الإخوان المسلمون ورحلة جماعة "ملخص لتاريخ الجماعة والمرشدين"

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإخوان المسلمون ورحلة جماعة.. ملخص لتاريخ الجماعة والمرشدين


إخوان ويكي

مقدمة

"الإخوان المسلمون" هي جماعة إسلامية، إصلاحية شاملة، تعمل على العودة للعمل بكتاب الله وسنة نبيه والأخذ بالشريعة الإسلامية في كل أحكامها عن طريق تربية وإيجاد الفرد المسلم ثم الأسرة المسلمة فالمجتمع المسلم فالحكومة المسلمة ثم الدولة الإسلامية فأستاذية العالم.

نشأت جماعة الإخوان في ظروف كانت مصر والدول العربية والإسلامية تقع تحت نير المحتل الغربي والذي كان يهدف منذ البداية إلى طمس الهوية الإسلامية وتغيب الوعي الديني والواقعي عن الشعوب المحتلة.

فكانت مصر تقع تحت المحتل الانجليزي منذ 1882م والذي جاء بعد سلسلة من الصراعات الغربية عليها وبعد الحملة الفرنسية، كما أنه استطاع أن يوقع حكام البلاد في براثين الطاعة لممثل الإمبراطوريات الغربية المحتلة حتى أذاقوا الشعوب التعب والنصب والهوان.

حسن البنا والنشأة

ولد حسن البنا في 14 أكتوبر من عام 1906م بمدينة المحمودية وكان والده الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا (الشهير بالساعاتي) أحد علماء هذه الأمة وله تصانيف في مسند الإمام أحمد بن حنبل وكان يعمل في تصليح الساعات واشتهر بها، وقد رزقه الله بالعديد من البنين والبنات مثل عبد الرحمن (كان عضو مكتب الإرشاد) ومحمد وعبد الباسط (كان ضابط شرطة) وجمال (أصبح مفكرا) وفاطمة (زوجة عبد الحكيم عابدين السكرتير العام للإخوان) وفوزية (زوجة عبد الكريم منصور الذي صحب الإمام البنا ليلة اغتياله).

التحق حسن البنا بالكتاب ثم مدرسة المعلمين بدمنهور وطلب من والده أن يكمل تعليمه في دار العلوم فوافق والده، وكان قبل أن ينتقل أنشأ جمعية منع المحرمات كما التحق بالصوفية الحصافية، وحينما نجح في المعلمين انتقل للقاهرة والتحق بدار العلوم غير أنه تعرض لحادث حينما سكب أحد زملاءه المقيمين معه على وجهه زجاجة يود وعلمت والدته بذلك فصممت على الانتقال والاسرة للقاهرة للعيش مع ابنها وبالفعل وافق الوالد وانتقلت الاسرة كلها للحياة في القاهرة.

في هذه الفترة تعرف البنا على العديد من العلماء أمثال الشيخ محب الدين الخطيب والشيخ المراغي وغيرهم من العلماء، وكان يحرص على مجالسهم وكان يقلقه طغيان حملات التبشير على مصر، وقد تعاون مع بعض العلماء عام 1927م على تأسيس جمعية الشبان المسلمين لتكون منبرا للشباب المسلم، كما شارك في الكتابة في مجلة الفتح.

تخرج حسن البنا عام 1927م وجاء تعينه في مدينة الإسماعيلية و في ضحى يوم الاثنين الموافق 16 من سبتمبر 1927م استقل الإمام الشهيد القطار إلى مدينة الإسماعيلية، وكان في وداعه مجموعة من أصدقائه، كان منهم الأستاذ محمد الشرنوبي الذي قال له: "إن الرجل الصالح يترك أثرًا في كل مكان ينزل فيه، ونحن نأمل أن يترك صديقنا أثرًا صالحًا في هذا البلد الجديد عليه"

عمل البنا بهذه النصيحة وما أن وطات قدماه أرض الإسماعيلية إلا وقد عمد على التعرف عليها وارتياد مساجدها ومقاهيها وأعيانها وعلمائها وكل فرد فيها وحمل سبورته واخذ يجوب المدينة داعية ومعرفا بدين الله..، وفي أحد المقاهى وبعد استئذان صاحبها أراد الإمام البنا أن يلفت الأنظار إليه قبل أن يتكلم في الجالسين، فتناول جذوة من النار وألقى بها إلى أعلى وسط الجالسين فتناثرت وارتاع الحاضرون، وغادروا أماكنهم مذعورين

وتلفتوا يبحثون عن مصدرها فرأوا شابًا وسيمًا واقفًا على كرسي يقول لهم:

إذا كانت هذه الجذوة الصغيرة قد بعثت فيكم الذعر إلى هذا الحد، فكيف تفعلون إذا أحاطت النار بكم من كل جانب! من فوقكم ومن تحت أرجلكم، وحاصرتكم فلا تستطيعون ردها.. وأنتم اليوم استطعتم الهروب من الجذوة الصغيرة فماذا أنتم فاعلون في نار جهنم ولا مهرب منها..
وكانت هذه البداية التي دفعت بعض الأفراد لتتبعه في المقاهي والتعرف على فكره أكثر حتى تشكلت النواة الأساسية حينما ذهب له ستة نفر وهم حافظ عبد الحميد "نجار بالحي الإفرنجي"، أحمد الحصري "حلاق بشارع الجامع بالإسماعيلية"، فؤاد إبراهيم "مكوجي بالحي الإفرنجي"، عبد الرحمن حسب الله "سائق بشركة القنال"، إسماعيل عز "جنايني بشركة القنال"، زكي المغربي "عجلاتي بشارع السوق بالإسماعيلية"

يقول البنا في مذكراته:

وهم من الذين تأثروا بالدروس والمحاضرات التي كنت ألقيها، وجلسوا يتحدثون إليَّ وفي صوتهم قوة، وفي عيونهم بريق، وعلى وجوههم سنا الإيمان والعزم، قالوا: لقد سمعنا ووعينا، وتأثرنا ولا ندري ما الطريقة العملية إلى عزة الإسلام وخير المسلمين، ولقد سئمنا هذه الحياة: حياة الذلة والقيود، وها أنت ترى أن العرب والمسلمين في هذا البلد لا حظ لهم من منزلة أو كرامة، وأنهم لا يعدون مرتبة الأجراء التابعين لهؤلاء الأجانب، ونحن لا نملك إلا هذه الدماء تجري حارة بالعزة في عروقنا
وهذه الأرواح تسري مشرقة بالإيمان والكرامة مع أنفسنا، وهذه الدراهم القليلة، من قوت أبنائنا، ولا نستطيع أن ندرك الطريق إلى العمل كما تدرك، أو نتعرف السبيل إلى خدمة الوطن والدين والأمة كما تعرف، وكل الذي نريده الآن أن نقدم لك ما نملك لنبرأ من التبعة بين يدي الله، وتكون أنت المسؤول بين يديه عنا وعما يجب أن نعمل، وإن جماعة تعاهد الله مخلصة على أن تحيا لدينه، وتموت في سبيله، لا تبتغي بذلك إلا وجهه، لجديرة أن تنتصر، وإن قل عددها وضعفت عدتها".

انطلقت الدعوة وحملها كل فرد إلى موطنه وانتشرت الدعوة وسط الناس، وبدأ الأستاذ البنا وأتباعه بفتح مدارس ومعاهد مثل مدرسة حراء للبنين ومعهد أمهات المؤمنين للبنات كما أنشأ دار للتأبيات ، وكان المجتمع في ذاك الوقت مركزًا على التعليم الإسلامي مع التأكيد على تعليم الطلاب كيف يسخرون سلوكياتهم من التكافل والإيثار في حياتهم اليومية، وليس في القضايا النظرية... وكان المفتش العام للتعليم متأثرًا جدًا بذلك، وخاصة بالأحاديث البليغة لأعضاء طبقة العاملين من الإخوان المسلمين ، وأصبح وضع الأفراد من الطبقة الدنيا في مراكز قيادية إحدى سمات الإخوان.

كان أول مشروع اجتماعي كبير هو إنشاء المسجد الذي اكتمل عام 1931، ومن أجله نجحت الجماعة في جمع قدر كبير من المال، مع الحرص على الاحتفاظ باستقلالها عن المانحين المحتمل تطلعهم لجني فائدة من وراء تبرعهم. في هذا التوقيت انتشرت شعب الإخوان في الأقاليم حيث افتتح شعبة للإخوان في القاهرة وأخرى في المحمودية وثالثة في شبراخيت وغيرها، كما أن الأستاذ البنا تزوج إحدى بنات عائلة الصولي من الإسماعيلية.

الانتقال للقاهرة

لم يحتمل بعض المغرضين لما يقوم به الإمام البنا من اعمال فأرسلوا المذكرات لوزارة المعارف يتهمون حسن البنا تارة بأنه يحرض على النصارى وتاره أنه شيوعي وغيرها من التهم لكن في النهاية تم نقل الأستاذ حسن البنا إلى القاهرة.

بعدما انتقل سعى لايجاد مكان يصلح لمقر لدعوة الإخوان المسلمين ثم بدأ في تنظيم الجماعة وإنشاء أقسامها، حتى عقد أول مجلس شورى عام للإخوان عام 1933م حيث تم اختيار أول مكتب ارشاد للإخوان وأيضا إنشاء قسم الأخوات والجوالة وغيرها كما أنشأ قسم الطلاب والذي اعتني بطلاب الجامعات والمدارس.

في نفس العام بدأت الجماعة تحظى بانتباه الصحافة وأنشأت فروعًا لها في القاهرة، كما اهتم بالصحافة فأسس مجلة الإخوان المسلمين وكان رئيس تحريرها الدكتور الشيخ طنطاوي جوهري. اهتم الأستاذ البنا بالمجتمع سواء بمصر او خارجها، وبالفعل حينما خرج في أول رحلة حج تعرف على العديدين أمثال الدكتور مصطفي السباعي وعبد اللطيف أبو قورة من الأردن حيث نروا فكر الإخوان في بلدانهم.

نمت الجماعة بسرعة، من ثلاث فروع عام 1931 أصبح لها 300 فرع في مصر عام 1938، وذلك يرجع إلى الفكر المعتدل الذي كان له قبول لدى الجماهير. ونظرًا لتمتع الجماعة بسياسات تؤثر في جذب أعضاء جُدُد، أصبحت أكبر مجموعة معارضة سياسية ينتمي إليها أعضاء من شتى الفئات.

إبداعات فكرية

شكَّلت جماعة الإخوان مجتمعًا إسلاميًا صالحًا عاديًا، وفي أوائل الثلاثينات، تضمنت أنشطتها الخيرية العمل الاجتماعي على نطاق صغير، من بناء وإصلاح المساجد، وإنشاء عدد من مدارس القرآن (كان دور هذه المدارس تعليم الأطفال القراءة والكتابة). وكذلك فتح الورش والمصانع، وتنظيم جمع وتوزيع الزكاة. ومع نمو الجماعة، أنشأت عددًا كبيرًا من المؤسسات الخيرية مثل الصيدليات، والمستشفيات، والعيادات لعموم الشعب، وبدأت برنامجًا لتعليم الكبار القراءة والكتابة بتقديم مقررات لذلك في المقاهي والأندية.

على أي حال، كانت رؤية البنا عن نوع جديد من التنظيم قادرة على تجديد الوصلات المكسورة بين التقليد والعصرنة، مما مكَّن الإخوان من الحصول على درجة من الشعبية والنفوذ، لم يتمتع بها أي مجتمع دعوي خيري آخر، كما لاحظ البنا أنه في غمرة ازدهار المجتمع المدني المصري، والبيئة الثقافية المتميزة بالإبداعات في الأدب والعلوم والتعليم

تخلَّف التعليم الديني:

حيث إن أفكار الإصلاحيين الدينيين الإسلاميين لم تكن قابلة للدخول لجمهور الشعب، ولم يكن هناك جهد جاد لجعل تاريخ الإسلام وتعاليمه مفهومة للشباب، وكان البنا مصرا على ملء ذلك الفراغ بتدريب مجموعة من الشباب ليكونوا وعاظًا متحمسين مجهزين بطرق التعليم الحديثة، وتكون مستقلة عن الحكومة، والمؤسسة الدينية، ومدعومة بالاستفادة المؤثرة من وسائل الإعلام الجديد.

انعقد المؤتمر العام الثاني للإخوان عام 1933، والذي أوصى بإنشاء شركة للنشر، وشراء آلة طباعة، استخدمت لطباعة العديد من الصحف خلال العقد التالي، وكانت الأموال تجمع لشراء أسهم لإنشاء شركة مساهمة لأعضاء الجماعة. هذا المدخل الذي صان استقلال الجماعة عن الحكومة وعن الأثرياء وبتأكيد أن مؤسسات الجماعة مملوكة لأعضائها، ومنها كانت تموَّل المشاريع الجديدة.

خلال الثلاثينات، استطاع البنا أن يصوغ فكرا إسلاميا بدأت الجماعة في تطبيقه، وكان هذا الفكر غير عادي في كثير من جوانبه، فقد كان يلبي احتياجات الطبقات المحرومة، في بلد فيه معظم الحركات السياسية، بما في ذلك الليبرالية، والعصرانية، كانوا نتاج الإقطاعيين، والصفوة من سكان المدن، وأصبح الإخوان يمثلون صوت الطبقات الوسطى المتعلمة، والأقل من الوسطى (وصوتًا للعمال والفلاحين). وكان ذلك مبررًا لطلب المشاركة السياسية.

وعلى مدار العقد، ركزت الجماعة على العدالة الاجتماعية، لردم الفجوة بين الطبقات (وبذلك يحيون المساواة التي كانت بين المسلمين الأوائل) وأصبح ذلك واحدًا من أهدافها الرئيسية، وكان البنا يتحدث بانتقاد كبير للطبقات العليا، والنظام الطبقي ككل. حيث أن الإسلام يسوي بين جميع الناس، ولا يفضل أحد على أحد على أساس الدم أو الجنس، أو أجداده أو سلالته، فقير أو غني، وطبقًا للإسلام، فالناس متساوون في الاحتياجات، والهبات الطبيعية، فنحن نرى أن الإسلام لا يقر النظام الطبقي.

مع وجود هذا الفكر في العقدين التاليين، وفي غياب حزب اشتراكي قوي، طالب الإخوان بتأميم الصناعات، وتدخل الدولة الرئيسي في الاقتصاد، وتخفيض الحد الأعلى من أجور كبار الموظفين المدنيين، واستصدار قوانين لحماية العمال ضد الاستقلال، ونظام بنكي إسلامي يوفر قروضًا بدون فوائد، وبرامج رفاهية اجتماعية سخية، تشمل تأمينات ضد البطالة، وإسكان شعبي، وبرامج صحية وتعليمية طموحة، تمولها الضرائب العالية على الأثرياء، وبحلول عام 1948، كان الإخوان يؤيدون قانون الإصلاح الزراعي ليمكنوا صغار المزارعين من تملك الأرض.

كانت أفكار البنا محاولة لإحداث تجديد اجتماعي من خلال تفسير جديد للقرآن، ومن وجهة نظره، كانت مصر ممزقة بين نظامين للقيم الفاسشتية:

من جهة تراث ديني نظري ممثلاً في الأزهر، الذي يراه البنا أنه ينطوي على مفارقة تاريخية ولا علاقة له بالدين، وغير مناسب للزمان ولا علاقة له بالمشاكل الملحة التي يواجهها الشعب العادي، ومن جهة أخرى، فيه هجر لكل القيم مع اقتصاد مطلق للجميع مما أفقر الجماهير ومكن الاستثمارات الأجنبية من السيطرة على الاقتصاد، وناقش البنا أن الإسلام يجب ألا يكون محدودًا بالمجال الضيق للحياة الخاصة، ولكن يجب أن يطبق على مشاكل العالم الحديث، ويُستخدم كمؤسسة أخلاقية للنهضة الوطنية، إصلاح كامل للأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وكان يفضل تعليم اللغات الأجنبية في المدارس ويقول:

"نحن في حاجة للشرب من ينابيع الثقافة الأجنبية لنستخلص ما هو ضروري لنهضتنا" وكان تشكيله لمفهوم الوطنية الذي كان أساسيًا ليقدم الإخوان للشباب، أن جمع المفاهيم السياسية الأوربية الحديثة مع المفاهيم الإسلامية، في نفس الوقت، شجب الإخوان ما رأوه من تقديس كل شيء غربي، وفقدانهم للاحترام لثقافتهم الخاصة وتاريخهم الخاص حتى أن البنا نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر والذي ألفه الدكتور طه حسين وطالب بالسير خلف الغرب وأخذ الحضارة الغربية حلوها ومرها.

مفهوم البنا عن الوطنية كان إسلاميًا بالتأكيد وكان هدفه البعيد أن يرى البشرية جمعاء موحدة بالقيدة الإسلامية، حيث أن المفهوم الاسلامي لديهم هو مفهوم شامل في كل مناحي الحياة فكرة إحياء الخلافة الإسلامية (التي ألغاها كمال أتاتورك عام 1924) كانت تذكر أحيانًا في منشورات الإخوان، ورفض الأستاذ البنا بوضوح العسكرية القمعية التي ظهرت في ألمانيا وإيطاليا في الثلاثينات، وكذلك كل القوميات العلمانية (سواء كانت عربية أم أوربية) وان التفرقة العنصرية باعتبارها غير ملائمة ولا تتفق مع الدين الإسلامي.

وكانت النتيجة العملية الرئيسية المترتبة على القومية الإسلامية للإخوان، حملة حية ضد الاحتلال في مصر والدول الإسلامية الأخرى، وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسية لشعبية الجماعة.

كان مصطلح الجهاد مفهومًا رئيسيًا في مفردات الإخوان:

فهو يشير ليس فقط إلى الصراع المسلح لتحرير الأراضي المسلمة من الاحتلال الاستعماري، ولكن أيضًا يشير إلى المجهود الداخلي الذي يحتاجه المسلمون لتحرير أنفسهم من عقدة الدونية المتأصلة ومن الجبرية والاستسلام لظروفهم، وقد شملت الشجاعة في المعارضة المعبر عنها في مبدأ "الجهاد الأكبر هو كلمة حق عند سلطان جائر". (رواه أبو سعيد الخدري)

وكذلك أي نشاط إنتاجي يباشره المسلمون في مبادرتهم لإثبات حسن نية المجتمع المسلم. للمحافظة على دعوته للوحدة بين المسلمين، دعا البنا إلى التسامح وإلى العمل الصالح بين الأشكال المختلفة للإسلام، رفض الإخوان فساد بعض الأوضاع الصوفية وتعظيمهم المبالغ فيه لقياداتهم، حتى أن الجماعة حاولت عبور الفجوة بين الحركة السلفية والصوفية، وفي الأربعينات حاولت الجماعة التقريب بين الإسلام السني والإسلام الشيعي.

وقد أكدت الجماعة على أعضائها ألا يحاولوا فرض رؤيتهم عن الإسلام على الآخرين، وقرر قانونهم العام لعام 1934، أن تصرفاتهم يجب أن تعكس دائمًا الود واللطف وأن عليهم تجنب الخلاف، والفظاظة في الأقوال والتلميحات، وكان الأعضاء الذين ينتهكون هذه المبادئ يفصلون من الجماعة (مثل الضغط على النساء غير المحجبات أن يتحجبن).

لقد قدم انفتاح الإخوان على تنوع من الاعتقاد والممارسة الإسلامية، قدموا جزءًا من جاذبيتهم للشباب، وقد حزن البنا على الانهماك الصارم لبعض الجمعيات السلفية في نقاط صغيرة من التعاليم الدينية، وأنه على الإخوان التركيز على القضايا السياسية والاجتماعية الرئيسية، بدلاً من التركيز على الشكليات.

تنظيم سياسي

بدأ الإخوان في أوائل الثلاثينات برنامج الجوالة، وفيه كان الشباب يتدربون على أسلوب الحياة الرياضي الزاهد، والقيام بالأعمال الخيرية، وتبادل الزيارات بين فروع الإخوان لتوطيد الروابط بينهم، وأصبح برنامج الجوالة الذين جذب زيهم وشعاراتهم وأناشيدهم، استحوذ على قدر كبير من الانتباه، وأصبحوا من أهم الوسائل في جذب أعضاء جُدُد، ورأى فيهم البنا أنه أسلوب جيد يقدم الشباب تدريجيًا إلى التدين.

أكد الأستاذ البنا على أن الصفات الأخلاقية والتضحيات الشخصية، أكثر أهمية من الألقاب والوضع الاجتماعي، والمؤهلات الرسمية، وفي صياغة قانون الجمعية العام عام 1934، أسس لجان تسوية للمساعدة في نزع فتيل الأزمات عند ظهورها. عالج الأستاذ البنا في وضع مزيد من التأكيد على مسئوليات الجماعة السياسية والاجتماعية فيما يتعلق بمختلف القضايا مثل الزنا، وشرب الخمر، والقمار، والتعليم الديني غير الكافي في المدارس، ونفوذ البعثات المسيحية، والأكثر أهمية الصراع ضد الاستعمار.

وفي استجابة لانتقادات من اتهموا الإخوان بكونهم جماعة سياسية، أجاب البنا بأن الانشغال بالسياسة كان جزءًا من الإسلام، فالإسلام لديه سياسة احتضان لهذا العالم. كل ذلك، بينما استمرت الجمعيات الإسلامية الأخرى، ليس لها أي اهتمام بالسياسة خلال الفورانات التي ميزت العشرينات والثلاثينات في مصر. واجتذبت الجماعة أعدادًا ضخمة من الشباب المثقفين المصريين خاصة الطلاب بتشجيعهم ودعمهم في التظاهر من أجل القضايا السياسية والإسلامية.

اهتم الإخوان بفلسطين حيث كانت القضية الأولى التي اعتنى بها الإخوان فكان أول هجوم من الإخوان ما يتعلق بالصراع العربي في فلسطين بين الصهيونية، والقومية العربية، والحكم البريطاني، فعمدت الجماعة إلى جمع أموالاً لدعم العاملين الفلسطينيين للإضراب في انتفاضتهم الفلسطينية عام 1936-1939، ونظموا مظاهرات وخطبا لصالحهم.

كما دعت الجماعة أيضًا إلى مقاطعة محلات اليهود في القاهرة، على أرضية أن اليهود كانوا يمولون الجماعات الصهيونية في فلسطين وظهرت في صحف الإخوان مقالات عدوانية ضد اليهود ، ونشروا كتيب حوى جرائم الانجليز في فلسطين كان بعنوان الدمار والنار في فلسطين حيث أيظوا الوعي بالقضية الفلسطينية لدى الشعوب.

طوَّر الإخوان في منتصف الثلاثينات بناءً هرميًا رسميًا، على رأسه المرشد العام (البنا)، ويساعده مكتب إرشاد ومساعد ونائب، وكانت الفروع المحلية منظمة إلى مناطق، وكان لإدارتها قدر كبير من الاستقلال، وكان للعضوية طبقات عديدة، بمسئوليات متزايدة، فهناك المساعد، والزميل، والعامل، والناشط، وكانت رسوم العضوية تعتمد على إمكانيات كل فرد، وكان الأعضاء الفقراء معفيين من الرسوم

وكانت الترقية في السلم الهرمي تعتمد إلى إنجاز الواجبات الإسلامية، وعلى المعرفة المحصلة من المجموعات الدراسية للجماعة، هذا النظام القائم على الجدارة كان فيه مغادرة جذرية للهرمية القائمة على الوضع الاجتماعي التي ميزت المجتمع المصري في ذاك الوقت، فقد اعتمد الإخوان الكفاءة وصلاح الخلق.

تعرضت الجماعة للعديد من الفتن الداخلية والخارجية لكن الاستاذ البنا اعتني بالأمور التربوية سواء المعسكرات أو الكتائب والمتابعة لأعمال كل الأقسام وأنشطتهم داخل المجتمع المصري وأخذت الأعداد في ازدياد مستمر. عقد الإخوان العديد من مؤتمرات العامة لمناقشة شئون الدعوة فكان مجلس الشورى الثاني عام 1933م واستمر يعمل حتى استبدل بالمؤتمر الخامس للإخوان عام 1939م ثم اختتم بالمؤتمر السادس عام 1941م بعدما زاد التضييق على الإخوان من قبل الانجليز والحكومة المصرية.

رفض البنا سياسة الأحزاب، مشيرًا إلى أن الأحزاب السياسية المصرية في ذاك الوقت كانت مغلقة عن الكل ما عدا الصفوة، وأصبحت أدوات للحكم البريطاني الاستعماري.

الحرب العالمية الثانية ومرحلة تكوين وتربية

كان رأي الجماعة أن تمتنع مصر عن المشاركة في الحرب العالمية الثانية، وفي عام 1940، ومن أجل تأكيد تدعيم مصر لجهود الحرب، والتي بدأت بإرسال جنود للحلفاء، بدلت بريطانيا الحكومة المصرية بحكومة أخرى يكون تعاونها أكيدًا. وفرض الحكم العسكري فكانت حكومة حسن صبري والذي عمد إلى غلق بعض صحف الإخوان المسلمين مثل مجلة التعارف والمنار

وفي عام 1941م تولى حسين سري باشا الوزراة والذي استجاب لضغوط الانجليز فكلف محمد حسين هيكل بنقل الأستاذ البنا إلى مدرسة في مدينة قنا غير أن المظاهرات اندلعت اعتراضا على هذا الأمر واستشعر الحزب المتحالف مع الحكومة خطورة الأمر فضغطوا على سري باشا حتى ألغى قرار الحل بعد شهرين

وبعدما عاد البنا للقاهرة تم اعتقاله بالاضافة لوكيل الجماعة أحمد السكري والسكرتير العام عبد الحكيم عابدين على أساس أن بريطانيا اعتبرتهم خطرين، وسُجن حسن البنا في 14 أكتوبر 1941م وتجددت المظاهرات مرة أخرى مما حذا بالحكومة إلى إطلاق سراحه ورفقاءه غير أنه صودرت صحافة الإخوان، وحظرت اجتماعات الجماعة، ومنع أي إشارة لها في الصحافة.

النظام الخاص

كانت الأوضاع في مصر والعالم الإسلامي والقضية الفلسطينية تزداد سواء مما حدا بالأستاذ البنا لتشكيل نظام عسكري خاص عام 1941م بهدف التصدي لاستفزازات المحتل البريطاني بمصر ولمقاومة عصابات اليهود بفلسطين قام هذا النظام بالعديد من الأعمال ضد المعسكرات الانجليزية واليهودية قبل أن يحيد بعض الأفراد بتصرفات فردية عن النهج المرسوم له ويقوم بعملية اغتيال للقاضي الخازندار ثم رئيس الوزراء النقراشي بعدما قاما الاثنين بأعمال تخالف السيادة المصرية والقضية الفلسطينية وضياع حقوق مصر في الاستقلال.

كانت قيادة الإخوان حريصة على تجنب المواجهات التي يمكن أن تعطي الحكومة ذريعة لقمع الجماعة كليًا، وأثناء سنوات الحرب تغيرت الجماعة لتتجنب القضايا الحساسة حماية لكيانها، وركزت الجماعة على الحفاظ على وتوسعة قاعدة أعضائها، وتوسعة برامجها الاجتماعية الخيرية، التي تضمنت المساعدة الإنسانية لضحايا حرب الحلفاء للمدن المصرية، وفي عام 1943، بدلت الجماعة نظام الكتائب بشكل من تنظيم داخلي يسمى "الأسر" وهو نسيج مغلق من خمسة أعضاء لكل أسرة يلتقون بشكل منتظم في منازلهم.

ساهم العجز والتفجيرات في خلق وضع سياسي، وبعد مظاهرات ضخمة من الطلبة في فبراير 1942، استقالت الحكومة وحاصرت القوات الإنجليزية قصر الملك، وأجبرته على قبول حكومة يرأسها حزب الوفد (مما دمر مصداقية حزب الوفد في عيون المصريين) واستمر الوفد مواليًا كلية للإنجليز أثناء الحرب، كما فعلت ذلك حكومة السعديين التي تبعته في فبراير عام 1945.

الإخوان والبرلمان

كان أول تصرف لحكومة الوفد التي نصبها الإنجليز عام 1942 هو حل البرلمان، والدعوة إلى الانتخابات، وعندما أعلن البنا ترشحه، ضغط عليه النحاس باشا لينسحب، ووافق ولكن في المقابل حصل على وعد من رئيس الوزراء بأن تستأنف الإخوان أنشطتها المعتادة، وأن تأخذ الحكومة موقفًا لمنع الزنا والدعارة، وبيع المشروبات الكحولية

وبعد ذلك بقليل جعلت الحكومة الزنا غير قانوني، وقيدت بيع المشروبات الكحولية، خاصة في العطلات الدينية، وسُمح للإخوان بمتابعة بعض أنشطتهم، ولكن على مدى السنوات العديدة التالية تراوحت الحكومة بين القمع والمصاحبة تجاه الجماعة. وخلال الأربعينات أخذت العضوية في الجماعة تتزايد، وبحلول عام 1948، كان للجماعة ألفي (2000) فرع، ويعتقد أن أعضاءها قد وصلوا إلى أكثر من مليون عضو.

الوطنية بعد الحرب

في الانتخابات عام 1945، هُزم الإخوان حتى في أقوى معاقلهم في الإسماعيلية نتيجة التزوير وذلك أثناء وزارة أحمد ماهر باشا. تواجد قوات الحلفاء خلق العديد من الوظائف، وأدى إلى إنشاء الاتحادات التجارية بعد الحرب، وأدى مغادرة معظم هذه القوات إلى خلق طبقة من غير العاملين، وارتفع التضخم واتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتدنت الرواتب، وفي أثناء الحرب، تدفقت الدعاية في مصر من كافة الجوانب.

وكان الصراع يتشكل في:

الدعاية البريطانية والأمريكية عن الديمقراطية والاستقلال الوطني من النازية، والقمع السوفيتي، والدعاية الألمانية حول تحرر مصر والعرب من الاستعمار الغربي، والدعاية الروسية حول قوة الاقتصاد السوفيتي، والعدالة الاجتماعية. واحتلال بريطانيا لمصر، والصراع في فلسطين، والإحباط المستوطن مع الوضع السياسي والاقتصادي، والأفكار الشيوعية كل ذلك وجد أنه من السهل أن يجذب أعضاء جُدُد.

على مدار تاريخ الإخوان اعتنوا بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي حيث حاربوا مظاهر الانحلال التي انتشرت في المجتمع سواء في الصحف أو الشوارع وعمدوا إلى المر بالمعروف والنهي عن المنكر كما أنهم تصدوا لحملات التبشير التى انتشرت في مصر وعمدوا إلى تكوين الشركات الاقتصادية من باب الإصلاح الاقتصادي وطالبوا الحكومة بعمل منهجية لهذا الإصلاح.

في سبتمبر من عام 1945، عدلت الجماعة اللائحة الأساسية حيث فصلت القسم الخدمي عن الجماعة الام وعملت له لوائح مستقلة لتفويت الفرصة على الحكومة التى كانت تريد الإخوان جماعة خدمية فقط لكن البنا قام بتعديل النظام الأساسي ليتوافق مع قوانين البلاد ودستورها ويفوت الفرصة على الحكومة وبطشها.

اخضع قسم البر وسجلاته لإشراف وزارة الشئون الاجتماعية، كما يطالب بذلك القانون، وتم تصنيف الجماعة كمؤسسة اجتماعية سياسية دينية، وكان ذلك يعني أن المساعدة الحكومية التي تعطي للجمعيات الخيرية يمكن أن تتاح فقط لبعض أنشطتها، وكانت أنشطة الجمعية الخيرية قد انفصلت بمديرها الخاص وهيكلها الهرمي الخاص، من أجل توفير حماية أفضل لهم من التداخل السياسي.

خلال سنوات ما بعد الحرب نمت جماعة الإخوان بسرعة، واستمرت في توسيع أنشطتها الخيرية، وذلك بإقامة المستشفيات والعيادات والصيدليات، والمدارس التي تقدم مقررات فنية وعلمية للصبية، والبنات والكبار، وإقامة المصانع الصغيرة للمساعدة في علاج البطالة التي حدثت بعد الحرب.

كانت الحكومة في مصر رافضة بشدة للشيوعية، والتي قامت بمحاولات لاستخدام الإخوان كأداة ضد خصومها الشيوعيين، غير أن الإخوان لم يكونوا في يوم ما أداة في يدي حاكم لكنهم بفكرهم الوسطي تصدوا للفكر الشيوعي وعروه امام المجتمع كما أن الإخوان يتبنون فكر إسلامي قادر على إحداث تغييرات كبيرة لعلاج ظلم المجتمع المصري.

عبرت منشورات الإخوان عن عداء شديد تجاه الحكومة وسياساتها، وكان الإخوان يشكلون قوة رئيسية كبيرة في الإضرابات والمظاهرات الوطنية، وفي أكتوبر عام 1945، نظمت الجماعة مسيرات في القاهرة ومدن أخرى من أجل الحرية الوطنية، وكان الإخوان والوفد الحزبان المعارضان الرئيسيان، وكان الوفد خارج السلطة وكان متشوقًا لنصرة قضية الوطنية، وكان مدعومًا في هذه القضية بالشيوعيين، ووجد الإخوان أنفسهم في منافسة مباشرة مع الوفد لقيادة الحركة الوطنية ورغم عدم الثقة العميق المتبادل

إلا أن المجموعتين اشتركتا في نفس المظاهرات الكبيرة، وقد رفض الإخوان التعاون مع الشيوعيين، مما أدى إلى انهيار الجهة الموحدة، ورفضت الجماعة بشدة هذه التحديات، ونظمت إضرابات بمفردها مما أصل علاقاتها السيئة مع الحكومة، وأصبح الإخوان هدفًا لإزعاج البوليس وللاعتقالات، وتعرض شباب الإخوان و الوفد للصدامات عام 1946، وكاد البنا أن يُقتل بهجوم بقنبلة في بورسعيد، وبعد هذه الصدامات عقد ممثلين من الإخوان و الوفد اجتماعات سرية على أمل الوصول إلى تفاهم مما خفَّض بشكل كبير التوترات بين الجانبين.

في نفس العام، رجع صدقي باشا من محادثات في لندن بمسودة معاهدة لم تقبلها المجموعات الوطنية مطلقًا، وانفجرت مشاغبات الطلاب العنيفة، وبدأ أعضاء من إخوان الجهاز السري في تنفيذ هجمات على البريطانيين، وعلى مراكز البوليس المصري، واستمروا في عمل ذلك عبر السنوات القليلة التالية. واستجابت الحكومة لذلك العنف المتصاعد بمعايير قمعية قاسية، بما في ذلك موجة من الاعتقالات بين صفوف الإخوان والمجموعات الوطنية الأخرى، واستمرت المشاغبات خلال عام 1946، ثم استقالت الحكومة في ديسمبر.

في يوليو عام 1947، كونه صاحب رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي باشا إلى الأمم المتحدة ممثلاً عن الإخوان، قاطع مصطفى مؤمن مناقشات مجلس الأمم المتحدة عن مصر لعمل حديث عن بهو المتفرجين رافضًا جميع المناقشات مع البريطانيين، وداعيًا إلى انسحاب كامل وفوري للبريطانيين من مصر، ومع ذلك لم يفعل مجلس الأمن شيئًا غير أنه رفض انسحاب بريطانيا من مصر وأعاد القضية إلى طاولة المفاوضات مما حدا بالإخوان بتحريك المظاهرات تنديدا بموقف الأمم المتحدة..

في مصر، وبين العرب والمسلمين، استمرت القضية الفلسطينية في استلهام تعاطفات قوية، وأعطى حل عام 1947 من الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، أعطى القضية تسارعًا أكبر، وأرسلت جماعة الإخوان متطوعين للحرب في فلسطين عام 1948، وأثناء الحرب كان هناك العديد من الهجمات بالقنابل على اليهود في القاهرة، وظهر أن أعضاء من الجهاز السري للجماعة كانوا مسئولين عن بعض تلك الأعمال.

في مارس عام 1948، اغتال أعضاء من الجهاز السري قاضيًا مصريا هو أحمد الخازندار بك، الذي حكم بعقوبة السجن على بعض الإخوان الذين هاجموا أحد العساكر البريطانيين، وأعرب البنا عن اشمئزازه من الاغتيال.

حرب فلسطين

حرك الإخوان العديد من الكتائب والتي شهد بفضلها اللواء أحمد المواوي قائد القوات المصري وفؤاد الصادق والحاج أمين الحسيني واستطاعت هذه الكتائب أن تكبد اليهود خسائر جمة واستطاعت استرداد العديد من المدن التي احتلها اليهود غير أنه في ديسمبر عام 1948، أصدرت الحكومة مرسومًا يأمر بحل الجماعة، واكتشف البوليس مخابئ للقنابل وأسلحة أخرى مجمعة بواسطة الجهاز السري

ورغم أن الإخوان أصروا على أن هذه الأسلحة كانت للاستخدام في الحرب العربية الإسرائيلية، إلا أن الحكومة شكَّت بأن الإخوان كانوا يخططون لثورة، وكانت أيضًا حريصة على إزاحة ما يعتبر أحد الأسباب الرئيسية للقلق السياسي العام، الذي أخذ شكل العنف، ويهدد سلطتها بشكل متزايد ضد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكذلك فإن وجود جيش في شكل جهاز سري، اعتبرته الحكومة كدولة موازية محتملة، ربما يراها المصريون حكومة أكثر شرعية من الحكومة الرسمية وذلك كما ادعت الحكومة المصرية في بيان الحل.

اتهمت الحكومة الإخوان بتشجيع العمال على القيام بإضراب للمطالبة برفع الأجور، وامتلاك الأراضي الزراعية، وتم اعتقال العديد من أعضاء الإخوان، وبقي البنا تحت المراقبة التامة من البوليس، بعد ذلك بأسابيع، ومع تمزق التسلسل في كوادر الإخوان واتصالاتها، اغتال أحد أعضاء الإخوان رئيس الوزراء النقراشي.

أدان البنا الاغتيال، وحاول دون نجاح أن يتحاور مع الحكومة الجديدة في يناير 1949، أفشل البوليس محاولة من أحد أعضاء الجهاز السري لتفجير قاعة محكمة، وكتب البنا خطابًا مفتوحًا يتنصل من هذا التصرف مقررًا أن المقترفون ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين، ودعا أعضاء الإخوان للتبرؤ من العنف والإيذاء، وحاول رئيس الوزراء الجديد عبد الهادي، قمع أي معارضة بإرهاب الشعب بتصرفات قاسية قمعية، بما في ذلك الاستخدام النمطي للتعذيب في السجون.

كتب البنا بيانًا رفض فيه الهجوم ضد الإخوان وأدان مرة أخرى تصرفات العنف المرتكبة، وقال إن قادة الجماعة يدينوا هذا العنف، وأنهم قد أصبحوا غير قادرين على منعه بسبب الاعتقالات والترصُّد الذي جعل ذلك مستحيلاً بالنسبة لهم ليمارسوا سلطتهم ومع ذلك، فقد ناقش أن تلك الأحداث كانت في جزء منها نتيجة لسلوك الحكومة، والحرب في فلسطين، وأنكر قيام الجماعة بالتخطيط للقيام بثورة، مؤكدًا أسلحة الإخوان للاستخدام في فلسطين فقط، في مشاركتها المشروعة للجامعة العربية، وفي فبراير عام 1949، تم اغتيال البنا بيد البوليس السياسي، وعلى الأرجح بأوامر من رئيس الوزراء والقصر.

وفي مايو من عام 1949، بعد موجة من الاعتقالات قامت مجموعة من الإخوان بمحاولة غير ناجحة لاغتيال رئيس الوزراء عبد الهادي، مما أدى إلى مزيد من الاعتقالات، وبحلول يوليو كان عدد المعتقلين من الإخوان قد وصل إلى 4000 (أربعة آلاف) وتبع ذلك عدة محاكمات في إحداها أدين قاتل النقراشي الذي حكم عليه بالإعدام، وحاولت النيابة إظهار أن الأستاذ البنا كان مسئولاً عن الاغتيال، غير أن الدفاع رفض كل هذه الاتهامات وفندها وقد بدا أن المحكمة قد اقتنعت بوجهة نظر الدفاع، وحصل معظم المدعى عليهم على البراءة وحكم على الآخرين بأحكام رفيقة.

استطاعت الجماعة أن تلغى قرار الحل بحكم قضائي عام 1951م كما أنها استعادة كل ممتلكاتها بحكم قضائي أيضا خاصة في ظل تباطيء الحكومة الوفدية خاصة بعدما انتهى الحكم العسكري، وألغيت جميع تدابيره. عدا تلك المطبقة على الإخوان، ومرر البرلمان قانون الجمعيات

وهدف بصفة خاصة إلى الإخوان دون ذكر اسمهم، متطلبًا وصفًا وصورة فوتوغرافية لكل عضو يقدم للسلطات، وأعلن وزير الداخلية أن الوزارة اعتزمت شراء مراكز الجماعة، واستخدام المباني كنقاط للبوليس، غير أن الإخوان تمكنواعن طريق القضاء من حل كل هذه القضايا حاصلين على الحق في العمل قانونًا، وعودة ملكياتها المصادرة.

الثورة وآثارها

بعدما عادت الجماعة كان لابد من وجود مرشد عام يقود الجماعة وحينما لم يستقر الأمر ويسفر عن اختيار أحد من المرشحين قام الإخوان باختيار المستشار حسن الهضيبي والتي التحق بالجماعة عام 1942م غير أنه لم يفصح بهذا الانضمام لطبيعة القضاة، وكان قاضي ذو خبرة معروف بكراهيته للعنف، واستقال من القضاء ليصبح المرشد العام للجماعة، وتحدث صراحة عن الجهاز السري، وحاول حله، غير أن بعض أعضاؤه رفضوا ذلك وحدثت بينهم فرقة.

حرب القنال

في 8 أكتوبر 1951 ألغى رئيس الوزراء النحاس باشا المعاهدة المصرية – الإنجليزية لعام 1936، وأثار ذلك مظاهرات ضخمة لدعم استقلال مصر، وبدأت أعداد ضخمة من الناشطين الوطنيين على رأسهم أعضاء من الإخوان، بدأوا في الإعداد للصراع المسلح مع البريطانيين في منطقة قناة السويس

واندلعت الحرب واستطاع الإخوان أن يكبدوا المحتل الكثير من الخسائر في الارواح والمعدات حتى شهدت بذلك صحف بريطانيا واستشهد من الإخوان بعض عناصرهم منهم عمر شاهين وأحمد المنيسي وغيرهم في 25 يناير عام 1952، هاجمت القوات البريطانية نقطة بوليس في منطقة القنال ونتج عن ذلك معركة مدوية بين المحتل وقوات الشرطة والتي استشهد منهم عدد كبير.

في اليوم التالي وفي القاهرة، تحرك الطلاب والبوليس والضباط، ساروا معًا إلى البرلمان مطالبين بإعلان الحرب على إنجلترا، أثناء ذلك أشعل آلاف من المشاغبين النار في المدينة ودمروا معظم وسط المدينة وأحالوه أطلالاً، لم يشارك الإخوان كتنظيم، وأصدر الهضيبي بيانًا تنصل فيه من أعمال الشغب، واتجهت اصابع الاتهام للملك وأعوانه.

ثورة 23 يوليو

في 23 يوليو استولى الضباط الأحرار بقيادة محمد نجيب على السلطة وأطاحوا بالملكية، وتم الترحيب بالانقلاب الجديد بحماس شديد في أنحاء مصر. لعب الإخوان دورًا مساندًا ولكن ليس حرجًا في الثورة، وكان أعضاء من الضباط الأحرار بما فيهم جمال عبد الناصر (الذي أصبح قائدًا للنظام الجديد)، وأنور السادات كانوا قد قطعوا صلتهم بالإخوان المسلمين منذ الأربعينات خوفا على أنفسهم خاصة بعد حل الجماعة عام 1948م واكتشاف التنظيم الخاص.

فقد كان بعضهم أعضاء في الجماعة (ربما يكون ناصر واحدًا من هؤلاء) وكان أعضاء من الإخوان قد حاربوا جنبًا إلى جنب مع الضباط في فلسطين، وتسلحوا وتدربوا على أيديهم للانتشار في منطقة القنال في العام الذي سبق الثورة. ورغم قلق الهضيبي، إلا أن الإخوان قد وافقوا على مساعدة الثورة، غالبًا بالحفاظ على النظام، وحماية الأجانب والأقليات، وتشجيع الدعم الشعبي للانقلاب العسكري.

بعد الثورة، كانت العلاقات بين الإخوان ومجلس الثورة هادئة ولكن سرعان ما تعكَّرت ومن بين أسباب ذلك عدم رغبة الجيش من أن يشاركه أحد في السلطة أو ترك الحكم والعودة للثكنات، وأمام إصرار الإخوان على إعلان دستور إسلامي، وعدم ثقة الهضيبي العميقة في ناصر، وعدم ثقة الأحزاب في العسكر حلت الحكومة جميع الأحزاب والجماعات السياسية ما عدا الإخوان المسلمين في عام 1953م ككونها ليست حزبا سياسيا غير أنه في يناير 1954م قام العسكر بحل الإخوان المسلمين واعتقال بعض قادتها

كون عبد الناصر حزبًا جديدًا، وهو هيئة التحرير، وقصد من وراء ذلك كسب أولئك المصريين الذين ظلوا على شكَّهم في الثورة، واقترح النظام ضم الإخوان إلى هيئة التحرير غير أن الإخوان رفضوا، وكون النظام قد حيد جميع المجموعات السياسية، لم يستطع النظام أن يتجاهل الإخوان إلا أنه كان غير راغب في إعطائهم دورًا أكبر في الحكومة.

أصدر المستشار الهضيبي قرارا بحل التنظيم الخاص وجعله تنظيما علنيا غير أنه قادته القدماء اعترضوا وحاولوا ايثارة الفتن والقلاقل مما دفع الهيئة التأسيسية للجماعة باصدار قرار بفصل عبد الرحمن السندي والصباغ وأحمد حسن وغيرهم.

في يناير 1954، أرسل النظام الحاكم أعضاءً من هيئة التحرير ليفرق تجمع لطلاب الإخوان المسلمين مستخدمًا مكبرات الصوت، وتحولت المواجهة إلى معركة، أصدرت الثورة قرارًا بحل جماعة الإخوان المسلمين على أرضية أن الهضيبي ومعاونوه كانوا يخططون لقلب نظام الحكم. واعتقل الهضيبي مع مئات آخرين، واستخدمت مجلس قيادة الثورة معايير قمعية ليحمي نفسه، وقد رؤي أنها سياسة ناصر بصفة خاصة.

بسبب تهاوي شعبيته، مما أدى إلى مظاهرات ضد ناصر وصراع على السلطة بينه وبين محمد نجيب فشل النظام في الوفاء بالوعود التي قطعها على نفسه للجماعة (مثال: فيما يتعلق بإطلاق سراح السجناء)، مما أدى بالعلاقات أن تفسد مرة أخرى، وفي خطاب موجه للحكومة، دعا الهضيبي إلى رفع القانون العسكري، والعودة إلى ديمقراطية برلمانية، وإنهاء مراقبة الصحف، أثناء ذلك.

استأنفت بريطانيا ومصر محادثات تتعلق بقناة السويس، وأُعلنت اتفاقية على أساس بنود المعاهدة الجديدة انتقدها الهضيبي فورًا على أنها كريمة جدًا تجاه الإنجليز، وتهدد سيادة مصر، بدأت الحكومة بعد ذلك في استخدام البوليس لإثارة المواجهات العنيفة مع الإخوان في التجمعات السلمية في المساجد وأماكن أخرى، وغزو عيادات الإخوان ودمروها

وفي كل حالة كانت الحكومة تلقي باللوم على الإخوان في التحريض على المصادمات، واختفى الهضيبي، وبدأت الصحافة في حملة لاذعة، وأعلنت أن إخوانًا عديدين كانوا يسافرون إلى الخارج مدانون بالخيانة وسحبت عنهم الجنسية المصرية وذلك عام 1955م.

