الإخوان المسلمون في سوريا ( ممانعة الطائفة وعنف الحركة )

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإخوان المسلمون في سوريا
ممانعة الطائفة وعنف الحركة

مركز المسبار للدراسات والبحوث

تقديم

تكتسب تجربة الحركة الإسلامية السورية أهميتها من نواح عديدة ففضلا عن قدمها النسبي حيث تعود الى أربعينيات القرن الماضي فإنها تمايزت عن شبيهاتها في الدول الأخرى فنشأ جماعة الإخوان المسلمين في سوريا والتي سبقتها الجمعيات الخيرية التي كانت تمارس دورا سياسيا بشكل من الأشكال – ميزت بارتباطها الوثيق بطبقة التجار وكبار الملاك كما تركز صراعها بشكل رئيسي ضد الحركات القومية العربية وضد الشيوعيين وتحولت في الخمسينيات الى قوة تقليدية مهمة وكان الإخوان السوريون في احدي المراحل ممثلين في البرلمان الأمر الذي لم يسبقهم اليه أى من التنظيمات المماثلة في دول أخري ويظل سؤال الديمقراطية والمشاركة مطروحا في حوارات أعضائها على الدوام .

وبالنظر الى تنوع البنية المجتمعية العرقية والطائفية السورية فقد تميزت التجربة الإسلامية السورية أيضا بالتنوع بين تيار معتدل لا يحبذ الصدام ولا يرمي الى القفز على السلطة بالقوة وتيار عنيف اندفع الى صدام دموي مع السلطة الحاكمة ونتج عن ذلك مجازر دموية كان ضحاياها في صفوفي الإسلاميين يعدون بعشرات الالاف وكان البعد الطائفي حاضرا في كل مواجهة وهو أيضا ما لم تناظره تجربة حركية إسلامية أخري بل وخرج من عباءة الحركة الإسلامية السورية منظرون جهاديون ومقاتلون تحت راية عولمة الجهاد أمثال أبو مصعب السوري فضلا عن تمايز التجربة السورية بموجات من " الهجرة " التي اضطرت إليها عناصر الحركة الإسلامية في أعقاب كل مواجهة وهذه الهجرات كان لها تأثيراتها سواء على مستوي مد الحركة بروافد فكرية وتنظيمية جديدة أم على مستوي الانشقاقات التي أحدثتها في صفوفها.

يتناول هذا الكتاب تجربة الإخوان في سوريا بالرصد والتحليل عب عدد من المحاور تغطي كل جوانب التجربة أو أغلبها .

رئيس المركز
تركي بن عبد الله الدخيل

الإسلام السياسي في سوريا (خريطة معرفية )

د. صلاح نيوف

تركز صعود الحركات الإسلامية السياسية في دول عربية خلال تراكم حصل لها في الستينيات ومن أجل فهم هذا الصعود, لابد من العدة الى هذه السنوات التي ستشهد بداية أزمة القومية العربية سياسيا واقتصاديا " أزمة ستقود الى تغيرات في طبيعة الطبقات البورجوازية المهيمنة في المنطقة ".

نشير – بداية – بشكل مختصر وسريع الى البدايات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع عصر النهضة العربية حيث عملت الأيديولوجية السلفية ( جمال الدين الأفغاني ( 1838-1897 ) على محاولة جعل الإسلام يتبني أو يدخل العالم الحديث وتحديد وسائل اللحاق وتعويض التأخر ثم تجديد المبدأ المؤسس للمجتمع الإسلامي أى الخلافة والخليفة, بالإضافة الى تفسير الشريعة وفق ضرورات الزمن ثم إقامة ما يسمي ( الشورى ) فمثلا بالنسبة لرشيد رضا ( 1860 -1935 ) كان السؤال أو القضية الملحة يتعلق بالشورى بالطريقة التي تدعم سلطة ونفوذ " العلماء " لن هذه التسوية بين التحديث وفكر " الوقاية " الإسلامي وصون الماضي لم يستفد منها سوي الطبقات صاحبة الامتيازات في المدن .

في سوريا ستؤدي مجموعة من الإجراءات أهمها تنظيم السوق, التجارة, الأعمال الربوية إخضاع الحرف والتنظيمات الحرفية الى قيام قاعدة اجتماعية لـ " تحالف موضوعي " في مدينة حلب التي ظهر فيها أهم قادة الإخوان المسلمين ودمشق وحماة وقاعدة للسلطة الاستبدادية – المملوكية والعثمانية " كان أساسها رجال الدين أو " العلماء " وضع هذا التحالف ومعه قوة السوق نهاية لهما مع التدخل الأوروبي لكن الحرفيين – بشكل مفاجئ – أفقروا وتحولوا الى طبقة أخري أدني من كبقتهم الحقيقية.

الأمجاد الغابرة للتجار التقليديين شجعتهم ليصبحوا وسطاء عند طوائف أخري ( اليهود والمسيحيون ) وذلك لتقوية مراكزهم الكمبرادورية الخاصة وتمت المباركة لهؤلاء التجار من قبل " أئمة الاستبداد " العلماء ,كما يسميهم محمد حربي في كتابه .

وضمن هذا السياق فإن المثقفين أو المفكرين سيفضلون إعادة التصالح والتناغم بين الجوانب الإيجابية للثقافة الغربية والصفحات المشرقة من تاريخ الإسلام " يدعون الى دولة ديمقراطية مؤسسة على الشورى والعدالة وعداؤهم للاستبداد العثماني يدفعهم الى تمجيد الحرية والعروبة وهي مفردات ثورتهم المستقبلية تحت الراية الهاشمية البريطانية عام 1916.

ستخلط هذه الثورة العربية الكبرى من فوق حصان بريطاني الأوراق وتزور الوعي لدي الطبقات الخاضعة حيث سيجتمع الحسين بن على مع التجار والملاك الكبار , والمفكرين, والمثقفين من أجل محاربة الأتراك وإعلان استقلال العرب.

وبعد انتصار الثورة لم تستمر حكومة الملك فيصل في دمشق سوي 22 شهرا فقد دخلها الجنرال الفرنسي " غورو " في عام 1920 في هذه الظروف القومية التقليدية المعبر عنها بتحالف من الطبقات تحت قيادة البورجوازية التجارية مع الأرثوذكسية السنية ليشكلا كتلة واحدة انهارت مع القوة المتنامية للتغلغل والتدخل الأجنبي وفي مواجهة صعود طبقات اجتماعية جديدة لا تشكل القومية بالنسبة لها تماثلا مع الأرثوذكسية السنية حيث إنها شكل أيديولوجي لهيمنة كبار تجار السوق .

وبالنسبة لهذه الطبقات الجديدة إذا كان الهدف هو إدارة الظهر للسلفية فإنه لابد من كسر البني التقليدية العشائرية القائمة على العصبية الطائفية أو العرقية وغيرها وبعد ذلك إسقاط مشروع الانتداب الفرنسي لبناء كيانات أو دويلات طائفية في سوريا ( العلوية الدرزية... الخ ) سيتحول في هذه الصيرورة التعارض الطبقي بين الطبقات الجديدة من البورجوازية الصغيرة والطبقات الحاكمة السابقة الى مواجهة بين الإسلام وهذه القومية المسماة : " ثورية " والقادمة من البورجوازية الصغيرة ولكن هذه الخيرة ومن أجل الاستمرار في استقرار سلطتها كان تحطيم البنية الاجتماعية والاقتصادية التقليدية السوق أو الملكيات العقارية الكبيرة.

في هذا السياق الاجتماعي / السياسي ستولد "حركة الإخوان المسلمين في سوريا وقد استسهل بعض الكتاب والمثقفين خلق تعارض نهضة ليبرالية عظيمة مع الإخوان المسلمين " الظلاميين " لكن الصورة لم تكن كذلك والبعض الآخر رأي أنه في الوقت الذي تكسرت وتهشمت واجهة التحالف بين الطبقات فالإخوان المسلمون سيكونون هم الشكل الأكثر تعبيرا عن سقوط وفشل النهضة العربية .

وسنري لاحقا الكيفية التي نشأ بها التنظيم الأول للإخوان المسلمين في سوريا وفي مدينة حلب عام 1937 , وكيف أنهم خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي سيشكلون شبكة من العلاقات مع التجار الذين بشكل خاص لهم ارتباط وثيق بالإسلام ومع كبار الملاك الذين سيضعف دورهم تدريجيا من خلال عمليات وإجراءات التأميم التي شملت قسما كبيرا من التجارة والإصلاح الزراعي .

سيتركز صراع الإخوان المسلمين بشكل رئيسي ضد الحركات القومية العربية ( البعث ,الحزب الإشتراكي العربي ) وضد الشيوعيين لقد أصبحوا في بداية الخمسينيات قوة سياسية حقيقية من بينهم شخصيات دينية تقليدية مهمة وأبناء الطبقات الميسورة في المدن , في ما بعد تم إبعادهم سياسيا مع نهاية الخمسينيات ليدخلوا بذلك العمل السري أما تراجع الإسلاميين في سوريا بعد منتصف الخمسينيات فيمكن رده الى عدة أسباب منها :

1- الإخوان المسلمون في سوريا لم يكن لديهم أى جهد لجمع السلفيين في البلاد والذين صارعوا من أجل حماية والحفاظ على مواقعهم لا سيما في السيطرة على " الوقف " التابع للمؤسسات الدينية هذه الامتيازات أصبحت تحت التهديد منذ نهاية الدولة العثمانية حيث كانت للسلفيين الامتيازات في الجوامع ومناطق نفوذ خاصة بهم .

2- صعود البورجوازية الصناعية وشخصيات بورجوازية ديمقراطية كخالد العظم مثلا والشعبية المتنامية للتعددية السياسية كل هذا شغل الإخوان المسلمين ( الذين يحملون شعار : إما تأخذ الإسلام بكليته أو تتركه ) عن جميع الطبقات الأخرى الصاعدة في المجتمع .

3- مشاركة الأحزاب القومية العربية والشيوعية في الصراع من أجل العمال وتقزز الإخوان المسلمين من ذلك , أيضا هذا أبعد الإخوان عن القطاعات المنتجة في المجتمع وجعلهم يتقوقعون داخل الطبقات الوسطي ( التجار , المهن الحرة , المعلمين... ) وهذا الانغلاق في الطبقات الوسطي كان الأساس في تحالفهم مع " حزب الشعب هذا الأخير هو الممثل الأكثر طبقات الشعب تقهقرا داخل المجتمع .

4- طبيعة المجتمع السوري المؤلف من العديد من الأديان , الطوائف والعرقيات أعطت قوة وأفضلية للمفاهيم والكلمات التي تحمل معني الوحدة ( المفاهيم القومية , المفاهيم الديمقراطية " على حساب الشعارات الدينية الصافية التي تشكل تمييزا بين المسلمين السنة والآخرين .

ولكن في الواقع كان صعود عبد الناصر والقومية العربية , عاملا حاسما في تهميش الإخوان المسلمين فعلاقة عبد الناصر بالإخوان في مصر منذ 1954, وضعت نظراءهم في سوريا ضمن أعداء الناصرية وهذا في النهاية ما جعلهم يدفعون المن غاليا منذ نهاية الخمسينيات وخلال الستينات اختفي الإسلام السياسي تقريبا بالكامل كقوة اجتماعية وسياسية منظمة وما الانتفاضة في مدينة حماة 1964 ودمشق 1966 , الا ردات فعل عفوية للتجار المنظمين من قبل بعض الشخصيات الدينية ضد التأميم للفعاليات الاقتصادية الأساسية أكثر مما كانت عملا منظما من قبل الإخوان المسلمين .

وخلال العديد من السنوات تقلص هذا الإسلام السياسي الى ممارسة العمل السري أو في قسم كبير منه , دخل الحالة السبات العميق . والحركة التي أعيد توليدها في بداية السبعينيات ليس لها نهائيا طبيعة الحركة كما كانت من قبل وليس لها أيضا الأهداف الاجتماعية نفسها .

إنها بداية التعبير عن الأزمة والسقوط للقوميات السياسية والاقتصادية حيث ستوجد داخل الطبقات الوسطي نفسها ومنهم المعلمون , الطلاب , الضباط , الأطباء , المهندسون , هؤلاء يشكلون الهيكل أو البنية لهذه الولادة الجديدة للإسلام السياسي في سوريا فالمحتوي الجوهري للخطاب السياسي وغيره هو نقد اليسار القومي والذي قدم له سابقا العديد من الكوادر نقدا من قبل الطبقة الوسطي المحرومة ووجد خلال هذه الفترة في حركة أكثر اتساعا من حي التحولات الاجتماعية والاقتصادية في كل الشرق الأوسط إنها الفترة التي صعدت فيها وبقوة الملكيات والإمارات البترولية هذه الحركات الإسلامية ستجد داخل هذه المتغيرات ظروفي تطورها ونموها أكثر من تطور السلطات القائمة كما هي الحال في سوريا ومصر من غير أن ننسي تونس والجزائر , ولكن لا نستطيع الاكتفاء بتحليل الأسس الاجتماعية أو الاقتصادية للإسلام السياسي في سوريا من خلال صراع الطبقات ولا حتى بشرح لماذا قاد الصراع الطبقي الى تغطية لهذه الظاهرة أو ما يمكن تسميته : " الدور المهيمن للحرمان والاستبعاد "

تظهر التحركات الأخيرة للتيار الإسلامي التي ظهرت قبل سنوات الثمانينيات الحالة المعنوية الاقتصادية القديمة التي تعود بدورها الى الحرب العالمية الأولي تزعزت البنية السياسية القديمة بشكل عميق بسبب هذه الحرب وهزيمة العثمانيين وظهور الجمهورية التركية والغاء الخلافة كل هذا أدي الى ظهور نموذج جديد في السياسة إذا نموذج الاقتصاد الإسلامي القديم لم يخدم أبدأ بشكل أو نطاق ثقافي من أجل تشكيل المطالبات الجديدة فبعد عام 1919 السياسية المدنية كانت محددة خلال جيلين بأشكال مختلفة من القومية والحركات الاجتماعية العلمانية .

ارتبطت التغيرات وفق العديد من المتابعين لهذه المرحلة بالأحداث في المدن والتغيرات الكبرى السياسية والإقتصادية التي نتجت عنها بمعني أنها ارتبطت بالانهيار النهائي للأنظمة الاجتماعية الخارجية والتي إذا استندنا الى سمير أمين في كتابه ( صادر عن دار أنتروبوز, باريس ) ستسجن اجتماعيا داخل الالهيات أو السماء , ولكن أيضا يمكن ربطها بانحطاط النواة القديمة المدينية المؤسسة على التجارة والحرف وتنظيمها ضمن ما يشبه " الأخويات الدينية وكذلك المبنية حول علاقات اقتصادية تقليدية بين البازار وعلماء الدين الذين بالإضافة الى دورهم كزبائن في البازار " السوق " الضروري لإعادة الإنتاج الاجتماعي للمجموع أو الكل مع ذلك ارتبطت هذه المرحلة بمطالبات شعبية أخذت طابعا دينيا وطابعا دنيويا عبر الأحزاب والنقابات .

كان طابع إعادة التشكيل وليس العودة الى التقاليد , واضحا في التحديد المدينية للشبكات الاجتماعية أو للحركات الجديدة فمعظم إذا لم نقل جميع المطالبات وجدت ضالتها في التنظيمات المدينية إنه وعبر هذا التفكك / إعادة التركيب المديني نضجت الشبكات الاجتماعية المدينية هذه الشبكات المسيطر عليها من قبل الحركات الإسلامية ( الجزائر ملا ) ليست امتدادا, أو نسخة عن الشبكات التقليدية المنحدرة من المدن والأسواق خاصة انه من المعروف أن المدينة والسوق لم يكونا المكان المؤسس لتشكل الدول في الشرق الأوسط فشريعتهما وضعت دفعة واحدة قيد الاختبار والمساءلة من قبل الحركات القومية كما تشهد بذلك المعارضة من قبل الإخوان المسلمين في سوريا ومصر .

في سوريا التحركات التي انطلقت من قاعدة خاصة هي هذه شبكات التقليدية حلب وحماة هذه التحركات كانت إشارة الى قدم هذه الشبكات لقد كانت إشارة الى ردة فعل على التحولات القائمة في المدن أكثر هي دمج لهذه التحولات داخل بنية التحركات أو " الانقاضات فمن بين مختلف التظاهرات في حلب ما بين عامي 1979 و1981 توسع البعض منها وهي بشكل خاص إضرابات التجار في بداية عام 1980 وذلك في الأسواق القديمة أكثر تأثيرا التجارية الحدية.

تعاقبت في حماة التحركات والتظاهرات الإسلامية في مواجهة البعث منذ 1965 واستمرت حتى كانت أكثر تأثيرا في عام 1982 .

عمليا خلال الخمسة والعشرين عاما الأخيرة كانت التحولات الاقتصادية المرتبطة ببرامج للتنمية تقوم بها الدولة السورية في حماة أسهمت بشكل خاص في الارتقاء بالحالة الريفية وبالمدن الصغيرة حي قامت بأعمال ومشاريع مائة وإصلاح زراعي وشبكات طق ومدارس ولا مركزية الخدمات والإدارة كل هذا سمح بتحول اقتصادي وثقافي في القرى .

وفي الفترة نفسها وجدت الطبقات المدينية التقليدية مهمشة سياسيا وضعيفة اقتصاديا فقدت عائلات الملكيات العقارية الكبرى زبائنها السياسيين من الأرياف وذهب قسم من أراضيها مع الإصلاح الزراعي أما ممتلكاتها التجارية والصناعية فقد تضررت كثيرا من تأميم البنوك والتجارة الخارجية والصناعة وبالنسبة للحرفين أو القطاع الحرفي فقد عاني منافسة كبيرة وقاسية من القطاع العام الصناعي الجديد بعد تطوره الملحوظ منذ 1970 .

في حماة 1960 , وفي القطاع الصناع 3000 شخص في الورش الصغيرة و520 في المشاريع التي تستوعب أكثر من 20 عاملا , موظفا ( نذكر هنا أن أكبر اثنين من المشاريع تم تأميمها في عام 1965 ) ف عام 1983 ,19 الف عامل في المحافظة منهم 14 الفا في القطاع العام الصناعي .

لكن الصناعة لم تحدث تغيرات ضخمة في انتقال السكان نحو المدينة الكبيرة على العكس , أسهمت في تثبيت السكان الريفيين من خلال زرع وحدات صناعية كبري في القرى أو بتنظيم نقل الريفيين الى المصانع في الضواحي وبعد التحركات الإسلامية في عام 1982 نلاحظ انطلاقا في الاقتصاد في هذه المدينة إذ تم تشييد أحياء جديدة في المناطق المحيطة حيث تركزت الوحدات الصناعية الكبرى وظهر شريط حرفي بدأ بالتوسع في هذا المحيط الجديد في هذا الوقت , أعيد فتح التجارة في السوق القديم بعد العديد من الإصلاحات .

إعادة التنظيم لهذه العلاقات بين مدينة حماة وجوارها كانت تعني قطيعة مع " الحاجز أو السد " الذي لم كن مسموحا بتجاوزه وهو تنظيم جديد أسس لتجانس ثقافي وطائفي في حماة فالأرثوذكسة الإسلامية كانت تعلن دائما " مدينتها " وتعارض الاختلاط بين المدن الصغية والمحيطة والأرياف .

إذا كما ذكرنا سابقا الشبكات الاجتماعية الإسلامية ليست استمرارا أو امتدادا للشبكات التقليدية التي تعتبر حماة مثالا عليها وإذا وجد شكل من أشكالها فإنه عبر إعادة تشكيل كاملة وعلى قواعد اجتماعية جديدة وإعادة التشكيل هذه تشبه الى حد كبير بعد انهيار الشبكات التقليدية وصول الشيعة الى مدينة بيروت.

في هذه المناخات السياسية الاجتماعية ظهرت الجماعات الدينية / السياسية في سوريا على يد مجموعة من الطلاب العائدين من مصر بعد إنهاء دراستهم لتشكل في ما بعد القيادة التاريخية " الإخوان " ولتنظيمات ستولد بعدهم.

القادة التاريخيون للإخوانٍٍ في سوريا

مصطفى السباعي ( 1915 -1964 )

ولد في مدينة حمص السورية أتم دراسته في الثانوية الشرعية عام 1930 الف جمعية سرية لمقاومة مداس التبشير الأجنبية ثم أسهم في تأسيس العديد من الجمعيات الإسلامية " الرابطة الدينية " شباب محمد " الشباب المسلمين في دمشق ".

التحق بجامعة الأزهر في مصر بقسم الفقه عام 1933 بعد ذلك بدأ اتصاله بمؤسس حركة الإخوان المسلمين حسن البنا الذي أصبح مثلا أعلي له بعد ذلك وفي عام 1945 أعلن قيام " جماعة الإخوان المسلمين " وانتخب مراقبا عاما مدي الحياة وفي عام 1950 عين مصطفى السباعي أستاذا في كلية الحقوق في جامعة دمشق وأنشأ أول كلية للشريعة الإسلامية في عام 1955 وكان أول عميد لها في عام 1957 انتخب على رأس الهيئة التنفيذية الدائمة لجمعية الإخوان المسلمين وتنازل في العام نفسه عن قيادة الجمعية ليحل مكانه عصام العطار .

كان الدكتور السباعي الزعيم الروحي لـ " الإخوان " وقد عمل على تقوية مكانته بشكل دائم متعاونا مع القوي المحافظة ليعطي بذلك تنظيم الإخوان المسلمين قوته السياسية في سوريا أما الدولة الإسلامية المنشودة كما تحدث عنها " الإخوان في أدبياتهم وبرامجهم كانت ستبني من وجهة نظره على قواعد دينية وهي دولة " سوبر قومية " ستوحد كل المسلمين في الشرق . حاول مصطفى السباعي جاهدا لمصالحة " ضرورة التطور " مع الحفاظ على " المبادئ الدينية " هذه المبادئ من وجهة نظره حتى تستطيع الدخول الى مجال السياسي عليها أن تحصل على تفسيرات أكثر حرية ومرونة.

ضمن هذا السياق جاء كتابه " الإشتراكية والإسلام " يجرب فيه المقاربة لما سماه " الإشتراكية الإسلامية مع نظرية صراع الطبقات خاصة أن السباعي كان من دعاة العدالة الاجتماعية.

ومن الأعمال الأخرى للدكتور السباعي والتي تأتي في مجال السياسي " نظام السلم والحرب في الإسلام " " الدين والدولة في الإسلام " وفي التشريع : " الأحوال الشخصية " " المرأة بين الفقه والقانون " " مشروعية الإرث وأحكامه في الإسلام " والمرونة والتطور في التشريع الإسلامي ".

محمد المبارك ( 1912 -1981 )

ولد في مدينة دمشق في عائلة معروفة بإبداعها في اللغة العربية حيث كان والده عضوا في المجمع بدمشق أثناء تأسيسه درس في مدارس دمشق وتابع الدراسة الجامعية في كلية الحقوق والآداب أنهي دراسته الجامعية عام 1935 . أرسلته الدولة السورية للدراسة في جامعة السوربون في باريس ليدرس في كلية الآداب .

بعد عودته الى سوريا عمل في التدريس بمدارس حلب ودمشق انتخب ثلاث مرات نائبا في البرلمان عن دمشق ما بين عامي 1947 , 1958, وكان وزيرا للأشغال العامة , المواصلات والزراعية 1949, 1952 . عين أستاذا في كلية الشريعة عام 1954 , وتولي عمادتها ما بين عامي 1958 -1963 يعتبر محمد المبارك من أهم ثلاث قادة تاريخيين لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا وقد مثلهم في البرلمان وكان مستشارا تنظيميا وسياسيا للدكتور مصطفى السباعي كان في آخر حياته يعمل في جامعة الملك عبد العزيز بجدة وذلك حتى توفي في عام 1981 .

قام بتاليف اكتب التالية : " الأمة العربية في معركة تحقيق الذات " " المجتمع الإسلامي المعاصر " نحو صيغة إسلامية لعلم الاجتماع " " الأمة والعوامل المكونة لها " " جذور الأزمة في المجتمع الإسلامي " .

عبد الفتاح أبو غدة ( 19171997 )

ولد في مدينة حلب السورية أنهي دراسته الثانوية في المدرسة الخسروية العثمانية في عام 1942 , ذهب الى مصر والتحق بكلية الشريعة في الأزهر وأنهي دراسته فيها عام 1948 , بعد ذلك درس أصول تدريس اللغة العربية في الجامعة نفسها تخرج فيها عام 1950 , عاد لتدريس التربية الإسلامية في ثانويات حلب وبعدها انتقل الى التدريس في كلية الشريعة في جامعة دمشق سافر بعد اعتقاله 11 شهرا عام 1966 الى السعودية ليعمل في جامع الإمام محمد بن سعود وفي المعهد العالي للقضاء وبعد ذلك انتدب الى جامعة أم درمان الإسلامية في السودان وفي مصر التقي بمؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا وتأثر به كثيرا .

لم يعرف عنه تاليف الكتب السياسية بل ترك وراءه عددا كبيرا من المراجع الدينية تاليفا وتحقيقا بلغت ما بين رسائل وكتب 42 مرجعا نذكر منها " شروط الأئمة الستة " الحلال والحرام وبعض قواعدهما في المعاملات المالية لشيخ الإسلام ابن تيمية " يصفه السيد زهير سالم أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين المعروفن بأنه : " أسس مدرية علمية في حلب , تقوم على الوسطية والمنهجية والانفتاح وكان متجاوزا التعصبات المذهبية وكان يردد دائما بعض أقوال الإمام على بن أبي طالب كان يشدد النكير على الغلو والغالين وعلى الصعيد التنظيمي اضطر أكثر من مرة أن يستجيب لرغبة إخوانه فيتحمل منهم المسؤوليات التنظيمية فكان أن تولي منصب المراقب العام في سوريا تخلي عنه سريعا وعاد الى توليه في عام 1986 عندما عصفت بالإخوان رياح الخلاف الداخلي كان في تعاطيه السياسي يكره الغلو والتطرف في بناء سياسة الإخوان الإعلامية ".

بين الجمعيات الخيرية والتنظيمات السياسية

يوجد في سوريا ما يمكن أن نسميه " روح التسامح " هذه الروح سمحت على المستوي الشعبي بتعايش ممكن بين مكونات المجتمع السوري الطائفية والعرقية ولم يعكر شئ صفو هذا التعايش أكثر من نشوء التنظيمات الدينية / السياسية الوافدة أساسا من خارج سوريا وبالتحديات من مصر – أو ما يمكن أن نسميه : الكارثة المصرية في سوريا خاصة منذ دخول الناصري الى سوريا والغاء ثاني تجربة للديمقراطية السورية بعد ذلك المتأثرة ببعض الحركات الدعوية القادمة من شبه جزيرة العرب ورغم أنه من دمشق انطلق بناء أكبر إمبراطورية إسلامية الا أنه وجد من قبل ويوجد اليوم من يريد تعليم السوريين مبادئ الإسلام الصحيحة.

بدأ تبلور وظهور الجمعيات الإسلامية في سوريا قبل الأربعينيات من القرن الماضي وبعد الأربعينيات بدأ اهتمام الزعامات الدينية والفقهية بالعمل السياسي للوصول الى مراكز القرار نذكر هنا بعض أسماء الجمعيات الإسلامية التي شكلت بطريقة أو بآخري قاعدة لجمعية الإخوان المسلمين .

الجمعية الغراء أسست في العشرينيات على يد محمد هاشم الخطيب الحسيني كان لديها العديد من المدارس الإسلامية والتي كانت لها أدوار اجتماعية وسياسية .

جمعية الهداية الإسلامية , أسست في عام 1930 وكانت على علاقة مع الإخوان المسلمين في مصر بدأت عام 1935 .

جمعية التمدن الإسلامي أسست في عام 1932 ضمت في صفوفها ممثلين عن البورجوازية الصغيرة ومن أهمهم محمد بهجت بيطار حسن الشطي أحمد مظهر العظمة . أصدرت الجمعية مجلة أطلقت عليها اسم : مجلة التمدن الإسلامي بدأت بتدريس التلاميذ في مدارس خاصة بها مع بداية عام 1946 وامتد عملها الخيري الى مدينة القدس هذه الجمعيات كانت متعاونة في ما بينها فقد كان بعض قادتها أعضاء في جمعية الإخوان المسلمين.

جمعية الإخوان المسلمون يري العديد من المؤرخين لهذه الجمعية أنه من الصعب تحديد تاريخ دقيق لتأسيسها ولكن في أدبيات الإخوان المسلمين هناك اتفاق على أن الدكتور مصطفى السباعي أعلن قيامها في عام 1945, وهي عبارة عن دمج بين جمعيات سابقة كان السباعي قد أسهم بشكل كبير في وجودها أهمها شباب محمد والرابطة الدينية ( أسسها في حمص أبو سعود عبد السلام عام 1934 ) الشباب المسلمون في دمشق وهناك تنظيمات أخري " بشرتا " بتأسيس الإخوان المسلمين منها " دار الأرقم في حلب بقيادة عمر بهاء الأميري وقد أصبح نائب رئيس جمعية الإخوان المسلمين .

ويمكن القول إن الإخوان المسلمين في سوريا لديهم طابع خاص يميزهم عن بقية الحركات الإسلامية " الإخوانية " الأخري فهي أكثر من حركة اجتماعية أو جمعية خيرية لأن تطورها الداخلي الفكري وفق تعبيراتها اللاحقة السياسية والإعلامية كان باتجاه الدفاع عن السنة في سوريا " المحرومين أو المبعدين من السلطة " وفي عام 1945 نشر الإخوان " أهدافهم ومبادئهم " التي يبدو ومنذ البداية أنها احتفظت للجانب المسلح بمكانة خاصة ويظهر هذا من خلال تدرب أعضائها على السلاح منذ بداية التأسيس .

الإخوان المسلمون في سوريا ( 1970 -1985 )

في شهر أبريل / نيسان من عام 1964 وبعد وصول البعث الى السلطة حصل نوع من الهيجان في مدينة حماة كانت وراءه مرجعيات دينية في المدينة أعلنت الجهاد ضد البعث كانت النتيجة أن رئيس " مجلس قيادة الثورة " آنذاك أمين الحافظ ضرب جامع " السلطان " وهذا ما وضع الحزب في بداية مواجهة " حتى اليوم " مع جماعات الإسلام السياسي وبسبب ذلك عمت وانتشرت الإضرابات في دمشق والمدن السورية الكبيرة الأخرى في السنة التالية حصل الهيجان نفسه في مدينة دمشق حيث أعلن التجار إضرابا في يومي 25 و 26 / 1965 شاركت فيه وبقوة كبيرة المرجعيات الدينية كان هدفه الأساسي هو الاعتراض على إجراءات التأميم التي طالت القطاع الصناعي .

في عام 1967 ظهر مقال في مجلة جيش الشعب كتبه رئيس التحرير الضابط " إبراهيم خلاص " ويشجع فيه على الالحاد ويعتبر أن الأديان تشبه الآثار التي تقبع في المتاحف فعمت مشاعر الغضب في الأوساط الدينية خاصة في دمشق والمدن الكبرى حيث أغلقت الأسواق وحصلت بعض المواجهات المحدودة واستمرت عدة أيام ومن أجل إرضاء الشارع الديني تم توقيف إبراهيم خلاص وأحيل الى المحكمة وقام البوليس بسحب المجل من الأسواق .

وفي عام 1970 شكل وصول الرئيس حافظ الأسد الى السلطة مفاجأة كبري للأوساط التي لا تري في العلويين أنهم من المسلمين وكانت المرة الأولي بعد دخول الدين الإسلامي الى بلاد الشام فوظيفة الرئيس هي محجوزة منذ قرون للطائفة السنية هذه الإشكالية الطائفية بقيت ساخنة حتى شهر مايو / أيار 1973 عندما بدأ الحديث عن التصويت على الدستور الجديد في سوريا فالدستور الجديد لا يذكر في نصه الأساسي ولا في المقدمة أية خصوصية تتعلق بدين رئيس الدولة.

بدأ رجال الدين بالاعتراض على الدستور بسبب عدم وجود هذه المادة وطالبوا في إعلان لهم بإعادة النظر في مشروع الدستور وإدخال بند ينص على أن " الإسلام دين الدولة " وتم تدعيم الإعلان بمظاهرات عنيفة في مدينة حماه ضد مكاتب حزب البعث الاتحاد العام النسائي والمنظمات الشبابية .

