الإخوان المسلمون وحكومة علي ماهر

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٩:٥٨، ٣٠ مارس ٢٠١٢ بواسطة Admin (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإخوان المسلمون وحكومة علي ماهر

مقدمة

ولد علي محمد ماهر بحي العباسية، القاهرة في ٩ نوفمبر ١٨٨١م، وتلقى تعليمه بالمدرسة الناصرية الابتدائية، ثم المدرسة الخديوية الثانوية، وحصل على الثانوية العامة عام ١٨٩٨، وبعد تخرجه منها ألتحق بكلية الحقوق، والتي تخرج فيها عام ١٩٠٣م.

مارس علي ماهر مهنة المحاماة حتى اختير في سلك القضاء وعين قاضياً في الفترة من (١٩٠٧-١٩١٣)، ثم التحق بالنيابة العمومية، وتقلد منصب وكيل إدارة المجالس الحسبية (١٩١٤)، ثم مديراً لها (١٩١٧-١٩١٩).

حينما نشأ حزب الوفد كان علي ماهر من أوائل من انضم له في ٧ نوفمبر ١٩١٩، ثم قدم استقالته منه في ١٨ مارس ١٩٢٢ بعد حدوث بعض الخلافات مع سعد زغلول، وانضم لحزب الأحرار الدستوريين.

اختير وكيلاً لوزارة المعارف العمومية في الفترة من ٣ نوفمبر ١٩٢٤- ١٢ مارس ١٩٢٥م، ثم تقلد منصف وزير المعارف العمومية في وزارة أحمد زيور الثانية (١٣ مارس ١٩٢٥- ٧ يونيه ١٩٢٦)، وعين في نفس الوزارة وزيراً للحقانية (العــــدل) مؤقتاً (٥ سبتمبر- ١٢ سبتمبر ١٩٢٥)، وتبوأ منصب وزير المالية (٢٥ يونيه ١٩٢٨أكتوبر ١٩٢٩) في وزارة محمد محمود الأولى.

شكّل وزارته الأولى وتولى فيها منصب وزير الخارجية والداخلية (٣٠ يناير - ٩ مايو ١٩٣٦)، وقد عمل على تحسين علاقات مصر بالدول مثل إيطاليا والسعودية، ثم شكّل وزارته الثانية واحتفظ فيها بمنصب وزير الداخلية والخارجية (١٨ أغسطس ١٩٣٩-٢٧ يونيه ١٩٤٠) عقب إقالة وزارة مصطفى النحاس.

وحينما اندلع حريق القاهرة في ٢٦ يناير ١٩٥٢م والتي على إثره أقيلت حكومة الوفد، تم اختياره ليشكّل وزارته الثالثة وتولى فيها منصب وزير الخارجية والحربية والتي كانت في الفترة من ٢٧ يناير- أول مارس ١٩٥٢)، حيث بادر بنشر الأمن ومعالجة الأمور، وإصلاح ما دمره الحريق.

وبعدما قامت ثورة 23 يوليو كان المايسترو التي لجأ إليه الضباط الأحرار لتسلم البلاد من الملك، فتولى مهام منصب رئيس الوزراء ووزير الداخلية والخارجية والبحرية في (٢٤ يوليوسبتمبر ١٩٥٢) بناء على إجماع الضباط الأحرار، ومن أهم أعماله:

إيفاد (١١٦) مبعوثاً للخارج في مختلف العلوم، ترجمة عدداً من الكتب الأجنبية لمواكبة النهضة العلمية في البلاد، تنقيح المناهج الدراسية في الإبتدائى والثانوي، إنشاء وزارة للاقتصاد، وتنظيم مصلحة التجارة والصناعة، حتى ترك الوزارة ليتولها العسكر، وظل كذلك حتى توفي في أغسطس ١٩٦٠م.

الإخوان المسلمون ووزارة علي ماهر باشا

موقف الإخوان من وزارة علي ماهر باشا كموقفها من كل الحكومات التي عايشها الإخوان وهو موقف الناصح لكل وزارة وفق مصلحة الوطن، والمقاوم لفسادها بالحسنى.

فلم يعمد الإخوان إلى مداهنة أية حكومة من الحكومة من اجل مصلحتها الخاصة، لكنها كانت تضع نصب أعينها في المقام الأول مصلحة الشعب والوطن.

ولقد تعاقب عليها وزارة كثيرة في فترة الحرب العالمية الثانية والتي اندلعت في سبتمبر من عام 1939م حينما غزت الجيوش الألمانية لكلا من بولندا وسلوفاكيا، مما دفع بريطانيا وفرنسا بإعلان الحرب عليها.

حاول الإنجليز الدفع بمصر في هذه الحرب، غير أن رئيس الوزراء علي ماهر وبعد مشاورات أعلن وقوف مصر على الحياد من هذه الحرب وهو القرار الذي اغضب المستعمر الإنجليزي عمدت لإقصاء علي ماهر باشا والإتيان برئيس وزراء يعمل لحسابها.

لقد أعلن الإخوان موقفهم الرافض للحرب، وأيدوا على ماهر رئيس الوزراء في قراره بحياد مصر دونالتورط في حرب ليس لنا مصلحة فيها.

بادر الإمام بكتابة رسالة إلى رئيس الوزراء يؤكد دعم الإخوان لهذا القرار، وناصحا له بقوله: حضرة صاحب المقام الرفيع على ماهر باشا رئيس مجلس الوزراء.

أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأصلى وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه، وأحييكم فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فقد شاء الله أن تقوموا بأعباء الحكم في ظروف شديدة حرجة كلها مفاجآت وتقلبات تتطلب كل اليقظة والاهتمام ودوام التفكير وحسن التصريف، ولا ندرى لعل الله تبارك وتعالى -وهو الرحيم بهذا البلد وأهله- يخلق من ظروف الشدة وحدة عاملة وجهادا دائما وفوائد لم تكن تخطر على بال.

