد الرحمن كذكر الدليل بعد المدلول؛ ليقدم برهانًا عليه ، ولعل هذا الرأى الأخير هو الأقرب إلى قواعد اللغة وأساليبها.
وبهذا المعنى لا يستغنى بأحد الوصفين عن الآخر، ولا يكون الثانى مؤكدًا للأول، فإذا سمع العربى وصف الله -جل ثناؤه- بالرحمن وفهم منه أنه المفيض للنعم فعلا لا يعتقد منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائمًا؛ لأن الفعل قد ينقطع إذا لم يكن عن صفة لازمة ثابتة وإن كان كثيرًا، فعندما يسمع لفظ الرحيم يكمل اعتقاده على الوجه الذى يليق بالله تعالى ويرضيه سبحانه، ويعلم أن لله صفةً هى الرحمة التى عنها يكون أثرها، وإن كانت تلك الصفة على غير مثال صفات المخلوقين ويكون ذكرها بعد الرحمن كذكر الدليل بعد المدلول؛ ليقدم برهانًا عليه ، ولعل هذا الرأى الأخير هو الأقرب إلى قواعد اللغة وأساليبها.


وقد ذهب الشيخ [[محمد عبده]] فى رده على بعض المعترضين عليه وتوجيه كلامه هذا مذهبًا لطيفًا نورده هنا ملخصًا لجمال إشارته، قال: "إن احتمال التوكيد بذكر الصفتين معًا لنفى التعدد بعيد؛ لأنه لا علاقة بين التوحيد ومعنى الرحمة، ولم يسبق فى التاريخ أن أحدًا ذهب إلى أن الرحمن معبود والرحيم معبود آخر حتى يرد عليه بأنهما شىء واحد، ولكن الذى عرف هو قول النصارى فى ابتداء شئونهم باسم الأب والابن والروح القدس وهو فى زعمهم ثلاثة مختلفة الآحاد مع أنها واحد، فأراد الله أن يجعل للمسلمين فاتحة أعمال تحتوى على ثلاثة معان: الأول ذات، والآخران صفتان؛ فلفظ الجلالة هو الذات وهو يقابل الأب عندهم، والرحمن وصف الفعل المتجدد الصادر من فيض الكرم وهو يقابل الابن لزعمهم أنه منبثق من الذات، والرحيم يدل على الصفة الثابتة للذات الأقدس وهى التى يرجع إليها الفعل المتجدد وباعتبارها يصدر ويتجدد، وهو يقابل روح القدس فإنه عندهم الصلة بين الأب والابن، وإن حاولوا ستر ذلك بضروب من العبارات، فأراد الكتاب أن يعلمنا كيف نضع التوحيد مكان التثليث، ونستبدل بألفاظ التشبيه خيرًا منها من ألفاظ التنزيه. ولا يفوتنا المعنى الذى يحتج بقصده من الأب والابن والروح القدس وهو معنى الرحمة وإفاضة النعمة، وهذا هو وجه تكرير هذه الفاتحة الكريمة فى كل سورة، والندب إلى الافتتاح بها فى كل عمل ذى بال".
وقد ذهب الشيخ [[محمد عبده]] فى رده على بعض المعترضين عليه وتوجيه كلامه هذا مذهبًا لطيفًا نورده هنا ملخصًا لجمال إشارته، قال: "إن احتمال التوكيد بذكر الصفتين معًا لنفى التعدد بعيد؛ لأنه لا علاقة بين التوحيد ومعنى الرحمة، ولم يسبق فى التاريخ أن أحدًا ذهب إلى أن الرحمن معبود والرحيم معبود آخر حتى يرد عليه بأنهما شىء واحد، ولكن الذى عرف هو قول النصارى فى ابتداء شئونهم باسم الأب والابن والروح القدس وهو فى زعمهم ثلاثة مختلفة الآحاد مع أنها واحد، فأراد الله أن يجعل للمسلمين فاتحة أعمال تحتوى على ثلاثة معان: الأول ذات، والآخران صفتان؛ فلفظ الجلالة هو الذات وهو يقابل الأب عندهم، والرحمن وصف الفعل المتجدد الصادر من فيض الكرم وهو يقابل الابن لزعمهم أنه منبثق من الذات،  
 
والرحيم يدل على الصفة الثابتة للذات الأقدس وهى التى يرجع إليها الفعل المتجدد وباعتبارها يصدر ويتجدد، وهو يقابل روح القدس فإنه عندهم الصلة بين الأب والابن، وإن حاولوا ستر ذلك بضروب من العبارات، فأراد الكتاب أن يعلمنا كيف نضع التوحيد مكان التثليث، ونستبدل بألفاظ التشبيه خيرًا منها من ألفاظ التنزيه. ولا يفوتنا المعنى الذى يحتج بقصده من الأب والابن والروح القدس وهو معنى الرحمة وإفاضة النعمة، وهذا هو وجه تكرير هذه الفاتحة الكريمة فى كل سورة، والندب إلى الافتتاح بها فى كل عمل ذى بال".


أقول: لو قبل أهل الدين من النصارى هذا التفسير لانحلت أعظم عقدة تباعد بين عقيدتى المسيحية والإسلام.
أقول: لو قبل أهل الدين من النصارى هذا التفسير لانحلت أعظم عقدة تباعد بين عقيدتى المسيحية والإسلام.
سطر ٢٦٤: سطر ٢٦٥:
'''<center> الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ</center>'''
'''<center> الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ</center>'''


قال فى تفسير المنار ملخصه: النكتة فى إعادة ذكرها ظاهرة، وهى أن تربية الله للعالمين ليست لحاجة به إليهم كجلب منفعة أو دفع مضرة، وإنما هى لعموم رحمته وشمول إحسانه. وثَمَّ نكتة أخرى؛ وهى أن البعض يفهم من معنى الرب الجبروت والقهر، فأراد الله أن يذكرهم برحمته وإحسانه ليجمعوا بين اعتقاد الجلال والجمال، فذكر الرحمن وهو المفيض للنعم بسعة وتجدد لا منتهى لهما، والرحيم الثابت له وصف الرحمة لا يزايله أبدًا، فكأن الله تعالى أراد أن يتحبب إلى عباده، فعرفهم أن ربوبيته ربوبية رحمة وإحسان؛ ليعلموا أن هذه الصفة هى التى ربما يرجع إليها معنى الصفات فيقبلوا على اكتساب مرضاته، منشرحة صدورهم مطمئنة قلوبهم، ولا ينافى عموم الرحمة وسبقها ما شرعه الله من العقوبات فى الدنيا وما أعده من العذاب فى الآخرة للذين يتعدون الحدود وينتهكون الحرمات. فإنه وإن سمى قهرًا بالنسبة لصورته ومظهره فهو فى حقيقته وغايته من الرحمة؛ لأن فيه تربية للناس وزجرًا لهم عن الوقوع فيما يخرج عن حدود الشريعة الإلهية، وفى الانحرافات عنها شقاؤهم وبلاؤهم، وفى الوقوف عندها سعادتهم ونعيمهم. والوالد الرءوف يربى ولده بالترغيب فيما ينفعه والإحسان إليه إذا قام به، وربما لجأ إلى الترهيب والعقوبة إذا اقتضت ذلك الحال، ولله المثل الأعلى، لا إله إلا هو وإليه يرجعون .
قال فى تفسير المنار ملخصه: النكتة فى إعادة ذكرها ظاهرة، وهى أن تربية الله للعالمين ليست لحاجة به إليهم كجلب منفعة أو دفع مضرة، وإنما هى لعموم رحمته وشمول إحسانه.  
 
وثَمَّ نكتة أخرى؛ وهى أن البعض يفهم من معنى الرب الجبروت والقهر، فأراد الله أن يذكرهم برحمته وإحسانه ليجمعوا بين اعتقاد الجلال والجمال، فذكر الرحمن وهو المفيض للنعم بسعة وتجدد لا منتهى لهما، والرحيم الثابت له وصف الرحمة لا يزايله أبدًا، فكأن الله تعالى أراد أن يتحبب إلى عباده، فعرفهم أن ربوبيته ربوبية رحمة وإحسان؛ ليعلموا أن هذه الصفة هى التى ربما يرجع إليها معنى الصفات فيقبلوا على اكتساب مرضاته، منشرحة صدورهم مطمئنة قلوبهم، ولا ينافى عموم الرحمة وسبقها ما شرعه الله من العقوبات فى الدنيا وما أعده من العذاب فى الآخرة للذين يتعدون الحدود وينتهكون الحرمات. فإنه وإن سمى قهرًا بالنسبة لصورته ومظهره فهو فى حقيقته وغايته من الرحمة؛ لأن فيه تربية للناس وزجرًا لهم عن الوقوع فيما يخرج عن حدود الشريعة الإلهية، وفى الانحرافات عنها شقاؤهم وبلاؤهم، وفى الوقوف عندها سعادتهم ونعيمهم. والوالد الرءوف يربى ولده بالترغيب فيما ينفعه والإحسان إليه إذا قام به، وربما لجأ إلى الترهيب والعقوبة إذا اقتضت ذلك الحال، ولله المثل الأعلى، لا إله إلا هو وإليه يرجعون .


  '''<center>مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ </center>'''
  '''<center>مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ </center>'''
سطر ٢٧٦: سطر ٢٧٩:
تفسر العبادة لغة بأنها الطاعة مع غاية الخضوع ، ولكن هذا التفسير اللغوى لا يؤدى المعنى المقصود بالعبادة بالضبط، ولا يزال المرء يشعر بأنه فى حاجة إلى تعريف أوفى وأدق وأشفى للنفس؛ فقد يطيع الناس الرؤساء والكبراء طاعة تامة مع غاية الخضوع ولا يقال: إنهم عبدوهم بذلك.  
تفسر العبادة لغة بأنها الطاعة مع غاية الخضوع ، ولكن هذا التفسير اللغوى لا يؤدى المعنى المقصود بالعبادة بالضبط، ولا يزال المرء يشعر بأنه فى حاجة إلى تعريف أوفى وأدق وأشفى للنفس؛ فقد يطيع الناس الرؤساء والكبراء طاعة تامة مع غاية الخضوع ولا يقال: إنهم عبدوهم بذلك.  


والعبادة غير العبودية ولا بد من تفريق بينهما، يشعر بذلك الذوق السليم والطبع المستقيم. وقد ألَمَّ الأستاذ الشيخ محمد عبده فى تفسيره بهذا المعنى إلمامًا جميلا، وصوَّر معنى العبادة تصويرًا بديعًا يطمئن به القلب فقال: "يغلو العاشق فى تعظيم معشوقه والخضوع له غلوًّا كبيرًا حتى يفنى هواه فى هواه، وتذوب إرادته فى إرادته، ومع ذلك لا يسمى خضوعه هذا عبادة بالحقيقة، ويبالغ كثير من الناس فى تعظيم الرؤساء والملوك والأمراء، فترى من خضوعهم لهم وتحريهم مرضاتهم ما لا تراه من المتحنثين القانتين، دع سائر العابدين. ولم يكن العرب يسمون شيئًا من هذا الخضوع عبادة، فما هى العبادة إذن؟ تدل الأساليب الصحيحة والاستعمال العربى الصراح على أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية، ناشئ عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها، واعتقاده بسلطة له لا يدرك كنهها وماهيتها، وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به ولكنها فوق إدراكه. للعبادة صور كثيرة فى كل دين من الأديان شرعت؛ لتذكير الإنسان بذلك الشعور بالسلطان الإلهى الأعلى الذى هو روح العبادة وسرها، ولكل عبادة من العبادات الصحيحة أثر فى تقويم أخلاق القائم بها وتهذيب نفسه، والأثر إنما يكون عن ذلك الروح والشعور الذى قلنا إنه منشأ التعظيم والخضوع، فإذا وجدت صورة العبادة خالية من هذا المعنى لم تكن عبادة، كما أن صورة الإنسان وتمثاله ليس إنسانًا".  هذا أقوله ملخصًا، وهو كلام بديع كما ترى يجعل حقيقة العبادة مبعث التعظيم فى القلب لا صورته التى تمثلها الجوارح.
والعبادة غير العبودية ولا بد من تفريق بينهما، يشعر بذلك الذوق السليم والطبع المستقيم. وقد ألَمَّ الأستاذ الشيخ محمد عبده فى تفسيره بهذا المعنى إلمامًا جميلا، وصوَّر معنى العبادة تصويرًا بديعًا يطمئن به القلب فقال: "يغلو العاشق فى تعظيم معشوقه والخضوع له غلوًّا كبيرًا حتى يفنى هواه فى هواه، وتذوب إرادته فى إرادته، ومع ذلك لا يسمى خضوعه هذا عبادة بالحقيقة، ويبالغ كثير من الناس فى تعظيم الرؤساء والملوك والأمراء، فترى من خضوعهم لهم وتحريهم مرضاتهم ما لا تراه من المتحنثين القانتين، دع سائر العابدين.  
 
ولم يكن العرب يسمون شيئًا من هذا الخضوع عبادة، فما هى العبادة إذن؟ تدل الأساليب الصحيحة والاستعمال العربى الصراح على أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية، ناشئ عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها، واعتقاده بسلطة له لا يدرك كنهها وماهيتها، وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به ولكنها فوق إدراكه.  
 
للعبادة صور كثيرة فى كل دين من الأديان شرعت؛ لتذكير الإنسان بذلك الشعور بالسلطان الإلهى الأعلى الذى هو روح العبادة وسرها، ولكل عبادة من العبادات الصحيحة أثر فى تقويم أخلاق القائم بها وتهذيب نفسه، والأثر إنما يكون عن ذلك الروح والشعور الذى قلنا إنه منشأ التعظيم والخضوع، فإذا وجدت صورة العبادة خالية من هذا المعنى لم تكن عبادة، كما أن صورة الإنسان وتمثاله ليس إنسانًا".   
 
هذا أقوله ملخصًا، وهو كلام بديع كما ترى يجعل حقيقة العبادة مبعث التعظيم فى القلب لا صورته التى تمثلها الجوارح.
 
والاستعانة طلب المعونة لإزالة العجز والمساعدة على إتمام ما يعجز المستعين عن أدائه أو إتمامه بنفسه، وهى فى الأمور العادية التى تدخل فى حيز قدرة الإنسان وتصرفه جائزة بين الناس، بل هى من المقربات التى يتقرب بها المرء إلى الله تبارك وتعالى "والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه" .
 
لأنها من الأسباب المشروعة المسنونة لإتمام الأعمال وأدائها، ولكن الاستعانة فى الأمور الخاصة بالله تبارك وتعالى والتى لا يصح أن تطلب من أحد سواه، وهى ما يجاوز حد القدرة البشرية كطلب الشفاء بعد استخدام الدواء، وكطلب النصر على الأعداء بعد إعداد العدة وبذل المستطاع، وكالاستعاذة بالله من الحوائج والآفات وصنوف البلاء، إلى غير ذلك مما هو فى يد الله وحده، ولا يقدر عليه إلا مدبر الأمر فى الأرض وفى السماء.
 
العبادة والاستعانة بهذا المعنى لا تكونان إلا لله وبالله وحده تبارك وتعالى، ولهذا قدم الضمير  وإِيَّاكَ ليدل على الاختصاص كما يقول أهل اللغة، وكل المظاهر التى تدل على العبادة شرعًا حسية أو معنوية لا يجوز أن تكون إلا لله؛ كالصلاة والركوع والسجود والنذر والقربان والحلف والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والمحبة والرغبة والرهبة والتأله والتذلل... إلخ.  