حادثة المنشية والصدام القوي

وقعت المعاهدة مع بريطانيا في 19/10/1954 فاعترض الإخوان غير أن عبد الناصر كان قد أعد العدة للإجهاز على الإخوان وبالفعل في 26 أكتوبر 1954م وأثناء خطابه في المنشية حدث إطلاق نار على عبد الناصر واتهم الإخوان وتم اعتقال الآلاف منهم وإقامة المحاكمات والتي قضت بالإعدام على العديد نفذ في ستة منهم وهم الشهيد محمد فرغلي وعبد القادر عودة وإبراهيم الطيب ويوسف طلعت وهنداوي دوير ومحمود عبد اللطيف، وقضت بأحكام مشددة على البقية، رغم أن الحادث كما يجمع المؤرخين أنه كان من اعداد عبد الناصر ليزيد من شعبيته.

المحاولة التي استهدفت حياة ناصر أعطته شعبية كان في حاجة إليها، ومكنته أن يسود في معركة السلطة مع نجيب وزودته بالفرصة المحكمة للقضاء على الإخوان، وكان التنظيم رسميًا محلول، وأحرقت الحكومة مراكز عمل الجماعة، واعتقلت الآلاف من أعضائها، ونظمت محاكمات صورية ، بينما اتهمت الصحافة الرسمية الهضيبي ونظامه بكل نوع ممكن تصوره من التآمر.

مذابح الإخوان

خلال حكم جمال عبد الناصر في مصر، كثير من أعضاء الإخوان المسلمين كانوا معتقلين في معسكرات مكثفة، حيث كانوا يعذبون وبعضهم مات في الحبس بما فيهم 21 قُتلوا في زنازينهم في يونيو 1957م، وهي ما سميت بمذبحة طرة، وكان سيد قطب أحد هؤلاء المعذبين، وكان قطب محرر سابق لمجلة الإخوان، وكاتب واسع الخيال، وكان يكتب في النقد الأدبي، وفي القضايا السياسية والاجتماعية، وهو مؤلف (كتاب العدالة الإجتماعية في الإسلام) الذي سجل أحسن المبيعات.

وأرسى دعائم الاشتراكية الإسلامية، وأصبح قطب لفترة من الوقت أعظم مفكر في الإخوان، وفي عام 1959 أعطاه المرشد العام للإخوان حسن إسماعيل الهضيبي، المسئولية عن الإخوان المحتجزين في السجون والمعسكرات المكثفة، وحاول قطب أن يفسِّر الوضع في المعسكرات على ضوء الإسلام، هذه الانعكاسات التي تداولها كتعليقات على فقرات من القرآن، شملت تحليلاً للنظام. بدأ الإخوان الذين كانوا خارج السجون في إعادة التنظيم، ونظمت زينب الغزالي رئيس جمعية المرأة المسلمة عملاً خيريًا لمواجهة الاحتياجات الأساسية للإخوة الذين سجنوا.

عمل بعض الإخوة على إعادة التنظيم ومنهم عبد الفتاح إسماعيل أحد قيادي الإخوان، ولقد لعبت زينب الغزالي دورًا أساسيًا في إعادة بناء التنظيم. وبينما كان تركيز زينب الغزالي على التعليم الإسلامي، ظهرت أيضًا مجموعات أخرى من الإخوان، وكانوا تواقين للثأر من قمع الإخوان عام 1954، ووجدوا الإطار التحليلي، والبرنامج السياسي الذي كانوا يبحثون عنه في كتابات قطب، التي كانت تنشرها زينب الغزالي وكان فيها تقييم لنظام ناصر وللطريقة التي يمكن هزيمته بها.

في عام 1964، أطلق سراح قطب لعدة أشهر، ونشر كتابه (معالم في الطريق) وأعيد طباعته خمس مرات، ناقش فيها أن الإنسانية كانت في غمار أزمة عميقة سببها الفشل في تبني نظام القيمة. وكان تهديد الحرب النووية عرضًا لهذا المرض، نُظُم القيمة التي هيمنت على العالم فشلت في تحقيق عيش البشرية في انسجام وحتى في الوفاء بما وعدت به، مفهوم العالم الغربي للديمقراطية القائم على الإيديولوجية الفردية، أدى إلى ظلم اجتماعي ضخم وأدى إلى هيمنة البشرية برأس المال.

أشعل كتاب (معالم في الطريق) النقاش بين الإخوان بين شباب ناشطين فضلوا الانقلاب العسكري، والأعضاء الأكثر خبرة مثل زينب الغزالي التي أخذت وجهة نظر أن على النظام أن يجدد نفسه في العمل التعليمي لعقود حتى يكسب 75% من الشعب إلى جانبه.

تنظيم 1965م

في أغسطس 1965، ادعت الحكومة أنها اكتشفت أن الإخوان كانوا ينظمون مؤامرة انقلابية ضخمة، واعتقل حوالي 18.000 شخص، حكم على الكتير منهم وقُتل منهم 38 في الحبس تحت التعذيب، وأثناء التحقيقات، استخدم البوليس التعذيب خلال التحقيقات، والعديد ثم تعذيبهم لشهور منهم زينب الغزالي وسيد قطب

ودمر البوليس قرية كرداسة حيث اعتقد اختباء أحد المشتبه بهم فيها، واعتقل وعذب جميع سكانها، صاحب ذلك هجومًا من الصحافة على الإخوان، وعلى أساس الاعترافات التي حصلوا عليها تحت التعذيب ثم إعدام قطب وأخوان آخران في أغسطس 1966، وظهر أن المؤامرة تم فبركتها على الأرجح بواسطة رجال الأمن كجزء من الصراع بين مختلف الأجهزة داخل النظام.

بعد موت قطب، بقيت أفكاره مؤثرة إلا أنها ظلت خلافية بين الإخوان، بعض الإخوة الشباب فسروا تحليل قطب ليعني أن أي شخص فشل في الثورة ضد النظام الاستبدادي الذي كانت حكومته ليست قائمة على القانون الإسلامي، يجب اعتباره كافرًا، ورأوا في ذلك تبريرًا لسياسة ثورية.

لم توافق قيادة الإخوان التي فضلت المدخل الإصلاحي، لم توافق على هذا التفسير مشيرة إلى أنه يكفي النطق بالشهادتين ليصبح المرء مسلمًا، وأنه رغم وجود مسلمين مخطئين فلا يعتبر ذلك ذريعة للتكفير. وعلى النقيض من هؤلاء الشباب الذين أيدوا الثورة، احتفظت القيادة بوجهة نظر أن التنظيم يجب أن يعتمد على العمل التعليمي من أجل إصلاح المجتمع المصري، وهذه السياسة ميزت الإخوان منذ ذلك الحين، وأكسبتها احتقار المجموعات الإسلامية المسلحة الثورية الأخرى.

الإخوان في ظل السادات 1970-1981

خليفة ناصر، أنور السادات، أدخل سياسة تحرير الاقتصاد، وأدخل الحرية السياسية إلى مدى أقل بكثير، وفي عام 1971، أغلقت المعتقلات المزدحمة، وبدأ النظام تدريجيًا في إطلاق سراح السجناء رغم بقاء الجماعة غير قانونية، واستعاد الباقون حريتهم في العفو العام لسنة 1975، لم تعين الجماعة رسميًا مرشدًا عامًا جديدًا بعد موت الهضيبي عام 1973، وأصبح عمر التلمساني هو المتحدث البارز باسم النظام، ورغم أن التنظيم رفض إعطاء ولاءه للسادات

إلا أن انتقادات السادات على اليسار المصري، منعتهم من اتخاذ موقف واضح ضد النظام وضد عدم المساواة الاقتصادية، وشمل بعد ذلك النظام رجال أعمال ناجحين استفادوا من سياسات اقتصاد السوق الحر الذي أحدثه السادات. كان المطلب السياسي الرئيسي للإخوان خلال تلك الفترة هو تطبيق الشريعة، واستجابت الحكومة ببدء مراجعة طويلة للقوانين المصرية لتقرر أفضلية انسجام تلك القوانين مع الشريعة، وفي عام 1980 عُدِّل الدستور ليقرر أن الشريعة مصدرًا رئيسيًا للتشريع.

هناك هدف آخر هام للإخوان، كان إقناع الحكومة لتسمح لهم بالعمل قانونًا، وأن يعملوا كحزب سياسي، يستطيع ممثلوه الترشيح للبرلمان، إلا أن هذا الطلب لم يستجاب له، وقانون الأحزاب السياسية لعام 1977 حظر قيام الأحزاب على أسس دينية، ومع ذلك فقد كان مسموحًا للإخوان إلى حد ما بالعمل، وفي عام 1976، سُمح لهم بنشر جريدتهم الشهرية الدعوة، حيث وصل توزيعها إلى حوالي 100.000 نسخة، قبل إغلاقها عام 1981.

ركزت الدعوة على مشكلة فلسطين، ولم يوافق محرروها على معاهدات كامب ديفيد لعام 1978، واتفاق السلام الموقع بين مصر وإسرائيل عام 1979، مناقشين أن إسرائيل لا تقبل مطلقًا بحل سلمي وعادي للمشكلة، وكانت مقالات في الدعوة ترسم كل يهودي سواء كان إسرائيليًا أم لا أنه غير جدير بالثقة ومذنب فيما تحمله الفلسطينيون من ظلم.

اختلف العلماء في تأثير الإخوان على السياسة المصرية في السبعينات، ولكن من الواضح أن هناك حركات إسلامية أخرى جاءت لتلعب دورًا أكثر أهمية، فبعد هزيمة مصر عام 1967، في حربها مع إسرائيل، اعترض الطلاب والعمال لفشل النظام في تحمل المسئولية عن الهزيمة، وبدءوا للدعوة إلى إقامة نظام سياسي أكثر ديمقراطية.

كانت حركة الطلاب العريضة التي تشكلت في البداية علمانية في طبيعتها، ولكن الطلاب المسلمون قفزوا تدريجيًا إلى الطليعة، نظرًا لقدرتهم على توظيف شعارات عملية للمشاكل التي يواجهونها في حياتهم اليومية، وذلك عن طريق اتحاد الطلاب الذي كانوا ينتخبون في أماكن المسئولية فيه بشكل متزايد، وعندما تسببت سياسات السادات الاقتصادية في زيادات هائلة في الأسعار خاصة أسعار الاحتياجات الرئيسية الضرورية للمواطن

وتفشي الذل في الخدمات العامة (مما أدى إلى ثورات ضخمة في يناير 1977)، حصلت تلك المجموعات على النفوذ خارج الجامعات كذلك، ودُعي قادة من الإخوان للحديث في التجمعات الهائجة التي كان ينظمها مجموعات من الطلاب في الأعياد الدينية، وعندما بدأت الحكومة في قمع حركة الطلاب، ومهاجمتها باستخدام بوليس الشغب، تحمضت علاقات الإخوان بالحكومة.

رفض المتحدثون باسم الإخوان بشكل ثابت العنف الثوري والإرهاب الذي تقوم به الجماعات الإسلامية المسلحة التي ظهرت في مصر خلال السبعينات (مثل الجهاد التي اغتالت السادات في أكتوبر 1981) في نفس الوقت أدانوا اضطهاد البوليس القاسي مما أدى إلى ظهور التطرف، وأنه إذا كان الإخوان مسموحًا لهم بالعمل قانونًا

فقد تكون قادرة على المساعدة في منع التطرف بتوفير التعليم الإسلامي للشباب، إلا أن هذا الحديث وقع على آذان صماء، وفي الشهور التي سبقت اغتيال السادات، بينما كانت شعبيته تهوي أمر السادات باعتقالات واسعة بين القوى المعارضة، بما في ذلك الإخوان، إلا أنه قد تم إطلاق سراح الإخوة المعتقلين في يناير 1982 بعد تبرئتهم من أي تصرف خطأ.

الإخوان في ظل مبارك 1981 حتى الآن

خلال رئاسة حسني مبارك، الذي خلف السادات عام 1981، واستمر في السلطة منذ ذلك الحين وحتى الآن، فإن علاقة الإخوان بالحكومة مازالت كما كانت عليه أيام السادات، مسموح للإخوان إلى درجة ما إلا أنها محظورة رسميًا، وغير مسموح لهم بتوزيع منشورات أو التجمع والتجمهر علنًا.

وعرضة لاعتقالات دورية، ومع ذلك فقد كانوا ينشرون صحيفتين (لواء الإسلام، والاعتصام) واحتفظوا بمكاتب إقليمية، وأصدروا تصريحات، وبيعت كتب لبعض الإخوة البارزين في المكتبات، وتمسك الإخوان بنظرتهم الإصلاحية، متبعين مدخلاً متدرجًا طويل المدى لإقامة دولة إسلامية بموافقة شعبية، بإصلاح المجتمع من القاع إلى القمة، باستخدام الإقناع ووسائل أخرى غير العنف.

رغم كون الجماعة غير مقننة، إلا أنهم كانوا قادرين على أخذ ميزة التطورات الاجتماعية والسياسية في مصر مما زاد في عضوية الجماعة ونفوذها وبفرض قانون الطوارئ في مصر وتقييد المعارضة السياسية المقننة، والقطع بأن الانتخابات تزور بشكل روتيني لصالح الحكومة، مع ذلك فالجمعيات الخيرية الإسلامية، والمساجد الخاصة ازدهرت، رغم أن العديد من هذه الجمعيات غير سياسية، إلا أن هذه الشبكة اللامركزية من الجمعيات التي تتبع أجندات مختلفة، وتتمتع بدرجات مختلفة من الاستقلالية عن الدولة

مما أتاح للمعارضة التعبير، كما أن هناك ما يثبت أن الناشطين الإسلاميين قد حققوا بعض النفوذ خلال بيروقراطية الدولة، وأن هناك مؤيدون كُثُر منهم الأطباء والمدرسين والمديرين، واستفاد الإخوان من هذه التطورات أكثر من أي مجموعة أخرى سياسية إسلامية، ويرجع ذلك لطبقة من النشطين في عمر الثلاثين والأربعين الذين شحذوا مهاراتهم في الحركة الطلابية في ظل السادات والتحقوا بالإخوان بعد التخرج.

لقد أصبح الإخوان ناجحين في تجنيد الشباب بصفة خاصة، بما فيهم شباب الجامعات والخريجين الجدد، وأصبح من الصعب الوصول إلى الأعمال، والسلع التموينية، وتكاليف الزواج التقليدي، كل ذلك أصبح الوصول إليه صعبًا، أضف إلى ذلك الفساد المستشري، والنظام البوليسي الاستبدادي المغلق، مما ولَّد اغترابًا ويأسًا، ويقدم إحياء الإسلام طريقة في الحياة يحترم فيها الشباب إيمانه وتقواه ويقدر أن التعليم الإسلامي أفضل من الألقاب والثروات

ومما يثير الإعجاب فيه أن يعيش الإنسان ببساطة، كما تعمل وجهة النظر التي تقول أنه واجب على كل مسلم أن ينشغل بالإصلاح السياسي والاجتماعي (هذا ما يؤكد عليه الإخوان) يعمل كترياق للاغتراب السياسي والانهزامية، والنساء من الطبقات الدنيا والوسطى وجدن أن المراقبة الدينية المقيدة تعطيهن مزيدًا من الاحترام، وتساعدهم على عدم اعتبار المعايير الاجتماعية الأخرى التي قد تحدد اختياراتهن في مجال مثل التعليم والوظيفة والزواج.

ويشمل عمل الشباب في الإخوان تنظيم ندوات وألعابًا إسلامية، ومساندة مرشحي الإخوان في الاتحادات الطلابية، والنقابات المهنية وفي البرلمان، والمشاركة في المظاهرات.في الثمانينات وأوائل التسعينات، كان المزيد والمزيد من أعضاء النقابات المهنية القيادية من خريجي الجامعات، كانوا معوقين اقتصاديًا وساعدت أصواتهم الانتخابية مرشحي الإخوان في الحصول على أغلبية كبيرة في المجالس التنفيذية للعديد من هذه النقابات، مثل نقابة المحامين والأطباء والصيادلة، والمعلمين والمهندسين، هازمين الحكومة والعلمانيين، ومرشحي الجماعات الإسلامية المسلحة في انتخابات تنافسية مفتوحة

ووضعت العديد من النقابات تحت قيادة الإخوان وضعت برامج للمساعدة في علاج الصعاب العملية التي يواجهها الخريجين الشباب مقدمين تأمينًا صحيًا، وقروضًا منخفضة الفائدة، وتدريبًا لملء الفجوات التي خلفتها المقررات الجامعية الغير كافية، ومع ذلك، فهذه البرامج يرجع نجاحها إلى فطنة الناخبين لمرشحيهم كأمناء ومتحركين بشعور الواجب المدني، على النقيض من الفساد الذي تميزت به غالبًا النقابات المهنية، وقد أعطت هذه النقابات للإخوان منبرًا تنتقد منه حرمان مصر من البرلمان الحر، والانتخابات الرئاسية، واستخدام التعذيب في السجون، والدعوة إلى إنهاء قانون الطوارئ.

أعطت الانتخابات البرلمانية، رغم انغلاقها بدرجة كبيرة أمام المعارضة، أعطت بعض المؤشرات عن شعبية الإخوان المسلمين في ظل حكم مبارك، ففي انتخابات عام 1984، كان مسموحًا للإخوان تقديم مرشحين من خلال حزب الوفد، وفي عام 1987، كان مسموح إعادة التجربة من خلال حزب الأحرار، في كلتا الحالتين تلقى الحزب المنحاز للإخوان مزيدًا من الأصوات أكثر من أحزاب المعارضة الأخرى مجتمعة.

بدءًا من عام 1992، لجأت الحكومة مرة أخرى إلى المعايير القمعية لوقف نفوذ الإخوان المتزايد، وفي عام 1993 وضعت الاتحادات المهنية تحت السيطرة المباشرة للدولة، وفي عامي 95، 1996 تم اعتقال أكثر من 1000 أخ، العديد منهم حكم عليهم بواسطة محاكم عسكرية لعدة سنوات من الأشغال الشاقة، وكانت التهمة الرئيسية أن المتهمين كانوا أعضاء في تنظيم غير قانوني. خطط لقلب نظام الحكم، في نفس الوقت، وجهت الدولة حملة إعلامية ضخمة ضد الإخوان، متهمة إياهم بأنها جماعة إرهابية، وكان المقصود منع الإخوان المشاركة في الانتخابات.

وشبيه بذلك حدث في عام 1998، حيث تم اعتقال المئات من الطلاب الناشطين إسلاميًا قبيل انتخابات اتحاد الطلاب، وكان الإخوان بصفة خاصة عرضة لهذه الهجمات بسبب نقص الدعم بين الطبقات المتوسطة العليا، والعمال الصناعيين والقطاعات الأفقر والأقل تعليمًا من المجتمع المصري.

المزيد من القمع الحكومي أدى إلى أزمة بين الحرس القديم من الإخوان الذين هيمنوا على مكتب الإرشاد وبين قادتها من الجيل المتوسط، الذين فضلوا التعاون مع التيارات السياسية الأخرى وثار نقاش داخلي أكثر انفتاحًا على القضايا السياسية، وبذل مجهود أكثر تنسيقًا من أجل تقنين التنظيم ومزيد من التفسير الليبرالي للإسلام.

في عام 1996، ترك مجموعة من القادة البارزين من جيل الوسط –الإخوان ليكونوا حزبًا سياسيًا جديدًا يسمى حزب الوسط، ويقصد إلى تمثيل منبر مدني قائم على العقيدة الإسلامية، يؤمن بالتعددية وتبادل السلطة وكسب حزب الوسط دعم المثقفين العلمانيين المعروفين جيدًا، إلا أن طلباته المتكررة لتقنينه رفضت.

بعد فترة من البحث عن الذات، أصبح الجيل الوسط من الإخوان أكثر نفوذًا في صفوف النظام، وفي عام 2000، قدم الإخوان 76 مرشحًا في البرلمان كمستقلين (منهم امرأة واحدة – جيهان الحلفاوي- التي لم يعترف بانتصارها في دائرتها عندما ألغت الحكومة الانتخابات هناك) وربح الإخوان 17 مقعدًا (مقدار ما حصلته أحزاب المعارضة الأخرى مجتمعة).

رغم حملة الإعلام النشطة ضد الإخوان، واعتقال العديد من مرشحيهم قبيل الاقتراع. في عام 2001 عقدت نقابة المحامين انتخابات مفتوحة لمجلس إدارتها التنفيذي للمرة الأولى منذ خمس سنوات، ومن أجل تجنب إحراج النظام اختار الإخوان الفوز بثلث المقاعد، وكسبوها.

في تصريحاتهم العامة، حرص الإخوان على التسامح الديني، ومناهضة السامية، معبرين عن ذلك في صحفهم في السبعينات، وفي السنوات الأخيرة قال المتحدث باسمهم أن الأقباط مرحب بهم ليلتحقوا بالتنظيم (يلاحظ أن حسن البنا كان له مساعدان من الأقباط وكان معروفًا عنه عدم الإجحاف تجاه الأقباط) وأصبح محمد مهدي عاكف مرشدًا عامًا للإخوان عام 2004 في عمر يناهز الـ 75 عامًا.

وقال عاكف:

إن الإسلام يبجل المسيحيين واليهود، ونحن نأمل أن يعاملوننا بنفس الطريقة، فجهل الناس هو ما يسبب الضغينة بينهم وليس ديانتهم. في السنوات الأخيرة، دعا الإخوان كثيرًا إلى مزيد من الديمقراطية، في الشرق الأوسط، وصرح عبد المنعم أبو الفتوح لمجموعة الأزمات الدولية عام 2004.

إن غياب الديموقراطية هي أحد الأسباب الرئيسية للأزمات هنا في مصر وفي الشرق الأوسط، والإخوان المسلمون يعتقدون أن الحكومات الغربية أحد الأسباب الرئيسية لنقص الديمقراطية في الإقليم، لأنهم يساندون الدكتاتورية في الإقليم العربي والإسلامي بصفة عامة، رغم حقيقة أنه ثبت أن غياب الديمقراطية والحرية هو سبب الإرهاب والعنف.

في عام 2005، بدأ الإخوان في المشاركة في المظاهرات المؤيدة للديمقراطية مع الحركة المصرية للتغيير (كفاية)، وتم اعتقال العديد منهم، والآن يوجد أكثر من 700 معتقل في مايو 2005 فقط. وفي انتخابات عام 2005م فاز 88 عضو لجماعة الإخوان في الانتخابات البرلمانية غير أن النظام كشر عن أنيابه في انتخابات 2010م والتي أعلنت المعارضة وعلى رأسهم الإخوان الانسحاب من الانتخابات اعتراضا على التزوير الفج الذي مارسه النظام.

حتى كان يوم 25 يناير 2011م حينما خرجت الطوفان البشرية في محاولة لإسقاط النظام وزاد الأمر يوم جمعة الغضب والتي حرك فيها الإخوان كل جموعها وظلوا مرابطين حتى أسقطوا النظام واستمر في العمل حتى وصلوا لرئاسة الجمهورية والتي لم تبق فيها سوى عام حدث بعدها انقلاب عسكري عليهم وزج بالآلاف في السجون وقتل الآلاف منهم.  

مرشدي الجماعة

الإمام حسن البنا

حسن أحمد عبد الرحمن محمد البنا الساعاتي هو مؤسس حركة الإخوان المسلمين سنة 1928 في مصر والمرشد الأول لها ورئيس تحرير أول جريدة أصدرتها الجماعة سنة 1933، نشأ في أسرة متعلمة مهتمة بالإسلام كمنهج حياة حيث كان والده عالماً ومحققاً في علم الحديث

تأثر بالتصوف عن طريق احتكاكه بالشيخ عبد الوهّاب الحصافي شيخ الطريقة الحصافية الشاذلية في عام 1923 وكان له أثر كبير في تكوين شخصيته، كما تأثر بعدد من الشيوخ منهم والده الشيخ أحمد والشيخ محمد زهران - صاحب مجلة الإسعاد وصاحب مدرسة الرشاد التي التحق بها لفترة وجيزة بالمحمودية - ومنهم أيضًا الشيخ طنطاوي جوهري صاحب تفسير القرآن الجواهر.

تخرج من دار العلوم عام 1927 ثم عين مدرساً في مدينة الإسماعيلية في نفس العام ونقل إلي مدينة قنا بقرار إداري عام 1941 ثم ترك مهنة التدريس في عام 1946 ليتفرغ لإدارة جريدة الشهاب.

أسس في عام 1928 جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة سياسية إسلامية تهدف إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في الحياة اليومية وإعادة الحكم الإسلامي مستنداً إلى آرائه وأطروحاته لفهم الإسلام المعاصر حيث قال: "إن الإسلام عقيدة وعبادة ووطن وجنسية ودين ودولة وروحانية ومصحف وسيف." في ظل تشتت الأمة الإسلامية ووقوعها تحت الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي والغزو الفكري الأوروبي للوطن العربي أخذ يدعو الناس إلى العودة إلى السلام ونشر مبادىء الإسلام في جميع المدن المصرية والريف.

له نتاج أدبي ومؤلفات منها رسائل الإمام الشهيد حسن البنا وتعتبر مرجعًا أساسيًّا للتعرُّف على فكر ومنهج جماعة الإخوان بصفة عامة، ومذكرات مطبوعة عدة طبعات أيضًا بعنوان مذكرات الدعوة والداعية ولكنها لا تغطِّي كل مراحل حياته وتتوقف عند سنة 1942.

وله عدد كبير من المقالات والبحوث القصيرة جميعها منشورة في صحف ومجالات الإخوان المسلمين التي كانت تصدر في الثلاثينيات والأربعينيات أوّل مقال نشره كان سنة 1928 في جريدة الفتح تحت عنوان الدعوة إلى الله وآخر مقال نشره قبل إغتياله كان بين المنعة والمحنة ونشر في كانون أول عام 1948 في جريدة الإخوان اليومية قبيل صدور قرار بحل جماعة الإخوان المسلمين في نفس الشهر.

المولد والصبا

وُلِد البنا في المحمودية من أعمال محافظة البحيرة بدلتا النيل في يوم الأحد 25 من شعبان سنة 1324 هـ وهو ينتسب إلى أسرة ريفية متوسطة الحال، كانت تعمل بالزراعة في إحدى قرى الدلتا هي قرية شمشيرة قرب مدينة رشيد الساحلية. كان جَدُّه عبد الرحمن فلاحًا، ونشأ والده أحمد بعيدا عن العمل بالزراعة، فدرس علوم الشريعة في جامع إبراهيم باشا بالإسكندرية.

والتحق أثناء دراسته بمحلٍّ لإصلاح الساعات في الإسكندرية، وأصبحت بعد ذلك حرفة له وتجارة، ومن هنا جاءت شهرته بالساعاتي. أصبح والده من علماء الحديث وله فيه مصنفات عديدة أهمها "ترتيب مسند الإمام أحمد" مع مفتاح له يسهل الوصول إلى أحاديثه، وله أيضاً كتاب بدائع المنن في جمع وترتيب مسند الشافعي وفي كنفه نشأ حسن البنا فتطبع بالكثير من طباعه،كما درس البنا على أبيه العلوم الشرعيَّة

وقد كان والده يدرك الأهميَّة الإيجابيَّة للاختلافات الفقهيَّة بين أصحاب المذاهب المتعددة، فجعل كل واحد من أبناءه يدرس واحدا من المذاهب الفقهيَّة، فكان المذهب الحنفي من نصيب حسن، وكان يعلمه دروس الفقه في المنزل، وكان يحثُّه على حفظ المتون في فروع العلوم الشرعيَّة، ويشجعه على القراءة واقتناء الكتب، وبالإضافة إلى هذا فقد علَّمه صنعة الساعات، وحرفة تجليد الكتب.

اشترك حسن البنا منذ وقت مبكر من عمره في بعض الجمعيات الدينية، وانضم لطريقة صوفية تُعرف بالطريقة الحصافية، حتى صار سكرتيراً للجمعية الحصافية للبر وهو في الثالثة عشرة من عمره. تميز حسن البنا بفهم واسع، وذكاء متقد، وذاكرة قوية، وكان حريصًا على الصلاة وأدائها في المسجد، مداومًا على تلاوة القرآن الكريم، يهتم بأداء الشعائر الدينية ويدعو زملاءه إليها، يُجيد فنَّ الحوار والإقناع، ويتميز بالشجاعة الأدبية واللباقة في الأسلوب، والأهم كانت لديه فكرة لتغيير النظم بما يتوافق مع رؤيته للإسلام.

التعليم

دخل حسن البنا الكتاب في الثامنة من عمره، وبدأ تعليمه في مكتب تحفيظ القرآن بالمحمودية، وتنقل بين أكثر من كُتَّاب حتى إن أباه أرسله إلى كتّاب في بلدة مجاورة، وكانت المدة التي قضاها في الكتاتيب وجيزة فحفظ نصف القرآن الكريم، كما تعلم القراءة والكتابة على يد معلمه الشيخ محمد زهران المحمودي صاحب كتّاب مدرسة الرشاد الدينيَّة وتأثر به، وكان دائم التبرُّم من نظام الكُتّاب ولم يُطِق أن يستمر فيه فالتحق بالمدرسة الإعدادية رغم معارضة والده الذي كان يحرص على أن يحفِّظه القرآن ولم يوافق على إلتحاقه بالمدرسة إلا بعد أن تعهّد له حَسَن بأن يُتِمَّ حفظ القرآن في منزله.

كون مع زملائه الذين كانوا يشتركون معه في الصلاة جمعية سماها "جمعية محاربة المنكرات" ، فكانوا يرسلون خطابات للمخطئين لنصحهم وإرشادهم حتى يعودوا إلى الطريق الصحيح. وبعد إتمامه المرحلة الإعدادية التحق بمدرسة المعلمين الأولية بدمنهور وهو في الرابعة عشرة من عمره، واصل البنا دعوته إلى التمسك بالإسلام فكان يوضح لزملائه في المدرسة فضل الصلاة المفروضة وأدار حلقة لقراءة القرآن الكريم قبل دخول التلاميذ لفصولهم ولم يمنعه ذلك من الاهتمام بدروسه بل كان متفوقًاً في دراسته.

ثم التحق البنا سنة 1923 وهو في السادسة عشرة من عمره بكلية دار العلوم بالقاهرة، بعد أن حصل في السنة النهائية من مدرسة المعلمين على المركز الأول فكان ترتيبه الخامس بين جميع طلاب مصر. وعندما دخل دار العلوم وتقدم لامتحانها كان يحفظ ثمانية عشر ألف بيت من الشعر وكثيرًا من النثر. أعجب البنا بالدراسة في دار العلوم وأساتذتها وأخذ يذاكر بجد ونشاط ويجتهد في دراسته فكان الأول فيها.

وتلقى دروس علم الحياة ونظم الحكومات والاقتصاد السياسي إلى جانب الدروس الأخرى في اللغة والأدب والشريعة وفي الجغرافيا والتاريخ. حتى تخرَّج منها سنة 1927. وفي هذه الفترة اتصل البنا بالشيخ محب الدين الخطيب و رشيد رضا، جمع البنا مكتبة ضخمة تحتوي على عدة آلاف من الكتب في المجالات المذكورة إضافةً إلى أعداد أربع عشرة مجلة من المجلات الدورية التي كانت تصدر في مصر مثل مجلة المقتطف ومجلة الفتح ومجلة المنار وغيرها، ولا تزال مكتبته إلى الآن في حوزة ابنه سيف الإسلام.

العمل

عُين البنا مدرساً للغة العربية بإحدى المدارس الإبتدائية بالإسماعيلية، ومنها إنطلق بدعوة الإخوان المسلمين، ثم عاد البنا في عام 1932 إلى القاهرة مرة أخرى ليزاول عمله مدرسا بمدرسة عباس بالسبتية، وأخذ يؤسس لجماعته تأسيساً واسع النطاق وينتقل بها من مرحلة إلى مرحلة. أمضى البنا ما يقرب تسعة عشر عامًا مُدرِّسًا بالمدارس الابتدائية؛ في الإسماعيلية ثم في القاهرة، وعندما استقال من وظيفته كمدرس في سنة 1946.

كان قد نال الدرجة الخامسة في الكادر الوظيفي الحكومي، وبعد استقالته عمل لمدة قصيرة في جريدة الإخوان المسلمون اليومية، ثم أصدر مجلة الشهاب الشهرية إبتداءً من سنة 1947؛ لتكون مصدرًا مستقلاًّ لرزقه ولكنها أغلقت بحل جماعة الإخوان المسلمين في 8 من ديسمبر 1948.

مساهمة البنا في العمل الدعوي

عندما تألفت جمعية الأخلاق الأدبية وقع اختيار زملائه عليه ليكون رئيسًا لمجلس إدارة هذه الجمعية، ثم أنشأوا جمعية أخرى خارج نطاق مدرستهم سموها جمعية منع المحرمات، ثم تطورت الفكرة في رأسه بعد أن التحق بمدرسة المعلمين بدمنهور. فأنشأ الجمعية الحصافية الخيرية التي زاولت عملها في حقلين أساسيين هما: نشر الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة ومقاومة المنكرات والمحرمات المنتشرة. والثاني: مقاومة الإرساليات التبشيرية.

بعد إنتهائه من الدراسة في مدرسة المعلمين انتقل إلى القاهرة وانتسب إلى مدرسة دار العلوم العليا فاشترك في جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية. ويبدو أن فكرة تكوين جماعة الإخوان قد تبلورت في رأسه أول ما تبلورت وهو طالب بدار العلوم، فقد كتب موضوعًا إنشائيًا كان عنوانه ما هي آمالك في الحياة بعد أن تتخرج؟

فقال فيه:

"إن أعظم آمالي بعد إتمام حياتي الدراسية أمل خاص وأمل عام. فالخاص: هو إسعاد أسرتي وقرابتي ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. والعام: هو أن أكون مرشدًا معلمًا أقضي سحابة النهار في تعليم الأبناء وأقضي ليلي في تعليم الآباء أهداف دينهم ومنابع سعادتهم، تارة بالخطابة والمحاورة، وأخرى بالتأليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة."

تأسيس جماعة الإخوان المسلمين

بعد إلغاء الخلافة الإسلامية سنة 1924 أصبح الدين من وجهة نظر البعض علامة على الجهل والتأخر والبعد عن الحضارة، وخلع الكثير من نساء مصر الحجاب، فعمل حسن البنا على تكوين جماعة من الدعاة المتحمسين من طلبة دار العلوم والأزهر، وخرجوا إلى الناس في المساجد والمقاهي يخاطبونهم بأسلوب بسيط، ويرشدونهم إلى التمسك بدينهم واتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى عندما تم تعيينه مدرساً عام 1927 بمدارس الإسماعيلية للبنين، لم يتوقف عن دعوته

واختار أن يتوجه بالدعوة للناس في المقاهي التي تزدحم بهم فكان يصور لهم الحياة الإسلامية على أنَّها بناء يقوم على أربعة أعمدة؛ الحكومة، والأمة، والأسرة، والفرد. تأثر بدعوته الكثيرون، فأسس البنا جمعية الإخوان المسلمون في الإسماعيلية، ثم تم نقله ليعمل مدرساً في القاهرة، وأخذ يدعو المسلمين إلى العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى عظم أمر الإخوان المسلمون وبلغ عددهم في ذلك الوقت أكثر من نصف مليون فرد.

سبب التأسيس والنواة

تأسست جماعة الإخوان في مارس - آذار سنة 1928، حيث زار حسن البنا في منزله، حافظ عبد الحميد، أحمد الحصري، فؤاد إبراهيم، عبد الرحمن حسب الله، إسماعيل عز، وزكي المغربي، الذين تأثّروا من محاضراته

وقالوا له - كما يروي البنا في مذكراته:

"لقد سمعنا ووعينا، وتأثّرنا ولا ندري ما الطريق العملية إلى عزة الإسلام وخير المسلمين. لقد سئمنا هذه الحياة، حياة الذلة والقيود. وها أنت ترى أنّ العرب والمسلمين في هذا البلد لا حظّ لهم من منزلة أو كرامة، وأنهم يعدّون مرتبة لأجراء التابعين لهؤلاء الأجانب... وكل الذي نريده الآن أن نقدّم لك ما نملك لنبرأ من التبعة بين يديّ الله. وتكون أنت المسؤول بين يديه عنا. كما يجب أن نعمل جماعة تعاهد الله مخلصة على أن تحيا لدينه وتموت في سبيله، لا تبغي بذلك إلا وجهه وجديرة أن تنصر، وإن قلّ عددها وقلّت عُدَّتها"."

وافق البنا، وكانت البيعة، فتم تأسيس مدرسة التهذيب لحفظ القرآن وشرح السور، وحفظ وشرح الأحاديث النبوية وآداب الإسلام، فصارت المدرسة مقراً للإخوان، وخرّجت الدفعة الأولى من الإخوان وكان عددهم أكثر من سبعين، بدأ عمل الإخوان ينتشر في نواحي حياتية واسعة مثل بناء المساجد ونشر العلم ومساعدة المحتاجين

وجاء في خطبة البنا الأولى في مسجد الإخوان:

"إذا كان أحدنا يحرص على محبة الكبراء وإرضاء الرؤساء، والأمة تجتلب مرضاة الدول، وتوثيق العلائق فيما بينها وبين الحكومات الأخرى، وتنفق في ذلك الأموال، وتنشىء له السفارات والقنصليات، أفلا يجدر بنا ويجب علينا أن نترضّى دولة السماء، وعلى رأسها رب العالمين الذي له جنود السموات والأرض، وبيده الأمر كله؟! نترضاه بإنشاء المساجد وعمارتها، وأداء الصلوات فيها لأوقاتها فيمدّنا بجنده الذي لا يغلب وجيشه الذي لا يقهر "

ما أوجد للبنا ولأصحابه أعداءا حاولوا دسّ الدسائس بواسطة تقديم عرائض إلى رئيس الحكومة آنذاك، صدقي باشا، تتهمه بأنّه مدرّس شيوعي يتصل بموسكو، أو وفدي يسعى للإطاحة بالحكومة، أو يتفوّه ضد الملك فؤاد، أو يجمع المال بصورة غير قانونية.

الإنتشار والهدف

تطورت جماعة الإخوان وانتشرت في مختلف فئات المجتمع، حتى أصبحت في أواخر الأربعينيات أقوى قوة اجتماعية سياسية منظمة في مصر، كما أصبح لها فروع في عدد من البلدان العربية والإسلامية، كان البنا يؤكِّد دومًا على أن جماعته ليست حزبًا سياسيًّاٍ، بل هي فكرة تجمع كل الأفكار الإصلاحية، وتسعى إلى العودة للإسلام واتخاذه منهجًا شاملاً للحياة

ويقوم منهجه الإصلاحي على التربية والتدرج في إحداث التغيير ويتلخص هذا المنهج في تكوين الفرد المسلم والأسرة المسلمة ثم المجتمع المسلم ثم الحكومة المسلمة فالدولة فالخلافة الإسلامية وأخيرًا الوصول إلى أستاذية العالم. والمعنى هو أن يكون الإخوان هم القدوة والقِبلة التي يجب أن تتجه إليها كافة الأنظار لتتعلم منها وتنهل من علومها وتجاربها.

العمل السياسي

خاض البنا وجماعة الإخوان المسلمين على مدى عقدين من الزمان (1928 - 1949) العديد من المعارك السياسية مع الأحزاب الأخرى، وخاصةً حزب الوفد والحزب السعدي. فقد قاومت الأحزاب المصرية فكر حسن البنا وحالت دون توسع الإخوان المسلمين سياسياً

كما خاض البنا الانتخابات المصرية أكثر من مرة بدائرة الدرب الأحمر بالقاهرة، وكان بها المركز العام لجماعته وكان يقطن بها بـحي المغربلين، لكنه لم يفز في أي مرة في أي دائرة لا هو ولا زملاؤه بما فيهم أحمد السكري سكرتير الجماعة وكان مرشحًا بالمحمودية مقر ولادته.

في الأعوام التالية لنهاية الحرب العالمية الأخيرة اتجه إلى القيادة الشعبية العامة وعدم انحصاره في دائرة جماعته حيث إنه كان يخاطب جماهير الشعب ويحثها على الالتزام بتعاليم الإسلام والعمل له تحت لواء جماعته، على أن الترشيح للانتخابات البرلمانية سنة 1944 كان بداية للتحرك بين جماهير الشعب، استفاد البنا من الظروف السياسية في مصر عقب الحرب العالمية

خاصة بعدما اهتزت زعامة حزب الوفد الشعبية بعد قبوله الحكم نتيجة للتدخل البريطاني سنة 1942 ولم تستطع الأحزاب السياسية الأخرى أن ترث هذه الزعامة، في حين تزايدت أعداد الإخوان ومناصريهم وبرزت مطالب قومية عامة بعد انتهاء الحرب، وتطلع الشعب لمن يقوده لتحقيق جلاء الإنجليز عن البلاد، ثم جاءت قضية فلسطين وقرار تقسيمها والإحتلال الصهيوني فزاد من سخط الشعب وهياجه.

فانطلق البنا يقود المظاهرات الشعبية العامة التي خرجت من الأزهر بعد قطع المفاوضات وعرض قضية مصر على مجلس الأمن وخطب في الجموع إلى جانب كبار رجالات مصر والعروبة عام 1947 وقد جرح في إحداها. وفي المظاهرة الشعبية الكبرى التي تجمعت بميدان الأوبرا في القاهرة تأييداً لفلسطين في ديسمبر 1947 بعد تقسيم فلسطين خطب البنا إلى جانب رياض الصلح والأمير فيصل بن عبد العزيز والشيخ محمود أبو العيون وجميل مردم وصالح حرب وإسماعيل الأزهري والقمص متياس الأنطوني مندوب بطريركية الأقباط الأرثوذكس.

الإخوان وفلسطين

اهتم البنا بقضية فلسطين واعتبرها قضية العالم الإسلامي بأسره ودعى إلى الثورة والقوة والدم، في مواجهة ما يسميه التحالف الغربي الصهيوني ضد الأمة الإسلامية ودعا إلى رفض قرار تقسيم فلسطين الذي صدر عن الأمم المتحدة سنة 1947 ونادى بالجهاد في فلسطين؛ "حتى يمكن الاحتفاظ بها عربية مسلمة"

وقال:

"إن الإخوان المسلمين سيبذلون أرواحهم وأموالهم في سبيل بقاء كل شبر من فلسطين إسلاميًّا عربيًّا، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. "

بدأت صلة البنا بفلسطين بصداقته للحاج أمين الحسيني عندما كان طالباً في القاهرة فكانا يتجاذبان أطراف الحديث عن فلسطين، فشرع البنا يرسل شباب الإخوان في مساجد القاهرة والمحافظات يحدثون الناس عن ظلم الإنجليز وبطشهم وتآمرهم على أهل فلسطين، ثم دعا بعد ذلك إلى مقاطعة المجلات اليهودية في القاهرة، فطبع قائمة كشوف بأسماء هذه المجلات وعناوينها، والأسماء الحقيقية لأصحابها وذيلت الكشوف بعبارة إن القرش الذي تدفعه لمجلة من هذه المجلات، إنما تضعه في جيب يهود فلسطين ليشتروا به سلاحاً يقتلون به إخوانك المسلمين في فلسطين.

دعى البنا إلى عقد أول مؤتمر عربي من أجل نصرة فلسطين، وجمع التبرعات للحركة الجهادية الفلسطينية، ومن الوسائل التي ابتكرها إصدار طابع بقيمة قرش وتوزيعه على الناس. آمن البنا بالحل باستخدام القوة، وبدأ البنا بإرسال شباب الإخوان من مصر إلى فلسطين في بداية الثلاثينيات خلسة

حيث تسللوا من شمال فلسطين شاركوا مع عز الدين القسام، ودخل قسم من الإخوان تحت قيادة الجيوش العربية التابعة لجامعة الدول العربية، وبلغ مجموع الإخوان المسلمين الذين استطاعوا أن يدخلوا أرض فلسطين بشتى الوسائل 10 آلاف مجاهد، وقاموا بنسف مقر قيادة اليهود وقاتلوا في مدينة الفالوجة.

بعد قضية تزويد الجيش المصري بأسلحة فاسدة، تيقن البنا من عدم جدية الدول العربية في القتال، وأنها تخضع لرغبات الدول الاستعمارية وقال حينها: " إن الطريق طويل والمعركة الكبرى معركة الإسلام التي ربينا لها هذا الشباب لا تزال أمامه، أما إسرائيل فستقوم، وستظل قائمة إلى أن يبطلها الإسلام."

وقاد بعدها البنا مظاهرة في مصر خرج فيها نصف مليون شخص في عام 1947 - قبل اغتياله بسنتين - ووقف فيهم خطيباً وقال:

دماؤنا فداء فلسطين

أرواحنا فداء فلسطين

في شهر رجب 1358هـ الموافق أغسطس 1939 أعلن الإخوان المسلمون يوم 27 رجب يوم فلسطين وذكرى الإسراء والمعراج منطلقًا لبدء حملة كبيرة لنصرة فلسطين. وفي هذه الأثناء كان حسن البنا يقوم بجولته ورحلته الصيفية الطويلة والمعتادة في مدن وقرى الصعيد، ومن هناك بعث إلى الإخوان يُذكِّرهم بالقضية، ويحملهم التبعة والمسؤولية، ويحفِّزهم للحركة والجهاد والتضحية.

اعتاد البنا إرسال رسائل إلى الحكومة المصرية حول قضايا عديدة، ومما جاء في رسالة البنا إلى علي ماهر باشا، رئيس الحكومة المصرية:

".... إن هذا المسعى الإنساني المشكور - قرار المعونة المصرية للشعب الفلسطيني - ليس هو كل شيء في القضية العربية، فإنّ الفلسطينيين الأمجاد ضحّوا بالأموال والأرواح في سبيل غاية سليمة معلومة وهي أن يصلوا إلى استقلالهم وحريتهم وأن ينقذوا وطنهم من خطر الطغيان اليهودي الصهيوني.
وقد شاركهم المسلمون والعرب في كل أقطار الدنيا هذا الشعور وأيّدوهم فيه. وكان للحكومة المصرية، وكان لرفعتكم بالذات نصيب في الجهاد المبرور. وعلى هذا فالمسعى السياسي لحل قضية فلسطين أهمّ بكثير من هذا المسعى الإنساني على جلاله ورحمته. وليس عليكم يا رفعة الرئيس إلا أن تكاشفوا الساسة البريطانيين بوضوح وجلاء بحقيقة الموقف... "

وأعلن البنا أن الإخوان سيقدمون عشرة آلاف متطوع في سبيل فلسطين وأبرق مؤكداً ذلك إلى الزعماء العرب المجتمعين في عالية في مايو 1948 وتعاون البنا مع رجالات من مصر والعرب أمثال صالح حرب، وعبد الرحمن عزام، وفتحي رضوان. وكانت صلته وثيقة بالحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين ورجال الهيئة العربية العليا، وقد عمل الإخوان على تهريبه حين مروره بمصر أثناء ترحيله تحت الحراسة من منفى لآخر، كما عملوا على تهريب الزعيم المغربي عبد الكريم الخطابي في ظروف مماثلة. وغدا حسن البنا الركن الركين في هيئة وادي النيل العليا التي تألفت للعمل الشعبي لأجل إنقاذ فلسطين.

وثق علاقاته بالصحفيين الذين غدوا يقدرون قدراته وآراءه وأن لم يكونوا يؤيدون مبادئ الإخوان. وعلم حسن البنا أن مسؤولية الدور الشعبي العام تتطلب ضمان التلاحم بين مسلمي مصر وأقباطها. وقد كتب حسن البنا إلى الأنبا يؤانس بطريرك الأقباط سنة 1355هـ - 1936م في شأن معاونة أبناء فلسطين وجمع التبرعات لهم.

لكن أعباء القيادة الشعبية العامة صارت تتطلب اتصالاً أكبر، فتوالت الدعوات على بطريركية الأقباط لحضور مؤتمرات الأقاليم التي أقيمت لأهداف قومية مصرية أو عربية، وأصبح هذا تقليداً متبعاً في كثير من أحفال الإخوان، حتى ما كان منها لمناسبة إسلامية مثل بداية العام الهجري أو المولد النبوي ولكسب احترام الآخرين من الساسة المشاركين المتعاونين على أعباء القيادة والجمهور.

فكتب في جريدة الإخوان اليومية حوالي سنة 1947 سلسلة مقالات تحت عنوان (اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد)، تناول فيها مشكلات مصر السياسية والاقتصادية الهامة واتجاهات معالجتها وحلها في ضوء رؤيته لتوجيهات الإسلام. وقد نشرت هذه المقالات في صورة رسالة متكاملة فيما بعد.