وأنتم في هذه الظروف أحوج ما تكونون إلى أن تكون الأمة جميعا إلى جانبكم، تستمدون منها القوة في الرأي، والتأييد في مواقف العنت والإرهاق وساعات الخطر والتحكم، فإن الساعة رهيبة تهيب بكل مصري أن يتقدم بكل ما عنده، وقد أظهرتم -رفعتكم- اهتماما بالشئون الاجتماعية والإصلاح الداخلي تمثل ذلك في إنشاء وزارة الشئون الاجتماعية وفى فكرة الجيش المرابط.

يا صاحب الرفعة: إن موقف مصر الدولي يجب أن يكون واضحا صريحا، ويجب ألا تتورط الحكومة في شيء لا شأن لها ولا صلة بها به، إننا أمة مستقلة تمام الاستقلال بحكم القانون الدولي، وبيننا وبين إنجلترا معاهدة تحالف، قبلها من قبلها تحت ضغط ظروف وأحوال خاصة، لا على أنها غاية ما ترجوه مصر، ولكن على أنها خطوة في سبيل تحقيق الأهداف المصرية السامية.

فالإخوان المسلمون -وهم الذين يرون في المعاهدة المصرية الإنجليزية إجحافا كبيرا بحقوق مصر واستقلالها الكامل- يريدون من حكومة مصر ألا تتجاوز هذه الحدود المرسومة على ما فيها من إجحاف بأية حال، ومهما كانت الدوافع إليه، وأن تنتهز كل فرصة للاستفادة من الظروف الحاضرة وتكسير القيود والأغلال التي تقيد حريتنا واستقلالنا وحقوق نهضتنا.

إن الإخوان المسلمون يعتبرون أن الطريق الوحيدة للإصلاح هي أن تعود مصر إلى تعاليم الإسلام فتطبقها تطبيقا سليما، وأن تقتبس من كل فكرة قديمة أو حديثة شرقية أو غربية ما لا يتنافى مع هذه التعاليم ويكون فيه الخير للأمة، فالروح التي يجب أن تسود فكرة الإصلاح عندنا هي فكرة الاعتماد على قواعد الإسلام وأصوله وروحه والاستمداد منها.

يا صاحب الرفعة- يريد الإخوان المسلمون أن تسير الحكومة في إصلاحاتها، وهم يعتقدون أنها إذا أخلصت في هذا واهتمت به وقصدته حقا ولم تبال بإرجاف المرجفين واتهامات المبطلين المتحللين وتبرم الإباحيين الغافلين، فإن الله سينصرها والشعب سيؤيدها، ومن نصره الله وأيده الشعب فلن يغلب أبدا.

لقد استقبل الإخوان حكومة علي ماهر بالنصح والإرشاد، كما أنهم نظروا إليها متمنين تحقيق أهداف الوطن على أيديها، فلا تخذل هذا الوطن كالحكومات السابقة، ولقد عبرت صحيفة النذير عن هذه الرؤيا تحت عنوان: "وزارة جديدة وموقف قديم" بقولها:

"اليوم وقد سقطت وزارة محمد باشا محمود فأصبحت في ذمة التاريخ وسيصدر حكمه لها أو عليها، والآن وقد تجرد الوزراء السابقون من سلطانهم ونفوذهم نستطيع أن نقول في غير حرج ولا مظنة رياء:

إن عهد محمد باشا محمود كان فيه خير كثير، وقد كسب منه أنصار الفضيلة والأخلاق ودعاة الإسلام كسبًا غير يسير، نعم لم تحقق وزارة "الحكم الصالح" –وهو شعار الوزارة– كل ما عقد عليها من آمال، ولم تف بأغلب وعودها للتمكين للإسلام، ولكن كانت الحكومة يتولى الأمر فيها وزراء شيوخ ينقصهم جرأة الشباب وروعة الفتوة ....

واليوم يقبض على أزمة الأمور وزارة جديدة على رأسها رفعة علي باشا ماهر... وقد يتبادر إلى ذهن القارئ هذا السؤال: ما موقف الإخوان المسلمين من الوزارة الجديدة؟

وقبل أن نجيب على هذا السؤال نود أن نمهد بالحقيقة الثابتة، وهي أن الإخوان المسلمين ليسوا حزبًا من الأحزاب يؤيد أو يعارض تبعًا لمصلحة حزبية أو جريًا وراء منفعة شخصية، ولكن الإخوان المسلمين دعوة إسلامية محمدية اتخذت من الله غايتها، ومن الرسول -صلوات الله عليه وسلامه- قدوتها، ومن القرآن دستورها، ولها برنامج واضح الحدود، ظاهر المعالم، يرمي إلى تجديد الإسلام في القرن الرابع عشر، وصبغ الحياة المصرية بالصبغة [[الإسلامية، وهيمنة تعاليم القرآن على جميع مظاهر الحياة من:

تشريع، واجتماع، وسياسة، واقتصاد، كما يرمي إلى تحرير كل شبر في الأرض فيه نفس يردد: "لا إله إلا الله محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم"، وأخيرًا نشر الإسلام ورفع راية القرآن في كل مكان حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله....

فموقفنا إذن من وزارة علي باشا ماهر هو هو موقفنا من أية وزارة، موقف مبدئي ثابت، لا يتغير بتغير الوزارات، ولا يتبدل بتبدل الوزراء، ولكنه يتغير بتغير المواقف والأحداث، فمن أيد الفكرة الإسلامية وعمل لها، واستقام في نفسه وفي بيته، وتمسك بتعاليم القرآن في حياته الخاصة والعامة كنا له مؤيدين مشجعين، ومن عارض الدعوة الإسلامية ولم يعمل لها، بل وقف في سبيلها، أو حاول التنكيل برجالها، كنا له خصومًا، ونحن في كلتا الحالتين إنما نؤيد ونعارض ونحب ونكره لله وفي الله.

ويؤكد الإمام البنا على منهج النصح للوزارة بقوله: من واجبكم -يا رفعة الرئيس- فى الظروف الحالية التى تستلزم من أولى الرأى جميعا التعاون على مواجهتها والانتفاع بها ومقاومة أخطارها، ولا سيما وقد مرت على مصر أدوار حطمت أخلاقها وفضائلها.

