الإستعمار المحلي.. دولة علمانية قطرية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإستعمار المحلي.. دولة علمانية قطرية



بقلم: د. رفيق حبيب

الإستعمار المحلي.. دولة علمانية قطرية

تبنَّت النخب الحاكمة في المنطقة العربية والإسلامية مقولة بناء الدولة الحديثة، في أعقاب انتهاء الاحتلال العسكري المباشر، وطرحت فكرة الدولة الحديثة، كعنوان للدولة القوية والجيش القوي، وكعنوان لعملية التنمية والتقدم، وظل شعار الدولة الحديثة يتردَّد، وكأنه الغاية التي تسعى الأنظمة للوصول إليها، ثم تعدَّدت التسميات، فباتت الدولة الحديثة هي الدولة المدنية، وربما الدولة المدنية الوحيدة، وكل ما عداها ليس دولة مدنية، وهي في الحقيقة ليست دولةً حديثةً؛ بمعنى أنها جديدة، ولكنها دولة الحداثة؛ أي دولة تسير في ركاب عصر الهيمنة الحضارية الغربية، وتبلورت حقيقة تلك الدولة بالممارسة، حتى اتضحت صورتها النهائية ومآلها النهائي، مع بدايات القرن الحادي والعشرين، لتصل إلى مرحلة تأكيد حقيقتها وجوهرها، وفرض نموذجها وقيمها.

ولكن دولة الحداثة لم تكن مشروعًا في مواجهة الهيمنة الغربية، ولا في مواجهة الاستعمار الجديد غير المباشر، ولم تكن بالتالي دولة الاستقلال، فقد بدأ بناء الدولة تحت راية الاستقلال، ولكنها لم تكن دولة استقلال من حيث هويَّتها وحقيقتها، بل كانت دولة تبعية؛ فهي الدولة التي بناها الاستعمار على أنقاض الدولة الإسلامية الموحدة، وهي بهذا ميراث الاستعمار، وليست نقيضًا لمشروعه، ولكن بناء الدولة الحديثة بدأ على أساس التناقض بينها وبين الاستعمار الغربي، فبدأت تحت لافتة الاستقلال، ولكنه كان استقلالاً في مواجهة الاحتلال العسكري وليس استقلالاً عن النموذج الغربي.

لذا أنجزت الدولة الحديثة شرعيتها من الشرعية الثورية في مواجهة الاحتلال العسكري المباشر، ثم ما لبثت أن أقامت بنيتها بدون الاستناد لأية شرعية شعبية أو مجتمعية، فمن خلال ما حازه مشروع التحرر الوطني من تأييد، انفردت النخبة الحاكمة بعد ذلك ببناء الدولة الحديثة على النموذج الغربي، دون أن تستند إلى تأييد المجتمع، فتآكلت الشرعية الثورية ولم تحل بدلاً منها أية شرعية أخرى.


النزعة القطرية

بُنيت الدولة الحديثة على النزعة القطرية، فهي دولة لقطر واحد، وهي لا ترتبط بأي مشروع لتوحيد الأمة الإسلامية، بل قامت أثناء عصر الاستعمار لتفكيك الأمة الإسلامية إلى أقطار، ثم تحوَّل مشروع الدولة الحديثة إلى مشروع لتجاوز فكرة الأمة الواحدة، وتجاوز الهوية الجامعة الإسلامية، وليبدأ مسار الدولة الحديثة معتمدًا على القومية القطرية الضيقة؛ لذا تضاءل خطاب الهوية العربية والهوية الإسلامية تدريجيًّا، ولم يكن هذا تغيُّرًا يحدث نتيجة ظروف عارضة، بل كان نتيجةً طبيعيةً لبنية الدولة الحديثة، فهي تتأسس على فكرة حماية القومية وحماية الحدود الجغرافية؛ لذا أصبحت الهوية العربية والإسلامية تشدُّها بعيدًا عن مسارها، فتخلَّصت الدولة الحديثة من تلك العلاقات، حتى تأسس كيانها الخاص، بعيدًا عن أي روابط تبعدها عن القطرية والقومية الخالصة.

ومع مرور الوقت، تحوَّلت الدولة الحديثة في البلدان العربية والإسلامية إلى معاداة كل الروابط الحضارية الجامعة للهويَّة العربية والهويَّة الإسلامية؛ حيث باتت تلك الروابط كافية لتفكيك أسس الدولة القطرية القومية.


