الإمام حسن البنا وموقفه من قضية الدين والسياسة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإمام حسن البنا وموقفه من قضية الدين والسياسة

06/02/2010

د/ محمد عبد الله الخطيب

جاء في الأثر "مَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"، ويقول الإمام البنا- رحمه الله-: "قلما تجد إنسانًا يتحدث إليك عن السياسة والإسلام إلا وجدته يفصل بينهما فصلاً، ويضع كل واحد من المعنيين في جانب، فهما عند بعض الناس لا يلتقيان ولا يجتمعان، ومن هنا سُميت هذه جمعية إسلامية لا سياسية؛ وذلك اجتماع ديني لا سياسة فيه، ورأيت في صدر قوانين الجمعيات الإسلامية ومناهجها (لا تتعرض الجمعية للشئون السياسية)".

لكن نحب أن نُوضِّح للإخوة الأحباب من أين جاءت هذه الشبهة؟ وأين نبتت تلك الفرية؟

إن قصة العزلة بين الدين والدنيا أو بين الدين والسياسة لم تنبت أبدًا في بلاد العالم الإسلامي، ولم يعرفها الإسلام وعبارات تخدير الدين للمشاعر، والدين أفيون الشعوب أكاذيب لم تكن يومًا من الأيام وليدة هذا الدين أبدًا، ولم تعرفها نظمه أو طبيعته، لكنها من الأمور المستوردة والمسلمين لا يحاولون التفتيش عن أصلها والبحث عن مصدرها ونشأتها.

لقد نشأت هذه العزلة في الغرب، وانصرف رجال الدين إلى محاولات الإصلاح من جانب والتطهير الروحي والوجداني من جانبٍ آخر؛ أي أن قضية العزلة بين الدين والحياة أو بين الدين والسياسة بعيدة كل البعد عن الإسلام ونظامه.

يقول الإمام البنا في سبب العزلة بين الدين والسياسة: "إن غير المسلمين حينما جهلوا هذا الإسلام، أو حينما أعياهم أمره وثباته في نفوس أتباعه ورسوخه في قلوب المؤمنين به، واستعداد كل مسلم لتفديته بالنفس والمال، ولم يحاولوا أن يجرحوا في نفوس المسلمين اسم الإسلام ولا مظاهره وشكلياته ولكنهم حاولوا أن يحصروا معناه في دائرة ضيقة تذهب بكل ما فيه من نواحٍ قويةٍ عملية، وإن تُركت للمسلمين بعد ذلك قشورًا من الألقاب والأشكال والمظهريات لا تسمن ولا تغني من جوع.. فأفهموا المسلمين أن الإسلام شيء والاجتماع شيء آخر، وأن الإسلام شيء والقانون شيء آخر، وأن الإسلام شيء ومسائل الاقتصاد لا تتصل به، وأن الإسلام شيء والثقافة العامة سواه، وأن الإسلام شيء يجب أن يكون بعيدًا عن السياسة.

يقول الشاعر:

فقل لمَن ظنَّ أن الدينَ منفصلٌ................... عن السياسة خذيًا غِرّ برهانا

هل كان أحمد يومًا جِلْسَ صومعة.................. أو كان أصحابه في الدين رهبانا

يرضى النبي أبا بكر لدينهمو.................. فيعلن الجمع نرضاه لدنيانا

لقد رأى القوم في الغرب أن الدين لا يصلح للحياة فقالوا: الدين صلة بين العبد والرب، واتسعت هذه القضية فيما بينهم ما شاء لها أن تتسع، وهم أحرار في مفاهيمهم كما يشاءون، لكن ما بالنا نحن المسلمين وهذا كله، وحياتنا في ظلِّ الإسلام من أوله إلى آخره تقول غير هذا، وأيضًا طبيعة تاريخنا تقول إن طبيعة الإسلام وظروفه ليست في شيء من هذا جميعه، ولقد نشأ الإسلام بأرض وصحراء وبيداء لا سلطان لإمبراطوريات ولا لملوك عليها، نشأ الإسلام في مجتمعٍ بدوي قبلي ليست به أوضاع أو قوانين من نوعٍ ما كان في الإمبراطورية الرومانية مثلاً، وكان هذا أنسب وضع لهذا الدين في نشأته الأولى ليصنع المجتمع الحرَّ الذي يريده نموذجًا بلا ضغط ولا عوائق، ويصنعه صناعةً ربانيةً من نوعٍ جديدٍ في كل شيء يتولى القرآن ضميره وروحه، كما يتولى سلوكه ومعاملاته وقوانينه ونظمه.. مجتمع يجمع بين الدين والدنيا، وبين الدنيا والآخرة، في توجيهاته وتشريعاته، مجتمع قد قام على أساس توحيد عالم الأرض وعالم السماء في نظامٍ واحدٍ يعيش في ضمير الفرد، كما يعيش في واقع الحياة لا ينفصل فيه النشاط العملي عن الوازع الديني.

إن دين الإسلام العالمي الرباني لا يمكن أبدًا عزله عن الحياة، ووضعه في المتحف أو على الأرفف أو مطاردته ليدخل المسجد فقط، فلا يخرج منه وأحكامه وشرائعه ونظمه مبعدة عن الحياة.

يقول الإمام البنا: "وأعتقد أن أسلافنا- رضوان الله عليهم- ما فهموا للإسلام معنى غير هذا؛ فبه كانوا يحكمون، وله كانوا يجاهدون، وعلى قواعده كانوا يتعاملون، وفي حدوده كانوا يسيرون في كل شأن من شئون الحياة الدنيا العملية قبل شئون الآخرة الروحية، ورحم الله الخليفة الأول إذْ يقول: لو ضاع مني عقال بعيرٍ لوجدته في كتاب الله".

ويقول رحمه الله أيضًا: "بعد هذا التحديد العام لمعنى الإسلام الشامل ولمعنى السياسة المجردة عن الحزبية أستطيع أن أجهر في صراحةٍ بأن المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسيًّا، بعيد النظر في شئون أمته، مهتمًا بها غيورًا عليها" (راجع نظرات في رسالة التعاليم صـ299).

إن الإسلام الحنيف يعتبر العبادة هي الحياة كلها خاضعة لشريعة الله متوجهًا بكل نشاط فيها إلى الله، ومن ثم يعد كل خدمة اجتماعية، وكل عمل من أعمال الخير فيه عبادة، يقول- صلى الله عليه وسلم-: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار" (رواه الشيخان).

والإسلام لا وساطةَ فيه بين الخلق والخالق، فكل مسلم في أطراف الأرض وفجاج البحر يستطيع بمفرده أن يتصل بربه، وأن يقف ببابه، وما عليه إلا أن يتوضأ ويتطهر ثم يقول: يا رب: يطلب ما يشاء بلا أي واسطة.. والإمام المسلم في نظام الإسلام لا يستمد ولايته من "الحق الإلهي"، ولا يكون أبدًا واسطة بين الله والناس إنما يستمد ولايته ووجوده من الأمة.

إذن ليس في الإسلام رجل دين ورجل دنيا، ورجل الدين بهذا المفهوم الخاطئ يراد به ألا يعرف شيئًا عن الدنيا أو أحوالها ولا يبدي رأيًّا فيها، وليس في الإسلام أيضًا رجل دنيا معفر بترابها غارق في شهواتها، لكن الإسلام يريده أن يعمل للدنيا ولا ينسى الآخرة.. قال تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37)﴾ (النور).

لكن على وجه اليقين نقول: إن في الإسلام علماء بالدين يفسرونه ويبينونه للناس، وليس للعالم بهذا الدين حق خاص في رقاب المسلمين أو غيرهم، وليس للحاكم أو الأمير في رقابهم إلا تطبيق الشريعة والحكم بما أنزل الله وقيادتهم إلى مرضاة الله والسير بهم على الصراط المستقيم وحراستهم، ولله در القائل: "لو عثرة بغلة بشط العراق لسئلت عنها بين يدي الله لما لم أسو لها الطريق".