  1. التسامح التام مع خصومكم السياسيين وتقدير ملاحظاتهم، والثناء عليهم فى الحسن منها، وتلمس العذر فى الحملات الشديدة والانتقادات الخاصة، وانتهاز كل فرصة للتفاهم معهم وإعطاؤهم حقوقهم كاملة فى يسر ومن غير إرهاق فى حدود العدالة والقانون، وبذلك تموت روح الحزبية السياسية التى لا غذاء لها إلا المصالح والحزازات، وهذه يقبلها الحلم والإنصاف، وقد دعوتم إلى الوحدة والتعاون فعززوا هذه الدعوة بالعمل.
  2. دوام الاتصال بالشعب بالزيارات من رفعتكم ومن كبار الحكام، فى بساطة وتواضع وبعد عن كلفة الرسميات وأبهة المناصب، أو بالحديث إلى الناس فى شئونهم الهامة وبمشاركتهم عواطفهم ومشاعرهم بصورة شعبية ورسمية، وبتوصية الموظفين أن يحسنوا معاملة الجمهور وأخذهم فى ذلك بالرقابة الشديدة مع تبسيط الإجراءات المصلحية المعقدة التى ترهق الناس وتعطل مصالحهم، والاتصال بالصحفيين وحدهم لا يكفى.
  3. القضاء التام على الرشوة والمحسوبية وداء الوساطة الذى تفشى فى كل شىء عند كل الطبقات، فليكن القانون والحق هو الوسيط فى كل شىء وكفى. أذيعوا هذا فى الناس وطبقوه عمليا وليكن فى القانون قوة وشدة، ولنتجرد بعض الوقت عن عواطفنا الرحيمة للأقارب والمعارف، حتى تعود إلى الناس الثقة بعدالة القائمين على مصالحهم ويشعروا بعزة الحق ويحترموا سلطة العدل.
  4. الاقتصاد التام فى الكماليات وفى أبهة المناصب، وتعديل المرتبات الضخمة، وإلغاء مظاهر الترف الرسمى فى دواوين الحكومة ومصالحها، وليبدأ بذلك حضرات الوزراء أنفسهم ثم كبار الموظفين من بعدهم، وقد يكون فى ذلك بعض الإرهاق فليكن هذا وليرهق نفر من الأمة، وإن كان بعض الوزراء فى سبيل ضرب المثل الصالح وإصلاح ما فسد من نفوس عامة الموظفين ومن ورائهم عامة الشعب.
  5. العناية بالشئون الاقتصادية، فإن حال الفقر المحض الذى يعانيه الناس تجعل النهوض الروحى بهم غير ميسور ما لم يتوفر لهم القوت الضروري الذى لا يجده الكثير منهم إلا بشق النفس، مع وفرة المشروعات الإصلاحية التى لو أخذت بها الحكومة لخففت ويلات الفقر على كثير من الناس ولا يحمل الناس على تأييد الحكومة والتمسك بها شىء ما يحملهم على ذلك عنايتها بأرزاقهم وتفكيرها فى شئونهم الاقتصادية، ومن الخطأ أن تعمد الحكومة فى هذا الظرف العصيب إلى فصل بعض عمال المياومة، أو الاستغناء عن بعض الموظفين وهى تستطيع توزيع العمل وإنقاص الأجور بدلا من هذا الفصل الذى جر الويلات على كثير من الأسر والعائلات.
  6. التشدد التام فى حقوق الأمة القومية وعدم اللين فيها مهما كانت الظروف ضاغطة، ومصارحة الأمة بمثل هذا الموقف والاستعانة بها على علاجه، فليس يوفر الثقة بين الحاكم والمحكوم كالمصارحة والتعاون.
  7. وأخيرا -بل وأولا- المحافظة التامة على الشعائر الإسلامية، وتجنب مواطن النقد، والتزام الآداب القومية فى المجامع والحفلات العامة والتصرفات جميعا، وأن يكون ذلك شعار حضرات أصحاب المعالي والوزراء وكبار الموظفين، وليكملوا على هذا بالحكمة والموعظة الحسنة حتى يسير على هذا النهج من دونهم من مرءوسيهم ثم من ورائهم الشعب كله.
  8. وفلسطين -يا رفعة الرئيس- لن ينسى المسلمون فى مصر وغير مصر آلامها وآمالها وحقوقها، ولقد سبق إليكم فضل التطوع فى خدمة قضيتها والظروف الحالية، فيما نعتقد ملائمة كل الملائمة لإعادة الكرة من جديد، وليس على الحليفة من ضير أن تريح ضمائر حلفائها بالإفراج عن المعتقلين السياسيين فى فلسطين، والسماح بالعودة للمهاجرين والاعتراف لهذا الوطن العربي الباسل الكريم بكامل حقوقه غير منقوصة.

اعملوا على هذا يا رفعة الرئيس وجاهدوا فى سبيله، فهو خير ما تستقبلون به هذه المواسم الفاضلة وتتقربون به إلى الله.

هذا يا صاحب الرفعة بعض ما أردنا أن نتقدم إليكم به فى هذا الوقت العصيب. والله نسأل أن يتدارك العالم برحمته وأن يتولى مصر الناهضة بالخير والتوفيق.

جهود علي ماهر

كان علي ماهر من رؤساء الوزراء الذين عملوا بقدر استطاعتهم لصالح الوطن، وكانت أعمالهم تنم عن وطنية، مما اغضب عليه الإنجليز، وكان أول من فكر فيه الضباط الأحرار بعد نجاح ثورتهم لتولى الوزارة.

ولقد امتدحه الإخوان على جهوده التي قام بها، كما عارضوه في بعض القضايا التي كانت لا تعود على الوطن بالمصلحة، بل هاجمه حينما حضر حفلة كانت تغشاها المراقص والمجون، وعتبوا عليه كقامة كبيرة في الوطن أن ينزل به الوضع لذلك.