والاستعانة طلب المعونة لإزالة العجز والمساعدة على إتمام ما يعجز المستعين عن أدائه أو إتمامه بنفسه، وهى فى الأمور العادية التى تدخل فى حيز قدرة الإنسان وتصرفه جائزة بين الناس، بل هى من المقربات التى يتقرب بها المرء إلى الله تبارك وتعالى "والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه" . لأنها من الأسباب المشروعة المسنونة لإتمام الأعمال وأدائها، ولكن الاستعانة فى الأمور الخاصة بالله تبارك وتعالى والتى لا يصح أن تطلب من أحد سواه، وهى ما يجاوز حد القدرة البشرية كطلب الشفاء بعد استخدام الدواء، وكطلب النصر على الأعداء بعد إعداد العدة وبذل المستطاع، وكالاستعاذة بالله من الحوائج والآفات وصنوف البلاء، إلى غير ذلك مما هو فى يد الله وحده، ولا يقدر عليه إلا مدبر الأمر فى الأرض وفى السماء. العبادة والاستعانة بهذا المعنى لا تكونان إلا لله وبالله وحده تبارك وتعالى، ولهذا قدم الضمير  وإِيَّاكَ ليدل على الاختصاص كما يقول أهل اللغة، وكل المظاهر التى تدل على العبادة شرعًا حسية أو معنوية لا يجوز أن تكون إلا لله؛ كالصلاة والركوع والسجود والنذر والقربان والحلف والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والمحبة والرغبة والرهبة والتأله والتذلل... إلخ. كما أن مظاهر الاستعانة التى اختصها الشرع بالله -تبارك وتعالى- لا يصح أن تصرف لغيره؛ كالدعاء والاستغاثة واستمداد الحول والقوة وطلب قضاء الحاجات. إلخ، وبذلك يسلم للمؤمن دينه، ويكمل إيمانه ويقينه، ويسلم من لوثات الشرك الأكبر والأصغر، ويجتمع له توحيد الألوهية والربوبية معًا، والتوفيق بيد الله.
كما أن مظاهر الاستعانة التى اختصها الشرع بالله -تبارك وتعالى- لا يصح أن تصرف لغيره؛ كالدعاء والاستغاثة واستمداد الحول والقوة وطلب قضاء الحاجات. إلخ، وبذلك يسلم للمؤمن دينه، ويكمل إيمانه ويقينه، ويسلم من لوثات الشرك الأكبر والأصغر، ويجتمع له توحيد الألوهية والربوبية معًا، والتوفيق بيد الله.


والآية من جوامع الكلم؛ لأنها إشارات إلى خلاصة ما جاءت له الرسالات كلها وبعث به الرسل جميعًا من حقوق الله وجميل فضله على خلقه، وليس الدين أكثر من  إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ الأولى بداية المعرفة، والثانية ثمرتها، وبينهما منازل ودرجات لا يقطعها إلا المقربون. ولقد ألف الشيخ إسماعيل الهروى  رسالة لطيفة أسماها "منازل السائرين بين إياك نعبد وإياك نستعين"، ألَمَّ فيها ببعض ذلك وأشار إليه، وشرحها ابن القيم فى سفر كبير أسماه "مدارج السالكين إلى منازل السائرين" هو من خير ما كتب فى علوم الأخلاق وأدب النفوس وتربيتها بأسلوب الصوفية من السلف الصالح رضوان الله عليهم.
والآية من جوامع الكلم؛ لأنها إشارات إلى خلاصة ما جاءت له الرسالات كلها وبعث به الرسل جميعًا من حقوق الله وجميل فضله على خلقه، وليس الدين أكثر من  إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ الأولى بداية المعرفة، والثانية ثمرتها، وبينهما منازل ودرجات لا يقطعها إلا المقربون.  


ومن اللطائف اللفظية فى الآية الكريمة أن كلمة الاستعانة تشعر بوجوب العمل والأخذ فى الأسباب؛ لأن الاستعانة هى طلب العون من الله على أداء عمل أو إتمامه، فلا بد للإنسان إذن من أن يأخذ بالأسباب ويَجِد فى الأعمال، ثم يطلب المساعدة والمعونة من الله تبارك وتعالى. ومن كلام عمر رضى الله عنه: "لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق وهو يقول: اللهم ارزقنى، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة". وفى هذا تكريم للإنسان يجعل العمل المتصل به أساسًا فى كل ما يحتاج إليه . وقد ذهب بعض المفسرين إلى قصر طلب الاستعانة على التوفيق فى العبادة، استئناسًا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ بيد معاذ رضى الله عنه وقال له: "واللهِ إنى لأُحبُّكَ، أوصِيكَ يا مُعاذُ: لا تدعَنَّ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ أن تقولَ: اللهمَّ أعِنِّى على ذِكرِك وشُكرِكَ وحُسنِ عِبادَتِكَ" . ولكن هذا التخصيص لا معنى له، وإن كان أفضل الاستعانة -ولا شك- ما كان على الطاعة والخير وحسن عبادة الله.
ولقد ألف الشيخ إسماعيل الهروى  رسالة لطيفة أسماها "منازل السائرين بين إياك نعبد وإياك نستعين"، ألَمَّ فيها ببعض ذلك وأشار إليه، وشرحها ابن القيم فى سفر كبير أسماه "مدارج السالكين إلى منازل السائرين" هو من خير ما كتب فى علوم الأخلاق وأدب النفوس وتربيتها بأسلوب الصوفية من السلف الصالح رضوان الله عليهم.
 
ومن اللطائف اللفظية فى الآية الكريمة أن كلمة الاستعانة تشعر بوجوب العمل والأخذ فى الأسباب؛ لأن الاستعانة هى طلب العون من الله على أداء عمل أو إتمامه، فلا بد للإنسان إذن من أن يأخذ بالأسباب ويَجِد فى الأعمال، ثم يطلب المساعدة والمعونة من الله تبارك وتعالى.  
 
ومن كلام عمر رضى الله عنه: "لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق وهو يقول: اللهم ارزقنى، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة".  
 
وفى هذا تكريم للإنسان يجعل العمل المتصل به أساسًا فى كل ما يحتاج إليه .  
 
وقد ذهب بعض المفسرين إلى قصر طلب الاستعانة على التوفيق فى العبادة، استئناسًا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ بيد معاذ رضى الله عنه وقال له: "واللهِ إنى لأُحبُّكَ، أوصِيكَ يا مُعاذُ: لا تدعَنَّ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ أن تقولَ: اللهمَّ أعِنِّى على ذِكرِك وشُكرِكَ وحُسنِ عِبادَتِكَ" .  
 
ولكن هذا التخصيص لا معنى له، وإن كان أفضل الاستعانة -ولا شك- ما كان على الطاعة والخير وحسن عبادة الله.


'''<center>اهْدِنَا الصِرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ </center>'''
'''<center>اهْدِنَا الصِرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ </center>'''
سطر ٢٨٨: سطر ٣١٣:
الصراط: الطريق، والمستقيم: المعتدل. والآية من جوامع الكلم كذلك؛ فإن الإنسان فى حاجة إلى الهداية وإلى الصراط المستقيم فى كل قول وعمل وفكرة وخاطرة؛ لأنه فى كل ذلك بين إفراط وتفريط وكلاهما ضار، والنافع المفيد دائمًا هو الحد الوسط وهو الصراط المستقيم الذى نطلب الهداية إليه من الله -تبارك وتعالى- بهذه الآية، وهو من الدين ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه بغير زيادة عليه ولا انتقاص منه ولا انحراف عنه:  قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف: 108]،  وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام: 153]،  وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى: 52-53].
الصراط: الطريق، والمستقيم: المعتدل. والآية من جوامع الكلم كذلك؛ فإن الإنسان فى حاجة إلى الهداية وإلى الصراط المستقيم فى كل قول وعمل وفكرة وخاطرة؛ لأنه فى كل ذلك بين إفراط وتفريط وكلاهما ضار، والنافع المفيد دائمًا هو الحد الوسط وهو الصراط المستقيم الذى نطلب الهداية إليه من الله -تبارك وتعالى- بهذه الآية، وهو من الدين ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه بغير زيادة عليه ولا انتقاص منه ولا انحراف عنه:  قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف: 108]،  وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام: 153]،  وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى: 52-53].


وعن النواس بن سمعان رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ -تبارَكَ وتعالى- ضرَبَ مثلا صِراطًا مستقيمًا على كَتِفَى الصِّرَاط دَارَان". وهو فى رواية: "سورانِ لهما أبواب مُفَتَّحةٌ، على الأبوابِ ستورٌ، وداعٍ يدعو على رأسِ الصراطِ، وداعٍ يدعو فَوْقه، واللهُ يدعُو إلى دارِ السَّلامِ ويَهدى مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مستقيم؛ فالأبوابُ التى على كَتِفى الصراطِ حدودُ اللهِ تعالى، فلا يقعُ فى حُدودِ الله تعالى حتى يُكْشَّفُ السترُ، والذى يدعُو مِن فَوْقِه واعظُ رَبِّه" . أخرجه الترمذى، وفسره رزين فى حديث رواه عن ابن مسعود رضى الله عنه: أن الصراط هو الإسلام، وأن الأبواب محارم الله، والداعى على رأس الصراط هو القرآن، والداعى فوقه واعظ الله تعالى فى قلب كل مؤمن.
وعن النواس بن سمعان رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ -تبارَكَ وتعالى- ضرَبَ مثلا صِراطًا مستقيمًا على كَتِفَى الصِّرَاط دَارَان".  
 
وهو فى رواية: "سورانِ لهما أبواب مُفَتَّحةٌ، على الأبوابِ ستورٌ، وداعٍ يدعو على رأسِ الصراطِ، وداعٍ يدعو فَوْقه، واللهُ يدعُو إلى دارِ السَّلامِ ويَهدى مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مستقيم؛ فالأبوابُ التى على كَتِفى الصراطِ حدودُ اللهِ تعالى، فلا يقعُ فى حُدودِ الله تعالى حتى يُكْشَّفُ السترُ، والذى يدعُو مِن فَوْقِه واعظُ رَبِّه" . أخرجه الترمذى، وفسره رزين فى حديث رواه عن ابن مسعود رضى الله عنه: أن الصراط هو الإسلام، وأن الأبواب محارم الله، والداعى على رأس الصراط هو القرآن، والداعى فوقه واعظ الله تعالى فى قلب كل مؤمن.
 
ولقد منح الله الإنسان أربع وسائل للهداية تتدرج مع أفراده ونوعه بتدرج نموهم واستعدادهم؛ فالوسيلة الأولى: الوجدان الطبيعى والإلهام الفطرى، وهذا يكون مع الطفل منذ ولادته؛ ألا تراه يشعر بالحاجة إلى الغذاء فيلتقم الثدى ويمتصه بحركة آلية فطرية لا تفكير معها ولا تدبير.
 
والثانية: الحواس والمشاعر التى تنمو بنمو الإنسان من السمع والبصر والذوق والشم والحس، وهى عرضة للخطأ فى كثير من الأحيان. والثالثة: العقل بقواه المختلفة من الإدراك والفكر والخيال والحفظ والذكر... إلخ، وهو مصدر الحكم ومناط التكليف فى الإنسان، وبه تصحح أخطاء الحواس وتدرك حقائق الأشياء فى الحسيات والمعنويات على السواء. والرابعة: الدين والإرشاد الإلهى والرسالات السماوية مع الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.


ولقد منح الله الإنسان أربع وسائل للهداية تتدرج مع أفراده ونوعه بتدرج نموهم واستعدادهم؛ فالوسيلة الأولى: الوجدان الطبيعى والإلهام الفطرى، وهذا يكون مع الطفل منذ ولادته؛ ألا تراه يشعر بالحاجة إلى الغذاء فيلتقم الثدى ويمتصه بحركة آلية فطرية لا تفكير معها ولا تدبير. والثانية: الحواس والمشاعر التى تنمو بنمو الإنسان من السمع والبصر والذوق والشم والحس، وهى عرضة للخطأ فى كثير من الأحيان. والثالثة: العقل بقواه المختلفة من الإدراك والفكر والخيال والحفظ والذكر... إلخ، وهو مصدر الحكم ومناط التكليف فى الإنسان، وبه تصحح أخطاء الحواس وتدرك حقائق الأشياء فى الحسيات والمعنويات على السواء. والرابعة: الدين والإرشاد الإلهى والرسالات السماوية مع الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
هذه الوسائل جميعًا قد يضل الإنسان فى استخدامها ولا يستطيع الاستفادة منها والانتفاع بها، فقد تقصر حواسه فى الإلمام بالمحسات، وقد يضعف عقله بالعلل والآفات أو الأغراض والشهوات عن الوصول إلى الحقيقة، وقد ينحرف عن الدين لجهالة به أو إعراض عنه أو غير ذلك من الأسباب، ولهذا شرع لنا الله -تبارك وتعالى- أن نسأله الهداية إلى الصراط المستقيم فى هذه الوسائل كلها، فلا تقصر حواسنا ولا تضعف عقولنا ولا نحيد فى فهم الدين والفقه فيه عن الحق وجادة الصواب.  


هذه الوسائل جميعًا قد يضل الإنسان فى استخدامها ولا يستطيع الاستفادة منها والانتفاع بها، فقد تقصر حواسه فى الإلمام بالمحسات، وقد يضعف عقله بالعلل والآفات أو الأغراض والشهوات عن الوصول إلى الحقيقة، وقد ينحرف عن الدين لجهالة به أو إعراض عنه أو غير ذلك من الأسباب، ولهذا شرع لنا الله -تبارك وتعالى- أن نسأله الهداية إلى الصراط المستقيم فى هذه الوسائل كلها، فلا تقصر حواسنا ولا تضعف عقولنا ولا نحيد فى فهم الدين والفقه فيه عن الحق وجادة الصواب. واستقصاء مدلول الصراط المستقيم فى جميع الأقوال والأفعال غير ممكن؛ لأنه الحد الوسط فى كل قول وفعل كما تقدم، وفى هذا الإيجاز منتهى الإعجاز، والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.
واستقصاء مدلول الصراط المستقيم فى جميع الأقوال والأفعال غير ممكن؛ لأنه الحد الوسط فى كل قول وفعل كما تقدم، وفى هذا الإيجاز منتهى الإعجاز، والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.


'''<center>صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ </center>'''
'''<center>صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ </center>'''


فى هذه الآية الكريمة ثلاثة أصناف من الناس، هم: الذين أنعم الله عليهم، والمغضوب عليهم، والضالون.
فى هذه الآية الكريمة ثلاثة أصناف من الناس، هم: الذين أنعم الله عليهم، والمغضوب عليهم، والضالون.
قال بعض المفسرين: الذين أنعم الله عليهم هم المؤمنون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أو غيرها من الأمم السابقة، والمغضوب عليهم: هم اليهود الذين انحرفوا عن هدى التوراة، والضالون هم النصارى الذين لم يستمسكوا بتعاليم الإنجيل الصحيح، وقد وردت بذلك بعض الآثار.
قال بعض المفسرين: الذين أنعم الله عليهم هم المؤمنون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أو غيرها من الأمم السابقة، والمغضوب عليهم: هم اليهود الذين انحرفوا عن هدى التوراة، والضالون هم النصارى الذين لم يستمسكوا بتعاليم الإنجيل الصحيح، وقد وردت بذلك بعض الآثار.


كما قال بعض المفسرين: المغضوب عليهم بالبدعة، والضالون عن السنة، ولا مبرر لهذا التخصيص إلا أن يكون ذلك على سبيل التمثيل فقط. ولعل أجمع ما يقال فى ذلك وأوفاه أن الذين أنعم الله عليهم هم الذين عرفوا الحق ووفقهم الله إلى اتباعه فاهتدوا بذلك إلى الصراط المستقيم، وأن المغضوب عليهم هم الذين عرفوا الحق ثم أعرضوا عنه من أى دين كانوا وفى أى زمن وجدوا. ولا شك أن هذا الإعراض دليل غضب الله -تبارك وتعالى- عليهم، وأن الضالين هم الذين غفلوا عن الحق وتاهوا فى أودية الضلال، أو الذين يتلمسون الحق فلا يهتدون إليه من أى دين كانوا وفى أى زمان وجدوا كذلك. وإن الله -تبارك وتعالى- أرشدنا إلى أن نسأله الهداية إلى سنن الصنف الأول من الذين أنعم الله عليهم، وأن نبرأ إليه من الصنفين الآخرين؛ فكلاهما هالك والعياذ بالله.
كما قال بعض المفسرين: المغضوب عليهم بالبدعة، والضالون عن السنة، ولا مبرر لهذا التخصيص إلا أن يكون ذلك على سبيل التمثيل فقط.  
 
ولعل أجمع ما يقال فى ذلك وأوفاه أن الذين أنعم الله عليهم هم الذين عرفوا الحق ووفقهم الله إلى اتباعه فاهتدوا بذلك إلى الصراط المستقيم، وأن المغضوب عليهم هم الذين عرفوا الحق ثم أعرضوا عنه من أى دين كانوا وفى أى زمن وجدوا.  
 
ولا شك أن هذا الإعراض دليل غضب الله -تبارك وتعالى- عليهم، وأن الضالين هم الذين غفلوا عن الحق وتاهوا فى أودية الضلال، أو الذين يتلمسون الحق فلا يهتدون إليه من أى دين كانوا وفى أى زمان وجدوا كذلك. وإن الله -تبارك وتعالى- أرشدنا إلى أن نسأله الهداية إلى سنن الصنف الأول من الذين أنعم الله عليهم، وأن نبرأ إليه من الصنفين الآخرين؛ فكلاهما هالك والعياذ بالله.