ولكن الرئيس حافظ السد . أراد تجنب الصدام مع " ممثلي الإسلام السياسي السوري " وطلب في اليوم نفسه من مجلس الشعب " البرلمان " أن يضمن مادة في الدستور تشير الى أن " دين رئيس الدولة هو الإسلام " ولكن مبادرة الرئيس الأسد لم تضع حدا لحالة الغضب في الأوساط الدينية في مختلف المدن السورية ولكنه كان أقل حدة من بداياته .

السياق السياسي العام في سوريا

عرفت سوريا في بداية السبعينيات بعض النمو الاقتصادي ما لبث أن توقف سريعا وقد أعدت قيادة حزب البعث تقارير عدة تشير الى ذلك وحددت الأسباب منها قدم الات الإنتاج التمويل غير المنتظم والافتقاد الى عملية إصلاح الأجهزة والالات الموجودة وضعف مؤهلات الكوادر والفساد الذي امتد الى كل مكان ما دفع الرئيس حافظ الأسد في عام 1977 , الى تشكيل لجنة للتفتيش والغني غير المشروع " في الوقت نفسه بدأ خطاب ينتشر بواسطة الإخوان المسلمين مفاده " أن العلويين نهبوا كل البلاد .

وفي المرحلة الثانية من حكم الرئيس الأسد عرفت سوريا التوترات الكبيرة والعميقة وفي هذه المرحلة أيضا بدأ ظهور وتطور منظمات إسلامية متطرفة ما دفع السلطة الى إعادة الحسابات في أوراق متعددة وقد تحدث البعثيون في مؤتمرهم آنذاك عن الفقر في المستوي الأيديولوجي لدي أعضاء وكوادر البعث وافتقارهم الى الحماس وفي هذه المرحلة بدأت تغيرات كبيرة داخل صفوفي الجيش ومراكز القرار السياسي .

ولا يمكن إغفال تأثير الثورة الخمينية في إيران في ولادة روح جديدة للتيار الإسلامي السياسي في سوريا تبدت بزيادة كبيرة في عدد المصلين في الجوامع لا سيما في أوساط الشباب .

ومع أحداث مجزرة مدرسة المدفعية في حلب عام 1979 التي قام بها أحد التنظيمات التي خرجت من عباءة الفكر الأيديولوجي الإخواني حيث وجهت ضد طائفة بعينها الطائفة العلوية قامت السلطة بتجييش كل المنظمات الشعبية من أجل إعادة توحيد الصفوف.

اشتدت المخاوفي من أن الصراع بين السلطة وتنظيم الإخوان سيتحول الى صراع طائفي في سوريا ولكن المتابعين لتلك المرحلة كان لديهم رأي مخالف حيث إن الرئيس حافظ الأسد اتبع سياسة تهدف الى منع حدوث أى توتر له علاقة بالطائفية ولكن الظروف لم تخدم الطرفين .

بين عام 1979 و1980 صعدت مجموعات متشددة من مختلف التنظيمات الإسلامية بالاشتراك مع الإخوان المسلمين من لهجة وطريقة اعتراضها على المستوي الشعبي ف المقابل أصبحت أدوات المواجهة من قبل السلطة أكثر راديكالية وعنفا بهدف حد لهذه التنظيمات التي لم تكتف بالتغيير السلمي وفي خطاب للرئيس حافظ الأسد جاء فيه أن : " الولايات المتحدة عدو أول , والإخوان المسلمون يتعاونون مع إسرائيل والأمريكان والعديد من الشخصيات اللبنانية .

في عام 1980 أصبحت الأحداث في مكان آخر بعد حصول ما يسميه الإخوان المسلمون " مجزرة تدمر " ومقتل عدد كبير من أعضاء التنظيم المعتقلين ويتهمون فيها شقيق الرئيس السوري أنذاك لكن هذا الأخير ينفي نفيا قاطعا أية مسؤولية عن أحداث كهذه وفي عام 1982 عادت التنظيمات الإسلامية من جديد انطلاقا من مدينة حماة وفي هذه المرة قررت السلطات السورية القضاء على جميع البني التحتية لتنظيم الإخوان المسلمين وخاصة الجناح العسكري في التنظيم هذا الجناح المتهم بالقيام باغتيالات كثيرة لشخصيات من الطائفة العلوية وبالقيام بتفجيرات في مختلف المدن السورية.

نحاول هنا قدر الإمكان الابتعاد عن الخوض في التفاصيل التاريخية بسبب تلك المحنة القاسية التي عاشتها سوريا ولأن الكتابة عنها تشبه السير في حقل من الالغام ممن غير أن تمتلك خريطة لهذا الحقل لذلك نطرح السؤال التالي ما مصدر هذا الصراع الذي لا يزال مفتوحا ؟

سؤال الصراع يمكن أن يفهم بشكلين :

المقاربة الأولي : تعتبر أن أزمة الصراع كشكل من أشكال الصراع الطبقي أو الصراع الاجتماعي .

المقاربة الثانية : تعتبر أن الإخوان المسلمين تيار أيديولوجي له مصادره النظرية وقواعده الاجتماعية / السياسية وأن الأزمة ليست إلا صراعا سياسيا من أجل السلطة وقد تحول في مراحل معينة الى صراع مسلح.

المأزق الاجتماعي / الاقتصادي

في سنوات الستينيات والسبعينيات وكما رأينا سابقا أدي إخفاق التطور الاقتصادي والسياسات الليبرالية الانفتاحية التي تبعته الى ظهور طبقة ضخمة من المستبعدين أو المحرومين والتي حاولت التعبير عن نفسها في مظاهرات عمت مختلف المدن الكبيرة مع بداية عام 1970 اعتبارا من هذه الفترة تجاوزت الحركات الإسلامية مرحلة الوجود السري لتصبح احدي تعبيرات هذه النقمة أو الحرمان الاجتماعي ولكن ما حدود ومراجع هذه النقمة التي اتخذت من الإسلام السياسي تعبيرا لها ؟

ارتبطت الحركات الإسلامية في هذه المرحلة بظروفي مشابهة تهميش الطبقة الوسطي في مواجهة الليبرالية والانفتاح وإخفاق الفكر القومي الحرمان الاجتماعي وكانت تعبيرا أيديولوجيات عن الفقر والتهميش الناتج عن عملية التطور أو " التحول " الاقتصادي .

وجد الإسلام السياسي في سوريا في نفسه القدرة على تمثيل وتنظيم هذا الحرمان والاستبعاد الاجتماعي ولكن هذه الحركات الإسلامية ليس لديها أى برنامج اقتصادي أو اجتماعي يستجيب لمتطلبات وحاجات الطبقات الجديدة المهمشة وفي الواقع إن الاقتصاد الى أى برنامج اقتصادي : اجتماعي هو من أكبر المآزق الفكرية في داخل هذه التيارات والتي لم تعالج حتى الآن الا من خلال بعض التعبيرات والجمل والمصطلحات المستندة الى الشريعة الإسلامية وبقي الإسلام السياسي السوري غير قادر على تقديم إجابات على التحولات الاجتماعية والاقتصادية العميقة إن كان في ما يتعلق بالبرنامج السياسي أو العلاقات الاقتصادية المتغيرة.

وعمليا , هذه القوي الإسلامية " استمرت في فكرها المحافظ والفكر السني عموما كتعبير عن مفهومها للإسلام وحكمه كما أنها لم تتفاعل بشكل إيجابي مع التطور الوطني في سنوات الستينيات فبقيت في هامش الصراع ضد قوي التوسع الغربية وأيضا لم تصبها التغيرات البنيوية داخل الاقتصاد الوطني ولا حتى في بنيتها الاجتماعية هذه القوي عزلت نفسها لتعود الى الظهور وفق الظروف ومن غير أن تقترح أى مشروع للتغير المتدرج.

ولكن هذه التيارات الإسلامية بقيت قوة للجذب الاجتماعي بسبب تغيرين كبيرين في بداية الستينات والسبعينيات :

الأول : تسارع التوجه الرأسمالي وخضوع البلدان الطرفية للمركز الرأسمالي.

الثاني : تفكك البني التقليدية بواسطة بنية الضريبة الخراجية والمؤسسات الاجتماعية الحديثة واقتصاديا تدمير الصناعة الأساسية والزراعة .. الخ. لم يترافق مع خلق نشاطات جديدة قادرة على امتصاص السكان الذين فقدوا مواقعهم اجتماعيا تمت تصفية جزء واسع من المزارعين والحرفيين.

في أزمة عام 1980 في سوريا عمل الإخوان المسلمون المستحيل لتجييش كل القوي الحية في المجتمع السوري بمعني آخر هو اصطدام بين أيديولوجيتين متنافستين " عربية اشتراكية " و " إسلام أصولي متشدد " وفي جميع الظروف عندما يطفو مشروع إسلامي سياسي على السطح فهذا مؤشر على ضعف إذ لم نقل فشل المشاريع الأخرى المواجهة .

في هذا الصدد يقول " خالد بكداش " الأمين العام للحزب الشيوعي السوري وعضو في الجبهة الوطنية التقدمية التي يرأسها حزب البعث في سوريا وتكررت هي في حقيقتها العميقة صراع وطني وصراع طبقي على التوجهات الكبرى للبلاد في ما يتعلق بالسياسة الخارجية كذلك يرفض حزبنا منذ البداية وبقوة كل الصراعات ذات التعبير الديني أو الطائفي .

صراع من أجل السلطة

وجد الرئيس حافظ الأسد نفسه منذ عام 1979 في مواجهة مع أزمة هي الأكثر صعوبة في تاريخ البعث بعد عام 1970 حيث سلسلة من التفجيرات والاغتيالات استهدفت مسئولين بعثيين أو شخصيات علوية وصلت الى سبعين شخصية في أشهر قليلة من بينهم الدكتور محمود شحادة , أحد أصدقاء الرئيس الأسد ومقتل رجل الدين العلوي " يوسف صارم " في محافظة اللاذقية ولم ينفع الرئيس الأسد مبادراته الدائمة تجاه رجال الدين في سوريا الإخوان المسلمون والذين يهدفون الى قلب النظام من خلال توظيف العنف وإقامة نظام على الشريعة الإسلامية نجحوا في تطوير وبناء العديد من الخلايا لهم في جميع أنحاء سوريا ولكن معظمهم تركز وبنسبة 80% في محافظتي حماة وحلب وفق تقارير السلطات السورية .

من جانبه أعلن وزير الإعلام أحمد إسكندر أحمد في عام 1979 أن الإخوان المسلمين في سوريا لا يمثلون منظمة سياسية ومع ذلك وبعد أحداث 1979 قبلت الحكومة السورية بشكل غير مباشر وبوجود هذه المنظمة فوزير الداخلية آنذاك عدنان دباغ , دان بحدة الإخوان المسلمين واتهمهم بارتكاب المجازر وأعلن أن النظام سيبعد هذه " المنظمة المكونة من عناصر أجنبية المدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة.

الإخوان المسلمون من جانبهم يصارعون النظام وفق أيديولوجيتهم التي ترفض الشكل " العلماني " والاشتراكي للنظام البعثي وهيمنة مجموعة من الشخصيات العلوية على السلطة بالإضافة الى ذلك ووفق الإخوان المسلمين استخدام البعث الطائفي في سوريا " كلمتين " انقض بهما على السلطة وبشكل انتهازي " الحرية " والتي لديها قوة تأثيرية كبيرة على الناس " الوحدة " التي هي من الآمال الغالية على قلب المواطن السوري والمواطنين العرب .

تنظيميا يمكننا الحديث عن التكوينات التي شكلت الإسلام السياسي السوري والتي شاركت مباشر أو غير مباشر في أزمة التيارات الإسلامية مع السلطة في سوريا منها " حركة التحرير الإسلامي "

ومركزها في حلب وأسست في عام 1963 وفق العديد من المراجع ويعود تأسيسها الى الشيخ عبد الرحمن أبو غدة وقد حصلت على مساندة سياسية من شخصية معروفة في سوريا معروفي الدواليبي سوري وكان مستشارا في احدي محاكم السعودية ولكن لم يعرف عنه أنه كان تنظيما من جماعة الإخوان المسلمين طبعا هذه الحركة ستستقر في ما بعد في الأردن ولكن نود الإضافة هنا الى " حزب أو حركة التحرير الإسلامي " ووفق بعض الدراسات نشأت في الأردن على يد " تقي الدين النبهاني " ووفق أخري تشير الى أن هذا الحزب أسس في مدينة القدس في عام 1952 .

أما " كتائب محمد " فقد أسست في حماة على يد المهندس الزراعي مروان حديد توفي بعد إضراب طويل عن الطعام في مستشفي بدمشق وخلفه في قياداتها عبد السلام الزعيم.

أما في داخل حركة الإخوان المسلمين فيمكننا بشكل عام أن نميز خطين رئيسيين :

الأول : دعم الصراع المسلح ضد النظام.

الثاني : لا يفضل ممارسة العنف .

ولكن حركة الإخوان المسلمين التي تزعمها عصام العطار في هذه الفترة كانت تفضل ممارسة العنف ضد النظام القائم وفي بيان نشره عصام العطار من المملك العربية السعودية تحت اسم : " الدعوة " كتب فيه ما يلي : " هذا النظام أغلق كل الطرق القانونية والتي تسمح للشعب بالتعبير عن رأيه وإرادته , بتغيير هذه الحقيقة الفاسدة و التي يعيش في داخلها (..... ) هذا الشعب الذي أصبح ضحية للطغيان الطائفي وللإرهاب الممارس ضد الحريات والقيم الجوهرية وقد أكد لأسبوعية المانية أنه " سيعود الى سوريا في يوم ما عودة تشبه رجوع الخميني الى إيران وبعد قلب النظام في النتيجة لم يتحقق شئ من أحلام زعماء الحركات الإسلامية في سوريا .

ولكن جماعة الإخوان المسلمين وبعد الأزمة مع النظام السوري وفشلها في إسقاطه كما كانت النية تحولت الى ممارسات براغماتية مع العلم بأن هذه البراغماتية لم تمنع عصام العطار من تفضيل استخدام الصراع في مجالات أوسع تضم جميع العالم العربي ضد الأنظمة القائمة.

ولكن في سوريا فإن عصام العطار لديه اقتراحات إصلاحية في ما يتعلق بالنظام البعث وتوقف عن العمل على إسقاط النظام : " نحن لا نؤمن بالانقلاب نحن نعتقد أن التغير شئ صحي وإيجابي خاصة عندما يرغب الشعب في ذلك لا يمكن إحداث تحول من غير إرادة الشعب " إذا وبعكس بيانه الصادر من العربية السعودية يدعو عصام العطار الى مطالب إصلاحية تضمن حماية حقوق الإنسان وإنهاء حالة الطوارئ وفي شهر نوفمبر / تشرين الثاني عام 1980 صدر بيان في دمشق تحت عنوان " بيان الثورة المسلحة " مؤلف من 65 صفحة وهو عبارة عن برنامج جديد وأهداف جديدة لجماعة الإخوان المسلمين كان من بين الموقعين على هذا البيان , المراقب الحالي لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا السيد علي صدر الدين البيانوني وأذكر أنني سالت البيانوني في مداخلة على نقاة فضائية " المستقلة " عن هذا التوقيع فنفي ذلك علما بان كل المراجع التي استندت اليها تؤكد هذا التوقيع ولا تنفيه ولا يمكننا القوي هنا الا بوجود غموض في هذا المسالة فليس لدينا دليل قاطع على نفيه أو تأكيده بسبب تعذر الحصول على البيان الأصلي .

هذا البيان يعلن قيام " جبهة إسلامية " تنظم مختلف الحركات الإسلامية المعارضة للنظام في دمشق تم نشره في العاصمة السورية وفي الخارج ويمكن أن نستنتج منه سيطرة القيادة الإخوانية من مدينة حلب على تنظيم الإخوان المسلمين في سوريا فشقيق علي صدر الدين البيانوني تم اختياره للقيام بوظيفة السكرتير العام لـ " الجبهة أما عدنان سعد الدين فلإدارتها وبالنسبة لعدنان عقلة قائد الجناح العسكري في الإخوان المسلمين فقد اختير لقيادة استراتيجية العمليات الجديدة التي تقوم بها " الجبهة الإسلامية "

يؤكد أيضا الارتباط الذي حصل بين مجموعة عدنان سعد الدين " مجموعة حلب " ومجموعة عصام العطار ومجموعة دمشق أيضا وقد كان شكلا جديدا للصراع ضد النظام القائم في سوريا .

لقد اختارت المعارضة الإسلامية طرقا متعددة في التعبير منها النشرات السرية والمقابلات مع الصحف الخارجية العربية الأوروبية بهدف إعطاء أ‘مالها بعد عالميا وفي شهر نوفمبر / تشرين الثاني 1980 تم كليا تطوير برنامج " الجبهة الإسلامية " المستند أساسا الى " بيان الثورة المسلحة " 65 صفحة من خلال توجهات جديدة له .

في الجزء الأول يبين موقع الحركة بالنسبة للدولة السورية يبدأ بإجلال حسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين في مصر لجهوده الهادفة الى جمع المسلمين بهدف قيام الثورة ثم يدين الحكومة السورية " هذه الديمقراطية الزائفة " التي عززت الفساد والفقر وحكم الإمبريالية يرفض " البرنامج " الحزب البعث باستيلائه على الدولة وتعزيز الطائفية من أجل ضمان هذا الاستيلاء الثوريون الإسلاميون يريدون كسر الحالة الطائفية كما ورد في البرنامج ويدعون العلويين للالتحاق بهم على قاعدة مشتركة ونلاحظ أن المراقب العام للإخوان المسلمين اليوم في سوريا يكرر هذه العبارة بشكل دائم داعيا العلويين الى المشاركة في التغيير الجزء الثاني من " البرنامج " يحاول تطوير الأرضية السياسية التي يقف عليها مفهوم الدولة الإسلامية قائلا : إن الإسلام يسمح بتأسيس حكومة عادلة والدولة الإسلامية عليها أن تضمن المساواة لجميع المواطنين وحرية التعبير وتشكيل الأحزاب السياسية أيضا عليها في المقابل الاستناد الى نظام انتخابي مباشر وشامل احترام مختلف المجموعات الطائفية , والعرقية , والدينية ثم عليها السماح بالغاء المحاكم الاستثنائية وضمان استقلالية الجسم القضائي وضمان العمل على تحقيق الوحدة العربية عبر مجالها الأوسع " الأمور الإسلامية "

أما البرنامج الاقتصادي فيعمل على إبقاء " الوقف " كنظام لإدارة الممتلكات الدينية ويتحدث عن إجراء إصلاحات زراعية تهدف الى القضاء على الفقر مع الحفاظ على الحرية الاقتصادية في مجال التبادلات والقطاع الخاص على الصعيد التجارب والصناعي وتم الحديث عن تطوي المصانع الخاصة بالتسليح والحصول على السلاح النووي بهدف تعزيز " الجهاد " وهنا يبين قادة الإخوان المسلمين الى أية نقطة يقتربون من النموذج الإيراني في قيام الثورات .

عمليا الجبهة الإسلامية أبقت سوريا في حالة توتر دائم متابعة سلسلة التفجيرات ضد كل ما هو مقرب من رئيس الدولة السورية من جهتها قادت الصحف الحكومية السورية حملة ضد هذه القوي " صحيفة تشرين " الثورة " البعث " كرست صفحات كثيرة لتبيين أن الأعمال الإرهابية ليست الا دليلا على فقدان الأمل لدي هذه الجماعات قبل نهايتها الأخيرة لم ينته التوتر في نهاية عام 1981 وفي عام 1982 لم تعرف سوريا الهدوء أيضا .

في هذه الفترة يمكننا تقسيم المعارضة السورية الى ثلاثة أقسام :

الشيوعيون : " المكتب السياسي " بزعامة رياض الترك وقد ولد المكتب بعد انشقاق في عام 1971 داخل الحزب الشيوعي التابع لأمينة العام خالد بكداش .

الناصريون : بقيادة جمال الأتاسي ويمثله أيضا في " الجبهة الوطنية أى في السلطة بشخصية فوزي الكيالي "

البعثيون: " حركة 23 شباط أو " الجناح المتشدد " وكان صلاح جديد زعيمه التاريخي والذي كان في السلطة منذ 23 / 2/ 1966 حتى 16 /11/ 1970 إضافة الى إبراهيم ماخوس ويوسف زعين ويمكن أن نضيف مجموعة ماركسية أطلقت علي نفسها :حزب العمال الثوري " ومن ثم حزب الشخصية السياسية السورية المعروفة أكرم الحوراني .

هذه الأحزاب شكلت في ربيع عام 1980 التجمع الوطني الديمقراطي وهو تجمع معارض للنظام في سوريا تركزت مطالباتها حول حرية التعبير الاجتماع السياسي تنظيم انتخابات برلمانية حرة والغاء سيطرة العسكرية على المجتمع المدني .

لم يتناسب موقع " التجمع " وتوجهاته مع الاتجاه العام للإخوان المسلمين في سوريا فقد دان رئيسة جمال الأتاسي الأعمال الإرهابية مهما كان مصدرها معتبرا أنها ستعزز المشاعر الطائفية وتهدد الوحدة الوطنية ثم طالب الإخوان المسلمين بأن يلتحقوا بـ التجمع " ولكن ضمن نطاق برنامجه ولكن لم يسجل أى التزام بين الطرفين في هذا الشأن .

شخصية سياسية سوريا أخري ومن مؤسسي حزب البعث هي " صلاح الدين البيطار " والذي كان لاجئا في باريس وأسس فيها صحيفته المعروفة " الأحياء العربي ط وكان معارضا لرفاقه البعثيين في دمشق انتقد البيطار الطابع العنيف لمعارضة الإخوان المسلمين التي تغذي النعرة الطائفية في سوريا لقد أخفق صلاح البيطار في إقامة أية علاقة سليمة مع الإخوان المسلمين وخاصة في ما يتعلق بموافقته على التعددية أو البرلمانية وحتى اغتياله في باريس 1980 فإن البيطار لم ينجح في بناء تلك العلاقة .

وكانت هناك اتجاهات سياسية أخري في المعارضة السورية من بينها : " جماعة أكرم الحوراني " وأيضا " جماعة أمين الحافظ " التي وقعت بيانا مع السابقة تحت اسم : " المعارضة الوطنية الديمقراطية " تبين فيه إرادتها في بناء معارضة خارجية قوية وكان لها الموقف نفسه من تطرف جماعة الإخوان المسلمين وممارستها العنف .

لقد رأينا في السابق مع " الجبهة الإسلامية " أن التوترات في نهاية سنوات 19811982 لم تنخفض بشكل كبير رغم الجهود التي حاولت السلطة بذلها وبكل الوسائل .

في هذه الفترة وتحت وطأة الضغط عليها بحثت جماعة الإخوان المسلمين في كل الاتجاهات للتحالف مع قوي سياسية جديدة في بداية الأزمة كان للإخوان مفهوم مطلق للدولة الإسلامية حيث وبعد نشر بيان " التجمع الوطني الديمقراطي " في مارس / آذار 1980 رد الإخوان المسلمون بالقول : " ادخلوا في جحوركم الخاصة بالفئران إننا نحن من سيقوم بالثورة الطريق الوحيد هو الإسلام " .

ولكن عملية التحالف مع أحزاب أخري أحدثت انشقاقا جديدا في صفوفي الإخوان والذين انقسموا مسبقا حول مسالة الصراع المسلح ضد السلطة ومن الآن فصاعدا هم منقسمون بين ثلاثة اتجاهات " التاريخي " لعصام العطار " السياسي " لعدنان سعد الدين وسعيد حوى ثم " الطليعة المقاتلة " بزعامة عدنان عقلة .

ومن أجل إقناع المترددين بالتحالف مع الأحزاب السياسية حاول الإخوان المسلمون القول للبقية: إن كل الدول العربية المحيطة بسوريا تعادي قيام " جمهورية إسلامية في دمشق وإن التحالف مع الأحزاب سيبين أن الإخوان لا يريدون بناء " نظام يشوه الإسلام كالخمينية "

التحالف مع الأحزاب السياسية رفض من قبل " المجاهدين من الداخل الذين أكدوا أن الموضوع غير قابل للنقاش وأقدم عدنان عقلة زعيم " الطليعة المقاتلة " على قطيعة مع الاتجاه " السياسي " الذي استبعده من تنظيم الإخوان المسلمين في 25 / 4 / 1982 .

برنامج " الطليعة " المقاتلة " هو بناء دولة إسلامية والسبيل الوحيدة هو الجهاد باستخدام جميع وسائل القوة الممكنة في هذا الصدد يقول أحد المستشارين عند عدنان عقلة : " من أجلا إسقاط النظام لا نريد أن نضرب أيا كان ما نبحث عن ضربه هم أركان النظام ليس الوزراء والأشخاص الذين لهم مواقع غير مهمة بل الأشخاص حول حافظ الأسد والذين هم الأركان الأساسية للنظام " ولكن زعماء " الطليعة المقاتلة " لم يكونوا واضحين حول طبيعة الدولة الإسلامية الموجودة أو " الخلافة " التي يبحثون عنها زعيمها أو " الخليفة " يجب أن ينتخب من الأشخاص الأكثر علما " أهل العقد " ولكن ماذا ستكون طبيعة دستور الدولة الإسلامية ؟ هل سيضع رجال الدين علماء الدين ومن سيختار هؤلاء ؟ وكيف سيتم اختيار مجلس الشورى ؟ الناطق باسم عدنان عقلة بقي مبهما في شرحه : " في الدولة الإسلامية , حقوق كل مواطن هي محترمة لا أحد لا الدولة ولا الأشخاص يستطيعون التدخل في شؤون الآخرين (..... ) ما أربحه بجهودي الخاصة يكون لي , إذا لم يكن الحال كذلك . الدولة لديها الحق بأخذه وهذا واضح جدا في الكتب الإسلامية.

ولكنه كان واضحا أكثر في العلاقة مع الأحزاب السياسية إنه رفض مطلق فلن يسمح بأى حزب سياسي في الدولة الإسلامية المستقبلية وليس هناك أى غموض في هذه المسالة " هدفنا معروف منذ البداية إنه بناء الدولة الإسلامية وبعد كل الخسائر التي فقدناها لا نستطيع التراجع ولا تغيير هدفنا لن نغير وسوف لن نغير نهائيا ".

لقد استبعد مطلقا التحالف مع الأحزاب السياسية : " إنها لا تمثل وزنا سياسيا في سوريا والشعب فضها " " السوريون كان لديهم في السابق تجربة مع الأحزاب لقد كانت دكتاتورية خالصة " " بالنسبة لنا , يختم المستشار عدنان عقلة البشر ليس لديهم الحق في الحكم من خلال أنفسهم عليهم أن يحكموا من خلال نظام أو إرادة الله ".

بعد توجيه ضربة عسكرية قوية للجماعات المتطرفة في تنظيم الإخوان المسلمين ثم دخولهم في مفاوضات سرية مع السلطة كل هذا أدي الى الفوضى داخل التنظيم في عام 1985 رفض عدنان سعد الدين رئيس المكتب السياسي في " التحالف الوطني " ما جاء في حييات العفو والمفاوضات مع البعث ولجأ الى تعميق علاقاته مع النظام في العراق ليحصل من بغداد على مساعدة هدفها العودة الى الصراع المسلح في سوريا وجميع العمليات ضد النظام في سوريا من 13 / 3/ 1986 كانت باسم " الذراع العسكرية لحركة 17 تشرين الأول من أجل تحرير الشعب السوري وفي بيان لها صدر في باريس هذه المنظمة كانت واضحة جدا : " تحرير سوريا من النظام العلوي , المتحالف مع الخومينية ضد أبناء الأمة العربية ".

نريد هنا وفي نهاية هذه المرحلة الإشارة الى أن الإخوان المسلمين في سوريا ظهر فيهم وبشكل واضح تياران رئيسيان :

تيار المعتدلين : أو ما يمكن أن ندعوهم بذلك وهم الداعون الى عدم ممارسة العنف ضد النظام القائم طبعا كان معظم أعضاء هذا التيار في الملكة العربية السعودية.

التيار الجهادي : والذي معظمه في سوريا وارتبطت باسمه معظم أعمال القتل والتفجير ومن أهم تكويناته " كتائب محمد " والتي كان زعيمها مروان حديد ثم " حزب التحرير الإسلامي " الذي أسس فرعا له في سوريا عبد الرحمن أبو غدة ومن المفيد الإشارة أيضا الى الانقلاب الذي حصل داخل جماعة الإخوان المسلمين بعدة عودة عصام العطار الى النهج " البراغماتي " ففي مؤتمر " الإخوان في مدينة أخن الالمانية كان العطار في وضع صعب بسبب العدد القليل الذي يسير وراءه في إتباع العمل السياسي بدلا من العنف لذلك ولهذا السبب تم " عزله " وتشكيل قيادة جماعية بدلا منه وهي علي صدر الدين البيانوني المراقب الحالي للإخوان المسلمين وعدنان سعد الدين وثالثهم سعيد حوى هؤلاء الثلاثة كانوا وراء " بيان الثورة المسلحة في سوريا ومنهاجها " الذي صدر عن " قيادة الثورة الإسلامية في سوريا "

الإخوان بين منهجين

أولا يمكننا استنتاج أهم النقاط الجوهرية التي وردت في بيان " الثورة الإسلامية في سوريا ومنهاجها بتاريخ 9 / 11/ 1980 وفق ما يلي :

1- الإسلام والدولة

منذ نشوء حركات الإسلام السياسي في سوريا كان من أهم ثوابتها غير القابلة للتغير هو أن ينص دستور الدولة على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة ورغم ظهور هذه الحركات بمظهر احترام الأقليات الدينية الأخرى الموجودة في سوريا في حالات الاستقرار أو الحالات الطبيعية الا أنها ما تلبث أن تنسي عهودها ومواثيقها في حالة الأزمة أو اللااستقرار ويكون العنف أحد خياراتها المتاحة بحيث إنها لم تستطع التوصل الى قرار نهائي وجماعي لا رجعة عنه باستبعاد العنف المسلح كوسيلة لتحقيق مكاسب سياسية أو طائفية . والموافقة على مطالب هذه الحركات بتحديد دين الدولة هو إنكار التاريخ سوريا منذ وجودها لأن هذا التحديد يعني في الوقت نفسه أن التاريخ السوري لم يبدأ الا مع دخول الإسلام الى سوريا وأن مفهوم الأغلبية والأقلية ليس مفهوما ومتطورا بل هو مفهوم أبدي أزلي مصدره الشرائع السماوية أى أنه ثابت لا يتغير .

وهاذ تناقض كبير لأنه لو كان مفهوم الأغلبية / الأقلية ثابتا لا يتغير لما كان السنة في سوريا في لحظة تاريخية معينة أصبحوا في العدد هم أكثر من نصف السكان أما بعض زعماء هذه الحركات القائلين إن سوريا بلد إسلامي كبقية الدولة العربية الأخرى فإن هذا قول مجاف للحقيقة والسبب أن سوريا مثل مصر ولبنان تشكل استثناء في التركيب الطائفي والديني بمعني آخر ما يمكن تطبيقه في بلدان إسلامية " خالصة " لا يمكن تطبيقه في بلد شديد التنوع لأنه في حالة " أسلمة " مؤسسات دولة متنوعة طائفيا ودينيا فإنه وفي ظروفي وبنية التفكير العربي / الإسلامي القائمة .. ستقود هذه العملية الى اللاستقرار الدائم .

منذ دستور سوريا الشهير في عام 1950 قاد الإسلام السياسي في سوريا حملة لتضمين الدستور مادة الإسلام هو الدين الرسمي للدولة وليس دينا لرئيس الدولة.

وفي عام 1958 وأثناء الوحدة السورية المصرية لم ينص الدستور على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمية ما أدي الى انتفاضة ليس في سوريا فقط بل ومعها مصر أيضا لتعود أيضا من جديد مع دستور الجمهورية العربية السورية في عام 1973 كما ذكرنا فأسلمة دستور الدولة من أهم أهداف تلك الحركات في بناء الدولة وقد عبر الإخوان المسلمون عن ذلك في بيانهم الشهير .