السند الغربي

منذ بداية قيام الدولة الحديثة في المنطقة العربية والإسلامية، وهي تبحث عن سند لها، ولم يكن هذا السند إلا الغرب، الصانع الحقيقي لنموذج الدولة القومية القطرية، والذي زرع هذا النموذج في البلدان العربية والإسلامية؛ لذا لم يغِب التحالف مع الغرب، شرقه أو غربه، في أية مرحلة من المراحل، فقد كان قيام الدولة الحديثة أساسًا نتيجة اختيار الانحياز للنموذج الحضاري الغربي المتقدم. فبعد التحرر الوطني من الاحتلال العسكري، لم يتم بناء نموذج مستقل عن الغرب، بل تم بناء نموذج مستمد من الغرب، على أساس أنه النموذج الذي يمكن أن يحظى بدعم غربي.

لم تكن حركة التحرر الوطني إذن حركة تحرر كامل، بل كانت حركة تحرر من الاستعمار العسكري، ولم تكن حركةً في مواجهة الهيمنة الغربية، بل كانت حركةً في مواجهة قوى غربية بعينها؛ لذا بحث بناة الدولة الحديثة عن القوى التي تقدِّم لهم الدعم والغطاء والسند، ومنهم من ذهب إلى المعسكر الشيوعي ومنهم من ذهب إلى المعسكر الرأسمالي، وبعد انهيار الشيوعية ذهب الجميع إلى القوة المهيمنة على الغرب عامة، واتجهت البوصلة ناحية القوة الأمريكية المهيمنة.

وقبل أن يكون الغرب ساعيًا للهيمنة على المنطقة العربية والإسلامية- وهو بالفعل يقوم بهذا- كانت الدولة الحديثة القائمة مؤهلةً للخضوع للهيمنة الغربية، بل باحثةً عن تلك الهيمنة، فمن أراد بناء دولة حديثة بدون سند شعبي بحث لتلك الدولة عن سند غربي، وكان السند الغربي هو المناسب لتلك الدولة؛ لأنها بُنيت على النموذج الغربي.

هنا لم تكن التبعية للغرب نتيجة ضعف وتخاذل من النخب الحاكمة فقط، بل كانت نتيجةً حتميةً لطبيعة المشروع السياسي نفسه، فمن يبني نموذجه على تقليد النموذج الغربي سوف يحتاج إلى السند الغربي، ومن يبني نموذجه بعيدًا عن هوية المجتمع سوف يحتاج السند الخارجي؛ لذا كانت التبعية للغرب هي النتيجة المنطقية لتبنِّي نموذج الدولة الحديثة المستمدّ من التجربة السياسية الغربية.


التنمية التابعة

تركَّزت فكرة الدولة الحديثة على بناء دولة قوية وحديثة، ولكن مسار بناء الدولة سار في طريق محاكاة النموذج الغربي للتنمية، ولم يكن محاولة لإعادة إنتاج عملية التنمية التي حدثت في الغرب، بل كان تنفيذًا لنظريات التنمية التي صاغها الغرب للدول النامية. فكان المطلوب إذن هو تحقيق التنمية بسند غربي، وبناء دولة قوية على النموذج الغربي، فسارت عملية التنمية من خلال التبعية للتوجيهات الغربية، وفي المجالات التي تجد دعمًا غربيًّا، وعلى حسب الشروط الغربية.

لكنَّ الدولة القوية لم تُبنَ؛ لأن الغرب لن يبنى دولاً تنافسه، ولن يساعد على تقوية دول تابعة له، فالتبعية في حدِّ ذاتها تتناقض مع فكرة الدولة القوية والجيش القوي، فكانت التنمية في نطاق محسوب، فقد أراد الغرب تأهيل دول المنطقة حتى تكون صالحةً لدخول المنظومة الغربية كدول تابعة، فساعد على بناء الدولة التابعة، وهي بالطبع غير الدولة القوية.

فلأنها دولة حديثة قومية كان من اللازم أن تستند إلى الغرب، فأصبحت دولةً تابعةً؛ ما جعل عملية التنمية تصبح تابعةً أيضًا، ولم يعُد من الممكن بناء دولة قوية.