حل الجماعة

كانت البلاد تغلي بالأحداث وجاءت حرب فلسطين لتزيد نار الحماس التهاباً، وتدخل الإخوان في الحرب وتميزوا بتربيتهم ونظامهم، فكشفت الحرب عن حقيقة قوتهم والخطر الكامن منهم على خصومهم، فوقف الخصوم يقارنون ويرسمون الخطط لمستقبل الشرق بصفة عامة ولمستقبل مصر بصفة خاصة، وبدا على السطح ظواهر جديدة في حقل السياسة المصرية والساحة العربية لم تكن موجودة من قبل الحركة

فالحركة الطلابية يتصدرها الإخوان المسلمون وصور دور كتائب الإخوان على أرض فلسطين وضغط الإخوان على الملك والحكومة في ذلـك الوقت بضرورة مواجهة العصابات الصهيونية بقوات متطوعة وليس عن طريق الجيوش النظامية التي تأتمر بأوامر القصر الذي كان في يد الاستعمار، وشدد الإخوان ضغطهم على القصر والحكومة في ذلك حينما تبين لحسن البنا أن السلطات المصرية كان في نيتها مجرد إرسال تجريدة نظامية صغيرة لتقوم بدور العصا لتأديب العصابات الصهيونية فحسب وليست للقضاء عليها.

لم يسكت الاستعمارالبريطاني الذي كان رابضاً بجنوده على ضفاف قناة السويس والذي أعطت دولته وعد بلفور وتعهدت بتنفيذه قبل أن تنتهي مدة انتدابها على فلسطين على ذلك المد الإخواني فأخـذ يخوّف القصر وحكومات الأحزاب من الإخوان.

قال سعد الدين الوليلي عن لحظة فراق مرشده حسن البنا:

"ولا أنسى ليلة صدور قرار حل جماعة الإخوان في كانون الأول - ديسمبر عام 1948 حيث صدرت الأوامر إلى قوات الشرطة بالاستيلاء على شُعب الإخوان ومركزهم العام في الحلمية الجديدة وسوق من فيها إلى المعتقلات وشاء القدر أن أكون برفقة حسن البنا حين دهمتنا في ساعة متأخرة من الليل قوة من رجال البوليس السياسي، حيث حاصرت المبنى من كل أجزائه وقبضت على من فيه وملأت السيارات
وانتظر البنا دوره في الدخول إلى السيارة إلا أن أحداً لم يسأله ذلك، فرأيته يتشبث بالسيارة التي كنت فيها ويحاول اعتلاءها ليلقى المصير الذي يلقاه الإخوان لكن القوة لم تمكنه من ذلك ومنعته من الركوب بدعوى أنه لم تصدر من المسؤولين أوامر باعتقاله فازداد تشبثاً بالسيارة واعتلى أولى درجات سلمها وهو يصيح: لا تأخذوا هؤلاء بجريرتي فأنا أولى منهم بالاعتقال .. ولم يُسمح له وتحركت السيارات وتركته في وحدته ليلقى حتفه عندما يحين الوقت المناسب لتنفيذ الاغتيال، ولو لم تكن قد بيتت النية على قتله لكان من الطبيعي أن يكون وهو رأس الجماعة في مقدمة المعتقلين"

"لو لم يكن للشيخ حسن البنا من الفضل على الشباب المسلم سوى أنه أخرجهم من دور الملاهي في السينمات ونحو ذلك والمقاهي، وكتَّلهم وجمَّعهم على دعوة واحدة، ألا وهي دعوة الإسلام؛ لو لم يكن له من الفضل إلا هذا لكفاه فضلاً وشرفًا. هذا نقوله معتقدين، لا مرائين، ولا مداهنين." — الإمام العلامة الألباني

كان للإخوان المسلمين جهد كبير في حرب 1948 دفاعاً عن فلسطين، وعلى أكثر من جبهة؛ من مصر والأردن وسورية. كما كان للجماعة جهد كبير في التوعية تعزيز الهوية الإسلامية، والإسهام في بث روح الحرية والاستقلال؛ إذ كان الانتداب البريطاني بوقعه الهادئ يمكّن للغزو الفكري في مصر بالذات، ويهيئ الأرضية الكاملة لإقامة الكيان اليهودي وحمايته.

وعلى إثر حرب 1948 وتنامي شعبية الإخوان المسلمين، كان قرار النقراشي باشا - رئيس وزراء مصر حينها - في كانون الأول (ديسمبر) 1948 بحل جماعة الإخوان المسلمين ومصادرة ممتلكاتها، واعتقال رجالها وزجهم في السجون.

وتم التدبير لاغتيال المؤسس، وظن قاتلوه من أعوان الملك فاروق والإنجليز أنهم أنهوا دعوته. لكن سرعان ما تتابعت الأحداث، وكانت حركة الضباط الأحرار؛ فتم إنهاء حكم فاروق نفسه. لكن هذه الثورة ما لبثت أن أدخلت البلاد في نفق الاشتراكية، وشددت حربها على مخالفيها من الإخوان المسلمين الذين ساعدوا الضباط الأحرار على الثورة.

ظهرت حركات إصلاحية كثيرة خلال القرن العشرين في الهند ومصر والسودان وشمال أفريقيا وأحدثت هزات لا بأس بها، حتى قُيض لها أن تبعث من جديد على يد البنا. أستفاد البنا من تجارب من سبقوه ومن تاريخ القادة والمفكرين والزعماء الذين حملوا لواء الدعوات الإسلامية المشابهة.

الحالة الأسرية

إخوته

لحسن البنا أربعة أشقاء ذكور من بينهم عبد الرحمن البنا وجمال البنا. وأنجب حسن البنا ست بنات هن وفاء، سناء، رجاء، صفاء، هالة، واستشهاد، وولدين أحمد سيف الإسلام ومحمد حسام الدين.

حسن البنا رب أسرة

كانت عناية البنا بأمور بيته عناية ممتازة، كان يكتب بنفسه الطلبات التي يحتاجها المنزل شهرياً، ويدفعها في أول كل شهر إلى أحد الإخوان الحاج سيد شهاب الدين صاحب محل البقالة ليوفر هذه الطلبات في كل شهر، كما كان عطوفاً إلى أقصى درجة، راعى مشاعر الطفولة في أبنائه بشكل كبير، كان لدية القدرة على جعلهم يطيعونه دون ما حاجة إلى أمر، ذات مرة دار حوار بينه وبين ابنه أحمد سيف الإسلام مفاده أن دخول السينما أمر لا يليق بالمسلم فلم يحاول أن يدخل السينما قط، بل ظل حتى اليوم لم يدخلها وهذا من قوة تأثير البنا وجاذبيته.

كان أقصى ما يعاقب به الواحد من أبنائه هو قرص الأذن وفي ذات مرة قرص أذن ابنه أحمد وهذا أكبر عقاب وقع عليه، بل اتصل على ابنه تليفونياً في الساعة الحادية عشر صباحا ليطمئن عليه وصالحه، رغم أن القرص كان في الصباح لخطأ ارتكبه، كان البنا كريماً مع أبنائه يعطي الواحد منهم مصروفاً قدره ثلاثة قروش وهذا مبلغ كان يعتبر كبيراً في ذلك الوقت، مقارنةً بزملائهم في المدرسة لم يكن الواحد منهم يأخذ أكثر من ربع قرش أو نصف قرش، هذا بالإضافة إلى بعض المبالغ التي كان يعطيهم إياها في يوم الجمعة ويطلب منهم توزيعها على بعض الفقراء في المسجد، وقد يكون المبلغ خمسة قروش أو عشرة.

حسن البنا الزوج

كان البنا يحرص على تطبيق السنة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته فحينما تزوج حرص على أن يعرف أقارب زوجته فرداً فرداً، أحصاهم عداً وزارهم جميعاً رغم بعد أماكنهم أو بعد بعضهم البعض بسبب الظروف العائلية المتوارثة كأن يكونوا ليسوا أشقاء مثلاً، لكن البنا كان يفاجئ زوجته بأنه اليوم قد زار أحدهم وهذا يمت لها بصلة القرابة عن طريق فرد من الأسرة.

كان البنا يعود للمنزل دائما متأخراً بعد انتهاء العمل مع الإخوان، وكان مفتاح المنزل طويلاً إلا أنه يفتح الباب بالمفتاح الذي معه بمنتهى الدقة والهدوء حتى لا يزعج أحداً من النائمين، كان يدخل البيت فيطمئن على غطاء كل الأبناء، وقد يتناول عشاءه الذي يكون معداً على المائدة ومغطى، دون أن يحرص على إيقاظ زوجته أو أحد من أهل البيت لحضوره في هذه الساعة المتأخرة من الليل.

معاملته مع الخادمة

كانت تتواجد في المنزل خادمة صغيرة تساعد زوجة البنا في شئون المنزل، وكان لكل من في العائلة سرير مستقل ودرج مستقل في دولاب واحد، وكان للخادمة أيضاً سرير مستقل ودرج في نفس الدولاب، وكان البنا يكلف ابنته الكبرى وفاء بأن تعلم هذه الخادمة في المساء القراءة والكتابة وأن تعلمها الصلاة، وذكر البنا مرةً أنه في إحدى المرات أنه قد زار فلانة إحدى الخادمات بمنزلها بعد زواجها وكانت قد خدمت بمنزله فترة من الزمن وذلك حينما كان يزور بلدتها في المنوفية.

الأب وابنه

هناك جانباً مهماً من حياة البنا الذي تحدث عنه ابنه سيف الإسلام فيقول:

"إن ما يعلمه الناس من أمر حسن البنا أقل بكثير مـن حقيقته، وباطنه أفضل آلاف المرات من ظاهره، هو شخصية واحدة داخل بيته وخارجه، قدوة حسنة لكل أفراد أسرته ولكل إخوانه في جماعة الإخوان المسلمين."

في إحدى السنوات نقل البنا جزءاً من مكتبة البيت إلى مقر مجلة الشهاب واشترى عدة مكتبات جديدة للمنزل، وكان نصيب أحمد من هذا التغيير أن فاز بمكتبة صغيرة أهداها له والده حسن، ومنحه مصروفاً قدرة خمسون قرشاً كل شهر لشراء الكتب بمعرفت ابنه أحمد وتكوين مكتبة خاصة به، وبحكم سنه في ذلك الوقت فقد اشترى عدة كتب من درب الجماميز ومنها روايات عن المغامرات البوليسية لأرسين لوبين وشارلوك هولمز وغيرهما

وحينما جاء الوالد متأخراً بالليل وجده ساهراً يقرأ في هذه الروايات باهتمام شديد، تركه ولم ينهه عن قراءتها ولكن حينما انتهى من قراءة هذه الروايات قال : "سأعطيك شيئاً أحسن منها" وبدأ يغذيه ببعض الكتب منها سيرة الأميرة ذات الهمة، وسيرة عنترة بن شداد، وسيف بن ذي يزن وبعض روايات البطولة الإسلامية، ثم بعد ذلك دفع إليه بكتاب سيرة عمر بن عبد العزيز وغيره من الكتب المفيدة.

شعر أحمد في هذه الأثناء أن والده يتابع قراءته بدقة رغم انشغاله بأمور الدعوة، كما كان البنا من عادته أن يعتمد في تربية أبنائه على الأسلوب غير المباشر، أسلوب التعريض دون الطلب وكان في كثير من الأوقات وخصوصاً في رمضان إذا حضر المنزل واستراح قليلاً يستيقظ قبل المغرب بساعة تقريباً ويدعوا أحمد والأخت الكبرى وفاء بدعوى أن يسمعوا له القرآن الكريم، فكانا يمسكى المصحف وينظرا فيه وهو يقرأ

وقد أدرك الأبناء لما كبروا أن غرضه من هذا العمل هو تعليمهم من حيث لا يدرون كيف يتلون القرآن. وفي مجال الدراسة والتحصيل العلمي كان البنا يضع شهادات الدراسة لأبنائه أولاً بأول في ملف مسجلاً عليها بعض الملاحظات مثل سيف يحتاج إلى التقوية في كذا وضعيف في كذا، وفاء تحتاج إلى المساعدة في مادة كذا وهكذا.

لقد عاصر سيف الإسلام والده حسن البنا لمدة عامين وهو طالب في المرحلة الثانوية وكان دخول المرحلة الثانوية هو الميلاد السياسي للشاب في ذلك الوقت، لأنه يستطيع أن يشترك في الجمعيات أو الأحزاب وأن يطبع كارت يكتب عليه اسمه وتحته لقب طالب ثانوي وأن يشترك في المظاهرات، وقد انضم أحمد إلى قسم الطلاب في هذه المرحلة، ويذكر أن الذي كان يرأسه في ذلك الوقت الأستاذ فريد عبد الخالق

وكان زملائه في القسم مجموعة من طلاب مدرسة بمباقادن الثانوية، وكان مقرها بشارع إلهامي بالجمالية بالقرب من المركز العام للإخوان المسلمين، وكان بطبيعة الحال يشارك مع الأخوة في هذه المدرسة في نشاط قسم الطلاب وكانوا يديرون بالمدرسة مناقشات حول قضايا معظمها في المسألة الوطنية وقضية وادي النيل وإخراج الإنكليز من مصر والسودان والوحدة بين مصر والسودان.

وحينما كان يعود للمنزل ويتناول الغداء مع والده كان يسأله عما يجري ويحدث في المدرسة من مناقشات، ويذكر أنه سأله مرة سؤالاً صريحاً : "وماذا سنفعل مع الإنكليز إذا لم يخرجوا من مصر ؟" فقال والده : " سنرسلك مع كتيبة لإخراجهم بالقوة"

وقد رد عليه حينئذ ببيت عنترة بعد أن غير فيه الضمير وقال له:

وسيفك كان في الهيجا طبيبا

يداوي رأس من يشكو الصداع

الإرث الثقافي

شخصيته وصفاته

الأخذ من الأخرين

كان البنا نديمًا لتلاوة القرآن الكريم يتلوه بصوت رخيم كما كان يفسره بأسلوب سهل قريب، لم يحمل البنا عنوان التصوف ومع ذلك فإن أسلوبه كان يذكر بالحارث المحاسبي وأبي حامد الغزالي، وقد درس السنة على والده، كما درس الفقه المذهبي باقتضاب.

وقف حسن البنا على منهج محمد عبده وتلميذه صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا، ووقع بينه وبين الأخير حوار ومع إعجابه بالقدرة العلمية للشيخ رشيد وإفادته منها فقد أبى التورط فيما تورط فيه، كما درس البنا التاريخ الإسلامي، واستنبط عوامل المد والجزر في مراحله المختلفة، ودرس في حاضر العالم الإسلامي، و تفكر في مؤامرات الاحتلال الأجنبي ضده.

السعي للهدف

تنقل البنا في أغلب مدن مصر وقراها، وخلال عشرين عامًا تقريبًا أسس الجماعة، ما أدى إلى تحرك أمريكا وانجلترا وفرنسا فأرسلت سفراءها إلى حكومة الملك فاروق مطالبين بحل جماعة الإخوان المسلمين بدأ حسن البنا يربي ويكون الجيل الجديد للإسلام على الأسس الذي وضعها للنهوض، فهو يرى تكوين دولة إسلامية وإقامة حكم شرعي، فسلك إلى هذه الغاية طريق التربية.

كان الساسة في ميدانهم قد هجروا القرآن، فما تدور على ألسنتهم آياته وما في أعمالهم توجيهاته، فإذا بحسن البنا يسمعونه في ميدانهم واعظًا يقرأ القرآن ويستشهد بالسنة، ويحدثهم عن سياسة الدنيا باسم الله ويسوق حشدًا من النصوص تؤيده. كما حرص على أن تكون دعوته غير إقليمية في حدود مصر، ولذلك فإنها امتدت إلى العديد من أقطار العالم العربي والإسلامي. ومن أشد ما كان يحرص عليه البنا المؤاخاه بين المسلمين حيث قال: "أنلم ترد أن تكون أخاً نسعد بك، فلا أقل من أن تكن صديقاً نرتاح إليك.. "

وقد تميز في ناحيتين خاصتين:

شغفه بدعوته وإيمانه واقتناعه بها وتفانيه فيها وانقطاعه إليها بجميع مواهبه وطاقاته ووسائله.

التربية السياسية عند البنا

في بعض الأحيان تبدو المصادفة العابرة كأنها قدر مقدور، وحكمة مدبرة في كتاب مسطور.. حسن البنا.. إنها مجرد مصادفة أن يكون هذا لقبه.. ولكن من يقول: إنها مصادفة، والحقيقة الكبرى لهذا الرجل هي البناء، وإحسان البناء، بل عبقرية البناء؟ لقد عرفت العقيدة الإسلامية كثيراً من الدعاة.. ولكن الدعاية غير البناء.. وما كل داعية يملك أن يكون بناءً.. وما كل بناء يوهب هذه العبقرية الضخمة في البناء.

اتسمت خصائص التربية عند البنا بخصيصتين أساسيتين أولاهما التكامل، ومعناها أنها تربية شاملة لا تقتصر على جانب دون جانب، فهي تتناول الروح والجسم، والعقل والعاطفة، والضمير والوجدان، وتعمل على تكوين الشخصية المسلمة تكويناً متكاملاً، وثانيتهما التوازن، ومعناها أنها تعطي كل جانب من الجوانب حقَّه بلا طغيان ولا إخسار بحيث لا يطغى على غيره من الجوانب، ولا يحرمه حقه لحساب غيره. اهتم البنا اهتماماً واضحاً بالجانب السياسي.

خاض معركة تغيير المفاهيم والآراء عن العلاقة بين الدِّين والسياسة،وفكرة شمول الإسلام لكل جوانب الحياة ومنها السياسة وهو ما دافع عنه البنا معتمداً بأقواله على القرآن والحديث وسيرة الرسول وآثار الصحابة، وعمل الأمة طوال ثلاثة عشر قرناً، كما لخصت دعائم التربية السياسية لدى البنا بالآتي:

  1. الربط بين الإسلام والسياسة
  2. إيقاظ الوعي بوجوب تحرير الوطن الإسلامي
  3. إيقاظ الوعي بوجوب إقامة الحُكم الإسلامي
  4. إيقاظ الوعي بوجوب إقامة الأمة المسلمة
  5. إيقاظ الوعي بوجوب الوحدة الوطنية والعربية والإسلامية، والترحيب بالنظام الدستوري والنيابي، والتنديد بالأحزاب والحزبية
  6. وحماية الأقليات والأجانب.

مؤيدو البنا

الفقيه والمحدث يوسف القرضاوي مِن مَن تأثر بفكر حسن البنا ودافع عنه، والذي يعتبر المرشد الروحي لـ تكتلات جماعة الإخوان المسلمون حول العالم والذي مركزها في مصر. قال بعض مؤيدي دعوة حسن البنا وفكره بإنه من الدعاة المصلحين الذين قدموا أنفسهم في خدمة الله، كما أشاروا إلى إرثه الذي أحدث بدايات النهضة الإسلامية وحركتها الدعوية الجديدة، مع الإصرار بأن البنا ما هو إلا بشر كجميع البشر يصيب ويخطئ

وقال يوسف القرضاوي عن هذا:

"من الإنصاف وحتى يكون تقويم البنا عادلاً ينبغي أن نضع آراء البنا في إطار زمنها وبيئتها وظروفها، فقد يتشدَّد حسن البنا في أمور نحن نتساهل فيها اليوم بمقتضى التطور العالمي واقتراب الناس بعضهم من بعض وحاجة العالم بعضه إلى بعض، وتغيُّر صفة بعض الدول من دول استعمارية ظالمة للمسلمين إلى دول حليفة أو شريكة للمسلمين، كما أن البنا في بعض ما كتبه كان في عنفوان الشباب بما فيه من حماس للحق وثورة على الباطل واندفاع في المواجهة. "

وصايا البنا العشر

  1. قم للصلاة متى سمعت النداء مهما تكن الظروف.
  2. أُتْلُ القرآن وطالع أو استمع أو اذكر الله، ولا تصرف جزءاً من وقتك في غير فائدة.
  3. اجتهد أن تتكلّم العربية الفصحى فإنّ ذلك من شعائر الإسلام.
  4. لا تكثر الجدل في أيّ شأن من الشؤون أيّا كان، فإنّ الهراء لا يأتي بخير.
  5. لا تكثر من الضحك فإنّ القلب الموصول بالله ساكن وقور.
  6. لا تمازح فإنّ الأمة المجاهدة لا تعرف إلا الجد.
  7. لا ترفع صوتك أكثر مما يحتاج إليه السامع فإنه رعونة وإيذاء.
  8. تجنّب غيبة الأشخاص وتجريح الهيئات ولا تتكلّم إلا بخير.
  9. تعرّف إلى من تلقاه من إخوانك وإن لم يطلب منك ذلك.
  10. الواجبات أكثر من الأوقات فعاون غيرك على الانتفاع بوقته. وإن كان لك مهمة فأوجِز في قضائها.

مؤلفاته

  1. مذكرات الدعوة والداعية
  2. المرأة المسلمة
  3. تحديد النسل
  4. المأثورات
  5. مباحث في علوم الحديث
  6. السلام في الإسلام

الرسائل

مؤلفات عنه

  1. أمثلة من التربية الحضارية عند الإمام البنا - سيد دسوقي
  2. معالم المشروع الحضارى في فكر الإمام الشهيد حسن البنا - محمد عمارة
  3. التربية السياسية عند الإمام حسن البنا - يوسف القرضاوي
  4. التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا - يوسف القرضاوي
  5. منهاج حسن البنا بين الثوابت والمتغيرات - جمعة أمين - نص الكتاب
  6. "حسن البنا وثورة اليمن" - حماده حسني - نص الكتاب
  7. "حسن البنا الرجل القرآني" - روبير جاكسون - نص الكتاب

قالوا عنه

  • الشيخ محمد مصطفى المراغي: إن الأستاذ البنا رجل مسلم غيور على دينه، يفهم الوسط الذي يعيش فيه، ويعرف مواضع الداء في جسد الأمة الإسلامية، ويفقه أسرار الإسلام، وقد اتصل بالناس اتصالًا وثيقًا على اختلاف طبقاتهم، وشغل نفسه بالإصلاح الديني والاجتماعي على الطريقة التي كان يرضاها سلف هذه الأمة.
  • الشيخ حسنين مخلوف - مفتي مصر الأسبق: الأئمة في مختلف العهود كانوا أعلام دين وسياسة، والشيخ حسن البنا -أنزله الله منازل الأبرار- من أعظم الشخصيات الإسلامية في هذا العصر، بل هو الزعيم الإسلامي الذي جاهد في الله حقَّا الجهاد، واتَّخذ لدعوة الحق منهاجًا صالحًا، وسبيلًا واضحًا، واستمده من القرآن والسنة النبوية، ومن روح التشريع الإسلامي، وقام بتنفيذه بحكمة وسداد، وصبر وعزم،حتى انتشرت الدعوة الإسلامية في آفاق مصر وغيرها من بلاد الإسلام، واستظلَّ برايتها خلقٌ كثير.
  • الشيخ أحمد حسن الباقوري - وزير الأوقاف المصري الأسبق: لقد عاش الأستاذ حسن البنا لغاية آمن بها إيمانًا شغله عن كل ما يشغل الناس سواه، شغله عن أهله وعن ولده وعن نفسه، فلو أنه سُئل عن مقدار التضحية التي بذلها في سبيل إيمانه هذا، لاستطاع أن يقول: ضحيت بمالي، وبولدي وراحتي، ولم أقْصُر حياة الشظف والخشونة على نفسى، حتى جاوزتُها إلى كل من لهم صلة بي، ثم أخيرًا ضحيت بنفسي. ولو أنه سُئل عن الغاية التيتحراها من كل هذا العناء العالي؟ لاستطاع أن يقول بارًّا صادقًا: لم أرد عرض الحياةالدنيا، وإنما أردتُ الله وابتغيتُ ثوابه العظيم، ومثل ذلك حق على الله أن يرضيهحتى يرضى، وأن يفتح له أبواب جنته يتبوأ منها حيث يشاء، إن شاء الله.
  • الشيخ علي الطنطاوي: عرفته هادئ الطبع رضي الخلق، صادق الإيمان طليق اللسان، آتاه الله قدرةً عجيبةً على الإقناع، وطاقةً نادرةً على توضيح الغامضات، وحل المعقَّدات، والتوفيق بين المختلفين، ولم يكن ثرثارًا؛ بل كان يحسن الإصغاء كما يحسن الكلام، وطبع الله له المحبَّة في قلوب الناس.
  • الشيخ حسب الله -أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم: كانت غايته أن يُؤلِّف بين القلوب بالمحبة ويوجهها إلى الله، ويُعِدَّها للتضحية فيسبيل الحق، ويرى أن هذا كفيلٌ برفع أسباب النزاع؛ فإنَّ النفوس الطاهرة والقلوب الخالصة في منعةٍ من وساوس الشيطان وعوامل الفرقة والخذلان.
  • محمد يوسف موسى - الأستاذ بكلية أصول الدين: لقد كان صديقنا المغفور له الأستاذ حسن البنا داعية دينيًّا واجتماعيًّا من الطراز الأول، قد جمع الله تعالى له كل ما يجب لنجاح الدعوة، ولعل من أهم ذلك ما لمسته فيه منبصره النافذ بمَن يصلحون للقيام معه بدعوته، ثم عمله على ضمهم إليه بكل قلوبهم وعقولهم ومواهبهم، عرفتُ ذلك منه بخاصة، حين رغب إلي وآخرين معي في أن نكون رفقاء له في رحلةٍ من القاهرة إلى الإسكندرية ثم رشيد بعد الحرب الماضية.
  • عبد العظيم المطعني - الأستاذ بجامعة الأزهر: قد وهبالله الإمام الشهيد البيان الواضح والأسلوب الحكيم، إلى ما عمرت به شخصيته من أدبالنفس واستقامة السلوك، وفقهه بمقاصد الإسلام، وحفظه للقرآن الكريم، والوقوف علىأسراره ومعانيه، وروايته للحديث، وإلمامه بعبر التاريخ، وفهمه لسيرة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعرفته بمواطن الضعف في الأمة، وبهذا قد استكمل الإمام الشهيد كل مقومات الداعية المؤثر، والمصلح المطاع، كان يعرف إلام يدعو، وكيف يدعو،ومن يدعو، ومتى يدعو، بقلب شجاع وسلوك طيب، ولسان فصيح، وحجة ساطعة، فلا غرابةَ أن يلتف الشباب كله في عزمٍ وثباتٍ حول ذلك المصلح المخلص.

اغتياله

بعد إعلان النقراشي باشا - رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت - في مساء الأربعاء 8 ديسمبر 1948 قراره بحل جماعة الإخوان المسلمين ومصادرة أموالها واعتقال معظم أعضائها باستثناء البنا، الذي صادرت الحكومة سيارته ، واعتقلت سائقه وسحبت سلاحه المرخص، وقبض على شقيقيه الذين كانا يرافقانه في تحركاته، وقد كتب إلى المسؤولين يطلب إعادة سلاحه إليه، ويطالب بحارس مسلح يدفع هو راتبه، وإذا لم يستجيبوا فإنه يحملهم مسؤولية أي عدوان .

وبعد اغتيال رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي في 28 ديسمبر 1948 تآمر القصر مع الحكومة الجديدة برئاسة إبراهيم عبد الهادي للانتقام من الإخوان بحجة انهم هم من قتلوه، ودبروا اغتيال حسن البنا المرشد العام للجماعة في 12 فبراير 1949 أمام مقر جمعية الشبان المسلمين في شارع رمسيس - الملكة نازلي سابقاً - بسبع رصاصات استقرت في جسد البنا، توفي بعدها بساعات في مستشفي قصر العيني.

تفاصيل الإغتيال

في الساعة الثامنة من مساء السبت 12 فبراير 1949 كان حسن البنا يخرج من باب جمعية الشبان المسلمين ويرافقه رئيس الجمعية لوداعه ودق جرس الهاتف داخل الجمعية فعاد رئيسها ليجيب الهاتف فسمع إطلاق الرصاص فخرج ليرى صديقه الأستاذ البنا وقد أصيب بطلقات تحت إبطه وهو يعدو خلف السيارة التي ركبها القاتل، وأخذ رقمها وهو رقم "9979" والتي عرف فيما بعد أنها السيارة الرسمية للأميرالي محمود عبد المجيد المدير العام للمباحث الجنائية بوزارة الداخلية كما هو ثابت في مفكرة النيابة العمومية عام 1952.

لحظة خشوع على قبر البنا، هكذا كتبت مجلة التحرير على صدر غلافها تعليقًا على صورةٍ لعبد الناصر يقف على قبر البنا في ذكرى رحيله الخامسة. لم تكن الإصابة خطرة بل بقي البنا بعدها متماسك القوى كامل الوعي وقد أبلغ كل من شهدوا الحادث رقم السيارة ثم نقل إلى مستشفى القصر العيني فخلع ملابسه بنفسه، ليلفظ البنا أنفاسه الأخيرة في الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل أي بعد أربع ساعات ونصف من محاولة الاغتيال بسبب فقده للكثير من الدماء، لم يكن هناك رجل غير والده ومكرم عبيد باشا والذي لم تعتقله السلطة لكونه مسيحياً وكانت تربطه علاقة صداقة بحسن البنا.

محاكمة المنفذين

عندما قامت الثورة في 23 يوليو من عام 1952 أخذت حكومة الثورة علي عاتقها محاكمة المتورطين في اغتيال حسن البنا نظراً للتقارب الذي كان موجوداً بين قادة الثورة وقادة الإخوان في البداية، وقُدم القتلة للعدالة وصدرت أحكام ضدهم ولكنها أحكام اقتصرت علي أصحاب الأيدي الملطخة بالدماء ولم تطل أصحاب قرار الاغتيال، حيث أعادت سلطات الثورة التحقيق في ملابسات الحادثة في الأيام الأولى من قيامها وتم القبض على المتهمين باغتياله وتقديمهم أمام محكمة جنيات القاهرة حيث صدرت ضدهم أحكام بالسجن في أغسطس 1954

ونص القاضي في حيثيات الحكم على:

"إن قرار الاغتيال قد اتخذته الحكومة السعدية بهدف الانتقام لم يثبت تواطؤ القصر في ذلك لكن القاضي أشار إلى أن العملية تمت بمباركة البلاط الملكي، المتهم الأول أحمد حسين جاد الأشغال الشاقة المؤبدة المتهم السابع محمد محفوظ الأشغال الشاقة خمسة عشر عاماً المتهم الثامن الأميرلاي محمود عبد المجيد الأشغال الشاقة خمسة عشر عاماً البكباشي محمد الجزار سنة مع الشغل قضاها في الحبس الاحتياطي فأفرج عنه إضافة لتعويض مادي كبير تمثل في دفع عشرة آلاف جنيه مصري كتعويض لأسرة البنا " وقد أُفرج عن القتلة في مدد متفرقة لأسباب صحية ولم يقض أي منهم مدة الحكم بالسجن كاملة.

الدفن

يقول والد حسن البنا عن دفن ابنه:

" أبلغت نبأ موته في الساعة الواحدة، وقيل: إنهم لن يسلموا لي جثته إلا إذا وعدتهم بأن تدفن في الساعة التاسعة صباحًا بدون أي احتفال، وإلا فإنهم سيضطرون إلى حمل الجثة من مستشفى قصر العيني إلى القبر، واضُطررت إزاء هذه الأوامر إلى أن أعدهم بتنفيذ كل ما تطلبه الحكومة، رغبة مني أن تصل جثة ولدي إلى بيته، فألقي عليه نظرة أخيرة، وقبيل الفجر حملوا الجثة إلى البيت متسللين، فلم يشهدها أحد من الجيران ولم يعلم بوصولها سواي.
وظل حصار البوليس مضروبًا حول البيت وحده، بل حول الجثة نفسها، لا يسمحون لإنسان بالاقتراب منها مهما كانت صلته بالفقيد. وقمت بنفسي بإعداد جثة ولدي للدفن، فإن أحدًا من الرجال المختصين بهذا لم يسمح له بالدخول، ثم أنزلت الجثة حيث وضعت في النعش، وبقيت مشكلة من يحملها إلى مقرها الأخير.
وطلبت إلى رجال البوليس أن يحضروا رجالًا يحملوا النعش فرفضوا، فقلت لهم: ليس في البيت رجال، فأجابوا: فليحمله النساء! وخرج نعش الفقيد محمولاً على أكتاف النساء. ومشت الجنازة الفريدة في الطريق، فإذا بالشارع كله رصف برجال البوليس، وإذا بعيون الناس من النوافذ والأبواب تصرخ ببريق الحزن والألم والسخط على الظلم الذي احتل جانبي الطريق!
وعندما وصلنا إلى جامع "قيسون" للصلاة على جثمان الفقيد، كان المسجد خاليًا حتى من الخدم ، وفهمت بعد ذلك أن رجال البوليس قدموا إلى بيت الله وأمروا من فيه بالانصراف ريثما تتم الصلاة على جثمان ولدي. ووقفت أمام النعش أصلي فانهمرت دموعي، ولم تكن دموعًا؛ بل كانت ابتهالات إلى السماء أن يدرك الله الناس برحمته.
ومضى النعش إلى مدافن الإمام، فوارينا التراب هذا الأمل الغالي، وعندما عدنا إلى البيت الباكي الحزين، ومضى النهار وجاء الليل لم يحضر أحد من المعزين؛ لأن الجنود منعوا الناس من الدخول، أما الذين استطاعوا الوصول إلينا للعزاء، فلم يستطيعوا العودة إلى بيوتهم، فقد قبض عليهم إلا شخصًا واحدًا هو مكرم عبيد باشا."

رثاءه

وقد رثاه المغربي عبد الكريم الخطابي وقال

"يا ويح مصر والمصريين، مما سيأتيهم من قتل البنا، قتلوا وليًّا من أولياء الله، وإن لم يكن البنا وليًّا فليس لله ولي"

الأستاذ حسن الهضيبي القاضي القائد.. والمرشد الممتحن

تمر السنون تلو السنون، والذكريات تمحوها الأيام، غير أن ذكرى المؤمنين تظل بلسمًا للعليل، وزادًا للسائرين على طريق رب العالمين. ففي 11 نوفمبر من كل عام تهب علينا ذكرى رحيل الأستاذ حسن الهضيبي، الذي ضرب أروع الأمثال في الصبر رغم كبر سنه، وفي التجرد والتضحية رغم مكانته الاجتماعية الرفيعة، رحل عن دنيانا مرشدنا الثاني لجماعة الإخوان المسلمين عام 1973 بعد أن خاض بالجماعة لجج الفتن في سجون ومعتقلات عبد الناصر، فخرج أرسخ من الجبال الرواسي، بقوة عقيدته، وزكاة نفسه، وحسن قيادته، وطهر قلبه. فبالرغم من تعرضه وأهله للابتلاء إلا أنه ظل صابرًا محتسبًا فكان قدوة للشباب، وأخرج رجالاً صفت عقيدتهم، وسمت أرواحهم، فخرجوا ونشروا دعوة الله في مشارق الأرض ومغاربها.

ومع مكانته الاجتماعية وعلو منصبه لم يترفع عن مد يده لمبايعة معلم في المدارس الابتدائية، وتراه وهو المستشار الكبير تطيب نفسه بالوقوف في صفوف الجندية مع بسطاء العمال والزراع وصغار الموظفين.

نشأته وحياته

ولد الأستاذ حسن الهضيبي عام 1309ه - 1891م في قرية عرب الصوالحة، مركز شبين القناطر، وحفظ القرآن وهو صغير، والتحق بالأزهر ثم تركه والتحق بالمدارس المدنية، حيث حصل على الشهادة الابتدائية عام 1907م، ثم تخرج في المدرسة الخديوية الثانوية

وحصل على شهادة البكالوريا عام 1911م، ثم التحق بكلية الحقوق وكان شديد الحب لمصطفى كامل - وبعد تخرجه عام 1915م عمل محاميًا، وقضى فترة التمرين بالمحاماة في القاهرة، ثم عمل في حقل المحاماة في مركز "شبين القناطر" لفترة قصيرة، وظل كذلك حتى التحق بالسلك القضائي عام 1924م.

تنقل من مكان لآخر؛ فعمل بقنا 1933م، وانتقل إلى "نجع حمادي" عام 1925م، ثم إلى "المنصورة" عام 1930م، ولقد تدرج في المناصب القضائية من مدير إدارة النيابات لرئيس التفتيش القضائي، فمستشار بمحكمة الاستئناف، ثم مستشار بمحكمة النقض، وظل بها حتى استقال عام 1951 م عندما اختير مرشدًا عامًّا للإخوان.

وتحت عنوان التعارف الإسلامي كتب الإمام الشهيد حسن البنا في مجلة الشهاب قوله:

"الأستاذ حسن الهضيبي مصري ولد في عرب الصوالحة عام 1309ه، قبيلته عربية عريقة في عروبتها ودينها، درس في كلية الحقوق، وتخرج منها عام 1335ه، واشتغل بالمحاماة، ثم في القضاء، وهو الآن مستشارًا في محكمة النقض والإبرام، وسعادته خير قدوة لرجال القانون، فقد عرف في جميع مراحل حياته بالكفاية وسمو الخلق والغيرة على الإسلام والدعوة...".

تزوج وقال عنه:

" وتخرجتُ في مدرسة الحقوق عام 1915م، والتحقتُ بمكتب الأستاذ حافظ رمضان، وقد كنت في ذلك الوقت أسكن بمنزل رجل عالم فاضل وكان له ابن اتخذتُ منه صديقي الوحيد في القاهرة، وكم تمنيت أن تكون لهذا العالم الفاضل ابنة اتخذها شريكة لحياتي، ولم يخيب الله أملي فرأيتها مصادفةً ذات يوم، وفي اليوم التالي لحصولي على ليسانس الحقوق ذهبت إلى والدها أطلب يدها.
وقال لي العالم الفاضل: أليس من الأفضل أن يتقدَّم والدك بهذا الطلب؟
قلت له في بساطة: لقد تقدَّم والدي يومًا عندما أراد أن يتزوَّج من والدتي، أما أنا فأتقدَّم لأني أنا الزوج لا والدي.
واقتنع الرجل الطيب، ودعوتُ أبي ليشهدَ عقد قراني، والتقيت به، وكنت الوحيد الذي أعلم أن هذا التصرف سيعجب أبي لأنه كما قلت كان لا يعيش في عصره، بل سقط من حسابه الكثير من التقاليد التي كانت تسجن هذا العصر وراء أسوارها الجامدة، وقال لي أبي وهو يصافحني: لقد تمنيتُ على الله دائمًا أن يحدث هذا منك فتريحني من أثقل مهمة على أب، وهي اختياره لابنه ورقة يانصيب رابحة.
وهكذا تزوجتُ، وبدأت أعمل في المحاماة، ولكن الأبواب كانت أضيق من أن تتسع للناشئين، وضاق بي الحال، وعزَّ العمل والأمل في القاهرة، وبيني وبين نفسي قررت الهجرة وراء الرزق" أصبح مرشدًا عامًّا للإخوان المسلمين في 17 أكتوبر 1951م، وتعرض بعدها للمحن، وظل ثابتًا على دينه حتى لقي ربه راضيًا مرضيًّا يوم 14 شوال 1393ه الموافق 11 نوفمبر 1973 تغمده الله بواسع رحمته.

جهاده في ركب الدعوة

عرف عن المستشار حسن الهضيبي تدينه الشديد، وتعلقه بالإسلام، فكانت الدنيا حوله تموج بالفتن والإباحية، وكان الاستعمار جاثم على قلب الأمة الإسلامية، فسيطر على ثرواتها، في هذا الجو الملبد بالغيوم نشأت جماعة الإخوان المسلمين عام 1928م، فكانت بمثابة طوق نجاة للأمة، فالتحق إمامنا الأستاذ الهضيبي بالركب الطيب عام 1943م

وفي هذا الصدد يقول عن أثر الإخوان في نفسه وأول لقاء له مع الإمام البنا:

"عرفته أول ما عرفته من غرس يده، كنت أدخل المدن والقرى فأجد إعلانات عن "الإخوان المسلمون" دعوة الحق والقوة والحرية، فخلت أنها إحدى الجمعيات التي تعنى بتحفيظ القرآن، والإحسان إلى الفقراء، ودفن الموتى، والحث على العبادات من صوم وصلاة.. إلخ
وأن هذا قصارها من معرفة الحق والقوة والحرية، فلم أحفل بها، فكثير هم الذين يقرءون القرآن دون أن يفقهوه، ودون أن يعملوا به، وأكثر منهم الذين يصلون، ويصومون، ويحجون، دون أن يكون لذلك أثر في نفوسهم، والإحسان إلى الفقراء كثيرًا ما يوضع في غير موضعه، ويكون مخالفًا للدين! لم أحاول كما هي العادة أن أعرف شيئًا عن دعوة الإخوان المسلمين.
ثم التقيت يومًا بفتية من الريف أقبلوا علي -على غير عادة الأحداث مع من هم أكبر منهم سنًا ومركزًا- يحدثونني فوجدت عجبًا.. فتية من الريف، لا يكاد الواحد منهم يتجاوز في معارفه القراءة والكتابة يحسنون جلوسهم مع من هم أكبر منهم في أدب لا تكلف فيه، ولا يحسون بأن أحدًا أعلى من أحد، ويتكلمون في المسألة المصرية كأحسن ما يتكلم فيها شاب متعلم مثقف، يعرفون من الأخطاء التي ارتكبت في عرضها
وفي المفاوضات التي جرت فيها، وطريقة حلها ما لا يدركه إلا القليل من الناس، ويتكلمون في المسائل الدينية كلام الفاهم المتحرر من رق التقليد، ويبسطون الكلام في ذلك إلى مسائل مما يحسبه الناس من صرف المسائل الدنيوية، ويعرفون من تاريخ الرسول -وتاريخه هو تاريخ الرسالة- ما لا يعرفه طلبة الجامعات.. فعجبت لشأنهم. سألتهم أين تعلموا كل ذلك؟!
فأخبروني أنهم من الإخوان المسلمين، وأن دعوتهم تشمل كل شيء، وتعنى بالتربية والأخلاق، والسياسية والاقتصاد والغنى والفقر، وإصلاح الأسرة، وغير ذلك من الشئون صغيرها وجليلها.. من ذلك الوقت تتبعت حركة الإخوان، وصرت أقرأ مطبوعاتهم وأتصل بهم دون أن أعرف الداعية إلى ذلك، ولكنني عرفته من غرس يده، قبل أن أعرف شخصه.
كان يوم خرجت فيه أنا وبعض زملائي لمشية العصر على حافة النيل فوجدنا جمعًا من الجوالة سألناهم عن شأنهم، فعلمنا أن حسن البنا سيلقي خطبة في حفل الليلة.. فوافينا الحفل وسمعنا حسن البنا. لقد تعلقت أبصارنا به، ولم نجد لأنفسنا فكاكًا من ذلك، وخلت -والله- أن هالة من نور، أو مغناطيس تحف بوجهه الكريم فتزيد الانجذاب إليه.. خطب ساعة وأربعين دقيقة كان شعورنا فيها شعور الخوف من أن يفرع من كلامه، وتنقضي هذه المتعة التي أمتعنا الله بها ذلك الوقت..
إن كلامه كان يخرج من القلب إلى القلب شأن المتكلم إذا أخلص النية لله.. وما أذكر أني سمعت خطيبًا قبله إلا تمنيت على الله أن ينتهي خطابه في أقرب وقت. كان كالجدول الرقراق الهادئ ينساب فيه الماء، لا علو ولا انخفاض، أو كالموسيقى العذبة ليس فيها نشاز.. يخاطب الشعور فيلهبه، والقلب فيملأه إيمانًا، والعقل فيسكب فيه من المعلومات ألوانًا.
انقضى وقت طويل بعد ذلك دون أن ألتقي به، ولما أذن الله بذلك التقينا فإذا تواضع جم، وأدب لا تكلف فيه، وعلم غزير، وذكاء فريد، وعقل واسع ملم بالشئون جليلها وحقيرها، وآمال عراض، كل ذلك يحفه روح ديني عاقل لا تعصب فيه ولا استهتار ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ "البقرة: 143"، إنه كان ملهمًا.. إنه كان ملهمًا.. وأقسم أني التقيت به وعاشرته فما سمعت منه كلمة واحدة فيها مغمز في عرض أحد، أو دين أحد، حتى من أولئك الذين تناولوه بالإيذاء والتجريح في ذمته ودينه، وكان في ذلك ملتزمًا حد ما أمره الله به".

وأصبح فيما بعد مستشارًا خاصًّا للأستاذ حسن البنا، وكان لا يعرفه سوى خاصة الخاصة من الإخوان المسلمين؛ حيث كان منصبه في القضاء يحرم عليه العمل في السياسة، لكن لم يحرمه ذلك من دعم الجماعة ومساهمته في شراء دار المركز العام، كما أنه أوعز إلى عشيرته بإنشاء شعبة للإخوان المسلمين في قريتهم بعرب الصوالحة وما جاورها من القرى، وكان له في العناية بأسر المعتقلين جهودًا مضنية، وكان قلبه يحترق وهو يرى مدى العنت والاضطهاد الذي وقع على إخوانه -خاصة بعد حل الجماعة في ديسمبر 1948م- فعمد إلى الاعتناء بأسرهم.

ولقد دافع عن تطبيق الشريعة الإسلامية، فلقد سأله يومًا رئيس محكمة النقض والإبرام: يا حسن: ألست معي أن أكثر أحكام التشريع المدني الحديث تقابل أحكامًا مماثلة في الفقه الإسلامي؟ قال الأستاذ الهضيبي: بلى. قال الرئيس: فما هو إذًا الأساس الكبير والمطالبة الملحة من جانبك بالرجوع إلى الشريعة الإسلامية، وتطبيق أحكامها؟ قال: هو أن الله -تعالى- قال: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ "المائدة: 49"، ولم يقل: أن احكم بمثل ما أنزل الله، وأن تحكيم شريعة الله في عقيدة المسلم عبادة تؤدى امتثالاً لأمر الله، وذلك هو مصدر بركتها، وسر قوتها في نفوس المؤمنين بها، وفي كيان الجماعة المؤمنة.

كما اعترض على مشروع تنقيح القانون المدني المصري عام 1945م وسجل مقولته: "لأن هذا المشروع لم يقم أساسًا على الكتاب والسنة".

وفي عام 1947م نشر الأستاذ الهضيبي -رحمه الله- مقالاً في جريدة "أخبار اليوم" المصرية، وذلك حين عرض عليه تعديل مشروع القانون المدني المصري قال فيه: "إن أحسن تعديل في نظري هو سن قانون من مادة واحدة، يقضي بتطبيق الشريعة الإسلامية في الأحوال الجنائية والمدنية"

وقال:

"لقد أعلنت عن رأيي أمام لجنة تعديل القانون المدني في مجلس الشيوخ فقلت: يجب أن يكون قانوننا هو القرآن والسنة في جميع شئون حياتنا، وليس في الشئون التشريعية وحدها. إن الإسلام دين متماسك متكامل غير قابل للتجزئة، فيجب تطبيق جميع أحكامه في كل أمة تدين به.
هذا هو الرأي الذي جاهرت به، وأود أن أؤكد أنني قد انتهيت من مراجعة الشريعة ودراستها إلى أنه ليس في تشريعات الأجانب وقوانينهم ما لا يتضمنه القرآن الكريم، والحلال بيّن والحرام بيّن، وكلاهما واضح المعالم والحدود إلى يوم الدين. وهذا ما قلته أمام اللجنة، وإنني على يقين أنهم لن يأخذوا به، ولكن لا حرج عليَّ في ذلك ما دمت مؤمنًا بما أقول، ولكن ظني أنه بعد فترة قد تمتد إلى عشرين أو ثلاثين سنة سيتجه الرأي إلى الأخذ بما أقول، كلما شرح الله صدور الناس بالقرآن قرب اليوم الذي يسود فيه هذا الرأي.
لقد رأينا أن جميع القوانين التي أخذناها عن الأجانب لم تصلح من حال بلادنا، ولم تحقق ما كان يرجى منها، فهذه السجون ملأى بالسجناء، والجرائم تزداد، والفقر ينتشر، والحالة الخلقية والاجتماعية تسوء كل يوم عن سابقه، ولن يصلح الحال إلا إذا نظمنا علاقتنا بالسنن الكونية التي تنزّل الوحي بجملة أسرارها، ومعالمها في القرآن، وإلا إذا عشنا في بيوتنا، وبين أهلينا، وأولادنا، ومع الناس أجمعين عيشة قرآنية".