2- الجهاد

اعتبر الإخوان المسلمون في سوريا أنفسهم حملة راية الجهاد في جميع بياناتهم ومبادئهم الصادرة في أوقات السلم والحرب أما هدف هذا الجهاد فهو إقامة شريعة الله في الأرض للقضاء على " الشر والظلام والجاهلية "

3- الطائفية

يذكر هنا أن مؤسسي " الإخوان " في سوريا كانوا أكثر انفتاحا واستشراقا للمستقبل من الأجيال التالية التي تزعمت هذه الحركة ونتذكر في هذا الصدد قول محمد المبارك " يجب علينا العمل من أجل تقوية جميع الأديان الإسلام والمسيحية معا فكلاهما يدعو الى التسامح والأخوة والعدالة نحن نريد نهضة الإسلام وليس إحياء التعصب "

وكان مصطفى السباعي يحمل الأفكار نفسها , حول تضامن الأديان أما عما ورد في البيان نذكر المقطع التالي : " إن الثورة الإسلامية في سوريا تري في برز الاتجاهات الطائفية منذ بواكير ها في التاريخ الإسلامي مؤشرا على السقوط والانهيار مع ذلك نلاحظ التناقض الدائم في فكر هذه الحركات بين النظرية والتطبيق فرغم هذا الفهم العميق للتاريخ الإسلامي الا أن هذا لم يمنعها من القتل على الهوية في لحظات الأزمة.

وعلى صعيد رؤيتها المستقبلية تركز الحركة في بيانها أو " المنهج البديل " على العديد من النقاط سنبينها بشكل مختصر بعد تقديمها بشح لسعيد حوى يبين فيه أسس " الإخوان في ثورتهم الإسلامية " إن جوه حركة الإخوان المسلمين هو أن حركة تجديدية للإسلام وللشخصية الإسلامية بالسير في الطريق العملي لذلك وهذا يقتضي أن تكون لهم نظريتهم الثقافية التربوية وأن يكون لهم نظامهم وتنظيمهم وأن تكون لهم إستراتيجيتهم المحلية والعالمية وأن تكون لهم خطتهم العملية لتحقيق أهدافهم واحدا فواحدا لتنال هذا العالم رحمة الإسلام .

أما بالنسبة للبرنامج المستقبلي والذي صدر في دمشق في 9 / 11/ 1980 عن " قيادة الثورة الإسلامية في سوريا " باسم سعيد حوى على صدر الدين البيانوني , وعدنان سعد الدين فأهم نقاطه هي :

1- في السياسة الداخلية

" الثورة الإسلامية الزاحفة في سوريا تعلن بأعلى صوتها أن حاجة الأمة الى استعادة حرياتها كحاجتها الى الهواء والماء والغذاء إن حركة الجهاد المباركة لتعلن على الملأ لكل المواطنين وللناس أجمعين المبادئ الدستورية التالية :

المساواة بين المواطنين : الناس كلهم عيال الله (..... ) وهم جميعها متساوون أمام القانون لا يستثني من ذلك أحد مهما بلغت منزلته .

حماية المواطنين : من أول واجبات الدولة : حماية المواطنين من الاستبداد والاستعباد والقوانين الجائرة والأحكام العرفية (..... ) ومن أى شكل من أشكال القوي الظالمة في المجتمع .

الحفاظ على كرامة المواطنين : ضمان حرية المواطن من التعذيب الجسدي والنفسي (... ) واعتبار أى لون من الوان التعذيب جريمة يحظرها الدستور ويعاقب عليها القانون والغاء السجون السياسية التي أصبحت تنافس المدارس في عددها .

الثورة الإسلامية تعلن استمساكها بالشورى وحرية تاليف الأحزاب السياسية والدعوة الى فصل السلطات إن هذه الحقوق ليست صادرة عن رأي شخصي أو اجتهادي فقهي طارئ أو موقف تكتيكي أو قرار حكومي وإنما هي من أحكام الإسلام الأساسية التي أثبتها النصوص وطبقها الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم و أى مساس بها أو تساهل فيها إنما هو خروج على قواعد إسلامية ثابتة .

2- اقتصاديا

ينطلق المنهاج من المبدأ القائل : إن " للإسلام نظامه الاقتصادي الكامل المؤسس على الاعتراف بالحوافز الفطرية التي لا يمكن تجاهلها " ويدعو المنهاج الى سياسة مالية واقتصادية ترتكز على : التوزيع العادل للثروة والقضاء على جميع أشكال النهب والاستغلال وتوفير الفرص المتكافئة وتحرير الاقتصاد من التسلط الداخلي والتبعية الخارجية القضاء على الفقر والحاجة.

ثم تحدث البيان عن أهمية القطاع الخاص والحفاظ على الثروات العامة ودعم وتطوير الصناعة وفي البيان دعوة الى تحديد ساعات العمل ( 42 ) ساعة في الأسبوع والى وضع نظامي ضريبي يتلخص في التالي : القضاء على الهدر الضريبي المتمثل في المحاباة وإعادة النظر في النظام الضريبي الذي يساوي الأغنياء بالفقراء ومراعاة العدالة بين المناطق في الجباية الضريبية وفرض ضريبة تصاعدية على المال والربح قياسا على فريضة الزكاة.

3- ماليا

إعداد الثقة الى الرساميل العربية والإسلامية وسحب جميع الأرصدة العربية والإسلامية لتوظيفها في هذه البلاد ومحاربة التضخم وعدم الى الاقتراض من الدول الأجنبية إنها وظيفة البنوك المرتكزة على الربا والفوائد واعتماد نظام المشاركة والاستثمار الاقتصادي المباشر والإقراض الحسن وتحريم الربا بكل أشكاله وصوره .

4- عسكريا

اعتماد رأي الفقهاء القائل إن الجهاد فرض عين على الرجال والنساء إذا داهم العدو أرضنا وغزا بلادنا وتأسيس عقيدة قتالية جديدة تقوم على مبدأ الجهاد والقتال في سبيل الله دفاعا عن الأرض والشعب وجعل الأمن العسكري بأيد أمينة كتومة وإنشاء صناعات حربية بالتعاون مع البلاد العربية وتنظيم الخدمة العسكرية وتحرير الجيش من الطائفية والحزبية.

5- فكريا وتربويا

إنقاذ الجيل من الانحلال والتنشئة العسكرية والخلقية للأجيال وإحياء التراث وترغيب الناس في القراءة والمطالعة (..... ) وانتشال اللغة العربية من الهوة التي تردت فيها الإسلام عقيدة وعبادة وخلق وشريعة هو محور العملية التعليمية في المجتمع الإسلامي .

6- اجتماعيا

إعلان الأخوة بين الناس والنهوض بالرجل والمرأة جميعا وإعلان التكامل والمساواة في الحقوق وحماية الطفولة ورعايتها ورعاية اليتيم وكفالته وتشجيع الزواج ودعمه وحماية الأسرة وتوفير الحاجات الأساسية للناس وتأمين العلاج والمسكن للمواطنين وتوفير العمل للقادرين عليه ومحو الأمية ومكافحة الجريمة.

7- السياسة الخارجية

يركز البيان على تحقيق الوحدة العربية ثم على دعم قضية فلسطين من خلال : إعلان إسلامية القضية رفض المقررات الصادرة عن الأمم المتحدة المتعلقة بالقضية ورفض الكيان الصهيوني جملة وتفصيلا وعدم الاعتراف بوجود لليهود في فلسطين بداعي الاستيطان العودة الى القدس تحت آية الجهاد , كما يقول رسول الله : " لن تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود ".

المشروع السياسي لسوريا المستقبل

وهو المشروع الذي وضعه " الإخوان " لمواجهة التحديات السياسية والفكرية في القرن الواحد والعشرين ومحاولة منهم لتلافي أخطاء ماضيه ورغبة في التجديد يتألف المشروع من كتابين رئيسيين:

الأول : المنطلقات الفكرية والنظري التي تشكل خلفية المشروع .

الثاني : سياسات المشروع والبرنامج العملي.

والمشروع بأكمله موجود على الموقع الالكتروني لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا لذلك نفضل هنا إبداء ملاحظتين عليه بدلا من عرض أفكاره المتيسرة للجميع والتزاما بالمساحة المعطاة لكتابة هذا البحث .

بالنسبة لمرجعية الفكر السياسي الإخواني يشير المشروع الى أن " الشريعة الإسلامية في مصدريها الخالدين الكتاب والسنة هي مصدر رؤيتنا لصياغة مشروع حضاري "

بالنسبة " للكتاب " فإننا نعتقد بأنه ليس تحليلا سياسيا ولا فلسفة أو نظريات سياسية كما أن النبي العربي ليس كاتبا أو منظرا ومؤلفا للعديد من الأعمال السياسية فهو قائد سياسي ربما من طراز نادر ولكنه لم يكن منظرا سياسيا كما تريد له جماعات الإسلام السياسي ..

والمشكلة الثانية الفكرية السياسية أمام " الإخوان " أن مصدرها ليس داخل العقل بل داخل الوحي فهي من مصدر غريب عن هذا العالم وعن الإنسان الباحث عن اكتشاف محيطة إنها تأتي من الله " صاحب السيادة " فكيف نغير ونقوم بالإصلاح والتجديد – كمار يدعي الإخوان لكلام مرسل الينا من السماء .

من جهة أخري هناك تناقض كبير بين المرجعيات الفكرية السياسية الدنيوية والآخري اللاهوتية فالعقل عندما يرتقي ويرتفع الى البحث عن المتعالي والسماوي نراه ينتج ويبدع ثم يحقق سلاما وأمنا ولكن العقل المنتمي مسبقا الى كلام منزل هو مضطر ومرغم ليكون " فعل ثقة ط بمعني آخر التسليم بلا مناقشة والابتعاد عما يدركه العقل أو يمكن أن يدركه فالحركات الدينية هي خضوع من غير تذمر لأوامر الله التي تدهي هذه الحركات أنها تفهمه وبالتالي خضوع المجموع لها بلا تذمر لأننا نحن البشر مجرد مخلوقات ضعيفة خاضعة أمام أزلية وأبدية الله وسنكون كذلك في حالة وصول هذه الحركات الى السلطة حيث نعتقد أن الإخوان المسلمين ليس لديهم ما يقدموه كإضافة على الجمهورية " الإسلامية " الإيرانية.

وأيضا المسلمون في دولة " الإخوان " هم ملزمون بالخضوع والالتزام بمجموعة من الأحكام المنزلية اليها وهي ذات طابع ديني شامل يدير الحياة العامة والخاصة على حساب المساحة المتبقية للنقاش والحوار ففي دولة دكتاتورية ربما يستطيع الفرد أن يتمتع بحرية دينية وليس سياسية أما في دولة الإخوان فلا حرية دينية ولا حرية سياسية .

بمعني آخر ليس في التشريع الماورائي أو الميتافيزيقي قانون مدني أو قانون دستوري يقبل النقاش أو التجديد فالانتماء الروحي أو الإيماني الذي كلف " الإخوان " أنفسهم برعايته وحمايته يسجل ضمن ما يمكن أن نسميه : " العمل الكنسي " للإسلام السياسي يراقب المؤمنين وهم يعيشون في " الزمني " وليس " الروحي " والمشكلة هنا أن من يريد العمل كوكيل أو منتدب عن " الروحي " والمشكلة هنا أن من يريد العمل كوكيل أو منتدب عن " الروحي " فالزمني ليس من تخصصه بل عليه في فكرة السياسي أن ينتمي على الأقل الى مجتمعات تاريخية وسياسية وليس مرجعيات غيبية .

في هذه الحالة ما زالت معضلة " الإخوان " قائمة من غير حل ولا نعتقد أنهم سيصلون اليه قريبا فلابد إذا من إعادة التفكير في ما هو " سياسي " وفي ما هو " ديني " أو بشكل آخر للقول " تحديد طبيعة عملهم هل ينتمي الى الزمني أم الي الروحي ؟ فلا يمكنك الجمع بين العمل من أجل الخلاص الروحي وإدارة البورصة وصناديق الاقتراع في لحظة واحدة .

يستخدم " الإخوان " مصطلحات سياسية تنتمي جميعها الى حضارات وثقافات أخي "موطنة " " ديمقراطية " " تعددية " " تمثيلية " وفي الوقت نفسه يحتفظون باسمهم التاريخي : " الإخوان المسلمون " وهذا يتعارض مع استخدام هذه المصطلحات لذلك مشروعهم السياسي استند كبقية الأحزاب السياسية العربية الى مفاهيم تم سلخها عن سياقها التاريخي والاجتماعي والسياسي .

بمعني آخر كيف يمكن الاستناد الى المواطنة والديمقراطية كمرجعية سياسية فكرية لحزب سياسي يعبر عن جماعة دينية أو طائفية فأية مواطنة ينادي بها حزب أو تيار سياسي مؤلف فقط من الذكور ومنذ نشأته لم نلحظ دورا محوريا أو مهما للمرأة في هذا الحزب وكيف تبني حركة سياسية مشروعها الديمقراطي وتطالب بالتغيير بينما زعيمها أو " أمينها العام " يبقي في مكانه ويعاد " انتخابه " بشكل دائم !

في ما تبقي من المشروع فإنه يتطابق الى حد بعيد مع بيان " الثورة الإسلامية في سوريا ومنهاجها " 9 / 11/ 1980 وفي جميع المجالات التي يتطرق اليها مع الاعتراف هنا بأن " الجماعة مالت قليلا أو أكثر من الماضي نحو بوجود أكثر من خلفي ثقافية تاريخية وحضارية للشعب السوري كما أنها حاولت جاهد التركيز على الدولة المدنية دولة المؤسسات والقوانين .

ولكن في اعتقادنا الشخصي تبقي أية حركة سياسية في سوريا لها مرجعية طائفية تشكل حالة غير صحية بسبب عدم القدرة على توفير ضمانات دائمة أن هذه الحركات لن تتحول في لحظة معينة الى حركات مسلحة تستخدم العنف لاسيما أن مفهومها " للجهاد " هو مفهوم فضفاض ويمكن للكثيرين الاستفادة منه بنية حسنة أو غير ذلك.

كذلك بالنسبة للحركات السياسية ذات المرجعية العرقية والدينية فجميعها تشكل خطرا على بناء المجتمع المدني ودولة القانون وكما ذكرنا سابقا لأن مرجعياتها ليست من هذا العالم فهي تنتمي الى عالم لا نعرفه بشكل مباشر بل هذه الحركات تعتبر نفسها وصية أو وسيطا للحصول على هذه المعرفة ووكيلا سماويا مكلفا بمراقبة تطبيقها في النهاية لكل فرد أو جماعة الحق المطلق في التعبير عن الرأي لاسيما السياسي منه أما الاختلاف في الرأي فلا يعطينا الحق في إقصاء صاحبة وحرمانه من العيش والوجود.

الحركة الإسلامية السورية وآفاق التحول الديمقراطي

د. نجيب الغضبان

مرت الحركة الإسلامية في سوريا بمراحل مختلفة في نظرتها وتفاعلها مع العمل السياسي الديمقراطي بدأت قبل الاستقلال بتشكيل حركة الإخوان المسلمين واتسمت بعد الاستقلال بالمشاركة في العمل السياسي ثم دخلت الحرة مرحلة مواجهة مع النظام تبنت خلالها خطابا ثوريا وما لبثت أن عادت الى الخطاب الأصلي مع نهاية الثمانينيات وستركز هذه الدراسة على التنظير السياسي للحركة الإسلامية تجاه العملية الديمقراطية في مراحل تفاعلاتها مع النظام السياسي .

تبين الحالة السورية علاقة الفكر السياسي والتنظير الفقهي السياسي بالواقع فعندما كان مسموحا للحركة بالعمل العلني جاء تنظير الحركة متجاوبا مع متطلبات المرحلة لا على صعيد المشاركة العملية فحسب بل كان طرحها معتدلا وداعما للعمل الديمقراطي وعندما دخلت الحركة في مواجهة مسلحة مع النظام البعثي في نهاية السبعينيات من القرن الماضي حاولت من خلال أدبياتها تبري المجابهة وطرحت بديلا " إسلاميا " صرفا كان منسجما مع الأطروحات " الجهادية " لبعض الحركات الإسلامية متأثرا بشكل واضح بروح الثورة الإسلامية في إيران على الرغم من الاختلافات المذهبية.

أولا : علاقة الحركة الإسلامية بالنظام السياسي

من الاستقلال الى حكم البعث ( 1946 -1963 )

تبنت سوريا في بداية استقلالها نظاما سياسيا ديمقراطيا تعدديا حيث سمح لكل التيارات السياسية بالتنافس السياسي مع سيطرة للحزبين التقليدين الحزب الوطني وحزب الشعب اللذين مثلا الأسر التقليدية في دمشق وحلب واكتسب قادة الحزبين شرعيتهما من النضال ضد الاستعمار وكسب المعركة الاستقلال التي توجت في 17 أبريل / نيسان 1946 وواجه هذان الحزبان ثلاثة تيارات أيديولوجية صاعدة وهي التيار القومي الذي قاده حزب البعث العربي الاشتراكي والتيار اليساري الذي مثله الحزب الشيوعي بقيادة خالد بكداش والتيار الإسلامي الذي كانت أقوي تشكيلاته جماعة الإخوان المسلمين على الرغم من الخلافات الأيديولوجية والسياسية الحادة بين هذه القوي فقد كانت تشترك في ثلاثة أمور أساسية هي :

1- نقد التقليدية والبحث عن دور أكبر في النظام السياسي الوليد .

2- التركيز على أهمية القضية الاجتماعية والاقتصادية بتبني برامج تقلص الفجوة بين الطبقات .

3- الهم القومي المتمثل في التخلص من نفوذ الاستعمار ومواجهة الخطر الصهيوني النامي في فلسطين .

لكن النقطة المهمة أن الحركة الإسلامية لم تكن بعيدة عن القضايا الأساسية التي واجهت الدولة حديثة الاستقلال ووجدت أن أفضل السبل لمواجهتها يتمثل في العمل من داخل النظام السياسي لتحقيق أهدافها .

تعود بدايات الحركة الإسلامية المنظمة في سوريا الى منتصف الثلاثينات من القرن المنصرم عندما تنادت بعض الجمعيات القائمة في حينها والمنقسمة إقليميا ومناطقيا الى التوحد متأثرة بتجارب أخري لعل أهمها تجربة الإخوان المسلمين التي أسسها الشيخ حسن البنا في مصر عام 1928 وبالفعل فقد تم توحيد بعض الجماعات مثل جمعية فتيان محمد وجمعية الشبان المسلمين لتشكيل حركة الإخوان المسلمين في سوريا وانتخب الشيخ مصطفى السباعي مراقبا عاما لها في العام 1945 واتبعت الحركة منذ تشكيلها نهجا إصلاحيا مماثلا لخط حركة الإخوان المصرية بالتركيز على إصلاح الفرد فالأسرة فالمجتمع وصولا الى الدولة الإسلامية ودخلت الحركة الإسلامية في سوريا المعترك السياسي منذ الاستقلال واستطاعت دخول البرلمان ودفه برنامجها من العملية البرلمانية .

من الأمور اللافتة في تجربة الحركة الإسلامية السورية تجاه التجربة الديمقراطية عدة أمور منها :

أولا : اعتماد الأسلوب الجبهوي بتشكيلها الجبهة الإسلامية الإشتراكية التي استطاعت كسب بعض الشخصيات صاحبة التوجه الإسلامي .

ثانيا : تبني اليافطة الإشتراكية في عنوانها وهو ما عكس الاهتمام الكبير الذي أولته الحركة للقضية الاجتماعية الذي كانت تنافس فيه حزبي البعث والشيوعي حيث كانت هذه القضية أولوية بالنسبة لهما .

ثالثا: عدم المناداة بالدولة الإسلامية وهو أمر لافت في تجربة الحركة الإسلامية في هذه المرحلة بل التركيز على الإصلاح من خلال الإسلام ودخلت الحركة الإسلامية في هذه المرحلة المعترك الانتخابي وفازت في انتخابات عام 1949 بأربعة مقاعد احتل اثنان منهما الشيخ مصطفى السباعي والشيخ محمد المبارك كما شاركت في حكومتين في هذه الفترة.

لقد تميز خطاب الحركة الإسلامية خلال هذه الفترة بثلاث خصائص :

1- تبني الحركة الإسلامية الخط الوطني المتمثل في نقد المحاولات الاستعمارية للعودة الى المنطقة بأشكال جديدة مثل التحالفات والتدخلات المستمرة كانت الحركة الإسلامية جزءا من الحكة الوطنية وتمثل هذا وعيها بالخطر الصهيوني فقد قاد الشيخ مصطفى السباعي بعض المتطوعين الذين شاركوا في حزب فلسطين حيث أبلي متطوعوا الإخوان من السوريين والمصريين أفضل من الجيوش الرسمية .

2- تأثر الإخوان في هذه المرحلة بالموجه الإشتراكية وذلك من خلال تبني هذا الاسم لحركتهم البرلمانية والمساهمة المهمة المتمثلة في كتاب الشيخ مصطفى السباعي عن الإشتراكية في الإسلام وبرغم من أن بعض العلماء قد انتقد هذا التوجه عند الشيخ السباعي فإن " اشتراكي " الإخوان قد استقت تأصيلها من فهم الإسلام وركزت على معاني العدالة والتكافل الاجتماعي ودعم بعض برامج الإصلاح الزراعي بدلا من الفهم الذي تبناه حزبا البعث والشيوعي والذي مضي بشكل أعمق باتجاه تغييرات كبيرة في عملية إعادة توزيع الثروة لصالح الطبقات الدنيا خصوصا في المناطق الريفية.

3- تميزت علاقة الإسلاميين في هذه الفترة مع الحركات القومية بنوع من الاتفاق حول القضايا القومية الكبرى لكنها كانت علاقة خصومة وتنافس في ما يتعلق ببرامجها الداخلية , فمنذ البداية كانت علاقة الإخوان المسلمين مع حزب البعث علاقة صراعية قائمة على الشك المشترك لكل منهما تجاه الآخر. لقد كانت نظرة البعث للإخوان على أنها حركة " رجعية " تستلهم الماضي أكثر من نظرتها للمستقبل كما أنها تولي أهمية للوحدة الإسلامية على الهم الوطني والقومي من ناحيتها كانت الحركة الإسلامية تنظر بعين الشك والريب الى حزب البعث نظرا الى علمانيته المبالغ فيها خصوصا في جناح زكي الأرسوزي , إضافة الى سيطرة الأقليات على الحزب .

بينما كان موقف الإخوان من الحركة الناصرية معقدا فكما هي الحال مع جماعة الإخوان المصرية أيد الإخوان السوريون ثورة عبد الناصر في بدايتها لكن عندما اصطدم مع الإخوان في مصر ناصر الإخوان السوريون إخوانهم المصريين الذين تعرضوا للقمع والملاحقة بدءا من العام 1954 لكن الإخوان السوريين سرعان ما أبدوا تعاطفهم ودعمهم لمصر أثناء العدوان الثلاثي عام 1956.

وعلى كل حال , لم يكن للإخوان السوريين دور مباشر في الجهود التي قادها ضباط سوريون للوحدة مع مصر لا لأنهم لا يدغمون مشروع الوحدة لكن لأنه لديهم تمثيل قوي في القوات المسلحة إذ أن الضابط الذين قادوا ا لدعوة الوحدة كانوا من الضباط البعثيين أو المستقلين الذين كانوا يتوجسون من تصاعد النفوذ الشيوعي في البلاد.

وكما هي الحال مع باقي القوي السياسية امتثل الإخوان السوريون لشرط عبد الناصر الأساسي للوحدة وهو حل كل الأحزاب السياسية وكانوا مستعدين لإعطاء هذه التجربة الطليعية فرصة للنجاح لكن الممارسات السلطوية من قبل الطرف المصري وممثليه في الإقليم السوري سرعان ما دفعت بالكثير من المتحمسين للوحدة بمن فيهم قادة حزب البعث – الى مناهضتها ولذا فعندما وقع الانفصال كان هناك نوع من الارتياح لوضع حد للتهميش السوري وفي الوقت ذاته كان هناك صدمة لفشل التجربة الوحدوية الأولي وعلى الرغم من ذلك فقد كان الإخوان الحركة السياسية الأساسية التي رفضت التوقيع على وثيقة الانفصال مغلبة بذلك فهمها للمصلحة القومية العليا على المصلحة الوطنية الوقتية .

وعلى الرغم من التحفظات التي أبدتها القوي السياسية تجاه الانقلابيين على الوحدة فقد أسهم سياسيون من كل الاتجاهات بمن فيهم الإخوان - في دخول المعترك الانتخابي أثناء حكم الانفصال والحقيقة أن جماعة الإخوان قد فازت بعشرة مقاعد في الانتخابات التي جرت أثناء هذه الفترة وحصل مرشحوها في دمشق وحلب على عدد عالي من الأصوات والأمر اللافت للنظر أن الكتلة البرلمانية للإخوان – تحت قيادة عصام العطار أثناء فترة الانفصال – كانت أقرب لليمين في توجهاتها الاجتماعية والاقتصادية مقارنة بأداء الجبهة الإشتراكية الإسلامية بعد الاستقلال وأخيرا فقد شارك الإخوان في آخر حكومتين في عهد الانفصال لقد كانت تجربة حكومات الانفصال قصيرة وكانت موضع نقد حاد من القوي القومية خصوصا تلك التي صنفت نفسها مع التيار الناصري كما الأمر بالنسبة لحزب البعث الذي عاد الى تجميع صفوفه والاستعداد للانقلاب على النظام الانفصالي باسم إعادة الوحدة وبالفعل نجحت ثلاث مجموعات عسكرية من حزب البعث والضباط الناصريين والضباط المستقلين في الانقلاب على دولة الانفصال فيما سمي بثورة 8 مارس / آذار 1963 ودخلت سوريا مرحلة الحكم السلطوي القائم على منطق احتكار السلطة باسم حزب واحد وهو حزب البعث العربي الاشتراكي حيث حرمت التيارات السياسية الأخرى بما فيها الإخوان حق العمل السياسي القانوني الى يومنا هذا .

مرحلة بداية المواجهة مع حزب البعث ( 1963 -1976 )

تميزت هذه المرحلة بالاضطرابات الشديدة داخل النظام الجديد بين عامي 1963 -1966 وكانت أولي الصراعات بين الضباط البعثيين والناصريين داخل مجلس الثورة واستطاع الضباط البعثيون حسم الأمور لصالحهم وذلك بإبعاد الناصريين عن مؤسسات الدولة المدنية قيادة مجلس الثورة والحكومة والمراكز الحيوية داخل الجيش ثم تخلص الضباط البعثيون من الضباط المستقلين واستطاعوا بحلول عام 1964 الاستئثار بالحكم ولعل من المهم هنا التأكيد على أن المناخ السياسي في البلاد قد قاد الى دفع التيارات السياسية الأخرى الى العمل السري بعد أن منعت من العمل العلني .

وفي هذه الفترة المبكية بدأت أولي الاحتجاجات على حكم البعث في ربيع عام 1964 , ووقعت هذه الأحداث في مدينة حماة حيث قام المتدينون في المدينة بحركة احتجاج على الأجواء الجديدة التي أفرزها استئثار حزب البعث بالسلطة ومنها الركود الاقتصادي وإقصاء أبناء المدن من الطبقة الوسطي من العمل العام وتحولت حركة الاحتجاجات التي دعمها علماء حماة ومنهم الشيخ محمد الحامد الى حكة تمرد التجأ بعض عناصرها الى جامع السلطان حيث تمت محاصرتهم وأخيرا أمر رئيس الوزراء أمين الحافظ باستخدام القوة لإخراج المعتصمين وجرت اشتباكات كان من نتائجها تدمير احدي مآذن المسجد ومقتل ما لا يقل عن سبعين من أعضاء الإخوان المسلمين وبعد أن تمت السيطرة على الموقف اعتقل آخرون ومنهم أحد قادة الحركة مروان حديد الذي سيعود ليقود حركة تمر ثانية في منتصف السبعينيات .

والأمر اللافت في هذه المواجهة المبكرة أنها أدت الى موجه احتجاجات واسعة على انتهاك حرمة مسجد السلطان وتحولت الى حركة شعبية قوامها الطلبة والمهنيون والتجار وتمحورت مطالبها حول إعادة الحريات المدنية والسياسية وإطلاق سراح المعتقلين ورفع حالة الطوارئ التي فرضها حزب البعث ولتبريد الأجواء واحتواء هذه النقمة استقال أمين الحافظ من رئاسة الوزارة وتم تكليف صلاح البيطار , الذي وعد باحترام الحريات الشخصية والعامة .

ثم بدأ صراع جديد بين تيارين داخل حزب البعث بين جيل الشباب المنحدر من أصول ريفية والمنتمي الى أقليات دينية ( دروز, وإسماعليين , وعلويين ) وبين القيادة التاريخية للحزب التي مثلها ميشيل عفلق وصلاح البيطار والتي عرفت بالقيادة القومية فبحلول مارس / آذار 1966 نجح العسكريون داخل حزب البعث وخصوصا صلاح جديد وحافظ الأسد في التخلص من منافسيهم والاستئثار بالحكم .

كانت تلك الفترة قاسية على سوريا من عدة نواح فعلي الصعيد الداخلي تشدد هذا النظام الذي سيطر عليه صلاح جديد في سياساته الداخلية القائمة على تطبيق الإشتراكية وانتهج سياسية معاداة ما سمي بمعسكر " الرجعيين " العرب وفي مناخ التصعيد مع إسرائيل ومحاولة استدراج مصر الى هذه المواجهة وقع عدوان 1967 الذي نتج عنه فقدان سوريا هضبة الجولان الاستراتيجية.

أججت الهزيمة صراعا داخليا بين جناحي النظام الذي سيطر صلاح جديد على جناحه الحزبي وحافظ الأسد الذي سيطر على جناحه العسكري حول المسؤولية عن الهزيمة إضافة الى خلاف حول السياسات " الثورية " المتطرفة التي كان يتبناها جناح جديد وكما هو معلوم فقد حسم حافظ الأسد هذا الصراع لصالحه في العام 1970 من خلال انقلابه على رفاقه في الحزب واستيلائه على السلطة في ما سمي بالحركة التصحيحية " ومن الأمور المهمة في هذه المرحلة أن هزيمة 1967 , كانت نقطة تحول في بداية انحسار المشروع القومي لصالح المشروع الإسلامي الذي استرد نوعا من شعبيته في وجه الأداء المزري للتيارات القومية في سوريا ومصر سواء في فشلها في تحقيق التنمية أو المواجهة مع العدو الصهيوني أو في قدرتها على إنجاح تجربة الوحدة على الرغم من تأكيدها أن هذا هو الهدف الأولي لمشروعها .

3- مرحلة المواجهة مع حافظ الأسد ( 1976 -1982 )

هناك بعض المؤشرات على أن انقلاب حافظ الأسد قد استقبل بارتياح من قبل أكثرية من الشعب السوري إضافة الى الترحيب الإقليمي الذي حظي به وذلك لتخليه عن السياسات المتشددة لسلفه صلاح جديد لكن فترة شهر العسل هذه سرعان ما انتهت بالنسبة للحركة الإسلامية فعلي الرغم من الإعلان عن بعض الخطوات على طريق بناء المؤسسات ومنها إيجاد في العام 1972 فقد كان واضحا أن حدود هذه التجربة يتمثل في الاعتراف بالأحزاب العلمانية القومية واليسارية والتي كانت مستعد للانضمام الى الجبهة كأحزاب تابعة ورديفة لحزب البعث وبكلمات أخري فلم يكن لحركة الإسلامية مكان في هذه التجربة على الرغم من محدوديتها .

وكانت بداية المواجهة بين نظام الأسد والحركة الإسلامية في أواخر العام 1972 عندما نش مجلس الشعب الجديد مشروع الدستور من دون إشارة الى الإسلام عندها انطلقت التظاهرات في عدة مدن سوريا خصوصا دمشق وحماة وكانت هذه الحركة شعبية شارك فيها أعضاء الإخوان وأنصارهم وقادها علماء سوريا الكبار من أمثال حسن حبنكة في دمشق ومحمد الحامد في حماه واستجاب الأسد لهذه الضغوط بإضافة مادة تنص على أن " دين رئيس الدولة الإسلام وأن " الفقه الإسلامي مصدر رئيس للتشريع " ولإعطاء مصداقية لهذا التنازل فقد أوعز الأسد الى السيد موسى الصدر رئيس المجلس الشيعي الأعلى في ذلك الوقت بإصدار فتوي تنص على أن العلويين هم من الشيعة الإثنى عشرية وبذا فقد زال العائق الشكلي لتولي الرئاسة من قبل الأسد .