استعمار جديد

في تلك العملية غاب المجتمع عن رؤية النخبة الحاكمة والمسيطرة على الدولة، فلم يكن المجتمع هو منبع شرعية النظام، ولم يكن مصدرًا لفكرة الدولة الحديثة، ولم يختَرْ النموذج القومي القطري. ولأن المشروع لم يكن اختيارًا جماهيريًّا بل اختيار النخب الحاكمة؛ لذا أصبح من الضروري السيطرة على المجتمع؛ حتى لا يعادي الدولة الحديثة التابعة، وحتى لا يحدَّ من سطوتها أو يعترض طريقها، فنشأت العداوة بين الدولة والمجتمع، ولم تكن تلك العداوة إلا نتاجًا طبيعيًّا للمسار الذي اتخذته النخبة الحاكمة، فهي تبني شرعيتها على السند الغربي، ويصبح حكمها مستندًا إلى قبول الدول العظمى لها، واعترافها بها، وعليه لم يكن السند أو الشرعية تأتي من الناس؛ لذا تمَّ إهدار حق المجتمع وحق الأمة، في أن تكونا مصدرًا للشرعية ومصدرًا للسلطات.

فأصبحت النخبة الحاكمة تعمل على السيطرة على المجتمع، وتوظِّف الدولة كأداة للسيطرة على المجتمع، والدولة نفسها حملت تكوينًا غريبًا عن المجتمع؛ لذا أصبحت لها هوية متناقضة مع هوية المجتمع، فهي دولة حديثة على النموذج الغربي، والمجتمع ليس كذلك، ومن هنا تمَّ حشد أدوات الدولة في مواجهة المجتمع؛ حتى لا يثور عليها، ومن خلال علاقة العداوة من الدولة تجاه المجتمع، يتم بناء جدار بينهما لحماية الدولة.

هكذا تأسس الاستعمار المحلي، في ظاهرةٍ عرف التاريخ نماذج لها من خلال تعاون نخب محلية مع الاستعمار العسكري الأجنبي، ولكن لم يعرف التاريخ نماذج لما تحقق الآن في البلاد العربية والإسلامية؛ حيث قامت نخب بدور الوكالة عن الغرب في استعمار البلدان العربية والإسلامية، بدون وجود استعمار عسكري مباشر، فظهرت مرحلة الاستعمار بالوكالة؛ حيث تتبنَّى نخب المشروع الغربي، وتقبل التبعية الكاملة للغرب، وتمرر السياسات والمصالح الغربية في المنطقة، وتستند إلى الدعم الغربي، وتبني الدولة على النموذج الغربي، وتنوب عن الغرب في استعمار المجتمع والسيطرة عليه.


علمنة الدولة

لم يكن من الممكن السير في هذا المشروع بدون تأسيس نظام سياسي علماني، ودولة علمانية. فأصبح مسمى الدولة الحديثة والدولة المدنية غطاءً للمشروع الحقيقي، وهو بناء دولة علمانية تابعة للهيمنة الغربية، ومدعومة غربيًّا. وعلمنة الدولة تمثل مرحلة مهمة من مراحل تفكيك الروابط بين الدولة والمجتمع، وتفكيك الروابط بين هوية المجتمع وهوية الدولة، وأكثر من هذا تفكيك الروابط بين هوية مؤسسة الدولة وهوية العاملين بجهاز الدولة، حتى لا تتسرب هوية المجتمع للدولة، بصورة قد تؤدي إلى تمرد جهاز الدولة على النخبة الحاكمة. لذا كان من الضروري الحفاظ على بنية الدولة بعيدة عن هوية المجتمع، وذلك من خلال رسم توجهات الدولة وغاياتها وأهدافها، بصورة تؤدي إلى عرقلة تأثير المجتمع عليها، والسيطرة على توجهات العاملين بالدولة، وتقييد الخبراء والفنيين باللوائح والنظم والبيروقراطية.

وعلمنة الدولة تمت تدريجيًّا وما زالت تتم، فهي عملية تبدأ من القوانين والخطط، ومن تحديد وظائف الدولة وأدوارها، وأول ما يؤدي إلى علمنة الدولة، هو فصل ممارسة جهاز الدولة عن الوازع الديني والوازع الأخلاقي المستمد من الدين؛ حتى تتحوَّل الدولة إلى جهاز يتحرك بوازع مادي صرف، ولا ينضبط بالوازع الديني، ويتم الفصل بين أخلاق الموظف الدينية وأدائه المهني والوظيفي، وتدريجيًّا يصبح جهاز الدولة محكومًا بقواعده الداخلية، دون أن تتسرَّب له هوية المجتمع أو أخلاقه.

لم تكن تلك العملية بعيدةً عن عملية التشريع؛ حيث يتمُّ بناء التشريعات بعيدًا عن المرجعية الإسلامية؛ حتى تنفصل بنية النظام عن الهوية الإسلامية، وبالتالي الهوية العربية، وكل تلك العمليات تتحرك بصورة متكاملة، فهي عملية لبناء دولة غريبة عن المجتمع، ومنفصلة عن مرجعيته؛ حتى يبدو المجتمع في النهاية وكأنه كيان متمرد على الدولة، أو خارج عنها.