بدأ علي ماهر الحكم بإنشاء وزارة جديدة تهتم بالشئون الاجتماعية، ثم أنشأ بعد بداية الحرب العالمية الجيش المرابط، وقد صادفت تلك الأعمال موافقة الإخوان، فأيدوا ذلك المسلك، وقدموا مقترحاتهم إلى الحكومة، كما قدموا النصح لها في المواقف المختلفة، وقد استجابت الوزارة لبعض نصائح الإخوان، ومنها أن ألغت الوزارة السيارات المخصصة لوكلاء الوزراء؛

وذلك لتقليل الإنفاق الحكومي، فضلاً عن ذلك قامت بترتيب ونقل مجموعة من الموظفين للعمل في وزارة الشئون الاجتماعية بدلاً من تعيين جدد، وشكر الإخوان ذلك المسلك من الحكومة، لكنهم طالبوهم بالمزيد في هذا الاتجاه، لاسيما التقليل من مظاهر الترف والأبهة في الأثاث وخلافه.

ولما أنشأت الحكومة الجيش المرابط عرض الإمام البنا على عبد الرحمن باشا عزام وقائد الجيش المرابط ووزير الأوقاف مساعدته بانضمام فرق جوالة الإخوان إلى الجيش المرابط، واعتبارهم نواة لذلك الجيش.

فقدم له برنامج عمل للوزارة حدده في عدة نقاط وهي:

  1. التسامح التام مع خصومكم السياسيين، وتقدير ملاحظاتهم، والثناء عليهم في الحسن منها، وتلمس العذر لهم في الحملات الشديدة والانتقادات الخاصة، وانتهاز كل فرصة للتفاهم معهم.

ب- دوام الاتصال بالشعب بالزيارات من رفعتكم ومن كبار الحكام في بساطة وتواضع، وبعدٍ عن كلفة الرسميات، وأبهة المناصب.

  1. القضاء التام على الرشوة والمحسوبية وداء الوساطة التي تفشت في كل شيء عند كل الطبقات.
  2. الاقتصاد التام في الكماليات، وفي أبهة المناصب، وتعديل المرتبات الضخمة، وإلغاء مظاهر الترف الرسمي في دواوين الحكومة ومصالحها، وليبدأ بذلك حضرات الوزراء أنفسهم ثم كبار الموظفين من بعدهم.
  3. العناية بالشئون الاقتصادية، وتوفير المشروعات الإصلاحية.
  4. التشدد التام في حقوق الأمة القومية، وعدم اللين فيها، مهما كانت الظروف ضاغطة.
  5. المحافظة التامة على الشعائر الإسلامية.
  6. الاهتمام بالقضية الفلسطينية، ودعوة الحليفة "إنجلترا" إلى الإفراج عن المعتقلين السياسيين في فلسطين، والسماح بالعودة للمهاجرين والاعتراف لهذا الوطن العربي الباسل الكريم بكامل حقوقه غير منقوصة.

ولم تستجب الوزارة لكثير من مطالب الإخوان حتى أن وزارة الشئون الاجتماعية عند تشكيلها لجنة الإرشاد الاجتماعي استبعدت منها الإخوان، أو أي ممثل للأزهر، أو الهيئات الإسلامية.

كما أرسل الإمام الشهيد رسالة إلى وزير الشئون الاجتماعية يعرض عليه تعاون الإخوان من خلال مجموعة منهم وهم:

الأستاذ عمر التلمساني والدكتور محمد سليمان والأستاذ عيسى عبده تكون مهمتهم تقديم المقترحات والمذكرات في المشروعات التي تدرسها الوزارة، لاسيما وأن للإخوان خبرة في تلك المجالات.

وحينما قام علي ماهر بعمل مشروع برنامج لرسم سياسة قومية فى الشئون الخارجية والداخلية والاجتماعية والاقتصادية، ودعا المفكرين وأهل الرأي من أبناء الأمة إلى أن يقرءوه بإنعام، ليقولوا فيه كلمتهم، حياه الأستاذ البنا على هذا الفكر وكتب له يقول:

وضع صاحب المقام الرفيع على ماهر باشا مشروع برنامج لرسم سياسة قومية فى الشئون الخارجية والداخلية والاجتماعية والاقتصادية، ودعا المفكرين وأهل الرأى من أبناء الأمة إلى أن يقرأوه بإنعام، ليقولوا فيه كلمتهم.

وما يتم الإجماع عليه يلخص فى ميثاق قومى تتوحد على تحقيقه الجهود، وتتوافر فى سبيل إنفاذه الكفايات، كل فيما اختص به.

والفكرة فى ذاتها فكرة سامية جليلة، والعمل عمل نافع مفيد، وقد تناول المشروع –فى وضوح- أهم الشئون الحيوية التى يشغل التفكير فيها كل رأس، وتمتلئ بالرغبة فى علاجها والاهتمام بأمرها كل نفس.

وصاحب المشروع ليس بمتهم فى وطنيته ولا فى كفايته، فهو أحد أبناء مصر الأفذاذ الأقوياء بروحهم وتجاربهم وعملهم وجهادهم، ولقد سبق للإخوان المسلمين أن كتبوا فى مثل هذه الناحية فى رسالتين من رسائلهم منذ عشر سنوات:

فى رسالة المنهاج، وفى رسالة نحو النور، كما أن كثيرا من الكاتبين عرضوا لمثل ما عرض له رفعة على ماهر باشا، فقد كتب حافظ عفيفى باشا ومحمد على علوبة باشا والأستاذ مريت غالى والأستاذ محمود كامل وجماعة القوميين كتبا ورسالات إن اختلفت فى بعض الأساليب والتفاصيل فقد اتفقت فى الجوهر والهدف، ومعنى هذا أن الشعب المصرى متحفز مترقب، وأن هذه الخطوة ضرورة من الضرورات التى تتجاوب فيها مشاعر أبنائه جميعا من المفكرين الغيورين. والعاملين المخلصين أفرادا وجماعات.

والإخوان المسلمون يرون فى كل ما نشر -وفى مشروع رفعة ماهر باشا بالذات- ما يشفى ويكفى وينفع ويفيد من الوجهة النظرية ولو فى الابتداء على الأقل، ولو على أنه أساس صالح يصفو ويكمل بالمناقشة والتمحيص.