ثم جاءت حرب أكتوبر / تشرين أول 1973 حيث التف الشعب السوري حول نظامه خصوصا في الأيام الأولي حين أبلي الجيش السوري بلاءا حسنا لكن الدعاية المبالغ حول الانتصار التاريخي والبلاغة الإنشائية التي استخدمها النظام لكسب الشرعية انقلبت الى ضدها مع تكشف حقيقة الهزيمة العسكرية وفشل النظام في استعادة الجولان الذي احتل بينما كان الأسد في موقع وزارة الدفاع .

وتجددت المواجهة بين الإخوان المسلمين والنظام السوري في العام 1976 في أعقاب التدخل السوري العسكري في لبنان ضد القوي الفلسطينية والتقدمية والمسلمون ولصالح الكتائب وحلفائهم الذين كانوا في موقع الدفاع لكن الخلفية الحقيقية لتصاعد المعارضة تمثلت في عوامل داخلية بدأت تتضح ومنها سياسات النظام وممارساته التي أفرزت حسب احدي أهم الدراسات عن الاقتصاد السياسي في سوريا ومحاباة وفسادا إداريا واسعا وتزايدا في دور الأجهزة الأمنية إضافة الى تزايد الوعي بطبيعة النظام الطائفية ورافق ذلك اتساع فجوة عدم المساواة الناتجة عن ممارسات النظام الاقتصادية وأخيرا تراجع دور الطبقة الوسطي المتحدة من المدن في الحياة السياسية والاقتصادية .

والعامل الثاني الأساسي الذي دفع باتجاه المواجهة بين الحركة الإسلامية والنظام تمثل في بروز أقلية داخل الإخوان يؤمن أن العنف هو طريق الوحيد للتغيير مع انسداد أفق العمل السياسي السلمي.

ولعل بدايات هذه التيارات تعود الى المواجهات التي جرت في العام 1964 خصوصا في حماة والتي عمقت قناعة الناجين من تلك المواجهات وعلى أسهم مروان حديد أن النظام الجديد لا يفهم الا منطق القوة وتؤكد بعض المصادر أن عشرات من أعضاء الإخوان أقاموا بالتدريب في معسكرات فتح في أواخر الستينات وعادوا ليشكوا نواة هذا التنظيم الجديد.

وهناك أمر آخر ساعد في نمو هذا التيار هو انقسام جماعة الإخوان في بدايات السبعينيات بين جماعة عصام العطار في دمشق ودير الزور وبين تيار آخر على رأسه عبد الفتا ح أو غدة وكان يسيطر على حلب وحماة بينما انقسم إخوان آخرون بين هذين التيارين ومع إنشاء التنظيم العالمي للإخوان المسلمين في أعقاب خروج قادة الإخوان المصريين من السجون تم الاعتراف بتنظيم حلب على أنه التنظيم " الشرعي " وانتخب عدنان سعد الدين مراقبا عاما له .

ومع عدم إقرار الخط العام لكلا التنظيمين في دمشق وحلب باستخدام القوة للتغيير تبنت مجموعة حديد اسم " تنظيم الطليعة المقاتلة لحزب الله " والتي تم تغييرها فيما بعد الى " الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين " في محاولة من قادة الطليعة توريط التنظيم العام في المواجهة مع الدولة .

وتميزت العمليات التي قام بها تنظيم الطليعة باستهداف مسئولين أمنيين وحزبيين ثم تحولت الى استهداف شخصيات عامة من الطائفة العلوية التي ينتمي اليها الرئيس الأسد واستمرت هذه المواجهات على هذا الشكل الى يونيو / حزيران عام 1979 حيث ارتكب مسؤولا تنظيم الطليعة في حلب – عدنان عقلة وإبراهيم اليوسف , والأخير ضابط التوجيه المعنوي في مدرسة المدفعية – مجزرة في مدرسة المدفعية وتم قتل أكثر من ثلاثين من طلاب صف الضباط وكلهم من الطائفة العلوية ورد النظام بإعدام ما ينيف على عشرين من معتقلي الإخوان كانوا معتقلين قبل العملية بعد محاكمة شكلية حيث سيطرت روح الانتقام على القادة الأمنيين للنظام .

لقد كانت هذه العملية بداية حب شاملة من النظام ضد الإخوان وتوسعت لتشمل التيار الإسلامي بأكمله وبعد أن أعلن النظام الحرب على الإخوان تباينت وجهات الإخوان حول كيفية التعامل مع هذا التصعيد الخطير بين مناد بالحوار مع السلطة خصوصا على ضوء وجود حركة شعبية واسعة تنادي بإصلاحات سياسية واقتصادية عبرت عنها النقابات المهنية والأحزاب السياسية الأخرى وبين تيار نادي بإعلان الجهاد في مواجهة الحملة القمعية الشاملة حيث اعتقد بعض هؤلاء بإمكانية إسقاط النظام وأسهم في ذلك بعض النجاحات الجزئية التي حققها تنظيم الطليعة في بعض عملياته والأثر النفسي الكبير الذي تركته الثورة الإسلامية في إيران .

لكن العامل الحاسم في تبني التنظيم العام لخيار المعركة تمثل في استمرار عمليات التمشيط والقمع التي مارستها الأجهزة الأمنية العسكرية خصوصا في محافظة حلب , ولعل من أهم المحطات الدموية في هذه المواجهات مذبحة تدمر , التي جاءت بعد يوم واحد من القاء قنبلة على الرئيس الأسد في 26 يونيو / حزيران 1980 إذ قامت على إثرها سرايا الدفاع التي يقودها رفعت الأسد شقيق الرئيس السوري بقتل ما يزيد على 550 سجينا إسلاميا أعزل في سجن تدمر الصحراوي حسب المصادر الحقوقية الدولية وبعد أقل من أسبوعين في 7 يوليو / تموز أصدر مجلس الشعب القانون رقم 49 لعام 1980 والذي ينص على عقوبة الإعدام لمن ينتمي الى حركة الإخوان المحظورة أصلا يستثني منها من يعلن توبته خلال ثلاثين يوما .

في هذه الأجواء تبنت قيادة الإخوان المسلمين في الخارج خيار " الثورة الإسلامية " وأصرت بيان الثروة الإسلامية في سوريا ومنهاجها " ويتبين من قراءة هذه الوثيقة أن النظام السياسي الإسلامي البديل الذي تقدمه يستند الى مبادئ دستورية هي مزيج من المبادئ الإسلامية والتجربة الإنسانية مما يجعلها تبدو أكثر ليبرالية فبعد أن يقدم البيان تبريرا في القسم الأول للثورة الإسلامية ويدعو الطائفة العلوية الى التخلي عن النظام يقدم القسم الثاني معالم النظام الدستوري البديل القائم على المبادئ التالية :

1- المساواة بين المواطنين وحمايتهم والحفاظ على كرامتهم .

2- تبني نظام الشورى .

3- الفصل بين السلطات .

4- حرية تأليف الأحزاب السياسية

5- اعتماد نظام الانتخابات المباشر

6- حرية التفكير والتعبير .

7- احترام حقوق الأقليات .

8- ضمان استقلال القضاء .

من الصعب تصور الى أى درجة كان الإخوان المسلمون يلتزمون لكن الشئ المؤكد أن أغلبية نظم الحكم التي جاءت نتيجة ثورات وآخرها الثورة الإيرانية قد أسست أنظمة سلطوية بالرغم من الطابع الشعبوي الذي يميز هذه الأنظمة في مراحلها الأولي ثم ن هذا الخطاب قد زاد من تخوفي الطائفة العلوية ودفع بأغلبية أعضائها للالتفاف حول النظام بينما قسم الأغلبية السنية.

المهم أن النظام قد استطاع حسم المواجهة العسكرية لصالحه خصوصا بعد مجزرة حماة الشهيرة في 2 فبراير / شباط – 5 مارس / آذار 1982 والتي ذهب ضحيتها ما بين خمسة الى عشرة الاف قتيل .

لقد كان واضحا لكثير من المراقبين أن الإخوان يتحملون جزءا كبيرا من المسؤولية عن الهزيمة وذلك من خلال الانجرار الى مواجهة غير متكافئة سعي لها الشباب المتحمس من الطليعي في أجواء من الإقصاء السياسي والحمان من الفرص الاقتصادية والتمييز الطائفي – وتلقفها التيار الاستئصالي في النظام من رؤساء الأجهزة الأمنية والقوي الانتهازية فيه ودفع ثمن هذه المواجهة عشرات الاف الضحايا وتركت تركة ثقيلة على سوريا بأكملها . وبعد هذه الهزيمة الساحقة للإسلاميين في حماة عاد الانقسام الى صفوفي الإخوان حول المسؤولية عن الهزيمة وحول عدة قضايا حيوية نتعرض هنا الاثنتين منها :

الأولي : العلاقة مع القوي السياسية وتشكيل والتحالفات .

الثانية: إستراتيجية التعامل مع النظام بعد الهزيمة الساحقة .

في ما يتعلق بالقضية الأولي : دخل الإخوان تحالفين أولهما الجبهة الإسلامية في سوريا مع بعض الجماعات الإسلامية الصغيرة في دمشق وحلب وحماة إضافة الى بعض العلماء ولم يثر هذا التحالف إشكالية داخل صفوفي الإخوان خصوصا أن أدبيات الجبهة جاءت مشابهة لدرجة كبيرة لميثاق الثورة وحشدا للجهود الإسلامية في مواجهة الهجمة الأمنية للنظام ومن اللافت أن أهداف الجبهة حوت تناقضا من خلال سعيها الى إنهاء الأوضاع الشاذة وإقامة الحكم الإسلامي من ناحية وإشارتها في الفقرة التالية الى إيجاد صيغة سياسية مقبولة لدي جميع المواطنين وفي تقييم سريع للجبهة يظهر أنها لم تكن فعالة بسبب الأجواء الأمنية القاسية التي سادت في تل الفترة إضافة الى الانقسام الذي كان يعاني منه الإخوان الذين مثلوا العمود الفقري للجبهة.

لكن التجربة الأكثر إثارة للنقاش كانت في تشكيل " التحالف الوطني لتحرير سوريا فبرغم أن الإعلان عن التحالف جاء بعد أيام من مجزرة حماه فالواقع أن المشاورات والنقاشات كانت دائرة قبل ذلك وضمت الى جانب الإخوان الجبهة الإسلامية وممثلين عن بعث العراق والناصريين وبعض المستقلين ثم انضم اليها ممثل للحزب الشيوعي – المكتب السياسي وشخصية من الطائفة العلوية .

ونص ميثاق الجبهة على عدة مبادئ منها : العمل الجاد لإسقاط النظام بكل الوسائل وعلى رأسها الكفاح الشعبي المسلح وتشكيل حكومة مؤقتة تضع الأسس لجمعية تأسيسية ودستور جديد والتأكيد على أن الإسلام دين الدولة والشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع والتقنين وضمان حرية المواطنين وإعادة تشكيل الجيش السوري على أساس من الكفاءة والمهنية .

وعلى الرغم من اعتبار بعض قيادات الإخوان أن التحالف أسهم في إنهاء الصراع التاريخي بين التيارين القومي والإسلامي واستطاعوا الحصول منهم على نص أن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع فإن توقيت الإعلان لم يكن موفقا إذ اعتبره كثير من الإخوان المتشددين الذين تربوا على منهج سيد قطب وسعيد حوى مخالفة شرعية إذ كيف يتم التحالف مع قوي مماثلة لتلك التي يحاولون إسقاطها وكان هذا مثالا آخر لفجوة التي تفصل بين القيادة والصف الإخواني في الموازنة بين الفقه الشرعي والضرورات العملية .

أما ما يتعلق بالقضية الثانية : التي أسهمت في تعميق الانقسام الداخلي فكانت مسالة المفاوضات مع النظام ومع أن النظام كان هو المبادر فقد تبين فيما بعد أنه يريد استخدام المفاوضات لتعميق الخلافات الداخلية فقد بدا واضحا من هذه اللقاءات ومحاولات التوسط التي قام بها قادة إسلاميون من خارج سوريا تركيز النظام على تحميل الإخوان مسؤولية ما جري من أحداث والسماح بعودة بعض المنفيين ن خلال البوابة الأمنية مع وعد بإطلاق سراح المعتقلين بينما كان تقدير الإخوان ا أن الإشكال هو سياسي بالدرجة الأولي ولذا فلابد من حل سياسي شامل وهذا ما يفسر طرحهم لمطالب إصلاح سياسية بدت طموحه على ضوء الهزيمة التي لحقب بهم فمثلا قدم وفد الإخوان في اللقاء الذي تم في ديسمبر / كانون الأول 1984 الى وفد النظام المطالب التالية .

1- إلغاء قانون الطوارئ والأحكام العرفية .

2- تعليق العمل بأحكام الدستور حتى يصار الى صياغة دستور جديد .

3- إعلان الحريات العامة .

4- الدعوة الى انتخابات حرة حتى يختار الشعب ممثليه الحقيقيين

5- قيام هيئة تأسيسية تضع دستورا جديدا للبلاد.

6- اعتبار الجيش مؤسسة وطنية تضم كل فئات الشعب .

وعلى الرغم من أن النظام لم يأخذ هذا المر على محمل الجد بعد أن حسم الأمر عسكريا فإن ذلك لم يحل دون حصول انشقاق داخل الإخوان في صيف العام 1986 حيث لم يعترف عدنان سعد الدين . بانتخابات التي جرت في ذلك العام وفاز فيها عبد الفتاح أو غدة بفارق بسيط فانشقت الجماعة بين هذين الجناحين واستمر هذا الانشقاق حتى العام 1992.

لقد كان التحدي الأكبر للإخوان السوريين في عقد التسعينيات هو الصمود في وجه استمرار معاناة إنسانية هائلة لأعضائهم والمحسوبين عليهم وتعنت رسمي بحل قضاياهم الإنسانية التي شهدت تحسنا نسبيا تمثل في إطلاق سراح الالاف منهم ومن المتعاطفين معهم لكن من دون أن يوافق ذلك أى استعداد لإنهاء حالة الإقصاء أو وقف الملاحقات الأمنية للمفرج عنهم وعلى الرغم من عدة محاولات للوساطة بين الطرفين بما في ذلك عودة عبد الفتاح أو غدة الى سوريا في منتصف التسعينيات الا أنها لم تثمر عن إغلاق الملفات الإنسانية .

ومع نهاية التسعينيات بدأت قيادة الإخوان تغير من خطابها في مواجهة النظام وذلك بالتركيز على التصعيد السياسي والإعلامي السلمي ضده مع إبداء استعداد للحوار كما يبرز في هذه المرحلة تراجع عن الخطاب الثوري – الجهادي وعدم التركيز على الدولة الإسلامية ففي مقابلة مع صحيفة " الحياة " يقول المراقب العام على البيانوني عن شكل النظام الذي ينشدونه : " نريد نظاما برلمانيا وتعددية سياسية حقيقية وأن يبتعد العسكر عن السياسية وأن تكون هناك حرية أسواق واقتصاد وإطلاق الحريات العامة والغاء القوانين الاستثنائية والحكام العرفية.

4- مرحلة بشار الأسد ( 2000-0000 )

لا شك أن وفاة حافظ الأسد في 10 /6 /2000 مثلت نهاية مرحلة على الرغم من أن الحكم انتقل الى ابنه بشار من خلال عملية دقيقة ومحكمة لعبت فيها مؤسسات الدولة دورا شكليا لكن الإجراءات الحقيقية تم تخطيطها وتنفيذها من قبل الأجهزة الأمنية المتحكمة وتظهر البيانات والمقابلات التي صدرت عن جماعة الإخوان في سوريا تحفظا على انتقال السلطة على شكل التوريث لكنها تتحدث عن فرصة لإنهاء حالة العداء بين الجماعة والنظام والى إمكانية فتح صفحة جديدة تعيد الى الشعب السوري لحمته ووحدته الوطنية والسير بالبلاد نحو الحرية والتعددية والديمقراطية والمشاركة الشعبية وتؤكد جملة هذه المواقف أن الطريق الى الإصلاح الداخلي يمر من خلال الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين والسماح بعودة المهجرين والغاء القانون رقم ( 46 ) ورفع حالة الطوارئ والغاء القوانين الاستثنائية .

وتزامنا مع الحراك السياسي في ما سمي " بربيع دمشق " الذي أفرز وثيقة الـ 99 ووثيقة الألف اللتين طالبتا بإطلاق سراح المعتقلين ورفع حالة الطوارئ والسماح بعودة المنفيين وإطلاق الحريات العامة والانتقال الى نظام تعددي أصدرت جماعة الإخوان في مايو / أيار لعام 2001 مشروع ميثاق شرف وطني للعمل السياسي " يبلور الخط السياسي الجديد للجماعة ويمثل فراقا مع خطاب الثمانينيات " الثوري – الجهادي " ينطلق المشروع من ثلاثة ثوابت :

أولها : أن الإسلام هو مرجعية دينية وحضارية وبالتالي فهو عنصر موحد لكل أبناء الشعب السوري وثانيها : انتماء سوريا الى المظلومة العربية تركز على عدم تناقض هذا الانتماء مع الهوية الوطنية وثالث هذه الثوابت : الاستفادة من التجارب البشرية .

ثم يطرح المشروع هدفين رئيسيين :

الأول : بناء الدولة الحديثة وهي دولة تعاقدية ومؤسسية وتعددية وتعلو فيها سلطة القانون وتداولية ومدنية أما الهدف الثاني : فهو مواجهة تحديات البناء العام الذي يشمل بناء الفرد والمجتمع ومؤسسات المجتمع المدني وتحدي الإنجاز وبناء النظم وتحدي التنمية الشاملة .

وقد تم إقرار هذا المشروع في مؤتمر في لندن عام 2002 ضم بالإضافة الى الإخوان شخصيات ذات خلفيات قومية ويسارية وحقوقية مع إضافة بعض النقاط المهمة مثل الالتزام بمصلحة الوطن ووضعها فوق المصالح الذاتية والحزبية والالتزام بالعمل العام بعيدا عن الأساليب السرية والتزام باليات العمل السياسي الديمقراطي ووسائله مؤكدين الحق المتكافئ للجميع إضافة الى الالتزام بنبذ العنف وبالتعاضد على حماية حقوق الإنسان وأخيرا وفيما بدا رسالة واضحة لبشار الأسد اشتمل الميثاق الوطني على فقرة تبدي تفهما " للتدرج في تحقيق الأهداف العامة لهذا الميثاق " ويفصل المشروع السياسي الذي أصدرته الجماعة في نهاية العام 2004 في كل هذه النقاط ويؤصلها بشكل شرعي طارحا اجتهادات جديدة ومتبنية اجتهادات لمفكرين إسلاميين معاصرين وعموما فقد لاقي هذا الخطاب الجديد تجاوبا طيبا من القوي السياسية المعارضة الأخرى لعل أهم تطور فيه يتمثل في استعداد الحركات والشخصيات والأحزاب داخل سوريا المطالبة بأن يشمل الإخوان في أى حراك سياسي على طريق بناء نظام سياسي تعددي لكن النظام القديم / الجديد لبشار الأسد لم يبد تجاوبا حقيقيا مع أى من هذه الطروحات الأمر الذي دفع بالإخوان الى دخول المرحلة الثانية من حكم بشار والمنتقلة من مرحلة المطالبة بالإصلاح الى المطالبة بالتغيير الشامل .

تعتبر النقط الفاصلة بين تصعيد الإخوان ومعهم باقي فصائل المعارضة الداخلية والخارجية ضد نظام بشار هو المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث العربي الإشتراكي والذي انعقد في يونيو / حزيران 2005 فقد وضعت المعارضة بمن فيهم الإخوان مجموع من المطالب الأساسية كانت تأمل في أن يأخذها المؤتمر على محمل الجد وتضمنت ما يلي :

أولا : إطلاق سراح المعتقلين وإغلاق الملفات الإنسانية , ثانيا : رفع حالة الطوارئ المفروضة على البلاد منذ عام 1963 , ثالثا : الغاء القانون 49 الذي يقضي بإعدام من ينتمي الى الإخوان المسلمين , رابعا : تعديل المادة الثامنة من الدستور التي تكرس احتكار حزب البعث للحكم وكان الإخوان قد ضمنوا مطالبهم في بيان دعا الى عقد مؤتمر وطني شامل خلال ثلاثة أشه يضع برنامج عمل للإنقاذ والتغيير يبدأ من الغاء المادة الثامنة للدستور وينتهي بإقامة جمهورية دستورية ديمقراطية .

رد النظام على كل هذه الدعوات والمطالب كان بالنفي ما خلا الوعود بالنظر في تجميد بعض مواد قانون الطوارئ وفي هذه الأجواء ومع تصاعد الضغوط الخارجية على النظام السوري بسبب سياساته الخارجية في لبنان والعراق وفلسطين بلورت المعارضة الداخلية والخارجية إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي والذي كان الإخوان أول المنضمين له من المعارضة في الخارج.

ويلخص إعلان دمشق كل التوافقات التي توصلت اليها المعارضة خلال السنوات الخمس الأولي من حكم بشار , ومن أهمها العمل من أجل إنشاء النظام الوطني الديمقراطي ورفض منطق الإصلاح الترقيعي لصالح التغيير الجذري الشامل ورفض منطق الإقصاء الذي يمثل احدي دعائم النظام البعثي كما أن النص على اعتبار الإسلام ا " الذي هو دين الأكثرية وعقيدتها بمقاصده السامية وقيمه العليا وشريعته السمحاء يعتبر المكون الثقافي في الأبرز في حياة الأمة والشعب يبدو محاولة لكسب الصف الإسلامي لتشكيل حالة إجماع بهدف إقامة نظام سياسي ديمقراطي تعددي لا يقصي أى فصيل وطني وأخيرا شارك الإخوان في تأسيس جبهة الخلاص الوطني مع عبد الحليم خدام نائب الرئيس السابق الذي انشق عن النظام في أواخر العام 2005 وتقوم الجبهة على التوافقات التي أنجزتها المعارضة السورية بما فيها إعلان دمشق وتحاول طرح برنامج عملي للتغيير يتمثل في إيجاد حكومة انتقالية تلغي دستور عام 1973 وكل القوانين الاستثنائية وتمهدا الطريق لعقد مؤتمر تأسيسي لصياغة دستور جديد يرسخ قواعد نظام ديمقراطي تعددي مدني .

ثانيا : آفاق التحول الديمقراطي

لم يكن الاستعراض التاريخي لتجربة الإخوان السياسية في سوريا بقصد السرد أو التوثيق بقدر ما كان الهدف منه هو استنباط بعض النتائج التي يمكن ان تؤسس لعلاقة مستقبلية بين الحركة الإسلامية والنظام السياسي ولعل من أهم هذه النتائج ما يلي :

تؤكد بدايات جماعة الإخوان المسلمين في سوريا أنها كانت حركة إسلامية ذات ا÷داف إصلاحي ة وتؤمن بالعمل من خلال المجتمع والمشاركة السياسية كما وضح من تجربتها قبل العام 1963 ومع أن الحركات السياسية الأخرى خصوصا حزب البعث قد لجأت الى الأساليب الانقلابية للوصول الى الحكم منذ نهاية الأربعينيات الا أن الحركة الإسلامية لم تسثمر في هذا الطريق فمن المأثور عن عصام العطار عندما عرض عليه في أواخر فترة الانفصال وبداية حكم البعث أن يقود بعض الضباط السنة المستقلين قوله إنه لا يؤمن الا بالوسائل الديمقراطية للوصول الى الحكم .

ومع ذلك فقد خاضت جماعة الإخوان مواجهة مسلحة مع النظام " الأسدي " وبررت استخدام الكفاح المسلح لقلب نظام الأسد ويؤكد قاد الإخوان أن هذه المواجهات قد فرضت عليهم وأنهم لا يعتبرون هذا الأسلوب هو " الأصل " في منهجم وطريقة عملهم ويؤكدون أن اجتهادات التسعينيات ما هي الا عود للمنهج الأصيل الذي أرسته القيادات التاريخية مثل السباعي ومبارك والعطار .

إن حركة الإخوان كانت تتصرف عبر الفرص المتاحة فتجربتا المشاركة السياسية والمواجهة كانتا استجابة للظروفي التي حددها النظام السياسي في كلتا الحالتين : والحقيقة أن هناك إجماعا على أن واقع الإقصاء والتمييز الطائفي والقمع واستشراء الفساد كلها شكلت أرضية للعنف ودفعت بتنظيم "الطليعة " لتبني المواجهة المسلحة.

ولم تكن حركة الإخوان متميزة في متميزة في ظاهرة الانقسامات والانشقاقات التي عانت منها فالحزبان الآخران البعث والشيوعي عانيا من الأمراض نفسها الأمر الذي يظهر هشاشة الأحزاب السورية حيث مازالت تلعب عوامل القرابة والولاء العائلي والإقليمي والطائفي الدور الأبرز في أدائها .

إن بروز تيار يؤمن بالتغيير عن طريق العنف أفرزته شروط الإقصاء والممارسات القمعية وتأثر بالروح الثورية لتنظيمات إسلامية استمدت من الإسلام تبريرا أيديولوجيا لمقارعة الظلم وتحقيق العدالة وغذاه قراءة خاطئة لكتابات سيد قطب وسعيد خوي وغيرهما . لكن وعلى الرغم من أن هؤلاء كانوا أقلية ضمن الحالة الإسلامية فقد نجحوا في استدراج الأغلبية التي تبني خطاب لم تكن تؤمن به أغلبية القيادات التي أصبحت منقادة من قبل الشباب المتطرف وهنا تكمن خطورة التنظيمات العقائدية السرية .

جرت المواجهة / القمع الشامل للنظام في ظروفي إقليمية ودولية مواتية للنظام حيث كان هناك تحكم كامل للنظام بالإعدام ففي غياب القنوات الفضائية والانترنت والهواتف النقالة لم يسمع العالم بمجزرة حماه الا بعد انتهائها من قبل بعض الناجين والشهود الأحياء .

ومما لا شك فيه ان التنظيمات الإخوانية في الأقطار العربية الأخرى خصوصا تلك التي كان لها علاقة مع النظام السوري قد أسهمت في إعادة تقييم تجربة الإخوان في نهاية التسعينيات والدفع باتجاه التخلي التام عن أسلوب المواجهة المسلحة.

وعلى ضوء هذه الاستنتاجات يمكن استقراء بعض الاحتمالات المستقبلية لعلاقات الإسلاميين السوريين بالنظام السياسي خصوصا فيما يتعلق باحتمالات التحول الديمقراطي وهنا لابد من التأكيد على جملة من الأمور :

أولا : من الناحية الفكرية والتنظيرية ليس لدي الإخوان المسلمين إشكال حول الدولة الديمقراطية وحول المشاركة في النظام الديمقراطي كحزب سياسي قانوني والالتزام بنتيجة العملية الديمقراطية مثلما برهنت مرحلة ما قبل البعث والحقيقة فإن تعريف الإخوان للدولة الحديثة التي ينشدونها في برنامجهم السياسي يطابق المفهوم الإجرائي للدولة الديمقراطية بكل عناصرها , التعددية والتعاقدية , والتناوب السلمي على السلطة أما عن احتمال احتكار السلطة من قبل الإسلاميين في حال فوزهم في انتخابات حرة ديمقراطية فإن الأمر مستبعد لأن أى حركة سياسية لها نصيب من الفوز بانتخابات حرة وتنافسية ليس من مصلحتها الغاء العملية التي تفسح لها احتمال المشاركة في الحكم خصوصا أن مثل هذه الحركة قد عانت الأمرين من النظام البديل للديمقراطية والأمر الثاني الذي يجعل هذا الأمر مستبعدا يتمثل في وعي الإسلاميين السوريين للطبيعة التعددية للمجتمع السوري حيث التعددية الدينية والطائفية والعرقية والفكرية والسياسية ففيما لو تمت مؤسسة هذه التعددية من خلال قانون أحزاب عصري وعادل فإنه سيكون من الصعوبة بمكان لتيار واحد الحصول على أغلبية مطلقة تمكنه من التحكم بباقي القوي التيارات السياسية

ثانيا : من المستبعد تماما أن يعود الإخوان الى المواجهة المسلحة مع النظام على ضوء استمرار رفض النظام للاستجابة لمطالبهم في حل القضايا الإنسانية العالقة وملاقاة الإخوان في ما يتعلق بمطالب الإصلاح ويبقي أمام الإخوان خيارات العمل الداخلي بعيد المدى ضمن المجتمع لخلق حالة ضاغطة وتقويتها من خلال تشكيل التحالفات والقواسم المشترك مع باقي فئات المعارضة مع الاستفادة من الفرص التي تتيحها التطورات إمكانية الإقليمية والدولية كما أنه لا يمكن استبعاد ان يجدد الطرفان إمكانية الحوار بينهما خصوصا إذا ما اقتنعا بأن نتائج الحوار ستعزز مصالحهما المشتركة مع وجود أطراف ثالثة وسيطة وقد تزيد التطورات الإقليمية والتحديات المشتركة من فرص نجاح الحوار بينما تقلل منه التركة الثقيلة لفترة المواجهة وعدم استعداد النظام لمعالجة الأبعاد الإنسانية لتلك الفترة.

ثالثا : بما أن النظام السوري هو المحدد الرئيس لشكل العلاقة لا مع الحركة الإسلامية فحسب بل مع كل القوي السياسية المعارضة فإن أى حديث عن المستقبل يجب أن يركز على رؤية النظام لمستقبل سوريا وهنا يمكن رصد أن الإصلاح السياسي لم يكن أولوية بالنسبة لنظام بشار الأسد , منذ خطاب ا لقسم الأول , إذ يتخوفي النظام من إصلاح سياسي مهما كان بطيئا وتدريجيا لأنه يعني خسارة كثيرين من المنتفعين لمواقعهم وامتيازاتهم ومن هنا كان الحديث عن أولوية الإصلاح الاقتصادي والإداري ثم استخدم النظام مبرر التطورات الخارجية والضغوطات التي نتجت عن سياساته في السنوات الأولي تجاه دول الجوار من أجل إبطاء عجلة الإصلاح الاقتصادي والإداري واستنادا الى سجل بشار الأسد في فترة حكمه الأولي ( سبع سنوات ) لا يمكن توقع أن يمضي النظام في إصلاحات سياسية حقيقية خصوصا بعد شعوره بأن وتيرة الضغوط الخارجية بدأت تضعف ولن يخطو النظام خطوات واسعة وحقيقية على طريق الإصلاح – على الأغلب لأنه لا زال ينظر بعين القلق الى ما ستسفر عنه المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري فقبل أن يتأكد أنها لن تطال مسئولين من الصف الأول سيبقي هذا هو الهاجس الأول والأولوية القصوي على اسم أولوياته كما أن النظام يضع في تقديراته قوة المعارضة الداخلية بما فيها الإخوان التي ما زالت غير قادرة على إيجاد حركة شعبية ضاغطة بشكل يجعله يبدي استعدادا لتقديم تنازل تجاه هذه القوي كذلك يمكن النظر الى عقلية رجالات النظام ومن بينهم بشار الأسد الذين ترعرعوا في ظل نظام سلطوي لم يكن من ضمن المهارات التي تلقوها تدريبا على الثقافة الديمقراطية في علاقتهم بالآخر .

وهناك احتمال آخر يتعلق بمسيرة النظام هو سقوطه كما حصل لأغلب الأنظمة المشابهة حول العالم خصوصا في أوروبا الشرقية ومع أن هذا الاحتمال كان واردا في أوج الضغوط الشديدة التي تعرض لها النظام وظهور بوادر انشقاقات داخلية تمثلت في " انتحار " وزير داخلية النظام ورجل الأسد القوي في لبنان لما يزيد عن عقدين غازي كنعان وانشقاق نائب الرئيس السابق عبد الحليم خدام الا أن النظام استطاع امتصاص آثار هذه الانشقاقات وخفت وتيرة الضغوط الخارجية بفعل الفشل الكارثي لسياسات إدارة جورج بوش في العراق الأمر الذي رفع من معنويات النظام السوري وبدأ عملية الخروج من عزلته .