روى أبو عبيد القاسم بن سلام فى كتاب "فضائل القرآن" عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه كان يقرأ غير المغضوب عليهم وغير الضالين، وكذلك حكى عن أبى بن كعب رضى الله عنه، وذلك محمول على أنهما كانا يقصدان بذلك التفسير لا التلاوة؛ إذ إنه من غير المعقول أن يخالفا إجماع الصحابة فى تلاوة سورة الفاتحة التى تقرأ فى كل صلاة، وعمر أمير المؤمنين يقرأ بها فى صلاته بهم، وإمامته إياهم صباح مساء!!  .
روى أبو عبيد القاسم بن سلام فى كتاب "فضائل القرآن" عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه كان يقرأ غير المغضوب عليهم وغير الضالين، وكذلك حكى عن أبى بن كعب رضى الله عنه، وذلك محمول على أنهما كانا يقصدان بذلك التفسير لا التلاوة؛ إذ إنه من غير المعقول أن يخالفا إجماع الصحابة فى تلاوة سورة الفاتحة التى تقرأ فى كل صلاة، وعمر أمير المؤمنين يقرأ بها فى صلاته بهم، وإمامته إياهم صباح مساء!!  .
سطر ٣٠٥: سطر ٣٤١:
'''<center>آمين </center>'''
'''<center>آمين </center>'''


آمين: ليست من الفاتحة بإجماع، ومعناها: اللهم استجب لنا. ونقل القرطبى  عن الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما معنى آمين؟ قال: "رَبِّ افْعَلْ". وقال مقاتل: هو قوة للدعاء واستنزال للبركة. وقال الترمذى: معناه لا تخيب رجاءنا، وكلها بمعنى قريب هو طلب الاستجابة. وأبعد قوم بالنجعة فقالوا: آمين لفظ غير عربى منحوت من الاسم المصرى القديم آمنون، ولا دليل على ما يزعمون.
آمين: ليست من الفاتحة بإجماع، ومعناها: اللهم استجب لنا. ونقل القرطبى  عن الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما معنى آمين؟ قال: "رَبِّ افْعَلْ".  
 
وقال مقاتل: هو قوة للدعاء واستنزال للبركة. وقال الترمذى: معناه لا تخيب رجاءنا، وكلها بمعنى قريب هو طلب الاستجابة. وأبعد قوم بالنجعة فقالوا: آمين لفظ غير عربى منحوت من الاسم المصرى القديم آمنون، ولا دليل على ما يزعمون.


وآمين بعد تلاوة الفاتحة فى الصلاة وفى غيرها من السنة. عن وائل بن حجر قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قرأ  غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ فقال: "آمين" يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ.  
وآمين بعد تلاوة الفاتحة فى الصلاة وفى غيرها من السنة. عن وائل بن حجر قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قرأ  غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ فقال: "آمين" يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ.  
سطر ٣١٣: سطر ٣٥١:
وقال ابن شهاب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: آمين. رواه الجماعة إلا الترمذى؛ لم يذكر قول ابن شهاب. وعن أبى هريرة قال: "كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال: آمين، حتى يُسْمِعَ مَن يَليِه مِنَ الصَّفِّ الأول، فيرتجُّ بِهَا المسجِد .
وقال ابن شهاب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: آمين. رواه الجماعة إلا الترمذى؛ لم يذكر قول ابن شهاب. وعن أبى هريرة قال: "كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال: آمين، حتى يُسْمِعَ مَن يَليِه مِنَ الصَّفِّ الأول، فيرتجُّ بِهَا المسجِد .


وإلى مشروعية التأمين جهرًا للإمام والمأموم ذهب الشافعى ومالك فى رواية المدنيين، وقال أبو حنيفة وبعض المدنيين والطبرى: لا يجهر بها. وروى ابن القاسم عن مالك -وهو مذهب المصريين من المالكية- أن الإمام لا يؤمن، محتجين بحديث أبى موسى رضى الله عنه قال: إن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبنَا فبيَّنَ لنا سُنَّتنَا وعلَّمنَا صلاتَنا، فقال: "إذا صَلَّيتُم فأقيمُوا صُفُوفكم، ثم ليؤمكم أحدُكم، فإذا كَبَّرَ فكبِّرُوا، وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضَّالين فقولوا: آمين يُجبكم الله" . أخرجه مسلم. والسكوت عن ذكر الإمام فى التأمين هنا لا يَنهض حجة أمام صريح الأحاديث التى جاء فيها ذكر تأمين الإمام.
وإلى مشروعية التأمين جهرًا للإمام والمأموم ذهب الشافعى ومالك فى رواية المدنيين، وقال أبو حنيفة وبعض المدنيين والطبرى: لا يجهر بها.  


والتأمين مستحب بعد كل دعاء؛ روى أبو داود عن أبى مصبح المقرائى قال: كنا نجلس إلى أبى زهير النميرى -وكان من الصحابة- فيحدث أحسن الحديث، فإذا دعا الرجل منا بدعاء قال: اختمه بآمين؛ فإن آمين مثل الطابع على الصحيفة. قال أبو زهير: ألا أخبركم عن ذلك؟ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فأتينا على رجل قد ألح فى المسألة، فوقف النبى صلى الله عليه وسلم يسمع منه، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "أوْجَبَ إن خَتَمَ". فقال له رجل من القوم: بأىِّ شىءٍ يختِمُ؟ قال: بآمين؛ فإنه إن خَتَمَ بآمين فَقَدْ أوْجَبَ". فانصرف الرجل الذى سأل النبى صلى الله عليه وسلم، فأتى الرجلَ فقال له: اخْتِمْ يا فُلانُ وأبْشر" . ولا جرم أن آمين براعة مقطع فى غاية الجمال والحسن؛ وأى شىء أولى بهذه البراعة من فاتحة الكتاب والتوجه إلى الله بالدعاء.
وروى ابن القاسم عن مالك -وهو مذهب المصريين من المالكية- أن الإمام لا يؤمن، محتجين بحديث أبى موسى رضى الله عنه قال: إن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبنَا فبيَّنَ لنا سُنَّتنَا وعلَّمنَا صلاتَنا، فقال: "إذا صَلَّيتُم فأقيمُوا صُفُوفكم، ثم ليؤمكم أحدُكم، فإذا كَبَّرَ فكبِّرُوا، وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضَّالين فقولوا: آمين يُجبكم الله" . أخرجه مسلم.  


والسكوت عن ذكر الإمام فى التأمين هنا لا يَنهض حجة أمام صريح الأحاديث التى جاء فيها ذكر تأمين الإمام.
والتأمين مستحب بعد كل دعاء؛ روى أبو داود عن أبى مصبح المقرائى قال: كنا نجلس إلى أبى زهير النميرى -وكان من الصحابة- فيحدث أحسن الحديث، فإذا دعا الرجل منا بدعاء قال: اختمه بآمين؛ فإن آمين مثل الطابع على الصحيفة.
قال أبو زهير: ألا أخبركم عن ذلك؟ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فأتينا على رجل قد ألح فى المسألة، فوقف النبى صلى الله عليه وسلم يسمع منه، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "أوْجَبَ إن خَتَمَ". فقال له رجل من القوم: بأىِّ شىءٍ يختِمُ؟ قال: بآمين؛ فإنه إن خَتَمَ بآمين فَقَدْ أوْجَبَ".
فانصرف الرجل الذى سأل النبى صلى الله عليه وسلم، فأتى الرجلَ فقال له: اخْتِمْ يا فُلانُ وأبْشر" .
ولا جرم أن آمين براعة مقطع فى غاية الجمال والحسن؛ وأى شىء أولى بهذه البراعة من فاتحة الكتاب والتوجه إلى الله بالدعاء.


===تناسب وإنعام===
===تناسب وإنعام===
سطر ٣٢٧: سطر ٣٧٤:


وأدم هذا التدبر والإنعام، واجتهد أن تقرأ فى الصلاة أو غيرها على مكث وتمهل وخشوع وتذلل، وأن تقف على رؤوس الآيات، وتعطى التلاوة حقها من التجويد والنغمات من غير تكلف ولا تطريب أو اشتغال بالألفاظ عن المعانى، مع رفع الصوت المعتدل فى التلاوة العادية أو الصلاة الجهرية؛ فإن ذلك يعين على الفهم ويثير ما غاض من شآبيب  الدمع، وما نفع القلب شىء أفضل من تلاوة فى تدبر وخشوع.
وأدم هذا التدبر والإنعام، واجتهد أن تقرأ فى الصلاة أو غيرها على مكث وتمهل وخشوع وتذلل، وأن تقف على رؤوس الآيات، وتعطى التلاوة حقها من التجويد والنغمات من غير تكلف ولا تطريب أو اشتغال بالألفاظ عن المعانى، مع رفع الصوت المعتدل فى التلاوة العادية أو الصلاة الجهرية؛ فإن ذلك يعين على الفهم ويثير ما غاض من شآبيب  الدمع، وما نفع القلب شىء أفضل من تلاوة فى تدبر وخشوع.


== المصادر ==
== المصادر ==
سطر ٣٣٨: سطر ٣٨٤:


*'''ومن المعروف أن الإمام [[حسن البنا]] قام بتفسير سورة البقرة والرعد وغيرها من سور القرآن'''
*'''ومن المعروف أن الإمام [[حسن البنا]] قام بتفسير سورة البقرة والرعد وغيرها من سور القرآن'''


[[تصنيف:تصفح الويكيبيديا]]
[[تصنيف:تصفح الويكيبيديا]]

مراجعة ١٠:٥٥، ١٠ يونيو ٢٠١٢

الإمام حسن البنا يكتب في علوم القرآن

بقلم: الإمام حسن البنا

مقدمة

التفسير وعلوم القرآن

"لا بد لمثل هذه المجلة أن تتناول تفسير القرآن الكريم وعلومه كأول مصدر من مصادر الإسلام الحنيف وأقدمها وأهمها، ولقد فكرت طويلا فى المدخل الذى ألج منه هذا الميدان الفسيح المتشعب النواحى، وخطر لى أن أتناول تفسير المنار فأبدأ من حيث انتهى صاحبه السيد رشيد رضا رحمه الله، وخصوصًا وقد بدأت بذلك فعلا حين أسند تحرير المنار وإصدارها إلى الإخوان المسلمين خلال سنة 1940 الميلادية، فكتبت فى تفسير صدر سورة "الرعد" وعطلت المجلة بعد صدور ستة أعداد كانت تمام المجلد الخامس والثلاثين.

ولكن رأيت أن ذلك ليس من حقى الآن، وعلمت أن بعض حضرات أصحاب الفضيلة من علمائنا الأجلاء على هذا العزم الطيب وهم بحمد الله أقدر على تمامه للفسحة فى الوقت والتمكن من الأمر أكثر مما أجد ذلك من نفسى، فعدلت عن ذلك إلى الكتابة فى التفسير على نهج كنت جريت عليه من قبل فى بعض دروسى ومحاضراتى للإخوان المسلمين، وذلك بأن أتناول المقاصد العامة فى القرآن الكريم بحسب ما يلهمنى الله إياه من نَهَم وتدبر وفقه، وذلك ابتداء من فاتحة الكتاب الكريم إلى خاتمته إن شاء الله، فأكون بذلك قد جمعت بين الحرص على الترتيب والإفادة من حيث وحدة الموضوع بقدر الإمكان، وإذا أعان الله على هذا العمل وباركه فسيكون عنوانه إن شاء الله "مقاصد القرآن الكريم".

ورأيت من قبل البدء فى ذلك أن أمهد له فى هذا المقال بهذه المقدمات حول علم التفسير ونشأته وتطوراته، وآراء الناس فيه.


مقدمات

القرآن الكريم:

"كتاب الله -تبارك وتعالى- فيه نبأُ مَنْ قَبلكم، وخبر ما بعدكم، وحُكمُ ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الْهُدَى فى غيره أضله الله. هو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكرُ الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذى لا تَزِيغُ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعَّب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَمله الأتقياء، ولا يَخْلقُ على كثرة الرد، ولا تنقضى عجائبه. هو الذى لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا: إنا سمعنا قرآنًا عجبًا. من عَلِمَ عِلمَه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عَمِلَ به أُجِر، ومن دعا إليه هُدِىَ إلى صراط مستقيم". الترمذى عن على رضى الله عنه مرفوعًا.

ذلك هو القرآن الكريم، وقد أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ليتلوه المؤمنون فتنشرح بهذه التلاوة صدورهم، وتستنير أفئدتهم وقلوبهم، وينالوا به مثوبة الله يوم القيامة. وما تقرب أحد إلى الله -تبارك وتعالى- بمثل كلامه، ثم ليكون بعد ذلك دستور حياتهم، ونظام مجتمعهم، يرسم لهم طرائق الحياة السعيدة فى هذه الحياة الدنيا، وطرائق الفوز والنجاة فى العقبى مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97]، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 124].

فليس المقصود من القرآن مجرد التلاوة، أو التماس البركة -وهو مبارك حقًّا- ولكن بركته الكبرى فى تدبره وتفهم معانيه ومقاصده، ثم تحقيقها فى الأعمال الدينية والدنيوية على السواء، ومن لم يفعل ذلك أو اكتفى بمجرد التلاوة بغير تدبر ولا عمل فإنه يخشى أن يحق عليه الوعيد الذى يرويه البخارى عن حذيفة رضى الله عنه: "يا معشرَ القُرَّاء، استقيموا؛ فقد سَبَقْتُم سَبْقًا بعيدًا، وإنْ أخذتم يمينًا وشِمَالا لقد ضَلَلْتُمْ ضَلالا بعِيدًا".

الحاجة إلى التفسير

ولهذا كانت الحاجة ماسة إلى التفسير المفهم الذى تتضح به المعانى والمقاصد بحسب مدارك البشر وما تتسع له عقولهم، وإن كان القرآن فى الحقيقة قد يسره الله للناس تيسيرًا عجيبًا وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر: 17]، فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا [مريم: 97]، فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الدخان: 58].

ولكنه بعد تبلبل الألسنة، وفشو اللحن، وانتشار العامية والبعد عن الفصحى، صار الناس فى حاجة إلى تفسير الألفاظ والتراكيب التى قد يغيب معناها عن أذهانهم، أو يخفى مدلولها عن إدراكهم، هذا مع أن القرآن الكريم هو دستور الدين والدنيا، وقد ضمنه الله من علومهما وما يتصل بهما من المعارف ما تتفاوت فى إدراكه عقول الناس، وما لا يزال الزمن والبحث يكشف عن درره وجواهره، ويبين عن غرائبه وعجائبه سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الآَفَاقِ وَفِى أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53]. وسئل على -كرم الله وجهه-: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء أهل البيت؟ قال: لا، إلا فهمًا أوتيه رجل فى كتاب الله، وما فى هذه الصحيفة. وعرض عليهم صحيفة فيها بعض الأحكام.

ومن هنا نشأ علم التفسير بسيطًا، ثم ما زال الناس يتوسعون فى شأنه حتى ورثنا مجموعة ضخمة من التفاسير كان بعضها هداية ونورًا، وكان بعضها موسوعات علمية فيها كل شىء إلا تفسير القرآن.

عناية السلف به

وكان السلف -رضوان الله عليهم- يهتمون بتعرف مقاصد القرآن الكريم، ويرون الفضل لمن علم شيئًا من تفسيره؛ فعن على رضى الله عنه أنه ذكر جابر بن عبد الله ووصفه بالعلم، فقال له رجل: جعلت فداءك! تصف جابرًا بالعلم وأنت أنت! فقال: إنه كان يعرف تفسير قوله تعالى: إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص: 85] وقال مجاهد: أحب الخلق عند الله تعالى أعلمهم بما أنزل. وقال الحسن: والله ما أنزل الله آية إلا أحب أن يعلم فيما أنزلت وما يعنى بها. وقال الشعبى : رحل مسروقإلى البصرة فى تفسير آية، فقيل له: إن الذى يفسرها رحل إلى الشام، فتجهز ورحل إلى الشام حتى علم تفسيرها. وقال عكرمةفى قوله عز وجل: وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ [النساء: 100] طلبت اسم هذا الرجل أربع عشرة سنة حتى وجدته.