ولكن الإخوان- ولا أظن أنهم وحدهم- يعتقدون أن أساس العلة ليس فى الأوضاع أو المناهج وحدها، ولكن فى الرجال والنفوس والأخلاق، وإن أى منهاج –مهما كان قاصرا- ينتظر أن يكون صالحا إذا تولى إنفاذه الرجل الصالح، وأشرفت عليه الأنفس الصالحة، كما أن أى منهاج كامل صالح لا ينفع ولا يفيد إذا تولته النفوس المريضة، وقام على إنفاذه الأشخاص المغرضون، ولا نظن أن أزمتنا "أزمة مناهج"، ولكنها "أزمة أخلاق" قبل كل شىء، وصدق الله العظيم: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(الرعد: 11).

ولسنا وحدنا الذين نشكو أزمة النفوس والأخلاق، بل إن الإنسانية كلها تعانى مرارة هذه الأزمة فى كل أمة وفى كل شعب، ولعلنا نحن –على ما بنا- أحسن حالا فى هذه الناحية من كثير من الشعوب التى تدعى الرقى والمدنية وتنقصها هذه الناحية التى هى حقيقة الحقائق فى معنى الإنسانية.

إن "صلاح النفس" هو عصا تحويل فى كل نهضة من نهضات الأمم، فكما أن محول القطار يستطيع بحركة يسيرة هينة من عصاه أن ينقله كله من شريط إلى شريط ويحول سيره من طريق إلى طريق، كذلك النفس الإنسانية متى تحركت أو اتجهت تحركت منها الأمم وتبعتها النهضات: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ (الشمس: 7-10) فكيف السبيل إلى صلاح النفوس، وطهارة القلوب، واستقامة الأخلاق؟

ذلك ما يجب أن نفكر فيه طويلا، ولن نصل إليه إلا برسالة روحية مشرقة عمادها معرفة الله، والإيمان بالفضيلة الإنسانية، والرجوع إلى قدس النبوة، والاستمداد من آيات الله.

ومهما يكن من شىء فالدعوة التى وجهها رفعة على ماهر باشا إلى مواطنيه جديرة بالتقدير الكامل، حرية بأن تكون فاتحة خير لوحدة الجهود، والوصول إلى الإصلاح المنشود، والتوفيق بيد الله.

كما كتب أيضا يقول: ليس من عادة هذه الجريدة ولا من سنة الإخوان المسلمين أن يتوجهوا إلى أحد بشكر، أو يفرقوا فى مدح أو ثناء؛ لأنهم يعتقدون أن فى عنق كل فرد لهذه الأمة الكريمة والبلد الأمين واجبات كبار مهما جد فى قضائها فلا يزال ما أمامه منها أكبر مما أراه.

ولكن دولة على ماهر باشا فى فترة حكمه القصير خطا بالهمم خطوات لو لم يكن من نتائجها إلا أنها أحيت الأمل وأماتت اليأس، وأثبتت للناس بطريق عملى أن الإصلاح ممكن هين يسير، لو توجهت إليه الهمم وانصرفت نحوه العزائم لكانت نتيجة مشكورة، وخطوة من أبرك الخطوات وأيمنها فى أدوار النهضة الجديدة.

ودولة على ماهر باشا يتجه فى إصلاحه وجهة جديدة طيبة مباركة، ويعمل على أن يوجه الناس إليها بعد أن ظن المصلحون أن الحكام والزعماء قد انصرفوا عن هذه الوجهة وأهملوها، فنفضوا أيديهم منهم وعولوا على أنفسهم، تلك هى وجهة الإصلاح الخلقى، وتجديد شباب الأمة النفسى، وتحصينها بالإيمان والأخلاق، وإعادتها إلى ما تركت من دين كريم وخلق قويم.

علي ماهر والقضية الفلسطينية

جاءت حكومة علي ماهر بعد إقالة حكومة محمد محمود باشا، والتي كان لها موقف مخزي مع القضية الفلسطينية، فحينما سأل عن قضية فلسطين كانت إجابته صادمة بقوله: أنا رئيس وزراء مصر ولست رئيس وزراء فلسطين.

لكن وزارة علي ماهر تعاملت مع القضية الفلسطينية بنوع من الحنكة، بل ساند القضية في المؤتمرات الدولية، ويعد من أفضل مواقف رؤساء الوزراء في مصر نحو القضية، ففي مؤتمر المائدة المستديرة كان علي ماهر أفضل من عبر عن القضية الفلسطينية من الحكام العرب، وقد استقبله الإخوان في محطة مصر بهتافاتهم المعروفة وهتافهم لفلسطين.

كما كتب الإمام حسن البنا مذكرة رفعها إلى رئيس الوزراء بعنوان بمناسبة إعانة منكوبى فلسطين قال فيها:

حضرة صاحب المقام الرفيع على ماهر باشا رئيس الحكومة المصرية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وبعد: فقد قرأنا اليوم نبأ الإعانة التى قررتها الحكومة المصرية للأسر الفلسطينية فشكرنا للحكومة أن تنبهت لهذا الواجب الذى تأخر به الزمن لديها كثيرا، وقد كان من الحق على حكومة مصر- وهى التى تقدمت بالإعانات فى كثير من المناسبات إلى شعوب وجماعات لا تربطها بها أضعف الوشائج التى تربطها بعرب فلسطين- أن تكون فى مقدمة من يمد يد المساعدة للمجاهدين. وعلى كل حال فهذا العمل من الحكومة المصرية لا يقابل بغير الشكران، فجزى الله العاملين خيرا.

حبذا لو أسرعت الحكومة بإرسال المبلغ المقرر وحققت ما وعدت به من إمداد أسر الإخوان المجاهدين بالأقوات والملابس، وأضافت ذلك العطف الأدبى على أبنائها بقبولهم فى المدارس والمعاهد المصرية بالمجان، متى ثبت لها أن عائليهم قد استشهدوا فى سبيل الله والوطن الإسلامى المحبوب.