كما استطاع النظام السوري استئناف المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل عبر الوسيط التركي مما جعل إسرائيل توظف علاقاتها لتدفع باستمرار الوضع الراهن في سوريا وتناهض فكرة التغيير الداخلي في هذا البلد باعتبار النظام الضعيف المجرب هو أفضل البدائل من وجهة نظرها .

ويبقي العامل الخارجي الأساسي الضاغط هو المحكمة الدولية في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري فلو أثبتت هذه المحكمة مصداقيتها فإنها قد تكون العامل الأساسي في زعزعة النظام خصوصا إذا توصلت الى إدانة مسئولين كبار فيه وهناك مؤشرات تدفع بهذا الاتجاه وأخري تدفع بالاتجاه المعاكس الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان توقع اتجاه سير الأحداث وأثرها على أمن واستقرار النظام .

لكن الأمر الأكيد أنه في حال تحييد هذا العامل فإن احتمال سقوط النظام سيتراجع أكثر خصوصا أنه ما زال يسيطر على الأجهزة القمعية ولا يواجه معارضة قوية ويستغل سلبية وتخوفي أغلبية المواطنين من احتمالات التغيير العنيف وانعكاسات ذلك على التوازن الطائفي الدقيق .

ومن الاحتمالات المرجحة أن يتخذ النظام خطوات صغيرة وبطيئة على خطي الإصلاحات الاقتصادية والإدارية والسياسية الشكلية كأن ينشئ مجلسا للشورى ويوسع الجبهة الوطنية التقدمية ضمن استراتيجية يوظف فيها هذه التطورات مع سياسة خارجية أكثر براغماتية بهدف استمرار الحكم من دون تغييرات جذرية أو تنازلات تذكر .

ومع أن عوامل استمرار الوضع الراهن في الحالة السورية هي الأقوى فإن وجود بعض التيارات والديناميكيات تحت الأرض ومنها تفاقم الأزمة الاقتصادية وتزايد البطالة بين قطاع الشباب وتزايد الاحتقان الطائفي وتعالي الوعي والحراك القومي لدي الأكراد وتنامي مجموعات إسلامية متطرفة - برعاية النظام وبشكل مستقل عنه – وأخيرا اتساع الفارق بين النخبة الاقتصادية المنتفعة من النظام والأغلبية الفقيرة كل هذه العوامل منفردة أو مجتمعة تضع النظام أمام تحديات من نوع جديد لم يعتد عليها .

وفيما لو تم تحييد العوامل الخارجية التي تعمل لصالح النظام كأن يضعف توظيف الضغوط الخارجية أو يحصل تطور مهم في مباحثات السلام بما يسحب من النظام مبررات استمرار دولة المخابرات بشكلها الحالي هذه التطورات ستضع النظام أمام استحقاقات داخلية من نوع جديد وتفتح الباب أمام ممكنات غير محسوبة .

وهكذا واستنادا الى هذا الاستقراء فإن هناك بعض العوامل التي تدفع باتجاه اتخاذ النظام لخطوات علي صعيد التصالح التاريخي .

مع الحركة الإسلامية بينما لا تزال هناك عوامل منها موضوعية وأخري نفسية لا تشجع على هذا الاحتمال لقد قدمت الحركة الإسلامية ومعها المعارضة السورية عموما طروحات متطورة على طريق الإصلاح السياسي وأبدت قبولا بالوريث وصنفته على أنه " مصلح " وأبدت تفهما لمنطق التدرج ومع ذلك قرر النظام الالقاء بهذه الطروحات عرض الحائط.

لقد أثبتت تجارب التحول الديمقراطي السلمي الناجحة أن هناك عدة عوامل ترجح من احتمالات نجاح هذه العملية منها أن يتم تبنيها من القيادات السياسية القادرة والكفؤة وأن تأخذ منحني تدريجيا مع تراجع الاستقطاب السياسي حول القضايا المتنازع عليها أثناء عملي التحول وأخيرا تتزايد فرص نجاح عملية التحول الديمقراطي إذا لم تهدد المصالح الحيوية للقوي المحلية والإقليمية والدولية.

وبالنظر الى الحالة السورية في هذه اللحظة التاريخية فإنه من الصعب على المرء أن يكون متفائلا بتوقع تحول ديمقراطي قريب في هذا البلد خصوصا بعد أن أسهمت تجربة العراق بإقناع كثيرين في المنطقة بأن استمرار الوضع الراهن أقل سوءا من تكلفة التغيير لأنظمة لا تحمل شعورا كبيرا بالمسؤولية تجاه شعوبها ودولها

الإخوان المسلمون في سوريا الدين والدولة والديمقراطية

د. رضوان زيادة

يزداد الحديث اليوم بشكل مطرد عن تشجيع الإسلاميين المعتدلين على المشاركة في العملية السياسية في العالم العربي وتتخذ الكثير من المشاريع والتقارير هذا المفهوم عنوانا لها وشعارا وتتخذ المقابلة بين الحكات الإسلامية في العالم العربي والأحزاب المسيحية في أوروبا كمدخل رئيسي للقبول بهذه الفرضية حيث أثبتت التجربة انه بقدر ما تشجع الحركات السياسية على المشاركة فإن ذلك إنما يكون بهدف توطينها وهو بالتأكيد أفضل من نبذها بما يؤدي الى تطرفها عدائها للأنظمة القائمة وحتى المجتمعات إن دور الحركات الإسلامية وموقعها في المشهد السياسي العربي يرتبط بمدي الاعتراف بشرعيتها واحترام خطابها الأيديولوجي على اعتبار أنها شكل من أشكال العلاقة مع الاجتماع المدني المغربي وأنها تحتفظ بإشكاليتها الخاصة في علاقتها مع السلطة السياسية .

كما أن هذه الحركات تحتفظ بمفهوم خاص لمفاهيم الدولة المدينة والديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان وغير ذلك مما يشكل الأسس الذي يجب على كل الأحزاب وحركات الاجتماع السياسي أن تقر بها وتؤمن بالعمل بها فتحليل علاقة هذه الحركات الإسلامية مع هذه المفاهيم يعد خطوة باتجاه الإقرار بضرورة تبيئة هذه الحركات وإدماجها ضمن الحقل السياسي العربي كخطوة لابد منها من أجل الوصول الى دمقرطة الحياة السياسية العربية وتقعيدها على أسس الحداثة السياسية القائمة على الديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان .

إن العلمانيين العرب الذين يرفضون فكرة الإدماج أو التشجيع ينطلقون من اعتبار أن العلمانية هي الفضاء الوحيد للديمقراطية السياسية ويؤمنون بالعلمانية كفكرة خلاصية ولذلك لم يستطيعوا أن يطوروا نموذجا للعلمانية قابلا للتطبيق في البلاد العربية وللعلمانية أشكال مختلفة فعلمانية فرنسا بتطبيقها الحرفي ضمن ما يطلق عليها العلمانية اليعقوبية بعد 1905 تختلف عن كل نماذج العلمانية الموجودة في أميركا وأوروبا مثلا.

والعلمانية عبارة عن تنويعات تعبر عن فهم للعلمانية السياسية مختلف تماما عن العلمانية الدينية أو الاجتماعية وأكبر دليل عل ذلك حل الأزمة في ايرلندا الشمالية بين الكاثوليك والبروتستانت والذي كان حلا سياسيا ولم يكن حلا دينيا أو طائفيا وبالتالي يجب العمل على تطوير مفهوم وأشكال وتنويعات العلمانية وهذا يعود بشكل رئيسي الى اختلاف الخبرة السياسية الاجتماعية للمجتمعات كما أنه لا يمكننا القول إن الولايات المتحدة بلد علماني في المطلق لأن الولايات المتحدة كبلد نشأت من تجمع مهاجرين منهم من يبحث عن السعادة الدينية أو الاقتصادية بالتالي راح كل منهم يبحث عن السعادة بمفهومه لخاص ولم يكن للعلماني في الولايات المتحدة أن تتطور بوصفها عدوة للدين كما تطورت كنزاع بين الدولة والدين متمثلة في الكنيسة خصوصا في فرنسا .

ووفق الاختلافات التاريخية علينا أن نفكر في مفهوم العلمانية في الدول العربية بشكل مختلف تماما فالعلمانية ربما تعني فصل الدين عن الدولة لكن ليس بالضرورة أن يؤدي ذلك الى فصل الدين عن السياسية لأن الدين – كما نعرف – يشكل رأس مال ثقافيا ورمزيا لكل النخب السياسية الثقافية فكيف لنا أن نعزل إرثا كبيرا من النقاش في المجال السياسي العام ؟ وبالتالي من الممكن الحديث عن فصل الدين عن الدولة كمحدد رئيسي للأحزاب السياسية لكن لا نستطيع الحديث عن فصل الدين عن السياسية لا سيما في منطقة يشكل الدين بتنوعاته المختلفة الإسلامية واليهودية والمسيحية منبعه .

إننا نشهد في العالم العربي حالة معاكسة تكمن في أن الدين قد أصبح جزءا من استراتيجية الحزب الحاكم من أجل ضمان بقائه في السلطة إن نلحظ وجود خطاب سياسي رسمي مواز يحاول استثمار الدين بشكل صريح وواضح كما حصل في أكثر من بلد عربي كمصر والجزائر والعراق وسوريا خلال فترة وجود الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في الحكم كما أن المواقف والتصريحات السياسية للرئيس والمسئولين أصبحت تأخذ موقفا أيديولوجيا صريحا من استثمار المشعر الدينية وهذا ما برز بشكل واضح في أكثر من بلد عربي خلال أزمة الرسوم الدانماركية على سبيل المثال .

ويمكن القول إن هذا لخطاب – بشكل ما – يعد انجرافا وراء عودة المظاهر الدينية بقوة الى المجتمع سواء لدي الأجيال المتقدمة في السن أو الأجيال الشابة التي لم تجد أمامها حياة سياسية مفتوحة لممارسة النشاط السياسي وغزارة الخطوط الحمراء التي تمنع النشاط الاجتماعي وبالتالي وجدت نفسها عرضة للتأثر بشكل كبير بالخطاب الديني بدرجاته المختلفة مما يفتح القول إن الدولة ذاتها التي تتهم الحركات الإسلامية باستثمار الدين إنما توظف الدين لصالحها وتدرك جيدا قوة تأثيرا الرأسمالي الديني في لمجال العام لذلك تسعي الى احتكاره ومنع الحركات الاجتماعية أو الدينية من توظيفه لصالحها وهو ما يؤد لنا عدم قدرة فصل الدين عن السياسة لكن لا مفر من تحديد العلاقة بين الدين والدولة .

الدين والدولة في سوريا : علاقة مبكرة

تعود العلاقة بين الدولة السورية والإسلام ممثلا في مؤسساته الرسمية أو غير الرسمية أو عبر خطابات المؤمنين بدوره في الحياة العامة الى ما قبل نيل سوريا استقلالها السياسي في العام 1946.

فقد أتاحت فترة التنظيمات العثمانية فرصة لكثير من علماء الدين الدمشقيين تأسيس جمعيات خيرية ظاهرها الخطاب الدعوي والخيري لكنها ما انفكت عن ممارسة دور سياسي بشكل من الأشكال .

لقد جاءت الجمعيات كتعبير عن رغبة " العلماء " في استرداد نفوذهم بعد تضاؤل سلطتهم المعنوية بعد الإجراءات التي اتخذتها الدولة العثمانية آنذاك فيما يعرف بالتنظيمات التي منحت قيمة الى المعرفة غير الدينية إذ بزت سلطة المصلحين الذين اعتقدوا أنه من الضروري الاستعارة من أوروبا مفاهيمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لابد منها في تأسيس وبناء الدولة الحديثة واعتبروا وفقا لذلك أن العلماء يشكلون عائقا في مشروع الإصلاح الذي اتبعته الدولة العثمانية مع نهاية العام 1860 والذي وجد تعبيره في طريقه تصميم المدارس العام في الإمبراطورية العثمانية عبر تلقين المهارات والمعرفة التي يتميز بها أصحاب الحرف الحديثة سواء كانوا بيروقراطيين أو محامين أو أطباء أو ضباط جيش وبازدياد عدد هذه المدارس تزايد عدد العثمانيين المتعلمين والمتمسكين بقيم التنظيمات حيث طرحوا مصالحهم ونظرتهم العامة بطريقة أضرت بموقع العلماء وسلطتهم .

وجاء التهديد الأكبر لسلطة العلماء وتأثيرهم في المجتمع عبر إدخال المصلحين العثمانيين في العام 1869 قانونا تعليميا لإقامة نظام موحد من المدارس الابتدائية والمتوسطة والإعدادية والعليا وعلى الرغم من أنه يكن لهذا القانون سوي أثر ضئيل ومباشر في دمشق الا أنه حرض العلماء علي المقارنة بين هذه المدارس ومدارس الإرساليات التبشيرية التي بدأ يزداد عددها بكثرة في بلاد الشام.

واحتدم الجدل بقوة في يناير / كانون الثاني 1879 عندما فتحت مدرسة بروتستانتية بريطانية لتعليم البنات المسلمات عندها استغل الوالي الشهير مدحت باشا هذه المسالة ليقنع العلماء ووجهاء المسلمين بتشكيل جمعية خاصة هي جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية لتبادر الى تأسيس المدارس الابتدائية للأطفال المسلمين وقد افتتحت الجمعية عددا من المدارس للذكور والإناث وهكذا جاءت الجمعيات كرد سياسي غي مباشر على سياسة التعليم التي اتبعتها الدولة العثمانية خلال فترة ما يعرف بالتنظيمات وكانت هذه الجمعيات البديل بالنسبة للعلماء يهدفون من ورائها الى استرجاع تلك المكانة الأساسية التي كان يتمتع بها الإسلام داخل المجتمع والتي كان يحمل لواءها طبقة العلماء .

تكاثرت فيما بعد الجمعيات الدينية والتي كان يقود تأسيسها شخصيات بارزة في المجتمع لدمشقي معظمهم ينتمي الى طبقة " العلماء " فقد تأسست جمعية الهداية الإسلامية عام 1931 وكان كامل القصار أشه شخصياتها ثم جمعية التمدن الإسلامي التي تأسست عام 1932 وكانت تضم ممثلي طبقة البورجوازية الصغرى من فقهاء وخطباء جوامع وأطباء ومحامين وكان على رأسها عدد من الشخصيات البارزة ذات الانتماء العائلي التقليدي الدمشقي العريق كأحمد مظهر العظمة ومحمد بهجة البيطار وغيرهم وقد لعبت دورا بارزا فيما بعد في رفد الكتلة الوطنية التي كان لها دور محوري في نيل سوريا استقلالها السياسي عام 1946 بعدد من الرموز المؤثرة وفي الوقت نفسه أمدت حركة الإخوان المسلمين السورية التي تأسست فيما بعد بعدد من الأشخاص المؤثرين وقد أصدرت مجلة شهيرة كان لها تأثيرها الواسع في مصر بشكل خاص ينتمون الى طيف واسع من الكتاب والأدباء من ذوي المكانة المتميزة في المجتمع السوري في تلك الفترة.

إن تأثير هذه الجمعيات السياسية اختبر بشكل جلي خلال انتخاباتهم عام 1943 فقد ساندت زعيم الحركة الوطنية ورئيس الجمهورية فيما بعد شكري القوتلي وقد ضمت قائمته الانتخابية وجها بارزا من وجوه قيادة جمعية الغراء هو الشيخ عبد الحميد الطباع الزعيم الديني المحبوب والتاجر من حي الشاغر مما أدي الى انتصار لائحة القوتلي بسهولة .

الا أن هذه التحالف لم يدم طويلا فلم يمض سوي عام واحد حتى حصل التصادم وكان ذلك نهاية للتعاون بين الطبقة الحاكمة والجمعيات الإسلامية فانطلاقا من مسيرة تظاهرية للاحتجاج ضد احتفال راقص كان مزمعا إقامته خرجت في دمشق مع نهاية مايو / أيار 1944 تظاهرت صاخبة استمرت عدة أيام توقفت خلالها حركة المدينة وأودت بحياة أربعة أشخاص فقد استاءت الجمعيات الإسلامية من مسالة اشتراك نساء مسلمات في الحفل الذي نظم بإشراف جمعية نقطة الحليب النسائية التي تشرف عليها نساء من الطبقة الراقية في دمشق واعتبر تحديا للقيم الإسلامية واعتبر هذا التاريخ بمثابة ولادة دور الجمعيات الإسلامية السياسية وخصوصا الجمعية الغراء واستعراض قوتها وتأثيرها داخل المجتمع السوري إذ لم يكن دخول هذه الجمعيات الى عالم السياسية المباشر من بابها الصريح بقدر ما أظهرت للمجتمع هدفها المتمثل في الدفاع عن الإسلام وحماية قيم المجتمع الدينية ولذلك كان تأثيرها أشد بالنسبة لمجتمع في حالة دفاع عن النفس ما دامت فكرة " القيم الغربية " تتماهي بالنسبة له مع " الاحتلال الموجود على أرضه والمتمثل في القوات الفرنسية .

إن انصهار هذه الجمعيات الإسلامية في بوتقة واحدة هو ما شكل فيما بعد تنظيم الإخوان المسلمين كأكبر حركة سياسية إسلامية في سوريا التي يعود تاريخ ميلادها الى العام 1945 .

تأسيس الإخوان والصراع على دور الدين

اتحدت جمعية الشبان المسلمين في حمص والتي تأسست عام 1936 على يد شخص يدعي أبو السعود عبد السلام مع جمعية دار الأرقم في حلب التي تأسست عام 1936 على يد عمر بهاء الدين الأميري وعقد في العام 1937 مؤتمران في حمص وثالث في دمشق في العام 1938 ولا يبدو واضحا ما إذا كانت جمعية إسلامية في دمشق العاصمة قد اتحدت معهما في البداية فجمعية شباب محمد التي تأسست عام 1941 تحت قيادة عبد الوهاب الأزرق لا تعدو كونها اتحادا طلابيا للمدارس الثانوية في حين تمتعت جمعية العلماء والجمعية الغراء بنفوذ أكبر داخل مدينة دمشق وربما هذا ما يفسر ضعف التمثيل الدمشقي عموما داخل المكتب السياسي للجماعة خلال تاريخها وحتى داخل كوادرها الدنيا مقارنة مع التمثيل الحلبي والحموي على سبيل المثال وذلك يصدق خلال تاريخ حركة الإخوان المسلمين منذ تأسيسها وحتى الوقت الحالي .

في صيف العام 1946 تم إعادة تنظيم شباب محمد والشبان المسلمين ودمجهما تحت اسم الإخوان المسلمين وانتخب مصطفى السباعي مراقبا عاما وعمر بهاء الدين الأميري نائبا له واللقب الجديد يتضمن بشكل ما التبعية للمرشد العام للإخوان المسلمين في مصر وإن كان الإخوان المسلمون السوريون قد تمتعوا باستقلال تنظيمي كبير عن مكتب الإرشاد لعام في مصر ويعود ذلك الى أمرين الأول سياسة المرشد العام الأولي حسن البنا في العمل اللامركزية وانشغاله بالوضع المصري بشكل كبير والثاني اختلاف البيئة السياسية والاجتماعية بين مصر وسوريا مما يحتم على كل طرف اشتقاق نظريته السياسية وبناءه التنظيمي وأحكامه الفقهية من بيئته الخاصة فسوريا تتسم بتعددية سياسية ودينية وعرقية وطائفية لا توجد في مصر كما أن تطور الحياة السياسية في سوريا من حيث الأحزاب والبرلمان والصحافة كان أكثر حرية مما ساد ف يمصر في الفترة ذاتها وهو ما فرض نوعا من الاستقلال النسبي في خطاب الإخوان المسلمين السوريين عن الإخوان المسلمين المصريين وإن كانت الهيئة التأسيسية لحركة الإخوان المسلمين العامة والتي تنتخب مكتب الإرشاد أو المرشد العام وتتمثل فهيا الأقطار المختلفة بعضوين قد ضمت في عضويتها المراقب العام السباعي ونائبه الأميري .

لم يقتصر نشاط الإخوان المسلمين على المستوي الدعوي والتربوي كما هي حال الجمعيات الأخرى لقد كان واضحا من هيكلية الجماعة وبنائها التنظيمي ان العمل السياسي هو من صلب مهامها إضافة الى اضطلاعها بالمهام الأخرى لقد أقامت الحركة منظمة " الفتوة وهو تنظيم شبه عسكري يقوم على التدريب على حمل السلاح تحت رعاية الجيش كما كان للإخوان المسلمين مدارس خاصة معترف بها حكوميا ويدرس بها مجانا . وبالإضافة الى ذلك فقد أسهم الإخوان المسلمون في دمشق بالتدريس في المدارس الحكومية مما أمدهم بتأثير متزايد داخل المجتمع .

وعلى الرغم من التأثير الكارزمي الذي تحلي به مصطفى السباعي داخل الحركة الا أن الحركة احتفظت بنوع من القيادة الجماعية داخلها ما أمدها باستمرار بالحيوية وامتداد الـتأثير داخل المحافظات السورية المختلفة.

لقد عاشت سوريا منذ عام 1949 سلسلة من الانقلابات العسكرية المتتالية التي خلقت اضطرابات سياسية داخل النظام السياسي السوري في تلك الفترة وأثر ذلك بشكل كبير في استقرار الحياة السياسية فيها فبدءا من انقلاب حسني الزعيم في مارس / آذار 1949 الذي لم يستمر أكثر من 137 يوما تتالت الانقلابات بشكل أدي الى إضعاف بناء المؤسسات الدستورية والسياسية والتشريعية في سوريا .

وترافق ذلك مع صعود الأحزاب الأيديولوجية والعقائدية في الحياة السياسية السورية التي وجدت تربة مناسبة لها مع تأسيس دولة إسرائيل في مايو / ايار 1948 وتصاعد التهديدات العسكرية الإسرائيلية على الحدود السورية وتزايد النفوذ الأميركي في المنطقة عبر أحلاف عسكرية حملت بداخلها تهديدا للنفوذ السوري في المنطقة لاستقرارها كل ذلك خلق بيئة خصبة لنمو التيارات اليسارية والقومية والدينية وتمكن الإخوان المسلمين عبر تشكيل ما يسمي " الجبهة الإسلامية الإشتراكية عام 1949 من الوصول الى البرلمان عبر أربعة نواب .

وتمثل الاشتباك السياسي الأول داخل المؤسسات السياسية ولا سيما البرلمان في الاتفاق على صيغة دستور عام 1950 حيث طرحت العلاقة بين الدين والدولة من خلال نصوص الدستور فقد طالب الإخوان أن ينص الدستور صراحة على أن " دين الدولة هو الإسلام " بما يحمله ذلك من تداعيات على الأقليات المسيحية واليهودية وحساسيات تجاه المذاهب الأخرى كالأقليات الدرزية والعلوية والإسماعيلية الموجود في سوريا وقد شهدت هذه الفترة مشادات عنيفة بين التيارات السياسية كافة حول الصيغة الأمثل وحول موقف الأقليات من الصيغة المطروحة .

في 6 أبريل / نيسان 1950 أقرت اللجنة الدستورية بأغلبية 13 مقابل 10 أصوات الموافقة على أن تشمل المادة رقم 3 فقرة 1 من مشروع الدستور أن يكون دين الدولة هو الإسلام وبما أن الإخوان المسلمين كانت المنظمة السياسية الوحيدة في سوريا التي طالبت بأن يكون دين الدولة هو الإسلام فإن نتيجة التصويت تدل بوضوح على أنهم يعبرون في لذلك الصراع عما تكنه فئة كبيرة من الشعب .

لكن الجدل استمر بحدة داخل البرلمان بعد معارضة معظم الكتل البرلمانية فتقدم مصطفى السباعي نفسه بتعديل المادة رقم 3 لتصبح كما يلي :

1- دين رئيس الجمهورية الإسلام.

2- الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع

3- حرية الاعتقاد مصونة والدولة تحترم جميع الأديان السماوية وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على الا يخل ذلك بالنظام العام .

4- الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية.

5- وفعلا تم إقرار هذا التعديل بتاريخ 26 /7/ 1950 بشكل يعكس البراغماتية السياسية التي تحلي بها الإخوان المسلمون في ما يتعلق بالمفاوضات والتحالفات السياسية وهذا لم يمنع السباعي ذاته من الدفاع المستمر عن " إسلامية " هذا " الدستور العلماني " واعتباره نموذجا لما يمكن أن تكون عليه دساتير الدول الإسلامية.

6- عكست أزمة " الدستور إذا مدي تغلغل التأثير الاسمي داخل النخبة السياسية وحتى داخل الطبقات المختلفة من المجتمع السوري لكنها وفي الوقت نفسه تظهر أن الإخوان المسلمين تصرفوا كحركة سياسية خالصة لها مصالحها ودوافعها السياسية ذات الخلفية الدينية بكل تأكيد لكنها لم تعتبر نفسها ممثلا شرعيا وحيدا تتحدث باسم الإسلام وتحتكر الكلام باسمه بل إنها دخلت في تسوريات سياسية أقرب ما تكون الى المناورات في أمور تعتبر بالنسبة للشريعة الإسلامية ليست قابلة للجدل القانوني أو الفقهي خصوصا في ما يتعلق بالدستور .

7- وعلى العموم فإن ذلك يظهر أن الإخوان المسلمين في سوريا أصبحوا حركة مؤثرة لكنها لم تكن قائدة أو وحيدة التأثير في غياب الفعاليات السياسية الأخرى فقد أوردت صحيفة الـ " نيويورك تايمز " في تقريرها بتاريخ 2 / 2/ 1955 أن عدد المنتسبين الى الإخوان المسلمين في سوريا يتراوح بين العشرة الاف والاثني عشر عضوا لكنها أشارت الى أن بإمكانهم ومن خلال منظماتهم المختلفة الأنشطة القيام بمهام متشعبة وواسعة.

لقد دخل الإخوان بعد ذلك في اللعبة السياسية بشكل أكبر وتأثروا بتقلباتها المستمرة والدائمة وهو ما أثر بالتأكيد في تماسكها وحيويتها غذ شهدت انقسامات مختلفة خصوصا بعد حل حسني الزعيم – الذي قام بالانقلاب العسكري الأول في مارس / آذار -1949 للأحزاب السياسية ثم قام بعده الشيشكلي بالأمر ذاته مما خلق محاور وانقسامات داخل جماعة الإخوان المسلمين لا سيما مع اصطدام الجماعة الأم بالرئيس المصري جمال عبد الناصر وصدور قرار من مكتب الإرشاد بعدم الخوض في الميدان السياسي الداخلي .

ومع عودة الإخوان المسلمين خصوصا بعد عودة الديمقراطية وسقوط أديب الشيشكلي عام 1954 كان حضور الإخوان خافتا وضعيفا للغاية لدرجة أن السباعي نفسه لم يضمن لذاته مقعدا بالبرلمان إثر ترشحه عام 1957 في الانتخابات التكميلية التي جرت في مايو / أيار 1957 في مواجهة البعثي رياض المالكي وإثر خسارته السباعي بشلل نصفي اثر في نشاطه بشكل كبير .

لكن الإخوان في تلك الفترة بدوا ممزقين بين خيارين الأول تأييد الوحدة السورية – المصرية التي كان هناك رأي عام سوري ساحق مؤيد ها وهو ما يعني تأييدا مطلقا للرئيس عبد الناصر والثاني عدائهم لعبد الناصر بعد سياسة التنكيل والتعذيب التي قام بها ضد الإخوان المسلمين المصريين خصوصا بعد حادثة المنشية عام 1954 .

لقد استطاع السباعي بفضل شخصيته الفذة إدارة الدفة بذكاء وحنكة فقد التزم بالوحدة التزاما واضحا وأصدر كتابه الشهير " اشتراكية الإسلام " عام 1959 الذي حاول فيه إيجاد غطاء شرعي لقانون الإصلاح الزراعي الذي أصده عبد الناصر وفي الوقت نفسه شرعنة لمبدأ التأميم الذي طبقه عبد الناصر فيما بعد كما أنه راح في مواقفه السياسية يعبر عن دعم لمواقف عبد الناصر القومية خصوصا أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1959 وظهور عبد الناصر كبطل قومي الهب خيال السياسيين السوريين جميعهم وأوقعهم في مأزق حقيقي أمام تأييده الصريح في الوقت الذي كان النظام السوري يمر بفترة " انحلال سياسي كامل لم يجد حلا له الا باللجوء الى أحضان الوحدة الاندماجية التي اشترط عبد الناصر من أجلها حل جميع الأحزاب السياسية في سوريا وهو ما ترك انعكاسات كارثية على الأحزاب السياسية سيما بعد انفصال عن مصر عام 1961 .

ومع عودة الحياة الديمقراطية الى سوريا بعد الانفصال تمكن الإخوان المسمون من الفوز بعشرة مقاعد في الانتخابات البرلمانية التي جرت في العام نفسه وحملت كتلتهم البرلمانية اسم " الكتلة التعاونية الإسلامية " التي ترأسها عصام العطار وقد احتفظت بتأثير متوازن في علاقتها مع عبد الناصر وتكيفت مع واقع الانفصال القائم.

الإخوان المسلمون والسلطة

دخل الإخوان المسلمون في مرحلة جديدة مختلفة كليا مع الوصول حزب البعث الى السلطة في العام ا1963 وتجلي ذلك واضح ما يكون في ما يسمي " عصيان حماه في أبريل / نيسان 1964 الذي تصدره قادة الإخوان المحليون في مدينة حماة لمدة 26 يوما وعلى رأسهم مروان حديد وسعيد حوى الواقعين تحت تأثير كتابات سيد قطب المتأخرة التي نحت منحي متشددا في إطلاق أوصاف الجاهلية على المجتمعات الإسلامية وتكفير النظم القائمة لأنها لا تقوم على تنفيذ مبدأ " حكم الله " ومن هنا اشتق مصطلحه الشهير في " الحاكمية " الذي أصبح التبرير الدائم للحركات الإسلامية المتطرفة للخروج على النظم القائمة.

إن " عصيان حماه " خلق مؤشرا مبكرا الى تصاعد " تيار جهادي " داخل الإخوان لا يوافق على أطروحاتهم السياسية والسلمية والديمقراطية هذا التيار الذي حمل اسم " كتائب محمد هو نفسه الذي سيلد لاحقا ما يعرف بـ " الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين " التي خاضت أحداث حماه المأسوية في العام 1982 ولا يمكن قراءة هذا التحول الا بالنظر الى تحول الضفة المقابلة متمثلة في احتكار السلطة السياسية وفرض حالة الطوارئ والغاء التعددية السياسية والصحافة المستقلة كبداية لتأسيس " الجمهورية الثالثة " في سوريا القائمة على " الشرعية الثورية " على حساب " الشرعية الدستورية " وهو ما يجعل المقارعة السياسية غير المجدية ويخلق دوافع للكثير من التيارات السياسية للجوء الى العنف كوسيلة في حل النزاعات وربما يكون التيار الإسلامي الأكثر جذبا لهذه الأفكار بحكم الذخيرة الدينية والشرعية الخصبة التي تمكن تياراته المتطرفة من تأويل النصوص الكافية لتبرير خطواتها المسلحة .

يمكن القول : إن " الحركة التصحيحية في العام 1970 التي قادها الرئيس الراحل حافظ الأسد دشنت فترة جديدة في تاريخ الحياة السياسية في سوريا غير أنه ومع إقرار الدستور الدائم في العام 1973 الذي نص في مادته الثامنة على أن " حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في الجميع والدولة ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية " تأممت الحياة السياسية لصالح حزب البعث وعلى ضوء هذه الامتيازات البعثية نشأ نوع من المعارضة داخل الطيف القومي نفسه الذي كان مهيمنا فكريا وسياسيا وأيديولوجيا على الحياة السياسية في سوريا في تلك الفترة عبر عنه حزب الإتحاد الإشتراكي الذي يقوده جمال الأتاسي كما أن الحزب الشيوعي تعرض لانقسام عميق قاده رياض الترك , في ما عرف بالحزب الشيوعي المكتب السياسي الذي أي أن التوقيع على ميثاق الجبهة هو " توقيع على تسليم الحزب وتصفيته "

ويمكن القول : إن الحياة السياسية في سوريا " استقرت " على أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية إذ حظرت جميع الأحزاب الأخرى وزج بكوادرها في السجون أما الأحزاب القائمة على أساس ديني كجماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي فإنها حظرت تماما . أتي الصدام الأول بين الرئيس حافظ الأسد مع التيار الديني عندما نشر دستور سوريا الجديد في 31 / 1/ 1973 فثارت الاحتجاجات ولا سيما في حماه لأن المسودة المطروحة للدستور قد حذف منها الاشتراط بأن يكون رئيس الجمهورية مسلما مثلما كان في دستور 1950 وسارت عليه الدساتير السورية بعد ذلك.