وقد ذكر مصطفى أمين تحت عنوان "فكرة" قوله:

"ولاحظت وأنا أتحدث إلى الهضيبي أنه رجل قليل الكلام تتوهم أنه صارم بينما هو رجل رقيق هادئ فيه طيبة ممتزجة بالذكاء الحاد. قوي الملاحظة....".

مرشدًا عامًّا

في 8/12/1948م أصدر النقراشي باشا قرارًا بحل جماعة الإخوان المسلمين، ومصادرة أملاكها وأموالها واعتقال رجالها ومجاهديها على جبهة القتال في فلسطين، وظل الوضع في توتر حتى اغتيل الإمام البنا في 12/2/1949م.

قال عن الإمام البنا:

"إن الغرس الذي عرفت منه حسن البنا قد نما وترعرع، وصارت دعوته إلى كتاب الله مستقرة في القلوب، وصار تلاميذه أساتذة يعلمون الناس ما علم وما يلهموهم ما ألهم، وزاد عديدهم على البأساء والضراء حتى أصبحوا أقوى جلدًا مما كانوا، وأعرف بشئون الحياة، وأصبر على المظالم، وأعلم بأن أعداء دعوتهم أكثر من أنصارها فأعدوا أنفسكم لكفاح طويل في سبيلها.
ولقد صار "الإخوان المسلمون" اسمًا لا يعبر عن منظمة في مصر، وإنما يعتبر عنوانًا لنهضة الإسلام وبعثته وحيويته في جميع البلاد الإسلامية من المحيط إلى المحيط، ولن تقف الحركة بعد ذلك -إن شاء الله، فاسم الإخوان في إندونيسيا والباكستان وسوريا.. والذين لم يتسموا باسم الإخوان لاعتبارات محلية اتخذوا أسلوبهم في الدعوة ومنهاجهم وغرضهم، وصاروا يعملون لتنوير الشعوب وتفهيمها حقيقة الإسلام، وتحريره من الخرافات التي دخلت عليه مع الزمن، ولم تكن منه.
وأصبحت دعوة الإخوان المسلمين رعبًا للمستعمرين، وأنصار المستعمرين والمنافقين والظالمين؛ لأن الباطل يفزع من الحق أينما كان، وحيثما وجد. إن حسن البنا قد نشر دعوته وادي رسالته، وذهب إلى ربه راضيًا مرضيًّا ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ "27" ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً "28" فَادْخُلِي فِي عِبَادِي "29" وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ "الفجر: 27-30"، وعلى تلاميذه وأنصاره أن يحملوا العبء الذي كان يحمله في صبر وأناة وهدوء وقوة وإخلاص وثبات.. وإنهم لفاعلون -إن شاء الله.
﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ "40" الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ "الحج: 40-41".

ودخلت الجماعة في طور المحنة حتى أفرج عن الإخوان، وعملوا على عودة الجماعة، وبحثوا عمن يشغل مكان الإمام البنا، واستشاروا فيما بينهم حتى استقر القرار على انتخاب المستشار الهضيبي مرشدًا عامًّا في 17/10/1951م. قام -رحمه الله- بجولة على جميع شُعب الإخوان؛ ليتأكد أن الوفود التي حضرت إليه تمثل رأي جميع الإخوان في الشُعب، وفعلاً كان، فبايعه كل من التقى به من الإخوان.

وحين قبل البيعة كان يقول:

"إني أعلم أنني أقدم على قيادة دعوة استشهد قائدها الأول قتلاً، واغتيالاً، وعذب أبناؤها، وشردوا، وأوذوا في سبيل الله، وقد ألقى ما لاقوا، وإني على ما أعتقده في نفسي من عدم جدارة بأن أخلف إمامًا مصلحًا مثل حسن البنا -رحمه الله، وأنزل عند رغبة الإخوان، أداء لحق الله -جل وعلا، لا أبتغي إلا وجه الله، ولا أستعين إلا بقدرته وقوته".

دخلت الجماعة في طور جديد، حيث اتهمهم كثير من الكتاب بالتزلف للملك والإنجليز، وتجاهل هؤلاء هذه الشخصية التي أدت اليمين الدستورية أمام الملك وهو مستشار، ثم خرج معطيًا ظهره على غير المألوف من أن يخرج المرء من عند الملك حانيًا جسده تعظيمًا للملك، وما كان لهذا الرجل الذي عرف الله حق المعرفة أن يتقرب لمن ذلوا الشعوب الإسلامية ونهبوا خيراتها، لكنه دفع بشباب الإخوان في حرب القنال عام 1951م، وقدم الشهيد تلو الشهيد، وكان من أقواله: "أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم على أرضكم".

الثورة ودور الإخوان فيها

قبل الثورة وجدت أمريكا أن النظام الملكى أصبح متهالكًا، فحاولت أن تجد البديل، فغرست ستيفن ميد (السفير الأمركي في سوريا الذى انتقل إلى القاهرة في هذا الوقت أو بعده بقليل) وجيفر سون كافري سفير أمريكا في القاهرة مع وليم ليجلان، وكذلك كيم (كيرمت) روزفلت

وانضم إليهم فيما بعد خامس من مخابرات أمريكا وهو مايلز كوبلاند (صاحب كتاب لعبة الأمم). هؤلاء الخمسة كان لهم دور كبير في سياسة المنطقة، وإدارة دفة الأمور في مصر وما حولها، حيث وقع اختيارهم على عبد الناصر ليكون البديل، والذي عمل على كسب ود الإخوان.

ففي ليلة 22 يوليو سنة 1952 جاء عبد الناصر وكمال الدين حسين إلى بيت منير الدلة أحد أعضاء مكتب الإرشاد في حركة الإخوان المسلمين، وكان صلاح شادي من الحاضرين، وفتح الحديث عن الانقلاب، وأقسم عبد الناصر وكمال الدين حسين على المصحف أن يحكموا بالقرآن والسنة بعد استلام الحكم. ولقد عايش المستشار أصعب أوقات الدعوة ضراوة، وعلى هذا الأساس أنزل الإخوان في اليوم التالي عشرة آلاف مسلح لحماية الثورة، وأعلنت الثورة في اليوم التالي.

وقام الإخوان المسلمون مع الضباط الأحرار في هذه الثورة بتأمين مداخل ومخارج البلاد لصد أي محاولة لإجهاض الثورة من قبل الاستعمار الإنجليزي، كما قاموا بتأمين الجبهة الداخلية من العبث والفوضى التي كان من المحتمل أن تحدث أثناء الثورة، فقام البكباشي أبو المكارم عبد الحي بحصار قصر عابدين بالقاهرة، كما قام البكباشي عبد المنعم عبد الرؤوف بحصار قصر رأس التين بالإسكندرية -وهم من الإخوان، حتى اضطر الملك للتنازل عن العرش ومغادرة البلاد يوم 26 يوليو 1952م، وقال الملك فاروق: (إن الإخوان المسلمين هم الذين قلبوا عرشي).

وكان أول تصريح للأستاذ الهضيبي بعد الثورة: "أتمنى أن تكون هذه الحركة خالصة لوجه الله تعالى".

الثبات على الابتلاء وحسن إدارة الأزمات

يقول الله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ "آل عمران: 146"، ويقول -سبحانه: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ "العنكبوت: 1".

عندما قامت الثورة في 23 يوليو 1952 لتطيح بنظام فاسد ذل البلاد، وسلمها للاستعمار، ولتأتي بنظام نشده الإخوان للشعب المصري وقف الإخوان بجانب الضباط الأحرار حتى نجحت الثورة، وبعدها طالب الإخوان رجال الثورة بالوفاء بما وعدوا به من ترسيخ الحكم النيابى، والعودة لثكناتهم العسكرية، وتحكيم شرع الله، وبالفعل شرعوا في تكوين لجنة لصياغة الدستور وفقًا للشريعة الإسلامية، وكان في اللجنة من الإخوان الأستاذ عبد القادر عودة وحسن العشماوي وهي اللجنة التي رأسها الدكتور عبد الرزاق السنهوري.

وبعد نجاح الثورة طلب رجالها من الإخوان تعيين ثلاثة وزراء من الإخوان في الحكومة، فاختار المستشار الهضيبي ثلاثة من خيرة الإخوان وهم: المستشار منير الدلة، والأستاذ حسن العشماوي، والأستاذ حسن علي، غير أن مجلس قيادة الثورة رفض هذه الأسماء وطلب أخرى، فرفض الإخوان أن يتحكم فيهم رجال الثورة.

فقد ظنَّ قادة الانقلاب أنهم سيغرون المرشد العام بعدة وزارات أو مناصب، ولكنهم واجهوا صنفًا جديدًا من الناس لا يلهث وراء منصب، لكنه يضحي بكل منصب أو جاه دنيوي في سبيل عقيدته ومبدئه وفكره المستمد من القرآن والسنة، فهنا يبرز ثبات المجاهد الصادق.

يقول الشهيد سيد قطب:

"إنه ليست كل كلمة تبلغ إلى قلوب الآخرين فتحركها، وتجمعها، وتدفعها، إنها الكلمات التي تقطر دماء؛ لأنها تقتات قلب إنسان حي. كل كلمة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان، أما الكلمات التي ولدت في الأفواه، وقذفت بها الألسنة، ولم تتصل بذلك النبع الإلهي الحي، فقد ولدت ميتة، ولم تدفع بالبشرية شبرًا واحدًا إلى الإمام، إن أحدًا لن يتبناها؛ لأنها ولدت ميتة، والناس لا يتبنون الأموات".

لم يطق رجال الثورة بالمستشار الهضيبي ذرعًا فاعتقلوه في يناير 1954م مع مجموعة من الإخوان، وأثناء ذلك تعرض الإخوان للتعذيب الشديد، واستطاع المرشد العام أن يهرب رسالة من داخل سجنه إلى رئيس الجمهورية محمد نجيب نشرت بجريدة المصري

يقول له فيها:

"أما بعد، فإن مجلس قيادة الثورة قد أصدر قرارًا في 12 يناير 1954 بأنه يجري على جماعة الإخوان المسلمين قانون حل الأحزاب السياسية، ومع ما في هذا القرار من مخالفة لمنطوق القانون ومفهومه؛ فقد صدر بيان نسب إلينا فيه أفحش الوقائع، وأكثرها اجتراء على الحق، واعتقلنا ولم نخبر بأمر الاعتقال ولا بأسبابه.
وقيل يومئذ: إن التحقيق في الوقائع التي ذكرت به سيجري علنًا، فاستبشرنا بهذا القول؛ لأننا انتظرنا أن تتاح لنا فرصة الرد عليه، لنبين أن ما اشتمل عليه وعلى الصورة التي جاءت به لا حقيقة له، فيعرف كل إنسان قدره، ويقف عند حده، ولكن ذلك لم يحصل.
وإلى أن تتاح لنا الفرصة، فإننا ندعوكم وندعو كل من اتهمنا وندعو أنفسنا إلى ما أمر الله به رسوله -عليه الصلاة والسلام- حين قال: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ "آل عمران: 61"

كما أرسل برسالة إلى جمال عبد الناصر قال فيها: " السيد جمال عبد الناصر رئيس مجلس الوزراء .

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما بعد .

فإني مازلت أحييك بتحية الإسلام وأقرئك السلام ، ومازلت ترد علي التحيةبالشتائم واتهام السرائر واختلاق الوقائع وإخفاء الحقائق والكلام المعاد الذي سبق لكم قوله والاعتذار عنه .

وليس ذلك من أدب الإسلام ولا من شيم الكرام ، ولست أطمع في نصحك بأن تلزم الحق فذلك أمر عسير وأنت حر في أن تلقي الله تعالي علي ما تريد أن تلقاه عليه ، ولكني أريد أن أبصرك بأن هذه الأمة قد ضاقت بخنق حريتها وكتم أنفاسها وأنها في حاجة إلي بصيص من نور يجعلها تؤمن بأنكم تسلكون بها سبل الخير وأن غيركم يسلكون بها سبل الشر والهدم والتدمير إلي آخر ما تنسبون إليهم .

إن الأمة في حاجة الآن إلي القوت الضروري القوت الذي يزيل عن نفسها الهم والغم والكرب . أنها في حاجة إلي حرية القول ، فمهما قلتم أنكم أغدقتم عليها من خير فإنها لن تصدق إلا إذا سمحتم لها بأن تقول أين الخير وسمحتم لها بأن تراه ، ومهما قلتم أنكم تحكمونها حكما ديمقراطيا فإنها لن تصدق لأنها محرومة من نعمة الكلام والتعبير عن الرأي .

و إذا حققتم ذلك فإننا نعدكم بأن نذكر الحقائق ولا نخاف من نشرها ونصدق القول ولا نشوبه بالكذب والبهتان والاختلاق. ولا نتهم لكم سريرة ولا نبادلكم فيما تضمرون وتدخرون في أنفسكم ولا نجاري بعضي وزرائك فيما يكتبون من غثاثة وإسفاف . وانما نعدكم – كما هو شأننا بأن نناقش المسائل مناقشة موضوعية علي ما تعطيه الوقائع التي ترضونها أو تصدر عنكم أما أن تعطوا أنفسكم الحق في الكلام وتحرموا الناس منه وأما أنكم تفرضون أراء كم (بالنبوت) علي الآمة فشي لا يعقله الناس ولا ترضاه الآمة .

أيها السيد:

أن الأمة قد ضاقت بحرمانها من حريتها فا عيدوا إليها حقها في الحياة إذا كان الغضب علي الهضيبي وعلي الإخوان المسلمين قد أخذ منكم كل مأخذ فلكم الحق أن تغضبوا وهذا شأنكم _ ولكن لا حق لكم في أن تحرضوا الناس علي الإخوان المسلمين وتغروهم بهم ، وليس ذلك من كياسة رؤساء الوزارات في شي فانه قد يؤدي إلى شر مستطير وبلاء كبير . ومن واجبكم أن تحافظوا علي الناس مخطئهم ومصيبهم وأن تجمعوا شمل الآمة علي كلمة سواء .

وأنكم لاشك تعلمون أن الإخوان المسلمين حملة عقيدة ليس من الهين أن يتركوها ولا أن يتركوا الدفاع عنها ما وجدوا إلي الدفاع سبيلا . فإغراء بعض الآمة بهم وتحريضهم عليهم من الأمور التي لا تؤمن عواقبها . وأنني أؤكد لكم أن في وسعك أن تمشي ليلا أو نهارا وحدك بلا حراس وفي أي مكان دون أن تخشي أن تمتد إليك يد أحد من الإخوان المسلمين بما تكره . أما أن يمد أنصارك أيديهم بالسوء إليهم استجابة إلي إغرائك فان مسؤليتك عند الله عظيمة .

ولعل الذي حملك علي أبداء المداوة والبغضاء للإخوان المسلمين هو أنهم عارضوا المعاهدة . فالإخوان المسلمون لن يؤمنوا بها دون أن تناقش في برلمان منتخب انتخابا حرا يمثل الأمة أكمل تمثيل . وخير لكم وللأمة الآ تخدعوا أنفسكم عن الحقائق فان الآمة قد بلغت من حسن الرأي ومن النضج مبلغا يسمح لها باًن لا يتصرف أحد في شؤنها دون الرجوع إليها والأخذ برأيها . والله يتولاكم بتوفيقه .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته "

وقد استمرت حركة الاعتقالات طوال شهرين كاملين حتى امتلأت المعتقلات والسجون بطائفة من أطهر رجالات البلد وشبابها بلغوا عدة آلاف، لكثير منهم مواقف في الدفاع عن البلاد وعن حرياتها شهد بها الأعداء قبل الأصدقاء، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، ولم يكتفوا بالكلام كما يفعل كثير من الناس. أما كيفية الاعتقالات ومعاملة المعتقلين فلن نعرض لها هنا.

وقد بدت في مصر بوادر حركة -إن صحت- فقد تغير من شئونها وأنظمتها. وإن قرار حل الإخوان وإنزال اللافتات عن دورهم لم يغير الحقيقة الواقعة، وهي أن الإخوان المسلمين لا يمكن حلهم؛ لأن الرابطة التي تربط بينهم هي الاعتصام بحبل الله المتين، وهي أقوى من كل قوة. وما زالت هذه الرابطة قائمة، ولن تزال كذلك بإذن الله.

ومصر ليست ملكا لفئة معينة، ولا يحق لأحد أن يفرض وصايته عليها، أو يتصرف في شئونها دون الرجوع إليها والنزول على إرادتها.. لذلك كان من أوجب الواجبات على الإخوان المسلمين أن يذكروكم بأنه لا يمكن أن يبت في شئون البلاد في غيبتهم. وكل ما يحصل من هذا القبيل لن يكون له أثر في استقرار الأحوال، ولا يفيد البلاد بشيء.

وإن ما دعوتم إليه من الاتحاد وجمع الصفوف لا يتفق وهذه الأحوال؛ فإن البلاد لا يمكن أن تتحد وتجمع صفوفها وهذه المظالم وأمثالها قائمة.نسأل الله تعالى أن يقي البلاد كل سوء، وأن يسلك بنا سبيل الصدق في القول والعمل، وأن يهدينا إلى الحق وإلى الصراط المستقيم. وتحت ضغط القوى الوطنية والشعوب الإسلامية تم الإفراج عنه وعن كل إخوانه في مارس 1954م.

وبعد أن رأى أن الأحداث تتأزم بين الإخوان ورجال الثورة قال لإخوانه:

"إن الله جعلكم جنودًا لقضية الحق والفضيلة والعزة في وطنكم وفي العالم الإسلامي كله، وإذا كان من واجب الجندي المخلص أن يكون مستعدًا دائمًا لما يؤدِّي بكم إلى النصر في الحياة، فطهِّروا قلوبَكم وحاربوا أهواءكم وشهواتكم قبل أن تحاربوا أعداءكم، فإن من انهزم بينه وبين نفسه في ميدان الإصلاح أعجزُ من أن ينتصرَ مع غيره في معركة السلاح"

وقال:

"فكونوا مستعدين دائمًا لما يؤدِّي بكم إلى النصر في الحياة، فطهِّروا قلوبَكم وحاربوا أهواءكم وشهواتكم قبل أن تحاربوا أعداءكم.. فنصرة الله في ذات النفس عنصرٌ هامٌّ لطلب النصر من الله، ثم الثقة من نصره -سبحانه".

كان الهضيبي يتمتع بروح القائد، وعلم الفقيه، وضمير القاضي، وثبات وصلابة المجاهد، وقبل ذلك إخلاص وورع الزاهد العابد، لذلك نصره الله وأيَّده وأرشده لأصوب القرارات في أصعب الأوقات.

سافر المرشد العام في جولة دعوية للسعودية وسوريا ولبنان، وفي أثناء ذلك كانت المقاومة الجهادية التي يقوم بها الإخوان لازالت مستمرة، وقد تعبت بريطانيا من الإقامة في مصر ولما تقدمه من تكاليف, فاتفقت مع عبد الناصر على أن تجلو عن القناة مقابل شروط على رأسها: (يحق لبريطانيا أن ترجع لاحتلال القناة إذا حصل اعتداء على مصر، أو على الدول العربية، أو تركيا).

عارض الإخوان هذا الشرط معارضة شديدة، وحصلت بين عبد الناصر وبين الأستاذ الهضيبي مكاتبات على صفحات الجرائد، وكانت كلمات الأستاذ الهضيبي شديدة وحادة، كما بعث المرشد العام بمذكرة للرئيس نجيب يعلن اعتراض الإخوان على بعض النصوص

واكفهر الجو وازداد شعور الإخوان بالخطر، فطلب عبد الحكيم عابدين من المرشد العام عدم الرجوع لمصر حتى تمر الأزمة، غير أنه رفض ذلك وقال: لأعودن لمصر؛ لكي أشارك إخواني محنتهم، وبقي عابدين وبعض الإخوة في الخارج.

وفي 26/10/1954م في تمام الساعة الثامنة مساء أذاع الراديو خطاب عبد الناصر الذي كان يلقيه بالمنشية بالإسكندرية، وأثناءه انطلقت رصاصات على عبد الناصر، وحدث بعض الهرج، وبعدها أعلنوا أن الذي أطلق الرصاص أحد الإخوان، وقبل أن ينتهي من خطابه كانت سيارات المباحث العامة والمباحث العسكرية تجوب البلاد شرقًا وغربًا لتعتقل الإخوان المسلمين، وقبل أن يعود للقاهرة في اليوم الثاني كانت السجون قد امتلئت بآلاف الإخوان الذين لم يعرفوا سببًا لاعتقالهم، وفتحت عليهم أبواب جهنم.

كان المرشد العام في الإسكندرية مع أهل بيته، فاعتقل من هناك وتعرض فضيلته للمحن الشديدة والتعذيب داخل معتقلات عبد الناصر، وحكم عليه في البداية بالإعدام شنقًا هو وستة من إخوانه وهم: الأستاذ عبد القادر عودة، الشيخ محمد فرغلي، يوسف طلعت، إبراهيم الطيب، هنداوي دوير، محمود عبد اللطيف، ثم خفف الحكم عنه وحده للأشغال الشاقة المؤبدة.

يقول عنه الأستاذ "أحمد حسين" زعيم مصر الفتاة -رحمه الله:

"لقد ضمنا السجن الحربي في مارس 1954م، وأشهد أنه كان معي كريمًا، وبي عطوفًا، وأحسب أن أعظم تكريم له أنه في الإخوان المسلمين، ولقد سألني صحفي ما رأيك في الإخوان في معركة فلسطين؟ فأجبته بأنه كان أعظم الأدوار، حتى لقد كانوا هم الذين أنقذوا الجيش المصري من الوقوع في كارثة، عندما حموا مؤخرته وهو يتراجع، ويجب أن تعرف الدنيا كلها مني أنا أن من حارب المستشار، وحارب الإخوان بالحديد والنار
إنما كان يفعل ذلك لحساب الشيطان، ولا تظنوا يا أحبائي أنني أقول هذا الكلام الآن فقط، فقد غادرت مصر عام 1955م؛ احتجاجًا على ما حل بالإخوان، وكان آخر لقاء بيني وبين عبد الناصر يدور حول هذا الموضوع"

ثم يقول:

"إن شهيدكم (يقصد المستشار الهضيبي)، وشهيد الإسلام إذ ينعم الآن بالحياة إلى جوار ربه، فسوف يسجل له التاريخ أنه كان كابن حنبل، رفض أن يساوم أو يتزحزح عما يتصوره حقًّا".

ويقول الأستاذ عمر التلمساني - يرحمه الله:

"إذا كان حسن البنا قد مضى إلى ربه وترك النبتةَ يانعةً فتيَّةً، فقد كان حسن الهضيبي علاَّمة زمانه، ومشعل عصره، يوم حمل الراية حريصًا لم يُفرط، عزيزًا لم يَلن، كريمًا لم يَهُن، وادي الأمانة أمينًا في عزم، قويًّا في حزم، ثابت الخُطى في فهم، فأكد معالم الفهم السليم للإسلام الصحيح في القول وفي العمل، لم يُثنه حبل المشنقة، ولم يُرهبه سجن ولا تعذيب، بل زاده الأمر إصرارًا على إصرار، وصمودًا فوق الصمود".
كما تعرض أهله للاعتقال والتعذيب، وظل صابرًا محتسبًا راجيًا رضى الله، وعندما سئل بعد تخفيف الحكم عليه عن شعوره قال: "شعوري كرجل قام من حجرة الجلوس ليذهب إلى حجرة النوم". وفي 1957 أفرجت عنه لجنة الأطباء لتدهور صحته، لكنه عاد بعد التحسن ليشارك إخوانه، وفي محنة 1965 والتي كثر فيها التعذيب قال لإخوانه: "أنتم أيها الإخوان مهما قدمتم للإسلام من شهداء فلن تعطوه حقه".

وذات يوم غضب شمس بدران عندما جاءت رسالة من بلاد المغرب مكتوب عليها: فضيلة الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين، فسأله: أليست الإخوان محلولة؟! فأجابه: "إنها محلولة داخل مصر غير أني مرشد الإخوان في العالم".

ومرت الدعوة بمحنة داخل السجون من 1954، ثم مجزرة ليمان طرة 1957، ثم محنة 1965، وعندما ظهر فكر التكفير داخل السجون وقف الأستاذ الهضيبي الشامخ الواثق ضد هذا الفكر، وأخرج كتاب: "دعاة لا قضاة" يبين للناس بأن الإخوان لا يكفرون مسلمًا أقر بالشهادتين، وأن من يسير على منهج التكفير فليبحث عن لافتة أخرى غير الإخوان، فمع كل هذه المحن التي تعرض لها هو وإخوانه إلا أنه نهى إخوانه عن غيبة عبد الناصر.

يقول الأستاذ أحمد البس:

"استيقظ الباطل لتبدأَ سلسلةٌ من المحنِ الجازمةِ والحوادثِ الكالحةِ داخل صفوفِ الإخوان وخارج الإخوان، وأخذ الباطل بتلابيب رجال الدعوة، وفي مقدمتهم مرشدهم حسن الهضيبي وأسرته.
فقد نكل به وبمن حوله، وصمد الرجل صمود الأبطال، وضرب المثل المشرف الجميل، تلكأ الإخوان وخرج بعضهم عن قيادته ووصفوه بما لا يليق، وكان هذا كافيًا لأن يفرَّ من الميدان الشائك الملتهب.كل هذا واجهه حسن الهضيبي، فلم يطرف له جفن ولم تغمض له عين ولم يهدأ له بال من يوم أن أصبح مرشدًا للإخوان إلى أن لقي ربه، اللهم إلا إذا كان هدوء باله وراحة قلبه أن يعمل لربه دون سواه".

وفي 15 أكتوبر 1971 أفرج عنه وهو أرسخ من الجبال الرواسي.

كتاباته

لم يترك الأستاذ الهضيبي كثيرًا من الكتب، لكنه ترك رجالاً نشروا دين الله في ربوع الأرض.

ومن كتبه:

رسالة "دستورنا"، ورسالة "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم"، وكتاب "دعاة لا قضاة"، و"الإسلام والداعية" مجموعة كتابات جمعها أسعد سيد أحمد.

ومما كتب:

"كنا في القطار بأقصى الصعيد فأشار أحد رفقائي إلى الجبل، فرأيت ناسًا يصعدون أو ينزلون وكأنهم من فرط ارتفاعه في أحجام النمل، وقال: هنا صعد حسن البنا وصعدنا معه ولقينا من المشقة حتى وصلنا إلى قوم كأنهم من طول ما احتبسوا في هذا المكان فيهم من الأنس جفوة، وجعل الأستاذ الإمام -طيب الله ثراه، ورضي عنه وأرضاه في الجنة- يؤنس من وحشتهم ويرقق من طباعهم ويدعوهم إلى كلمة الله وكتاب الله وسنة رسول الله، وتحت شجرة قليلة الرواء كأنها آسنت قبل الأوان من كثرة ما ظمأت.

قال آخر:

هنا نزلنا من الأوتوبيس نقصد إحدى القرى ونظرت فإذا لحية الأستاذ الإمام قد صارت بيضاء مما علاها من التراب، وملابسه قد اختفى لونها لما غشيها -لا أقول: من وعثاء السفر، فالوعثاء شيء قليل- وفتحنا الشنطة وأخرجنا منها الفرشاة، وجعلنا نزيل الغبرة التي لحقتنا ونصلح من هندامنا، ثم مضينا إلى القرية ندعو أهلها إلى كلمة الله وكتاب الله وسنة رسول الله.
ثم وصلنا إلى إحدى المحطات ولعلها "إدفو" فقال آخر:
إن الأستاذ الإمام بات على كرسي أمام هذه الخمارة؛ وذلك أن أحد الأشخاص دعاه لافتتاح شعبة فكتب إليه بأنه حاضر في قطار كذا، وكان الخطاب لم يصله، ولم يجد في المكان من الأيقاظ إلا صاحب الحانة يهم بإغلاقها، فرف له وأعطاه كرسيًّا يبيت عليه حتى الصباح، وأغلق حانته وانصرف. وفي الصباح ذهب الأستاذ إلى القرية يدعو أهلها إلى كلمة الله وكتاب الله وسنة رسول الله.
وانتقلنا إلى الوجه البحري وجبنا قرى إحدى المديريات في أسبوع، فما وجدنا قرية إلا وصل إليها الأستاذ على غير ما وصلنا؛ فقد وصلنا في سيارات تنقلنا من مكان إلى مكان نختصر الوقت ونقرب المسافات، ومهما لقينا في ذلك من مشقة فإنها لا تقاس بالمشقة التي لقيها الأستاذ الإمام؛ حيث كان يصل إلى هذه القرى سيرًا على الأقدام، أو يركب الدواب. قرى سحيقة بعيدة عن العمران نسيها الناس ونسيتها الحكومة حتى طاف بها طائف من رحمة الله ونوره فدعاها الداعية إلى كلمة الله وكتاب الله وسنة رسول الله.

هكذا فعل حسن البنا، بث دعوته، ونشر راية القرآن، وربَّى جيلاً على الإيمان والفضيلة والطهر والعفاف والعزة والصدق والأمانة، ربَّى الجيل فردًا فردًا، وجعل كل فرد مدرسة لمن يأتي بعده، وأحيا نفوسًا كاد الجهل يقتلها، وأوجد منها أبطالاً في الحرب يفتدون دينهم وأوطانهم بأرواحهم، بايعوا الله على ذلك ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ "الأحزاب: 23".

وهكذا الدعوات تنشأ في قلب فرد، ثم في اثنين، ثم في ثلاثة إلى أن يعمَّ نورها القلوب فيستضيء الناس به، ويقبلون عليه، ويأخذ كل بنصيبه منه، وهكذا نشأت دعوة القرآن أول أمرها، ولا يمكن أن تنشأ الدعوات بحشد الناس في اجتماعات، ولا بأن يقول لهم الناس: كونوا على فكرة، فيكونون.

كانت الدعوة إلى كتاب الله وسنة رسول الله قد ملكت عليه نفسه وعقله فتجرد لها، وعإني في سبيلها ما ذكرت نموذجًا منه في رحلاته، لم يكن كالزعماء الذين يجلسون في بيوتهم أو على مكاتبهم، وينادون بالأفكار والآراء، ويحسبون أنها استهوت نفوسهم، وأن الدنيا قد دانت لهم بما تجمع حولهم من جموع لا يُحْصى عديدهم، حتى إذا ألمت بهم ملمة لم يجدوا أحدًا؛ لأنهم في الحق لم يجتمعوا على حق، وإنما جمعتهم الشهوات والمنافع وجمعهم الهوى ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ "الجاثية: 23".

ولم يكن كالزعماء لا يذهبون إلا إلى العواصم في القطارات الفاخرة حيث يلقون من أنواع التكريم ما يزجيه لهم المنافقون، لكنه كان يبحث عن القلوب المؤمنة المخلصة الثابتة على إيمانها الوفيّة في إخلاصها، ويعلم أن العبرة ليست بكثرة العدد، وإنما العبرة بعدد المؤمنين الذين تندك الجبال وتزول ولا يزولون عن عقيدتهم، ولا ينزلون عن حكم ربهم.

كان يحترق في الدعوة ويؤتيها من وقته ونفسه وما يكسبه من مال ما جعله مثلاً في التضحية والبذل -التضحية بالنفس، والتضحية بالمال- كل ذلك حبًّا في الله، وابتغاء مرضاته -تعالى، لم يسترح ساعة، ولم يَقْتَنِ ثروة، ولا كان له غرض من أغراض الدنيا إلى أن لقي ربه راضيًا مرضيًّا، وذلك جزاء المتقين.

حُلّتْ جماعة الإخوان المسلمين وقتل حسن البنا -تآمرت دولة على قتله، وظن أهل السوء أن الإخوان المسلمين قد انقضى عهدهم وانفضَّ سامرهم ولم يبق لهم أثر، ولكن الإخوان برزوا كالطَّوْد الراسخ لا تزعزعه الأعاصير، ولا تأخذ منه الأحداث إلا كما يأخذ النمل من الطود الراسخ، ذلك أن العلاقة بين الإخوان ليست كعلاقة الناس ببعضهم قائمة على المنافع والمغانم والنفاق، ولكنها قائمة لله وفي سبيل الله وعلى الحب في الله والبغض فيه؛

فالله عندهم هو الذي يدور عليه كل أمر، وإليه ينتهي كل شيء، وفيه يجب الفناء، ولا طاعة إلا له ، ولا أمر إلا أمره، ولا نهي إلا ما نهى عنه، لذلك لم يجدِ أن تُحَلَّ الجماعة بمرسوم؛ فإن هذا المرسوم لم يحلَّ إلا الشكل، وأما الموضوع فهو أقوى من أن يحل بمراسيم إنه موضوع القلوب وما تنطوي عليه القلوب، إنه الحب في الله، والعمل لكتاب الله وسنة رسول الله، سواء عليهم أكانوا فوق الأرض أم تحتها، وإذا ضاقت بهم الدنيا فما هو إلا أن يقولوا في سرِّهم: الله أكبر ولله الحمد، فإذا هم يخرجون من الضيق وينفسح لهم الطريق.

وإذا الذين حلوا الإخوان هباء، ذهبوا جميعًا كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، وذلك جزاء البغاة الذين لا يصغون إلى كلمة الله، إننا نذكر الإمام الشهيد كل يوم ولا نحب أن يكون لذكره يوم خاص طوال الأيام والليالي، حتى إذا جاء يوم الذكرى حشدوا رجالهم ونساءهم وأطفالهم لهذه الذكرى ساعة من نهار أو ليل ثم يعودون لما كانوا فيه من عبث ولهو؛ لأن معاني الذكرى لا تقوم في قلوبهم ولا تنبثق من نفوسهم.

وإذا ذكرناه فإنما نذكره بالحرص على كتاب الله وسنة رسول الله، ونذكر أنه تفإني في الدعوة، وأنه ينبغي لنا أن نتفإني فيها، وأن يقيم كل منا نفسه في رباط دائم على ثغر من ثغور الإسلام. نذكره بأن نعمل ونكدح لخير الإسلام والمسلمين، و"من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم". نذكره بأن نكون صفًّا واحدًا كما نكون في الصلاة، ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ "الصف: 4". نحب أن يشعر الإخوان بأخوتهم ويقدرونها حقها، ويعلمون أن هذه الأخوة هي الأساس الذي قام عليه بنيانهم، وشيد عليه صرحهم، فإياكم أن يَهُن الأساس.

نحب أن يكون كل واحد من الإخوان أمة واحدة يتمثل الأخلاق القرآنية بأجمعها، ويتحلى بها، ويكون هداية لمن يبتغي الهداية، آية على أن الإسلام يفعل في النفوس ما لا تفعل الأهواء، إنه يحييها ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ "الأنفال: 24"، إذا رأى الناس واحدًا منكم فكأنما قرءوا كتابًا في فضائل الإسلام وآداب القرآن.

﴿يأيها الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ "77" وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ "الحج: 77-78"، صدق الله العظيم، ورضي عن الإمام مجدد الدعوة الإسلامية وأرضاه في الجنة.

أيها الإخوان:

لقد انتقلت دعوتكم إلى طور جديد، طور يرجى فيه الثبات ويرجى العمل، وقد قلت في مناسبة ذكرى الرسول : وليعلم الناس أن الإخوان قوم يعملون ولا يتكلمون، يُحِقُّون الحقَّ ويبطلون الباطل ولو كره الناس أجمعون. أيها الإخوان: فالثبات والعمل، والله أكبر ولله الحمد".

مواقفة التربوية

قال الأستاذ عبد الحكيم عابدين :

من غير جلبةٍ ولا ضجيج، وبكل تواضعٍ واستخفاء، عبْر كلماتٍ في زاويةٍ من جريدة الأهرام، وقعت العيون على نبأ وفاة المرشد العام للإخوان المسلمين، أخي وأستاذي في الله حسن إسماعيل الهضيبي رحمه الله.
وأشهد ما كدت أتلقَّى النعي الأليم حتى أضاءت ملء خاطري وتلألأت في كل ما حولي هذه الآية الكريمة من سورة الأحزاب ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيُلاً﴾ (الأحزاب: 23) كأنما تنزل الساعة، عليها جلال الوحي، رحمانية الجرس، ملائكية النبرات، عالية الترتيل، ذلك بأنَّ الراحلَ العزيز كان- فيما علمت وشهدت- تفسيرًا حيًّا لهذه الآية، وكانت سيرته واقعًا ملموسًا لما تحمل من شمائل، وما ترسم من مُثُلٍ ومحامد، وما تبشِّر به من مثوبةٍ ورضوانٍ.
في صباه الباكر، في شبابه الغضّ، في رجولته السوية، في كهولته الواعية، وفي شيخوخته الوقور، كان حسن الهضيبي الصادق الذي لا يكذب، العفّ الذي لا يترخَّص، المستقيم الذي لا يُداهن، الأبيَّ الذي لا يخنع، الشجاع الذي لا يدبر، الجَلد الذي لا يتذمر، بل كان- كما قال العربي من قبل- لا يملّ حتى يملّ النجم، ولا يهاب حتى يهاب السيل، ولا يظمأ حتى يظمأ البعير!!
وكان فوق ذلك جذوةً من الإيمانِ والجهاد لا تسكن إلى دعةٍ ولا تهادن على مبدأ، عنوانًا على الخلق والترفُّع لا يستنزله عنهما إسفافُ حاسدٍ أو سلاطةُ منابذ، جبلاً في الثباتِ على ما يؤمن به، أرعدت القواصم أم أبرقت المغانم، منهلاً للإيثار يمنع الري نفسه وأهله حتى يشبع منه ذوو الحاجة الأباعد، داعية لا تُخطئ في أحد ممن يدخل في ولايته سلطان دعوته الغالب، وتلك خصيصة لا يشتد بخير فيها أزر المصلح المجاهد، ولا يبلغها من قادة الدعوات إلا الصفوة القلائل، وحسبك أن يمتدح بها القرآن الكريم أكثر من نبي مثل قوله تعالى: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا "55"﴾ (مريم).
ويقودني الإلمام بهذه الخصيصة من شمائل المرشد الراحل إلى التحدث عنه- طيَّب الله ثراه- في إثنتين من أبرز النواحي التي تميزت بها شخصيته ومعالم سيرته ومنهاجه:
  • أولاهما: الوحدة بين مبادئه وسلوكه متمثلة في نماذج من مواقفه وأخلاقه.
  • والأخرى: سلطان دعوته على أهل بيته ومن تشملهم ولايته.
وقبل الإسترسال في عرض هاتين الناحيتين، تقتضيني الأمانة والإنصاف أن أسارع إلى القول بأن روائع الإيمان والألمعية التي يشرق بها تاريخ الهضيبي كانت لازمة له بارزة في نفسه وعمله، قبل التحاقه بدعوةِ الإخوان المسلمين، وبعد أن تولى قيادتها خلفًا لسلفه العظيم الشهيد حسن البنا عليهما رضوان الله، لا يخطئ هذه الروائع فيه عابر طريق، ولا معاشرٌ لصيق!.

حسن الهضيبي في مواقف وأعمال وأخلاق

أعترف أن المقادير لم تهيئ لي فرصة التعارف المباشر إلى الراحل الجليل إلا وقد تجاوز الخمسين من عمره، حينما كان مستشارًا بمحكمة النقض (التمييز) المصرية، ولم يجاوز تأثري به يومذاك شعور الإعجاب بألمعي من رجالِ القانون يبلغ هذه الدرجة من الفقه الصحيح للشريعة، والفرح برجلٍ في هذا المنصب الرفيع يتدفق إيمانًا برسالةِ الإسلام الخالدة، وقدرتها- دون سواها من المبادئ والدعوات- على علاج مشاكل العصر، والوفاء بكل ما يتطلبه بناء الدولة الحديثة على أفضل وجه، بل بما يكفل سعادة البشرية من كل لونٍ وجنس.

بيد أنه منذ تولى قيادة الإخوان المسلمين، بدأت تفد إليَّ أوفر الأنباء من رفاقِ عمره، أقطاب القانون والقضاء، عما خفي عليَّ من تاريخ حياته، وراح أريج سيرته يعطرِ الأسماع والقلوب في قصصٍ تُشبه الأساطير عمَّا ألزم به نفسه وذويه من مثاليةِ السلوك فيما يفعل وما يترك وما يقول.

الأنس بالقرآن

عُرف عن حسن الهضيبى ولوعه بكتابِ الله منذ حداثته، يُكثر القراءة فيه والغوص في معانيه ويزن عمله وسلوكه بأوامره ونواهيه، ويبادر إلى إلزام نفسه بما قد تغفل عنه من أحكامه وتوجيهاته، وكانت هذه الصحبة مع القرآن مصدر شمائله والأساس الذي لم تنفك عنه شخصيته طوال عهده بالدنيا، فلئن استظهر الكثير من أجزاءِ القرآن في صدره- كما تدل على ذلك كثرة استشهاده بآياته- فقد شارف الغاية من استيعابه حقائق من خلقه، وصراطًا لحياته

وكان يبلغ من غيرته على القرآن وإعظامه لمسئولية حامله وتاليه أن يشتد نكيره على مثل إذاعاتِ لندن وموسكو والصهاينة وباريس حين تستهل مناهجها بتلاوة القرآن- وهي لا تؤمن به- فتنزل بقدره إلى رتبةِ الأغنية أو الأنشودة التي تتملق بها مشاعر السامعين، وفي ذلك كل الاستخفاف بالمسلمين، مع ما للقرآن من حرمة، تفترض في مذيعه والمنصت إليه، أن يكون جنديًّا صادعًا بأمره، مقلعًا عن كل ما ينهى عنه.

الورع عمَّا يستبيحه الكافة

انفرد الأستاذ الهضيبي أو كاد برتبةٍ عاليةٍ في الورع عمَّا تعارف عليه الناس على إباحته من توافه الأشياءِ التي تضعها الدوائر الحكومية والمؤسسات التجارية في خدمةِ موظفيها كالأوراق والأقلام وغيرها من المهملات إذ كان يُحرِّم على نفسه وذويه استعمال شيء منها في شأنٍ خاصٍّ، وكان يعود من المحكمة- وهو قاض أو محقق- وفي حقيبته أكداس من ورقة التسويد الرخيصة (الخرطوش) ليخطط عليها مشروعات القرارات والأحكام القضائية

فلا يسمح لنفسه قط باستعمال ورقة منها ولو كانت دون الأصبع في أمر يخصه أو يخص واحدًا من أهله، فإذا رآها واحد من أولاده في غرفته وطلب ورقة منها لبعض حاجته أنكر عليه أبوه وأعطاه قرشًا يشتري به ما يحتاج إليه من الورق ثم لقنه أمام إخوته الدرس الذي لم ينسوه بأن أوراق الحكومة ملك لها لا يحل لأحد أن يستخدمها في شأن خاص به.

مع خلطائه المسيحيين

وكانت باكورة ولايته القضاء في مدينة جرجا في صعيد مصر، حيث تعلو في الطبقة المثقفة نسبة المسيحيين، الذين تهيئ لهم مراكزهم وثقافتهم الاختلاط بقاضي المدينة، ونظرائه من كبار الموظفين، فلفت نظر هؤلاء الأخوة عزوف القاضي الجديد عن مشاركة أنداده غشيان مواطن اللهو المباح، فضلاً عن الحرام، وراعهم منه- خلافًا لأمثاله- لا يحلف ولا يعمد إلى تثبيت قوله ورأيه بيمين؛

استنادًا إلى أنَّ من لا يصدق بلسانه لا يصدق بيمينه، بالإضافةِ إلى إيثاره الجد في غير تزمت والبشاشة في غير تبذل، فإذا بهم يلتفون حوله، ويُحيطونه بفيض من مشاعر الحب والتقدير، ويعلنون أنهم يحسدون عليه إخوانهم المسلمين، ويتمنون لو كان في طائفتهم مثله ليقيموا له النصب والتماثيل.

الجبين المرفوع.. أمام الملك فاروق

دثني "باشا" مصري من أعلام القضاء- كان يليه مباشرةً في ترتيب القضاة والمستشارين- أن الهضيبي كان أول مَن كسر تقاليد الانحناء بين يدي الملك، عند حلفه اليمين القانونية التي يؤديها أمامه قبل تولي مناصب المستشارين، إذ كانت دفعته حوالي عشرة، سبقه منهم خمسة لم يترددوا في الانحناء عند حلف اليمين رغم تهامسهم بالتذمر من هذا التقليد المهين

حتى إذا جاء دور الهضيبي، الواهن البنية الصامت اللسان، فاجأ الجميع بأن مدَّ يده لمصافحةِ الملك وأقسم اليمين منتصب القامة مرفوع الجبين، بصورةٍ أنعشت الإباء فيمن بعده- وأولهم محدثي الباشا (س. ر)- فأدى يمينه قائمًا عالي الرأس، وهو يقول لنفسه: "إذا شنقوا الهضيبي فليشنقوني معه" ، وتبعهما سائر المستشارين فصافحوا الملك وأقسموا اليمين دون تخاضع أو انحناء.

لا زلفى لجبار.. ولا شماتة بمنهار

(أ) أمام الجبارين:

ومنذ برز اسم الهضيبي في القمةِ بين زعماء مصر ودعاه الملكُ إلى الاجتماعِ به دون طلب- خلافًا لكل السوابق المألوفة يومذاك- راحت التعليقات والتكهنات تتكاثر وتتضارب حول الثمن الذي سيتكلفه الإمام الهضيبي وجماعته- فيما توهم الناس- لهذه البادرة التكريمية التي خصَّ بها مليك البلاد المرشد العام للإخوان المسلمين!.

أما الهضيبي المؤمن الصديق، الموصول أبدًا بملك الملك، فلم يزد على أن نقل سلام الملك الذي حمله إياه إلى إخوانه في الجماعة، ثم استأنف طريقه في الدعوةِ محرر الإباء من كل ما يمت بسببٍ إلى هذه المقابلة، بل معتصمًا بحكمته وإيمانه من أن تلحق بمثاليةِ الجماعة منها أية شبهة! وإليك، مما وقفت عليه بنفسي هذه الأمثلة الثلاثة:

  1. اتصل به كبيران من أعوانِ الملك يسألانه موعدًا لزيارته، فما حدد لهم الموعد- وكان بعد ثلاثة أيام- حتى أخبراه بأنهما سيحضران معهما صورة الملك لتعليقها في دار الإخوان، وقبل الموعد ببعض ساعة هتف إليَّ من داره يكلفني بصرفِ الرجلين إذا سألاني عنه، ولما ذكرته بأن رد مثلهما بهذه البساطة سيورطني في أزمةٍ صارحني- وكنتُ لا أعلم سبب الزيارة- بألا مفرَّ من ردهما بأيةِ وسيلة لأنهما سيطلبان منه تعليق صورة الملك بالمركز العام، وهذا، لا يفعله ولو قُطعت يمينه!.وألهمني الله أن أقول له سأرسلهما إليك بالمنزل ولا حاجةَ لهذا الجفاء، وما عليك إلا أن تعتذر لهما بأن الإخوان قوم متزمتون يُحرِّمون التصوير، وسأبادر الآن إلى رفع صورة الإمام الشهيد من غرفةِ المركز العام، حتى يستقيم الاعتذار وما هو إلا أن سمعها حتى قال: "يرحم الله أباك، افعل وأنا في الانتظار"!!.
  2. بعد أن اعتمد مكتب الإرشاد العام الصياغة التي أعدت بها مذكرتنا التقليدية لوزارة الدكتور علي ماهر بعد حريق القاهرة سنة 1952م وكلفني بطبعها وتوقيعها من المرشد العام دعاني إليه وأقبل على آخر سطرٍ منها يتضمن أماني التوفيق (في ظل جلالة الملك العظيم) فضرب بقلمه على عبارةِ (في ظل جلالة الملك العظيم) غير ملتفتٍ لتنبيهي بأن مكتب الإرشاد قد اعتمدها، ولا إلى كون هذه العبارة تقليدية، ولا إلى أن خلو الكتاب منها يُثير نقمةً في القصر الملكي، مجيبًا عليَّ كل ذلك بقوله: "احذفها على مسئوليتي، وحسبنا والملك والوزارة أن تكون في ظل الله وحده".
  3. وفي ربيع العام نفسه، إذ كان طفلي هشام يُعالَج بمستشفى الدكتور عبد الوهاب مورو (باشا) قدم المرشد العام مشكورًا لزيارته، ولما همَّ بالانصرافِ بعد جلسةٍ طويلةٍ غمر فيها هذا الطفل ببره وعطفه، أشرتُ عليه بزيارة رئيس الديوان الملكي، وكان يعالج بنفس المستشفى، فلمَّا فُوجئت بإعراضه عن الفكرةِ وشرعت أعدد له محاسنها ومحاذير تركها، ولا سيما انه رؤى في نفس المستشفى، لأنه لا تكاد تمر لحظة دون أن يغص صالون رئيس الديوان بمجموعات من الأمراء ورؤساء الوزارات والشيوخ والنواب وكبار العلماء والوزراء ورجال الصحافة والأعمال، ورحتُ أقنعه بأن زيارة الرجل مجاملةً للملك، وهي عيادة مريض على كلَّ حال، إذا به يُصافحني مودعًا وهو يقول: "لقد قصدتُ اللَّهَ تعالى بعيادةِ ولدنا هشام، ولم أقصد الملك بزيارةِ رئيس الديوان"!!.