وننتهز هذه الفرصة فنلفت نظر الحكومة المصرية إلى أمرين مهمين:

أولهما: أن تقرير الإعانة ليس أهم فى الحقيقة من الإشراف على توزيعها توزيعا يكفل وصولها إلى المستحقين لها من أبناء المجاهدين، وضمانا لذلك يجب أن يكون هذا التوزيع بمعرفة الهيئات العربية الصميمة؛ كاللجنة العربية العليا، أو لجنة السيدات العربيات مثلا، وأن يكون بعيدا كل البعد عن تدخل الحكومة الفلسطينية وعن أيدى الخوارج ومطايا الاستعمار، حتى لا يفوت الغرض المقصود وتتسرب الإعانة إلى يد من لا يستحقها.

وثانيهما: أن هذا المسعى الإنسانى المشكور ليس هو كل شىء فى القضية العربية، فإن الفلسطينيين الأمجاد ضحوا بالأموال والأرواح فى سبيل غاية سلمية معلومة، هى أن يصلوا إلى استقلالهم وحريتهم، وأن ينقذوا وطنهم من خطر الطغيان اليهودى الصهيونى، وقد شاركهم المسلمون والعرب فى كل أقطار الدنيا هذا الشعور وأيدوهم فيه، وكان للحكومة المصرية -وكان لرفعتكم بالذات- نصيب فى هذا الجهاد المبرور.

وعلى هذا فالمسعى السياسى لحل قضية فلسطين أهم بكثير من هذا المسعى الإنسانى على جلاله ورحمته، ولعل الظروف الحالية هى أنسب الظروف لإعادة النظر فى هذه القضية.

وليس عليكم -يا رفعة الرئيس- إلا أن تكاشفوا الساسة البريطانيين بوضوح وجلاء بحقيقة الموقف وتطلبوا إليهم حل القضية الفلسطينية على هذه القواعد:

  1. إيقاف الهجرة اليهودية القانونية إيقافا تاما وأخذ المهربين بأقصى الشدة حتى تظل الغالبية فى فلسطين عربية.
  2. العفو الشامل عن كل المعتقلين والمبعدين والمجاهدين، والسماح بالعودة للمهاجرين وفى مقدمتهم: سماحة زعيم فلسطين المفتى الأكبر الحاج محمد أمين الحسينى، وإن أى مهاجر لا يرضى أن يعود إلى الوطن إلا إذا أعطى هذا الحق لسماحة المفتى.
  3. إظهار عطف الحكومة الفلسطينية على أسر المجاهدين بمنحهم الإعانات والتسهيلات التى تعوض عليهم بعض ما فقدوا من أرواح وأموال، وتضمن لهم الراحة فى معيشتهم وظروف حياتهم.
  4. اعتراف الحكومة البريطانية باستقلال فلسطين عربية مسلمة والتعاقد معها تعاقدا شريفا على نحو ما حدث فى مصر والعراق مثلا.

ونحن نعتقد أنكم بذلك تقدمون لبريطانيا خدمة جليلة بقدر ما تخدمون عرب فلسطين، فالفائدة للطرفين معا.

ونعتقد كذلك أنكم إذا جليتم للساسة البريطانيين حقيقة شعور الشعب المصرى، وهو بلا شك صورة من شعور غيره من الشعوب الإسلامية، وأقنعتموهم بأن بريطانيا حين تفعل هذا تظفر إلى أبعد حد بالتأييد القلبى والعملى من الشعوب الإسلامية والعربية كلها، وتسد الباب على الطاعنين عليها، وتقدم بذلك دليلا على أنها تقدر العدالة والإنصاف -كان ذلك سببا للعمل من جديد على إنصاف فلسطين الباسلة والاعتراف بحقوقها كاملة.

نقد حكومة علي ماهر

لم يهادن الإخوان المسلمون علي ماهر ولا وزارته على طول الخط، لأنهم كانوا يتعاملون بقاعدة إذا أحسن قالوا له أحسنت وإذا أساء قالوا له أسأت، ولذا لم تكن وزارة على ماهر دائما محقة في قراراتها.

ولذا هاجمها الإخوان في بعض القضايا التي أصرت عليها الوزارة دون سماع لغة العقل في ذلك. ففي مجال الإصلاح الاجتماعي طالب الإخوان الحكومة بإلغاء البغاء والقمار ومحاربة الموبقات التي ألمت بالمجتمع، وانتقد الإخوان تهاون الوزارة في محاربة القمار، وتهكمت "النذير" على تلك التهاون التي انحصرت في منع المراهنات غير المرخص بها.

كما انتقد الإخوان إعادة الحكومة بحث مشروع اليانصيب الحكومي حتى توفر أموالاً لاستخدامها في وجوه الخير، وكانت افتتاحية مجلة "النذير" تهاجم ذلك المسلك وكتبت تقول:

"أيها الإحسان .. كم من جرائم ترتكب باسمك"، وحينما حاولت الحكومة إلغاء البغاء السري والعلني طالبها الإخوان بتطبيق شرع الله حتى تقضي على البغاء، وانتقدوا خطط الحكومة في الإصلاح الاجتماعي، وبأن ما ظهر من خطوات وزارة الشئون يدل على أنها إما أنها تعمل بغير فكرة أساسية في الإصلاح، وإما أنها اختارت لنفسها السير على رسم أوروبي بحت غير ناظرة إلى تعاليم الإسلام، ولكنها لا تريد أن تصارح الناس بذلك، فهي تسايرهم في بعض المظاهر الإسلامية لكي تستر ما تضمر من برامج.

وحينما عاد علي ماهر من مؤتمر لندن حيث كان له موقف قوي تجاه القضية الفلسطينية خرج الإخوان لتحيتهم، غير أن أحمد السكري -وكان يقود المظاهرة- هتف بحياة علي ماهر، فكان ذلك مصدرًا لاستياء بعض الإخوان، وحينما عادوا اشتكوا للأستاذ البنا فعاتب الأستاذ السكري على هذا التصرف الذي لا يعبر عن فهم ومبادئ الإخوان المسلمين.