أرسلت امرأة من الجيزة بمصر تسمى (فرتونة السوداء) رسالة إلى عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه- تقول له: إن حوائط بيتي قصيرة وإن دجاجي يقفز من فوقها، وأنا امرأة عجوز، وقرأ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الرسالة، وأرسل من فوره إلى وإليه بمصر يقول له: إذا أتتك رسالتي فقم من فورك، واذهب إلى الجيزة وابحث عن (فرتونة السوداء)، فتعلى لها حوائطها وتخبرني بما فعلت: ووصلت الرسالة إلى واليه بمصر فقام من فوره وذهب إلى الجيزة، وسأل عن المرأة حتى وجدها؛ امرأة عجوز سوداء مسنة فأعلى لها حوائطها في الحال وحفظ لها دجاجها الذي يتفلت منها.

هذه صورة الحاكم في الإسلام فهو ولى الضعيف أولاً ونصير العاجز أولاً لا يرضى له إلا بالراحة والاطمئنان، وكان عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه- يخرج متخفيًا، ويقابل الذين قدموا من الريف فيسألهم وهم لا يعرفونه يقول لهم: كيف حال البلاد والعباد؟ فيقولون تركناهم الظالم بها مقهور والمظلوم منصور والغني موفور والفقير مجبور.

فيلتفت عمر إلى مزاحم، ويقول له: هذه كلمات ما يسرني أن لي بها الدنيا"، وكان عمر يقف ومعه مزاحم هذا التابع وقريب منهم البرذون- الفرس- الذي يركبه عمر فقال عمر لمزاحم: كيف حال الناس؟ قال: يا أمير المؤمنين كل الناس في راحة واستقرار وطمأنينة إلا أنا وأنت، وهذا البرذون نتحمل المشقات والسهر.. فضحك عمر- رضي الله عنه-، وجاءته هدية يومًا من الأردن فسأل: على أي شيء حملتموها؟ قالوا: حملناها على دواب البريد. فقال: ليست هذه مهمتها لقد شققتم عليها، بيعوا هذه الهدية واشتروا بثمنها علفًا وأطعموا هذه الدواب التي حملتموها.

أرأيت إلى هذه العظمة؟! هل سمعت عن هذا العدل؟! هل اشتقت إليه؟ إنه الإسلام الذي شرفنا الله به وكرمنا به ورفع شأننا به.

الإمام البنا وموقفه من قضية الدين والسياسة

يقول الإمام البنا: يجب أن نعلم أن السياسة الإسلامية نفسها لا تنافي أبدًا الحكم الدستوري الشورى فهي واضعة أصله ومرشدة الناس إليه في قوله تعالى في أوصاف المؤمنين ﴿وَأَمرُهُم شُورَى بَينَهُم﴾ (الشورى: من الآية 38)، وقوله تعالى: ﴿وَشَاوِرهُم في الأَمرِ فَإِذَا عَزَمتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران: من الآية 159).

وقد كان صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه وينزل على رأي الفرد منهم متى وضح له صوابه، كما فعل ذلك مع الحباب بن المنذر في غزوة بدر، ويقول لأبي بكر وعمر "لو اجتمعتما ما خالفتكما"، وكذلك ترك عمر الأمر شورى بين المسلمين، وما زال المسلمون بخير ما كان أمرهم شورى بينهم.

فلنحرص عليه جميعًا، ولنتفانى في تطبيقه وتنفيذه، ولنقف بباب الله نطرقه ونديم الطرق والرجاء والدعاء؛ لعل الحق تبارك وتعالى يرضى عنا وعنكم وعن جميع المسلمين على ظهر الأرض.. اللهم آمين.


المصدر

نافذة مصر