وقال ابن عبد البر: هو ضمرة بن حبيب . وقال ابن عباس: مكثت سنتين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يمنعنى إلا مهابته، فسألته فقال: هى حفصة وعائشة. وقال إياس بن معاوية : "مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره، كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلا وليس عندهم مصباح، فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما فى الكتاب. ومثل الذى يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرءوا ما فى الكتاب".

التفسير بالرأى

ومع هذا التعظيم لقدر التفسير والمفسرين الذين يعلمون فيمَ أنزلت الآيات وماذا أريد بها، فإن السلف -رضوان الله عليهم- كانوا يتحرون دائمًا فى التفسير ألا تتحكم فيما يفهمون من الآيات أغراض خاصة أو أهواء شخصية أو ظروف طارئة، ولكنهم كانوا يجردون أنفسهم من كل ذلك؛ حتى يكون القرآن أميرًا على تصرفاتهم، ويكون هواهم تبعًا لما جاء به رسولهم صلى الله عليه وسلم، وهو صريح الإيمان. ومن هنا كان الكثير منهم يتحرج من التفسير ويخاف أن يقول فى القرآن برأيه.

قال ابن عطية: "وكان جُلَّة من السلف الصالح كسعيد بن المسيب، وعامر الشعبى وغيرهما يعظمون تفسير القرآن ويتوقفون عنه تورعًا واحتياطًا لأنفسهم مع إدراكهم وتقدمهم". قال أبو بكر الأنبارى: وقد كان الأئمة من السلف الماضى يتورعون عن تفسير المشكل من القرآن، فبعضٌ يقدِّر أن الذى يفسره لا يوافق مراد الله -عز وجل- فيحجم عن القول، وبعضٌ يشفق من أن يجعل فى التفسير إمامًا يبنى على مذهبه ويقتفى طريقه، فلعل متأخرًا أن يفسر حرفًا برأيه ويخطئ فيه، ويقول: إمامى فى تفسير القرآن بالرأى فلان الإمام من السلف.

وعن ابن أبى مليكة قال: سئل أبو بكر الصديق رضى الله عنه فى تفسير حرف من القرآن فقال: أى سماء تظلنى، وأى أرض تقلنى، وأين أذهب، وكيف أصنع إذا قلت فى حرف من كتاب الله بغير ما أراد الله تبارك وتعالى؟!".

وروى الترمذى وأبو داود من حديث جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن قال فى القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ".

والمراد بالقول بالرأى هنا أن يقول بغير علم خجلا أو تورطًا أو هروبًا من الوصف بالجهل، أو أن يتحكم الهوى وتتغلب الأغراض فتجور بصاحبها عن نهج الصواب، وتعدل به عن طريق الحق، فلو أصاب أحدهم مع هذه النية فقد أخطأ وأثم. ولا شك أن الذين يجتهدون فى تحرى الحق متجردين له من أهوائهم فهم مثابون، إن أخطؤوا فلهم أجر، وإن أصابوا فلهم أجران إن شاء الله، وبهذا يجمع بين رغبة السلف فى التفسير وتعظيمهم لقدر المفسرين، وبين خوفهم من القول فى القرآن بالرأى وما ورد من النهى عن ذلك.

تأثر أسلوب التفسير بالثقافات والعصور المختلفة

ولا شك أن أسلوب التفسير قد تأثر بالتطورات الاجتماعية والثقافية فى العصور الإسلامية المختلفة؛ فبدأ أول ما بدأ هيِّنًا يسيرًا ساذجًا، يتناول بعض الآيات وبعض الألفاظ والوقائع، لاستغناء الناس عن ذلك بسليقتهم العربية وذوقهم اللسانى الذى ما زال متمكنًا منهم وما زالوا مقيمين عليه، واكتفاء بالسنة العملية التى شاهدوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أصحابه والتابعين لهم بإحسان.

وجاء عصر التدوين والقصص، فكتبت فى التفسير رسائل لا تعدو أن تكون روايات منقولة وأقاصيص، منها ما هو صحيح يتصل بأسباب النزول ووقائع الأحكام، ومنها ما هو منقول عن أهل الكتاب فيه الغث وفيه السمين. وعرف بذلك مفسرون، ووضعت كتب على هذا الأسلوب الذى يعرف بأسلوب الرواية أو التفسير "التفسير بالمأثور" لا شك أن من أعظمها وأجلها وأبقاها وأنفعها وأغزرها مادة تفسير الإمام محمد بن جرير الطبرى المتوفى سنة 310هـ، واسمه "جامع البيان فى تفسير القرآن".

وجاء عصر الترجمة والفلسفة، والاتصال بعلوم الفرس واليونان، ووقع الخلاف بين فلاسفة الإسلام وعلمائه فى كثير من الشئون العقدية والفروع الفقهية وما إلى ذلك، فنحت كتب التفسير نحو هذا الأسلوب، من حيث تضمنها لكثير من النظرات الفلسفية، والاستدلال بالآيات على الآراء والمذاهب العقدية المختلفة؛ بل إن كثيرًا من المفسرين كان يجتهد أن يستنبط من الآية ما يوافق مذهبه فى الفروع، وذلك أمر طبيعى. وكثير من كتب التفسير إنما كان الدافع إليه مجرد الرد على بعض الكتب السابقة، ويرى ذلك واضحًا فى تفسير الفخر الرازى المتوفى سنة 606هـ، والمسمى "مفاتيح الغيب"، وفى تفسير الزمخشرى المتوفى سنة 538هـ، وهو المسمى بـرضي الله عنهالكشاف)، وأضرابهما، ويطلق بعض الباحثين على هذا الأسلوب "التفسير بالمعقول".

وكثيرًا ما تناول بعض اللغويين تفسير القرآن الكريم فصرفوا وجهتهم إلى النكات البلاغية والتوجيهات اللغوية، والاستعمالات النحوية، وهكذا، كما ترى ذلك فى تفسير الزجاج والواحدى وأبى حيان الأندلسى ، وما زال بين أيدينا كتاب المفردات للراغب الأصفهانى من رجال القرن السادس الهجرى.

واتجهت وجهة كثير من المفسرين العصريين إلى مسايرة النهضة العلمية، وبيان ما تناوله القرآن وأشار إليه من أصول العلوم الكونية ونواميسها ومظاهرها، كما فعل ذلك الأستاذ الشيخ الطنطاوى جوهرى فى تفسيره رضي الله عنهالجواهر)، كما اتجهت وجهة آخرين إلى بيان السنن الاجتماعية، وأساليب الهداية النفسية، وأسباب التطورات التاريخية، واستنباط ذلك من آيات القرآن الكريم؛ ليكون حافزًا للمسلمين إلى استعادة مجدهم بالقرآن، وربط حياتهم الاجتماعية بتعاليمه وشرائعه، كما فعل ذلك الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، واقتفى أثره وارثه وتلميذه السيد محمد رشيد رضا رحمهما الله فى تفسير المنار).

وهكذا نجد أن أسلوب التفسير يتجدد مع كل مفسر ومع كل عصر بحسبه، وذلك أمر طبيعى كما قدمنا، فإنما يصور المفسرون بالتفسير ما فهموا من كتاب الله، وأداة فهمهم عقولهم، ومادة علمهم بيئتهم ومعارف عصرهم، فكان لزامًا أن يظهر ذلك كله جليًّا فى نفثات أقلامهم، ومعرض آرائهم.

ولا نريد أن نتناول هنا جميع كتب التفسير بالوصف والتحليل؛ فذلك ما لا نقصد إليه، ولا هو من مواد هذا البحث، وحسبنا ما ذكر على سبيل المثال.

مزالق المفسرين

وهذا التأثر فى أسلوب التفسير بثقافات المفسرين وعصورهم كثيرًا ما يجر بعضهم إلى مزالق الخطأ، وينحرف بهم عن جادة الصواب فى الفهم أو فى التعبير؛ وبخاصة إذا لم يكونوا قد تمرسوا بالدراسات الشرعية واللغوية والدينية والأدبية التى تعين على صحة الفهم، وإدراك المقصد، ووضوح العبارة؛ ولهذا رأينا المستشرقين أفحش خطأ من غيرهم كلما تناولوا الحديث عن القرآن؛ لضعف مادتهم اللغوية وبعدهم عن التمكن من الدراسات الإسلامية الصحيحة. وهذا فى المخلصين للبحث الحر منهم، فما بالك بالمغرضين؟! ثم يتلوهم الباحثون الذين لم يأخذوا بحظ وافر من هذه الدراسات.

وكثيرًا ما يكون مظهر الخطأ الفاحش صياغة العبارة وقصورها عن الوفاء بالمراد، بحيث لو صيغ هذا المعنى فى عبارة أدق وأحكم لكان أدل على غرض الكاتب وأوفى بمقصده، مع تمشيه مع الأدب اللازم فى معالجة مثل هذا البحوث، ومسايرته للحق والمنطق والصواب. ولعل من المفيد أن نلم إلمامة وجيزة ببعض هذه المزالق فى أساليب الكاتبين عن مقاصد القرآن المختلفة، لعل فيها تحذيرًا وتبصرة، فهناك:

أ- فى القصص والمعجزات:

يتناول القرآن الكريم قصص الأنبياء والمرسلين ويذكر طرفًا من معجزاتهم، ومن المقرر أنه ليس الغرض من ذلك استقراء الوقائع ولا تحديد الأزمان ولا تناول الظروف والملابسات، ولا تسجيل مجرد الحوادث والأشخاص، ولا البحث التاريخى الاصطلاحى الفنى، وإنما الغرض من ذلك الهداية والعظة والعِبرة، وتقرير قواعد هذه الهداية فى النفوس بذكر هذه القصص وعرض وقائعها أمام السامعين والقارئين. والقرآن الكريم يصرح بهذا فى وضوح فيقول: لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِى الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُّفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُّؤْمِنُونَ [يوسف: 111].

ومن المقطوع به كذلك عند كل مسلم أن كل ما ذكره القرآن فى هذه الناحية حق لا شك فيه، وأن علم التاريخ الاصطلاحى لا يمكن أن يأتى بحقيقة تخالف ما جاء فى قصة من القصص التى ذكرها القرآن الكريم. نعم إنه قد يعجز عن أن يصل بوسائله الفنية المجردة إلى بعض ما ذكره القرآن الكريم، فيكون ما ذكره القرآن الكريم زائدًا عن علم التاريخ المجرد، وقد يعجز التاريخ المجرد عن أن يجد الدليل بأسلوبه الخاص على ما ورد فى القرآن الكريم، ولكن يجب أن يلاحظ أن عجز علم التاريخ عن المعرفة أو الاستدلال ليس معناه عدم صحة ما جاء فى القرآن، فليس انتفاء العلم بالشىء دليلا على عدم وجوده.

وهنا المزلق؛ فالمؤرخون قسمان: قسم لا يؤمن بالقرآن الكريم ولا يتخذ وحيه دينًا، وهذا يقول: إن القرآن لا يصح أن يكون عنده كتابًا تاريخيًّا يعتمد عليه فى بحوثه الفنية المجردة عن أى اعتبار آخر، وهو معذور فى هذا القول، ولا ينتظر منه غيره؛ لأنه لم يلتزم التصديق والإيمان بالقرآن من قبل. وقسم آمن بالقرآن وقام عنده الدليل على صدقه، وعليه حينئذ واجبان: أولهما أن يكون أصدق الأدلة التاريخية عنده وأثبتها ما جاء فى هذا القرآن عن الأمم والعصور التى أرَّخ لها أو تناولتها آياته، وثانيهما أن يرد عنه تكذيب الصنف الأول إن حاولوا ذلك أو أرادوه، وأن يقيم لهم الدليل على خطئهم بالأسلوب التاريخى الفنى، ولن يعجزه ذلك متى أراده.

ولكن بعض الباحثين من هذا القسم يحلو له أن يتشبه بأولئك، فيجرد من شخصيته المؤمنة بالقرآن شخصية أخرى يدعى أنها تاريخية بحتة لا تهتم بأى اعتبار آخر، ثم يمضى فى بحثه متقمصًا هذه الشخصية الجديدة، وينسى تمامًا شخصيته الأولى فيزل ويهوى، ولو عاد فذكر شخصيته المؤمنة، وعقَّب على بحثه المجرد بما يفيد إيمانه بصدق هذا التاريخ القرآنى، ثم ناضل عن ذلك ودعمه بالأسلوب العلمى لقام ذلك عذرًا له أمام إيمانه أولا وأمام الناس بعد ذلك، ولاستحق الشكر والثناء.

زلَّ الدكتور طه حسين بك فى هذا المزلق حين انتحل من قبل ما قاله أحد المستشرقين: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللإنجيل أن يحدثنا عنهما، وللقرآن أن يفعل ذلك، ولكن هذا لا يكفى لإثبات وجودهما التاريخى". وثار الناس عليه وهم محقون، ولو قال بعد ذلك: "ولكنى كمؤمن بالقرآن الكريم أثبت وجودهما التاريخى بهذا الدليل.

وإذا كان البحث التاريخى المجرد بأدلته الفنية الخاصة لم يصل إلى إثبات شىء عن إبراهيم وإسماعيل؛ فذلك لقصور قد يكشفه الزمن، وقد نصل فى المستقبل إلى ما عجزنا عنه الآن كما يحدث ذلك دائمًا، وأخيلة الأمس حقائق اليوم، وأخيلة اليوم حقائق الغد.

وحسب الكتب السماوية أن تضع أيدينا على طرف الحبل وعلينا بعد ذلك تمام البحث، ومن أنكر ذلك من المستشرقين فهو متجنٍّ على العلم! فليس توقف العقل عن حكم دليلا على الاستحالة" لكان محققًا وكان محقًّا وكان جامعًا بين تحليل العالم العصرى واعتقاد المؤمن القوى، ولما ثار الناس به وثار هو كذلك بالناس.

وهذا الكاتب الجديد صاحب رسالة رضي الله عنهالقصص الفنى فى القرآن) التى لم تظهر للناس بعد وإنما ظهر منها طرف تناولته الصحف نحا هذا النحو، ولكن فى واد أدبى متصل بالتاريخ، فهو يريد أن يقول: إن رعاية الناحية الفنية عند الأديب المجرد لا تستلزم صدق الرواية ولا صحة الواقعة وهذا حق؛ بل إنه كثيرًا ما يتجلى فن الأديب فى المبتكر من الحوادث والمتخيل من الروايات أكثر ما يتجلى فى رواية الوقائع الصادقة الحقة، بصرف النظر عما يقوله المربون وعلماء النفس فى خطر هذا الأسلوب على التكوين الفكرى والنفسانى للأشخاص، ثم هو يريد بعد هذا أن يجرد من نفسه أديبًا بعيدًا عن كل اعتبار آخر، ويجرد من القرآن كتابَ أدب بعيدًا عن كل اعتبار آخر كذلك، وينظر فيه على هذا الأسلوب بصرف النظر عن صدق هذه القصص ومطابقتها للواقع والتاريخ أو مخالفتها لذلك كله. ولو قال: إنه يتخذ هذا البحث وسيلة إلى إثبات سمو الناحية الفنية فى كتاب الله وعمقها، وإنه كمؤمن بالقرآن الكريم يصدق بأن هذه الوقائع جميعًا لا بد أن تكون حقائق تاريخية، وذلك مما يزيد فى روعة التصوير ودقة الفن، ولا عجب فهو صنع الله الذى أتقن كل شىء. لو قال هذا لاستراح وأراح، ونفى عن نفسه وعن الذين يقرءون له لوثات الزيغ والضلال، وقل مثل ذلك فى مثل هذه المناحى جميعًا.

هذا من حيث التاريخ والأدب مع القصص القرآنى والحوادث التاريخية فيه، أما المعجزات والقصص الغريبة التى لم تأتِ على حسب مألوف الناس، ووفق ما يعرفون من النواميس العادية؛ كقصة أهل الكهف، وقصة الذى مر على قرية وهى خاوية على عروشها، فذلك بحث آخر سنفرده بالكلام فى أول مناسباته -إن شاء الله- وإنما نقصد إلى التنبيه لمثل هذا المزلق، وللاستقراء بعد ذلك موضعه بتوفيق الله.