وقد استغل بعض المتربصين بالإخوان الحادثة للقول بأن الإخوان كانوا أداة في يد علي ماهر والقصر لمحاربة الوفد، وهذا أمر مخالف للحقيقة؛ لأن أول من اعترض على الهتاف كانوا هم الإخوان أنفسهم، وأقرهم الإمام البنا على ذلك، وليس أدل على أن هذا الأمر كان خطأً فرديًا من أحمد السكري من أن أحدًا بعد تلك الحادثة لم يذكر أن الإخوان هتفوا لأحد بشخصه.

لم يترك الإمام البنا الأقوال تتبادل، لتصبح سبه في جبين الإخوان، لكنه شرح الموقف وملابساته عبر صحف الإخوان، حيث كتب يقول:

خلال الأسبوع الماضى عاد رئيس الحكومة من الإسكندرية إلى القاهرة؛ لحضور جلسة دار النيابة، ورأى الناس وتحدثت الجرائد بأن وفدًا من الإخوان المسلمين كان فى استقباله( )، لفت هذا الموقف نظر كثير من الإخوان والمتصلين بهم، وأخذوا يتساءلون ما معنى هذا؟ هل يريد الإخوان بذلك أن يتملقوا على ماهر باشا ويتقربون إليه؛

ليفيدوا منه مغنمًا وينتفعوا بجاهه وسلطانه فى هذا الوقت العصيب؟ وهل يريد الإخوان بهذا أن يخرجوا على ما عرفه الناس عنهم من البعد عن الحكام وأصحاب الألقاب والرتب إلا من تمسك منهم بدينه وأخلص لربه وعمل للإسلام وقليل ما هم.

وتلك هى ميزتهم التى كانت السبب الأول فى نجاحهم والتى فارقوا بها كل العاملين للإصلاح فى مصر تقريبًا فحفظوا لأنفسهم عزتها ولدعوتهم كرامتها؟ وهل رأى الإخوان المسلمون فى على ماهر باشا زعيمًا لهم يصح أن يحمل دعوتهم ويرفع لواءهم فهم لهم متبعون ولسياسته مروجون؟

هذه كلها أفكار بعيدة عن الحقيقة كل البعد فالإخوان على بيعتهم لله ولرسوله، لا يتملقون شخصًا ولا يستمدون من إنسان معونة، ولا يرغبون ولا يرهبون ولا يخشون أحدًا إلا الله له يعملون وعليه يعتمدون وبه يستنصرون مؤمنين كل الإيمان بقول الحق: ﴿إِن يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ﴾(آل عمران: 160).

والإخوان لا ينزلون عن خطتهم التى فرضها عليهم الإسلام بعزته وعلو مكانته، فهم إنما يقيسون الناس بمقياس واحد هو قربهم من الإسلام أو بعدهم عنه وبقدر هذا القرب أو البعد تكون منزلة الرجل فى أنفسهم مهما كانت رتبته ولقبه ومهما كان جاهه وسلطانه.

والإخوان المسلمين لا يرون زعيمًا لهم إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن تمسك بسنة محمد صلى الله عليه وسلم وقال بقوله، وعمل بعمله، وتخلق بخلقه، وفنى فى دعوته، وبذل لشريعته، وكان مثلاً حيًا لتعاليمه فهو عند الإخوان المسلمين الوارث الذى يسيرون معه وينهجون نهجه.

وإذن ما معنى هذا الموقف الذى لم يؤلف ولم يعرف عن الإخوان المسلمين؟!الأمر هين أيها المتسائلون الذاهبون فى الظنون كل مذهب، المتلمسون للبرآء العيب.

تجتاز مصر الآن دورًا خطيرًا لا حد لخطورته، كله مفاجئات وتقلبات، وللحكومة فى هذا الدور -ولاسيما وقد أعلنت الأحكام العرفية- سلطتها الواسعة، وهى تستطيع بهذه السلطة أن تحتفظ بحقوق البلد كل الاحتفاظ، وتسير بسفينتها فى وسط العواصف إلى بر السلامة، وتستطيع كذلك أن تفرط فى هذه الحقوق وتتساهل فيها فتقود الوطن إلى شر مستطير وخراب محقق، هذا موقف يستدعى الاهتمام من كل مخلص غيور، ويهيب بكل الهيئات أن تشعر الحكومة بوجودها وبرقابتها الفعلية، وباستعدادها التام لطرح الخصومات والأحقاد والشئون الشخصية، وتأييد الحكومة فى كل موقف يراد فيه الضغط عليها؛ لتتهاون أو تتغافل أو تفرط فى حقوق هذا الشعب الطيب الكريم.

وبذلك تجد الحكومة نفسها أمام أمرين: أمام رقابة أدبية تدفعها إلى اليقظة والتحرى، وأمام تأييد فعلى فى كل موقف تحتفظ فيه بحق الوطن، وبالتالى أمام سخط قوى إذا تهاونت أو فرطت، ولا تنفع حينئذٍ الشدة مهما بلغت فى كبح جماح أمة ترى أنها تقاد إلى هلاك محقق وخراب ذريع.

هذا الموقف وما صحبه من أسباب وملابسات وظروف لا محل لذكرها، هو الذى دعا الإخوان المسلمين إلى أن يشعروا رئيس الحكومة بوجودهم فى مظهر ودى، وليس لذلك معنى إلا أنهم يقولون له: إن هذا الشباب الذى يستقبلك ومن ورائه آلاف الإخوان فى كل نواحى القطر يرقبون ما تعمل ويقدرون ما يحيط بك من ظروف حرجة وتبعات خطيرة أنت وحدك تحمل عبئًا بوصف أنك الحاكم العسكرى.

فإن حافظت على حدود مصر، فهؤلاء جنودها الأوفياء لها يعينونك ويؤيدونك، وإن فرطت وقصرت فهؤلاء الجنود أنفسهم يعرفون كيف يحاسبون المفرطين المهملين، وذلك هو المعنى الواضح الصريح الذى كشفت عنه مذكرة الإخوان المنشورة فى غير هذا المكان.