اضطر الأسد في ذلك الوقت لتعديل الدستور استجابة للاحتجاجات المتصاعدة التي واجهها وبدأت الهجمات " الإرهابية وأخذت تتصاعد بعد العام 1976 واتهم الإخوان المسلمون بالقيام بها وقد تتصاعد هذه الأعمال بوتيرة " طائفية " مؤلمة بعد مذبحة مدرسة المدفعية بحلب في 16/6/1979 التي قادها النقيب إبراهيم اليوسف وانتهت الى تصفية عشرات من التلاميذ من ذوي الانتماء العلوي فكان رد السلطات السورية قاسيا وعنيفا سيما بعد اكتشاف محاولة اغتيال للرئيس حافظ الأسد في يونيو / حزيران 1980 حيث قامت وحدات سرايا الدفاع التي يقودها رفعت الأسد – شقيق الرئيس – بالذهاب الى سجن تدمر في 27 / 6 / 1980 وإطلاق النار على معتقلي الإخوان المسلمين في زنازينهم مما أدي الى مقتل ما يزيد عن 700 معتقل في السجن .

لكن بعد تصاعد المواجهات الدموية بشكل دراماتيكي في الثمانينيات من القرن الماضي اتجه الأسد الى الحسم قانونيا عبر إصدار القانون رقم 49 في 17/7/ 1980 الذي يحكم بالإعدام على كل منتسب للإخوان المسلمين وأمنيا عبر إتباع سياسة الملاحقة والتعقب والاعتقال الجماعي والعشوائي التي انتهت بالسحق العسكري الكامل في حماه .

لم تلفح بعد ذلك جميع المفاوضات التي جرت بين البيانوني المراقب العام الجديد للإخوان المسلمين في سوريا مع العديد من قادة الأجهزة الأمنية في حل قضية الإخوان المسلمين كحزب سياسي وعودة قيادته بينما اتبع النظام السياسي السوري أسلوب العفو الفردي والمفاوضة على عودة عدد من الأشخاص كأفراد وليس قيادات في الإخوان المسلمين مثلما حصل مع عودة المراقب العام السابق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في نهاية الثمانينيات وحتى الوقت الحالي انعكس تشددا أيضا على ارض الواقع مع استمرار العمل بالقانون رقم 49 وإن كان تنفيذ حكم الإعدام قد استبدل بالسجن لعشر سنوات وتصل الى ست عشرة سنة كما حدث مع العديد من الأشخاص الذين تتهمهم السلطة بالانتساب الى جماعة الإخوان المسلمين المحظورة.

وبالرغم من وفاة الرئيس حافظ الأسد في يونيو / حزيران 2000 ومجئ ابنه بشار الأسد للسلطة خلفا له فإنه اتبع النهج ذاته الذي سار عليه والده في التعامل مع هذا الملف حيث إنه أغلق تماما باب النقاش برغم تراكم القضايا الاجتماعية والإنسانية والعائلية داخله وتمت إدارته من زاوية أمنية فقط وهو ما ولد – كما ذكرنا – حساسية مفرطة لدي الأجيال الجديدة وحتى القديمة الخارجة من المعتقل حديثا تجاه العمل في السياسة أو لعب دور ما فيها .

لقد انتهي الإخوان المسلمين الى قيادة في الخارج غير مؤثرة في الداخل حيث انتهوا الى عدد من الأفراد يخافون التصريح أو حتى التلميح الى انتمائهم الى هذه " الجماعة المحظورة " وبرغم الخطوات السياسية التي قام بها الإخوان خصوصا بعد وصول الرئيس بشار الأسد الى السلطة عبر إصدار ما سمي " ميثاق شرف للعمل السياسي " الذي يعلنون فيه نبذهم العنف بكل أشكاله وتأييدهم مبدأ " الدولة المدنية " ثم إصدارهم برنامجهم السياسي الذي يعد " قفزة نوعية " على مستوي خطاب الحركة وأدائها فإن ذلك كله لم ينعكس على طريقة تعامل السلطة معهم .

فالميثاق يتحدث عما يسميه " الدولة الحديثة " التي هي " دولة تعاقدية ينبثق العقد فيها عن إرادة واعية حرة بين الحاكم والمحكوم والصيغة التعاقدية للدولة هي إحدي عطاءات الشريعة الإسلامية للحضارة الإنسانية كما أن " الدولة الحديث دولة مؤسسية تقوم على ( المؤسسة ) من قاعدة الهرم الى قمته كما تقوم على الفصل بين السلطات وتأكيد استقلاليتها فلا مجال في الدولة الحديثة لهيمنة فرد أو سلطة أو حزب على مرافق الدولة أو ابتلاعها وفي الدولة الحديثة تعلو سيادة القانون ويتقدم أمن المجتمع على أمن السلطة ولا تحل فيها حالة الطوارئ مكان الأصل الطبيعي من سيادة القانون .

ويضيف الميثاق أن " الدولة الحديثة " هي دولة تداولية وتكون صناديق الاقتراع الحر والنزيه أساسا لتداول السلطة بين أبناء الوطن أجمعين كما أنها دولة تعددية تتباين فيها الرؤى وتتعدد الاجتهادات وتختلف المواقف وتقوم فيها قوي المعارضة السياسية ومؤسسات المجتمع المدني بدور المراقب والمسدد حتى لا تنجرف الدولة الى دائرة الاستبداد أو مستنقع الفساد.

والتزمت جماعة الإخوان المسلمين في ميثاقها باليات العمل السياسي الديمقراطي ووسائله مؤكدة الحق المتكافئ للجميع في الاستفادة من إمكانات الدولة في توضيح مواقفهم والانتصار لرؤاهم طرح برامجهم و "بنبذ ( العنف ) من وسائلها وتري في الحلول الأمنية لمشكلات ( الدولة والمجتمع ) وفي عنف السلطة التنفيذية مدخلا من مداخل الفساد .

وهنا نلحظ تحولا واضحا في آليات التفكير السياسي بالنسبة للحركة الإسلامية السورية الأبرز خصوصا في ما يتعلق بقبولها مبدأ الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة والانتقال لعمل كحزب سياسي مدني ذي خلفية أو مرجعية " إسلامية " كما هي حال الأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا .

أبو مصعب السوري والجيل الثالث من السلفيين الجهاديين

مراد بطل الشيشاني

برز اسم أبو مصعب السوري في الإعلام على إثر تفجيرات لندن في السابع من يوليو / تموز 2005 رغم أن ظهوره كان متكررا قبل ذلك التاريخ أيضا ولكن ربطه بتلك التفجيرات ومن قبل ذلك بتفجيرات مدريد في 11 مارس / آذار 2004 أبرز اسمه كأحد منظري التيار السلفي الجهادي في العالم خاصة وأنه نظرا للبعد الجيوبوليتيكي لانتشار الحركات السلفية – الجهادية لا يقتصر دور أبو مصعب السوري كمنظر للتيار السلفي – الجهادي على بقعة جغرافية معينة بل إن تأثيره امتد الى بقاع كثيرة ينشط فيها السلفيون – الجهاديون وهو ما دفع مراكز دراسات أميركية قريبة من دوائر صنع القرار الى ترجمة أعماله بحكم تأثيرها وأما مناصروه فقد عدوا كتبه مصادر أساسية لبناء الفرد المقاتل الناشط في الإطار السلفي الجهادي حيث وبحكم أن فكره السوري المركزية تدور على إتباع الجهاد الفردي " لتنوير المجتمعات الإسلامية لمواجهة أعدائهم كما يفترضهم التيار السلفي - الجهادي فقد دعا العديد من السلفيين – الجهاديين في المنتديات الالكترونية الأعضاء الى قراءة كتب السوري بوصفها " منهجا لبناء شخصية مجاهد إرهابي بحسب ما أورد منتدى الإخلاص قبل إغلاقه بتاريخ 25/ 5/2008 وهو ما يؤشر الى أن كتبه تحولت الى مراجع في عمليات التجنيد الذاتي لدي الجماعات الجهادية .

وتكمن أهمية السوري بالنسبة لبلده الأم سوريا في أنه أكثر من نظر لما بعد الإسلام السياسي السوري بعد أن ضربت الحركة الإسلامية السورية نهاية السبعينات ومطلع الثمانينيات من قبل النظام وذهب السوري أبعد من ذلك حين استخدام ما يسميها " التجربة الجهادية في سوريا كنموذج للفشل الذي يجب أن تتعلم الحركات السلفية – الجهادية منها كي لا يتكرر وبالتالي فقد قدم نظرية لاليات " الجهاد " في مناطق مختلفة في العالم ومن ضمنها سوريا .

برز أبو مصعب السوري كمنظر للجيل الثالث من السلفيين – الجهاديين فقد تبلورت نظريته في العراق مع الاحتلال الأميركي عام 2003 وبالتالي برزت العراق والدول المجاورة ومنها سوريا كمختبر رئيسي لهذا الجيل ولنظرية السوري في ظل مرحلة توصف بما بعد الإسلامي السياسي لصالح تصاعد جماعات رافضة للانخراط في أى عملية سياسية لا يكون العنف هو الالية الأساسية للتغيير.

أولا : من هو أبو مصعب السوري ؟

أبو مصعب السوري هو الاسم الحركي لـ مصطفي عبد القادر مصطفي حسين الشيخ أحمد المزيك الجاكيري الرفاعي " وتعرف أسرته بعائلة " الست مريم " نسبة الى جدتهم ولد في حلب عام 1958 وفيها درس الهندسة الميكانيكية وهو يعرف أيضا باسم " عمر عبد الحكيم "

كانت بداياته في الإسلام الحركي مع انضمامه لما يعرف آنذاك بـ " الطليعة المقاتلة " وهي فرقة جهادية أسسها الجهادي السوري المعروف " مروان حديد " وقد تدرب " أبو مصعب السوري على أيدي ضباط مصريين وعراقيين في معسكرات في الأردن وبغداد في حقبة المواجهة بين النظامين والنظام السوري وكان " السوري " عضوا في القيادة العسكرية العليا لتنظيم الإخوان المسلمين والتي تشكلت في بغداد على إثر فرار الإخوان السوريين من بلادهم بعد الواجهات مع السلطة السورية .

وعلى الرغم من ذلك فإن السوري يعد نفسه أقرب لـ تنظيم الطليعة المقاتلة " وعضوا فيه خاصة وأن التنظيم ابتعد وفقا للسوري عن الإخوان المسلمين بعد انقسامهم بين تياري " عدنان سعد الدين " الحموي وتيار دمشق بقيادة " عصام العطار وقد كانت قيادته الت لعدنان عقلة بعد وفاة مؤسس " الطليعة المقاتلة " " مروان حديد " عام 1967 .

انفصل أبو مصعب السوري عن تنظيم الإخوان إثر أحداث حماه عام 1972 وذلك اعتراضا على تحالف الإخوان مع حركات وأحزاب علمانية ومع نظام البعث العراقي لمواجهة النظام السوري وتوجه الى أفغانستان والتقي هناك " عبد القادر عبد العزيز " مؤلف كتاب " العمدة في إعداد العدة " أحد الكتب المرجعية للتيار الجهادي والذي انقلب لاحقا على الأيديولوجيان السلفية- الجهادية وتحول الى مصدر جدل مع الرجل الثاني في القاعدة أيمن الظواهري وما بين الجهاديين ذاتهم ويشير السوري الى أنه التقي في أفغانستان الشيخ عبد الله عزام " وكذلك أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة الذي التقاه السوري وفق ما يقوله قبل بداية التسعينيات حين بدأ العمل مع تنظيم القاعدة .

بعد اشتراكه في الحب ضد التدخل السوفياتي في التسعينيات من القرن الماضي سافر أبو مصعب السوري الى أوروبا إسبانيا تحديدا التي يحمل جنسيتها بعد أن كان قد انضم لتنظيم القاعدة عام 1992 على ما يذكر هو وحصل بالانتساب على شهادة التاريخ من جامعة بيروت العربية ومن إسبانيا توجه الي بريطانيا ليساهم في تأسيس الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر ويتولي الإشراف على مجلة " الأنصار " لسان حال الجماعة الإسلامية المقاتلة في الجزائر وقد كان الانخراط في الصراع الجزائري سبب حلافه مع الأيديولوجي الجهادي أبو قتادة الفلسطيني المسجون حاليا ( 2009 ) في سجن بلمارش البريطاني .

أسس السوري في لندن " مركز دراسات صراعات العالم الإسلامي " والذي أجري من جلاله مقابلتين لصالح CNN ,BBC على التوالي مع " أسامة بن لادن " وكان هو كذلك الذي نظم مقابلة أجراها رئيس تحرير القدس العربي عبد الباري عطوان .

هاجر السوري في العام 1998 الى أفغانستان مجددا وبايع " الملا عمر " زعيم حركة طالبان كأمي للمؤمنين التي كانت قد سيطرت آنذاك على أفغانستان ومل في القسم العربي لإذاعة " كابول " وقد ساهم من خلال كتابه " أفغانستان والطالبان ومعركة الإسلام " ( أكتوبر م تشرين أول 1998 ) في التنظير والتمهيد لشرعنة نظام طالبان بين أوساط السلفيين – الجهاديين ممن باتوا لاحقا وقود معسكرات التدريب التي قادت الى عدد كبير من الهجمات لاحقا ولعل أهمها الحادي عشر من سبتمبر / أيلول عام 2001 في نيويورك وواشنطن .

وإثر سقوط نظام طالبان تفرغ للبحث والتأليف وللبحث في مراجعة التجربة الجهادية واستكشاف أسليب وأنماط للحركات الجهادية كما يقول ولم يعمل في النشاطات الحركية وقفا لتصريحاته حتى أصدرت وزارة الخارجية الأميركية مذكرة اعتقال باسمه ومكافأة قدرها خمسة ملايين دولار وصفها " السوري " بالتافهة .

اتهم " أبو مصعب السوري في مذكرة الخارجية الأميركية بإدارة معسكرين في أفغانستان ( فراغة أو الغرباء ) في كل من " كابول و " جلال أباد " في مجال السموم والمواد الكيماوية ورأت الخارجية أن جهوده تثير قلق استخدام أسلحة الدمار الشامل واتهم السوري أيضا بعلاقة وثيقة مع " أبو مصعب الزرقاوي كما أن أسمه ود في اتهامات بالضلوع في انفجارات مدريد 11 / 3 / 2003 وأنه على علاقة وثيقة مع " أبو الدحداح " ( عماد الدين بركات جركس ) وأنه درب خلايا نائمة في أوروبا من خلال علاقته ب : بن لادن "

وعلى الرغم من أن البعض يشير الى أن علاقة الأفراد السلفيين الجهاديين به وحتى علاقة " بن لادن به لم تكن تستند الى الثقة حيث تشير بعض المصادر إلى أن " السوري يوصف ب " الميكافللية " من قبل بعض السلفيين – الجهاديين الا أنه وعلى إثر نشر إعلان وزارة الخارجية الأميركية كتب ردا مطولا ينفي علاقته بأحداث الحادي عشر من سبتمبر قال فيه بأنه لم يسمع أو " يستمتع " بها الا من خلال وسائل الإعلام وأعلن تأييده لها وقال أيضا في معرض رده بأنه لم يزر أسبانيا منذ عام 1995 وأن لا علاقة له بتفجيرات مدريد ويري أنها تهمة موجهة له من قناة APC الإسبانية التي يصفها بالداعمة لـ " أزنار " وأنه أرسل بيانا يرد التهمة عن نفسه ولكن لم تنشره وسائل الإعلام الأسبانية كما نفي " السوري " أن يكون ناشطا مع " أبو مصعب الزرقاوي " رغم عده مشاركته في الجهاد " شرفا "

ويعلق " أبو مصعب السوري " في هذا على دوره المفترض في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 والحادي عشر من مارس 2003 بأن الدفاع فريضة عين على المسلم ويدعو الجهاديين بالتمييز بين الأبرياء قدر الإمكان ويدعو الحكومات الأوروبية الى الخروج من تحالف العدوان الأميركي والإسرائيلي ويدعو المجاهدين الى التفريق بين الدول المعتدية وغير المعتدية والى الاستماع الى قدامي المجاهدين ويدعو الدول الأوروبية أن تكون نظرتها شاملة في العلاقة بالعالم الإسلامي وأخذ قضاياه الأساسية بعين الاعتبار مثل قضية الحجاب في فرنسا وقضية العلاقة مع حركتي حماس والجهاد وعد اعتبارهما منظمتين إرهابيتين وان تقيم علاقتها بالعالم الإسلامي على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة .

ومن الغرابة أن " أبو مصعب السوري " في حين أنه يتأسف على الضحايا الأبرياء في مدريد فإنه يتأسف لعدم وجود أسلحة دمار شامل في ضربات 11/9 ويقول " فربما كنا استرحنا من أكبر عدد من أصحاب الأصوات التي أنتجت بوش لولاية ثانية رغم جرائمه في العراق وأفغانستان وأبو غريب " ويشير بأن فائدة من الحوار مع الأميركيين ويدعو كلا من إيران وكوريا الشمالية بذات الوقت الى التمسك بأسلحتهما النووية خاصة وأنه يري أن استخدام السلاح النووي ضد الولايات المتحدة هو أفضل الحلول حسم الصراع معها .

وعلى الرغم مما يلاحظ أن السوري يتحفظ على ضرب أوروبا الا أنه فيما يبدو لا يعد بريطانيا داخل هذا التحفظ حيث أنه يري على النقيض من المعسكر الإسلامي كما يتصوره هو محورين الأول مكون مما يسميه التحالف الصليبي بقيادة الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا إضافة لدول الناتو وروسيا – الصهيوني بقيادة إسرائيل والمحور الثاني مكون من دول أوروبا , ويري أن العلاقة بين المحورين تتبلور في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو وأن تلك العلاقة تقوم على شبكة تفاعلات يمكن التأثير فيها على ذلك فهو يري أن بريطانيا جزء من التحالف الأميركي الإسرائيلي .

وبالطبع فإنه يري أن المحور الأول يسانده " الأنظمة المرتدة وقوي العلمانية المحاربة للإسلام والمنافقين من علماء السلطان وأصحاب الفكر المحارب للإسلام كلها في مواجهة " قوي المقاومة المسلحة المجاهدة وعلى ذلك يلاحظ أن بريطانيا خارج تحفظاته على ضرب الدول الأوروبية .

ثانيا : التنظير على المستوي الاستراتيجي .

برزت أهمية أبو مصعب السوري في الدور التأهيلي الذي مارسه في معسكرات التدريب والأهم في التنظيرات التي قدمها للتيار السلفي – الجهادي في مناطق عدة في العالم وفيما عرضت الولايات المتحد خمسة ملايين دولار مكافأة لاعتقاله كما أورد سابقا فإن شخصية أو مصعب السوري وتنظيراته باتت مصدرا لدراسات متخصصة في الولايات المتحدة حتى أن كتابا أكاديميا خصص لدراسة شخصيته وتنظيراته .

وتتبع أهمية تنظيرات " السوري " للتيار السلفي – الجهادي من مستويين أساسيين الأول يرتبط بالانتشار الجغرافي للتيار السلفي – الجهادي والتنظير لأهمية الجيوبولتيك في رسم السلوك السياسي لهذا التيار وتنظيم " القاعدة " المعبر الأساسي عنه وأما المستوي الثاني فهو تنظيره لفكرة " الجهاد الفردي " والخلايا الصغيرة " والتي لعبت دورا أساسيا في تحويل القاعدة الى فكرة أو أيديولوجيا الهمت العديد من النشاطات السلفية – الجهادية أكثر من كونها تنظيما تتحرك وفق أوامر هرمية هيرراكية.

ولعل كتاب أبو مصعب السوري " دعوة المقاومة الإسلامية " وهو أكبر نتاجه ويقع في ما يزيد عن الالف وخمسمائة صفحة أهم ما كتبه وفيه يتحدث عن بدايات " الجهاد الأفغاني " والتيارات الإسلامية التي قدم بها المقاتلين العرب وعن نظام طالبان لاحقا وفي الكتاب يطرح نظريته لتحالف التيارات التي يصفها بالمقاومة الإسلامية لمواجهة الحرب الصليبية الثالثة " ومن ثم يقدم لها أساليب النشاط العسكري والإعلامي الدعائي وكيفية استقطاب الأموال .

وفي هذا الكتاب وبالإضافة الى كتب أخري يطرح السوري تصوره وتنظيره للانتشار الجغرافي يقول أبو مصعب السوري عن أفضل الأقاليم للمواجهات في جبهات مفتوحة لأفغانستان بلاد وسط آسيا وما وراء النهر اليمن وجزيرة العرب المغرب الأقصى وشمال إفريقيا وبلاد الشام والعراق .

وبما أن هذه المناطق تحولت ما بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 الى مناطق ملتهبة ومناطق وجود السلفيين الجهاديين فإن للسوري كتبا مفصلة في إبراز أهمية بعض المناطق كآسيا الوسطي واليمن وجزيرة العرب .

وما يتعلق بآسيا الوسطي كتب أبو مصعب السوري " كتابا مفصلا عن الإقليم يشير به الى وجود معركة عالمية بين التحالف الصليبي الصهيوني ضد الإسلام وممثلوا هذا الاسم هم الجهاديون برأيه وبذلك فإنه يري أن منطق آسيا الوسطي هي منطقة انطلاقه " الجهاد نحو " قلب العالم الإسلامي ( الشرق الأوسط ) فيقول السوري : ضرورة تمرك كوادر العمل الإسلامي عموما جنبا الى جنب في المرحلة الحالية الى جانب حركات الجهاد في هذه المنطقة ( أسيا الوسطي ) للجهاد فيها ومن ثم الانطلاق للشرق الأوسط.

ويري " أبو مصعب السوري " بوجود بوادر الحركة الجهادية في أوزبكستان وتجدر الملاحظة أنه بحثها في العام 1999 أى في بدايات الحب الشيشانية الثانية على الأغلب والتي تحولت آنذاك الى وجهة أساسية للجهاديين العرب ويري السوري أن سيطرة الجهاديين أو إيجادهم لملاذ آمن في المنطقة الممتدة من ينغلاديش الى شمال الهند وكشمير وباكستان وأفغانستان وآسيا الوسطي مع مسلمي تركستان الى القوقاز والأورال هي ماسحة ذات امتداد جغرافي وفيها مسلمون مما يجعلها ذات ميزة لنشاط " الحركة الجهادية .

وإضافة الى ميزة الامتداد الجغرافي للمسلمين فإن " أبا مصعب السوري " يضيف مجموعة من الأسباب العقدية والدينية لتبري أهمية المنطقة كبشائر في الأحاديث النبوية عن النصر القادم للإسلام من المنطقة وأسباب سياسية – استراتيجية حيث يعد المنطقة تشكل نقطة قوة لأهل الإسلام مقابل نقطة ضعف للتحالف الصهيوني – الصليبي على عكس " المحاور الأخرى " حيث يتميز ما يصفه بالتحالف بميزة التفوق وأيضا يري السوري في الكثافة البشرية والطبيعة الجغرافية مزايا إضافية حيث ستشكل المنطقة برايه "قلعة متينة للحكة الجهادية وكذلك الحال لوجود الموارد الاقتصادية في المنطقة مما يمنح الحركة الجهادية دعما ماليا .

وأما في ما يتعلق باليمن وجزيرة العرب فإن للسوري كتابا مهما يعبر عن الرؤية الجيوبوليتيكية للتيار السلفي – الجهادي لتلك المنطقة يتحدث فيه عن العامل الديموغرافي في اليمن والمرتبط بالشكيمة اليمنية والفقر في آن معا إضافة الى العامل الجغرافي المرتبط بما تتميز به اليمن من طبيعة جبلية حصينة " تجعل منها القلعة الطبيعية المنيعة لكافة أهل الجزيرة بل لكافة الشرق الأوسط فهي المعقل الذي يمكن أن يأوي اليه آلاف وسواحل بحرية تزيد على ثلاثة آلاف كيلو متر وتتحكم بواحد من أهم البوابات البحرية وهو مضيق باب المندب " وأيضا عامل انتشار السلاح " نظرا للتقاليد القبلية " إضافة الى العامل الديني المرتبط بعدد من الأحاديث و البشائر المرتبطة باليمن تمثل كلها بنظر " السوري " و " القاعدة " عوامل أساسية لتكون اليمن " منطلقا " وقاعدة للجهاد " لتطهير المقدسات واسترجاع الثروات المنهوبة من أهل الجزيرة والمسلمين "

وبالتالي فإن المطلوب تشكيل قوة إسلامية من أهل اليمن وشبابه ومجاهديه ومن لحق بهم من أهل الجزيرة وشباب الإسلام , تتمركز في اليمن .. كقاعدة انطلاق والتوجه لضرب الأعداء في الجزيرة عامة .. فميدان الغنيمة كما هو ميدان الجهاد , كامل الجزيرة : أموال المرتدين من الأمراء والملوك والسلاطين والحكومات العميلة .. وأموال الصليبيين والنصاري من الشركات الاستعمارية التي تشرف إما على نهب الثروات وإما على بيع منتوجات المحتلين وهذه اليمن تشرف على واحد من أهم مضائق العالم وسفن وناقلات نفط الكفار تعبر كل يوم بالمئات بالرزق والمال .

ولذا فإن رصد نشاط القاعد في اليمن يثبت أنه لا يخرج عن سياق جعلها منطلقا للجهاد في الجزيرة وهو ما حدث حين كان أغلب السلاح بيد جهاديي السعودية يأتي من اليمن ومما يدلل على ذلك أيضا أن اليمن والسعودية وقعتا اتفاقية للتعاون الأمني عام 2004 ومنذ ذلك الحين سلمت اليمن للسلطات السعودية خلال الفترة نفسها 35 شخصا مطلوبا وهو الأمر الذي لوحظ مؤخرا بإعادة التمحور في اليمن للتيار السلفي – الجهادي وانضمام سعوديي القاعدة لهم .

وعلى الرغم من أن تلك المناطق الجغرافية المتنوعة تشهد تزايدا وتراجعا لنشاط التيار السلفي – الجهادي حسب الظروف بشكل يدلل على أهمية تنظيرات أبو مصعب السوري " الجيويولوتيكية " إن جاز التعبير الا أنه يشير الى عدم إمكانية فتح تلك الجبهات لأسباب عدة ويقول : " نظرا لاتساع الأمة والساحات التي توجد فها أهداف العدو الغازي ومصالحه .. نظرا لتعذر الرحيل الى ساحات لمواجهة على كل الشباب الراغب بالمساهمة في المقاومة , بل تعذ قيام مثل هذه الجبهات في لمدي المنظور فإن طريقتنا تعتمد إرشاد المسلم الذي يريد المساهمة والمقاومة الى العمل حيث هو أو حيث يستطيع التواجد بشكل طبيعي ويماس حياته العامة بشكل طبيعي ويمارس الجهاد والمقاومة سريا بنفسه أو مع خلية صغيرة من الموثقين لديه يشكلون سرية مستقلة للمقاومة والجهاد الفردي .

تعد فكرة " الجهاد الفردي " هذه أهم أفكار أبو مصعب السوري باعتبارها احدي الاستراتجيات التي اتبعتها " القاعدة " والتيار السلفي الجهادي في مواجهة التضييق الأمني ما بعد الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 حيث يطرح أربعة أسباب للتحول لهذه الاستراتيجية وهي " فشل أسلوب عمل التنظيمات السرية الهرمية في ظل الهجمة الأمنية الدولية والتنسيق الإقليمي والدولي " وعجز التنظيمات السرية عن استيعاب كل شباب الأمة الذين يريدون أداء فريضة الجهاد والمقاومة " و " اتساع وجود العدو وتنوع أهدافه ووجوده في بقاع كثيرة يصعب أن تقوم فيها جبهات قتال كما يصعب أن تنشأ فيها تنظيمات مركزية " وسقوط فكرة الجبهات والمواجهة الثانية مع العدو نتيجة استخدام العدو لإستراتيجية الحسم الجوي .

وفيما يطرح السوري مجموعة من الأساليب لتطبيق نظريته والتي تستند على التثقيف الفردي والخلايا الصغيرة فإن استخدام الإنترنت من قبل التيار السلفي – الجهادي - وخاصة في تجنيد الشبان للتطوع للقتال في العراق وعدد كبير من العمليات خاصة في أوروبا كلها أظهرت التأثير الذي مارسته نظرية السوري حول " الجهاد الفردي "

يحدد أبو مصعب السوري المناطق التي يتوجب أن يستهدفها " الجهاد الفردي " بحسب أهميتها كما يقول وهي على النحو الآتي " بلدان الجزيرة العربة والشام ومصر والعراق " بلد أن شمال إفريقيا من ليبيا الى موريتانيا " " تركيا والباكستان وبلدان وسط آسيا " باقي بلدان العالم الإسلامي " المصالح الأميركية والحليفة في بلدان العالم الثالث " في دول أوروبا الحليفة لأميركا الداخلة معها في الحرب في قلب أميركا ذاتها "

وعلى ما سبق يلاحظ في تفكير السياسي لأبي مصعب السوري كأحد المنظرين الرئيسيين للتيار السلفي – الجهادي محورية بلاد الشام في الاستراتيجية التي يرسمها التيار السلفي – الجهادي والمناطق التي ينشط فيها وهو ما يبدو أنه يلعب دور أساسيا في نشاط وأسلوب عمل السلفيين – الجهاديين المتزايد في سوريا وعموم بلاد الشام منذ الغزو الأميركي للعراق .

ثالثا : أبو مصعب والسلفية – الجهادية في سوريا

ترتبط رؤية أبو مصعب السوري لسوريا عموما برؤية أوسع لإقليم بلاد الشام الجغرافي إضافة للتنظير الذي يطرحه في " كفر " النظام السياسي في سوريا وقد عزز من أهمية الفكرة هذه بروز ما يعرف بالجيل الثالث من السلفيين – الجهاديين والذي شكل ا العراق ما بعد الاحتلال الأميركي مختبره الأساسي وقد كان من تداعيات ذلك بروز ما يعرف بـ " التيار الشامي " السلفي الجهادي وبروز سوريا كممر لانتقال المتطوعين العرب الى العراق .

كما تقوم تلك الرؤية لبلاد الشام وسوريا تحديد على مستويين : الأول : فكري – تنظيري والثاني : مستوي الاستراتيجية والتكتيك للثورة أو مواجهة النظام السوري الذي يرى بكفره باعتباره يمثل " الطائفة النصيرية " وباعتباره " نظاما بعثيا " وعلى هذا الأساس فإن السوري يعد تجربة مواجهة الإسلاميين مع النظام السوري بداية الثمانينيات من القرن الماضي تنطوي على مجموعة من " الدروس " التي يجب الاتعاظ بها في " المرحلة الجهادية القادمة "

وعلى إثر وفاة الرئيس السوري " حافظ الأسد عام 2000 نشر أبو مصعب السوري كتابا بعنوان " أهل السنة في الشام في مواجهة النصيرية الصليبية واليهود ركز فيه على مسالتين أساسيتين هما أن الطائفة النصرية وهي طائفة عائلة الأسد من الطوائف المنحرفة عن الإسلام وأنها مارست القمع والتنكيل بحق الشعب مما يوجب مقاومتها ومقاومة النظام الحاكم في سوريا وهو ما يدعو اليه الشباب المسلم في سوريا حيث إنه يشدد على أن النظام السوري مدعوم من الغرب لتحقيق السلام مع إسرائيل ولنشر المذاهب الباطنية ) هو وصف للمذاهب الدينية التي تظهر الإسلام وتبطن انحرافها عنه ) في العالم الإسلامي.