ب- فى العلوم الكونية:

من المقرر أن القرآن الكريم لم ينزل ليكون كتاب هيئة أو طب أو فلك أو زراعة أو صناعة، ولكنه كتاب هداية وإرشاد، وتوجيه اجتماعى إلى أمهات المناهج الاجتماعية التى إذا سلكها الناس سعدوا فى دنياهم وفازوا فى آخرتهم. وهو إنما يعرض للعلوم الكونية، ولمظاهر الوجود المادية الطبيعية بالقدر الذى يعين على الإيمان بعظمة الخالق جل وعلا، ويكشف عن بديع صنعه، وعما أودع فى هذا الكون من المنافع والفوائد لبنى الإنسان؛ حتى ييسر لهم بذلك طرائق الاهتداء إلى الاستفادة من هذه الخيرات فى الأرض وفى السماء وفيما بين ذلك، ثم ترك بعد ذلك للعقل الإنسانى أن يجاهد ويكافح فى سبيل الكشف عن مساتير هذا الوجود والاستفادة مما فيه من قوى ومنافع، وحثه على ذلك وجعل هذا من أفضل العبادة وأعلى أنواع ذكر الله قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [يونس: 101]، إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِى الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 190-191].

ولقد ذهب كثير من المؤلفين والمفسرين فى القديم والحديث إلى أن القرآن الكريم قد تضمن كل أصول العلوم الكونية، وحاولوا أن يصلوا إلى ذلك بتطبيق آيات الخلق والتكوين وما إليها على ما عرف الناس من هذه العلوم؛ ومن هؤلاء الإمام الغزالى قديمًا فى جواهر القرآن، والشيخ طنطاوى جوهرى حديثًا فى تفسيره الجواهر، والدكتور عبد العزيز إسماعيل فى كتابه عن القرآن والطب، وأمثالهما، وهو جهد مشكور ولا شك، ولكنه تكليف بما لم يكلفنا الله به قد يصل فى كثير من الأحيان إلى التكلف، وخروج بالقرآن عما نزل له من الهداية والإصلاح الاجتماعى وتقرير قواعدهما فى النفوس والمجتمعات، وتعريض لمعانى كتاب الله -تبارك وتعالى- لاختلاف الآراء، وتضارب المقررات العلمية، واختلاف أقوال العلماء.

ولهذا كره بعض السلف هذا المعنى وأشار إليه، كما فعل ذلك الشاطبى فى الجزء الثانى من رضي الله عنهالموافقات)، وناقشه مناقشة دقيقة خلص منها إلى: "أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء من هذه العلوم وإن كان قد تضمن علومًا هى من جنس علوم العرب أو ما ينبنى على معهودهما مما يتعجب منه أولو الألباب ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الاهتداء بأعلامه، والاستنارة بنوره، أما أن فيه ما ليس من ذلك فلا".

ومن المقرر كذلك أن القرآن قد تعرض لكثير من مظاهر الوجود الكونية، فتناول خلق الإنسان، وتكوين الأرض والسماء، وجريان الشمس والقمر، وتسخير الكواكب والنجوم والأفلاك، وتراكم السحاب ونزول المطر، وظاهرة الرعد والبرق، ونمو النبات وتنوع أصنافه، وعجائب البحار، وأعلام الطريق والجبال الرواسى على هذه الأرض، وأطوار الأجنة فى بطون أمهاتها، إلى غير ذلك مما يتناوله علماء الكون بالتمحيص والبيان، وما هو موضوع بحوثهم ومحل عنايتهم وتجاربهم.

وكثيرًا ما تختم هذه الآيات بالبحث عن التعقل والتفكر والنظر والتدبر، إشارة إلى أن القرآن الكريم لم يقصد بهذا التعرض تقرير أصول هذه العلوم، أو تناول فروعها، ولكنه إنما قصد إلى الهداية، وتوجيه الأنظار والنفوس إلى ما تدل عليه من عظمة الخالق وفائدة المخلوق.

ولكن الذى لا يمكن أن يكون محل نزاع هو أن القرآن حين أشار إلى هذه النواميس الكونية، والمظاهر الوجودية المادية، كان من دقة التعبير وصدق التصوير بحيث لا يمكن أبدًا أن يصطدم بما يكشف العقل الإنسانى عنه فى أطواره المختلفة من حقائق هذه العلوم ومقرراتها، وخصوصًا إذا لاحظنا أن هذه المقررات العلمية تنقسم إلى قسمين: قسم تظاهرت عليه الأدلة وتوافرت الحجج حتى كاد يلحق بالبديهيات، وقسم لا زال فى طور البحث العلمى، وكل الذى بين يدى العلماء الكونيين منه فروض تؤيدها بعض القرائن التى لم تَرْقَ إلى مرتبة الأدلة القاطعة أو الحجج المقنعة، فما كان من القسم الأول فلا شك أن ما أشار إليه القرآن الكريم منه يوافق كل الموافقة ويطابق كل المطابقة ما عرفه العلماء الكونيون، حتى إنه من الحق أن يقال: إن ذلك من إعجاز هذا الكتاب الذى جاء به أمى لم يتعلم فى مدرسة ولم يلتحق بجامعة من الجامعات! ومن أمثلة ذلك إشاراته إلى أطوار الجنين وتلقيح الرياح، وتكون السحاب وصلته بالرياح.. إلخ.

وما كان من القسم الثانى فمن التجنى وظلم الحقيقة أن يوازن بينه وبين ما جاء فى القرآن الكريم، فلننتظر حتى يطمئن العلم الكونى إلى ما بين يديه، ويؤمن العقل الإنسانى بما وصل إليه، ثم ننظر على ضوء هذا الإيمان إلى النص القرآنى، ولن نجدهما إلا متعاونين على تثبيت دعائم الحقيقة سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الآَفَاقِ وَفِى أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53].

ومن هذا القبيل ما يتصل بنشأة الإنسان وحقيقة الحياة وبدء التكوين، وصلة الأرض بالسماء على أنه من عجيب أمر هذا القرآن أنه حتى فى مثل هذه المواطن يسوق التعبير سوقًا عجيبًا معجزًا فى مرونة عبارته ودقة إشارته، حتى إنه ليساير بحق تطور العقل الإنسانى فى كل زمان ومكان، وتأمل تصويره لنهاية العالم المادى ووصفه للقيامة وآثارها فيه تَرَ أنه أتى فى ذلك بالعجب العجاب!.

وهنا المزلق: فإن كثيرًا من الكاتبين فى هذه المعانى والناظرين إليها يكتبون وينظرون وقد آمنوا إيمانًا لا شك فيه بصحة هذه الفروض العلمية، واعتبروها حقائق بديهية مقررة لا نقض فيها ولا إبرام، وهم مع هذا الخطأ لا يكلفون أنفسهم دقة النظر فى نصوص القرآن ولطف التركيب فى عباراته وسر الوضع فى ألفاظه، فيتورطون فى الحيرة أحيانًا وفى التكذيب أحيانًا أخرى، فما دام دارون عندهم قد قرر أن الإنسان لا بد أن يكون مشتقًا من حيوان آخر فليس للقرآن أن يقول: إنه من طين أو من صلصال كالفخار؛ حتى لا يصطدم بالكشوف العلمية، وفاتهم أنهم لم يحيطوا بما قال دارون، ولم يطالعوا ما كتب خصوم نظريته فى هدمها وإبطالها، وبخاصة فى هذه الناحية بالذات وما ذكره بعض العلماء من نظريات تعاكسها تمامًا.

كما فاتهم سر تركيب القرآن فى قوله: الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ [السجدة: 7-9]، وفى قوله: مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح: 13-14]. والحق والإنصاف أن يسلموا بصدق هذه الآيات الكريمة تمام الصدق، وأن ينتظروا ما ينتهى إليه علم الناس، ثم ينظروا بعد ذلك، والله غالب على أمره وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا [الإسراء: 85]. وهذه إشارات عابرة إلى الموضوع، يأتى تفصيلها فى موضعه إن شاء الله.

ج- فى السمعيات وصفات الله تبارك وتعالى:

ومما يلحق بذلك ويشبهه ما ذكره القرآن الكريم مما يسمى فى اصطلاح النظار والمؤلفين بالسمعيات؛ ومن ذلك الجن، والملائكة، وأحوال الموت، والقبر، والبعث والجزاء، والجنة والنار... إلخ، ثم صفات الله تبارك وتعالى.

ولقد تناول القرآن الكريم هذه الموضوعات بكثير من الإفاضة والإسهاب؛ فذكر الجن فى عدة مواطن ووصفهم بالفقه والفهم والإيمان، والقدرة على ما يعجز عنه البشر فى كثير من الأحيان، وذكر الملائكة ووصفهم بأوصاف عدة فى كثير من الآيات، وأفاض فى ذكر الموت وأحواله وما بعده من بعث ونشور وحساب وجزاء: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7-8] ثم عرض لصفات الله -تبارك وتعالى- فوصفه بالكمالات كلها، ونزَّهه سبحانه عن أوصاف النقص جميعًا، ونفى عنه المشابهة لخلقه والمماثلة لغيره لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 4] كما جاءت الآيات وفيها ذكر الاستواء على العرش واليد والوجه والعين والأعين مضافة إليه سبحانه.

ولا شك أن ما ذكره القرآن من أحوال هذا العالم غير المادى ثم من صفات البارى -جل وعلا- كلها لا تدخل فى حدود نواميس المادة ولا قواعد عالمها، والعقل الإنسانى لا زال إلى اليوم عاجزًا عن إدراك ما يحيط بالمادة نفسها من قوى وأسرار، فكيف بما هو وراءها؟!

وهنا المزلق.. فكثير من الناظرين فى معانى الكتاب الكريم يعز عليه أن يسلم بوجود شىء لم يصل عقله بعد إلى حقيقته، فما هؤلاء الجن الذين تخفى علينا حقيقتهم؟ وما هذه الملائكة التى لا ندرى كنهها؟ وما هذا البعث بعد أن تحللت عناصرنا المادية ورُدَّت إلى أصولها الأولية؟ وما هذه الأرواح المزعومة فى هذه الأجساد ونحن لا نحس إلا بهذه العوامل المادية تتصرف فى أبداننا؟ فالبرد يؤذينا، والحر يؤلمنا، والسم يقتلنا، والطعام يقوينا، والهواء ينعشنا وكلها من عالم المادة، وهم أمام هذه النظرة الضيقة يزلون؛ فمنهم من ينكر ذلك جملة، ومنهم من يتعسف فى التأويل فينكر الحقيقة ويذهب إلى أنها تمثيل أو تخييل، وكلاهما أخطأ الطريق وضل سواء السبيل، وهم لو أنصفوا لعرفوا أن من خصائص العَالِم الألمعى أن يعترف بالعجز والقصور فيما لم يصل إليه علمه، وأن ما كشفه العقل الإنسانى إلى اليوم بالنسبة إلى ما لم يكشف عنه من أسرار هذا الوجود شىء يسير لا يكاد يقام له وزن؛ كجزيرة صغيرة فى وسط محيط عظيم. ولقد اعترف بذلك وبأكثر منه أكابر علماء الكون، وسيمر بنا من ذلك الكثير، حتى إن بعضهم ليقول: "إن من خصائص العَالِم العصرى أن يكون متواضعًا وجريئًا؛ متواضعًا لأنه لم يصل إلى شىء يذكر من أسرار هذا الوجود، وجريئًا لأن المجهولات التى أمامه من الكثرة بحيث لا يفيد فى الكشف عن بعضها إلا الجرأة.

فالتكذيب بمثل هذه السمعيات لمجرد أنها لم تدرك بالحواس البشرية مع دخولها فى حيز الإمكان الفعلى ظلم صارخ وضلال مبين، والتأويل تكلُّف لا مبرر له، والإيمان بها مع عدم التكلف فى تصور حقيقتها هو الصراط المستقيم. وأما ما أحاط بهذه المعانى فى بعض الكتب أو الأذهان من صور خرافية، ومن أقاصيص خيالية، وأوصاف روائية لم ترد فى كتاب ولا سنة ولا ثبتت من طريق صحيح فليس من هذا البحث فى شىء، ويجب على كل مؤمن ألا يقيم له وزنًا ولا يرفع به رأسًا.

ومن الناس من يحاول أن يقرب هذه المعانى إلى أذهان غيره من المتشككين الذين لم تشرق بعد أنوار الإيمان على صدورهم، فيتصرف فى الألفاظ، ويتجوز فى التصوير، فعليه إن فعل ذلك أن يردفه بما يفيد تصديقه الكامل بما جاء عن هذه العوالم فى القرآن الكريم، وأن يصارح بذلك أولئك المتشككين، بعد أن يخطو بهم الخطوة الأولى للإفهام والتقريب؛ حتى لا يقف بهم أو يقف معهم فى وسط الطريق.

وليست هذه الصور جديدة فى البحوث الإسلامية الدينية؛ بل إنها لتتكرر منذ ترجمت الفلسفة، وأدمجت فى علوم الإسلام إلى اليوم، والموفق من شرح الله صدره للإيمان فهو على نور من ربه.


أفضل التفاسير وأقرب طرائق الفهم

وبعد، فقد سألنى أحد الإخوان عن أفضل التفاسير وأقرب طرق الفهم لكتاب الله تبارك وتعالى، فكان جوابى على سؤاله هذا هذه الكلمة: "قلبك"، فقلب المؤمن ولا شك هو أفضل التفاسير لكتاب الله تبارك وتعالى، وأقرب طرائق الفهم؛ أن يقرأ القارئ بتدبر وخشوع، وأن يستلهم الله الرشد والسداد، ويجمع شوارد فكره حين التلاوة، وأن يلم مع ذلك بالسيرة النبوية المطهرة، ويعنى بنوع خاص بأسباب النزول وارتباطها بمواضعها من هذه السيرة، فسيجد فى ذلك أكبر العون على الفهم الصحيح السليم. وإذا قرأ فى كتب التفسير بعد ذلك فلِلْوقوف على معنى لفظ دق عليه أو تركيب خفى أمامه معناه أو استزادة من ثقافة تعينه على الفهم الصحيح لكتاب الله، فهى مساعدات على الفهم، والفهم بعد ذلك إشراق ينقدح ضوؤه فى صميم القلب.

ومن وصايا الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده -رحمه الله- لبعض تلامذته: "وأدم قراءة القرآن، وفهم أوامره ونواهيه، ومواعظه وعِبَره كما كان يتلى على المؤمنين أيام الوحى، وحاذر النظر إلى وجوه التفاسير إلا لفهم لفظ غاب عنك مراد العرب منه، أو ارتباط مفرد بآخر خفى عليك متصله، ثم اذهب إلى ما يشخصك القرآن إليه، واحمل نفسك على ما يحمل عليه".

ولا شك أن من أخذ بهذه الطريقة سيجد أثرها بعد حين فى نفسه ملكة تجعل الفهم من سجيته، ونورًا يستضيء به فى دنياه وآخرته إن شاء الله.

سورة الفاتحة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة] .

فضلها

روى الإمام أحمد فى مسنده عن أبى سعيد بن المعلى رضى الله عنه قال: كنت أصلى فدعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلمْ أُجِبْه حتى صَلّيْتُ فأتَيْتُه فقال: "مَا مَنَعَك أنْ تَأتِيَنِى؟" قال: قلتُ: يا رسول اللهِ، إنى كُنْتُ أصلِّى. قال: "ألَمْ يَقُل اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ، ثم قال: "لأعلَّمَنَّكَ أعظمَ سورةٍ فى القرآنِ قبلَ أن تخرجَ من المسجدِ"، قال: فأخَذَ بيدى، فلما أرادَ أنْ يخرجَ من المسجدِ قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنكَ قلتَ: لأعلِّمَنَّك أعظم سورةٍ فى القرآن. قال: "نَعَمْ، الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هى السبع المثانى والقرآنُ العظيمُ الذى أوتيتُه". رواه البخارى وأبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجة.

وروى أحمد فى مسنده، والبيهقى فى الشعب، وذكره السيوطى فى "الدر المنثور" عن عبد الله بن جابر رضى الله عنه أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أُخْبرُك بأخيَرِ سورةٍ نَزَلَتْ فى القرآن؟" قلتُ: بَلىَ يا رسولَ اللهِ. قال: "فَاتحةُ الكِتاب". وقال: "فيها شِفاءُ مِن كلِّ دَاءٍ" .

وروى على بن أبى طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاتحةُ الكتابِ، وآيةُ الكرسى، وشَهِدَ اللهُ أنّه لا إلهَ إلا هُو، وقل اللَّهُمَ مَالكِ الْمُلكِ، هذه الآياتُ مُعَلَّقاتٌ بالْعَرْشِ ليس بينَهُنَّ وبينَ اللهِ حِجابٌ". أسنده أبو عمرو الدانى فى كتاب "البيان" له، ونقله القرطبى عنه.