(ب) لا شماتةَ بالمدبرين:

ويتمم هذه العظمة في خُلق الرجل أنه كان مثال النيل والترفع في مواقفه إزاء من أدبر عنهم السلطان، وانقلبت أحوالهم من عزٍّ إلى هوان، ولو كان فيهم مَن أسلف إليه أو إلى جماعته البغي والعدوان، والأمثلة التالية أصدق شاهد وبرهان.

  1. محنة الملك المخلوع: على الرغمِ من مواقف الإباء التي التزمها الهضيبي تجاه الملك فاروق في أوج سطوته وسلطانه، وحين كانت أعلى الهامات تتفاخر بالانحناءِ بين يديه، وأمضى الأقلام تتبارى في نسبةِ القداسة والعبقريات إليه، رأينا هؤلاء جميعًا لا يلبثون عندما تحل نكبة الخلع والإبعاد به أن ينقلبوا في مثل لمحِ البصر إلى هجائين حداد الألسنة، شتامين مقذعي البذاءة، يصبون كل ذلك في غير حياءٍ من ماضيهم القريب ماضي اليوم والساعة على ذلك المخلوع الذي أصبح لا يملك حولاً ولا طولاً، ولا يستطيع لأحدٍ نفعًا ولا ضرًّا. أما الهضيبي الذي رأينا مناعته في وجهِ الملك ومطالب حاشيته فقد ارتفعت به أصالة خلقه عن أن يتأثر بهذا التيار، ومَلَكَهُ سلطان التعفف والترفع فلم ينزلق ولا سمح لإخوانه أو صحفه بالانزلاقِ لحظةً إلى مهاجمةِ رجل جرى القضاء على سلطانه بالزوال، وليس وراء ملاحقته بالسباب إلا ما تأباه المروءة، وما نهى عنه الهدي النبوي، من إتباع المدبر والإجهاز على الجريح!.
  2. محنة الزعماء المعتقلين: ومن معين هذا الخلق الأصيل حرص الأستاذ الهضيبي على مواساةِ الزعماء الذين اعتقلتهم الثورة بعد قيامها بأسابيع، وأصبح الاتصال بهم مجلبة ضرر ونقمة حملت أقرب الناس إليهم على التنصل من كلِّ صلةٍ بهم، بينما حرص الهضيبي على تفقدهم بمجرَّد أن سُمِحَ لهم باستقبال الزوار، فزار- وكنت في معيته- السادة أحمد نجيب الهلالي باشا، وأحمد عبد الغفار باشا، وآخرين لا أذكرهم الآن ممن كانت قيادة الثورة الحاكمة تعتبر زيارتهم ومواساتهم من كبائر السيئات وما كان أحب إلى المرشدِ في تلك الأيام أن يتفادى غضب رجال الثورة، ولكنه الوفاء الأصيل يأبى أن يُفارق صاحبه ولو كلَّفه ما لا يُطاق!.

سلطان الخلق مع الأولياء والأعداء

لا يسعني أن أنفض يدي من هذه العجالةِ الخاطفةِ عن مواقفِ الرجل الكريم وأخلاقه دون أن أورد أنموذجًا من منزلةِ الخلق عنده حين يبدو التمسك به وكأنه إضاعة للمصلحة أو خدمة لأعداء الدعوة.

قامت ثورة مصر وبينها وبين الدعوة وقيادتها أسباب ليس هذا مجال الإفاضة فيها، وأخلص الهضيبي في نصحه للثورةِ ومنحها أنفع التأييدَ فيما يتفق ومبادئه الإسلامية، فلما اشتعلت أعاصير الخلاف بينها وبين جماعة الإخوان، وراحت الثورة تصبُّ على الجماعة أبشع ضروب البطش والاضطهاد

سارع أحد خلصاءِ الهضيبي إلى مقرِّ قيادةِ الثورة- وكان لا يزال موضع ثقتها الكاملة- للإجهازِ على رجالها، انتصارًا للدعوةِ وكفًّا للأذى عن الجماعة، فاكفهر وجه المرشد غضبًا وقال: "لأن يهلك الإخوان عن آخرهم- وللدعوة رب يحميها- خيرٌ من أن نبلغ قمة النصر عن طريقِ الغدر والخيانة، إننا مسلمون قبل كل شيء، ولو ملكنا الدنيا بإهدارِ الخلقِ الإسلامي فنحن الخاسرون".

الثبات عند البلاء

"لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموه فاثبتوا" حديث شريف.. مارس الهضيبي قيادة الدعوة، على هدي النبوة، مؤثرًا للعافية في غيرِ وهن، راغبًا عمَّا يسوقه الاصطدام بالحكوماتِ من شهرة وذكر، متقبلاً البلاء إذا فرض عليه بعد ذلك بأمثلِ ما يتلقاه المؤمن من ثباتٍ وجلد، رافضًا كل ما يؤثره به إخوانه- رعاية لسنه ومقامه- من وسائل التخفيف والإيثار، ليظفر من مثوبة البلاء وليكون تلاميذه وأتباعه نعم الأسوة والمثل، يفعل كل ذلك رحمه الله دون إثارة ضجة أو لفت نظر.

كان أشد ما أفزعني من حملةِ الاعتقالاتِ التي واجهناها في 13 من يناير 1954م أن رأيت بين المعتقلين ثلاثة رجال:

حسن الهضيبي، ومنير الدله عليهما رضوان الله، وأسامة حسن الهضيبي سلَّمه الله، لخشيتي أن يكونوا ثغرة في جدارِ المقاومة التي عرف بها رجال الدعوة في الأزمات، لأن أولهم شيخ جاوز الستين مثقل بطوائف من العلل والأسقام، فضلاً عن أنه قضى حياته، حتى ذلك اليوم، في دعة وخفض بين عمله وبيته يأمر فيطاع، ويهيب فيجاب، ولأن الثاني ربيب نعمة وابن باشا واسع اليسار
فضلاً عن كونه مستشارًا في مجلس الدولة، يتسابق الناس في طلبِ مودته، والتقرب إليه، فتملكني الوهم أن تكون مفاجأتهما بحياةِ الاعتقال على هذه الصورة التعسفية الجافية زلزالاً ينتهي بهم إلى الحطمة والانهيار، خلافًا لأمثالنا من حلفاءِ التخشن، الذين سبق لهم التدرج في منازل الاعتقال منذ كانت في مستوى الفنادق الراقية، حتى أصبحت.. كما يواجهها هؤلاء المترفون لأول مرة، مخابئ نكال وهلكة، أما ثالثهما أسامة الهضيبي سلَّمه الله، فقد كان- من دون ذرية الهضيبي كلها- منصرفًا إلى عمله ومقاولاته الهندسية معتزلاً كل ما يتعلق بالدعوةِ والجماعة، لا يعرف عنَّا ولا نعرف عنه شيئًا لولا أن يرانا ونراه في بيتِ أبيه قَدَرًا!

غير أن تجربة الشدائد- وهي ميزان الرجال- قد كشفت من جوهرِ هؤلاء الثلاثة، ما رأيتني بالقياسِ إليه صغيرًا ضئيلاً، أحتاج منهم إلى التشجيعِ والمواساة.. فالهرم العجوز المثقل بالأمراضِ حسن الهضيبي، فقد أثبتت هذه المحنة أنه إمام في احتمالِ البلاء، قدوة في الصبر على الضراء، وإليك طائفة من نماذج إبائه وجلده في أشدِّ مواطن البأساء.

  • مداواة الروماتيزم المزمن بزمهرير البرد في زنزانة الاعتقال:

كرثتني وطأة الزمهرير الذي واجهته ساعة أغلق عليَّ باب الزنزانة، رغم ما كنت أشعر به من فضلِ قوةٍ وشباب، وما كنت متجهزًا به من فرشٍ وأغطيةٍ وثياب، وما طال ألفي له من خشونة السجون والمعتقلات، فرأيتُ مشاعري كلها مشدودةً إلى الأستاذِ المرشد يستبد بها الهلع على حياتِهِ الغالية، لما أعلم من معاناته من مرضِ الرزماتيزم الحادِّ المزمن الذي يحوج أجلد الفتيان إلى مضاعفةِ الدفء في وقتِ الشتاء

فعمدتُ إلى فروةٍ من جهازي ذات وبرٍ كثيف طويل ودفعتُ بها مع حارسِ الزنزانة ليسلمها لقاء أجرٍ أغراه- إلى الأستاذِ الهضيبي في زنزانته التي عرفتُ رقمها بعد مجهود، وقلتُ في نفسي إنه جهد المقل ولكنها ستقيه الكثيرَ من وطأةِ الزمهرير

غير أنَّ الحارسَ لم يلبث أن عادَ إليَّ والفروة بيده ليبلغني أن نزيل تلك الزنزانة أمره بإعادتها إليَّ، وخشيتُ أن يكون الحارس قد أخطأ المقصود فرددته بكلمةٍ رمزيةٍ وألزمته تسليم الفروة، والتأكد ممن أرسلتها إليه بجوابِ تلك الكلمة، ولكنه سرعان ما عاد إليَّ بالجوابِ الرمزي، ومعه الرفض الحاسم بدعوى أنه لا يشعر بأي برد يحوجه إلى الفراء.

وبعد يومين هيأ لي القدرُ الاجتماع بأستاذي الأبيّ أمام دورةِ المياة فما أمهلني أن أتكلم حتى قال: "أدفئ نفسك بفروتك أو ادفعها إلى مَن يحتاج إليها من إخوانك"، فقلتُ له: "فدتك نفسي، مَن أحوج إليها منك وأنت مريض بالروماتيزم والدوسنتاريا و...؟ "

فإذا به يقاطعني في عزةٍ وبشاشةٍ: لقد شفيتُ والله، يا عبد الحكيم، ببردِ هذه الزنزانة من كلِّ ما أثقلني من الأمراضِ في غابر السنوات!! وما كدتُ أسمع الجواب حتى غلبتني العبرات، وتضاءلتُ في نظر نفسي كأني حفنة من تراب وأنا أردد في خاطري "إن لله رجالاً..."!.

  • رفض المدفأة الكهربائية من مدير السجن:

وكان مدير السجن الحربي- الذي أعتقلنا في صحراءِ الهايكستب- يتودد للأستاذ الهضيبي ويتظاهر بالأسفِ لاعتقاله والمسارعة فيما يسره، ومن ذلك أنه أبلغه يومًا عن مسعى يقوم به لتزويدِ غرفته بأدوات التدفئة والراحة تقديرًا لمقامه وسنه، فأجابه المرشد رحمه الله: "إني بأتمِّ الراحةِ والدفء، وإذا كان باستطاعتك أن تقدم هذه المزايا لجميع الإخوان المعتقلين فيسرني أن أكون آخرهم، وإلا وفِّر على نفسك المساعي وأنت مشكور!!".

غير أنَّ مدير السجن، الذي عرف إباءَ الرجل ومثالية إيثاره، اغتنم فرصةَ إخلائنا الغرف في لحظات (الفسحة) اليومية، فحمل مدفأةَ مكتبه الخاصة وتركها مشتعلة في زنزانة الهضيبي، الذي ما كان يدخل الزنزانة ويُفاجأ بنعمةِ الدفء، ثم يلمح المدفأةَ في زاويةٍ من زنزانته، حتى أقبل على بابِ الزنزانة من الداخلِ يُوسعه طرقًا بكلتا يديه، إلى أن سمع الحارس فأسرع يفتح باب الزنزانة، ليُفاجأ بنزيلها قد حمل المدفأة بيديه

وقذف بها إلى الخارج ثم أغلق الباب على نفسه دون ضوضاء!..، وجاء مدير السجن يعاتبه، بحجةِ أنه آثره على نفسه، وأن في هذا إهدارًا لكرامته، والمرشد لا يزيدُ على أن يدعوَ له، ويكرر أنه لن يقبل ميزةً ولا هديةً ولا كرامةً خاصة، إلا بعد أن تعمَّ كلَّ المعتقلين من إخوانه.

  • إظهار القوة أمام خصوم الدعوة:

وأدرك زبانية الحكم أنَّ الشيخَ الذي حسبوه فانيًا سريعًا إلى الاستسلام إن هو إلا معين إباء وجلد، يسري جواره شممًا ومنعةً في نفوس الإخوان فيُثَبِّت الواهِن، ويضاعف من عزيمة الثابت. وتفتقت مكايد الطغيان عن حيلة جديدة، نقلوا بها المرشد العام إلى زنزانة محلقة بمكاتب الإدارة، تفصله قرابة ميل عن مجمع زنزانات الإخوان، بحيث لا يرونه إلا في ساعةِ الفسحة من هذا البعد، لا يكلمهم ولا يكلمونه!

ولفت أنظارنا أن مرشدنا المتداعي البنية يقضي ساعة فسحته في الحديقة المواجهة لمكتب المدير ناشطًا في القيام بتمرينات رياضية وهو بملابس ناصعة الألوان لعله كان يتوقر عنها وهو في شرخ شبابه. ولما كاشفته- في أول لقاء هيئ لي معه- بغرابة هذه الحركات الرياضية، وهذه الملابس الزاهية، على مقامه وسنه، ضرب في صدري بيده ضربة حنان وتنبيه

وهو يقول:

"دعهم لا يرون منَّا إلا البشاشةَ وارتفاع الروح المعنوية، حتى يتحققوا أنَّ سهامَهم طاشت، ولم يبلغوا منا ما يريدون! ألم يبلغك قول رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- "رحم الله امرءًا أراهم من نفسه اليوم قوة".
  • النهي عن البكاء من خشيةِ الله على مسامع الظالمين:

واعتاد الإخوان أن يجدوا في السجون أسعد الفرص للخلوة بالله سبحانه، حيث تشغلهم أعباء العمل للدعوة أوقات الحرية عن التفرغ لما يحبون من مناجاته، وكان هناك أخ بين المعتقلين من أرقَّهم قلبًا وأغزرهم دمعًا وأعلاهم نشيجًا في مناجاةِ الله إذا حلك الظلام وسكنت الحركة بين المعتقلين والحراس.

واستطاع الإمام الهضيبي أن يتبين من هذا النشيج شخصية صاحبه، فما وقعت عليه عينه في ساحةِ الفسحة العامة، حتى أقبل عليه يقول له: "أنا أعلم أنك رقيق القلب تبكي من خشيةِ الله، وتلك رتبة نغبطك عليها جميعًا، ولكن جهلة الحراس إذا سمعوا بكاءك، وأنت مرموق المكان في الدعوة، أسرعوا إلى سادتهم الطغاة، فأفهموهم أن قادةَ الإخوان قد أصابهم الهلع من الاعتقال، حتى إنهم ليبكون بكاءَ الأطفال".

وراع المرشد والحاضرين من الإخوةِ أن يسمعوا جواب أخيهم:

"يا فضيلةَ المرشد، أنا أهون شأنًا من أن يكون نشيجي بكاءً من خشيةِ الله، ولكني أستعرضُ ذنوبي- إذا جنَّ الليل- فيخيل إليَّ من كثرتها أنَّ الله تعالى قد أخذ الجماعة كلها بأن يكون فيها مذنب مثلي"..! فيبارك المرشد هذا الشعورَ ويكرر التشديدَ على صاحبه أن يكبت أناته بحيث لا يسمعها إلا الله!.
  • رفض الإفراج قبل التحقق من بطلان الإتهامات:

﴿فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ (سورة يوسف: 50). اتسعت موجة النقمة على الحكم العسكري بعد اعتقال الإخوان في 13 يناير 1954م، ودب الشقاق إلى صفوف رجاله البارزين

حتى أضطروا إلى إتخاذ قرار بالإفراج عن الإخوان المعتقلين في حوالى 20 مارس 1952م، وخيل للقوم أنهم يستطيعون تقاضى الإخوان ثمنا جزلا عن هذا الإفراج، فأوفدوا إلينا إثنين من رجالهم يبشرانا بالإفراج، ويجسان النبض لمفاوضتنا على ما يمكن أن نقدمه لتأييد الثورة عندما تعود إلينا الحرية، والرجلان هما الأستاذ فؤاد جلال، والسيد محمد أحمد.

وبينما كانت بشائر الإفراج تسري مع موجة من السرورِ في أوساط عامة الإخوان، وكان مبعوثا السلطة يتوقعان لمفاوضاتهما أو لمساوماتهما باهر النجاح، سارع الأستاذ الهضيبي إلى إعلان أنه لن يقبل الإفراج- فضلاً عن أن يتعهد بأي شىء في مقابله إلا بعد أن تُمحَّص الاتهامات الخرافية، التي برر بها اعتقال الإخوان، أو بعد أن تعلن قيادة الثورة بطلان التهم والاعتذار عن الاعتقال! وهذا ما ذكَّرني بموقفٍ نبي الله يوسف عليه السلام حين رد البشير الحرية التي آثره بها الملك حتى تُستعلن للملأ براءته، ويفتضح كيد امرأة العزيز.

وثبت الإخوان على هذا الموقف الأشم- بعد أن انفضَّ أول اجتماعٍ على غيرِ اتفاقٍ- حتى عاد المبعوثان بعد يومين ليفتحا بابَ السجن ويعتذرا للمعتقلين، وتتبع ذلك زيارة قائد الثورة للمرشد في بيته، وزيارة وزير الإرشاد لكاتبِ هذه السطور في دارِه، في مسعى لإزالةِ ما علق بالنفوس من مظالمِ الاعتقال.

  • إيثار الكفاح على السلامةِ في أقسى أوقات المحنة:

شاءت الأقدار أن يكون الأستاذ الهضيبي في سوريا ولبنان في صيفِ عام 1954م بعد زيارة للمملكة العربية السعودية قام بها في أول ذلك الصيف إجابةً لدعوةٍ من الملكِ الأسبق سعود بن عبد العزيز رحمه الله.

وفيما كان الهضيبي موضع الحفاوة والتكريم من جميع الأوساط الدينية والاجتماعية والسياسية في البلدين الكريمين، متنقلاً بين المدن والقرى في أحفالٍ عامة، منسجمًا في بعض المصايفِ؛ حيث تتهيأ له ومضاتٌ من الفراغِ والراحة، إذا بحملةِ استفزازٍ مسعورة يُطلقها حاكم مصر يومذاك على الإخوان المسلمين في مصر في مدينةٍ من محافظةِ الشرقية

وإذا الأنباء تتواتر عن إتباع ذلك بموجةٍ اضطهادٍ عارمة تنصبُّ على الجماعة فتغلق مراكزها التي شارفت الألفين، وتعتقل قادتها، وتشرد الموظفين من أعضائها وتصادر أموالها، وتلفق جديدًا وقديمًا من الاتهامات لأهدافِ الجماعة ومناهجها!.

وكان العزاء الوحيد لأصدقاء الدعوة وأحرار المنصفين في السعودية وسوريا ولبنان، أن المرشد العام بمنجاةٍ من هذه المحنة، وأنه لا شك سيبقى خارج مصر إن لم يكن إيثارًا للسلامةِ- وهو إليها في حاجةٍ- فحرصًا على استنفارِ الرأي العام في دنيا العرب والإسلام، للإنكارِ على حكامِ مصر، وحشد كل طاقة من طاقات الخير لشد أزرِ المجاهدين داخل الأسوار.

غير أنَّ الهضيبي- إمام الجهاد والصدق والثبات والصبر- ما كاد يسمع أنباء النكثة الجديدة للسلطاتِ المصرية، وما أدَّت إليه من تسجيرِ المحنة والبطش بأهل الدعوةِ في أرضِ الكنانة، حتى أمر بالتجهز للعودةِ إلى مصر، وراح يُفند نصائح أحبابه والغيورين عليه وعلى دعوته وجماعته، بالبقاء خارج (القفص) خدمةً للدعوة، وتزويدًا لها بقيادةٍ حرَّة، تملك من العمل والإعلانِ وتعبئة الرأي العام ما لا سبيلَ إلى شيء منه في مصر، بحكمِ البطش العسكري والرقابة الصحفية.

ذلك بأن الهضيبي الذي كان- عليه رضوان الله- دائم القول بأنَّ الدعوة لله يتكفل بنصرها دون حاجةٍ إلى عبادِه، كان ينادي بأنه لا يحل لمؤمن بالدعوةِ أن يدخر عنها جهدًا يستطيعه، أو مثلاً صالحًا يستطيع ضربه، مع الاطمئنانِ بعد ذلك إلى أنَّ نصرَ الله آتٍ لا محالةَ، ولو كانت هذه الجهود لا تبلغ قوة ريشة تتحرش بها عاصفة.

وبهذا المنطق الصافي سارع بالرحلةِ إلى مصر إعذارًا إلى الله بضربِ المثل واستنفاد الطاقة، وصيانةً للدعوةِ من أن يُشاع أنَّ المرشد العام يهش لقيادتها في الرخاءِ ويترك جنودها دونه يصطلون بنارِها في المحنةِ والبأساء.

  • الإفراج الصحي عنه وإباء استمراره بعد الشفاء:

وفي عام 1957م على ما أذكر، قررت لجنة من خمسةِ أطباء مسيحيين- فيما بلغني- أن حالةَ الهضيبي تُنذر بالهلاك، وأنها لا تستطيع تحمل المسئوليةِ عن بقائه رهن الاعتقال، فصدر قرار بالإفراج الصحي عنه، نُقل على أثرِه إلى بيته؛ حيث توفَّرت له أسباب العلاج الذى أزاح الله به شبح الخطرِ عن حياةِ المرشد الصديق.

بيد أنَّ الهضيبي الذي يعي تبعاتِ القيادة تجاه الجنود، ما لبث أن أخذه الحنين إلى إخوانه وأبنائه المسجونين، ولم تطب نفسه بأن يكون في نظرِ الطغاة ذلك الواهن الضعيف الذي يتلقف مثل هذه الفرصة لينعم بحياةِ الدعة متميزًا على إخوةٍ له في الجهاد، هو أولاهم بأوفرِ حظٍّ في البلاء!.

لذلك ما كاد يتنسم أريج العافية حتى سارع بالكتابةِ إلى السلطاتِ يُبلغها أنه قد عُوفي بحمد الله من عارضِ المرض الذي أوجب الإفراج عنه، وأن باستطاعته العودة إلى السجن لقضاءِ باقي المدة المحكوم بها عليه!.أما والله لقد كان حسن الهضيبي- على تواضعه وفراره من الأضواء- بقية السلف وواحد الزمن، والشاهد الناطق بمعنى الحديث النبوي الشريف: "الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة

وفاته

وفي 14 شوال 1393ه- 11نوفمبر 1973 توفي الإمام المرشد حسن الهضيبي بعد حياة حافلة بالجهاد، ويذكر الأستاذ محمد الغزالي عن وصية الأستاذ الهضيبي "بأنه أوصى أن يدفن خفية لا إعلان ولا وموكب، ويوارى جثمانه في مقابر الصدقة". ما أعظمها من شخصية تربى على يديها الكثير، وأخرج في مدرسته كثيرًا من العظماء، كما تخرج من قبل في مدرسة الأستاذ البنا عظيمًا وسار على نهج قدوته ونبيه سيدنا محمد ، فرحمه الله رحمة واسعة.

وضعت يميني في يمينك مرشدي

على نصر هذا الدين دين محمد

عمر التلمساني

  • تزوج عمر التلمساني في سن مبكرة في سن الثامنة عشرة وهو لا يزال طالبًا في الثانوية العامة، ولم يتزوج عليها حتى توفاها الله في أغسطس عام 1979م ، بعد أن رزق منها بأربعة من الأولاد: عابد، وعبد الفتاح، وبنتين.
  • عندما حصل على شهادة ليسانس الحقوق، عمل بمهنة المحاماة وأفتتح مكتبًا في شبين القناطر ، وفي سنة 1933م التقى بالأستاذ "حسن البنا" في منزله، وكان يسكن في حارة عبد الله بك في شارع اليكنية في حي الخيامية، وبايعه، وأصبح من الإخوان المسلمين وكان أول محامٍ يعمل بتوكيل من الجماعة التي قبض عليهم للدفاع عنهم في المحاكم المصرية.
  • دخل السجن في عام 1948 ثم 1954م وأفرج عنه في آخر يونيو 1971م جاءه ضابط المعسكر وقال: لقد أفرج عنك، فاجمع حاجتك لتخرج، وكان الوقت بعد العشاء، فقال للضابط: ألا يمكن أن أبيت الليلة هنا، وأخرج صباحًا فإني قد نسيت طرقات القاهرة ، فقال له الضابط: هذه مسئولية لا أستطيع تحملها، تفضل اخرج من السجن ، ومن على بابه إلى أي وقت تشاء، فطلب "تاكسي" فأحضره، وعاد الأستاذ إلى منزله.
  • اختير مرشدًا للجماعة بعد وفاة المستشار الهضيبي ثم قبض عليه السادات مع المئات من مفكرين وأقباط وأساقفة وكتاب وغيرهم في عام 1981م ، وتوفي في يوم الأربعاء 13 من رمضان 1406هـ الموافق 22 مايو 1986 عن عُمْر يناهز 82 عامًا، ثم صُلِّي عليه بجامع "عمر مكرم" بالقاهرة ، وكان تشييعه في موكب مهيب شارك فيه أكثر من ربع مليون نسمة وقيل نصف مليون من جماهير الشعب المصري فضلاً عن الوفود التي قدمت من خارج مصر .
  • وكان الشباب دون العشرين، وفوق العشرين، الذين جاءوا من مدن مصر ، وقراها، يشاركون في الوداع، وهم يجرون حفاة الأقدام خلف السيارة التي تحمل الجثمان، ودموعهم تكسو وجوههم، يبكون فيه الداعية ، وقد شاركت الحكومة في عزاء الإخوان المسلمين ، وفي تشييع الجثمان، وحضر رئيس الوزراء، وشيخ الأزهر؛
  • وأعضاء مجمع البحوث الإسلامية ورئيس مجلس الشعب ، وبعض قيادات منظمة التحرير الفلسطينية، ومجموعة كبيرة من الشخصيات المصرية والإسلامية إلى جانب حشد كبير من السلك الدبلوماسي، العربي والإسلامي ، وشارك وفد من الكنيسة المصرية برئاسة الأنبا غريغوريوس في تشييع الجثمان.

المولد والنشأة

وقد ولد فضيلته في القاهرة بشارع حوش قدم بالغورية عام 1904م وكان جده ووالده كلاهما يعملان أول الأمر في تجارة الأقمشة والأحجار الكريمة، وتنشر تجارتهما هذه ما بين القاهرة وجدة وسنغافورة وسواكن والخرطوم، ثم صفيا عملهما ذاك ليتوجها إلى الزراعة حيث اشترينا مساحات واسعة من الأرضين في قرية نوى مركز شبين القناطر بمديرية القليوبية .. ومساحات أخرى في قرية المجازر مركز منيا القمح بمديرية الشرقية.

ويمتاز جده بالاتجاه السلفي في العقيدة، إذ كان على تعبير المترجم وهابي النزعة،وقد تولى طبع العديد من كتب الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب على نفقته .. وفي هذا الجو الرخي الحياة ، البعيد عن البدع ، نشأ الأستاذ محاطاً بالنعمة والروح الديني ، إذ كان كل من في ذلك البيت قائماً بحقوق الله صلاة وصياماً وحجاً ، سواء في ذلك الرجال والنساء ، والفتيان والفتيات ، وفي هذه البيئة

يقول الأستاذ:

طرق سمعه اسم ابن تيمية وابن قيم الجوزية ،أثناء المناقشات التي كانت تجري بين جده وزواره من أهل العلم.ويصف الأستاذ جده هذا بأنه ،إلى جانب ثقافته العلمية،يمتاز أيضاً بالدعابة اللطيفة ، ومن ذلك أنه يستقبل زائريه ومدعويه من هؤلاء مرحباً بقوله : (ما شاء الله .. وأتوني بأهلكم أجمعين .. أما فيكم من معتذر أو متخلف !!..) حتى إذا ظهر في الفناء ديك رومي صاح فيه: " انج بنفسك ولا تلق بيدك إلى التهلكة " .

وفي مدارس الجمعية الخيرية هناك تلقى الأستاذ دراسته الابتدائية . فلما توفي الجد انتقلت الأسرة إلى القاهرة ، فالتحق بالمرحلة الثانوية من الإلهامية في الحلمية . حيث حصل على شهادتها ، ومن ثم انتظم في كلية الحقوق ، وبعد التخرج فيها بدأ التمرن على المحاماة ، ثم اتخذ له مكتباً في بندر شبين القناطر ، حيث مارس عمله القانوني بتوفيق مرموق ..

ويبسط الكلام عن عمله هذا قائلاً:

لقد باشرت عملي في المحاماة على قواعد ديني جهد الإمكان ، فإذا جاءني ذو قضية مدنية درست مستنداتها ، فإذا رجح لدي جانب الكسب فيها قبلتها ، وإلا نصحت له بالصلح مع خصمه .. وطبيعي أنه يفعل ذلك مع مراعاة جانب الحق بالدرجة الأولى ، بحيث لا يقبل المرافعة في قضية تخالف قواعد الدين التي أخذ بها نفسه كما تقدم . ولم تشغله المحاماة عن تثقيف نفسه بالعلوم الإسلامية إذ كان نزاعاً إلى المطالعة في كتب الفقه والتفسير والحديث والسيرة النبوية ..
ومع وفرة قراءاته ومحفوظاته من القرآن الكريم والحديث الشريف، لا يزعم لنفسه العلم وليس هو في رأيه عن نفسه سوى قارئ نهم لكل ما يتعلق بدينه يريد أن يتعلم منه ما لا يعلم ، ولا يسمح لنفسه أن يفتي في شيء ، فإذا سئل في أمر ديني أجاب : أذكر أني قرأت في هذه المسألة كذا .. وليس لك أن تستند إلى إجابتي بل عليك مراجعة المتخصصين في هذا الباب ، ويؤكد لنا أنه لا يزال على شأنه حتى اليوم . وذلك لعمر الله هو الورع لأن أجرأ الناس على الفتيا أجرؤهم على النار ، وما أكثرهم في هذه الأيام!..
ويتصل بهذا الجانب من حياة فضيلته أنه مع حفظه الآلاف من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ،لا يلقي بالأثر الذي يستشهد به مرفوعاً إلى مقام النبوة إلاً مصحوباً بقوله " أو ما هذا معناه " لأنه لا يحفظ مع الحديث سنده، ويخشى أن تكون له رواية أخرى أصح لفظاً منه
فيعمد إلى ذلك الاستدراك لعلمه بأن أئمة الحديث يرون صحة روايته بمعناه ، ويتأيد ذلك لديه بالأثر النبوي القائل (نضر الله وجه امرئ سمع مقالتي فوعاها) حيث قيد سلامة الرواية المقبولة بالوعي ، والوعي أمر يختص بالمعنى دون حرفية اللفظ ، وقد أشرنا فيما تقدم إلى استظهاره كتاب الله ، وهو يقول أنه لا يزال يتعهده باستمرار خشية تفلته من الذاكرة .

وعلى سؤال عن آثاره المنشورة أو المعدة للنشر، أجاب:

أن ليس في آثاره القلمية ما يستحق إلحاقه بالمؤلفات ، وإنما هي خواطر جمعت في كتب،منها : (شهيد المحراب الفاروق)، (قال الناس ولم أقل في حكم عبد الناصر) ، ثم (بعض ما علمني الإخوان المسلمون) و (الملهم الموهوب حسن البنا)و (يا حكام المسلمين ألا تخافون الله؟؟) و (ذكريات لا مذكرات)، وأخيراً (ثلاثة وثلاثون يوماً من حكم السادات) هذا إلى جانب افتتاحياته لمجلة (الدعوة) وما يكتبه حول الشئون الإسلامية في المجلات والصحف السيارة ..

ويردف هذه العنوانات بقوله:

إن من أجل نعم الله عليه كونه لا يحمل حقداً ولا كراهية لإنسان أياً كان مذهبه ، بل من عادته أن يترك ما يصيبه لله يتولى الفصل فيه بحكمته وعدله .. وهي إشارة لطيفة وغير مباشرة إلى مضمون هذه الآثار من حيث كونها عرضاً موضوعياً لوقائع أو أفكار مبرأة من أهواء النفس ، فلا مكان فيها لكراهية أو ضغينة ، إنما هي تجلية لحقيقة ، أو بيان لرأي الجماعة التي يمثلها .
أو مجرد نصيحة يوجهها إلى حاكم رجاء أن ترده على جادة الحق ، على الطريقة التي أمر الله بها نبيه والمؤمنين معه في قوله الحكيم أدع إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن (سورة النحل 125). ويتحدث عن الأعمال التي تولاها وأثرها في نفسه فيقول:شاء الله أن أبدأ عملي في المحاماة كما أسلفت ، استبعاداً لنفسي عن حيز الوظيفة التي لا أحتمل قيودها من الضغط على حرية الرأي ، وتحديد موارد الرزق ، فآثرت الحرية في العمل بحيث لا يكون لأحد عليّ من سلطان إلا مراقبة الله .
وأنا أمرؤ طبعت على الحياء حتى لأتساهل في كثير من حقوقي ، إلا أن مما أحمد الله عليه ، ولا حصر لفضله ، منحه إياي نعمة التجرد من الخوف ، فما خفت أحداً في حياتي إلا الله ، ولم يمنعني شيء من الجهر بكلمة الحق التي أؤمن بها ، مهما ثقل وقعها على الآخرين ، ومهما لقيت في سبيلها من العنت ..
أقولها هادئة رصينة مهذبة لا تؤذي الأسماع ولا تخدش المشاعر، وأتجنب كل عبارة أحس أنها لا ترضي محدثي أو مجادلي ، فأجد من الراحة النفسية في هذا الأسلوب ما لا أجده في سواه ، ولئن لم يكسبني الكثير من الأصدقاء ، فإني قد وفيت به شر الكثير من الأعداء ، هذا إلا أن ما نالني ورميت به منذ انتسابي إلى جماعة الإخوان المسلمين ، قد أصبح لي درعاً واقياً من الغضب والكراهية ، تنهال عليه النصال فيكسر بعضها بعضاً ..

ويستأنف فضيلته:

على أن العبء الوحيد الذي يبهظني وأنوء بحمله هو مسئوليتي عن الإخوان ، لأن نظام الهيئة التأسيسية للجماعة يقضي بأن يتولى الأمر أكبر الأعضاء في مكتب الإرشاد سناً ، وشاء الله أن أكون الأكبر في هذه الظروف ، فكان الوفاء لبيعتي أن أحمل العبء ماضياً مستريحاً ، لا لأن في ذلك مخالفة للقانون الذي قضي بحل الإخوان؛
بل لأن الصلة الروحية بيني وبين الإخوان جعلتهم ينظرون إلي بهذه العين، وجعلتني أرتاح للنهوض بالواجب مهما واجهت من الصعاب والمشاق،وقد عاملني المسئولون في الدولة على أساس من هذا التصور..وهنا لا يفوتني الاعتراف بأن جانب الحرية الذي أتمتع به ، على ضآلته ، لا أعرف مثيلاً له في العالم الإسلامي ما بين إندونيسيا إلى أقصى المغرب ، ولا جرم أن لله حكمة في ذلك ...

وأنا أقول في ما أسلف فضيلته من حديث عن ملامحه النفسية:

لقد عرف جمهور الناس أسلوبه الحكيم من خلال حواره مع الرئيس أنور السادات ، يوم وجه هذا هجومه العنيف عليه وعلى الإخوان ، وساق إليهم أنواع التهم المفتراة ، وهو يظن أن خوف السلطة سيقطع لسانه عن الرد ، فإذا هو يخيب فأله ويلتف على مفترياته بالحجة الداحضة

حتى يختمها بقوله:

الشيء الطبيعي بإزاء أي ظلم يقع علي من أي جهة أن أشكو صاحبه إليك بصفتك المرجع الأعلى للشاكين بعد الله ، هأنذا أتلقى الظلم منك فلا أملك أن أشكوك إلا إلى الله .. وما كان أروعه رداً حطم سلاح الطغيان بأدب اللسان وقوة الإيمان، فإذا بالرئيس يلملم تهمه وينقلب مستعطفاً يسأل المظلوم إلغاء شكواه .. وكل ذلك على مرأى ومشهد من مئات الحاضرين لذلك الحفل ، وملايين المشاهدين عن طريق التلفاز .

حوار مع التلمساني

ولا أنسى كذلك ذلك الحياء الذي لمسته في أول لقاء أثناء زيارتي إياه مع بعض الأحبة في منزله أواخر المحرم 1404 هـ فقد دخل علينا مرحباً دون أن يوجه نظره إلى أحد ، وجعل يجيبني على بعض أسئلتي دون أن يرفع إليّ بصراً ، فلم يسؤني ذلك منه لما سبق أن عرفته عن طبيعته تلك .. وقد كان في بعض حوارنا ما يثير الأعصاب ولكن أناته الغالبة ألزمته الرقة التي ذكرها عن أسلوبه ، مما يشعر جليسه ومحاوره بأن الأحداث القاسية والطويلة التي عركته في ظلمات السجن قد صهرت نفسه ، حتى لم تدع فيها مكاناً لغير الحقيقة التي يؤمن بها ..

أما جانب الحرية التي يتمتع بها في مصر فهي واقع لمسناه أثناء تلك الأيام التي قضيناها هناك ، فالناس أحرار في تحركاتهم وتصرفاتهم مواطنين وزائرين ، ما داموا لا يتعرضون لتصرفات الحاكمين ، ولكن الويل لمن يحاول الخروج عن هذا الخط ، فإن هناك غياهب السجون ، وفيها كل ما لا يتصوره الخيال من ألوان الهوان ، الذي وكلت به مخلوقات من الكلاب وأشباه الكلاب ، دربت على تعذيب الناس وإذلالهم ، وبخاصة إذا كانوا من دعاة الإسلام وعلمائه ، مما يعتبر معه الموت من أحب أماني الإنسان ..

ومن هنا انتقنا على السؤال التالي :

من أكثر الرجال تأثيراً في حياتكم وأفكاركم ، وأهم الأحداث التي عاصرتموها .. بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأبرار كان أكثر الرجال تأثيراً في حياتي هو الإمام الشهيد حسن البنا رضوان الله عيه . فقد حباه الله بكل ما يقربه إلى قلوب المسلمين ، يبغضه إلى كل خصوم الدعوة الإسلامية ، لا أتحدث عن غزير علمه ، فرسائله حوت ، على إيجازها ، كل ما يحتاجه المسلم للتفاني في سبيل دينه ، وما يعوز الداعية من منهاج واضح بين موضوعاً ووسائل وأساليب؛
فكل واحدة من رسائله متن صالح لمجلدات ضخمة تفسيراً وتبصيراً،لقد أفاض الله عليه ذكاءً عجيباً حتى ليكاد يجيبك على ما تريد قبل أن تتوجه إليه بالسؤال،وكان من الثقة بحيث يظن كل أخ من ملايين الإخوان المسلمين أنه أقرب الناس إليه ، وأحبهم لديه ، بسيطاً غاية البساطة في مظهره ومعاملاته وأحاديثه ، حتى إذا علا المنبر أخذ بكل جوانب النفس ، فتظل معلقة بكلامه في وعي خيفة أن يفوتها حرف منه ، حتى إذا فرغ من حديثه استرد كل سامع قلبه وفكره إلا شخصاً واحداً بقي قلبه مع الإمام الشهيد في روحاته وغدواته .
ولا جرم أن هذا المستثنى الأخير هو صاحب هذا الوصف ، ولكن من الواصف !.. هو الأستاذ التلمساني نفسه ، مع أنه يختم هذه الأسطر بقوله : وهذا الكلام هو لفضيلة الإمام المرشد الثاني أستاذنا حسن إسماعيل الهضيبي رحمه الله وحشره مع الصالحين الأبرار.. وسواء كان ذلك من كلام التلمساني أو المغفور له الهضيبي ، فهو يصور رأيهما في إمامهما الأول الشهيد البنا دون ريب .

ويستأنف الأستاذ التلمساني في وصف شخصية الإمام الشهيد قائلاً:

إذا كان في رحلة من رحلاته التي لا تعد ولا تحصى ، في الداخل والخارج ، فلا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يستريح إلا بعد أن يطمئن على كل من في رفقته . كان جم التواضع ، نظيف العبارة حتى مع مهاجميه وخصومه ، لم يسئ إلى أحد منهم قولاً ولا عملاً ..
يربي أعوانه تربية عملية ، فيكل إليهم القيام بالأمور الهامة مثنياً عليهم ، مصححاً لأخطائهم ، محتملاً لكل تجاوزاتهم .. ولا أنسى يوم أن حصل خلاف بين الإخوان والوفديين في بور سعيد،فاستدعاني وكلفني الذهاب إلى هناك قائلاً لي : تصرف كما يوحي إليك الموقف دون الرجوع إليّ في شيء ، فكانت هذه اللفتة التربوية معواناً لي في استفراغ الوسع ، حتى انتهى الأمر إلى خير ما يمكن أن يصير إليه ذلك الموقف الشائك المعقد ..
كل ذلك وما أشبهه ربط قلوبنا جميعاً بإمامنا الشهيد بأوثق عرى المحبة و الوفاء والإخلاص .. ولهذا عشقت الدعوة والداعية،ووقفت عليها حياتي إلى اليوم .

ويستأنف الأستاذ :

عاصرت الوفد وقيامه،وثورة 1919،وكانت بحق نابعة من مشاعر الشعب كله ، وكان المنتظر أن تأتي بأبرك الثمرات لمصر بخاصة وللأمة الإسلامية بعامة ، لولا المؤامرات الشخصية ، والانفعالات الزعامية ، والألاعيب السياسية ، التي مزقت الشعب المصري فرقاً وأحزاباً وشيعاً واتجاهات ، وأطاحت بكل ما أمله المصريون .
ولقد نابني من ذلك بعض الرشاش خلال تعصبي الوفدي وأنا في مطالع الشباب ، كذلك كان لانقلاب يونيو 1952 أثره الكبير ، إذ أيقظ المشاعر وحرك الرغبة في رؤية شرع الله مطبقاً في هذا البلد المسلم ، ومن أجل ذلك كان للإخوان المسلمين أكبر الأثر في نجاحه .. إذ كانوا يجوبون القطر كله في بث الدعوة الإسلامية ، وربط القلوب بعقيدتهم ، ونقد المفاسد والمظالم التي كانت تسود البلاد من قبل الاستعمار ، وطغيان الملكية وتهافت الأحزاب .
أما هيئة الضباط الأحرار فكانت تعمل في الخفاء ، ولم يكن يشعر بها أحد ، فلما أسفرت وجدت الطريق ممهداً والجو صالحاً ، والشعب على استعداد لتقبل الانقلاب ، ولكن لحكمة لا يعلمها إلا الله تغلب حب الزعامة والظهور ، فكان ما كان من انقلاب الضباط الأحرار على الإخوان المسلمين ، الذين أخلصوا لهم العون ، ومهدوا لهم السبيل ، ولا غرابة في ذلك ، فالسلطان ، كما يقال، عقيم لا يتورع أصحابه أن يتجاوزا من أجله كل شيء حتى أبسط مبادئ الأخلاق ..
وفتك عبد الناصر بـ الإخوان المسلمين استناداً إلى قوة الجيش والشرطة ، والقوى التي كانت تكيد للجماعة ، وبخاصة الصليبية والصهيونية والملاحدة .. ولو أن ما أنزله عبد الناصر كان في غير الإخوان المسلمين لكانوا اليوم واحداً من أخبار التاريخ ترويه الأجيال للعظة والاعتبار ، أما الإخوان فقد زادتهم المحن إيماناً ، ومكنت لحب الله ودعوته في قلوبهم ، وقد ذهب الظالمون وأعوانهم وبقيت دعوة الله على الرغم من محاولات القوى المحاربة للإسلام ، لأن كلمة الله ثابتة لا يعتريها زوال ..
وما من شك أن مواقف الإخوان المسلمين ودماءهم الطاهرة التي روت شجرة الإيمان على ثرى فلسطين وعلى ضفاف القناة،قد هزت المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها .. وهكذا أثبتت دعوة الإخوان للعالم بأسره أنها قوة ولاء عملي،رسخ الإسلام في صدرها ، وصدق العمل في حركاتها وتصرفاتها وتضحيتها وصبرها ومرابطتها،الأمر الذي ألهب نيران الكراهية في صدور أعداء الإسلام ، فهي تتكشف يوماً بعد يوم على كل بقعة من ربوع المسلمين ، وما الكيان الصهيوني إلا صورة بارزة لهذه الكراهية ، التي توهمهم أن القضاء على الإسلام والمسلمين أصبح وشيكاً ..
وخاب فألهم ، فلئن استطاع هؤلاء الأعداء أن يقضوا على بعض المسلمين فهم أعجز من أن ينالوا من الإسلام ، لأنه رسالة الله الخاتمة إلى الأرض ، فلو لم يبق على البسيطة سوى مؤمن واحد يحمل راية " لا إله إلا الله محمد رسول الله " وكانت السموات والأرض رتقاً عليه لفتقها الله له قوة وعزة ونصراً .. وكل شيء عنده بمقدار .. كان سجنكم طويلاً شهدتم أثناءه الكثير من الوقائع المؤثرة ، فما الحصيلة التي خرجتم بها من تلك الرحلة الشاقة ؟
خرجت من السجن وقد ازددت يقيناً بالحكمة القائلة (لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع) فالسجين قد استقر عند خاتمة المطاف ، فليس لدى ظالمه إلا سجنه أو قتله ، والسجين المستمسك بعقيدته تسليماً لأمر الله أشد إيلاماً لنفس الظالم من غيره ، لأن غيره يبيت ويصحو متوقعاً المجهول من البلاء ، وهذا التوقع قد يحول بينه وبين الكثير من العمل لدعوته وفي ذلك راحة لخواطر الظالمين .
وإذن ففي ثبات السجين على دعوته انتصار للحق على الباطل ، وهزيمة للباغي في عجزه عن تحقيق بغيته ، فالباغي مهزوم مهزوم وصاحب العقيدة منصور منصور.. وهنا أسجل أن انتصار الدعاة لم يكن قط وليد شجاعتهم أو تحديهم أو صبرهم ، وإنما هو فضل الله في تثبيتهم (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليل) (سورة الإسراء 74). أجل إن الله هو صاحب الفضل الأول في النعمة إذا اقترنت بالشكر، وهو صاحب الفضل الأول في المحنة إذا لازمها الصبر، وفي كل خير، وليس ذلك لغير المؤمن .
المسلمون ما كانت لتحز في نفوسهم كثيراً ، ولكن الموجع ما كنا نسمعه ونحن في ظلمات الزنازين من تأوهات المعذبين وأصوات العصي والسياط التي كانت تنهال متلاحقة عليهم .. وكم من أخ أدخل على إخوانه في المطبق وقد سال دمه وتمزق لحمه وبرزت عظامه ، وهو يبتسم ، وهم من حوله محزونون مغمومون لما أصابه ، لا لما سيلحق بهم بعد قليل .. لقد كانت العواطف الإسلامية دفاقة بالإيثار والتضحية والحب ، وكانت حياتهم في غمرة المحنة فداءً وصبراً وحمداً وشكراً وصلاةً وصياماً وذكراً.
فما أروع ما حصلناه في تلك السجون من نعم الله في الناحية الإيمانية ، فما استأثر واحد منا براحة دون أخيه ، وما اختص نفسه بمطعوم تسلل إليه .. لقد كان بعض القائمين علينا في السجون يبدي الكثير من الأسى على ما نحن فيه ولكنهم لا يملكون أن يقدموا غير هذا ، فسيوفهم علينا وقلوبهم معنا ، ولكنه خير كان ينفح ببعض الراحة على أي حال . حقاً إن السجون مدرسة للتطهر والصفاء وترسيخ اليقين .
معلوم أن الدعوة التي تمثلونها متميزة بخطها المتفرد عن سائر الحركات المحلية العالمية .. وقد نشرت بعض الصحف خارج مصر ما يوحي بأن ثمة تقارباً بينكم وبين ممثلي هذه الحركات في مصر ، وبخاصة الماركسيين .. فما حقيقة ذلك ..؟ وكان لسؤالنا هذا وقع لم يستطع الأستاذ إخفاءه .. ولا بد أنه قد سمع مثله من غيرنا ، فجاء وكأنه نكأة لجرح لم يستوف برأه بعد .