وخلاصة عملية علمنة الدولة أن لا تكون للدولة مرجعية دينية، فيخرج النظام السياسي عن مرجعية القيم الدينية، ويصبح مجمل المجال السياسي بعيدًا عن القيم السياسية الإسلامية، وبقدر خروج الدولة عن المرجعية الإسلامية، بقدر بعدها عن الهوية الإسلامية؛ ما يحمي الهوية القومية، وبعدها عن الاندماج مع محيطها العربي والإسلامي، يحمي النزعة القطرية، وبالتالي يحمي التبعية للغرب، ويحمي نموذج دولة الحداثة المستمد من المرجعية الغربية، فتكتمل حلقات بناء دولة الاستعمار المحلي، بتكامل القومية والقطرية والحداثة والتبعية للغرب، وتصبح العلمانية هي الإطار الحامي لهذا المشروع.


دولة التبعية فاشلة

بناء الدولة على نموذج لا يستمد شرعيته من المجتمع يجعلها مشروعًا منفصلاً عن المجتمع ومهيمنًا عليه، ثم يجعلها في النهاية مشروعًا معاديًا للمجتمع، وبقدر الانفصال الحادث بين الدولة والبيئة التي تعمل بها، بقدر تحوُّلها إلى جهاز سيطرة، وجهاز سلطة إدارية فجة؛ ما ينتج منه تدهور الكفاءة الداخلية لجهاز الدولة، خاصةً عندما يظهر للنخبة الحاكمة أن جهاز الدولة يمكن أن يبني لنفسه تقاليد داخلية تقربه من معايير المجتمع، عندها يصبح من الضروري إحكام هيمنة النخبة الحاكمة على جهاز الدولة ومنع أي توجهات تعبر عن ثوابت المجتمع داخل جهاز الدولة، والتأكد من أن مسار جهاز الدولة سيظل محكومًا بتوجهات النخبة الحاكمة، بما في ذلك التوجه القومي القطري العلماني، مما يجعل جهاز الدولة خاضعًا للهيمنة الغربية من خلال سيطرة النخبة الحاكمة عليه.

لهذا أصبح من الضروري منع تشكل تقاليد خاصة بالدولة، ومنع التواصل بين المجتمع والدولة؛ فأصبح جهاز العاملين بالدولة يقع تحت السيطرة المباشرة والتخويف المستمر؛ ما جعله يتحول إلى طاقة مهدرة، وبين دولة تفرض نفسها على الجميع وجيش من العاملين ليس لديهم هدف أو دافع أو تصور مستقبلي، تحوَّلت الدولة إلى جهاز معطَّل، وبدأت في الدخول في مرحلة الدولة الفاشلة.

والدولة الفاشلة هي النتيجة الطبيعية لمشروع دولة الحداثة. فحتى تكون الدولة تابعة للغرب في هويتها ومرجعيتها، وحتى تكون منفصلة عن المجتمع وهويته، يجب في النهاية أن تكون فاشلة. فنجاح الدولة في مشروعها يتحقق عندما يتزاوج مشروع الدولة مع توجهات المجتمع، ولكن الانفصال الحادث بين الدولة والمجتمع، يجعل جهاز الدولة يتحول إلى سلطة إدارية عمياء، غير قادرة على توجيه المجتمع ولا التفاعل معه.


المعركة القادمة

الناظر لمجريات الأحداث في القرن الحادي والعشرين، يجد الأنظمة الحاكمة في البلاد العربية والإسلامية تتجه إلى مزيد من الارتباط بالغرب، والمزيد من التوجه نحو العلمانية، والمزيد من الانفصال عن المجتمع، والمزيد من توسيع الفجوة بين الدولة والمجتمع، فما وصل له النظام السياسي من أوضاع لا يحتمل أي قدر من التراجع، فالدولة التابعة لن يتم حمايتها إلا بالمزيد من العلمنة؛ حتى تصبح الدولة علمانية بالكامل، وتقوم على غايات مادية، تنعزل عن المرجعية الدينية.

فغالب الأنظمة الحاكمة يتجه نحو معركة مصيرية بين الدولة والمجتمع، لصالح النخب الحاكمة، ولصالح استمرار الاستعمار المحلي، وكيلاً عن الهيمنة الغربية.


المصدر: إخوان أون لاين