أين ومتى نزلت؟

الجمهور على أنها نزلت بمكة؛ لقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِى وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: 87] والحجر مكية بإجماع، ولأن الصلاة فرضت بمكة، ولم تحفظ فى الإسلام صلاة بغير الفاتحة. وقال أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهرى ونفر: هى مدنية، وجمع بعض العلماء بين القولين بأنها تكرر نزولها فنزلت بمكة، ونزلت بالمدينة حين حوِّلتِ القبلة .

وذهب بعض المفسرين إلى أنها أول آيات القرآن وسوره نزولا، والجمهور على أن أول ما نزل من القرآن اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ [العلق: 1]، وقيل: المدثر، وقد ذكر البيهقى فى "دلائل النبوة" عن أبى ميسرة عمر بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: "إنى إذا خلوتُ وَحْدِى سمعتُ نِدَاءً، وقد والله خشيتُ أنْ يكونَ هذا أمرًا . قالت: معاذَ اللهِ، ما كانَ اللهَ ليفعلَ بكَ، فوالله إنَّكَ لتُؤَدِّى الأمانةَ، وتصلُ الرَّحِمَ، وتصدُقُ الحديثَ. فلمَّا دخلَ أبو بكر -وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثَمَّ- ذكرت خديجة حديثه له، قالتْ: يا عتيقُ، اذهبْ مع محمد إلى ورقةَ بنِ نَوْفَلٍ، فلما دخلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده فقال: انطلق بنا إلى ورقة، فقال ومن أخبرك؟ قال: خديجة، فانطلقا إليه فقصا عليه، فقال: "إذا خلوتُ وحْدِى سمعتُ نداءً خَلْفِى يا محمدُ يا محمدُ، فأنْطلِقُ هاربًا فى الأرض". فقَال: لا تفعلْ، إذا أتَاكَ فاثْبُت حَتَّى تسمَعَ ما يقولُ، ثُمَّ ائْتِنِى فأخْبِرنِى، فلما خلا ناداهُ يا محمدُ قل: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، حتى بلغ ولا الضَّالين. قل: لا إلهَ إلا الله. فأتى ورقةَ فذكرَ ذلك له، فقالَ له ورقةُ: أبْشِرْ ثم أبْشِرْ؛ فأنا أشهدُ أنَّك الذى بَشَّرَ به عيسى ابنُ مريمَ، وإنك على مِثلِ ناموسِ موسى، وإنك نَبِىٌّ مُرْسلٌ، وإنك سوفَ تُؤْمَرُ بالجهادِ بعدَ يومِكَ هذا، وإن يُدْرِكنِى ذلك لأجاهدَنَّ معك. فلما تُوُفِّى ورقةُ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيتُ الْقَسَّ فى الجنةِ عليه ثِيابُ الحرير؛ لأنَّه آمن بى وصَدَّقنى". يعنى ورقة. قال البيهقى: هذا منقطع، وهو ليس نصًّا فى أن الفاتحة أول ما نزل على كل حال.

وذهب الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فى تفسيره إلى أنها أول سورة نزلت من القرآن، محتجًا لذلك بأن سنة الله -تبارك وتعالى- قد جرت بأن يسبق الإجمال التفصيل، وسورة الفاتحة قد تضمنت مقاصد القرآن الكريم إجمالا، وذلك يقتضى أن تسبق فى النزول. وأفاض فى تفصيل ذلك، وقد يقال: إن هذا يصح علة للترتيب لا للنزول، والذى كان يتبع غالبًا الحوادث والوقائع.

أم القرآن

وللفاتحة أسماء كثيرة، فهى الصلاة؛ للحديث القدسى: "قسمت الصلاة بَيْنى وبَيْن عَبدى" . وسيأتى. وهى الحمد، وهى فاتحة الكتاب بلا خلاف بين العلماء فى ذلك، وهى أم الكتاب، وأم القرآن، وكره إطلاق هذين الاسمين عليها أنس وابن سيرين، والحديث الثابت ينفى هذه الكراهة.

روى الترمذى عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحمدُ لله أمُّ القرآن، وأمُّ الكتابِ، والسَّبعُ المثانى". وهى المثانى، وهى الشفاء، وهى الأساس، وهى الواقية، وهى الكافية، وهى الرقية، وهى القرآن العظيم" .

قال القرطبى: سميت القرآن العظيم لتضمنها جميع علومه، وذلك أنه تشتمل على الثناء لله -عز وجل- بأوصاف كماله وجلاله، وعلى الأمر بالعبادات والإخلاص فيها، والاعتراف بالعجز عن القيام بشىء منها إلا بإعانته تعالى، وعلى الابتهال إليه فى الهداية إلى الصراط المستقيم، وكفاية أحوال الناكثين، وعلى بيانه عاقبة الجاحدين ، كذا قال رحمه الله. ويمكن أن يقال: إنها تضمنت مقاصد القرآن الكريم إجمالا؛ بمعنى آخر هو أن القرآن الكريم إنما جاء لبيان حقوق الخالق على خلقه، وحاجة الخلق إلى خالقهم، وتنظيم الصلة بين الخالق والمخلوق، وهذه هى جملة المقاصد التى جاء بها القرآن؛ بل جاءت بها الكتب السماوية والأديان كلها، وقد أشارت إليها الفاتحة؛ فآياتها الأولى بيان لحقوق الله على خلقه، و إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ مع طلب الهداية منه تعالى إلى الصراط المستقيم بيان لحاجة الخلق إلى خالقهم، والصراط المستقيم هو نظام هذه الصلة بين المخلوقين والخالق، كما تضمنت الفاتحة كذلك الإشارة إلى الرد على كل طوائف المبطلين الخارجين عن المستقيم، وبيان أسباب هذا الخروج وهى لا تتعدى الغضب عليهم أو الضلال منهم، وبهذا استحقت الفاتحة أن يطلق عليها أم القرآن؛ بل القرآن العظيم.

البسملة فى الفاتحة

قال الشوكانى فى باب ما جاء فى بسم الله الرحمن الرحيم: وقد اختلفوا؛ هل هى آية من الفاتحة فقط، أم من كل سورة، أم ليست بآية؟ فذهب ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وطاووس وعطاء ومكحول وابن المبارك وطائفة إلى أنها آية من الفاتحة، ومن كل سورة غير براءة.

وحكى عن أحمد وإسحاق وأبى عبيد وجماعة أهل الكوفة ومكة وأكثر العراقيين وحكاه الخطابى عن أبى هريرة وسعيد بن جبير، ورواه البيهقى فى "الخلافيات" بإسناده عن على بن أبى طالب والزهرى وسفيان الثورى، وحكاه فى "السنن الكبرى" عن ابن عباس ومحمد بن كعب أنها آية من الفاتحة فقط. وحكى عن الأوزاعى ومالك وأبى حنيفة وداود -وهو رواية عن أحمد- أنها ليست آية فى الفاتحة، ولا فى أوائل السور. وقال أبو بكر الرازى وغيره من الحنفية: هى آية بين كل سورتين غير الأنفال وبراءة، وليست من السور؛ بل هى قرآن مستقل كسورة قصيرة، وحكى ذلك عن داود وأصحابه، وهو رواية عن أحمد .

ولا خلاف أنها آية فى أثناء النمل، ولا خلاف فى إثباتها خطًّا فى أوائل السور فى المصحف إلا فى أول سورة التوبة، وأما التلاوة فلا خلاف بين القراء السبعة فى أول فاتحة الكتاب، وفى أول كل سورة إذا ابتدأ بها القارئ ما خلا سورة التوبة، وأما فى أوائل السور مع الوصل بسورة قبلها فأثبتها ابن كثير وقالون وعاصم والكسائى من القراء فى أول كل سورة إلا التوبة، وحذفها منهم أبو عمرو وحمزة وورش وابن عامر.

احتج القائلون بأنها آية فى الفاتحة بكتابتها فى المصحف الإمام الذى بعث به الخليفة الثالث رضى الله عنه إلى الأمصار بعد مشاورة الصحابة، وأجمعت عليه الأمة، والكتابة أقوى الأدلة، وبما ورد من الأحاديث الصحاح التى تثبت ذلك.

ومنها ما رواه البخارى عن قتادة قال: سئل أنسٌ: كيف كانَتْ قراءةُ النبى صلى الله عليه وسلم فقال: كانتْ مدًّا، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ويمدُّ بالرحمن ويمدُّ بالرحيم. وروى عنه الدارقطنى من طريقين أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالبسملة.

وما روى عن أم سلمة أم المؤمنين -رضى الله عنها- أنها سُئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان يقطع قراءته آية آية؛ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين. رواه أحمد وأبو داود بهذا اللفظ وغيرهما.

وما رواه النسائى وغيره عن نعيم المجمر قال: صليتُ وراءَ أبى هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأمِّ القرآن وفيه يقول إذا سلمَ: والذى نفسى بيده؛ إنى لأشْبهكم صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال: على شرط البخارى ومسلم.

وأقره الذهبى، وقال البيهقى: صحيح الإسناد، وله شواهد. وحديث على -كرم الله وجهه-: سُئلَ عن السبع المثانى فقال: الحمدُ لله رب العالمين، قيلَ: إنما هى سِتٌ، فقالَ: بسم الله الرحمن الرحيم.

رواه الدارقطنى، وله حديثان آخران عنه وعن عمار بن ياسر فى إثبات جهر النبى صلى الله عليه وسلم بالبسملة، وإن تكلم فى سندهما.

وحديث أنس رضى الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. رواه الحاكم وقال: ورواته عن آخرهم ثقات، وأقره الحافظ الذهبى.

واحتج القائلون بأنها ليست آية من الفاتحة بما رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذى والنسائى عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صلى صلاةً لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهى خداجٌ".

يقولها ثلاثًا، فقيل لأبى هريرة: إنا نكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها فى نفسك، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله -عز وجل-: قسمتُ الصلاة بينى وبين عبدى نصفين، ولعبدى ما سأل، فإذا قال العبدُ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال اللهُ: حمدنى عبدى، فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال اللهُ: أثنى علىَّ عبدى، فإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال: مَجَّدنى عبدى -وقال مرة: فوَّضَ إلىَّ عبدي- وإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال: هذا بينى وبين عبدى، ولعبدى ما سأل، فإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ قال: هذا لعبدى ولعبدى ما سأل". فهو لم يذكر فيه بسم الله الرحمن الرحيم، ولو كانت من الفاتحة لذكرت.

وقد يرد على هذا بأن البسملة فيها الثناء على الله بما تكرر فى الفاتحة فلم يكن هناك ما يدعو إلى ذكرها، وبخاصة وهى مشتركة فى كل السورة.

وبما روى عن أنس قال: صليتُ مع النبى صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. رواه أحمد ومسلم .

وفى لفظ: صليتُ خلف النبى صلى الله عليه وسلم وخلف أبى بكر وعمر وعثمان فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. رواه أحمد والنسائى بإسناد على شرط الصحيح.

ولأحمد ومسلم: صليتُ خلف النبى صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان وكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم فى أول قراءة ولا آخرها. وهناك روايات أخر تدور حول ذلك.

وذكر بعض العلماء أن ما جاء فى روايات النفى سببه الإسرار بالبسملة وجمع بين الأقوال بناء على ذلك.

وروى الطبرانى فى الكبير والأوسط فى سبب ترك النبى صلى الله عليه وسلم للجهر بالبسملة فى الصلاة عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان يجهرُ ببسم الله الرحمن الرحيم، وكان المشركون يهزءون بِمُكاءٍ وتصديةٍ، ويقولون: محمدٌ يذكر إله اليمامة، يشيرون إلى قول مسيلمة الكذَّابِ وتسميته حائطه بحديقة الرحمن، فأنزل الله وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ [الإسراء: 110] فتُسْمِع المشركين فيهزءوا بك وَلاَ تُخَافِتْ عن أصحابك فلا تسمعهم. وقال فى "مجمع الزوائد": إن رجاله موثقون . فلما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم تارة ويسر بها أخرى، واختلفت الروايات بناء على ذلك.

وقد أفرد هذه المسألة بالتأليف جماعة من أكابر العلماء، وجمع فيها الشوكانى رسالة تشتمل على نظم ونثر أجاب بها على سؤال ورد، وبالغ بعضهم حتى عدها من مسائل الاعتقاد، والأمر أيسر من هذا كله، وحسبنا أن نراها مثبتة فى المصحف، وقد أجمع الصحابة -رضوان الله عليهم- على كتابتها فى صدر الفاتحة وتلاوتها حين القراءة، وأن ما بين دفتى المصحف قرآن نزل من عند الله. لنقول: إنها آية منها وكفى.

الفاتحة فى الصلاة

اختلف العلماء فى وجوب قراءة الفاتحة، فذهب الجمهور إلى وجوبها فى كل ركعة للإمام والمنفرد والمأموم، وحجتهم فى ذلك ما روى من حديث عبادة بن الصامت رضى الله عنه فيما رواه الجماعة كلهم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاةَ لِمَن لم يقرأ بفاتحة الكتابِ". وفى لفظ رواه الدارقطنى بإسناد صحيح: "لا تجزئُ صَلاةُ مَنْ لم يقرأ بفاتحةِ الكتابِ".

وذهب أبو حنيفة والكوفيون إلى أن الفاتحة غير واجبة بل تجب آية من القرآن؛ لِمَا جاء من قول النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث المسىء صلاته: "ثُمَّ اقرأ ما تَيسَّرَ معك مِنَ القرآن". وأجيب عنه بأنه لا أيسر من الفاتحة، ولأنه ثبت فى رواية أخرى أنه قال له: "ثُمَّ اقرأ بأمِّ القرآن". فهذا مفسر لما تيسر، وأما إذا كان مأمومًا فلا قراءة عليه مطلقًا عند أبى حنيفة، محتجًا بما ورد من أن قراءة الإمام قراءة له، فإن قرأ كره تحريمًا.

وذهب مالك وأصحابه إلى أنها متعينة للإمام والمنفرد فى كل ركعة، مطلوبة من المأموم خلف إمامه فى صلاة السر، فإن تركها فقد أساء ولا شىء عليه، وأما فى صلاة الجهر فلا يقرأ بفاتحة القرآن ولا بغيرها؛ لقوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف: 204]، ولقول النبى صلى الله عليه وسلم فى الإمام: "إذا قرأ فأنصِتُوا". أخرجه الدارقطنى وقال: رواه سفيان الثورى وشعبة وإسرائيل بن يونس وشريك وأبو خالد الدالانى .. إلخ، عن عبد الله بن شداد مرسلا عن النبى صلى الله عليه وسلم. وذهب الحسن البصرى وأكثر أهل البصرة والمغيرة بن عبد الرحمن المدنى إلى أن قراءتها واجبة مرة واحدة فى كل صلاة؛ اعتمادًا على أن من فعل ذلك فقد قرأ بأم القرآن فى صلاته وذلك يجزئه.

والذى تطمئن إليه النفس أن الفاتحة واجبة فى الصلاة على كل مصلٍّ قادر على تلاوتها، ولم يثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم ولا أحدًا من خلفائه أو أصحابه أو التابعين لهم بإحسان صلى صلاة بغير قراءة الفاتحة فيها، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده.

تفسير سور ة الفاتحة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

فى افتتاح القرآن الكريم عامة وسوره بعد ذلك بهذه الآية الكريمة إرشاد لنا إلى أن نستفتح بها كل أقوالنا الطيبة وأعمالنا، وقد جاء فى الحديث: "كل أمر ذى بال لا يُبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع". وفى رواية: "أجذم"، وفى رواية: "أبتر"، وكلها بمعنى واحد. رواه أبو داود، وحسَّنه ابن الصلاح، وكأن المقصود بهذا الافتتاح: اقرأ مفتتحًا باسم الله الرحمن الرحيم، أو أعمل أو أقول مفتتحًا باسم الله الرحمن الرحيم.

والاسم ما دل على ذات من الذوات أو معنى من المعانى، ولفظ الجلالة الله عَلَم على ذات واجب الوجود، وهو آكد أسمائه سبحانه وأجمعها، وما عداه صفات له سبحانه، وتسند إليه تعالى أفعال هذه الصفات وتضاف إليه مصادرها، ويطلق عليها الأسماء الحسنى، وكل اسم منها صفة فى المعنى، وهو يدل على ذات الله تعالى وعلى الصفة التى اشتق منها. واسم الجلالة الأعظم يدل عليها كلها وعلى لوازمها الكمالية، وعلى تنزهه سبحانه عن أضدادها، فهو دال على اتصاف مسماه بجميع صفات الكمال وتنزهه عن جميع النقائص.

الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

صفتان لله تعالى مشتقتان من الرحمة بالمعنى الذى يليق بجلاله سبحانه، قال ابن القيم: وأما الجمع بين الرحمن الرحيم ففيه معنى بديع، وهو أن الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم، وكأن الأول الوصف والثانى الفعل؛ فالأول دال على أن الرحمة صفته أى صفة ذات له سبحانه، والثانى دال على أنه يرحم خلقه برحمته أى صفة فعل له سبحانه، فإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب: 43]، إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 117]. ولم يجيء قط رحمن بهم، فعلمت أن رحمن هو الموصوف بالرحمة ورحيم هو الراحم برحمته. وقال رحمه الله تعالى: هذه النكتة لا تكاد تجدها فى كتاب.

ولكن الشيخ محمد عبده -رحمه الله- ذهب إلى عكس ذلك فقال: والذى أقول: إن صيغة فعلان تدل على وصف فعلى، فيه معنى المبالغة كفعال، وهو فى استعمال اللغة للصفات العارضة كعطشان وغوثان وغضبان، وأما صيغة فعيل فإنها تدل على الاستعمال على المعانى الثابتة كالأخلاق والسجايا فى الناس؛ كعليم وحكيم وحليم وجميل، والقرآن لا يخرج عن الأسلوب العربى البليغ فى الحكاية عن صفات الله -عز وجل- التى تعلو عن مماثلة صفات المخلوقين؛ فلفظ الرحمن يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل وهى إفاضة النعم والإحسان، ولفظ الرحيم يدل على منشأ هذه الرحمة والإحسان، على أنها من الصفات الثابتة الواجبة.

وبهذا المعنى لا يستغنى بأحد الوصفين عن الآخر، ولا يكون الثانى مؤكدًا للأول، فإذا سمع العربى وصف الله -جل ثناؤه- بالرحمن وفهم منه أنه المفيض للنعم فعلا لا يعتقد منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائمًا؛ لأن الفعل قد ينقطع إذا لم يكن عن صفة لازمة ثابتة وإن كان كثيرًا، فعندما يسمع لفظ الرحيم يكمل اعتقاده على الوجه الذى يليق بالله تعالى ويرضيه سبحانه، ويعلم أن لله صفةً هى الرحمة التى عنها يكون أثرها، وإن كانت تلك الصفة على غير مثال صفات المخلوقين ويكون ذكرها بعد الرحمن كذكر الدليل بعد المدلول؛ ليقدم برهانًا عليه ، ولعل هذا الرأى الأخير هو الأقرب إلى قواعد اللغة وأساليبها.

وقد ذهب الشيخ محمد عبده فى رده على بعض المعترضين عليه وتوجيه كلامه هذا مذهبًا لطيفًا نورده هنا ملخصًا لجمال إشارته، قال: "إن احتمال التوكيد بذكر الصفتين معًا لنفى التعدد بعيد؛ لأنه لا علاقة بين التوحيد ومعنى الرحمة، ولم يسبق فى التاريخ أن أحدًا ذهب إلى أن الرحمن معبود والرحيم معبود آخر حتى يرد عليه بأنهما شىء واحد، ولكن الذى عرف هو قول النصارى فى ابتداء شئونهم باسم الأب والابن والروح القدس وهو فى زعمهم ثلاثة مختلفة الآحاد مع أنها واحد، فأراد الله أن يجعل للمسلمين فاتحة أعمال تحتوى على ثلاثة معان: الأول ذات، والآخران صفتان؛ فلفظ الجلالة هو الذات وهو يقابل الأب عندهم، والرحمن وصف الفعل المتجدد الصادر من فيض الكرم وهو يقابل الابن لزعمهم أنه منبثق من الذات،

والرحيم يدل على الصفة الثابتة للذات الأقدس وهى التى يرجع إليها الفعل المتجدد وباعتبارها يصدر ويتجدد، وهو يقابل روح القدس فإنه عندهم الصلة بين الأب والابن، وإن حاولوا ستر ذلك بضروب من العبارات، فأراد الكتاب أن يعلمنا كيف نضع التوحيد مكان التثليث، ونستبدل بألفاظ التشبيه خيرًا منها من ألفاظ التنزيه. ولا يفوتنا المعنى الذى يحتج بقصده من الأب والابن والروح القدس وهو معنى الرحمة وإفاضة النعمة، وهذا هو وجه تكرير هذه الفاتحة الكريمة فى كل سورة، والندب إلى الافتتاح بها فى كل عمل ذى بال".

أقول: لو قبل أهل الدين من النصارى هذا التفسير لانحلت أعظم عقدة تباعد بين عقيدتى المسيحية والإسلام.

ومجمل القول: أن جمهور المفسرين على أن معنى الرحمن المنعم بجلائل النعم، ومعنى الرحيم المنعم بدقائقها، وهو توجيه لا دليل عليه أو أنهما بمعنى واحد والثانى تأكيد للأول وهو رأى الجلال والصبان وبعض المفسرين وهو ضعيف؛ إذ أن الحق أنه لا توجد فى القرآن كلمة زائدة لغير معنى مقصود كما قال ابن جرير الطبرى، أو أن أحد الوصفين يدل على صفة الرحمة الثابتة له سبحانه، والثانى يدل على تجدد الأفعال المتعلقة بهذه الصفة وهو ما ذهب إليه ابن القيم والشيخ محمد عبده رحمهما الله، وهو الذى تستريح إليه النفس.

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

الْحَمْدُ الثناء الحسن الجميل، وهو يكون على مقدار علم الحامد بصفات المحمود، وكلما كان هذا العلم واسعًا شاملا كان الحامد أصدق حمدًا، ومن هنا وجب على المسلمين أن يجتهدوا فى استطلاع أسرار الكون وتعرف ما فيه من قوى وعجائب، ليستطيعوا بذلك أن يدركوا عظمة المكون إدراكًا صحيحًا، فيكون حمدهم إياه وثناؤهم عليه حمدًا صادقًا منشؤه الإدراك الحقيقى والشعور القلبى والتقدير العقلى لا مجرد التقليد اللفظى أو التعبد الوراثى. ومن هنا كان أعظم الحمد وأجل الثناء حمده سبحانه لنفسه "سبحانك لا نحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" .

وحمده سبحانه واجب لذاته؛ لأنه الموصوف بالكمالات كلها، المستحق للمحامد كلها، وإن أثارت الأسباب معانى هذا الحمد فى نفوس عباده؛ فالجائع يحمد عند الشبع، والظمآن يحمد عن الرى، والفقير يحمد مع الغنى، والجاهل يحمد عند العلم، والمحروم يحمد إذا أعطى الْحَمْدُ للهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [إبراهيم: 39] وهذا هو سر الجمع بين استحقاق الحمد وربوبيته سبحانه للعالمين.

رَبِّ الْعَالَمِينَ

قال البيضاوى : الرب فى الأصل مصدر بمعنى التربية، وهى تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا، ثم وصف به للمبالغة ثم سمى به المالك؛ لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه، ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيدًا أو مضافًا . وقال الراغب: الرب فى الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام، ولا يقال الرب مطلقًا إلا لله تعالى .

و الْعَالَمِينَ جمع عَالَم، قيل: المراد به الناس خاصة على حد قوله تعالى: لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان: 1] وقيل: بل أهل العلم والإدراك من الخلق من الملائكة والإنس والجن. وقيل: كل جملة متميزة لأفرادها صفات تقربها من العاقل فهى عالم، ولهذا جمعت على هذا النحو، ومنه عالم الإنسان، وعالم النبات، وعالم الحيوان، ولا يقال عالم الحجر أو الجبال أو نحوها من الجمادات. وقيل: بل المراد بالعالمين جميع أجناس المخلوقات على حد قوله تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنْتُم مُّوقِنِينَ [الشعراء: 23-24] ولعل أولى الأقوال بالصواب أن يقال: إن هذه المعانى جميعًا تراد بهذا اللفظ بحسب القرينة، والمراد هنا المعنى الأخير؛ فإنه سبحانه مربى الخلائق جميعًا.

والتربية الإلهية للخلق جميعًا واضحة فى كل مظاهر هذه العوالم دقيقها وجليلها؛ فالجمادات يربيها الخالق سبحانه بهذه النواميس الكونية التى لا تتخلف من التفاعل والتحليل والتركيب والامتزاج والاتحاد والتحول. وصنوف النبات يتضح فيها معنى التربية الإلهية بشكل أوضح مما فى الجماد؛ لما فيها من معانى الحياة ومباديها؛ فالجنين النباتى يظل مستجنًا فى البذرة حتى يجد التربة الصالحة فينمو ويتحرك ويتغذى بما حوله من المواد الغذائية التى جهزت لهذا الغرض، فتكون له بمثابة الثدى فى الحيوان، حتى إذا نما وكبر تشبث بالأرض وامتص منها غذاءه ونما وازداد فى تركيب غريب ووضع دقيق عجيب، ويظهر على وجه الأرض نبتة تتحول إلى شجيرة فشجرة ذات أغصان وأوراق وثمار تتأثر وتتنفس وتتغذى وتحمل وتنتج الثمرات.

والحيوان على اختلاف فصائله والإنسان يربيهما الخالق -جل وعلا- فى كل أطوار الحياة من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى الهيكل العظمى، فالتكوين التام الكامل، فالوضع والرضاع والنمو والكبر، مع تيسير أسباب البقاء والمحافظة التامة على صيانة الأجهزة والأعضاء، والإمداد بعد ذلك بأسباب المعارف والمدركات المتنوعة والعواطف والمشاعر والوجدانات المختلفة؛ حتى يستطيع أن يميز بين الحسن وغيره، ويتذوق معانى الخير والحق والجمال. وما من شىء يظن القاصرون أنه ليس بذى بال إلا وله من الحكم الجليلة والفوائد العظيمة ما تتحير معه الألباب، وهذا الباب من تربية الله -تبارك وتعالى- لا ينتهى مداه ولو كتبت فيه المجلدات؛ ففيه أسرار الكون، ودقائق الصنع المتصلة بجميع الخلق وغرائب الإبداع فى نواميس هذا العالم الذى لم يصل العقل الإنسانى فى الإحاطة بها إلى النَزْر اليسير ولا زال أمامه الجم الكثير، وهذه الآية الكريمة من جوامع الكلم ولا شك، فقد أشارت واحتملت هذه المعانى كلها فى هذه الألفاظ الأربعة اليسيرة.

الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قال فى تفسير المنار ملخصه: النكتة فى إعادة ذكرها ظاهرة، وهى أن تربية الله للعالمين ليست لحاجة به إليهم كجلب منفعة أو دفع مضرة، وإنما هى لعموم رحمته وشمول إحسانه.

وثَمَّ نكتة أخرى؛ وهى أن البعض يفهم من معنى الرب الجبروت والقهر، فأراد الله أن يذكرهم برحمته وإحسانه ليجمعوا بين اعتقاد الجلال والجمال، فذكر الرحمن وهو المفيض للنعم بسعة وتجدد لا منتهى لهما، والرحيم الثابت له وصف الرحمة لا يزايله أبدًا، فكأن الله تعالى أراد أن يتحبب إلى عباده، فعرفهم أن ربوبيته ربوبية رحمة وإحسان؛ ليعلموا أن هذه الصفة هى التى ربما يرجع إليها معنى الصفات فيقبلوا على اكتساب مرضاته، منشرحة صدورهم مطمئنة قلوبهم، ولا ينافى عموم الرحمة وسبقها ما شرعه الله من العقوبات فى الدنيا وما أعده من العذاب فى الآخرة للذين يتعدون الحدود وينتهكون الحرمات. فإنه وإن سمى قهرًا بالنسبة لصورته ومظهره فهو فى حقيقته وغايته من الرحمة؛ لأن فيه تربية للناس وزجرًا لهم عن الوقوع فيما يخرج عن حدود الشريعة الإلهية، وفى الانحرافات عنها شقاؤهم وبلاؤهم، وفى الوقوف عندها سعادتهم ونعيمهم. والوالد الرءوف يربى ولده بالترغيب فيما ينفعه والإحسان إليه إذا قام به، وربما لجأ إلى الترهيب والعقوبة إذا اقتضت ذلك الحال، ولله المثل الأعلى، لا إله إلا هو وإليه يرجعون .

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ

تقرئ مَالِك ومَلِك ، ولكل من القراءتين شواهد فى كتاب الله: يشهد للأولى قوله تعالى: يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ [الانفطار: 19] ويشهد للثانية قوله تعالى: لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16].

والدين: الحساب والمكافأة والجزاء، وهو أنسب المعانى فى الآية الكريمة. ويوم الدين هو يوم البعث الأكبر للحساب والجزاء يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران: 30] ولما كانت الرحمة ليست السبيل الوحيد إلى التربية بل لا بد معها من الجزاء حتى يجتمع الترهيب إلى الترغيب ناسب أن يذكر الله خلقه بدقيق محاسبته بعد أن ذكرهم بمظاهر رحمته حتى يتمثلوا دائمًا أن رب العالمين الرحمن الرحيم هو مالك يوم الدين كذلك، الذى سيحاسبهم ويدينهم بما يفعلون. والبر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، اعمل ما شئت فكما تدين تدان. وهو أسلوب القرآن الكريم دائمًا؛ كما قال تبارك وتعالى: نَبِّئْ عِبَادِى أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر: 49-50].

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ

تفسر العبادة لغة بأنها الطاعة مع غاية الخضوع ، ولكن هذا التفسير اللغوى لا يؤدى المعنى المقصود بالعبادة بالضبط، ولا يزال المرء يشعر بأنه فى حاجة إلى تعريف أوفى وأدق وأشفى للنفس؛ فقد يطيع الناس الرؤساء والكبراء طاعة تامة مع غاية الخضوع ولا يقال: إنهم عبدوهم بذلك.

والعبادة غير العبودية ولا بد من تفريق بينهما، يشعر بذلك الذوق السليم والطبع المستقيم. وقد ألَمَّ الأستاذ الشيخ محمد عبده فى تفسيره بهذا المعنى إلمامًا جميلا، وصوَّر معنى العبادة تصويرًا بديعًا يطمئن به القلب فقال: "يغلو العاشق فى تعظيم معشوقه والخضوع له غلوًّا كبيرًا حتى يفنى هواه فى هواه، وتذوب إرادته فى إرادته، ومع ذلك لا يسمى خضوعه هذا عبادة بالحقيقة، ويبالغ كثير من الناس فى تعظيم الرؤساء والملوك والأمراء، فترى من خضوعهم لهم وتحريهم مرضاتهم ما لا تراه من المتحنثين القانتين، دع سائر العابدين.

ولم يكن العرب يسمون شيئًا من هذا الخضوع عبادة، فما هى العبادة إذن؟ تدل الأساليب الصحيحة والاستعمال العربى الصراح على أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية، ناشئ عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها، واعتقاده بسلطة له لا يدرك كنهها وماهيتها، وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به ولكنها فوق إدراكه.

للعبادة صور كثيرة فى كل دين من الأديان شرعت؛ لتذكير الإنسان بذلك الشعور بالسلطان الإلهى الأعلى الذى هو روح العبادة وسرها، ولكل عبادة من العبادات الصحيحة أثر فى تقويم أخلاق القائم بها وتهذيب نفسه، والأثر إنما يكون عن ذلك الروح والشعور الذى قلنا إنه منشأ التعظيم والخضوع، فإذا وجدت صورة العبادة خالية من هذا المعنى لم تكن عبادة، كما أن صورة الإنسان وتمثاله ليس إنسانًا".

هذا أقوله ملخصًا، وهو كلام بديع كما ترى يجعل حقيقة العبادة مبعث التعظيم فى القلب لا صورته التى تمثلها الجوارح.

والاستعانة طلب المعونة لإزالة العجز والمساعدة على إتمام ما يعجز المستعين عن أدائه أو إتمامه بنفسه، وهى فى الأمور العادية التى تدخل فى حيز قدرة الإنسان وتصرفه جائزة بين الناس، بل هى من المقربات التى يتقرب بها المرء إلى الله تبارك وتعالى "والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه" .

لأنها من الأسباب المشروعة المسنونة لإتمام الأعمال وأدائها، ولكن الاستعانة فى الأمور الخاصة بالله تبارك وتعالى والتى لا يصح أن تطلب من أحد سواه، وهى ما يجاوز حد القدرة البشرية كطلب الشفاء بعد استخدام الدواء، وكطلب النصر على الأعداء بعد إعداد العدة وبذل المستطاع، وكالاستعاذة بالله من الحوائج والآفات وصنوف البلاء، إلى غير ذلك مما هو فى يد الله وحده، ولا يقدر عليه إلا مدبر الأمر فى الأرض وفى السماء.