يقول فضيلته:

مما يصاب به بعض الناس أن يحكموا قبل أن يتبينوا،وهذا منهي عنه شرعاً ، فيجرون وراء أوهام تطوف بخواطرهم سواء استقام طريقهم أو اعوج ، فإذا قرأوا لأحد الإخوة مقالاً مثلاً رأيتهم يجتزئون بعض فقراته ليحكموا على المقال كله من خلالها ، مع أن العدالة تقتضي تقويمه كاملاً ، فإذا رجح سداده كان خيراً مشكوراً ، وإن غلب سيئه كان محل المؤاخذة .. وذلك هو المعيار الذي يحاسبنا به الله يوم القيامة ، حيث توزن الأعمال بقسطاس الحق ، فإذا رجحت الحسنات أدخل المسلم الجنة بفضل الله على ما في صحائفه من السيئات ، أما إذا غلبت السيئات فإلى النار حتى تطهره عدالة الله .
وما أكثر ما يغفل البعض هذا العدل الرباني ، فيقصدون إلى التماس الخطأ في أعمال إخوانهم، فإذا ما عثروا على ذرة من ذلك طاروا بها فرحاً ، ثم راحوا يشهرون بها نقداً وتجريحاً .. كل ذلك وهم بعيدون عن ميدان المعركة ، لا يدري أحدهم ظروفها ولا ملابساتها ، ولا يقدر مسئولية القائد إن تقدم أو تأخر أو داور .. وما احسب مثل هذا الإنسان سليم الطوية أو سوي التفكير، وليس معنى ذلك ادعاء العصمة ، وهي لا تكون إلا للأنبياء ، والكمال لله وحده .
إن كتاب المسلمين يزنون كلماتهم وهم يخطونها ويقومون عباراتهم وهم يقدمونها ، لأنهم يعلمون بيقين أنهم ليسوا مسئولين عن أنفسهم فحسب . فرب كلمة تساق دون وعي ولا تقدير تلحق الضرر بالآلاف من حملة الدعوة ، وهي مسئولية ضخمة ثقيلة ما أظنها تخفى على أريب ، غير أن البعض يحب أن يتظاهر بالعلم والشجاعة والغيرة على الدعوة ما دام آمناً مطمئناً

جرياً على طريقة القائل:

وفي الهيجاء ما جربت نفسي

ولكن في الهزيمة كالغزال

ولعل أعلى الناس صوتاً بالشجاعة والإقدام أسرعهم إلى الفرار يوم الزحام .. على أن هناك فريقاً من حسني النية يحرصون على ألا يسقط أخ لهم في محذور أو محظور، فهؤلاء تشفع لهم نواياهم ، وإن كنا ننصح لهم بالتأني والتروي قبل إصدار الحكم ، خشية المسألة أمام الله ، مع العلم بأن خلوص النية غير كاف حتى يصحبه سداد القول والفعل في الحياة الدنيا على الأقل .
ولا ننسى أن المسلمين مطالبون بالستر على بعضهم ، فلا يسيرون بالسيئة بين الناس معالنين ، حتى إذا ما عاتبهم أحد تذرعوا بحجة الخوف على أخيهم ، وحرصهم على أن يكون فوق الشبهات وهي حجة لو عرضوها على معيار الإسلام لوجدوها عليهم لا لهم ، ولأمسكوا أن يكونوا من الذين قال الله فيهم (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به) (سورة النساء 83) لئلا يأخذوا البريء بجريرة المذنب ، فكم ظاهر في صورة الخطأ ينكشف عن محض الصواب حين تدقق الوقائع .. فليرحم هؤلاء أنفسهم ، وليشفقوا على المحاطين بالأخطار، فيعينوهم أو يدعوهم ، بدلاً من أن يلاحقوهم بإشاعاتهم وأذاهم !..
إن الثقة أحد عناصر الأخوة في الله ، فإذا توافرت سترت العيب وعالجته في مودة ، وإذا فقدت كان الغرض هو تضخيم الخطأ إذا وجد ، واختلاقه إن لم يوجد .. ولا شأن لنا مع هؤلاء المبتغين للبرآء العيب ، وإنما نخاطب إخوتنا في الله فنذكرهم بما قد يغفلون عنه من مشتبهات الأمور. ليكونوا لنا معينين لا معوقين .. ويلاحظ القارئ من خلال هذه المقدمة مدى تأثر الأستاذ من تلك الإشاعات التي أطلقها بعض الصحفيين لخطأ أو غرض ، فالتقطتها بعض الألسن تلوكها من غير وعي ، وإنه لعرض جدير بأن ينقل ويقرأ لما فيه من التوجيه الحكيم ..
ونتابع الآن مع الأستاذ بقية جوابه حول الموضوع لنستمع منه إلى هذا التفصيل الدقيق:
يقول فضيلته:
إن دعوة الإخوان قامت على الإيمان العميق . واليقين الخالص . في حين قامت الماركسية اللينينية على إنكار الرسالات بكل حقائقها ، ووصفت كل ذلك بكونه مخدرات للشعوب .. ففي عقل أي أبله أو معتوه يتصور أن هناك تقارباً بين الفريقين !.
وما نوع هذا التقارب .. وما وجهته !.. لقد علم الخاص والعام أن الإخوان يرفضون الدخول في جبهات ، لأن الجبهة الوحيدة لهم هي عقيدتهم الإسلامية ، فكيف يمكن أن يجتمع الإلحاد والإيمان في إهاب رجل واحد !.. وإذا فرضنا أن ائتلفنا مع غيرنا لإزالة حكم ما ، ثم وصلنا إلى ما نريده ، فأي منهم هو الذي سيحكم أو يسود !..
ألا نكون بذلك قد خرجنا من ائتلاف مع جهة واحدة إلى صراع مع عدة اتجاهات !.. ما لكم كيف تحكمون !.. ثم ما مضمون هذا التقارب ؟.. أيتنازل الإخوان عن شيء من معتقدهم،والأخرون عن شيء ليكونوا منهاجاً أسود، أبيض، أحمر، أخضر، أزرق، أصفر في وقت واحد ؟!..

أما القصة التي حيكت حولها كل هذه الأقاويل فإليكها :

كنت في معتقل القصر العيني ، وكان هناك بعض المعتقلين من مختلف الهيئات والاتجاهات ، فلم أجد إلا أدباً وحسن معاملة وتبادل احترام .. وقد كان بعض المعتقلين من الشيوعيين يؤدون معنا صلاة الجماعة ، بل لقد قمت ذات ليلة للتجهد فرأيت أحدهم يتوضأ ليتهجد أيضاً ، فهل من حقي شرعاً إذا سئلت عنه أن أنكر رؤيتي لصلاته !.
ألا يعلم المعترضون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعي للصلاة على ميت سأل : هل رأوه يصلي ؟..فإذا جاء الجواب بالإيجاب صلى عليه ، وإلا فلا .. هل يريد المنتقدون أن أدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اتقاء انتقادهم أو اعتراضهم !..ألا فمهلاً .. بعض هذا التدلل .
لقد أمرنا ديننا أن نحسن معاملة الناس أياً كان دينهم ، وكان يزور جاره اليهودي إذا مرض ، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي .. أليس هذا هو أدب النبوة !.. أم يريدون أن نخاشن الناس ونجافيهم .. وإذا دعتني لجنة الحريات في نقابة المحامين للكلام في الموضوع .. أأرفض أم أذهب لأقول كلمة الحق والدين !.. ففيم الاعتراض ، وعلام الانتقاد ؟!..
وابن عباس رضي الله عنه كان يسلم في طريقه على المسلم وغير المسلم ، فلما قيل له في ذلك أجاب:حتى يعرفوا أننا مسلمون .. وماذا يقول هؤلاء الغاضبون في قول الله تبارك وتعالى:(وقولوا للناس حسناً) فقد عمم فذكر الناس ولم يخص المسلمين وحدهم !..
وكان بين أمراء المسلمين من الأمويين والعباسيين محالفات مع غير المسلمين ، فلم يعترض واحد من فقهاء تلك الأعصر ، وبينهم الشافعي وابن حنبل ثم ابن تيمية ، وغيرهم أأنتم أشد حرصاً على الدين من أولئكم !.. وقبل ذلك عقد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وآله محالفة مع يهود المدينة ، وقال عن حلف الفضول الذي حضره في الجاهلية:لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت .
ألا بربكم دعونا من شكلياتكم التي تصور الإسلام على غير حقيقته وأربعوا على أنفسكم ، فإننا نتصرف بفهم صحيح من ديننا ، ولسنا بالمترخصين في شيء يمس عقيدتنا الطاهرة من قريب أو بعيد . ولقد علمتم أن حضور الإخوان اجتماع الهيئات الناظرة في مستقبل الديمقراطية بمصر أدى إلى صدور بيان المجتمعين متوجاً بطلب التطبيق لشريعة الله ، وعودة الأئمة المبعدين إلى مساجدهم ، أفليس في ذلك ربح للدعوة وتأييد لمبادئ الإخوان المسلمين !.. فماذا تريدون بعد هذا.
لقد اتهمنا السادات بأننا المسئولون عما سمعناه بالفتنة الطائفية،فكان تعاملنا مع أقباط مصر ، وموقفهم منا أثناء مرض بعضنا ، أبلغ رد على تلك المفتريات .ولسنا نمن بعمل ولكننا نشهد الله أن المسلمين أبعد الناس عن التعصب ، وأن محمداً صلوات الله وسلامه عليه ما أرسل إلا رحمة للعالمين .
إن دعاة الإسلام في أمس الحاجة لإثبات هذه الحقيقة للناس جميعاً حتى يعلموا بيقين أن سماحة الإسلام وجماله وجلاله فوق كل الشبهات ، وقد رأينا ربنا تبارك اسمه حين يصف اليهود بأنهم أشد الناس عداوة للمؤمنين لم يجعل هذه العداوة متبادلة ، بل جعلها من ناحيتهم وحدهم ، لأن المسلمين مكلفون دعوة الناس إلى ما يسعدهم ويحييهم في الدنيا والآخرة ، ولن يكون ذلك بمعاداة الناس والتجهم لهم ، ولكن بالتودد إليهم ترغيباً وتحبيباً بدعوة الله .. هذه طريقتنا ولن يثنينا عنها مخالف أو معترض، والله نسأل الهداية والمغفرة للجميع ..
وبعد فهذه خلاصة مكثفة لما كتبه فضيلة الأستاذ التلمساني من جواب على استيضاحنا تلك الإشاعة غير المحققة بشأن موقف الإخوان المصريين من الشيوعيين ، والتي حاول بعضهم استغلالها ، وأساء البعض الآخر فهمها ، فكان في هذا العرض الوافي ما يكفي ويشفي .. وقد التزمنا بنقل هذا التفصيل من كلمات الأستاذ ، وعباراته ذات الطابع الخطابي ، الذي يميز أساليب الدعاة في ندوات الجماعة ..
بقي أن نتذكر أن صلاة يقوم بها شيوعي ذات يوم أو أيام لا تزيد على صلاة أولئك الذين كانوا يؤدونها وراء رسول الله من عصائب ابن أبي بن سلول (الأب) الذين يصور القرآن العظيم حقيقتهم بمثل قوله:(وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون) (سورة البقرة 14)
وأي صلاة هذه التي يتظاهرون بها وقد كفروا بأصل العقيدة حين رضوا لأنفسهم ولأمتهم نظاماً للحكم غير الذي أنزله الله .. وحسبنا في أمثالهم قول ربنا القاطع المانع (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) (سورة النساء 65).
كنت أحد الجهات المدعوة للشهادة في قضية الجهاد بيد أن الظروف حالت دون حضوركم يومئذ ولو قدر لكم الحضور ، فما الفكرة التي كنتم ستدلون بها إلى المحكمة في هذه القضية !.. ما كنت بزائد على ما قاله فضيلة الشيخ الجليل صلاح أبو إسماعيل عضو مجلس الشعب إلا أني أضيف إلى ذلك إقراري بأن الشباب أخطأ ، وأن الحكومة أخطأت كذلك . أخطأ الشباب في اتجاهه وأخطأت الحكومة في تصرفاتها معهم . إنه شباب مسلم حقاً ، ولكنه أخطأ الطريق في إقامة ما رآه من اعوجاج .
لقد فسحت الحكومة المجال لشرح وجهة نظرها،وحرمت الشباب حقه في عرض مفهوماته،وليس هذا بالمنهج المنشود في الإصلاح،فالحجة بالحجة والدليل بالدليل،وليس سوى هذا للإصلاح والتصحيح من سبيل،إلا أني أصبحت مرتاحاً لما يعرضه علينا التلفاز من الحوار الذي يقوم به أفاضل العلماء وهذا الشباب ... والله هو المسئول أن يأخذ بيد الجميع إلى خير الإسلام والمسلمين .
وما مطالعاتكم في شأن الحوار القائم بين لجنة بالأزهر وفضيلة الشيخ صلاح أبو إسماعيل حول شهادته في هذه القضية ... إنني أميل إلى الأخذ برأي فضيلة الشيخ صلاح ، لأن ما فصله في شهادته عن أوجه الإنحراف الاجتماعي والفردي والحكومي هو من الواقع الذي لا مندوحة من أن يؤخذ فيه بالرأي الحاسم ، والإجراء الفاصل ، لكي توضع الأمور في نصابها .. وإني لمع القائلين بعدم إسكات المتألم الباكي قبل أن أطلب من المتسبب في هذه الآلام أن يقلع عن كل ما دعا إلى التألم والشكوى .
وقد اعتبر عمر بن الخطاب نفسه مسئولاً عن ضرر العاثر إذا لم يكن قد سوى له الطريق ، فما بالنا ونحن نرى الصراصير والنمال تتهاوى على مقدسات العقيدة والأخلاق !!. إنني بطبيعتي لا أقر العنف أياً كانت صوره ، ولكني أصرح في الوقت نفسه بوجوب إزالة كل المسببات لطلقات المدافع والرصاص .
إن قضية الجهاد بين يدي قضاء عادل أثبت نزاهته ومراقبته لله الذي يحول بين المرء وقلبه ، وهو المسئول أن يلهمه الصواب ، وأن يجري الحق على لسانه أياً كان الحكم الذي سيصدره .. بل إني لأذهب إلى أبعد من ذلك فأطالب بالتقويم وسيادة الألفة والتعاون والتوادّ بين الجميع ولو افترضنا أن هناك إدانة فإن تصحيح المسيرة لا يزال في يد السيد رئيس الجمهورية ، لأن الدستور يمنحه العفو الشامل ، إذا ما قدر أن ذلك في مصلحة الوطن . إن لمثل هذه الخطوة فاعلية رائعة في نفوس الشباب ، إذ يؤمنون حينذاك أن أزمة البلاد في يد أمينة حانية ، ولا مرد لما حدث ، أما الإبقاء على الأحياء بالعفو والصفح فقد يكون من ورائه خير كثير ..
وجزى الله الأستاذ التلمساني كل خير على نصيحته الحكيمة هذه ، وكم نود لو أبلغها إلى رئيس الجمهورية قبل فوات الأوان ، فقد يتأخر ظهور هذا الكتاب إلى ما بعد صدور حكم القضاء في مئات من صفوة شباب مصر ، وقد يتم تصديق الرئيس عليه فيصير بهم أو بأكثرهم إلى لقاء الله ، ولو وصله مثل هذا التذكير الحكيم قبل ذلك لكان حرياً بأن يترك أثره في قلبه ..
وليس هذا بغريب في تاريخ ذوي السلطان ، فرب كلمة من عقل حكيم ، أو نفثة من قلب شاعر، قد هزت أريحية جبار فاستبدل بالعقوبة العفو ، وبالقسوة الرحمة ، ولم تزل قلوب العباد بين أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ، ولا يزال في أهل الإسلام خير بفضل الله ، وسننقل هذا الرأي إلى فضيلة الأستاذ التلمساني عسى أن يلهمه الله العمل به ، والله الموفق والمستعان .
على الرغم من كل المعوقات التي تواجه مسيرة الدعوة في معظم الديار الإسلامية يلاحظ أن ثمة نهضة إسلامية تتنامى بقوة وعمق ، ولا سيما في الأوساط الجامعية العلمية وبخاصة في مصر .. فما تفسير ذلك ، وما توقعاتكم بشأنه ، وما السبيل إلى ضبط هذه النهضة في طريق الإسلام الصحيح!..
لقد بلغ الفساد بالمجتمعات الإسلامية حداً لا يمكن تجاهله ، وآمن الجيل الحاضر والغابر ألا ملجأ ولا منجاة من ذلك التدهور إلا بدين الله ، فانبرى لحمله صادقاً مخلصاً ، وأخذ المد الإسلامي يرقى ويتسع ، فأنزل به أعداء الإسلام ضربات قاسمات حسبوا معها أنهم بذلك يقضون على الدعوة والدعاة ، وغالوا في تخبطهم فسلكوا إلى أغراضهم كل سبيل شيطاني ، وكل وسيلة جهنمية ، فاستباحوا الأعراض ، وانتهكوا الحرمات ، وتنكروا لكل معنى إنساني ..
وما كان أشد غيظهم عندما رأوا أن كل منة ينزلونها بأهل الحق تزيد من تصميمهم فيزدادون عدداً وإقبالاً على الله ، وكأنما كل تلك المحن مغريات بالمضي في سبيل الله . ومن هنا شرعوا في تعديل طرائقهم فجربوا وسائل الإغراء من المال والمباهج والمراكز ، وإذا بالنتائج عكس ما يتوقعون ، فلا الإغراء بمجد ، ولا الإرهاب بناجع ،فعادوا إلى الإجرام مرة أخرى ، ولن يفلحوا إذا أبداً ..
والسر في ذلك غاية في البداهة ، ذلك أن الإيمان إذا خالطت حلاوته القلوب ، وتمشى برده في الصدور ، هان على أهله كل ما يبتلون به .. وقد اقتدى شبابنا الطاهر بسلفه الصالح ، وراجع مواقفه الإيمانية ، فإذا هو مصمم على احتمال أمثالها في سبيل الله ، لم يزده البلاء إلا إصراراً وتسليماً ، فإذا ما اكتوى جسده الناحل بلذعات السياط ، انطلق لسانه بكلمة التوحيد ..ذلك هو الطريق الوحيد لترسيخ العقيدة ونشرها وإنمائها وامتدادها إيمان بالله . وحب له يفوق حب المال والأهل والولد والجسد ، واحتساب لا شكوى معه ، ويقين راسخ بموعود الله (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين).
أجل .. إن الوعي الإسلامي قد استيقظ في قلوب المسلمين وهيهات أن يناموا ، وقد لفتت هذه اليقظة أنظار الشباب إلى ما عليه أمتهم من ضعف وهوان ، فعز عليه أن يرى خير أمة أخرجت للناس في هذا الدرك المشين ، فعاهد ربه على العمل لعودة العزة السليبة أو الموت الكريم في طاعته .. وهكذا استهانوا بقوة الأعداء اعتزازاً بقوة الله ، فهم منتشرون في أرجاء الأرض داعين إلى الله على بصيرة ، مصممين على استرداد القياد الذي سلبتهم إياه القوى الباغية ، لتعود القافلة التائهة إلى المحجة الهادية ،فتقدم للبشرية الضائعة أكرم رسالة وأقوم منهاج يخرجها من الظلمات إلى النور ..
ذلك هو واقع الجيل الذي يمثل هذه النهضة في مصر بخاصة وفي العالم الإسلامي كله بعامة ، وما دام المنطلق صحيحاً سليماً فالعاقبة من النوع نفسه ، إن شاء الله (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) (سورة النحل 128).

وعن ظاهرة الانحراف في مسيرة بعض الشباب والسبيل إلى ضبطها في طريق الإسلام الصحيح يقول فضيلة الأستاذ التلمساني :

إني لعلى يقين بأن الشباب المسلم سيركن في نهاية المطاف إلى الأخذ بالأساليب الإسلامية، إذ ما نشط الأزهر والدعاة والمسئولون في سبيل التوضيح والشرح والتبيين . إن أولئك الذين يرمونهم بالانحراف والتطرف قد عوملوا بقسوة لا مسوغ لها،وهذا دون ريب قد ترك في نفوسهم الكثير من المرارة والحفيظة. والمسئولون هم المكلفون بالعمل الدائب على إزالة هذه الندوب ليأخذ كل شيء خطه المستقيم . وإني لواثق كل الثقة بأن معاملة الشباب على هذا المنهج النبوي الراشد الرحيم ستأخذ بيده إلى الجادة التي لا ضلال فيها لسالك .
إن الحاكم هو الطرف الأقوى ، وعبء إصلاح العوج واقع على كاهله،وعليه هو أن يبدأ حتى يحس الشباب أنه يتعامل مع عاطفين عليه محبين له ، لا مع كارهين له ناقمين منه .. إننا نطالب الشباب بالعدول عن العنف ، وفي الوقت نفسه نطالب المسئولين بأن يبينوا صلتهم بالشباب على هذا الأساس الصالح ، وحبذا لو فسحوا المجال أمام الدعاة الذين طال تمرسهم بمعالجة النفوس ، إذن لرجونا أن تؤتي جهودهم الثمرات الطيبة والمرجوة .
ذات يوم بعد أحداث العام 1981 طلبت مني وزارة الداخلية أن أذهب إلى سجن طرة للتحدث مع المعتقلين ، وفعلت والتقيت بالكثيرين منهم هناك ، وكانوا من مختلف الاتجاهات والأفكار، ودخلت معهم في حوار متفاوت الحرارة ، ساخن مرة وهادئ أخرى ، ولكن ما إن انتهى الحوار بعد ساعة ونصف حتى اندفع الشباب كلهم إلى احتضاني وتقبيل رأسي ويدي ، إعراباً منهم عن الإقتناع بما سمعوا ووعوا .
وهنا ، وقبل الانتقال إلى متابعة الحوار، يحسن بي أن أقف قليلاً لأعرب عن عميق إعجابي بهذا المنهج الذي يميز أفكار الأستاذ التلمساني في معالجة أدق الأمور وأشدها حساسة ، حيث يعطي كلاً من الشباب والحاكم حقه من التذكير والنصيحة ، فإذا كان من واجب الشباب الالتزام بأدب الإسلام في أسلوب العمل وفق التوجيه النبوي في قوله ، صلوات الله وسلامه عليه: "إن الله رفيق يحب الرفق" (1) فمن واجب الحاكم أيضاً أن يلتزم بمنهج الإسلام في علاقته بذلك الشباب المتطلع إلى الأفضل وفق متطلبات دينه

فيعمل بقانون الفاروق رضي الله عنه يوم أن خطب في جموع الحجيج قائلاً: "

(ألا وإني إنما أبعث إليكم عمالي ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم ، ولا أبعثهم ليضربوا ظهوركم ويأخذوا أموالكم ..) (2) ويلتفت إلى عماله محذراً وتوعداً : (لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ..) (3) وهي هي الخطة التي تعلمها الفاروق من أستاذه الأعظم رسول الهدى والرحمة القائل : " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم (4) ويوم يعود الحكم إلى منطق الإسلام هذا لن يكون ثمة ظالم ومظلوم ، بل أسرة متضامنة متعاونة على تحقيق المنهج الذي يحبه الله "..
وأخيراً . إن في حياتكم المباركة خبرات تستحق التسجيل لينتفع بها المسلم في كل مكان .. فهل لكم بكلمة توجهونها إلى الدعاة والشباب في ختام هذا الحوار المفيد إن شاء الله ؟..الصعاب التي تعترض الدعاة في هذا العصر عاتية غاشمة . القوة المادية في يد أعداء الإسلام ، وقد اتحدوا مع اختلافهم على أهله ، وأكبر تركيزهم على الإخوان المسلمين . وعلى أساس الموازين البشرية لم يكن لجنود طالوت المؤمنين طاقة بجالوت وجنوده ، ولكن لما أيقنت عصبة الإيمان أن النصر من عند الله وليس مرهوناً بالعدد والعدة هزموا كتائب جالوت بإذن الله .
إنني لا أستهين بقوة العدد ، ولا أطلب من الدعاة أن يخلدوا إلى التواكل ومصمصة الشفاه ، وتحريك الأعناق يمنة ويسرة ، وضرب الأكف بعضها ببعض .. إنها نكبة النكبات القاضية الماحقة الساحقة ، ولكن التمسك بالوحي المنزل من عند الله ، والجهر بكلمة الحق في إصرار واستمرار، والاستهانة بكل صنوف الإيذاء ، وضرب المثل العالية من أنفسهم في الرجولة والبطولة والثبات ، ويقينهم بأن الله مبتليهم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ، ليعلم الصادقين من المزيفين .. هذا كله من أسباب النصر في سنن الله ، وقصص القرآن خير شاهد على ذلك .
أما الشباب فإن العزيمة التي تواكب وعيه العميق في غير حاجة إلى الكثير من التجارب ، ولكنها بحاجة إلى الكثير من الصبر ، والالتزام بتوجيهات الوحي من الكتاب والسنة.ثم من حيوات السلف الصالح الذين قيدوا تصرفاتهم بها فحقق الله لهم من العزة والسؤدد ما يشبه الخوارق.إن شبابنا قد بلغ أشده واستوى وآتاه الله حكماً وعلماً وعزيمة ورشداً وفهماً سليماً ، فعلى بركة الله ، ومن تكن نصرته دانت له الدنيا على وجه اليقين ، ومن ينصره الله فلا غالب له .. و (قل الله ثم ذرهم) .

قالوا عن التلمساني

كتبت صحيفة (وطني) لسان حال الكنيسة المصرية في عددها الصادر في 25/5/1986م، عن عمر التلمساني فقالت:

توفي إلى رحمة الله الأستاذ الكبير عمر التلمساني بعد معاناة مع المرض، فشق نعيه على عارفيه في مصر وفي العالم الإسلامي الذي يعرف كفاحه من أجل الدعوة التي حمل لواءها، وامتاز فيها بأصالة الرأي ورحابة الصدر واتساع الأفق وسماحة النفس، مما حبب إليه الجميع من إخوانه ومواطنيه، كما كانت علاقته بإخوانه الأقباط علاقة وثيقة عميقة تتسم بالتفاهم التام والحب والصداقة.
رحل رحمه الله عن عمر أربى على الثمانين وكان يشكو في سنيه الأخيرة من وعكة مرضية إلى أن أصيب بتليف بالكبد اضطره إلى دخول المستشفى من شهر... ومن أسبوعين انتابته غيبوبة، فظل في غرفة الإنعاش على أن جاد بأنفاسه الأخيرة مأسوفًا عليه من الجميع. و"أنطون سيدهم" يشاطر أسرة الراحل الكريم وإخوانه ومواطنيه مشاعر الحزن على فقد هذا الشيخ الجليل، رحمه الله رحمةً واسعةً.

وقال محرر (جريدة الأهرام) في 13/6/1986م:

عرفته منذ نحو عشر سنوات، فلم أر فيه غير الصلاح والتقوى، كان هادئ الطبع، قوي الحجة، يدعو إلى الله على بصيرة من الأمر، ذلك هو المغفور له الداعية الإسلامي الكبير عمر التلمساني الذي فقد العالم الإسلامي بفقده رجلاً من أعز الرجال وأخلصهم لدعوة الحق.فقدناه في وقت نحن أحوج ما يكون فيه إلى أمثاله من ذوى الرأي السديد، والفكر الرشيد الذين يعرفون جوهر الإسلام ويدعون إليه بالحكمة والموعظة الحسنة.
إن حزني على رحيل عمر التلمساني شديد، فقد كان الرجل من الدعاة الذين يعملون في مجال الدعوة الإسلامية وفق المنهاج الإلهي الذي يصوره قول الله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ (البقرة: من الآية 286)... وقوله عز وجل: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ﴾ (البقرة: من الآية 185). وإذا كان لي من دعوة أتوجه بها إلى الله عز وجل بعد رحيل هذا الداعية الكبير، فهي أن يوفق سبحانه وتعالى الذين يعملون في مجال الدعوة من بعده إلى العمل وفق هذا المنهاج وإلى السير على طريق الراحل الكريم الذي هو في واقع الأمر، صراط الله المستقيم الذي أمرنا الله بإتباعه.

وقال الأستاذ يوسف ندا:

﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا "23"﴾ (الأحزاب). المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين بكافة تنظيماتها المحلية والدولية والعالمية بعد سن قارب الاثنين والثمانين عامًا تكالبت عليه فيها أنياب الظلم فلم تنفذ إلى عمق توحيده للقادر على الرزق والأجل. عمل في صفوف الجماعة ثم في قيادتها ثم على رأسها ثلاثة وخمسين عامًا، قضى منهم في السجون والمعتقلات أكثر من عشرين عامًا منهم سبعة عشر عامًا متصلةً.
عاش بقلب كبير احتوى كل من أجهد نفسه في حرب معتقداته، وبخلق كريم أسبغه على الكريم وعلى اللئيم. وعاش عفيفًا ليس لغير الله عليه يد فكان جبلاً في الإباء والشمم. وفيًّا يذكر ويشكر الكبير والصغير على ما قدموه لغيره أو لدعوته. عظيمًا في إيمانه وإسلامه، متواضعًا أفخر بالبساط في العيش والمظهر، أكبرته قلة زاده التي نافس بها الفقراء وطهارة القلب وبراءة الوجه وحياء الطفولة التي زينت هيئته وشيبته. عاش مجمعًا لكل من تفرق على فكر أو عمل أو دين أو مذهب عاش يدعو الناس حتى يكونوا مسلمين ويؤلف بين المسلمين حتى يكونوا إخوانًا.

وقال الأستاذ جابر رزق المتحدث الرسمي باسم جماعة الإخوان المسلمين:

لقد اختار الله الشيخ عمر التلمساني ليقود الجماعة في سنوات ما بعد محنة السجون التي استمرت قرابة ربع قرن من الزمان، فاستطاع بحكمه الشيخ الذي حنكته السنون، وأنضجته السجون، وبميزات شخصه منحه الله إياها. وبأخلاق الإسلام التي صبغت سلوكه وتصرفاته.
أن يفرض "الوجود الفعلي" لجماعة الإخوان المسلمين على الواقع المصري، والعربي، والعالمي، فعلى مدى العقدين الأخيرين: عقد السبعينيات وعقد الثمانينيات كانت كلمات التلمساني، وتصريحاته وكتاباته تبرز في مقدمة وسائل الإعلام محليًّا وعربيًّا، وعالميًّا، والإذاعة ووكالات الأنباء من كل أنحاء العالم، وجاءه مندوبو الصحف حتى اعتبر عام 1980 صاحب أكبر عدد من الأحاديث الصحفية والتليفزيونية على مستوى العالم.

وكتبت السيدة زينب الغزالي تقول:

عرفته، فقرأت في تقاسيم وجهه الحب لكل الناس. لا بأس من أن يرى العاصي يومًا، تقيًّا نقيًّا قريبًا من الله. يغفر للحاكم المسيء، كما يغفر للفقير الذي استغرقه الخطأ، ولكن لا يكف عن نصيحة الحاكم وتربية الفقير، لا يخشى إلا الله، ولكنه يستحيى أن يقول لإنسان أنت مسيء، فقط يدعو له ويعظه في جموع المسيئين والمحسنين.
يحمل الطهر في كل جوارحه، لحقيقةٍ جُبل عليها، عف اللسان مع من أساء. حيي كالعذراء البتول، قوي في الحق الذي اعتقده، مصر على نصرته، أب لكل أتباعه ومريديه، الشدة لا ترهبه، غياهب السجون لم تزده إلا إصرارًا على الحق، وتفانيًا في نصرته. ولا أنسى ذلك اللقاء، وكان في ألمانيا، عندما سألته: المسلم إذا احتاجك وليس من جماعتك، وأنت قادر على مساعدته، ماذا تفعل؟ قال لا أتأخر لحظة واحدة على نصرة مسلم.

يقول الأستاذ صالح أبو رقيق من الرعيل الأول وعضو مكتب الإرشاد:

كان فقيدنا الجليل طيب الله ثراه، سمحًا يذوب رقةً وحياءً، ويتألق تواضعه في عزة المؤمن، وكبرياء الواثق من نفسه والمقدر لمكانته، دون صلف أو تكبر، من الذين قال الله فيهم ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾ (المائدة: من الآية 54).
جاهد في سبيل الله أصدق جهاد، وتحمل في سبيل ذلك أشد العذاب وقدم أعظم التضحيات.. وكان متمكنًا في الفقه، عالمًا بجميع جوانب دينه الحنيف، متحدثًا مقنعًا. وخطيبًا مؤثرًا، تخرج الكلمات من أعماق قلبه، فيأتي وقعها على القلوب بردًا وسلامًا. عذب الأسلوب، مهذب المنطق، في جلال ووقار. تاريخه حافل بالمواقف المشرقة، ولم تثنه الأحداث الجسام وشرور اللئام عن قول الحق، والتمسك بالحق، والصمود من أجل الحق، الذي كان يؤمن به.
ولا أنساه في سجن الواحات الذي خصص أصلاً للإخوان المسلمين ومن بعد للشيوعيين، والجو قاري، وقارس البرد شديد الحر، مع العواصف الرملية الشديدة التي يدخل رملها في مسام الجلد، فتثير الأعصاب، وتقلق الراحة وتقض المضاجع وتزعج النفوس، ظروف غاية في الصعوبة لا يتحملها إلا أولو العزم كان رحمه الله يقابلها بابتسامة الرضا العذبة، وجلد المؤمن القوي، الواثق من أن ابتلاء الله لعبده يحقق أسمى الغايات لكل مؤمن، يكفر عن سيئاته ويكون في ميزانه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ولسان حاله يقول قولة الصوفيين: "كل ما يأتي به المحبوب محبوب".

وقال الشيخ عبد البديع صقر أحد الرعيل الأول في حقه:

عرفته محاميًا ناشئًا يواظب على محاضرات الأستاذ حسن البنا في دار العتبة الخضراء سنة 1936م.. ثم عضوًا في الهيئة التأسيسية للجماعة ، ثم عضوًا في مكتب الإرشاد العام.
كان رجلاً جميلَ الخلقة، متكاملَ الهيئة، تامَ الأناقة وكان أمثالنا من "المنتوفين" يقولون عنه وعن أمثاله من الوجهاء " مثل محمود أبو السعود وحسين عبد الرزاق ومحمد محمود الصواف ومصطفي السباعي" يقولون: هل هذه الأشكال تصلح للعمل الإسلامي؟ أو تقوى على "البهدلة" في سبيل الدعوة؟.. ولكن محيط الدعوة كان سوقًا كبيرًا يتسع "للمشطوفين" و "المنتوفين" على حد سواء.
والمحنة لا تحتاج لأسباب فهذا المحامي المترف الخجول لم يشتم أحدًا ولم يشترك في نقاش مع أحد فضلاً عن أن يضرب أو يجرح وكان مستغرقًا في مكتبه الناجح. ولكنه سيق إلى السجن ثلاث مرات قضى في بعضها سبعة عشر عامًا متوالية وفي الصحاري المحرقة.

قال الشيخ الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد أستاذ التفسير بجامعة الأزهر الشريف:

رحم الله عمر التلمساني رضي عنه وأرضاه في الجنة فقد كان نفحةً من نفحات الله تعالى في حياته ومماته جميعًا. وذلك منذ بدأ رحلته في الدعوة الإسلامية منذ نصف قرن أو يزيد، وكان يومئذ شابًا يافعًا مترفًا، أنيقًا رقيقًا، يشفق عليه الخبراء بأثقال الطريق، وأعباء الدعوة ، وتبعات البيعة.
ثم حين ختم رحلة حياته وهو يحمل الراية، ويرفع لواء الإسلام ، ويقدم الصفوف جميعًا، يرى راحته في دعوته، رغم وهن العظم، واشتعال الشيب، وأنه "لم يعد في قوس العافية منزع" كما قال في آخر لقاء عام له في نقابة الأطباء في شهر ربيع الأول الماضي.كان الرجل رحمه الله نفحة إلهية هادية، وهادئة. وكان نسمةً طيبةً. مطمئنة إلى جنب الله تعالى، اطمئنانًا راسخًا عبرت به رحلة هذه الحياة الصاخبة عبور الطيف المنير، حتى خلصت إلى ربها راضية مرضية بإذنه وفضله تعالى.
هل نذكره رحمه الله وهو في السجن المتطاول تعلوه بسمته، وأمله الدائم في الله رب العالمين؟ هل نذكره وهو يذوب حرصًا على هذه الدعوة ، ونصحًا لهذه الأمة، وإخلاصًا لهذه الجماعة المؤمنة، التي سلكت طريق الأنبياء عليهم السلام، ولا بد أن تشرب من نفس الكأس، وتخضع لسنة الله الدعوات وأصحابها؟ إننا لنذكره رحمه الله وهو يخط كلماته الندية من المعتقل، إلى الإخوان في السجون، تبشرهم بنصر الله وعظيم الأجر، وجميل التفويض.أن ألحق بإمامي الشهيد حسن البنا وقد وفيت بيعته.

وكتب الأستاذ فتحي رضوان رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان:

عرفت عمر التلمساني الذي استحق عن جدارة اللقب المهيب الجليل لقب "شيخ" وهو محامٍ في مدينة شبين القناطر يمارس عمله إلى آخر العمر متواضعًا لا يلفت إليه النظر، بصوت عالٍ، ولا بمشية يشوبها الخيلاء ولم نكن نعرف آنذاك عنه أمورًا منها أنه حفيد "باشا" من باشوات العرب الأغنياء الذين فاض الله عليهم رزقه؛
كما لم نفطن من مجرد اسمه أنه عربي من الجزائر مما يرفع قدره ويعلي من شأنه، فالجزائر هي موطن الجهاد والسلاح والوقوف في وجه استعمار الفرنسيين سافكي الدماء، وهاتكي الأعراض، وقاطعي الطرق فقد تصدى لهم عبدالقادر الجزائري بسلاح بسيط فأثخنهم جراحًا سبعة عشر عامًا، والعجيب أن السبعة عشر عامًا هذه، كانت من نصيب عمر التلمساني سجنًا متصلاً. احتملها صابرًا محتسبًا وخرج إلى الحياة فكأنه كان في نزهة فلم يحدث عن هذه الفترة الطويلة من القيد أو الحرمان والتضييق وتولى مكان الرياسة والصدارة بين جماعته.

وقال عنه الكاتب الصحفي محسن محمد تحت عنوان "من القلب":

قابلته في مكتب جريدة "الدعوة" بالقاهرة،لا توجد حوله سكرتارية ضخمة، أو قيود تمنع لقاءه. والمكتب الذي يجلس عليه صغيرًا للغاية فقد نبذ الرجل الأبهة، وقد كان من أغنياء الإخوان في شبابه.

وكتب الدكتور حلمي محمد القاعود أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب بجامعة طنطا يقول:

لا أزعم أنني سأضيف جديدًا إلى ما كتب حول عمر التلمساني المسلم الصابر المحتسب، ولكني أزعم أن تقديم الرجل كقدوة هاجس يشغلني، بعد أن أصبح الذين يعنيهم تنوير هذا الشعب يكتفون بتقديم نماذج هامشية أو تحت مستوى الشبهات. لتكون الأسوة التي يحتذيها أبناء وبنات الوطن.
ولا أعتقد أن مرحلة حرجة من حياة الوطن أحوج ما تكون إلى تقديم عمر التلمساني كقدوة مثل هذه الفترة التي سادت فيها أخلاقيات الانتهازيين المرتشين والوصوليين والمنافقين والمصالح المتبادلة. فالرجل رحمه الله كان يمثل صورةً مضيئةً للمسلم الذي ظل طوال حياته "1904 - 1986م" يطمح إلى المثال الحي والقيم المضيئة.

وقال الشيخ محمد الغزالي عليه رحمة الله:

كنت في شبابي أرى الأستاذ عمر التلمساني يتردد على الأستاذ المرشد العام، ويتحدث معه في شئون الدعوة ، ويتزود منه بشتى التوجيهات: كان يومئذ يشتغل بالمحاماة، وله مكتبه في بلدة "شبين القناطر" وكان إلى جانب ذلك عضوًا في مكتب الإرشاد. السمة العامة التي كنا نعرفه بها: وجهه البشوش وأدبه الجم وصوته الهادئ، وظاهر من حالته أنه كان على جانب من اليسار والسعة لا يسلكه في عداد المترفين، وإنما يخصه من متاعب الكدح ومعاناة التطواف هنا وهناك، ويحفظ عليه حياءه الجم.
وقد حمل الرجل في شبابه أعباء الدعوة الإسلامية في غربتها، ورأيته يومًا ينصرف من مكتب أستاذنا حسن البنا بعد لقاء لم أتبين موضوعه، ورأيت بصر الأستاذ المرشد يتبعه وهو يولى بعاطفة ناطقة غامرة، وحب مكين عميق، فأدركت أن للأستاذ عمر مكانة لم يفصح عنها حديث.

وقال الأستاذ أنور الجندي الكاتب والمفكر الإسلامي:

حياة عريضة خصيبة، كانت منذ يومها الأول إلى يومها الأخير خالصة لله تبارك وتعالى.. فقد كان "عمر التلمساني" نموذجًا كريمًا، وأسوةً حسنةً وقدوةً صالحةً يمكن أن تقدم للشباب المسلم في كل أنحاء الأرض لتصور له كيف يمكن أن يكون المسلم داعيةً إلى الله موقنًا بقوله تبارك وتعالى ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "162"﴾ (الأنعام).

وكتبت مجلة (اليقظة) الكويتية تحت عنوان "الشيخ عمر التلمساني من حياة مترفة إلى سجن وتشريد" فقالت:

﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيل "23"﴾ (الأحزاب) صدق الله العظيم.هؤلاء الرجال الصادقون كانوا كثرة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما تطاول العهد وتقادم زمان النبوة قل أولئك الرجال الصادقون حتى أصبحوا في ندرة الدر والجوهر.
إذا كان في زماننا هذه أحد من أولئك الأبطال فإنه بلا ريب الشيخ عمر التلمساني الذي جاء نعيه منذ أيام ونزول خبر موته كالصاعقة على قلوب محبيه ومريديه والمعجبين به. والشيخ عمر التلمساني كان محبوبًا لدى الجميع من عرفه عن قرب أو سمع عنه عن بعد، وذلك لدماثة أخلاقه، ورقة قلبه، وتسامحه العظيم حتى مع أعدائه ومخالفيه.

وكتب سيد هادي خسرو شاهي في جريدة (اطلاعات) الإيرانية في عددها الصادر في يونيو سنة 1986م يقول:

"كان وفيًّا لمبادئ الإخوان طوال حياته، قضى عشرين سنة من عمره في سجون الاشتراكيين وأتباع القومية العربية بعد المؤامرة الغادرة التي دبرها جهاز الأمن المصري ضدهم بأوامر الضباط الديكتاتوريين حكام مصر ، وذلك من أجل قمع الإخوان المسلمين .

يرحم الله الشيخ الذي بقي صامدًا في طريقه ولم يستسلم لليسار المزور أو اليمين المتطرف، وأسلم الروح في النهاية بجبين مرتفع وتاريخ وضاء وهو اليوم بلا شك في حضرة العدل الإلهي وينبغي على فراعنة مصر أن يقدموا لله حساب الظلم الذي ألحقوه به وبآلاف المسلمين المصريين الآخرين، والأمة المصرية والعالم العربي والإسلامي؟!"

وقالت (جريدة الرأي العام) في عددها الصادر في 30/5/1986م تحت عنوان "المجاهد الإسلامي عمر التلمساني وداعًا":

فقدت الأمة الإسلامية مجاهدًا بارًا.. أعطى حياته لقضية الإسلام وظل حتى آخر رمق في حياته ينادي بتطبيق الشريعة الإسلامية كوسيلة لخلاص الأمة العربية من الأزمات والنكبات التي لاحقتها في السنوات الأخيرة بعد أن تعثرت قوانين الشريعة في دهاليز مجالسها النيابية، لقد كان عمر التلمساني.. المجاهد الإسلامي، لا يخاف لومة اللائمين، أو ظلم الحكام، أو إرهاب أعداء الإسلام ، وكان يقول كلمته لوجه الله تعالى.
وكان رحمه الله مناضلاً كبيرًا، لا يهادن، ولكن يجنح للسلم دون ضعف أو ترجع، وبالرغم من كبر سنه واعتلال صحته فإنه حمل مشعل الكلمة الطيبة المناضلة حتى آخر يوم من حياته، وحظي باحترام أعضاء جماعته والناس، و(الرأي العام) تنعى الأمة الإسلامية في فقدها المجاهد الإسلامي عمر التلمساني، أسكنه الله فسيح جناته.

وكتب الأستاذ خالد محمد خالد تحت عنوان "الإخوان المسلمون بين وداع فارس شهيد وانتظار مرشد رشيد" فقال:

يوم الجمعة الماضي زفت إلى السماء في عرس عظيم روح فارس شهيد، أجل شهيد!!فالرجل الذي يواصل رحلته المضيئة في سبيل الله مغالبًا شيخوخته، ومقاومة أسقامه وأمراضه. حاملاً رايته في ثبات وولاء ورشد حتى اليوم الأخير من أيام حياته الوهنانة، غير متجانف لكسل، ولا مجلد لراحة، يرى حياته تميل للغروب، وزورقه يترنح بعيدًا عن المرفأ والشاطئ ثم يصر على المقاومة. الراية ملء يمينه، والولاء لها ملء يقينه. ثم لا يكفكف من بلائه وعطائه سوى غيبوبة الموت، إنه إذن لشهيد وأي شهيد...!!
كذلكم كان "عمر التلمساني" رحمه الله ورضي عنه.وإني لأبصر في هذا الرجل "مَعلمًا" من معالم الدعوة التي فتح كتابها، واستهل شبابها الإمام الشهيد "حسن البنا" رضي الله عنه وأرضاه.
"عمر التلمساني" وحده، مَعلم من معالم هذه الدعوة بما أورثته من هدى ونور..!!ولقد كان الرجل المناسب في الوقت المناسب لقيادة "الإخوان المسلمين" الذين خرجوا من محنتهم التي تتضاءل أمامها كل المحن، يتلمظون برغبة طبيعية في الثأر والانتقام..!! فجاءهم "عمر" وقد انتفع بالدرس القديم!! وحذق العبرة منه. وصادف ذلك طبيعة فيه وديعة، ومسالمة، فنبذ العنف ونسي الثأر.

وقال عنه الصحفي الكبير الأستاذ مصطفى أمين تحت عنوان "فكرة":

لو كان عمر التلمساني على قيد الحياة لاستنكر إحراق المسارح ومحلات الفيديو ومحل بقال في الزمالك. فالإسلام الذي سمعته من فمه دين يدعو إلى الحب والتسامح والبناء والتعمير، ويرفض العنف والحرق والتدمير. ولا إكراه في هذا الدين ولا حقد ولا بطش ولا انتقام. وقد أمضيت سنوات طويلة مع التلمساني في سجن ليمان طرة . وكانت زنزانته في مواجهة زنزانتي، كنت أراه كل يوم وأتحدث إليه.
وكان أكثر ما حببني فيه سعة صدره واحتماله الغريب، ومواجهته للبطش والاستبداد بسخرية واستهزاء، فقد كان يشعر أنه أقوى من الذين قيدوه بالأغلال، وكان مؤمنًا بأن المحنة لا بد أن تنتهي ويخرج من السجن ويكتب رأيه وينشر الفكر الذي آمن به. كان يعتقد أن العنف يضر ولا ينفع. يسيء للفكرة ولا يخدمها. كم تدخل ليهدئ الثائرين ويهدى الضالين.
وكان التلمساني يرى أن الإسلام يلعن الطاغوت، أي الذي يفرض إرادته على الناس، ويكتم أنفاسهم ليتكلم، ويقيدهم ليتحرك فوق أشلائهم. وكان يعارض الاغتيالات وأعمال العنف. ويرى أن مقاومة الطاغية تكون بالصمود والإيمان والثبات.