وبعد، فالإخوان يعملون لله، ويصدرون من عقيدة خالصة لا يشوبها طمع ولا هوى ولا تلحق بها غاية شخصية ولا منفعة مادية، فإن أحسنوا فمن الله ولهم بذلك أجران، وإن أخطئوا فسيبدل الله سيئاتهم حسنات بفضل الغاية الصالحة والقصد الجميل، والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.

ورغم علاقة الإمام البنا الشخصية برئيس الوزراء علي ماهر باشا إلا أنه عندما دعاه لحضور حفل زفاف ابنه بالإسكندرية فوجئ إخوان الإسكندرية بحضور فضيلته إلى دار الإخوان على غير موعد، وكان على استعداد لتلبية الدعوة في حالة التزام الحفل بآداب الإسلام وخلوه من منكرات أفراح طبقة الباشوات من: رقص، وخمر.. إلخ.

وتصرف الإمام البنا في هذا الموقف بذكاء فقد كلف أحد الإخوان الذين رافقوه من القاهرة بالانتقال لمشاهدة أوضاع الحفل وإحاطة الإمام هاتفيًا بما رأى، فإن لم يكن بالحفل مخالفة شرعية أتم الإمام ما جاء من أجله، وإن وجد الأخ ما يسبب حرجًا للمرشد قام هو بالواجب، وعندما وجد الأخ أن الحفل كباقي هذه الحفلات لم يتصل بالإمام ففهم الإمام ولم يذهب.

لم يؤيد الإخوان المسلمون وزارة علي ماهر وهي في السلطة فقط ولكنهم بعد أن ترك علي ماهر السلطة كتبت صحيفة الإخوان المسلمين الأسبوعية تحييه على جهوده في الإصلاح أثناء الوزارة وتدعو حكومة النحاس باشا أن تكمل المسير في سبيل الإصلاح فكتبت تحت عنوان "بين عهدين" تقول:

انقضى عهد الوزارة الماهرية بما حفل به على قصر مداه من مشروعات وإصلاح، ولا يسع المنصف النزيه إلا أن يثني على همة الوزير الجريء ماهر باشا وإخلاصه، فلقد استطاع أن ينجز في بضعة أشهر ما لم يستطعه سواه في سنوات، وتناول إصلاحه الصحافة والتشريع وتشجيع الروح الرياضية وإنجاز المعاهدة العربية المصرية التي كان من أثرها اعتراف الحكومة المصرية بحكومة الحجاز، وغير هذا مما لا يتسع المقام لذكره تفصيلاً.

بيد أننا يعز علينا كثيرًا أن يتم في عهده مشروع ترجمة القرآن، فلقد خطا بذلك خطوة جريئة، قابلها المسلمون بالفزع والدهشة، وجأر الشكاة منهم إلى المراجع العليا يلتمسون وقف هذا المشروع الخطير، فلم يأبه لشكواهم أحد، وسار أنصار هذه الفكرة في طريقهم لا يلوون على شيء.

والآن وقد خلفت الوزارة الماهرية وزارة صاحب الدولة النحاس باشا الرجل المعروف بالتقوى والنزاهة والصلاح، فإنا نرجو أن يتم الله على يديه ما لم يوفق غيره إليه من نصرة الدين وإعزاز كلمة الله فيستهل أعماله الصالحة بوقف مشروع ترجمة القرآن.

وهنا أيضًا مشروع جليل نرجو أن يوفق الله الوزارة الوفدية إلى إنجازه في عهدها المبارك إن شاء الله وهو مشروع جعل التعليم الديني أساسًا في مناهج التعليم، فلقد توالت الوزارات ولم تعمل إحداها على ذلك مع ثقة الجميع بفضل التهذيب الديني وتنشئة الصغار على أساس متين من التربية الدينية.

وبعد فهذه كلمة موجزة نذكرها بمناسبة تتابع هذين العهدين آملين أن يوفق الله أولي الأمر لما فيه صلاح الدين والدنيا.

كانت هذه هي العلاقة التي كانت بين الإخوان وهذه الوزارة، ورأينا كيف جمعت بينهما مصلحة الوطن

المراجع

  1. فؤاد كرم, النظارات والوزارات المصرية, الجزء الأول, الطبقة ثانية, الهيئة المصرية العامة الكتاب
  2. عبد الرحمن الرافعي: في أعقاب الثورة المصرية ثورة 1919 – الجزء الأول – الطبعة الثانية - طبعة دار المعارف - القاهرة 1409هـ / 1989م.
  3. مجلة النذير، العدد (33)، السنة الثانية، 25 شعبان 1358ه/ 10 أكتوبر 1939م، ص(4-8)
  4. المصدر السابق: العدد (27)، السنة الثانية، 6رجب 1358ه/ 22أغسطس 1939م، ص(3-4).
  5. مجلة النذير، العدد (33)، مرجع سابق
  6. جمعة أمين عبد العزيز: أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، دار التوزيع والنشر الإسلامية.
  7. الإخوان المسلمون، السنة الأولى، العدد (190)، 23 محرم 1366- 17/12/1946، ص(1).
  8. المصدر السابق: العدد (3)، السنة الرابعة، 7صفر 1355ه/ 28أبريل 1936م، ص(16-17).
  9. مجلة النذير، العدد (35)، السنة الثانية، 10 رمضان 1358ه- 24 أكتوبر 1939م، ص(8-10).
  10. مجلة النذير: السنة الثانية، رمضان 1358ه/ نوفمبر 1939م.
  11. عبد العظيم المطعنى: (19رسالة من حسن البنا إلى قيادات الدعوة الإسلامية) – صـ50.
  12. مجلة النذير، العدد (33)، السنة الثانية، 25شعبان 1358ه- 10 أكتوبر 1939م، ص(13-14).
  13. محمود عبد الحليم: الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، دار الدعوة، 1999م.
  14. جريدة الإخوان المسلمين– السنة الرابعة – العدد 6 – 28صفر 1355هـ / 19مايو 1936م.