ويقول السوري معبرا عن تصوره الطائفي : " أليس من المحزن والمبكي والمفجع أن يكون في بلاد الشام المباركة نحو 25 مليونا من أهل السنة العزل من كل سلاح وسلطة يزاحمهم في هذه الديار المباركة طوائف مسلحة , مدعومة من القوي الدولية مزودة بكافة أشكال السلطة والسلاح ؟... فيهود إسرائيل أكبر الطوائف يملكون القوة والشوكة الأساسية .. ثم علوية سوريا العلوية النصيرية طائفة مسلحة تمسك زمام السلطة في سوريا ولبنان .. ثم الشيعة وفي الشيعة في لبنان وأقلية منهم في سوريا وهم طائفة مسلحة ممكنة تقف وراءهم دولة إقليمية كبري في المنطقة هي إيران بالمال والسلاح .. ثم الدروز في لبنان وأقلية منهم في جنوب سوريا وشمال غرب الأردن وهضبة الجوالان المحتلة . وهم طائفة مسلحة ولا سيما في لبنان وحليفة لإسرائيل في فلسطين وهو في هذا السياق باعتبار " كفر الطائفة النصيرية والحادها يدعو الى عدم التزاوج معهم ولا دفع الضرائب لهم الا مجبورين " ويدعو الى قتالهم وتتبعهم لقتلهم " معتبرا أن مواجهتهم من قبيل " دفع الصائل " ويري السوري بـ " عدم جواز حمل السلاح معهم.

في نهاية الكتاب ذاته يوجه السوري مجموعة من النداءات أو الرسائل المفتوحة بشكل يعبر عن تصوره لمواجهة النظام السوري : أول النداءات يوجهها الى " المسلمين أهلا السنة في سوريا ولبنان والشام عامة " ويدعوهم الى مواجهة " العلوية النصيرية " والثأر منها باعتبارها بنظر السوري – ارتكبت مجازر بحق السنة سواء في سوريا أو لبنان وأما النداء الثاني فيوجهه السوري الى " شباب أهل السنة في بلاد الشام ويدعوهم فيه الى الانخراط في " المشروع الجهادي " ويوجه أبو مصعب السوري ثالث النداءات الى " العلماء والمشايخ وطلاب العلم في سوريا ولبنان وبلاد الشام وديار الإسلام كافة ويدعوهم فيه لشرعنة الجهاد في المنطقة , ومن ثم يوجه السوري نداءه الى " الشباب المجاهد والجماعات الجهادية في العالم الإسلامي " ويقول فيه : " من الشام المباركة في مطلع الستينات كانت بداية انطلاق الجهاد في هذا الزمان المعاص ضد المرتدين ولعلمانيين وهجمة العلوية النصيرية وفيها ازدهرت في الثمانينيات واليها تعود اليوم إن شاء الله فالنصرة النصرة يا أخوة الجهاد وأما النداء الأخير فيوجهه الى " أبناء طائفة أهل السنة من العاملين في أجهزة الأمن والشرطة والجيش والمنتسبين لحزب الردة والعمالة حزب البعث من أعوان الحكومة النصيرية العلوية في سوريا ولبنان ويدعوهم الى الانخراط أيضا في مواجهة النظام وينهي السوري مهددا الرئيس السوري الحالي بشار الأسد بالحرب ضده.

أما على المستوي التكتيكي : فيري السوري بتوسيع المعركة مع النظام السوري ويريد انخراطا واسعا من قبل سنة سوريا فيه حيث يقول : " يجب إبراز الهوية الأساسية لهذه المواجهة مع العلوية النصيرية بتركيز محور المواجهة باتجاه المفتاح الصحيح لهذا الصراع لجهادي بين لحق والباطل وهو ( أهل السنة في مواجهة العلوية النصيرية ) .

وفيما يدعو السوري " الجهاديين " الى إتباع سياسة إعلامية والعمل على مبدأ " نش الدعوة " فإنه يدعو وعلى المستوي لعسكري الى اعتماد مبدأ السرايا المنفصلة الصغيرة للعمل على إذكاء حرارة المواجهة وتسعيره وصولا الى الصدام العلني المفتوح بين أهل السنة والعلوية النصيرية بحيث تتكون الخلية من شخص أو اثنين أو ثلاثة يتوافقون ويتعاهدون ويعملون سرا ولوحدهم فقط بالإعلام والتحريض وهو مهم في هذه المرحلة أو بالعمليات المحدودة ضد أهداف النصيرية .

ويقول في موضع آخر : " ننصح في هذه المرحلة على صعيد المواجهة العسكرية بالاقتصاد لا على السرايا الصغيرة , والعمل الفردي المتركز في قضية التصفية الجسدية للنصيرية العلوية في مدن وأحياء ومساكن أهل السنة وفي تنفذ عمليات الاغتيال لرؤوسهم المدنية والعسكرية والأمنية وشن حرب لا هوادة فيها عليهم داخل البلاد وتتبع رؤوسهم وعناصرهم في الخارج ولاسيما البعثات الدبلوماسية والتجارية والطلابية.

وبناء على ما سبق : يبدو أن السوري يري بتثوير المجتمع السني في سوريا وربطه بالمشروع الجهادي أو ما يسميه " دعوة المقاومة الإسلامية ومن الملاحظ أن " التجربة الجهادية في سوريا وفشلها لعبت دور المهم للسوري ليري فيها دروسا يجب الاتعاظ بها من قبل الجهاديين وقد نشر كتابا ضخما بحدود الألف صفحة حول هذا الموضوع ويعد الكتاب الأساسي لما يتعلق بتنظيره بشأن سوريا وهو الكتاب ذاته الذي نشر جزءا منه " مركز محاربة الإرهاب " في كلية وست بوينت العسكرية نيويورك تم استخراجها ضمن وثائق أخري عثرت عليها القوات الأميركية في أفغانستان والجزء ذاته منشور في موقع " الشيخ أبو محمد المقدسي أحد منظري السلفية الجهادية في الأردن , بعنوان " الدرس المستفادة في التجربة الجهادية في سوريا ".

وفيما تقوم فكرة كتاب السوري على محوريه تكفير " النصيرية وحزب البعث فهو يعرف مشروعه على أساس أن " طبيعة الأنظمة الجاثمة على صدورنا لا تقبل الحلول الجزئية بل تقتضي الجذرية وثبت استعدادها للقمع والنكال وجرأتها على الله وعبادة ... وكما أن أجهزة القمع والأمن التي غدت متخصصة رفيعة المستوي تقتضي منا إعادة النظر في هياكل وبنانا التنظيمية التي ما زالت رغم القرن العشرين تدار على طريقة عشائر البدو الرحل.

يورد السوري نحو 17 سببا لـ " فشل التجربة الجهادية السورية " في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات ويتحدث من وحي تجربة " الإخوان المسلمين " و " الطليعة المقاتلة " ويري أن أهم الأسباب تكمن في :

1- غياب الاستراتيجية والتخطيط الشامل المسبق : فهو يري بعدم وجود أى تصور استراتيجي مبني على حساب دقيق لمعطيات الواقع وتوقعات المستقبل ولم تؤخذ بعين الاعتبار دراسة جدية حالة البلاد وجغرافيتها السكانية وتركيبتها الدينية والقومية والسياسية وطبيعة النظام وتركيبته ونسبة قوتنا الذاتية الى قوته , وطبيعة القوي الصديقة والمعادية ومعطياتها وإمكانية الإفادة منها ".

2- تشرذم المخلصين المجاهدين في تنظيمات شتي وولاءات شتي : فهو يدعو الى تعزيز " الولاء الحق ولعل هذا أول واجب لإرساء خط جهادي متميز وهو ما يتسق مع مفهوم " الولاء والبراء " والذي يعد من المحاور المركزية للسلفيين – الجهاديين .

3- العجز عن إيضاح نظرية جهادية ثورية وجملة أهداف واضحة على الصعيد الأيديولوجي .

4- ضحالة الوعي السياسي والثوري وانخفاض مستوي العلم الشرعي إجمالا .

5- الاعتماد على الكم بعد أن ذهبت الضربة الأولي بالنوعيات ضعف الإعلام الداخلي والخارجي للمجاهدين.

6- ضعف الإعلام الداخلي والخارجي للمجاهدين .

7- انتظار المجاهدين الدعم من جهات خارجية باستمرار وعدم الاعتماد على النفس .

8- التورط في شكل من أشكال حرب العصابات طويلة الأمد لا يناسب البلد .

9- الانتقال للخارج فترة طويلة وخسارة الجماهير وإمدادها وتدني المستوي الديني والثوري لدي الأفراد.

10- عدم الإفادة من التجارب الإسلامية والعالمية لحروب العصابات .

11- التعامل مع الأنظمة " المجاورة وغيرها كسد دائم ويقول : لقد كان هذا شكلا من أشكال الاعتماد على الإمكانات الغير ذاتية .... ولقد قدمت أنظمة الجوار كلها الدليل تلو الدليل على أنها لا ترقي حتى للأن تكون حليفا مصلحيا مؤقتا فكلها أنظمة تخاف الإسلام وتسجن أصحابه من إخواننا وأشباهنا في قماقم السجن خشية انطلاقهم الماردة "

12- العمل العلني في الخارج.

13- قصور العمل العسكري الخارجي وفقدان القدرة على دع العدو وأصدقائه .

14- غياب أى تصور عن مرحلة ما بعد سقوط النظام لو حصل بفعلنا أو فعل غيرنا .

15- عدم الالتفاف حول العلماء المخلصين الثقاة والإفادة منهم .

16- عدم الإفادة من القطاعات الإسلامية كافة في البلد على صعيد التعبئة في الثورة ولا سيما عشائر البادية والأكراد ويقول إن التركيز كان في المدن وفي قطاعات محدودة الشرائح الاجتماعية ولم ينشر في كل الساحة انعكس هذا سلبا على الحركة الجهادية نفسها فأهملت قطاعات مهمة كان يمكن إدخالها في المعركة وبشكل حاسم وكلها قطاعات مسلمة ملتزمة الى حد ما ومتعاطف مع الإسلام الى حد كبير ولا سيما الأرياف المحيطة بالمدن والعشائر في البادية والأكراد في الشمال وهكذا فشل المجاهدون في تعبئة هذه القطاعات واستطاعت الدولة أن تجند أغلبهم عبر الإغراء والتهديد ودنيا المصالح.

17- عدن إمكانية تحويل التنظيمات الإسلامية الدعوية المدنية الى تنظيمات عسكرية قادرة على المقاومة والدفاع عن النفس .

يدعو السوري الجهاديين الى تجاوز النمط الهرمي في تشكيل المجموعات الجهادية " لأنها سرعان ما تنكشف تحت وطأة الضربات وكذلك التنظيم " الخيطي عبر تشكيل كل قيادي خلية صغيرة بل هو يدعو الى المزج بينهما من خلال الارتباط بقيادة مركزية وهو ما يدلل على محاولته ربط الجهاديين إذا بدء الظهور في أى مرحلة بـ " القاعدة كرسالة وكفكرة وحتى كتنظيم إذ ما قدر ذلك وقد برزت هذه الفكرة بشكل أكثر واقعية مع بدء حرب العراق وبروز تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين بزعامة أبي مصعب الزرقاوي .

الجيل الثالث وحب العراق

برزت تأثيرات أفكار السوري خاصة فيما يتعلق بالاستفادة من تجربة مواجهات الإسلاميين مع السلطات السورية مع الاحتلال الأميركي للعراق وبروز " القاعدة " كأحد اللاعبين الأساسيين في الساحة العراقية وقد عمد " مركز دراسة الإرهاب " في كلية وست بوينت العسكرية في نيويورك الى تطبيق نظرية السوري – إن جاز التعبير - على مجموعة القاعدة في العراق لقياس مدي استفادة الأخيرة منها وقد وجدت تطابقا عاليا بالاستفادة من الدروس التي أشار لها السوري في دراسته المذكورة أ‘لاه وأدرجت ذلك في جدول خاص ووجدت أن الزرقاوي تلافي أخطاء " التجربة الجهادية في سوريا في ما يتعلق بالتخطيط الاستراتيجي واستخدام الإعلام أو في إيجاد قيادة مركزية وعدم الاعتماد على الحكومات الأجنبية .. الخ ولم يستطع تلافي خطأ عد استقطاب محليين للتنظيم وفي عدم نعت التنظيم بالتطرف حسب الدراسة وهو ما يدلل على أهمية أفكار السوري في التأثير على نشاطات " القاعدة " في العراق وانعكس بالتالي في وجود الجيل التالي من التيار السلفي – الجهادي والذي اتخذ طابعا " شاميا " بحكم توجه زعيمه أبي مصعب السوري منذ أن افتتح معسكره التدريبي في هيرات – أفغانستان عام 2000 .

ينظر أبو مصعب السوري لما يسميه الجيل الثالث من السلفيين الجهاديين فيقول أعتقد أن جيلا جهاديا يولد اليوم مع وصول حدة الصراع الى ما وصلت اليه بعيد أحداث سبتمبر واحتلال العراق ووصول الانتفاضة الفلسطينية الى ذروتها ووقوفها على مفترق الطريق بعد أن أعطي أهلنا المؤمنون هناك كل ما في جعبتهم في حين تقف الأمة من تضحياتهم موقف المتفرج بفعل سكوت علمائها وقمع حكامها لها وشلها عن الحركة .

فالسوري يري أن الجيل الأول من المؤسسين للحركة " الجهادية يمثل أولئك الذين نشطوا في حقبة السبعينيات وبداية الثمانينيات ومن ثم جيل الأفغان العرب والقاعدة والذي يري أنه على إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 أدخلوا في معركة عالمية وانتهوا إما اعتقالا أو قتلا أو تشريدا , ولذا فإنه وكما يقول يحاول أن يضع خبرته باعتباره من الجيل الثاني لهذا الجيل الثالث وفي ذلك ما يؤشر على بروز كمنظر لهذا الجيل الثاني – أن أسلم من يسير على خطانا جزءا من الأمانة في هذا الكتاب وفي ما أعتزم كتابته مما يتلوه من هذه السلسلة خلاصة منهجية فكرية وحركية تاريخية .. تساعد من يستعد لحمل الأمانة على متابعة الطريق على بصيرة ومن دون أن يخس دروسا عظيمة من مسار مجيد مخضب بدماء عشرات الاف الشهداء ... ومعاناة جيل كابد في صراعه مع الطواغيت ومن ورائهم أشد المعاناة في هذا العصر الحديث .

هذا الجيل على الغالب يمثله أولئك الذين نفذوا معظم الاعتداءات إثر الحادي عشر من سبتمبر سواء في بالي أو استنبول , أو مدريد أو لندن والأهم أولئك الناشطون في العراق من المقاتلين العرب والذين يعبرون عن هذا الجيل الثالث بشكل جلي فمعظمهم ممن لا خبرة قتالية لديه سواء في أفغانستان وغيرها ومن حملة الشهادات أو ممن دفعوا من جراء الاحتلال الأميركي للعراق للمشاركة في المقاومة وهؤلاء مرشحون من جراء الأدلجة السلفية – الجهادية والخبرات القتالية التي يكتسبونها هناك ليشكلوا ظاهرة العراقيين العرب " على غرار ظاهرة " الأفغان العرب " ويبدو أن دولا الجوار مرشحة أكثر من غيرها للتأثر بنشاطهم شأنها في ذلك شأن العديد من الأنظمة العربية فإن المنتديات السلفية الجهادية والنقاشات الدائمة فيها تقدم نموذجا عن ذلك.

وقد شهدت " شبكة أنا المسلم " وتعد واحدة من أشهر المنتديات السلفية - الجهادية الالكترونية نقاشا حول السلفيين الجهاديين في سوريا حين بتاريخ 21 / 1/ 2009 أحد المشاركين باسم " أبو حسين " موضوعا بعنوان " الدعوة السلفية في سوريا .. إيجابيات سلبيات وأخطاء "

وقد أشار فيه الى أن السلفية – الجهادية شهدت انتشارا واسعا مع الغزو الأميركي للعراق وارتبطت وفق " أبو الحسين " بتقديم " خيرة شبابها وقودا للجهاد في العراق " ويشير كاتب الموضوع في إطار حديثه عن السلبيات أنها " انتشرت في البداية بسرعة قياسية مما أوهم البعض أن الوقت قد حان لتصفية الحساب مع النظام النصيري الكافر " وأنها علقت " آمالا كبيرة على تمكن القاعدة من السيطرة على العراق لتكون فيما بعد منطلقا للقضاء على النظام النصيري في سوريا فأهملوا بذلك ترتيب البيت الداخلي فالأنظار كلها كانت تتجه للعراق وأنه " لم يحرص كثير من الإخوة على الجانب الأمني مما أفرز لكثير من الاعتقالات وعدم التنبه لمكر المخابرات وفروع الأمن التي كانت تراقب الوضع عن كثب وزرعت جواسيسها في سوط الإخوة سواء في العر اق أم في سوريا أم في لبنان وبشكل أكثر لفتا للانتباه يشير كاتب الموضوع الى أن " الكثير من الإخوة " لم يتنبه " لخطورة الوضع الأمني في سوريا وارتكبت أخطاء أقل ما يقال عنها أنها قاتلة . وخصوصا في مناطق ذات كثافة سكانية عالية وأغلبية سنية ساحقة كدمشق وحلب , وبل المصيبة أن الأخطاء التي ارتكبت في مدن أخري ذات غالبية نصيرية كاللاذقية لم تكن أقل بكثي من الأخطاء التي ارتكبت في غيرها من المدن والمحافظات ذات الأغلبية السنية الساحقة مع كون أهل السنة في اللاذقية على اطلاع أكبر بحكم الجيرة على مكر النصيريين وإجرامهم ولكن هذا لم يغن عن ارتكاب المزيد والمزيد من الأخطاء بفعل العقلية الصبيانية لكثير من أهل السنة في سوريا , مما أفضي لمزيد من الاختراقات والاعتقالات وكذلك اجتماع الإخوة في أماكن عامة والإصرار على الاجتماع في المساجد بصورة استفزازية مما أدي الى اعتقال الإخوة بالمئات مع أن التوصيات كانت خصوصا بالمساجد وحينما بدأ الإخوة بالأخذ بهذه التوصيات وقع ما لم يكن بالحسبان عندما قررت الدولة النصيرية أن فترة الهدنة ع السلفيين وخصوصا الجهاديين منهم قد " انتهت " وينهي تقريره بالتالي بمجموعة من النصائح لكيفية التعامل في الأماكن العامة دون إبراز المظاهر التي تدلل على ارتباطاتهم السلفية الجهادية .

أثار الموضوع نقاشا كبيرا على منتدي " شبكة أنا مسلم " ومن ضمن النقاش من يقدم النصائح لسلفيي سوريا ومن ضمنها قراءة كتب أبي مصعب السوري بشكل يدلل على أهمية طروحاتها في أى تشكيل سلفي جهادي في سوريا .

ومن ناحية أخري أشار الموضوع المذكور الى عاملين أساسيين أولهما دور حرب العراق في إفراز التيار السلفي – الجهادي في سوريا وهو ما أسميناه بالبعد الشامل للقاعدة في العراق والعامل الثاني يرتبط بتسهيل الدولة السورية الحركة المقاتلين العرب نحو العراق مما افرز دورا وظيفيا لسوريا ساهم في تصاعد السلفية – الجهادية فيها .

البعد الشامي

برزت منذ الاحتلال الأميركي للعراق أسماء عناصر قيادية سوية في الجماعات السلفية الجهادية بشكل متزايد أكثر من ذي قبل حيث لم يكن الوجود السوري في مثل تلك الجماعات كالوجود المصري في حقبة التسعينيات وما قبلها مثلا , أو كالوجود السعودي ما بعد تلك الحقبة ولعل أشهرهم المخطط الرئيسي لهجمات مدريد عام 2004 التي استهدفت محطة قطار رئيسية وأودت بحياة 190 شخصا والتي نفذها السوري عماد الدين بركات جركس الملقب بـ " أبو الدحداح " ومعه أيضا أعضاء أخوان سوريون أو قائد عمليات تنظيم القاعدة " في منطقة القبائل الباكستانية " مروان حديد الملقب بـ " موان السوري " والذي قتل على حاجز أمني باكستاني عام 2006 وأشارت التقارير الى أنه كان مقربا من زعيم القاعدة أسامة بن لادن ونائبه أيمن الظواهري . والأكثر ارتباطا بالجيل الجديد من السلفيين الجهاديين ويأبي مصعب الزرقاوي هو " أبو الغادية " والذي برز أسمه كمرشح لخلافة الزرقاوي وهو طبيب أسنان سوري الأصل وقد امتد نشاطه في تجنيد الشبابا السوريين للانتقال الى العراق وفي تزوير المستندات والوثائق وكان الزرقاوي يعتمد عليه بدرجة كبيرة ويعبر أبو الغادية عن النمط الشامي في السلفية – الجهادية حيث تشير التقارير أنه تدرب في مخيم عين الحلاوة في لبنان وقد حوكم في الأردن غيابيا عام 2005 في ما يعرف بقضية التفجير الكيميائي والذي كان سيستهدف مبني المخابرات الأردنية وكان يقود العملية أحد مساعدي الزرقاوي وهو " عزمي الجيوسي ".

هذا البروز لدور السوريين بدأ يتزايد أيضا على مستوي عمليات التجنيد واستقبال المتطوعين للعراق بعد الاحتلال الأميركي وهو دور استمر حتى بعد مقتل زعيم التنظيم " القاعدة في العراق الا أن الأخير كان أول من أسس للنواة الشامية التي أسست لاحقا لتواجد التيار السلفي - الجهادي بالعراق فهذه المجموعة " الشامية " هي التي رافقت الزرقاوي في معسكره بهيرات في أفغانستان وانتقلت معه الى كردستان شمال العراق ومن ثم الى العراق وبالتالي أيضا بدأ الشباب المتطوعون العرب الذين بدوءا بالانتقال الى العراق مع تصاعد عمليات المسلحين ضد القوات الأميركية في العراق يأتون من المناطق ذاتها .

وفيما بات هؤلاء مع تراجع نشاط التيار السلفي – الجهادي في العراق مرشحين ليشكلوا ظاهرة " العائدون مع العراق في دول الجوار فإن السوريين شكلوا نسبا عالية من " الجيل الثالث " للسفليين – الجهاديين ففي تحليل لخلفيات المتطوعين العرب في العراق استند الى قوائم نشرت بأسمائهم على المنتديات الجهادية جاء السوريون في المرتبة الثانية بنسبة 13 % بعد السعوديين بنسبة 53% ومن ثم الأردنيين بنسبة تقارب الـ 6 % هذا وقد وجدت دراسة أخري استندت على سجلات للقاعدة وجدت في سنجار شمالي العراق أن السوريين يشكلون نسبة 8,2% من المقاتلين العب في العراق وقد حل السوريين مع كل من اليمنيين والجزائريين بالمرتبة الثالثة بعد السعوديين 41% والليبيين بنسبة 18,8%.

ويبدو أن نشاط السلفيين – الجهاديين لم يقتص على العراق وسوريا بل إن دراس لكاتب السطور أظهرت أن السلفيين – الجهاديين الذين نشطوا في لبنان منذ ما قبل مواجهات نهر البارد عام 2007 بين السلطات اللبنانية ومسلحين إسلاميين كان السوريون يشكلون نسبة عالية منهم قاربت الـ13% بعد اللبنانين بنسبة 33% ومن ثم الفلسطينيين من المخيمات بنسبة 31% ومن ثم السعوديين بنسبة 16% .

دور سوريا كممر للعراق

يبدو أن الفرضية التي قامت على أسس أن الولايات المتحدة ستقوم بتغيير الأنظمة العربية المجاورة بعد الانتهاء من نظام صدام حسين وتحديدا في سوريا عدت تحديا حقيقيا في البداية ويبدو أن هذا الأمر دفع سوريا الى تسهيل أو على الأقل غض الطرف عن حركة المتطوعين العرب الى العراق .

وما قامت به دمشق أبرز دورا وظيفيا لسوريا ساهم في بروز السلفيين – الجهاديين واحتلت ملا منطقة البوكمال على الحدود مع العراق مكانة أساسية لتسهيل انتقال المقاتلين العرب الى العراق وهو ما بررت به الولايات المتحدة الأميركية إنزالا أجرته قواتها بالمنطقة في سبتمبر 2008 في ما عدته سوريا استهدافا للمدنيين .

وعلى مستوي آخر فقد أبز هذا الدور الوظيفي مجموعة من المسهلين لحركة الانتقال تلك وارتبطت أسماؤهم بعدد من القضايا في دول عربية ففي السعودية كشفت صحيفة " الوطن تفاصيل خط سير المقاتلين السعوديين الراغبين في دخول العراق مشيرة الى أن منسقا سوريا يدعي " أبو معاذ " يتكفل بالمقاتل السعودي منذ دخوله الحدود السورية وحتى مغادرتها باتجاه العراق بالتعاون مع آخرين من الجنسية العراقية والسورية والسعودية مقابل مبالغ مالية وفي الأردن وفيما أظهر عدد من المحاكمات للسلفيين – الجهاديين هناك ارتباط بسوريا بغية الانتقال الى العراق حيث كان هناك أيضا مسهلون أجانب كأبي عمار السعودي أو أبي آدم التونسي .

خاتمة

بناء على ما سبق يلاحظ أن تنظير أبي مصعب السوري لبروز جيل ثالث من الجهاديين بات – في ما يبدو – واقعا عند الحديث عن سوريا ودول جوار العراق وإذا ما بدأ هؤلاء بالاستناد الى الاستراتيجية التي رسمها للحركات الجهادية وهو ما يمكن اعتباره أمرا قابلا للتحقق بحكم الأهمية التي يوليها السلفيون الجهاديون لأفكار السوري فإن المنطقة ستشهد عنفا متزايدا بين تلك المجموعات والسلطات .

كما أن تنظيرات أبي مصعب السوري التي تكتسب أهمية كبيرة في نشاط السلفيين – الجهاديين في مناطق متفرقة من العالم لعبت دورا أساسيا في التنظير لتطور القاعدة في بلاد الشام وقد لعب الاحتلال الأميركي للعراق دورا مهما في هذا السياق .

وتكتسب تنظيرات السوري , أهميتها من كونها تقوم على مستوي التنظير الفكري وعلى مستوي الإستراتجية والتكتيك ولا تنحصر في إطار جغرافي واحد ولكن في ما يتعلق ببلده سوريا فهو يقدم ما يصفه بالدروس العملية في مواجهة نظام الحكم في سوريا .

لقد وجدت حرب العراق والتي لعبت دورا أساسيا في بروز الجيل الثالث من السلفيين – الجهاديين ممرا أساسيا في سوريا للانتقال الى العراق وهو بالتالي أوجد موطئ قدم لتلك الجماعات والتي شهدت مواجهات مع السلطات السورية التي بدورها اتهمت التكفيريين بتنفيذ تفجيرات دمشق في سبتمبر / أيلول 2008

هذه المؤشرات تشي بإمكانية تطور هذه المجموعات السلفية الجهادية في سوريا وبلاد الشام عموما خاصة وأن المنطقة تكتسب أهمية قصوى لدي منظري السلفي الجهادية فأبو مصعب السوري ذاته يعد " الشام من أهم المناطق لتواجد ما يسميها بـ " الحركة الجهادية " حيث يري أن " تتوفر له بمجموعة كامل معطيات الجبهات المفتوحة ولا سيما في المناطق الجبلية في شمال وغرب العراق وشمال وغرب سوريا وفي معظم لبنان وكذلك في هضاب شرق نهر الأردن وشماله .. وعدد سكان المنطقة كليا يزيد أيضا على 60 مليون نسمة ويشكل الاحتلال الأميركي الماثل الآن والذي أعلن عن عزمه على الاستقرار ولأمد بعيد . كما يمهد لمد عدوانه الى سوريا ليسيطر على كامل الشام بعد أن احتل اليهود سوريا وسيطر النصارى على لبنان واستحوذت أميركا على كبير الأمور وصغيرها في الأردن وفي المنطقة وفرة كبيرة من السلاح والعتاد كما ن هناك تنوعات في الحدود والسواحل والممرات وتشكل إسرائيل باعث قضية إسلامية عالمية كما يضيف الاحتلال الأميركي بعدا ثوريا ممتازا كمفتاح للجهاد .

وبهذا المعني فإن تداعيات وجود القاعدة في العراق أفرزت هذا النمط من السلفية – الجهادية التي تحدث عنها السوري على الأقل على مستوي الفكرة ووجود الأعضاء ومن المهم الإشارة الى أن الأنظمة العربية ومن خلال منهجها في التعامل مع مثل تلك الجماعات تلعب دورا إما في بروز مثل تلك الجماعات أو تراجعها والتي تعبر في جزء من تشكلها عن أزمة مجتمعية ما زالت قائمة في عدد ليس قليل من الأنظمة العربية

الإخوان المسلمون التيار المعتدل : محمد المبارك أنموذجا

عمار قحف

تناقش هذه الورقة أبرز معالم التنظير الفقهي السياسي عند الشيخ محمد المبارك من خلال ثلاثة محاور ركز عليها المبارك في كتاباته وهي : مفهوم الأمة والقومية تركيبة المجتمع السوري الدينية والعرقية واللغوية ونظام الحكم والدولة في الإسلام .

أحدث محمد المبارك ( 1912 -1981 ) نقلة علمية وسياسية في بداية القرن العشرين لم تؤت دورها الفعال الا بعد حين فكان لها دور مهم فيما بعد في تكوين فكر وأدبيات الحركات الإسلامية بمختلف أطيافها فما ينادي به كثير من الإسلاميين اليوم وأصبح من أبجديات كثير من الحركات الإسلامية بأن الدولة الإسلامية هي في الواقع دولة مدنية قائمة على نظام سياسي موضوعي مبني على العدل والمساواة والشورى وعلى الالتزام بالخطوط العريضة للدستور الإسلامي كان المبارك منن أوائل من بحثه وأصل له في محاضراته ومؤلفاته في أوائل ومنتصف القرن العشرين في وقت الانهزام الفكري الإسلامي .

ومن المهم عند تحليل فكر المبارك السياسي أن تدس البيئة الثقافية والسياسية التي نشأ فيها ثم الاتجاه الذي خطه لنفسه والنتيجة التي وصل اليها في أواخر حياته يقول المبارك " لقد شهدنا عهدا يدبر وعهدا يقبل وحركة مستمرة أمامنا ووراءنا وكانت تطرق مسامعنا مذ وعينا , الفاظ " النهضة " والتقدم قبل أن ندرك حقيقة معانيها نشأنا على مشاهد الصراع بين الفصحي والعامية بين العربية والشعوبية الفرعونية والإقليمية بين الدين واللادين وبين الاستقلال والاستعمار .

فمن الناحية السياسية نشأ المبارك في وقت انحسار الخلافة الإسلامية وبداية التقلبات السياسية في سوريا عهد الانتداب ثم الاستقلال ثم الوحدة مع مصر ثم عهد الانقلابات حتى انقلاب " البعث " ومن الناحية الثقافية عاش المبارك عهد الإفلاس الثقافي العربي , وكثرة الاقتباس من الفكر الغربي دون تمحيص من قبل مفكرين عرب وفي هذا المجال تميز المبارك عن جميع أقارنه من الإسلاميين بمعرفته المباشرة بمكنونات الفكر الغربي عند كبار المستشرقين في فرنسا فجمع في دراسته بين التعليم الإسلامي الموروث في حلقات العلم الشرعي – خصوصا مع العلامة الشيخ بدر الدين الحسني والتعليم الرسمي في سوريا كلية الحقوق والآداب ثم دراسته لعلم الاجتماع والأدب الفرنسي في جامعة السوريون .

وعندما يتحدث المبارك عن المستشرقين أو عن الحوار المسيحي الإسلامي فإنه لا يتحدث من منطلق عاطفي في الدفاع عن الإسلام بل يرسم منهجا تأصيليا في إبراز معالم الثقافة والأصالة الإسلامية بأسلوب ولغة حديثة ومفهومة لدي الطرفين الإسلامي والغربي وكذلك فإنه كان يتفهم الدوافع الثقافية عند المستشرقين من خلال معاشرته في الدراسة لكبار المستشرقين في فرنسا مباشرة وليس من خلال قراءته لكتاباتهم فحسب وهذا مما يميز المبارك عن جميع الإسلاميين في تلك المرحلة الزمني لقد أثرت البيئة الفكرية التي عاشها في نوعية كتاباته فامتازت بالعمق التأصيلي والتنظيري والبعد عن ذكر التفاصيل وهذا يتضح في سلسلة نظام الإسلام ومفهوم الأمة

مفهوم الأمة والقومية

عارض المبارك الاقتباس الأعمى من الثقافة الغربية دونما تمحيص في ما يتفق ويعارض مبادئ الإسلام بل إنه كان ينادي – في عصر الانهزام الثقافي بالاعتماد على التراث الإسلامي الغني لأن فيه غني عن الاقتباس الفكري مع الاستفادة من الأفكار الإنسانية غير المرتبطة بفلسفة أو نظام عقائدي .