وقال عنه المفكر والكاتب الصحفي اليساري أحمد بهاء الدين:

تركت وفاة المرحوم عمر التلمساني مرشد عام الإخوان المسلمين مذاقًا مرًّا لدى جميع الناس، فالفترة التي وقف فيها الرجل في مقدمة جماعته مرشدًا وممثلاً لهم، تميز فيها أمام الناس بعفة اللسان، وسعة الأفق، واتساع الصدر للحوار، والأدب الجم في هذا الحوار، مهما كان خلاف الآخرين معه. ولي معه تجربة شخصية جرت هنا على صفحات (الشرق الأوسط) فقد كان المرحوم عمر التلمساني ينشر مذكراته في جريدة (الشرق الأوسط)
وجاء على ذكر واقعة محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في ميدان المنشية،ووقائع أخرى، ونشرت في هذا المكان ردودًا من وجهة نظري على ما قال ورد على، وكررت الرد عليه، فوجئت بعدها بخطاب شخصي منه، رقيق وطويل، يقول فيه بعد كلمات تقدير كريمة منه خلاصته أنه يفضل لو نقلنا الحوار إلى لقاء شخصي وحوار متبادل بطريقة لا تبلبل الناس ولا تستثير مشاعر متناقضة.
وما زلت أحتفظ بهذا الخطاب، معتزًا به، وبلهجة الاحترام مع الخلاف الذي تنطوي عليه، لا لأنه من عادتي الاحتفاظ بالأوراق الشخصية، فأنا شديد الإهمال في ذلك، ولكن لأنني أحب أن أظهره لبعض من لا يعرفون من الخلاف السياسي إلا اللدد في الخصومة والعناد في الحوار، الأمر الذي ينقص ساحتنا العربية كتابةً وخطابةً وصحافةً وإذاعةً إلى حد مرضي تعيس!
ولم نلتق، فبعد أسابيع كنت في حجرة مستشفى المقاولون العرب واكتشفت أن المرحوم الشيخ عمر التلمساني في الحجرة الملاصقة لي، اكتشف هو ذلك قبلي، فكان بعض زواره يمرون على للتحية قائلين إنهم يحملون معهم تحية الشيخ عمر التلمساني.

وقال الأستاذ محمد حامد أبو النصر المرشد العام:

لقد افتقدنا مجاهدًا عظيمًا، ومرشدًا عظيمًا، ومرشدًا راشدًا، حمل الأمانة ونصح للأمة، وأدى الرسالة على أكمل الوجوه، في ظل ظروف صعبة وقاسية ومريرة، ولن نهدأ نحن الإخوان المسلمين حتى نرى شجرة الإسلام قد نمت وترعرعت، لقد كان رحمه الله عف اللسان، عف القلم، عف السلوك.

وقال الشيخ عبد الحميد كشك الداعية الإسلامي الكبير:

الراحل الكريم، يرحم الله جهاده، ويرحم الله صبره بعد الإرهاب والسجون والمعتقلات ، ظل في السجون سبعة عشر عامًا فما لانت له قناة، وما انحنى إلا لله، وما ركع إلا لمولاه، وما سجد إلا للواحد الديان، يا عمر نم هادئًا بجوار الحق سبحانه، نم إلى جوار ربك بعد أن صبرت واحتسبت.نشهد أنك والحمد لله قد صبرت واحتسبت وبلغت وأديت فإلى جوار الله في جنات ونهر.

وقال الدكتور الحبر نور الدين مراقب عام الإخوان المسلمين في السودان:

رحم الله عمر التلمساني الذي قاد دعوة عالمية لا تعرف تجزيئًا ولا تفريقًا، إنها الدعوة الربانية الأصيلة التي لن تموت أبدًا، فأصلها ثابت وفرعها في السماء، لقد كان رحمه الله الوجه الطلق البشوش، لقد كان الخلق الكريم، والأدب الجم، لقد كان ذا عزيمة لا تقاوم، وقناة لا تلين. لقد كان يعامل الجميع معاملة الأب الرحيم الشفوق، وقد كان ينظر إلى الإخوة من السودان وغير السودان نظرةً واحدةً.

ولقد كتب الشيخ حافظ سلامة الداعية المسلم وقائد المقاومة الشعبية في مدينة السويس الباسلة:

لقد اجتمعت الأمة بكافة ممثليها لتشييع قائد من خيرة قوادها فلم يحدث ما يعكر الصفو ويخدش الأمن، إنه عمر التلمساني الرجل الذي لم يضعف أمام جبروت السلطان.لقد عاش الرجل في سبيل دعوته كل حياته، ولقد مرت به وبإخوانه وتلاميذه ومريديه الكثير من المحن ومع ذلك ظل صابرًا محتسبًا.

وذكر الدكتور عبد الصبور شاهين ممثل هيئة التدريس بجامعة القاهرة:

لقد كان عمر التلمساني رجل المرحلة، فقد كانت الدعوة قد أساء إليها أعداؤها أيما إساءة، فجاء عمر التلمساني ليطرح على الدنيا وجه الدعوة المشرق فكان صورةً حيةً من صور التسامح والتوازن والاعتدال، صورة الصدر الذي يتسع لسفاهات الأعداء، ولست أنسى يوم واجه السادات وقال له: إني أشكوك إلى الله.

وقال الأستاذ محمد رزق المحامي مندوب نقابة المحامين المصريين:

إن انتساب سيدي وأستاذي الفقيد الذي كان يفيض رقةً وعلوًّا كان شرفًا لنقابة المحامين، إن الأستاذ عمر مات جسده من سنوات ولكن قلبه حي وروحه حية فلم يستسلم للضعف وظل يدعو إلى الله إلى أن سقط وهو في الميدان، اعتقل وعذب، ولكنه خرج أقوى من الحكومة. إن جماعة الإخوان ليست بحاجة إلى أن تعود بقانون.. فجنازة الراحل الكريم كانت استفتاءً على شرعيتها القانونية، والمحامون يشرفون بانتساب التلمساني إلى نقابتهم.

ويقول الأستاذ محمد سعيد عبد الرحيم في كتابه (عمر التلمساني المرشد الثالث للإخوان المسلمين):

.. هلك الطاغية وخرج المعتقلون الذين قضوا في السجون سنوات طويلة، خرجوا وقد صقلتهم المحنة فقويت نفوسهم واشتدت عزائمهم، لئن كانت أبدانهم قد وهنت فإن أرواحهم أصبحت أكثر تعلقًا بما عند الله واستصغارًا لكل عرض زائل، وانتفى من قلوبهم الخوف، خرجوا من المحنة رجالاً كالجبال في شموخهم وصمودهم، في السجن حفظوا القرآن الكريم ونهلوا من العلم، وفي السجن تغلبوا على شهوات أنفسهم، وفي السجن خبروا الناس وعرفوهم على حقيقتهم، لقد كان السجن لهم مدرسةً أي مدرسة، أعطتهم أكثر مما أخذت منهم، ومن هؤلاء الرجال خرج الأخ عمر التلمساني.
إن الله سبحانه قد أعده ليقود الجماعة في هذه المرحلة، فكان هو القائد المناسب الذي قاد السفينة وسط الأعاصير بحكمة وصبر، ولين وأناة مع إيمان ثابت وعزم لا يلين، لقد انتشرت الدعوة في عهده انتشارًا لم يسبق له مثيل، وأقبل الشباب على الإسلام ، حتى أصبح التيار الإسلامي هو التيار الغالب في الجامعات وفي النقابات، بل في مصر كلها؛ لأنه استطاع أن يقود السفينة بخبرة القائد المحنك، ومهارة الربان القدير، وتمكن من أن يجتاز بها المزالق والمخاطر ويوصلها إلى بر الأمان.
لقد عاش رحمه الله كل المحن وقضى في سجون مصر قرابة عشرين عامًا، وكان من أكثر الإخوان صبرًا وجلدًا على تعذيب الزبانية في السجون ، ومع ذلك ورغم قسوة العذاب وسوء المعاملة كان لسانه لا يفتر عن ذكر الله ودعوة إخوانه إلى الصبر والثبات، وكان كذلك عفّ اللسان لم تُسمع منه كلمة نابية في حق جلاديه وظالميه، وإنما كان يوكل أمرهم إلى الله فهو حسبه ونعم الوكيل.

وقال إبراهيم سعده رئيس تحرير (أخبار اليوم) عنه بالحرف الواحد: مات عمر التلمساني، صمام الأمان، لجماعة، وشعب، ووطن!!

ومن كتاباته

  1. ذكريات لا مذكرات
  2. شهيد المحراب
  3. حسن البنا الملهم الموهوب
  4. بعض ما علمني الإخوان
  5. وفي رياض التوحيد
  6. المخرج الإسلامي من المأزق السياسي
  7. الإسلام والحكومة الدينية
  8. الإسلام ونظرته السامية للمرأة
  9. قال الناس ولم أقل في حكم عبد الناصر
  10. من صفات العابدين
  11. ياحكام المسلمين.. ألا تخافون الله؟
  12. لا نخاف السلام ولكن
  13. الإسلام والحياة
  14. حول رسالة نحو النور
  15. من فقه الإعلام الإسلامي
  16. أيام مع السادات
  17. آراء في الدين والسياسة.

الأستاذ محمد حامد أبو النصر

هو الأستاذ محمد حامد أبو النصر، ولد في مدينة "منفلوط" التابعة لمحافظة أسيوط يوم 6 من ربيع الآخر 1331ه الموافق 25-2-1913م. وهو سليل أسرة كريمة تتصل بالشيخ علي أحمد أبوالنصر، من رواد الحركة الأدبية بمصر.

وهو عالم أزهري شارك في التجهيز للثورة العرابية حتى قرر الخديوي توفيق تحديد إقامته في منزله بمنفلوط، ثم تخلّص منه بدس السم له فمات سنة 1880م.إذ كان من المعروف أن الشنق للعلماء يثير غضب الشعب على حكامه، وأسرة أبوالنصر تنحدر أصولها من نسل الإمام علي رضي الله عنه.

وقد تلقى الأستاذ محمد حامد أبو النصر تعليمه في المدارس، وحصل على شهادة الكفاءة سنة 1933م. وكان متميزاً في بداية عمره بالمشاركة الاجتماعية، والعمل الإسلامي، حيث كان عضواً في جمعية الإصلاح الاجتماعي في منفلوط، وعضواً في جمعية الشبان المسلمين سنة 1933م.

نشاطه الدعوي

انضم إلى الإخوان المسلمين سنة 1934م، واختير عضواً في مكتب الإرشاد العام ، وكانت بداية تعرفه على الإخوان من خلال صديقه الشيخ محمود سويلم الواعظ الأزهري، الذي كان يحدثه كثيراً عن الإمام الشهيد حسن البنا ، وعن جهاده في سبيل رفعة الإسلام والمسلمين، وحين أخبره صديقه محمد عبد الكريم بوجود الإمام الشهيد حسن البنا بجمعية الشبان المسلمين في "أسيوط" كلمه هاتفياً ودعاه لزيارة "منفلوط" فزارها في اليوم التالي، وألقى محاضرة، ثم انتقل إلى دار أبي النصر، وكان عهد وكانت بيعة.

ومنذ ذلك الحين التفَّت مجموعة من الشباب حول الإمام البنا في منفلوط، فكانت شعبة الإخوان المسلمين التي زارها الإمام الشهيد حسن البنا ، وسجَّل العبارة التالية: "دعوتنا قصة من قصص القرآن الكريم، فيها عبرة وعظة وهداية ونور، إن بدت اليوم أحدوثة في أفواه الناس، فهي في الغد حقيقة في مجتمعاتهم، وفي دار الأرقم بن أبي الأرقم نبتت الدعوة الأولى، وفي هذه الدار يعيد التاريخ سيرته، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون".

وقد تدرَّج في مواقع المسؤولية من نائب شعبة منفلوط حتى أصبح عضواً في الهيئة التأسيسية "مجلس الشورى العام" ثم عضواً في مكتب الإرشاد العام للجماعة ، وقد تعرض للاعتقال والسجن وحكم عليه في أحداث عام 1954م بالأشغال الشاقة المؤبدة (25 عاماً)، قضى عشرين عاماً منها صامداً كالجبل، صلباً لا يتزحزح، قوياً لا تلين له قناة، حتى خرج من السجن منتصف عام 1974م، ليواصل عطاءه وجهاده لرفع راية الإسلام ، وظل وفياً لدعوته وقيادته حتى اختير مرشداً عاماً للجماعة ، خلفاً للمرشد الثالث الأستاذ عمر التلمساني ، وكان ذلك في شهر مايو 1986م.

وفي عهده كان ترسيخ الوجود الفعلي في العديد من النقابات المهنية، ونوادي هيئات التدريس الجامعية، والجمعيات الأهلية، وخاضت الجماعة الانتخابات البرلمانية في أبريل سنة 1987م، متحالفة مع حزبي العمل والأحرار، حيث نجح 36 نائباً إخوانياً في تلك الانتخابات، كما كان له دوره الفاعل والمؤثر على الساحة العربية والإسلامية، في الوقوف إلى جانب الكويت حين الاعتداء عليها

وبذل الجهود للإصلاح بين قادة المجاهدين الأفغان الذين سعى إليهم في بشاور مع الأستاذ مصطفي مشهور نائبه، والأستاذ إبراهيم شرف، برفقة الشيخ خليل الحامدي سكرتير أمير الجماعة الإسلامية بباكستان، وكانت جهوداً موفقة مباركة، بالإضافة إلى التركيز على تكثير القيادات الدعوية في أوساط الشباب، وجماهير الناس، لتنهض بتبعة حمل الدعوة، وتبليغها للناس داخل القرى والمدن والمحافظات في القطر المصري.

من أقواله

"أثناء سفري مع الإمام الشهيد حسن البنا في القطار لم يحضر محصّل التذاكر إلينا، ولم يطلب ثمن أجرة الركوب، وقد سألني الإمام الشهيد: هل جاء "الكمساري"؟ وهل أعطاك التذاكر؟ فقلت: لم يحضر بعد. فقال: إذن لابد من ندائه وإعطائه الأجرة، فناديت "الكمساري"، وطلبت منه التذاكر فقال: "أنا عارف يا سيدي.. وأنا شايف ضروري يعني؟ خليها على الله دي شركة أجنبية"، فسمعه الإمام الشهيد وقال: لابد أن تأخذ ثمن التذكرتين وشكر الله لك.

وفي سنة 1942م ، أعلن الإمام الشهيد حسن البنا ، ترشيح نفسه نائباً عن دائرة الإسماعيلية ، بناء على رغبة الإخوان ، فطلب النحاس باشا من فضيلة الأستاذ البنا التنازل عن الترشيح، استجابة لضغوط الإنجليز الذين لا قبل للحكومة بمعارضتهم!! وحين طرح الأمر على الهيئة التأسيسية "مجلس الشورى"، تبلور الحوار عن وجهتي نظر، إحداهما عدم التنازل عن الترشيح، ويمثل الأغلبية، والأخرى ترك الأمر لفضيلة الإمام حسن البنا على اعتبار أنها مسألة شخصية

وعلى هذا فقد آثر التنازل عن الترشيح، فأحدث ذلك اضطراباً في صفوف الإخوان ، فمنهم الموافق ومنهم المعارض، فقلت: إن التنازل مسألة انتهت ولكني أرجو مستقبلاً أن ينزل فضيلة المرشد العام على رأي الأغلبية مهما كانت النتيجة، فاتصل بي الإمام الشهيد هاتفياً وقال: بأنه سوف يأخذ بقرارات الأغلبية مهما كانت الظروف.

بعد حركة الضباط، دعاني الضابط عبد الناصر ومعي فضيلة الشيخ محمد فرغلي لتناول الإفطار في منزله بمنشية البكري في الساعة السادسة صباحاً، وقد قال عبد الناصر: نريد أن نعمل على إزالة آثار العوائق التي وقعت بين قيادة الإخوان وقيادة الحركة، ونريد البحث في مسألة إصلاح الأزهر

وقد لاحظت أنه لوّح بإشارات إسناد مشيخة الأزهر للشيخ فرغلي ، كما لاحظت أنه وجه الدعوة لكلينا، باعتبارنا وإياه نحن الثلاثة من محافظة أسيوط ، فكأنه يريد استقطاب إخوان أسيوط حوله ضد قيادة الإخوان ، فلم يفلح، وكان نصيب الشيخ محمد فرغلي الإعدام شنقاً، وحكم عليَّ بالأشغال الشاقة المؤبدة.

وفي يوم الجمعة 19-11-1954م ، فوجئت حوالي الساعة الخامسة صباحاً بقوة كبيرة من خمسين جندياً وخمسة ضباط من قوات الجيش والبوليس يقتحمون منزلي للتفتيش، وقد طلب مني مأمور المركز الاستقالة من الإخوان حتى يتمكن المحافظ من الحيلولة دون تقديمي للمحاكمة، فرفضت ذلك بإباء وقلت لهم: لا يمكن، لأنني حين التحقت بهذه الجماعة كنت رجلاً موفور العقل، وأعرف تماماً العقبات التي سوف تحدث في طريق تحقيق مبادئ الإسلام

وما زلت على عهدي وصدق ارتباطي بالجماعة والحمد لله، وبعدها جرى اعتقالنا في السجون ، ومورس التعذيب على الإخوان جميعاً بأقسى ألوانه، وفي يوم السبت 27-11-1954م ، نقلنا من السجن إلى محكمة الشعب، وكانت مشكَّلة من جمال سالم، رئيساً، وأنور السادات، عضو اليمين، وحسين الشافعي، عضو اليسار، وبعد مناقشات هزلية من رئيس المحكمة، انتهت الجلسة، وحدد يوم 4-12-1954م للنطق بالحكم، فرجعنا إلى السجن الحربي

وكان التحقيق والعذاب، ثم الموعد المحدد للنطق بالحكم، ذهبنا إلى المحكمة لسماع النطق بالحكم، حيث حكم بالإعدام شنقاً على: عبدالقادر عودة، ومحمد فرغلي، وإبراهيم الطيب، ويوسف طلعت، وهنداوي دوير، ومحمود عبد اللطيف، وحكم على فضيلة المرشد حسن الهضيبي بالمؤبد بدل الإعدام، وبالأشغال الشاقة المؤبدة على عبد العزيز عطية، وحسين كمال الدين، ومنير الدلة، وصالح أبو رقيق، ومحمد حامد أبو النصر، وحكم على عمر التلمساني وأحمد شريت بالسجن مدة خمس عشرة سنة".

معرفتي به

يقول المستشار عبد الله العقيل لقد كنت فترة الدراسة الجامعية بمصر سنة 1949م، أرى الأستاذ محمد حامد أبو النصر عن بعد في اجتماعات كبار الإخوان المسلمين حين يحضر من الصعيد مع إخوانه أعضاء مكتب الإرشاد العام، أو الهيئة التأسيسية "مجلس الشورى" بالقاهرة

ولم ألتق به عن قرب، ولكني كنت أسمع الثناء العطر عليه وعلى رجولته ومواقفه وشجاعته وكرمه وشدة التزامه بالدعوة، وارتباطه بالتنظيم، واحترامه للقيادة، وحرصه على سلامة سير الجماعة ، والتقيّد بالنظم والتعليمات الصادرة عن مؤسسات الجماعة وقيادتها.

وحين هلك الطاغية عبد الناصر ، عاودت التردد على مصر وزيارتها بين حين وآخر للقاء إخواني وأساتذتي للتزود بالتوجيهات والنصائح والاستفادة من الخبرات والتجارب، فكان لقائي بالأستاذ أبي النصر الذي أدركت نفاسة معدنه، وأصالة تربيته، وغيرته على دينه، وحرصه على وحدة صف الجماعة ، وتوحيد كلمتها في مواجهة الخصوم من الداخل والخارج على حد سواء.

وحين ذهبتُ إلى مصر في شهر مايو سنة 1986م ، لتشييع جنازة أستاذنا المرشد عمر التلمساني ، وحضرت مجلس العزاء، واستمعت إلى الكلمات مع من حضر من إخواني من البلاد العربية، وكان المتكلمون يتحدثون عن مآثر الفقيد التلمساني

وعن عراقة هذه الجماعة المباركة، وتأثيرها العميق في المجتمع المصري خاصة، والعالم العربي والإسلامي عامة، حيث انتشر مؤيدوها، وكثر أتباعها، وشقَّت طريقها في أوساط الشباب وجماهير الشعب في العالم العربي والإسلامي، وكان الأستاذ محمد حامد أبو النصر المتكلم باسم الجماعة في حفل التأبين.

وبعد نهاية الحفل، اصطحبني الإخوة المصريون مع الأستاذ أبي النصر في بيت أحد الإخوان بالقاهرة ، وكانت أحاديث عن الدعوة وضرورة استمرارها، وعن الجماعة وأهمية الحرص على سلامتها، وتصويب مسيرتها، وانطلاقتها، وقد لاحظت تلك الليلة أن الإخوان يولون الأستاذ "أبو النصر" عناية خاصة

واهتماماً زائداً، مصحوباً بالإجلال والتقدير، فكانت أحاديث ومحاورات عن هموم المسلمين في الوطن الإسلامي، ودور الإخوان المسلمين في جمع الكلمة وتوحيد صف الأمة الإسلامية، لتواجه التحديات المفروضة عليها من القوى العالمية الكبرى، وإن بناء الفرد المسلم هو الأساس في بداية الطريق لإعداد الأمة لتحمّل تبعاتها نحو دينها ووطنها ومجتمعها.

ثم تكررت بعد ذلك زياراتي إلى القاهرة ، حيث كنت أسعد بلقائه كمرشد عام للإخوان المسلمين خلفاً للأستاذ التلمساني مع نائبه الأستاذ مصطفي مشهور، والأستاذ محمد المأمون الهضيبي، والدكتور أحمد الملط وغيرهم من قيادات الإخوان المسلمين بمصر.

مواقفه

ولقد كان للأستاذ أبي النصر مواقف مشرفة من الاعتداء على الكويت وغزوها من النظام البعثي الصدامي الغاشم، حيث كان أول المبادرين على مستوى العالم العربي والإسلامي في استنكار ذلك الغزو يوم 2-8-1990م ، بصدور بيان مكتب الإرشاد العام للإخوان المسلمين الذي أدان الغزو وطالب بالتصدي له.

وقد اطلعت على ذلك البيان من خلال الفاكس الذي وصل إلى الأخ عبدالله علي المطوع بالأردن من الإخوان بمصر، وذلك في نفس يوم الغزو مساء، وذلك قبل أن يصدر أي رد فعل من أي مسؤول أو حكومة أو منظمة على مستوى العالم العربي والإسلامي

فكان هذا الموقف من مرشد الإخوان المسلمين ، الأستاذ محمد حامد أبو النصر يرحمه الله، من الصفحات البيضاء المشرقة التي يحاول خصوم الإسلام وأعداء الإخوان تشويهها، بالإعلام الكاذب، وبكتابات المرتزقة من المأجورين من حملة الأقلام الرخيصة، ذوي النفوس المريضة، والقلوب الحاقدة، الذين يعيشون على الملق والنفاق وترويج الإشاعات وتشويه صورة الإخوان.

وبعد أكثر من أسبوع من صدور هذا البيان، أصدر فضيلة المرشد العام محمد حامد أبو النصر بياناً آخر يوم 11-8-1990م ، حين بدأت بعض الدول الاستعمارية الكبرى بالتدخل والحشد العسكري للدخول في المنطقة، وطالب بالاكتفاء بالدول العربية والإسلامية، لتتولى جيوشها طرد المحتل من الكويت

وكان هذا رأي معظم علماء الأمة وقادتها وجماهيرها التي أبدت استعدادها للتطوع مع جيوش التحرير، ولكن الدول ذات المطامع والأهداف الاستعمارية فرضت سياستها بالتدخل العسكري بقوة السلاح، لتحقيق ما تريده من أهداف في منطقة الشرق الأوسط ، وقد بدت واضحة للعيان فيما بعد.

وكان أول بيان صدر عن الإخوان المسلمين هو في نفس يوم الغزو بتاريخ 2-8-1990م وبتوقيع الأستاذ محمد حامد أبو النصر المرشد العام للإخوان المسلمين ، وجاء فيه:

"فوجئنا بالغزو العسكري العراقي للكويت، فكان هذا عملاً مروعاً ومثيراً للدهشة، ومخيباً للآمال، ولا يغيب عن الذهن أن هذا الحدث الضخم يفتح أبواب شر خطيرة وكبيرة، ويؤثر على مجريات كفاح الشعوب الإسلامية في كل الأرجاء، خاصة في فلسطين المحتلة، ويخشى أن يستغله العدو الصهيوني لتحقيق مآربه.ونطالب دولة العراق بسحب قواتها من الكويت، وأن تمتنع عن التدخل في شؤونها"
كما جاء في البيان الثاني الصادر يوم 11-8-1990م ما نصه:
"إن جماعة الإخوان المسلمين لا تقر استخدام القوة في العلاقات بين الدول العربية، وهي تعارض كل تدخل عسكري من دولة عربية أو مسلمة ضد دولة أخرى، وتؤكد أن الخلافات بين الدول العربية والإسلامية، يجب أن تسوّى بالوسائل السلمية، وطبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية الغراء، التي تدين بها شعوب الأمة العربية الإسلامية، والتي هي النبراس الذي تهتدي به، والدستور الذي تخضع له عن طواعية ورضا نفس، ثم طبقاً لأحكام ميثاق جامعة الدول العربية، والقانون الدولي، وغير ذلك من المواثيق والقوانين التي تنظم العلاقات بين الدول في الكيان الدولي.
وإن جماعة الإخوان المسلمين تستنكر وتعارض بكل قوة، التدخل الأمريكي ووجود القوة العسكرية الأمريكية أو غيرها من القوات الأجنبية في منطقة النزاع، وتطالب بانسحابها على الفور، فوجودها أمر مرفوض على جميع المستويات، وبكل المقاييس، ومن شأنه أن يعيد عصور الحماية والاحتلال السافرين للمنطقة".

وجاء في رسالة نائب المرشد العام الأستاذ مصطفي مشهور رحمه الله إلى المؤتمر الشعبي لأهل الكويت المنعقد في جدة في 27-10-1990م:

"إن الإخوان المسلمين من أعرف الناس بدولة الكويت وشعبها المتدين المعطاء، ويقدرون أكثر من غيرهم الدور العظيم الذي قامت به الهيئات والجمعيات الخيرية في الكويت، مناصرة لإخوانهم في فلسطين ولبنان وأفغانستان وكثير من دول إفريقيا وآسيا، ولن يضيع أجر ذلك أبداً.. ولهذا كان الإخوان المسلمون أشد الناس ألماً وتأثراً إزاء عدوان العراق على الكويت، فأصدروا بيانهم في اليوم الذي وقع فيه العدوان، يدينون الاعتداء، ويطالبون بضرورة الانسحاب، والحفاظ على كيان ووجود الكويت".

كما أن المستشار محمد المأمون الهضيبي الناطق الرسمي باسم الإخوان المسلمين صرح عبر وسائل الإعلام وشبكة التلفزيون الأمريكي CNN يوم 16-1-1991م:

"إن موقفنا من أزمة الخليج تحدد في البيان الصادر صباح يوم الغزو، الذي عارضنا من خلاله الغزو العراقي، وقلنا إنه عدوان لا مبرر له من الدين أو العقل أو المصلحة، وحذرنا من النتائج السيئة التي ستترتب عليه كعمل عدواني ظالم، وطالبنا بانسحاب العراق من الكويت، وترك الكويت لأهلها، يتصرفون في شؤونهم كأي شعب حر يتصرف في بلده، كما طالبنا الدول العربية ورؤساءها أن يتصرفوا لمنع هذا العدوان، ومنع التدخل الأجنبي".

وحين طلب السفير العراقي بمصر زيارة المرشد العام محمد حامد أبو النصر صباح الخميس 16-8-1990م، طالبه المرشد العام بضرورة انسحاب العراق من الكويت ، وعودة الحكومة الشرعية، حسبما جاء في بيان الإخوان المسلمين الأول بتاريخ 2-8-1990م ، وأن الإخوان ينتظرون أن يخطو العراق الخطوة نفسها التي اتخذها مع إيران، فيسحب قواته من الكويت، ومن حدود المملكة العربية السعودية.

وحين زار الدكتور عبدالرحمن العوضي وزير الدولة الكويتي برفقة سفير الكويت بمصر فضيلة المرشد العام يوم 25-8-1990م، أشاد الوزير الكويتي بوضوح وسلامة موقف جماعة الإخوان المسلمين ، حسبما تضمنته البيانات والتصريحات التي صدرت عنها، واقترح معاليه مضاعفة الجهد الشعبي والجماهيري لحمل العراق على سحب قواته العسكرية من الكويت

وقد أكد الأستاذ محمد حامد أبو النصر، المرشد العام للإخوان المسلمين، ثبات الجماعة على ما جاء في بياناتها السابقة، من إدانة الغزو العراقي للكويت الشقيق، ما أتاح فرصة التدخل الأجنبي في المنطقة، ومطالبة الجماعة بضرورة انسحاب القوات العراقية من الكويت ، وضرورة انسحاب القوات الأجنبية من المنطقة، والدعوة إلى تضافر الحكومات الإسلامية عامة، والعربية منها خاصة، لتشكيل قوة مستقلة لتسهيل انسحاب القوات العراقية من الكويت، والقوات الأجنبية من المنطقة.

قالوا عنه

يقول الأستاذ عبد الله الطنطاوي:

"كان من مهمات الإمام الشهيد حسن البنا رضي الله عنه وأرضاه تربية جيل من القادة العظام، وتكوين شخصياتهم تكويناً يهيئهم لحمل أثقل المسؤوليات في سائر الظروف، خاصة أيام المحن، فقد كان يعرف أن طريق الدعوة هو طريق مزروع بالألغام والأشواك من أقلها، محفوف بالمخاطر والابتلاءات.. وحتى لا يحدث فراغ في مؤسسة القيادة، وكان ما توقّعه الإمام
فقد ذهب شهيداً إلى ربه، فخلفه القائد الصلب الإمام حسن الهضيبي، ثم جاء المرشد العملاق الثالث الأستاذ عمر التلمساني ، ثم جاء المرشد الرابع، الأستاذ محمد حامد أبو النصر، وكان من أولئك الرجال الأفذاذ الذين صحبوا الإمام الشهيد ، وتربّوا على يديه المتوضئتين بنور الإيمان والعزيمة، والشموخ والصمود في وجه الأعاصير.
والأستاذ المرشد الشيخ أبوالنصر كان يدّخره القدر لمتابعة المسيرة المستنيرة التي استأنفها سلفه الأستاذ عمر التلمساني، فسار على نهجه، واستطاع بتوفيق الله ثم بجهود الفريق المتميز من الرجال الذين كانوا يحيطون به، ويعملون معه تحقيق الكثير في زمن قياسي، في سائر الميادين التي قاد الإخوان فيها، فكان لتربيته الإيمانية، والأدبية، والسياسية التي نشأ عليها في بيت عز، وأدب، ودين، وسياسة، وكرم، ولعقله الراجح، وتماهيه مع إخوانه ودعوته
ولما تميز به من رجولة وشموخ وما ينبثق عنهما من شجاعة ومروءة ونخوة، ومن ثقة بدعوته وإخوانه، وتضحية نشأ في أكنافها، فهو حفيد جدّه العالم الأزهري الثائر الذي قُتل مسموماً، لكل ذلك، وغير ذلك، وثق به قادة الإخوان وقواعدهم، ليس في مصر وحدها، بل في كل مكان فيه تنظيم إخواني
وقاد السفينة الربانية إلى شاطئ الأمان، بعد أن عصف بها طغيان الطغاة، من لدن حسين سري ، والنقراشي، وإبراهيم عبدالهادي، إلى أطغى الطغاة العبد الخاسر.... أمضى زهرة شبابه في السجن، عشرين سنة في سجون العبد الخاسر، وقبلها، وهو صلب لا يلين، ولا يستجيب لإغراءات الطغاة مهما علت، ولا يهاب تهديداتهم ومحاكماتهم، وسياطهم.. إنه الرجل، وهم الأقزام بين يديه".

وفاته

في فجر يوم السبت 29 شعبان 1416ه 20-1-1996م، توفي السيد محمد حامد أبو النصر، المرشد العام الرابع للإخوان المسلمين ، عن عمر يناهز الثالثة والثمانين عاماً، ودُفن في مقابر القطامية بمدينة نصر بالقاهرة، بجوار رفيق دربه الأستاذ عمر التلمساني، حيث شيِّع في جنازة مهيبة، شارك فيها عشرات الآلاف، رغم الحصار الأمني المكثف، والإجراءات الأمنية المشددة. رحم الله أستاذنا الجليل، وأسكنه فسيح جناته، مع الصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيق  

مصطفي مشهور

النشأة

ولد الأستاذ مصطفي مشهور في الخامس عشر من شهر أيلول (سبتمبر) عام 1921، في قرية السعديين التابعة لمحافظة الشرقية بمصر، من أسرة دينية كريمة، معروفة بتدينها، وفضلها، وكرمها، وانتمائها العربي الأصيل، واعتزازها بإسلامها.

دخل الكتاب وهو صغير، ليحفظ ما يمكنه حفظه من القرآن الكريم ، كعادة أهل الريف في مصر ، وفي سائر البلاد العربية، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية في القرية، وأكمل دراسته الثانوية بالقاهرة ، ثم التحق بكلية العلوم التابعة لجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن) وتخرج فيها عام 1942 حاملاً شهادة البكالوريوس في العلوم، وكان متفوقاً في دراسته، وبسبب تفوقه هذا نال مكافأة من الجامعة. وبعد تخرجه في كلية العلوم، عمل بوظيفة(متنبئ جوي) في مصلحة الأرصاد الجوية.

في جماعة الإخوان المسلمين

نشأ الشيخ مصطفى نشأة دينية في بيئة تعلي من قدر الدين والمتدينين، وصاحبه تدينه هذا إلى حيث ذهب ويذهب إلى (الزقازيق) وإلى القاهرة ، وسواها، كان يرتاد المساجد يصلي فيها ويستمع إلى ما يلقى من دروس ومواعظ وبيده مصحفه، يتلو كل يوم ما يشاء الله له من آياته البينات، وذات يوم .

وفيما كان يقرأ القرآن في مسجد الحي الذي يقيم فيه، تعرف إلى شاب متدين يكبره بفرق سنتين، وكان ذلك الشاب من الجماعة ، ولم يتعب الشاب في إقناع الفتى مصطفى ابن الخمسة عشر خريفاً، بدعوة الإخوان ، فقد صحبه إلى شعبة الحي، ثم إلى المركز العام ليستمع إلى محاضرة لمرشد الإخوان ، الأستاذ حسن البنا.

فاستمع الفتى في انبهار إلى المحاضر الذي يقطر الشهد من لسانه العف بتقاطر الكلمات المحملة بالحكمة والموعظة الحسنة، وهكذا صار الفتى مصطفى عضواً في جماعة الإخوان المسلمين عام 1936 ومنذئذ التحم كيانه كله في جسم الجماعة ، فما فارقها لحظة واحدة في عسر ولا في يسر، وحيا فيها بجسمه وروحه، عاش سراءها وضراءها

وكانت روحه تحلق في أجوائها وهو يمشي على قدميه في أحياء القاهرة وأريافها، وفي الصعيد و المدارس يدعو إلى الله، فقد كان كتلة من حيوية ونشاط، لفت إليه أنظار القائمين على (الجهاز الخاص) فوضعوا عيونهم عليه، وراقبوه واختبروه ثم لم يلبثوا إلا قليلاً ليضموه إليهم، وليكون من أنشط أعضاء الجهاز سرية وانضباطاً، وتنفيذاً لما يطلب منه تنفيذه.

الجهاز الخاص

وهو الذي يسموه الجهاز السري لما كان يكتنفه من سرية مطلقة أنشأة الأستاذ المرشد عام 1940 من خيرة شباب الإخوان ديناً، وأخلاقاً وإخلاصاً لفكرة الجهاد، وكان الهدف من إنشائه، تدريب الشباب تدريباً قتالياً عالياً، من أجل تحرير مصر من الاستعمار الإنجليزي، و تحرير فلسطين من الإنجليز الذي يستعمرونها ويتآمرون مع اليهود لإنشاء وطن لهم فيها وإقامة دولتهم على أرضها.

وقد خاض رجالها معارك هائلة في مصر ضد الإنجليز في القنال خاصة وحيث وجد للإنجليز منشآت في بعض مدنها، كما خاضوا معارك باسلة في فلسطين ، وأبلوا أحسن البلاء، ولو لا تآمر المتآمرين على فلسطين وعلى المجاهدين ، لكان لأبناء هذا الجهاز الحيوي دور هائل في إحباط ما يفكر به للإنجليز و اليهود وعملائهم

ولكن المؤامرة كانت لئيمة وخسيسة، وكانت أكبر من أولئك الرجال الذين قدموا أرواحهم ودماءهم فداءلفلسطين و القدس و الأقصى وكانوا ينفقون - أي شباب النظام الخاص - على تنظيمهم السري هذا من جيوبهم الخاصة، وكان مفتي فلسطين الحاج محمد أمين الحسيني رئيس الهيئة العربية العليا في فلسطين ، يقدم لهم بعض المال ليشتروا به السلاح.

وكان الشاب مصطفي مشهور واحداً من رجال ذلك النظام أو التنظيم ، يأتمر بأوامر مسؤوليه، ويطيعهم في المنشط والمكره.

قضية سيارة الجيب

لعل أول تجربة قاسية يمر بها الشاب مصطفى ما أطلق عليه (سيارة الجيب) عام 1948 تلك التي استغرقت جلساتها تسعاً وثمانين جلسة (من عام 19481951) وتحكي وقائع المحاكمة أن الأستاذ مصطفي مشهور لم يتبرأ مما اتهم به، ولم يطلب العفو من المحكمة، بل إنه أبى أن يطعن في إجراءات الاعتقال لأنه كان على يقين بأنه محق فيما فعل، وإن اعتقلوه وحاكموه وحكموا عليه بالسجن ثلاث سنوات بسببه.

والطريف في الأمر، أن رئيس المحكمة المستشار أحمد كامل بك وكيل محكمة استئناف القاهرة ذكر في حيثيات الحكم الذي نطقت به المحكمة التي كان يرأسها ما يلي:

"وحيث إنه سبق للمحكمة أن استظهرت كيفية نشأة جماعة الإخوان المسلمين ، ومسارعة فريق كبير من الشباب إلى الالتحاق بها، والسير على المبادئ التي رسمها منشؤها والتي ترمي إلى تطهير النفوس مما علق أو عساه أن يعلق بها من شوائب، وإنشاء جيل جديد من أفراد مثقفين ثقافة رياضية عالية، مشربة قلوبهم بحب وطنهم، و التضحية في سبيله بالنفس والمال
وقد كان لا بد لمؤسسي هذه الجماعة لكي يصلوا إلى أغراضهم أن يعرضوا أمام الشباب مثلاً أعلى يحتذونه وقد وجدوا هذا المثل في الدين الإسلامي وقواعده التي رسمها القرآن الكريم والتي تصلح لكل زمان و مكان فأثاروا بهذا المثل العواطف التي كانت قد خبت في النفوس وقضوا على الضعف والاستكانة والتردد وهي الأمور التي تلازم – عادة – أفراد شعب محتل مغلوب على أمره، وقام هذا النفر من الشباب ، يدعو إلى التمسك بقواعد الدين ، والسير على تعاليمه، و إحياء أصوله سواء أكان ذلك متصلاً بالعبادات و الروحانيات، أم بأحكام الدنيا.
(ولما وجدوا أن العقبة الوحيدة في سبيل إحياء الوعي القومي في هذه الأمة ، هو جيش الاحتلال – الإنجليزي – الذي ظل في هذا البلد قرابة سبعين عاماً، تخللتها طائفة من الوعود بالجلاء .. كما كان بين المحتل وبين فريق من الوطنيين الذين ولوا أمر هذا البلد مباحثات و مفاوضات على أقرائها الأمور، ليخلص الوادي (مصر) لأهله، ولم تنته المفاوضات والمجادلات الكلامية إلى نتيجة طيبة، ثم جاءت مشكلة فلسطين وما صاحبها من ظروف و ملابسات)
إلى آخر هذه الحيثيات التي قدمها رئيس المحكمة قبل النطق بالحكم على الشاب مصطفي مشهور مع 27 عضواً من إخوانه البررة في حين حكمت عليه المحكمة الثورية بالسجن عشر سنوات مع الأشغال الشاقة، خلال ثلاثة دقائق فقط، يا للعجب والتفاهة!!

ومن الطريف أن نذكر أن رئيس المحكمة الأستاذ المستشار كان مقدراً لهؤلاء الشباب الذين يحاكمهم، وأعجب بجراءتهم وإخلاصهم، وتفانيهم في سبيل دعوتهم ، الأمر الذي جعله يستقيل من القضاء وينضم إلى جماعة الإخوان المسلمين ويؤلف كتاباً وينشر ويقول: (كنت أحاكم.. و أصبحت منهم) دعا فيه الشيوخ و الشباب إلى الالتحاق بتنظيم الإخوان الذي أفرز هؤلاء الرجال الذين أقنعوا قاضيهم بحقهم، وبأصالة ما يدعون إليه.

الاعتقال الثاني

كان هذا الاعتقال بعد حادث المنشية المفتعل والمفبرك بين جمال عبد الناصر وبين المخابرات الأمريكية وبتدبير منهما. وبالرغم أن الشاب مصطفي مشهور حينها (1954) كان موظفاً في (مرسي مطروح) أي كان بعيداً عن مسرح الحادث ، وعن القاهرة ، فقد اعتقلوه من مقر عمله، وساقوه إلى السجن الحربي ، سيء الذكر هو ومديره الهالك حمزة البسيوني وضباطه وجلادوه وجلاوزته

وتعرض الشاب مصطفى لأقسى أنواع التعذيب وهو صابر محتسب، لا يسمع الجلادون منه سوى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ثم عرض على محكمة الثورة ، لتحكم عليه بالسجن عشر سنوات مع الأشغال الشاقة، وقد استغرقت هذه المحاكمة المهزلة ثلاث دقائق، كما تقدم.

ثم نقل إلى سجن (ليمان طره) ليلقى و إخوانه الآلام من مدير السجن وجلاديه، ثم نقل إلى معتقل (الواحات الخارجية) وهو عبارة عن خيام مفتوحة في الليل والنهار وفي الصيف والشتاء القارس، ومحاطة بالحراس الغلاظ، وبالأسلاك الشائكة. أمضى الشيخ مصطفى مدة السجن وخرج من المعتقل في تشرين الثاني (1964م).

الاعتقال الثالث

وفي تموز 1965 فوجئ الناس بقرار جديد من جمال عبد الناصر يقضي بإعادة اعتقال كل من كان معتقلاً سابقاً وأفرج عنه، وجاءت عناصر المخابرات لتعتقل مصطفي مشهور ولم يمض على الإفراج سوى بضعة أشهر.

وكان نصيب الرجل من التعذيب شديداً وهو صابر محتسب، ويدعو إخوانه إلى الصبر و الثبات على هذه المحنة التي جاءتهم من موسكو، حيث كان عبد الناصر يزور قبر لينين، ويعلن عن كشف مؤامرة لقلب نظام حكمه بقيادة سيد قطب .. وبقي في السجن حتى هلك عبد الناصر ، وجاء السادات وأمر بالإفراج عن الإخوان المعتقلين من أوائل السبعينات (1971) .. وهكذا أمضى الشاب الكهل الشيخ مصطفي مشهور ست عشرة سنة في معتقلات الطواغيت.

استئناف العمل

ما كاد الشيخ مصطفى يخرج من السجن ، حتى بادر إلى الاتصال بالجماعة ، ليعيد التنظيم إلى سابق عهده بالحياة والحيوية والنشاط، غير عابئ بما قد يصيبه في سبيل الدعوة التي سكنت قلبه وعقله. وعندما بويع الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله تعالى مرشداً ثالثاً للجماعة ، كان الشيخ مصطفى من أقوى أعوانه، وكان يعمل مع لفيف من الإخوان الكرام لتأسيس التنظيم وتثبيت أركانه عبر مؤسسات تصمد في وجه الأعاصير.

وقد التقيته أول مرة في شباط (1977) في مجلة الدعوة، مع الأستاذ المرشد والأستاذ الشهيد كمال السنانيري رحمه الله رحمة واسعة، وقد لاحظت حضور الأستاذ مصطفى في مناقشة الأمر الذي سافرت إلى القاهرة من أجله، وعندما شكوت الدكتور الملط – رحمه الله – دافع الشيخ مصطفى عن تصرفه، وقال لي: سامحونا إذا وجدتم منا مالا يرضيكم، فظروفنا قاسية، وأمن الأستاذ المرشد على كلامه، وقال الأستاذ السنانيري: هل ترضى أن أكون أنا العبد الفقير وسيطاً بينكم وبين فضيلة الأستاذ المرشد ؟

وبعد الانتهاء مما نحن فيه، استأذنت بالانصراف، فهب الشيخ مصطفى نحوي، واعتذر لي وهو الكبير وأنا التلميذ الصغير في هذه المدرسة الربانية ، وعانقني وقال: ادعوا لنا أيها الإخوان السوريون فأنتم مظلومون، ودعواتكم مجابة إن شاء الله تعالى.

سائح في سبيل الدعوة

غادر الشيخ مصطفي مشهور القاهرة إلى الكويت في أيلول (1981)، وبعد مقتل السادات، التقيته مع بعض أعضاء مكتب الإرشاد ، وسمعته يقول: (ليس لنا أي دور في مقتل السادات ، فنحن كما قال المرشد الثاني رحمه الله: دعاة لا قضاة، ونحن لم نستعمل القوة و العنف في حياتنا، وسبيلنا إلى الناس دعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ومع ذلك، اعتقلوا منا بضعة آلاف، ونريد رأيك في التصرف المناسب بناء على تجربتك في سورية).

قلت للأستاذ الفاضل ولمن معه من أساتذتي في مكتب الإرشاد: (اصبروا وصابروا، ولا تتورطوا في الصراع مع النظام، مهما كانت الاعتقالات والمضايقات، وسوف يعرف النظام المصري أنكم برءاء من دم السادات ، وسوف يخرج شبابكم من المعتقلات بإذن الله ويستأنفون العمل وبقوة و إخلاص إن شاء الله). وبعد حوار ونقاش استقر الرأي على التهدئة و الابتعاد عن سائر أساليب الاستفزاز والتصعيد، وكذلك كان.

ثم سافر الأستاذ إلى ألمانيا، واستقر فيها خمس سنوات كانت عملاً دائباً في التخطيط للجماعة بروح متفائلة، وعقل متفتح ونشاط يشد به الهدوء. وقد التقيته في مدينة فرانكفورت عام (1986)، وكان مع بعض أعضاء مكتب الإرشاد ، وشرحت لهم ما سمي حينها بالمسألة السورية

وفيما كنت أشرح لهم ما كلفت بشرحه، قاطعني أحد أعضاء مكتب الإرشاد بحدة وفاجأني فأسكتني، ولكن أخاً كريماً انبرى لذلك العضو وكان مما قاله له: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم)، و الأخ عبد الله يشرح بأدب إخواني، ولا يجوز لك مقاطعته، وقال بحنان: (تكلم يا أخي، قل كل ما في نفسك، ونحن مصغون لك).

قلت بحزن: لو كنت أعلم أن حضوري وحديثي يزعجان أحداً منكم ما حضرت ولا تحدثت، ولكن الأمر خطير، ونحن مقدمون على انشقاق لا سمح الله، ولذلك حضرت .

قال الشيخ مصطفى: تفضل نحن نستمع إليك.

قلت: الآن مستحيل، فقد فوجئت وذهلت من موقف رجل كنت و إخواني نقرأ كتبه، ونستفيد منه.

ثم استأذنت ونهضت، فنهض معي الأستاذ الكبير مشهور وجاءوا لاسترضائي وأن أبقى معهم في الشقة. فاعتذرت وخرجت، ثم كان لقاء اليوم التالي مع الشيخ مصطفى الذي استقبلني بهدوء وحنان وعانقني واعتذر مما حصل في اليوم السابق.