العبادة والاستعانة بهذا المعنى لا تكونان إلا لله وبالله وحده تبارك وتعالى، ولهذا قدم الضمير وإِيَّاكَ ليدل على الاختصاص كما يقول أهل اللغة، وكل المظاهر التى تدل على العبادة شرعًا حسية أو معنوية لا يجوز أن تكون إلا لله؛ كالصلاة والركوع والسجود والنذر والقربان والحلف والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والمحبة والرغبة والرهبة والتأله والتذلل... إلخ.

كما أن مظاهر الاستعانة التى اختصها الشرع بالله -تبارك وتعالى- لا يصح أن تصرف لغيره؛ كالدعاء والاستغاثة واستمداد الحول والقوة وطلب قضاء الحاجات. إلخ، وبذلك يسلم للمؤمن دينه، ويكمل إيمانه ويقينه، ويسلم من لوثات الشرك الأكبر والأصغر، ويجتمع له توحيد الألوهية والربوبية معًا، والتوفيق بيد الله.

والآية من جوامع الكلم؛ لأنها إشارات إلى خلاصة ما جاءت له الرسالات كلها وبعث به الرسل جميعًا من حقوق الله وجميل فضله على خلقه، وليس الدين أكثر من إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ الأولى بداية المعرفة، والثانية ثمرتها، وبينهما منازل ودرجات لا يقطعها إلا المقربون.

ولقد ألف الشيخ إسماعيل الهروى رسالة لطيفة أسماها "منازل السائرين بين إياك نعبد وإياك نستعين"، ألَمَّ فيها ببعض ذلك وأشار إليه، وشرحها ابن القيم فى سفر كبير أسماه "مدارج السالكين إلى منازل السائرين" هو من خير ما كتب فى علوم الأخلاق وأدب النفوس وتربيتها بأسلوب الصوفية من السلف الصالح رضوان الله عليهم.

ومن اللطائف اللفظية فى الآية الكريمة أن كلمة الاستعانة تشعر بوجوب العمل والأخذ فى الأسباب؛ لأن الاستعانة هى طلب العون من الله على أداء عمل أو إتمامه، فلا بد للإنسان إذن من أن يأخذ بالأسباب ويَجِد فى الأعمال، ثم يطلب المساعدة والمعونة من الله تبارك وتعالى.

ومن كلام عمر رضى الله عنه: "لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق وهو يقول: اللهم ارزقنى، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة".

وفى هذا تكريم للإنسان يجعل العمل المتصل به أساسًا فى كل ما يحتاج إليه .

وقد ذهب بعض المفسرين إلى قصر طلب الاستعانة على التوفيق فى العبادة، استئناسًا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ بيد معاذ رضى الله عنه وقال له: "واللهِ إنى لأُحبُّكَ، أوصِيكَ يا مُعاذُ: لا تدعَنَّ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ أن تقولَ: اللهمَّ أعِنِّى على ذِكرِك وشُكرِكَ وحُسنِ عِبادَتِكَ" .

ولكن هذا التخصيص لا معنى له، وإن كان أفضل الاستعانة -ولا شك- ما كان على الطاعة والخير وحسن عبادة الله.

اهْدِنَا الصِرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ

الصراط: الطريق، والمستقيم: المعتدل. والآية من جوامع الكلم كذلك؛ فإن الإنسان فى حاجة إلى الهداية وإلى الصراط المستقيم فى كل قول وعمل وفكرة وخاطرة؛ لأنه فى كل ذلك بين إفراط وتفريط وكلاهما ضار، والنافع المفيد دائمًا هو الحد الوسط وهو الصراط المستقيم الذى نطلب الهداية إليه من الله -تبارك وتعالى- بهذه الآية، وهو من الدين ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه بغير زيادة عليه ولا انتقاص منه ولا انحراف عنه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف: 108]، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام: 153]، وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى: 52-53].

وعن النواس بن سمعان رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ -تبارَكَ وتعالى- ضرَبَ مثلا صِراطًا مستقيمًا على كَتِفَى الصِّرَاط دَارَان".

وهو فى رواية: "سورانِ لهما أبواب مُفَتَّحةٌ، على الأبوابِ ستورٌ، وداعٍ يدعو على رأسِ الصراطِ، وداعٍ يدعو فَوْقه، واللهُ يدعُو إلى دارِ السَّلامِ ويَهدى مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مستقيم؛ فالأبوابُ التى على كَتِفى الصراطِ حدودُ اللهِ تعالى، فلا يقعُ فى حُدودِ الله تعالى حتى يُكْشَّفُ السترُ، والذى يدعُو مِن فَوْقِه واعظُ رَبِّه" . أخرجه الترمذى، وفسره رزين فى حديث رواه عن ابن مسعود رضى الله عنه: أن الصراط هو الإسلام، وأن الأبواب محارم الله، والداعى على رأس الصراط هو القرآن، والداعى فوقه واعظ الله تعالى فى قلب كل مؤمن.

ولقد منح الله الإنسان أربع وسائل للهداية تتدرج مع أفراده ونوعه بتدرج نموهم واستعدادهم؛ فالوسيلة الأولى: الوجدان الطبيعى والإلهام الفطرى، وهذا يكون مع الطفل منذ ولادته؛ ألا تراه يشعر بالحاجة إلى الغذاء فيلتقم الثدى ويمتصه بحركة آلية فطرية لا تفكير معها ولا تدبير.

والثانية: الحواس والمشاعر التى تنمو بنمو الإنسان من السمع والبصر والذوق والشم والحس، وهى عرضة للخطأ فى كثير من الأحيان. والثالثة: العقل بقواه المختلفة من الإدراك والفكر والخيال والحفظ والذكر... إلخ، وهو مصدر الحكم ومناط التكليف فى الإنسان، وبه تصحح أخطاء الحواس وتدرك حقائق الأشياء فى الحسيات والمعنويات على السواء. والرابعة: الدين والإرشاد الإلهى والرسالات السماوية مع الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

هذه الوسائل جميعًا قد يضل الإنسان فى استخدامها ولا يستطيع الاستفادة منها والانتفاع بها، فقد تقصر حواسه فى الإلمام بالمحسات، وقد يضعف عقله بالعلل والآفات أو الأغراض والشهوات عن الوصول إلى الحقيقة، وقد ينحرف عن الدين لجهالة به أو إعراض عنه أو غير ذلك من الأسباب، ولهذا شرع لنا الله -تبارك وتعالى- أن نسأله الهداية إلى الصراط المستقيم فى هذه الوسائل كلها، فلا تقصر حواسنا ولا تضعف عقولنا ولا نحيد فى فهم الدين والفقه فيه عن الحق وجادة الصواب.

واستقصاء مدلول الصراط المستقيم فى جميع الأقوال والأفعال غير ممكن؛ لأنه الحد الوسط فى كل قول وفعل كما تقدم، وفى هذا الإيجاز منتهى الإعجاز، والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.

صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ

فى هذه الآية الكريمة ثلاثة أصناف من الناس، هم: الذين أنعم الله عليهم، والمغضوب عليهم، والضالون.

قال بعض المفسرين: الذين أنعم الله عليهم هم المؤمنون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أو غيرها من الأمم السابقة، والمغضوب عليهم: هم اليهود الذين انحرفوا عن هدى التوراة، والضالون هم النصارى الذين لم يستمسكوا بتعاليم الإنجيل الصحيح، وقد وردت بذلك بعض الآثار.

كما قال بعض المفسرين: المغضوب عليهم بالبدعة، والضالون عن السنة، ولا مبرر لهذا التخصيص إلا أن يكون ذلك على سبيل التمثيل فقط.

ولعل أجمع ما يقال فى ذلك وأوفاه أن الذين أنعم الله عليهم هم الذين عرفوا الحق ووفقهم الله إلى اتباعه فاهتدوا بذلك إلى الصراط المستقيم، وأن المغضوب عليهم هم الذين عرفوا الحق ثم أعرضوا عنه من أى دين كانوا وفى أى زمن وجدوا.

ولا شك أن هذا الإعراض دليل غضب الله -تبارك وتعالى- عليهم، وأن الضالين هم الذين غفلوا عن الحق وتاهوا فى أودية الضلال، أو الذين يتلمسون الحق فلا يهتدون إليه من أى دين كانوا وفى أى زمان وجدوا كذلك. وإن الله -تبارك وتعالى- أرشدنا إلى أن نسأله الهداية إلى سنن الصنف الأول من الذين أنعم الله عليهم، وأن نبرأ إليه من الصنفين الآخرين؛ فكلاهما هالك والعياذ بالله.

روى أبو عبيد القاسم بن سلام فى كتاب "فضائل القرآن" عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه كان يقرأ غير المغضوب عليهم وغير الضالين، وكذلك حكى عن أبى بن كعب رضى الله عنه، وذلك محمول على أنهما كانا يقصدان بذلك التفسير لا التلاوة؛ إذ إنه من غير المعقول أن يخالفا إجماع الصحابة فى تلاوة سورة الفاتحة التى تقرأ فى كل صلاة، وعمر أمير المؤمنين يقرأ بها فى صلاته بهم، وإمامته إياهم صباح مساء!! .

آمين

آمين: ليست من الفاتحة بإجماع، ومعناها: اللهم استجب لنا. ونقل القرطبى عن الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما معنى آمين؟ قال: "رَبِّ افْعَلْ".

وقال مقاتل: هو قوة للدعاء واستنزال للبركة. وقال الترمذى: معناه لا تخيب رجاءنا، وكلها بمعنى قريب هو طلب الاستجابة. وأبعد قوم بالنجعة فقالوا: آمين لفظ غير عربى منحوت من الاسم المصرى القديم آمنون، ولا دليل على ما يزعمون.

وآمين بعد تلاوة الفاتحة فى الصلاة وفى غيرها من السنة. عن وائل بن حجر قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قرأ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ فقال: "آمين" يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ.

وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمَّنَ الإمَامُ فأمِّنُوا؛ فإنَّ مَنْ وَافق تأمينُه تأمينَ الملائكةِ غُفِرَ له ما تقدَّمَ مِنْ ذَنْبِه" .

وقال ابن شهاب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: آمين. رواه الجماعة إلا الترمذى؛ لم يذكر قول ابن شهاب. وعن أبى هريرة قال: "كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال: آمين، حتى يُسْمِعَ مَن يَليِه مِنَ الصَّفِّ الأول، فيرتجُّ بِهَا المسجِد .

وإلى مشروعية التأمين جهرًا للإمام والمأموم ذهب الشافعى ومالك فى رواية المدنيين، وقال أبو حنيفة وبعض المدنيين والطبرى: لا يجهر بها.

وروى ابن القاسم عن مالك -وهو مذهب المصريين من المالكية- أن الإمام لا يؤمن، محتجين بحديث أبى موسى رضى الله عنه قال: إن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبنَا فبيَّنَ لنا سُنَّتنَا وعلَّمنَا صلاتَنا، فقال: "إذا صَلَّيتُم فأقيمُوا صُفُوفكم، ثم ليؤمكم أحدُكم، فإذا كَبَّرَ فكبِّرُوا، وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضَّالين فقولوا: آمين يُجبكم الله" . أخرجه مسلم.

والسكوت عن ذكر الإمام فى التأمين هنا لا يَنهض حجة أمام صريح الأحاديث التى جاء فيها ذكر تأمين الإمام.

والتأمين مستحب بعد كل دعاء؛ روى أبو داود عن أبى مصبح المقرائى قال: كنا نجلس إلى أبى زهير النميرى -وكان من الصحابة- فيحدث أحسن الحديث، فإذا دعا الرجل منا بدعاء قال: اختمه بآمين؛ فإن آمين مثل الطابع على الصحيفة.

قال أبو زهير: ألا أخبركم عن ذلك؟ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فأتينا على رجل قد ألح فى المسألة، فوقف النبى صلى الله عليه وسلم يسمع منه، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "أوْجَبَ إن خَتَمَ". فقال له رجل من القوم: بأىِّ شىءٍ يختِمُ؟ قال: بآمين؛ فإنه إن خَتَمَ بآمين فَقَدْ أوْجَبَ".

فانصرف الرجل الذى سأل النبى صلى الله عليه وسلم، فأتى الرجلَ فقال له: اخْتِمْ يا فُلانُ وأبْشر" .

ولا جرم أن آمين براعة مقطع فى غاية الجمال والحسن؛ وأى شىء أولى بهذه البراعة من فاتحة الكتاب والتوجه إلى الله بالدعاء.

تناسب وإنعام

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر: 17] ولا شك أن من تدبر الفاتحة الكريمة -وكل مؤمن مطالب بتدبرها فى تلاوته عامة وفى صلاته خاصة- رأى من غزارة المعانى وجمالها، وروعة التناسب وجلاله ما يأخذ بلُبِّه، ويضيء جوانب قلبه؛ فهو يبتدئ ذاكرًا تاليًا متيمنًا باسم الله الموصوف بالرحمة التى تظهر آثار رحمته متجددة فى كل شىء، مستشعرًا أن أساس الصلة بينه وبين خالقه العظيم هو هذه الرحمة التى وسعت كل شىء، فإذا استشعر هذا المعنى ووقر فى نفسه انطلق لسانه بحمد هذا الإله الرحمن الرحيم، وذكره الحمد بعظيم نعمه وكريم فضله وعظيم آلائه البادية فى تربيته للعوالم جميعًا، فأجال بصيرته فى هذا المحيط الذى لا ساحل له، ثم تذكر من جديد أن هذه النعم الجزيلة والتربية الجليلة ليست عن رغبة ولا رهبة، ولكنها عن تفضل ورحمة، فنطق لسانه مرة ثانية بالرحمن الرحيم، ولكن من كمال هذا الإله العظيم أن يقرن الرحمة بالعدل، ويذكر بالحساب بعد الفضل؛ فهو مع رحمته السابغة المتجددة سيدين عباده ويحاسب خلقه يوم الدين يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ [الانفطار: 19] فتربيته لخلقه قائمة على الترغيب بالرحمة، والترهيب بالعدالة والحساب.

وإذا كان الأمر كذلك فقد أصبح العبد مكلفًا بتحرى الخير والبحث عن وسائل النجاة، وهو فى هذا أشد ما يكون حاجة إلى من يهديه سواء السبيل، ويرشده إلى الصراط المستقيم وليس أولى به فى ذلك من خالقه ومولاه، فليلجأ إليه وليعتمد عليه وليخاطبه بقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وليسأله الهداية من فضله إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم بمعرفة الحق واتباعه، غير المغضوب عليهم بالسلب بعد العطاء والنكوص بعد الاهتداء، وغير الضالين التائهين الذين يضلون عن الحق أو يريدون الوصول إليه فلا يوفقون للعثور عليه، آمين.

فهل رأيت تناسبًا أدق أو ارتباطًا أوثق مما تراه بين معانى هذه الآيات الكريمات؟ وتذكر وأنت تهيم فى أودية هذا الجمال ما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه فى الحديث القدسى الذى أوردناه آنفًا: "قسمت الصلاة بَيْنى وبَيْن عَبدى".

وأدم هذا التدبر والإنعام، واجتهد أن تقرأ فى الصلاة أو غيرها على مكث وتمهل وخشوع وتذلل، وأن تقف على رؤوس الآيات، وتعطى التلاوة حقها من التجويد والنغمات من غير تكلف ولا تطريب أو اشتغال بالألفاظ عن المعانى، مع رفع الصوت المعتدل فى التلاوة العادية أو الصلاة الجهرية؛ فإن ذلك يعين على الفهم ويثير ما غاض من شآبيب الدمع، وما نفع القلب شىء أفضل من تلاوة فى تدبر وخشوع.

المصادر

1- مجلة الشهاب – السنة الأولى – العدد 1 – صـ10 : 23 – 1 محرم 1367هـ / 14نوفمبر 1947م.

2- مجلة الشهاب – السنة الأولى ،/ عام 1367هـ /الموافق 1948م.

3- مجلة الشهاب – السنة الأولى – العدد 2 – صـ10 : 23 – غرة صفر 1367هـ / 14 ديسمبر 1947م.

  • ومن المعروف أن الإمام حسن البنا قام بتفسير سورة البقرة والرعد وغيرها من سور القرآن