لقد بدا لي الشيخ مصطفى ذا رأي حصيف وحازم، ليستمع ويستمع ويستمع ولا يقاطع، ويتكلم بهدوء، وبلسان عفيف، يشاور ويحاور وينصت، ويجادل بالحسنى ومن الصعوبة بمكان أن يتنازل عن رأيه بسهولة. وفي ألمانيا استطاع و إخوانه أن يرسوا دعائم التنظيم الدولي (التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين فيما بعد) .. كان حركة دائبة، حتى يحس به من يراه أنه المرشد ، وأنه هو صاحب الكلمة الفصل في الشئون الإستراتيجية.

العودة إلى الوطن

وبعد وفاة المرشد الأستاذ التلمساني – رحمه الله تعالى – وبتسوية ما مع المسؤولين في مصر ، قادها الأستاذ الكبير صلاح شادي ، تغمده الله بفيض رحماته ورضوانه، عاد الشيخ مصطفى إلى القاهرة عام (1986)، وتسلم منصب نائب المرشد العام (كان المرشد الأستاذ محمد حامد أبو النصر – رحمه الله تعالى – وكان الساعد الأيمن والأيسر في ميدان الدعوة ، ومعه ثلة طيبة من إخوانه أعضاء مكتب الإرشاد، بل إن بعض المراقبين والمطلعين يعتقدون أنه كان القائد الفعلي للجماعة منذ رحيل المرشد حسن الهضيبي رحمه الله رحمة واسعة عام (1973) وحتى وفاته أي طوال ثلاثة عقود.

وفي الأيام الأخيرة من حياة المرشد الأستاذ أبي النصر الذي كان يرقد على فراش المرض الشديد عرف الإخوان أن مرشدهم يرحل عن هذه الحياة الفانية، فاستبقوا الموت ، وانتخبوا الشيخ مصطفي مشهور مرشداً للجماعة ، حال وفاة المرشد أبي النصر ، وتكتموا على هذا الأمر، إلى ما بعد وفاة المرشد ودفنه في شباط فبراير 1996

عندها أعلن المستشار محمد المأمون الهضيبي نبأ انتخاب الأستاذ مشهور ليكون خير خلف لخير سلف، فتقدم الأخ الأستاذ لاشين أبو شنب وبايع المرشد الجديد، وطلب من الإخوان أن يتقدموا ويبايعوه، فتقدم عدد كبير من الإخوان وبايعوا الأستاذ مصطفي مشهور مرشداً للجماعة لمدة ست سنوات ، ثم جدد انتخابه مرة ثانية في شباط 2002 لمدة ست سنوات أخرى، حسب أنظمة الجماعة .

مشهور مرشداً أو قائداً

كان الشيخ مصطفى يحمل أعباء المرشد ومكتب الإرشاد قبل أن يصبح هو المرشد ، فقد كان المرشد الفعلي أيام سلفيه الشيخ أبي النصر والشيخ عمر التلمساني، وكان يتحمل المسؤولية كاملة عن تلك الفترة، وخاصة بعد أن غادر مصر إلى الكويت فألمانيا، ثم بعد تسوية وضعه، وعودته إلى بلاده.

وعندما تسلم منصب الإرشاد ، تابع مخططه الذي رسمه للجماعة مع أعضاء مكتب الإرشاد، وعمل بجد واجتهاد لتنفيذه، وقد لجأ إلى التحالفات السياسية مع بعض الأحزاب وخاضت الجماعة الانتخابات البرلمانية والنقابية، وحققت نجاحات رائعة. لقد اتسم عهده بالعقلانية المفرطة في ابتعاده عن أي صدام مع الدولة، مهما بلغت تجاوزات الحكومة والأجهزة الأمنية، وعده بعض المفكرين السياسيين والإعلاميين كالدكتور عبد الوهاب الأفندي، أفضل عهود الحركة، فلم تعد الإخوان حركة هامشية على الساحة السياسية

ولم تدخل في مواجهة شاملة مع الدولة ، ولم تتعرض قياداتها للقتل و الإعدام والتشريد و السجن ، فقد كان دائماً يرفض الاستدراج إلى المواجهة الشاملة.إنه سياسي محنك، و داعية حكيم يضبط نفسه و نفوس إخوانه، مع أنه كان في خط المواجهة الأول، منافحاً عن مبادئه و جماعته باليد واللسان والقلم .

لم تشغله السياسية عن الدعوة و التربية ، كما لم تبعده الدعوة و التربية عن العمل السياسي ، فقد كان يكتب في هذه المجالات كلها، ويصول ويجول في ميادينها بحنكة تدل على تجاربه العميقة في هذه المجالات التي كان يوازن بينها، بحيث لا تغطي إحداها على الأخريات وإن كان العمل التربوي هو المقدم عنده، لأنه أمضى سنوات مديدة مع طلبة الجامعات ، يربيهم ويغرس غراس الإيمان والتضحية والبذل في نفوسهم، ليكونوا مؤهلين لتسلم العمل المناسب لكل منهم، وليكونوا قادة المستقبل وحملة الراية من بعد.

كان يعتبر تغليب العمل السياسي على العمل الدعوي و التربوي انحرافاً عن مسار الجماعة نحو أهدافها وغاياتها، مع أن العمل الدؤوب لإقامة الدولة التي تحكم بما أنزل الله ، لم يغب عن باله قط. ويرى الدكتور الأفندي أن الجماعة في عهده صارت المعارضة الأولى في البرلمان المصري وقد حققت صموداً عجيباً، بل حققت معجزة الانتصار على محاولات الإفناء والتغييب، ولم تكتف الحركة بالمحافظة على بقائها في ظروف صعبة تمثلت في عداء نشط من قبل الأجهزة و الدولة ، ومن المناخ العالمي، بل تفوقت كذلك على كل منافسيها، بحيث أصبحت الحركة السياسية الأولى في البلاد.

والذي يقرأ كتاباته في كتبه وفي الصحافة ، يعرف أي جراءة في الحق كانت تعتمل في نفس الرجل ، فتتفجر على سنان قلمه، فيكتب ما يكتب في نصاعة بيان، ووضح ، بلا جلجلة ولا غموض. والذي يطالع رسالته التي بعث بها إلى الرئيس الأمريكي بوش الابن، بعيد انتخابه، يعرف أي رجل هذا الشيخ رأيته آخر مرة عام 1988 وهو يمشي على قدميه فوق أحد الكباري الضخمة في القاهرة ، وكان غاصاً بالسيارات وبشمس القاهرة المحرقة، إنه قائد ولديه الكثير من مقومات القيادة الرصينة الزاهدة معاً.

الحق يقال: إن الشيخ مصطفي مشهور صاحب مدرسة فكرية و سياسية و دعوة تحتاج إلى دراسة دقيقة لاستخلاص أطرها وعناصرها ومقوماتها وما فيها من دروس وعبر، وهذا ما سوف أنهض به إن شاء الله تعالى إن فسح الله في العمر ووهب الصحة والفراغ ولكنني أدعو إخوانه وأولاده وتلاميذه الأقربين، وطلاب الدراسات العليا، أن يسعوا إلى جمع آثاره، فمقالاته منثورة في عدد من الصحف والمجلات التي قد لا تصل إليها أيدينا هنا خارج مصر .. هذه أمانة نضعها في أعناق محبيه ومحبي دعوته وأبناء جماعته.

الرحيل

دخلت عليه ابنته في غرفته قبيل العصر فرأته مرتمياً على الأرض في غيبوبة ما لبث أن أفاق منها، وقام ليتوضأ، رجته ابنته أن يشفق على نفسه ويصلي العصر في البيت، فأبى وخرج إلى المسجد ، وبعد صلاة العصر أصيب بجلطة دماغية ألقته أرضاً

ليدخل في غيبوبة استمرت سبعة عشر يوماً، منذ التاسع والعشرين من تشرين الأول، وحتى وفاته في الساعة السادسة مساء الخميس التاسع من رمضان المبارك 1423هـ الرابع عشر من تشرين الثاني 2002م. شيع جثمانه الطاهر عقب صلاة الجمعة (15/11/2002) من مسجد السيدة رابعة العدوية بمدينة نصر في القاهرة .

صلت عليه جموع غفيرة، أمهم المستشار الشيخ محمد المأمون الهضيبي ، ثم حمل جثمانه في صندوق خشبي متواضع وضع في سيارة ميكرو باص، وسار خلفه المشيعون، وكانوا مئات الآلا ف وصل تقرير بعضهم إلى نصف مليون، وقال آخرون: كانوا مليوناً يسيرون في موكب مهيب، يبكون في صمت وحزن وخشوع. وشارك في التشييع عدد من رؤساء الأحزاب المصرية، وأساتذة الجامعات ، والعلماء ، والشخصيات الاعتبارية، وأعضاء مكتب الإرشاد، ونواب الإخوان في البرلمان ، وكان حضور الصحافة العالمية كبيراً.

وكان شباب الإخوان يرفعون المصاحف إلى الأعلى من حين خروج الجنازة من المسجد إلى أن ووري في مثواه الأخير، وفي مقابر (الوفاء والأمل) التي تضم جثماني المرشدين السابقين التلمساني وأبي النصر ، رحمهم الله رحمة واسعة، وقد استغرقت الجنازة مدة ساعتين من المسجد حتى القبر. وألقى المستشار الهضيبي كلمة وداع ووفاء على قبر الفقيد الغالي.

وفي المساء تقبل الإخوان العزاء الذي حضره عشرات الآلاف، تحدث الأستاذ مأمون الهضيبي عن مسيرة المرشد الفقيد في ميادين للعمل الدعوي طوال خمسة وستين عاماً، تحدث عن نضاله وعن فترات السجن الطويلة، وما لقي فيها من ألوان العذاب، كما تحدث عن جهوده في إعادة الجماعة إلى الحياة المصرية، وتعاونه مع الأستاذ عمر التلمساني في سبيل ذلك.

حضرت العزاء شخصيات سياسية وفكرية مرموقة ومعروفة، مصرية وعربية، وكان الحضور (الناصري) كثيفاً ولافتاً للأنظار، ونعى رئيس الحزب الناصري الأستاذ (حامد محمود)، المرشد الفقيد بقوله: (رحم الله مرشدنا) وأضاف: (يدرك الحزب الناصري أهمية حركة الإخوان المسلمين في العمل الوطني، وإذا كان الشيخ مصطفي مشهور قد فارقنا، فإن إخوانه يحملون الراية).

أصداء وفاته

نعت الصحف المصرية والأردنية والفلسطينية واللبنانية واليمنية والسودانية وسواها، وكثير من الأحزاب والهيئات الفكرية والاجتماعية، المرشد الفقيد، ورثاه العالم الجليل الشيخ حامد البيتاوي ، خطيب المسجد الأقصى ، ورئيس رابطة علماء فلسطين

وكان مما قاله:

"ها هي مصر ، أرض الكنانة، بل الأمة الإسلامية ، فقدت علماً من أعلام المسلمين في هذه العصر، فقدت قائداً من قادة الفكر والدعوة والسياسة.. إنه رجل حمل هموم المسلمين و راية الدعوة الإسلامية ، منذ أكثر من ستين عاماً، وتربت على يديه، ومن خلال كتاباته في فقه الدعوة ، أجيال من الدعاة

وهو خير من كتب في هذا الموضوع الذي تلقاه يافعاً، ومارسه شاباً، وعاشه واقعاً مع الإمام المؤسس: حسن البنا فترة من الزمان تقرب من عشر سنوات قبل أن يلقى البنا ربه شهيداً، فأفاد من ذلك كثيراً .. لقد عاش – مشهور – المسيرة الإسلامية فيما تعرضت له من ابتلاء وتمحيص صبر وثبت، وواصل السير على طريق الدعوة دون انحراف أو تبديل إلى أن لقي الله عز وجل في هذه الأيام المباركة، مرشداً لهذه الدعوة".

رحم الله فقيدنا الغالي، وأسكنه فصيح جناته، مع الأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

المستشار محمد المأمون الهضيبي

مقدمة

لقد رحل عنا المستشار المأمون الهضيبي وقلوبنا معلقة به للحب الذى كان يشمل به إخوانه، ولا نقول فى ذلك إلا ما يرضى ربنا: إنا لله وإنا اليه راجعون، وصدق الله العظيم إذ يقول:(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا "23" لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)"الأحزاب: 23-24".

النشأة والتكوين

ولد المستشار محمد المأمون حسن إسماعيل الهضيبى فى قرية الشواولة بمحافظة سوهاج بصعيد مصر فى 28 مايو 1924 م، حيث كان الأستاذ حسن الهضيبي –عليه رحمة الله- يعمل محاميا بمحافظة سوهاج فور تخرجه في كليه الحقوق، فولد له خلال فترة عمله بسوهاج أكبر أبنائه المستشار محمد المأمون

وكانت الأسرة أصلها من قرية عرب الصوالحة –مركز شبين القناطر– محافظة القليوبية ، وتنقلت أسرته فى أماكن متعددة حيث عمل والده قاضيًا بوزارة العدل المصرية، حتى استقال من منصبه القضائى ليتفرغ للدعوة عام 1951. وأصبح المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين في الفترة من 1951 حتى وفاته في الثالث عشر من نوفمبر عام 1973 م.

ويقول المستشار المأمون عن البيت الذى نشأ فيه:

".. البيت كان في غاية الانضباط.. ولكن في الوقت نفسه في غاية الرحمة والأدب والشورى.. وكان الأب يسمح لكل واحد أن يدلي برأيه، والأم كانت مثالاً للأدب والأخلاق وكان الوالد يحترمها احترامًا كبيرًا أورثنا أن نكون دائماً تحت أرجلها.. كانت العلاقة بينهما متينة جداً.
ولم تكن قد أكملت تعليمها رحمها الله.. فحصلت على التعليم الأولي، ولكنها أكملت تعليم نفسها بل تعلمت اللغة الفرنسية.. ووالدها يرحمه الله هو الشيخ محمد خطاب أحد علماء الأزهر.. لقد ارتقت بنفسها كثيراً.. كانت تتحدث الفرنسية.. وفي الوقت ذاته تقرأ القرطبي وابن حزم وكتب التفسير".

التحق المستشار المأمون الهضيبي بمراحل التعليم المختلفة حتى تخرج في كلية الحقوق جامعة الإسكندرية ، وكان ترتيبه العاشر على دفعته، وعين وكيلا للنيابة وتدرج فى سلمه الوظيفى فى القضاء حتى أصبح رئيسا لمحكمة استئناف القاهرة .

شارك المستشار المأمون فى أعمال المقاومة الشعبية خلال العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 م، وكان ذلك أثناء عمله مستشارًا لمحكمة غزة – حيث تولى محكمة غزة عام 1954 م، وقد نصحه أحد رجال المخابرات بعدم النزول للقاهرة حتى لا يعتقل، وكان له موقفه المشرف وقد اعتقله جيش الاحتلال الإسرائيلي حيث رفض الخضوع والخنوع للمحتل الصهيونى

بخلاف ما قام به الفريق الدجوى –وقع فى الأسر أيضا فكان يبكى كالأطفال- الذى أرشد المحتل على البنية التحتية للدولة والجيش وسب مصر وقادتها وقد علم عبد الناصر بذلك فكافأ المستشار الهضيبى باعتقال فى محنة 1965 م وكافأ الدجوى بأن ولاه رئاسة المحكمة التى حكمت على سيد قطب وإخوانه بالإعدام، وظل بالمعتقل حتى عام 1971 م حين أفرج عنه السادات بعد وفاة عبد الناصر. سافر للعمل بالسعودية وظل بها حتى عاد وتفرغ للعمل الدعوى داخل جماعة الإخوان المسلمين .

في قافلة الإخوان

ولد المستشار المأمون فى بيت ملىء بالإيمان، حيث اعتنى والده المستشار حسن الهضيبي بتربية أبنائه تربية إسلامية، والتحق المستشار المأمون بدعوة الإخوان بعد العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 م - حيث كان من المشاركين فى التصدى لهذا العدوان - وشارك أهله المحنة حتى كان أحد ضحاياها عام 1965 م فاعتقل وقد أقيل إثر ذلك من منصبه القضائي. وقدم إلى المحاكمة العسكرية وحكم عليه بالحبس ثلاث سنوات. وجدد اعتقاله .

وتم الإفراج عنه أول يوليو عام 1971 م. ويقول فى كيفية اعتقاله :

"حدث أمر جعل الأمن يشتبه في أنني أخفي شيئاً في بيتي والذي حدث هو أن زوجتي عندما علمت من الإذاعة بقضية الشهيد سيد قطب قامت بإخفاء كتبه التي كانت بمكتبتي أخفتها في حوش المنزل، في تلك الآونة كان الأمن يرصد البيت فاشتبهوا في أن "أسلحة" كان يتم إخفاؤها فداهموا البيت وفتشوه أكثر من مرة، وعسكروا في البيت أكثر من يوم فلم يجدوا إلا الكتب اقتادوني إلى إدارة المباحث ثم نقلوني إلى سجن أبي زعبل
وهناك مارسوا عملياتهم التي كانوا يمارسونها مع المعتقلين: التعليق.. الضرب والمحمصة وغيره ثم نقلوني إلى طرة ثم السجن الحربي حتى أنهوا التحقيقات، وأصدروا الحكم بالسجن ثم نقلوني مرة أخرى إلى سجن أبي زعبل حتى عام 1967 م، ثم نقلونا إلى سجن طرة ومكثنا به حتى مات جمال عبد الناصر ، وفي عهد السادات بدأت الإفراجات وخرجت مع الدفعات التي خرجت من طرة".

وبعد اعتقاله طلب منه تقديم استقالته من القضاء فقدمها مكرها، وبعد خروجه سافر الى السعودية للحج حيث التحق بالعمل في قسم الحقوق العامة وقسم الحقوق الخاصة بوزارة الداخلية السعودية ، والعمل فيهما عمل قضائي بحت وفيه جانب شرعي، ولم يكن له أية علاقة بأية إدارة أخرى بالوزارة.

وفى ذلك يقول المستشار المأمون الهضيبي:

"وظل هذا الوضع فترة طويلة حتى قضت محكمة النقض ببطلان الاستقالة وعودتي للعمل، وكانت درجتي قد وصلت إلى نائب رئيس محكمة استئناف، وبعد صدور الحكم عدت إلى مصر واستكملت عملي لفترة بسيطة، ولم تكن السلطات مرحبة بعملي في القاهرة فصدرت تعليمات بانتدابي إلى السعودية حيث عدت مرة أخرى إلى هناك حتى أوشك سني على بلوغ الستين وجاء دوري لأكون رئيس محكمة استئناف القاهرة .. وقبلها أصبحت خلال السفر في درجة رئيس محكمة استئناف الإسكندرية .
وصدر قرار جمهوري بالفعل من الرئيس مبارك بتعييني رئيساً لمحكمة استئناف القاهرة بناءً على قرار مجلس القضاء الأعلى، وعلى اعتبار أنني منتدب في الخارج، فقطعت سفري وعدت وتسلمت عملي لأيام ثم صدر قرار إحالتي للتقاعد.. لكن وزير العدل في ذلك الوقت أراد أن يعبر عن أحاسيسه
فحاول أن يكتب في قرار الإحالة بأنني رئيس محكمة استئناف الإسكندرية بدرجة رئيس محكمة استئناف القاهرة (استئناف القاهرة أعلى درجات محاكم الاستئناف) لكن عندما قدمت القرار الجمهوري اضطروا لتعديل البيانات، عدت مرة أخرى إلى السعودية لمواصلة عملي حتى زار الأستاذ عمر التلمساني مرشد الإخوان في ذلك الوقت السعودية للحج في منتصف الثمانينيات وقابلته وطلب مني النزول إلى القاهرة ".

خاض انتخابات مجلس الشعب عام 1987 م على قائمة حزب العمل وفاز بالمقعد فى دائرة الدقى وأصبح رئيسا للكتلة البرلمانية للإخوان داخل مجلس الشعب ، ولقد شهدت هذه الدورة نشاطا ملحوظا بسبب الاستجوابات التى تقدم بها الإخوان للمجلس، ولقد فاز الإخوان بما يقرب من 38 مقعدًا، ولقد ركز الإخوان على قضايا الحريات السياسية وما يمس مصلحة الشعب والشريعة. وفى يناير 1996 م نفى أن يكون الإخوان قد خططوا لإنشاء حزب لاستغلاله كواجهة، وكان ذلك فيما أثير من ضجة أثناء تشكيل حزب الوسط.

شغل منصب المتحدث الرسمى لجماعة الإخوان المسلمين فى فترة الأستاذ محمد حامد أبو النصر –المرشد الرابع للإخوان المسلمين والذى تولى من 19861996 م– ثم اختير نائبا للمرشد العام بعد وفاة الدكتور أحمد الملط فى يونيو 1995 م، وظل نائبا للمرشد العام الأستاذ مصطفي مشهور- والذى تولى من 1996 م – 2002 م

بالإضافة لكونه المتحدث الرسمى للجماعة ، وبعد وفاة الأستاذ مصطفي مشهور فى 14 نوفمبر 2002 م ، 10رمضان 1423هـ اختير المستشار الهضيبى لأن يكون مرشدًا للإخوان المسلمين فى مساء يوم الأربعاء 22 من رمضان 1423هـ الموافق 27 من نوفمبر 2002 م .

وللمستشار المأمون كتابات عدة منها: الإخوان المسلمون 60 قضية ساخنة الصادر عن دار التوزيع والنشر الإسلامية 1998 م يوضح فيه:

ما هو موقف الإخوان المسلمين من القوى والتيارات الإسلامية الموجودة على الساحة سواء تلك التى تتبنى العنف أم تلك التى لا تتبنى السياسة. وماذا عن تجربة النقابات المهنية؟ وماذا عن شعار (الإسلام هو الحل) ؟ وما هى رؤية الإخوان المسلمين حول الأقباط وقضايا العالم الإسلامى؟ وماذا عن الانشقاقات التى حدثت داخل الجماعة؟

المستشار بأقلام إخوانه ومحبيه

قال الأستاذ محمد هلال – عضو مكتب الإرشاد :

"قد كنت أوثر أن يكون هو الذى يرثينى ولا أرثيه، رأيت فيه الأب والأستاذ والمعلم، لقد كان يقوم على خدمة زوجته ويقول: أنا أولى بها.

وقال الأستاذ على متولي من إخوان الشرقية:

بالعلم بالقانون تدفع عن سنا الـ

إسـلام نـهجا فى هذى القرآن

وحـذوت مـنهج مرشدين أئمة

قـادوا الـمسيرة للهدى الربانى

هذا الهضيبى بعد مشهور سمت

أرواحـهـم لمنازل الرضوان

ويقول الأستاذ لاشين أبو شنب:

قد كان له رأى صائب فى أغلب الأحيان فى القضايا التى تنشأ نتيجة الصراعات الداخلية والخارجية فى المجتمع، وكان صاحب نظرة واعية متفحصة فى المشكلات السياسية.

وتحدث كثير من الإخوان عن مناقبه مما يحتاج لكتابات كثيرة.

مشهد مؤثر ووداع أخير

يوم 8 يناير 2004 م الموافق 16 ذو القعدة 1424هـ توفى مرشدنا دون سابقة مرض ولم يكن ذلك فى الحسبان ولكن لله ما أعطى ولله ما أخذ وكل شيء عنده بمقدار، عن عمر ناهز الثلاثة والثمانين عاما. وفى ساعات معدودة كان أكثر من 300 ألف مشيع قد تجمعوا لصلاة الجنازة على الفقيد بمسجد رابعة العدوية، وخرجت الحشود يتقدمهم رموز الإخوان إلى المثوى الأخير للمرشد الراحل والذى دفن فى عرب الصوالحة بشبين القناطر بناء على وصيته حيث دفن بجوار والده المستشار حسن الهضيبي .

وبذلك طويت إحدى صفحات أحد المجاهدين في دعوة الإخوان المسلمين ، والذى ظل حتى آخر لحظاته يعمل على نصرة الإسلام. وما نحن إلا نبت من نبات هذه الجماعة المباركة، والتى أخذت بأيدينا إلى معرفة طريق الحق، ونسأله سبحانه أن يثبتنا ويلحقنا بشهدائنا فى الفردوس الأعلى من الجنان... آمين.  

مهدي عاكف ورحلة عمر

تمر السنين تلو السنون والأيام تلو الأيام ويولد أناس ويموت أناس وكثير منهم من يولد ويعيش ويموت ولا يعرفه أحد ومنهم من يولد ويعيش فتعرفه كل أركان الأرض بأعماله الصالحة بل تذكره الملائكة في رياض الصالحين. ومهدي عاكف واحد ممن عاش طيلة حياته ومات ويتذكره الجميع بأعماله الخالدة وسنحاول في هذا المقال أن نتلمس ما لم يعرفه الناس عن الأستاذ محمد مهدي عاكف.

بداية الرحلة

في جو امتاز بصفاء الطبيعة وروعة الحياة وبساطة المعيشة وصدق المشاعر بين أبناء القرية نشأ محمد مهدي عاكف وسط أسرة متدينة حرص رب الأسرة على تربية أبناءه تربية إسلامية، فقد ولدت في يوم 12 يوليو من عام 1928م بقرية كفر عوض السنيطة مركز أجا محافظة الدقهلية، ويصف أسرته بقوله "ولدت في أسرية ثرية وهي أسرة عاكف حيث كان جدي عثمان عاكف الطبيب الخاص للخديوي وللسلطان غير أن الانجليز قتلوه في عام 1900م وكان والدي عمره سنتين"

ولننظر لوصف بيته وكيف كان في الصغر بقوله:

" كان بيتنا الكبير مملوءًا دائمًا بالخيرات وكان والدي محط احترام أهل القرية وإجلالهم، وما يكاد يخرج من البيت لعمله حتى تدب الحركة، ويعلو صياحنا -نحن الأطفال- حتى يملأ البيت، وتبدأ أمي الحبيبة تلك الملاك الجميل، الباسم الوجه، المشرقة، المحبة -يومها بعد صلاة الفجر بتجهيز طعام الإفطار الشهي، وإيقاظ النائمين، ثم تبدأ في أعمال البيت بكلِّ همة ونشاط. و أتاح لنا مرور الترعة من أمام البيت أن نتدرب على فنون صيد الأسماك فكنا نخرج بالساعات نقضيها على الترعة في صيد السمك، وكانت هذه المهنة لها عامل كبير في تعليمنا فنون الصبر والتريث".

لقد تشكلت مقومات شخصية عاكف على يد والده الذي حرص على تعليم أولاده معنى الرجولة الحقه وفنون الحياة العزيز والقوة وفنون الحوار مع العاقل والإعراض عن السفيه والجاهل، كما تعرف غض الطرف عن التفاهة والسفاهة .. والالتزام بما يرفع المقام والمكانة، فقد كان والده يعطيهم الفرصة لنعبر عن أرائهم بكل شجاعة دون الإخلال بالأدب في الحديث أو علو الصوت أو عدم احترام الكبير.

تخرج في مدرسة المنصورة الابتدائية وبعدها كانت رحلة في عالم كبير هو عالم المدينة الكبيرة. انتقل إخوته للدراسة في الجامعة فاتخذ والده قرار بانتقال الأسرة كلها لتكون لحمة واحدة غير متفرقة وقطنوا في حي السكاكيني والتحق بالفرقة الأولى الثانوية بمدرسة فؤاد الأول.

أول خطوة في جماعة الإخوان

في مدرسته وفي مسجدها كانت جموع الشباب تلتقي لتقف بين يدي ربها وبعدها تتلاقى القلوب لتتعارف وكان وسط هؤلاء من يرتفع مقامه وتلتف حوله القلوب ويستمع له الجميع ..انه واحد من طلاب الإخوان المسلمين- الذين حملوا هم دعوتهم فنشروا عبيرها وسط القلوب الطاهرة النضرة فتلقفها بعضهم وكان مهدي عاكف منهم

وقد حرص على المساهمة معهم في كل فنون الرياضة حيث كان يحرص على مباريات كرة القدم ولم تتوقف العلاقة على ذلك بل توسعت دائرة المعرفة فتعرف على الإخوان في السكاكيني أمثال أحمد السكري وأحمد عادل كمال وإبراهيم الطيب وذلك كان عام 1941م، والتقى بالأستاذ البنا بالمركز العام .

صراع النفس

انتقل عاكف وأسرته إلى شارع الملكة نازلى (رمسيس حاليا) وقت أن كان على مفترق الطرق حيث تخرج من التوجيهية وكان والده يسعى بكل قوته من إلحاقه بالكلية الحربية من اجل أن يبعده عن الإخوان المسلمين وتقدم ونجح في الكشف الطبي غير أنه رأى بعض السلوكيات الشائنة التي دفعته لسحب أوراقه وتقديمها في كلية الهندسة ولم يمانع والده لكن حدث ما لم يكن في الحسبان

حيث أنه كان قد انضم للنظام الخاص والتقى بالإمام البنا بعد فترة من انتقاله في السكن وتحدث الأستاذ البنا معه ومع غير أن الإخوان ليس لهم في معهد التربية الرياضية العالي أحد، فسمع الكلمة وتحدث مع صديق له اسمه صلاح حسن الذي وافقه على أن يذهب لكلية التربية الرياضية

وكانت الأمور تسير بكل يسر حيث استقبلوه في الكلية بالترحيب مما شجعه أن يسحب أوراقه من الهندسة ويتقدم بها للتربية الرياضية بعد نجاحه في كل الاختبارات، وكانت اللجنة التي أجرت له الاختبار الشخصي تضم الدكتور القوصي والدكتور زكريا عميد المعهد، والدكتور فؤاد جلال أستاذ التربية وقتها والتي وافقت على قبوله.

قبل عاكف في التربية الرياضية فكانت الأزمة مع والده وإخوته الذين رغبوا أن يكون مهندسا مثلهم ولم تهدأ العاصفة إلا بعد شهور حينما زار والده التربية الرياضية ووجدها من الكليات المحترمة.

ولنستمع منه عن الأسباب التي دفعته لدخول التربية الرياضية حيث قال:

" لكن الحقيقة أنني دخلت المعهد لسببين، أولهما لخدمة الإخوان حيث كنا نرغب في الانتشار وتوصيل دعوتنا في كل مكان، أما السبب الثاني فقد كان والدي نفسه رحمه الله، كان شديدًا جدًّا في حرصه علينا، فلا نتأخر بعد الثامنة ، ولأنني كنت في النظام الخاص، وكنا كثيرًا ما نتأخر وأحيانًا أرغب في المبيت خارج المنزل، فقد كان التحاقي بالمعهد فرصة لأتعلل عندما أتأخر خارج البيت"، ومن المفارقات أن الذي رشحه للنظام الخاص هو الأستاذ البنا.

ساحة الحرب

حينما أنشأ حسن البنا النظام الخاص عام 1940م كان لسببين:

  1. التصدي للمحتل الانجليزي على أرض مصر
  2. التصدي للمغتصب الصهيوني على أرض فلسطين

ولذا حرص على تشكيل كتائب سافرت لفلسطين حيث أقلقت مضاجع الصهاينة وشهد لهم الجميع بهذا الجهد، وكان عاكف واحد من هذا النظام فكانت المهام الملاقاة على عاتقه مع عدد من أفراد النظام الخاص هى جمع مخلفات الأسلحة من الحرب العالمية الثانية وإعدادها وإرسالها للمجاهدين في فلسطين

وظل كذلك حتى وقعت المحنة عام 1948م، حيث تم اعتقاله في 29 ديسمبر 1948 وأرسل إلى معتقل الهايكستب ثم بعدها معسكر الطور، حيث شاركه في المعتقل الشيخ القرضاوي والشيخ الغزالي والشيخ سيد سابق، حيث كان يقوم بالنشاط الرياضي لهم في السجن، وظل بالسجن حتى خرج في يناير 1950م.

ومن المواقف أنه ضاع عليه امتحان العام نظرا لأن الكلية عملية، غير أنه فوجئ بعميد الكلية يطلب منه أداء الامتحان فتم ذلك في مارس من نفس العام وظهرت النتيجة في 5 أبريل ونجح وكان ذلك لتدخل الدكتور طه حسين لدى العميد لإعادة امتحانه. تخرج وكان السادس على دفعته وحقه التعيين في القاهرة غير أن البوليس السياسي رفض وخيره بين المحافظات فاختار طنطا، حيث استطاع أن يحصل على توجهى أدبي ويلتحق بكلية الحقوق بعدما انتقل لمدرسة سرس الليان وكانت تتبع منظمة اليونيسكو.

على أرض النار

خرج النحاس باشا بتصريحاته النارية التي ألهبت الوجدان وأشعلت جذوة النار في قلوب طلاب الجامعات بعدما قرر إلغاء معاهدة 1936م من طرف واحد فانطلق الطلاب يكبدون العدو الانجليزي الخسائر تلو الخسائر في حرب القنال، فكان عاكف أحد هؤلاء الذين قادوا معسكر التدريب في جامعة إبراهيم باشا

فخرج جيلا زلزل أركان المحتل عام 1951م، يقول:

" في أحد الأيام فوجئتُ بالدكتور عثمان خليل، عميد كلية الحقوق، يأتيني ويقول لي إن مدير الجامعة الدكتور محمد كامل حسين يريد أن يقوم بافتتاح المعسكر على شاكلة معسكر جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة)، فقلت له: يا عثمان بك نحن خارجون عن القانون ونعمل في حمى حرم الجامعة
ولا نستطيع أن نقوم بذلك خارج الحرم الجامعي، وأنتم لكم صفة رسمية، فهل تشاركوننا هذه المسئولية؟ وكان الدكتور نظيف وكيل الجامعة موجودًا بنفس المكتب فكرر عليَّ نفس الطلب السابق بأن يقوم بافتتاح المعسكر بنفسه ورددت عليه بنفس ردي على السابقين: فلست أنسى هذه الكلمة أبدًا، قال لي: شرف عظيم يا بني أن أشارككم جهادكم".

كل ذلك لم يشفع له عند العسكر بعدما قامت ثورة 23 يوليو وشارك فيها الإخوان غير أن العسكر انقلبوا على الإخوان وحلوا الجماعة في يناير 1954م واعتقلوا مرشدهم حسن الهضيبي وعدد من الإخوان كان عاكف واحد منهم غير أنه استطاع الهروب

وظل مطارد حتى نصحه الأستاذ التلمساني والدكتور كمال خليفة ثم اعتقل مرة ثانية في أغسطس من عام 1954م بتهمة تهريب عبد المنعم عبد الرؤوف وحكم عليه بالإعدام ثم خفف الحكم وظل حتى عام 1974م بعدما انتقل لكل سجون مصر وكانت له فيها مواقف كثيرة حيث كان قائد كل سجن يذهب إليه حتى أنه كان مسئولاً عن فرقة العجين التي تحتاج شبابًا أقوياء، فكانوا يستيقظون في الثالثة صباحًا ليعجنوا.

يقول عاكف:

"في يوم 25 يوليو 1974 جاء وفد من المخابرات والبوليس السياسي أو أمن الدولة، وكانوا حوالي خمسة أفراد، ودخلنا على مدير الليمان واسمه اللواء علي موسى ثم طلبوني أنا وعلي نويتو، وقالوا لي: يا عاكف لن نفرج عنك إلا إذا كتبت لأنور السادات، فقمت دون أن أشعر
وقلت لهم: اسمعوا: أبلغوا أنور السادات أن محمد عاكف يقول لك: إن الله سبحانه وتعالى خلقه حرًا ولن يساوم على حريته، وإن الله خلق له عقلاً والعقل أمانة، والحاكم الشريف لا يساوم مواطنيه على حريتهم ولا على آرائهم، وانصرفت.
وفوجئت في اليوم التالي بعلي موسى يحضر مسرعًا ويقول لي: يا عاكف، مبروك إفراج، وكنا خمسة باقين في السجن من الإخوان، أنا وصلاح شادي، ومحمد سليم، وعلي نويتو، ومحمد العدوي."

ومن المواقف التي جعلت العسكر يضعونه على رأس أولوياتهم في الاعتقال حادثة المطار حينما حاولوا منع المستشار الهضيبي في المطار أثناء رجوعه من سوريا كخطة معدة لاغتياله فظهر مهدي عاكف وتوعدهم

وفي ذلك يقول:

"اعتدت سيارة غير سيارة المرشد، واستقبلناه وركب السيارة بجوار الدكتور خميس حميده وركبت أنا في الأمام، لكنني فوجئت بمن يقول أن عربية المرشد العام هي التي ستخرج فقط من المطار، فوقفت وقلت عربية المرشد العام ستكون أخر سيارة تخرج من المطار، فجاء مدير أمن القاهرة (أحمد صالح) وأخبرته بأنه باق دقيقتين وإن لم يخرج الجميع أنا سأفتح البوابة بالقوة، ففتحوا البوابة وقلت لجموع الإخوان لا تتوقفوا لأية احد حتى وصلنا المركز العام ، وكان هذا هو السبب الرئيسي في الحكم علي بالإعدام"

خرج وعين بوزارة الإسكان والتعمير وسافر وتولى المركز الإسلامي بميونخ والتي يذكرها بقوله: وفي يوم من الأيام فوجئت بسيدة ألمانية ومعها ابنتها تأتي للمركز الإسلامي وتطلب منى أن أجد لابنتها زوج إسلامي لما وجدته من حسن خلق ومعاملة المسلمين

هذه بعض المواقف من حياة مهدي عاكف -وهي كثيرة جدا -الذي كان نزل ضيفا على كل سجون الطغاة من الملك فاروق حتى توفاه الله وقد اقترب من التسعين عاما لكنه ظل ثابتا راسخ لم يهزمه مرض ولم يخيفه عسكر ولا تهديدات نالت منه بل أتعب هؤلاء حتى يأسوا من أن ينالوا منه فتركوه ومرضه للموت.

محمد بديع

  • الميلاد: 7/8/1943، المحلة الكبرى
  • عمل:رئيس قسم الباثولوجيا بكلية طب بيطري بني سويف سنة 1990 لدورتين.
  • عمل: وكيل كلية الطب البيطري بني سويف لشئون الدراسات العليا والبحوث سنة 1993م لدورة واحدة.
  • عمل: رئيس مجلس إدارة جمعية الباثولوجيا والباثولوجيا الإكلينيكية لكليات الطب البيطري على مستوى الجمهورية.
  • عمل: رئيس هيئة مجلة البحوث الطبية البيطرية لكلية طب بيطري بني سويف لمدة 9 سنوات.
  • عمل: رئيس مجلس إدارة مركز خدمة البيئة بكلية طب بيطري بني سويف.
  • العمل الحالي: أستاذ متفرغ بقسم الباثولوجيا بكلية الطب البيطري جامعة بني سويف.
  • العمل النقابي: أمين عام النقابة العامة للأطباء البيطريين لدورتين، وأمين صندوق اتحاد نقابات المهن الطبية لدورة واحدة.
  • الحالة الاجتماعية: زوج السيدة سمية الشناوي كريمة الحاج محمد علي الشناوي (ضابط طيار) من الرعيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين ، ورُزق من الأبناء بـ"عمَّار" (مهندس كمبيوتر)، "بلال" (طبيب أشعة)، "ضحى" (طالبة صيدلة)، والأحفاد رؤى وحبيب وإياد.

المولد والنشأة

الدكتور محمد بديع المولود في 7/8/1943م (المحلة الكبرى، غربية) حصل علي بكالوريوس طب بيطري القاهرة سنة 1965م. وعين معيدا بكلية طب بيطري أسيوط 1965م. وقد حصل علي ماجستير طب بيطري ومدرس مساعد 1977م من جامعة الزقازيق .

ثم حصل على (دكتوراه طب بيطري) وعين مدرس سنة 1979م في جامعة الزقازيق . وقد تدرج في الدرجات العلمية (أستاذ مساعد طب بيطري 1983م) جامعة الزقازيق .ثم (أستاذ طب بيطري 1987) في جامعة القاهرة فرع بني سويف .

ووصل إلى درجة رئيس قسم الباثولوجيا بكلية طب بيطري بني سويف سنة 1990م ثم وكيل كلية الطب البيطري (بني سويف) لشئون الدراسات العليا والبحوث سنة 1993م. فظل يعمل بعد ذلك أستاذا متفرغا بقسم الباثولوجيا بكلية الطب البيطري جامعة بني سويف . وأمينا عام للنقابة العامة للأطباء البيطريين لدورتين، وأمين صندوق اتحاد نقابات المهن الطبية لدورة واحدة.

متزوج ورزق من الأبناء بـ"عمار" (مهندس كمبيوتر)، "بلال" (طبيب أشعة)،"ضحى" (طالبة صيدلة)، والأحفاد رؤى وحبيب وإياد. وكان عضوا في مكتب الإرشاد منذ 1993م .ثم رئيسا لمجلس إدارة جمعية (الباثولوجيا)و(الباثولوبيا الإكلينيكية) لكليات الطب البيطري على مستوى الجمهورية. ورئيسا لهينة (مجلة البحوث الطبية البيطرية) لكلية طب بيطري بني سويف لمدة 9 سنوات. ورئيسا لمجلس إدارة مركز خدمة البيئة بكلية طب بيطري بني سويف .

وقد قام بإنشاء المعهد البيطري العالي بالجمهورية العربية اليمنية (صنعاء) لمدة أربع سنوات خلال الإعارة من 1982 ـ 1986 م، وإنشاء المزرعة الداجنة والحيوانية الخاصة به، وكذلك ترجمة المناهج الدراسية للغة العربية، وإنشاء متحف علمي وأقسام علمية بالمعهد البيطري. وتم إدراج اسم الدكتور محمد بديع ضمن أعظم مائة عالم عربي في الموسوعة العلمية العربية التي أصدرتها هيئة الاستعلامات المصرية 1999م.

د.محمد بديع.. رجل يجمع ولا يفرق

هيئته تستدعي للذاكرة صورة المرشدين التاريخيين.. لحية خفيفة ووجه نحيف ونظارة وقبعة ماليزية.. ورع تقي صفي نقي صابر محتسب..ذو صوت عذب يرتل آيات الله ليلا ونهارا.. ويشدو صادحا بأناشيد الجهاد والدعوة في محيط إخوانه لا يستحي من ذلك ولا يستكبر.. تواضعه جم .. صاحب فقه ودين .. لا يأتي عليه سحر إلا وهو يتهجد ولا فجر إلا وهو يقرأ الأذكار، ولا مساء إلا وهو يتلو ورد الرابطة.. كل هذا ويزيد عناصر صورة ترسم قسماتها شهادات وقناعات القطاع العريض داخل الجسد الإخواني.

وهذه بعض من خصال د.المرشد الثامن لجماعة الإخوان المسلمين.

عودة الروح

في عام 1959 تعرف د. بديع على أحد أعضاء الإخوان المسلمين السوريين الحمويين، وهو الدكتور محمد سليمان النجار الذي دعاه إلى الانضمام إلى جماعة الإخوان، فاقتنع الشاب الصغير وتحمس للفكرة برغم أجواء الخوف التي كانت تثار عند ذكر كلمة الإخوان وقتئذ، وترك النجار أثره على د. بديع في إخلاصه لدعوته وبذله الجهد والوقت من أجلها، وقد قال د. بديع عنه إنه هو الذي تابعه بالتربية والتنشئة وعلاج الثغرات وسد النقائص.

في نفس العام بدأ الشاب الصغير في حفظ الجزء الأخير من القرآن وبعد إتمامه رتبت له تصاريف القدر موعدًا مع سيد قطب ، حيث أهداه داعيته سليمان النجار الجزء الأخير من "في ظلال القرآن" فشعر د. بديع كما يقول أن جسده قد دبت فيه الروح وأنه لم يذق حلاوة القرآن قبل ذلك.

قبض على د. بديع وألقي في السجن ليرى بنفسه ما كان يسمعه من إخوانه عن جحيم سجون عبد الناصر.

الانتقال للجنوب

انتقل د. بديع من المحلة الكبرى أو بالأحرى من الزقازيق موطن عمله إلى محافظة بني سويف سنة 1987 وعين أستاذا للطب البيطري بجامعتها بعد أن حصل على الدكتوراه من جامعة الزقازيق عام 1977 .

رجل دعوة لا سياسة

من خصائص د.بديع انه لا يتحدث دون أن يتضمن حديثه آيات القرآن والأحاديث الشريفة، فالرجل يرى أن كل الإجابات موجودة في القرآن والسنة، حتى في معرض إجابته عن سؤال عن أسباب الحملات الإعلامية على الجماعة استشهد الرجل بآيات قرآنية

وعندما تحدث عن كرة القدم تحدث عنها وفقا للقرآن والسنة، فيقول إن الورد الرياضي أخو ورد التسبيح، أما عن النادي الرياضي الذي يشجعه فقال: ليس لدي تعصب لناد من النوادي، فأنا أبحث عن أفضل ناد خلقا وسلوكا؛ لكي أحبه..، كما أشجع فريق المحلة حتى يستمر في الدوري العام، بالإضافة إلى منتخب بلادي. أما مقالات د. بديع المعدودة فحملت معظمها عناوين علمية طبية بيطرية وتربوية وربط الأحداث والمواقف الجارية بالتربية والحركات العلمية.

ويتحدث عن الديمقراطية فيقول:

إذا اختار الناس شيئا غير شرعي لا يصلح تنفيذه، فإذا كانت هناك مخالفة لشرع فلا يمكن إعمالها. كما يؤكد أن الإخوان سيقبلون نتيجة الانتخابات حتى لو جاءت ب جمال مبارك إذا تمت الانتخابات بحرية وبنزاهة ف جمال مبارك له الحق في الترشح مثله مثل غيره في انتخابات رئاسة الجمهورية، ولكن بشرط فتح الباب لجميع المصريين على قدم المساواة وفي انتخابات حرة نزيهة.

التعاون بين الأقباط المسيحيين والأقباط المسلمين

وهو يؤكد على الحرص على التواصل مع الإخوة الأقباط المسيحيين والأقباط المسلمين فكلهم مواطنون مصريون، مؤكدا في لقاءاته معهم على رسوخ أهمية وحدة نسيج الوطن، مشددًا على حق المواطنة لكل المصريين على قدم المساواة، ويكفى أنه تم اختياره أمينا عاما للنقابة العامة للأطباء البيطريين لدورتين، وأمين صندوق اتحاد نقابات المهن الطبية.

كما كان معظم الإخوان يغبطون الدكتور بديع على سعة صدره وصبره على البلاء، ورغم ذلك كان الرجل دوما يدعو الإخوان بالتحلي بالصبر على من ظلموهم، وبل يدعو للظالمين دوما بالهداية... وكانت له كلمة شهيرة يرددها بصورة دائمة "من احتسب أمره لله، ليس له حق عند من آذاه"

كما تمتع الرجل بحب معظم أبناء الجماعة ، ولذلك تم اختياره عضوا بمكتب الإرشاد عام 1993 ثم حصل على أعلى الأصوات في انتخابات مكتب الإرشاد الأخيرة.إن كثيرا من المسلمين الرسميين والشعبيين والإخوان يستبشرون بقدومه مرشدا، ويتوقعون أن تشهد الجماعة على يده طفرة كبيرة، وانفتاحا على المجتمع والقوى السياسية بشكل أكبر من ذي قبل، فالرجل اجتماعي من الطراز الأول ويجيد العمل السياسي، كما أنه حريص على التواصل مع كل القوى السياسية والوطنية.

القضايا

القضية العسكرية الأولى:

سنة 1965م مع الأستاذ سيد قطب والإخوان ، وحُكم عليه بخمسة عشر عامًا، قَضى منها 9 سنوات ، وخرج في 4/4/1974م، وعاد لعمله بجامعة أسيوط ، ثم نُقل إلى جامعة الزقازيق ، وسافر بعدها لليمن وعاد من هناك إلى جامعة بني سويف.

القضية الثانية

السجن لمدة 75 يومًا في قضية جمعية الدعوة الإسلامية ببني سويف عام 1998م ؛ حيث كان يشغل منصب رئيس مجلس إدارة جمعية الدعوة جامعة بني سويف بعد اعتقال الحاج حسن جودة رحمه الله.

القضية الثالثة:

قضية النقابيين سنة 1999م؛ حيث حكمت عليه المحكمة العسكرية بالسجن خمس سنوات ، قضى منها ثلاث سنوات وثلاثة أرباع السنة وخرج بأول حكم بثلاثة أرباع المدة سنة 2003م.

وأخير قبض عليه بعد الانقلاب العسكري على رئيس مصر عام 2013م ويحاكم أمام أكثر من 50 قضية.