ويصف المبارك مرحلة القرن الثامن عشر والتاسع عشر بأنها مرحلة الاندهاش . ثم يروي ازدياد الاحتكاك بين الشرق والغرب في صورته المادية الصناعية والفكرية التعليمية الا أن الجيل الأول - كما يمثل له المبارك بكرد علي . شهبندر , زغلول – كان متأثرا تأثيرا قويا بالإسلام فلم يهتزوا في وجه الغزو الفكري بل سرعان ما أنجب الشرق علماء دين خلعوا ربقة الجمود كالقاسمي وعبده والجزائري.

وبعد إضعاف مراكز التعليم الإسلامي وعزلها عن الجمهور على أساس أوروبي ثقافي جاءت طبقة ثانية كان لها الأثر البالغ في مجري حياة الشرق السياسية والثقافية ثم حلل المبارك في شكل رؤوس أقلام المدنية الفرنسية – كما شهدا – التي أتي بها جيل من المتعلمين المنسلخين عن الدين الإسلامي مما أدي فيما بعد الى استيراد الفكر القومي الأوروبي من الفكر الالماني والفرنسي والماركسي وعلى أساس هذا الفكر نشأت معظم الأحزاب السياسية والاتجاه القومي في العالم العربي والسوري على وجه الخصوص .

كان موقف المبارك من القومية أعمق من كثير من معاصريه حيث استطاع الاستفادة من دراسته للأدب الفرنسي وعلم الاجتماع فميز ما كان اقتباسا منها وما كان استفادة منها مما ينقله معاصرو المبارك فأكد معني حب الوطن ولكنه تحفظ على أن تكون القومية أساسا لما يجمع الناس ففي موضوع القومية العربية والسورية استعرض مراحل التجمع البشري فذكر أنها تسير من التجمعات الصغيرة في شكل قبائل الى تجمعات أكبر تلتقي فيها القبائل المتجاورة وتزداد الموافقات والمشاركات ونقل الفوارق حتى يتكون فيها شعب أو قوم وهاتان المرحلتان مر أو يمر بها البشر بسرعات مختلفة وتكون الرابطة بين النصر في المرحلة الأولي هي الاشتراك في الأرض والانتماء الى أصل واحد وتتحول في المرحلة الثانية – المرحلة القومية – الى الاشتراك في العوامل المعنوية أى اللغة والدين والعادات والثقافة ثم تكون المرحلة الثالثة وهي أرقي مستويات تطور المجتمع الإنساني وهي التقارب في الأفكار الأساسية والتشريع والنظم العقائدية وأسلوب الحياة ويضعف دور الدم والعرق والأرض والتنافس البشري وارتقاء نحو التجمع على أساس القيم الإنسانية والتعاون بين الشعوب وقد استدل المبارك بقول المفكر الفرنسي رينان الذي عاش في القرن التاسع عشر " القوميات ليست شيئا خالد لقد بدأت وستنتهي ويستنتج بأن الوقوفي عند مرحلة التجمع القسري القومي هو " جمود ورجعية مذمومة وتخلف وتأخر وأن جعل القومية هي الهدف والغاية ضرب من الوثنية "

يحلل المبارك الاتجاه القومي العبي في أكثر من كتاب ومحاضرة ولقاء حيث وعي المبارك الخيوط التي تربط الاتجاه القومي العبي بالفكر الفرنسي الذي درس عن قرب نقاط ضعفه وقوته فيشير الى أن القومية العربية نشأت من أجل التصدي للمشروع التركي القومي وذلك بإبراز أصالة العرب, والاعتزاز باللغة والتاريخ والماضي والدين دون أخذ شكل أو فلسفة محددة ثم جاءت طبقة من المتعلمين – وأكثرهم من نصاري الشام فأسست لفلسفة قومية عربية تقوم على نبذ الدين بصراحة أحيانا أو بالحاقه بالماضي دونما دور في الحاضر .

وهكذا أصبح العرب يفتشون عن قوة داخلية منبثقة في الداخل مستخدمين فلسفة مستوردة سواء الالمانية التي تستند على العرق أو الفرنسية التي تستند الى الإرادة الجمعية الحرة ويذكر المبارك أن القومية العربية أفادت بأن استغلت القوي المادية والمعنوية لمصلحة الأمة العربية ولكن هذا كان على حساب تكريس معني ضيق القومية لا يمكن وصفه بالإنساني العالمي , ويعرف المبارك القوم بأنهم جماعة بشرية نشأت من اندماج قبائل ترجع الى أصل واحد أو أصول متقاربة وتسكن أرضا واحدة ولها لغة واحدة والقومية هي " هذا التجمع القومي بجميع عناصره المادية والمعنوية أما مصطلح الأمة فهو يمثل انتقالا نوعيا نحو الارتقاء البشري فهو يستلزم وجود رغبة عامة في الحياة المشتركة فتكون وحدة حيوية يمكن أن نسميها أمة " وهذه الرغبة في الحياة المشتركة تكون لها أسباب عوامل تاريخية واجتماعية ابتداء من وحدة الأرض والمكان الجغرافي ووحدة الدم والجنس والأصل الى وحدة اللغة ووحدة التاريخ وهذه العوامل هي التي ركز عليها ووقف عندها مؤسسو الفكر القومي العربي السوري .

ولكن المبارك نقد الوقوفي عند هذه العوامل في تكوين الأمة فأشار الى أن اللغة ليست الفاظا بل ثقافة وأفكار ومبادئ فهي وسيلة وليست غاية بحد ذاتها وهنا ينبغي حتى تكون الثقافة عنصرا من عناصر الأمة – أن تحوي مفاهيم وفلسفة في الحياة ونظرة الى الوجود وفيما إنسانية وعلى هاذ تكون هذه المبادئ والقيم مرتكزات أساسية في صناعة الأمة ويحذر المبارك من أن تكون دراسة التاريخ عنصر مهم من عناصر تكوين الأمة الا أنه ينبغي التركيز على الجزء الحي في النفوس من ذلك التاريخ لا على الجزء المنسي كما هي دعوة القومية العربية ( في الاعتزاز بالعصر الجاهلي ) والمصرية ( في الاعتزاز بالعصر الفرعوني ) في عنصر التاريخ كما في عنصر اللغة – يشير المبارك الى أن المهم ليس أحداث التاريخ السردية بل نظرة الناس الى تلك الأحداث وما أثرته في نفوسهم " فالعنصر الحقيقي الذي يختفي وراء عنصر التاريخ هو نظرة أبناء الأمة الى الحياة والقيم التي تؤمن بها والعقائد التي تميز الخير من الشر والفضيلة من الرذيلة والمبادئ التي تقيس بها الرجال والأعمال ثم ينتقل المبارك الى عنصر الدين والمعتقدات والمفاهيم الأساسية حول الحياة المشتركة – الذي يهمله رواد الاتجاه القومي إن لم يعاده البعض - ويشير الى أن هذا العنصر هو الذي يكمن وراء عناصر اللغة والثقافة والتاريخ ويجعلها تؤثر في تكوين الجماعات الإنسانية وبالتالي فإن بحث علاقة الدين بالقومية هو بحث الأساس مع الفرع والأعم مع الأخص , فالدين هو الحد الأدنى والقاسم المشترك الذي يتمثل في مجموعة النظم والمعتقدات حول الطبقة المثلي للحياة المشتركة وهنا يشير المبارك الى الملاحظات التالية :

1- إن هذه الأديان ظهرت في الأصل في شعب من الشعوب ثم انتقلت منه الى غيره فكانت صلته أوثق ما تكون مع الشعب الذي انطلقت في أجوائه وهذه هي حال العرب مع الإسلام ولكن هذه العلاقة ليست دائمة وليست مطردة .

2- إن الدين الذي ينتشر في شعوب كثيرة يصبح بعد طول العهد بالنسبة الى كل قومية جزءا أساسيا من عناصرها المؤثرة في طرق تفكيرها وعاداتها كما هي الحال مع الأفغان والأتراك .

3- الدين الذي يقيم وينتشر ويعم قوميات متعددة يؤسس بينها رابطة روحية تقوي وتضعف حسب سعة ذلك الدين واستيعابه لنواحي روحية تقوي وتضعف حسب سعة ذلك الدين واستيعابه لنواحي الحياة وكذلك يوجد فيما بينها أسسا عقلية ومفاهيم فكرية مشتركة فيقرب بينها في التفكير والعادات الناشئة عن أحكام ذلك الدين ويوجد بالتالي أهدافا مشتركة في الحياة وشعورا بالتالف بين أفراد المجتمع فتتقارب المقاييس في الخير والشر والحب والبغض .

4- إن تبني شعوب مختلفة في الأصل القومي دينا واحدا ليس معناه زوال جنسيتها وقوميتها ولا يعني اندماجها فقدان لغاتها وعاداتها الأصلية وخصائصها وقوميتها ولا يعني اندماجها فقدان لغاتها وعاداتها الأصلية وخصائصها فانتشار الإسلام – مثلا – لا يعني زوال صفة التركية والهندية وغيرها من القوميات ولكن معناها تعاون هذه الشعوب السياسي والقانوني والاقتصادي والحضاري .

5- كل عقيدة عامة تأخذ لونا خاصا وتتفاعل مع كل قومية بشكل مختلف .

ويلفت المبارك النظر الى أنه مع ضعف دور الدين في بعض البلاد فقد حلت محله جزئيا أو كليا عقائد أخري أصبحت هي العنصر المشترك كما في الشعوب الأوروبية ( فرنسا والمانيا وانجلترا ) فالعقيدة بهذا المعني كما يري المبارك " جامعا أساسيا ورابطا موحدا بين أبناء الأمة الواحدة فالشيوعية تشكل مذهبا في الحياة كما تشكل المسيحية الأرثوذكسية مذهبا والديمقراطية الغربية شكل من أشكال المذاهب أو النظم او المبادئ التي تحكم الحياة ويكون مدي تأثير هذا المذهب أو النظام العام مبنيا حسب كونها عامة شاملة لجميع نواحي الحياة ومن هنا فإن علاقة الإسلام بالعرب تتلخص في ما يلي :

1- صلة الإسلام بالعرب تاريخية لا تنفصم .

2- الإسلام بالنسبة للعرب منبع حضارتهم ومصدر ثقافتهم .

3- بني كيان المجتمع العربي على أساس الإسلام في سائر الميادين الداخلية والخارجية .

4- لا يشابه الإسلام في موقعه من حياة العرب أى دين أو عقيدة أخري .

5- يدين 95% من العرب بالإسلام فلا يجوز تجريد هذه الجماهير من انتمائها الى الإسلام المتصل بحياتها وهذا المعني الحضاري المتصل بالإسلام يتفق عليه المفكرون المسلمون والمسيحيون مثل نبيه فارس وجميل صليبا ومنيف الرزاز.

هنا ينتقل المبارك الى مفهوم الأمة في الإسلام منطلقا من آية ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ( الحجرات 13 ) فقد " بدأت الآية مخاطبة الناس جميعا وانتهت الى التعارف الإنساني ومت في ما بينهما بمرحلتي القبائل والشعوب فالإسلام في هذه الآية يدعو الى الانتقال بالبشرية الى معني أوسع من القوميات والشعوبية المعهودة نحو التجمع على أساس وحدة المصالح والقيم التي تحكم البشر في تعاملاتهم .

فالإسلام دعوة الى الناس كافة ولم يكن – كما كانت جميع دعوات الأنبياء من قبل – الى قوم دون قوم فأتي الإسلام بهذا المعني ليحدث نقلة نوعية في طرق التفكير حول الشكل الأمثل للتجمع الإنساني وهذا الشكل هو الذي يهدف الى الأمر بالخير والمعروف والنهي عن الشر والمنكر مما يضر بالفرد والمجتمع والأمة كما يراها المبارك : " مجتمع يشترك أفراده في العقيدة ومفاهيم الحياة وفي القيم الخلقية والمثل الإنسانية وما يتبع ذلك أو ينبثق عنه من نظم وعادات أو شعائر وعبادات والقوم : " هم الجماعة التي يجمع بينها أصل مشترك ونسب مشترك’ وقد يشتكون في دين واحد وعقيدة واحدة فهم حينئذ أمة وقوم وقد يختلفون في ذلك ويشير المبارك الى أن مفهوم الأمة لا يقابل مصطلح Nation ) ) لأن هذا المصطلح يدل على مفهوم الأمة القومية النسب أما الأمة في الإسلام فهي أوسع وأشمل بناء على هذا المفهوم يري المبارك في الاتجاه القومي الذي ولد في ذلك العصر على يد أنطون سعادة وبطرس البستاني وغيرهما عجزا وتخلفا عن فهم مصطلح الأمة وجمودا في مرحلة تاريخية تجاوزها التصوري البشري فالصراع بين الإسلام والمذهب القومي صراع بين التقدم والتمدن والتحرر وبين التخلف والانحطاط والتبعية وهو صراع مندفع بعامل الانتماء الطائفي والعداء لكل ما له علاقة بالإسلام وهو عودة لما تجاوزته المجتمعات الأوروبية ومرت خلاله في القرنين الماضيين حيث تبني كثير منها نظما ومذاهب سياسية كالديمقراطية والإشتراكية والماركسية دون الاعتماد على القومية .

ويعزو المبارك سبب تبني بعض الجهات في العالم الإسلامي مبدأ القومية كعقيدة سياسية الى التأثير بالفكر العلماني الوافد, الذي نشأ في ظروفي خاصة بتلك البلاد وفي فترة زمنية معينة كذلك الى التأثر بالانتماء الطائفي والدوافع الخارجية التبشيرية لكن المبارك يفرق كذلك بين القومية كنظرية اجتماعية واقعية وبين كونها مذهبا سياسيا وبين اعتبارها عقيدة ومذهبا فلسفيا عند بعض إتباعها وهذا الصنف الأخير هو الذي يعارضه ويراه انحطاما فكريا وهنا دعا المبارك الإسلاميين الى استخدام المصطلحات القرآنية مثل " العالمية " و " القيم والرسالة الإنسانية " عند التواصل مع الاتجاه القومي حتى تكون منهم فهم الدين الإسلامي مثلما فهم الأوروبيون الدين المسيحي فجمدوا عند مرحلة القومية الضيقة .

ويشير أيضا في ختام بحثه الى قصور الحركة الإسلامية في النهوض بدور إيجابي في شرح هذه الفكرة التقدمية في الإسلام ووقوفهم تحت ستار الطرق الصوفية والتقاليد المبتدعة .

تركيب المجتمع السوري والمنهج المقترح

ينتقل البحث هنا الى نقطة ثانية تبرز نظرة المبارك السياسية وهي موقفه من تركيب المجتمع السوري الطائفي والعرقي والموقف السليم لإدارته والنهوض به الى مستوي حضاري راق فقد استفاد المبارك من دراسته لعلم الاجتماع في فرنسا فكتب بحثه القيم عام 1958 بعنوان " تركيب المجتمع السوري " ولم ينشر حتى العام 2003 فعرض إحصاءات الأقليات القومية والأديان والفرق والطوائف ثم التيارات الفكرية والحزبية في سوريا ثم وضع المقترحات والخطط والتي تناسب الواقع السوري من أجل النهوض به الى المعني الواسع المفهوم الأمة الذي يدعو اليه .

فبالنسبة الى القوميات السورية ( العرب والأكراد والجركس والداغستان والشيشان والتركمان والأرمن والسريان ) يري المبارك ضرورة إتباع خطة مدروسة من أجل إزالة أو تخفيف المشكلات الناشئة عن عدم انصهارها من خلال :

1- العمل على تعريبها بنشر التعليم العربي وتسهيل سبله في مناطقهم.

2- العمل على إزالة العصبيات والشعور بالكيان الخاص لدي هذه الفئات من خلال منع المؤسسات والمعاهد الداخلية التي تغذي الخصوصيات القومية.

3- التعامل مع المسلمين من هذه الفئات عبر نشر العناصر لحيوية المشتركة ونشر الثقافة الإسلامية التي تربطهم بمجموع المسلمين ثم التعامل مع غير المسلمين منهم من خلال الوطنية المشتركة وتقوية معاني الاعتزاز بالوطن المشترك الذي تسكن فيه .

4- عمل الحكومة بشكل تدريجي على إزالة تكتلات هذه الأقليات في مناطق معينة .

5- ملاحظة هذه النقاط فيمن يعنيون في حقل التعليم وخصوصا من يعين في مناطق التكتلات العرقية.

أما بالنسبة الى التوصيات للتعامل مع مختلف الأديان والمذاهب في سوريا فيري المبارك أن القرون الأخيرة من العهد العثماني قد تعاملت بشكل سيئ مع مختلف الأديان والفرق الإسلامية والمنشقة عن الإسلام مما أبقي رواسب متجذرة من الانتماء الطائفي حتى مع ضعف الشعور الديني عند الفرق ومع ذلك فإنه يؤكد أن معظم المسيحيين يودون أن تكون العلاقات بينهم وبين الأكثرية المسلمة جيدة وتهدف الى العمل المشترك من أجل القيام بالمصالح الحيوية.

الا أنه يحذر من نشوء جيل من المثقفين المسيحيين في جو من الصراع الفكري والحزبي يجدون متنفسا للشعور الطائفي من خلال القومية السورية أو الشيوعية بينما أخذ آخرون منهم بأحد الطريقين :

الأول : القبول بفكرة القومية العربية عموما والدعوة الى الوحدة باعتبار تعذر انفصال الفكرة العربية عن الإسلام وحضارته .

والثاني : العمل على وضع أسس جديدة للقومية العربية في معزل عن الدين الإسلامي .

ويدعو المبارك – بناء على هذا التحليل – الإسلاميين الى الجمع بين فكرة الحرية الدينية والمساواة بين المواطنين من جهة وبين قيام الفكرة العربية دون اصطناع وتهرب من علاقتها بالإسلام وذلك يكون أولا بإبعاد العوامل الداخلية والدوافع الخارجية ( كالمدارس والمعاهد الأجنبية ) التي تشوه موقف فئات من المجتمع السوري ثم بتجديد صعيد مشترك تلتقي عليه الفئات الدينية – المسلمة وغيرها – حول قضايا الحياة الأساسية , ثم بتشجيع الدين المتوازن ونبذ العصبية ونشر التعليم في جميع المناطق بأسلوب لا ينتقص من مكانه أى فئة ويشجع على دمج لفرق ليس عقائديا ولكن في مجال تقوية الروح الوطنية المشتركة. أما في القسم الأخير من بحثه فقد تناول المبارك موضوع الأحزاب والحركات الوطنية من ناحية المبادئ والأفكار التي تتبناها لا المواقف السياسية فبدأ بتصنيف التيارات الى تيارات تعتمد على فكرة أصيلة في المجتمع العربي والإسلامي وأخري دخيلة تعتمد على أفكار مستوردة ومقطوعة عن المجتمع الذي نشأت فيه .

ففي الصنف الأول الأصيل يبرو كذلك تقسيمان الأول تبرز فيه الناحية العقائدية ولا فلسفة فكرية بل تتخذ أسسا عامة مثل الحزب الوطني وحزب الشعب وما تبقي من الكتلة الوطنية والثاني هي الهيئات العقائدية التي تنهل من النزعة الأصيلة للشعب ويمثل المبارك لهذا الصنف بحزب البعث العربي من جهة والإخوان المسلمين من جهة أخري يوضح هذه النقطة أكثر لحساسيتها السياسية بأن كلا الطرفين قد أخذ جانبا من الفكرة العربية الإسلامية وأهمل جانبا آخر فكان لهما نجاح وانتشار بقدر قربهما من الفكر تطبيقها فالإخوان – كما يشير المبارك – أهملوا الجانب لعربي من الفكرة وحزب البعث أهمل إن لم يعاد بعض أفراده الفكرة الإسلامية .

ويقول بعد ذلك بأنهما " ليستاهما اللتان أوجدتا الفكرة العربية والفكرة الإسلامية بل الأم على العكس فإنهما ليستا الا مظهرين غير ناضجين ولا كاملين لفكرتين وأكد ضرورة الإسراع في تقريب هذين التيارين وأما الصنف الثاني من الأحزاب الذي تعتمد على أفكار وافدة مقتبسة فمثاله تلك الحركات التي تدعو الى فصل سوريا عن الأمة العربية بالدعوة الى القومية السورية وادعاء وجود أمة " سوريا أو تلك الحركات التي تدعو الى إذابة سوريا وغيرها في تيار المعسكر الشيوعي والسوفياتي أو الغربي وذلك باستغلال شعور بعض الأقليات الموروث بالنقص .

ويؤكد المبارك ضرورة اعتماد الفكرة العربية الإسلامية كمنطلق لأي تحرك شعبي ناجح ثم لعمل على دمج الطوائف من خلال العمل المشترك ونشر التعليم الديني المتوازن الذي يراعي الأفكار والتكتلات في مختلف المناطق السورية وعندما دعا المبارك الى " صهر الطوائف الإسلامية في بوتقة الإسلام العام أكد أن هذا ينبغي الا يكون بصيغة التسنين أو تغلب طائفة على أخري بل من خلال نشر المبادئ الإسلامية والتعليم الأساسي مما يوثق العلاقات في ما بين الطوائف الإسلامية وحتى المسيحية الموجودة في سوريا دون تعصب الى فئة على حساب أخري .

وكذلك دعا المبارك التيار الإسلامي الى " إبعاد العقلية الجامدة المتزمتة " وإبراز ما في الإسلام من اتجاهات عملية تلبي حاجات المواطن وتحميه من التحكم الخارجي ودعا الإسلاميين كما مر سابقا – الى استخدام المصطلحات الملائمة واتخاذ الفكرة العربية الإسلامية منطلقا لتأسيس فكر عالمي إنساني يصلح لجمع الناس معا مواجهة التحديات وهذه التوصيات تمثل انسجاما في فكر المبارك بين ما كتبه الأخرى وبين مواقفه السياسية التي دعا من خلالها الى التوازن وعدم التعصب العاطفي .

نظام الحكم والدولة في الإسلام

أما في ما يتعلق بالتنظير الفكري حول الشكل السياسي للدولة في الإسلام فقد بحث المبارك في بداية إنتاجه الفكري مفهوم الدولة والحسبة عند ابن تيمية ( 1960 ) ثم طور البحث الى كتاب " آراء ابن تيمية في الدولة ومدي تدخلها في المجال الاقتصادي " وقد اختار دراسة فكر ابن تيمية السياسي وتوخي البعد عن العصبية في عصر كثرت فيه التحديات الفكرية وهي ظروفي تشابه ما م به المبارك ويؤكد أن الدولة في الإسلام في رأي ابن تيمية التجديدي قائمة على " مفهوم مدني من حيث السلطة ومصدر السلطة ومن حيث العلاقة بين الحاكم والمحكوم غير أن الدستور أو المبادئ العامة معتمدة على الوحي الالهي "

ويتجاوز ابن تيمية ذلك النقاش فيوضح أن دور الدولة في الإسلام ليس محدودا بالناحية الأمنية بل يمتد الى النواحي الاجتماعية والإنسانية والحضارية وبالتالي فإن الدولة في مفهوم ابن تيمية – يتجاوز دورها في المفهوم الحديث للدولة وهذا المفهوم الإنساني والأخلاقي العام للدولة هو ما يوافق عليه ويؤيده المبارك ويجعله النقطة التي تفرق بين الدولة الدينية بالمصطلح الأوروبي والدولة الإسلامية في المصطلح الإسلامي .

أما بالنسبة لشكل توزيع السلطات فيري ابن تيمية أن هذا أمر عرفي تابع لتقدير أولي الرأي ليس أمرا شرعيا بأن تتكتل السلطات الثلاث المعروفة في العصر الحديث في يد حاكم واحد : ويلاحظ المبارك بعد عرض وظائف المحتسب – أن ما يقوم به المحتسب تاريخيا توزع في العصر الحديث على وزارات وهيئات متخصصة حكومية ويحاول المبارك استنباط مبادئ في الحكم والسياسية من فكر ابن تيمية فيبرز حق الحرية في التملك والتصرف بالملك على أنه هو القاعدة الأصلية فالأصل في القانون - كما يري ابن تيمية – حرمة التسعير ولكن الدولة تتدخل عندما يقع الظلم على فئة من الفئات .

وبعد أن عرض جملة من الآراء الفقهية عند ابن تيمية أشار المبارك الى مدي حرص العلماء على حماية الحرية الشخصية مع مراعاة المصلحة العامة وتحقيق العدل والمساواة بين الناس .

أما في كتابه المشهور من سلسلة نظام الإسلام الحكم والدولة فيواصل المبارك المنهج التأصيلي في مؤلفاته حول القومية والأمة مفهوما وتطبيقا وذلك من خلال البعد عن التعصب وعرض الموضوع في شكل مبادئ إنسانية وقيم عالمية وهذا الكتاب وإن كان قد أكمله عام 1974 الا أنه كان كتب أجزاء متناثرة منه منذ بدايات عطائه الفكري في منتصف القرن العشرين وأكد فيه أن هدفه عرض المنهج والرؤية الإسلامية دون مقارنته بالآراء والنظم الأخرى وما يقال عن الحكم في الإسلام من خلال استقراء جديد من الكتاب والسنة فالمبارك يرفض منهج بعض المفكرين في عصره ممن يبحث عن الموقف الإسلامي ثم يقيسه بمقاييس غيره أو يقومه بقيم غيره .

بدأ المبارك كتابه التأصيلي بالتأكيد على أن الإسلام في ذاته وأصل تعاليمه يطلب من المؤمنين به إقامة دولة على أساسه وهذا الموقف اعتمد فيه على نصوص من المصادر الأصلية دون الاعتماد في هذا الرأي على كون المسلمين قد أسسوا دولا إسلامية على مر التاريخ ثم ذكر أهم القواعد التي تنظم الحكم والرئاسة في الإسلام :

1- تعيين الحاكم شروط أهلية الحاكم ( الخبرة الإدارية والسياسية والأخلاق ) واشتراط اختياره من أهل الرأي .

2- البيعة وهي موافقة المواطنين على تعيين الحاكم .

3- الحاكم والشعب كلاهما يخضع للقانون وملزم بإتباعه .

4- الشورى واجبة دون تحديد شرعي لشكلها وغنما يتولي تحديدها أهل الخبرة.

5- المسؤولية أمام الله ثم أمام الرقابة الشعبية فهذا حق الأمة .

6- استقلال ملكية الحاكم عن ملكية الأمة.

7- المساواة بين الناس .

8- العدل .

9- الحقوق الإنسانية حماية الأنفس والأعراض والعقول والأموال والأخلاق والدين .

10- التكافل الاجتماعي .

11- الطاعة للحكومة في المعروف والأمور الاجتهادية وهذا المبدأ يقابل ويوازن مبدأ التزام الحاكم بالمبادئ الدستورية المذكورة أعلاه فلا يستحق الطاعة إن خالفها .

ثم ذكر المبارك أمرا مهما لم يؤكد عليه كثير من المؤلفين في عصره وأصبح من بديهيات الأمر السياسي الإسلامي بعد مدة من الزمن وهو أن شكل تطبيق هذه المبادئ أمر اجتهادي بشري وهذا تفسير اختلاف شكل ومصطلحات الحكم الإسلامي في التاريخ كما هي الحال ف يطرق تطبيق النظام الديمقراطي الحديث بين ديمقراطية فرنسا وانجلترا والولايات المتحدة الأميركية في طريقة اختيار الوزراء والرؤساء فالإسلام أتي بالمبادئ الدستورية التي يقوم عليها نظام الحكم من بعد ولم يلزم أحد بشكل معين من أشكال الحكم ولا حتى مصطلح " الخليفة " فتطبيق المبادئ الإسلامية هو تطبيق بشر يخطئ ويصيب وبالتالي يرفض المبارك عبارة قالها كاتب معاصر له بأن الدولة العثمانية دولة إسلامية " بكل معني الكلمة لأنها كانت بعيدة عن تطبيق مبادئ وروح الإسلام فينبغي – كما قال المبارك – أن ينتبه الإسلاميون الى المصطلحات التي يستخدمونها عند المطالبة بالحكم والدولة الإسلامية والتركيز على المطالبة بتطبيق الأسس والمبادئ ( كالعدل والمساواة والشورى ) وليس على شكل معين كالخلافة والديمقراطية والحسبة وغيرها من المصطلحات فكلا الطرفين – المعارض والمؤيد للحكم الإسلامي – يستخدم هذه المصطلحات ويعني بها أشياء مختلفة يتم الخلط فيها بين المبدأ والتطبيق التاريخي القاصر وبين مفاهيم مستوردة ذات خلفية وتاريخية مختلفة .

وبعد التنظير الفكري وتحي مجري الفكر الإسلامي من قفص الاتهام الى قفص تقويم الإسلام بقيم غيره الى إثبات ذاتية الإسلام في مقاييسه حول الحق والباطل يوضح المبارك موقفه من الديمقراطية والإشتراكية فيرفض المنهج القائل بأن هذه النظم " هي من الإسلام أو أن الإسلام يشتمل عليها " على الإطلاق وذلك لأن في هذا إفساد وإهدار لشخصية وذاتية الإسلام ولكنه يستدرك موضحا أن هذا لا يعني نفي وجود نقاط التقاء بينهم فالديمقراطية – كما يذكر – نشأت في مواجهة الاستبداد في الحكم في أوروبا من قبل أسر حاكمة أو طبقات معينة أو علماء دين .

وهنا يشير أيضا في نصيحة للإسلاميين الذين ينادون بتطبيق الحكم الإسلامي الى ضرورة التدقيق في المصطلحات كقول البعض بأن الإسلام ينافي الديمقراطية ففي هذا " تشويه للإسلام وإعطاء صورة قبيحة لأناس لم يعرفوا الا هذين اللونين من أنظمة الحكم الديمقراطي الاستبدادي .

لم يرفض المبارك إذا أو يقبل على الإطلاق أيا من المقولتين الإسلام ديمقراطي أو " الإسلام ينافي الديمقراطية وإنما يقف في صف الديمقراطية حينما تكون اتجاها معارضا للاستبداد أو التمييز بين الشعب ومؤيد ا لدور الشعب في اختيار حاكمه ومراقبته وهذا الموقف من الديمقراطية هو الذي نهجه المبارك في شرح الموقف من الإشتراكية فالديمقراطية والإشتراكية مذهبان انبثقا وبنيا عليها نظرة وفلسفة عامة في الوجود قد يلتقي الإسلام معها أو يختلف .

فالإشتراكية نشأت في مقابل طغيان الرأسمالية في أوروبا على طبقات من الشعب فنادت بتدخل الدولة في مجالات الحياة المختلفة حفظا وحماية لحقوق الناس والإسلام كما أوضح المبارك في كتابه عن فكر ابن تيمية – وإن جعل الأصل الحية الفردية في التملك الا أنه يجيز للدولة في ما يحفظ المصلحة العامة – أن تتدخل في منع الاحتكار والاستغلال وغيره من أشكال الظلم.

وفي مجال التدقيق في استخدام المصطلحات من قبل بعض الكتاب يوضح المبارك أن مفردة العصبية التي أوردها ابن خلدون كانت بمعني " القوة والمناصرة الواقعية أو بالمعني الذي نعبر عنه اليوم بالقاعدة الشعبية أو السند أو الدعم الشعبي وبالتالي يستنتج المبارك بأن شرط القرشية في الحاكم كما تعبر عنه المذاهب الأربعة المراد منه فكرة الطاعة والنظام والانضباط وليس موضوع صفات الترجيع والاختيار وهذا يجعل الشرط وإن اتفقت عليه معظم المذاهب – أمرا اجتهاديا يراد منه أن يكون الحاكم له قاعدة شعبية واسعة تمكنه من القيام بالقيادة فهو شرط يمكن أن يتغير بتغير العوامل والظروف السياسية والاجتماعية .

ويختم ويكرر المبارك تحذيره من أن يوصف الإسلام بأوصاف لها تاريخها وأصولها في الفكر الأوروبي مثل قولهم إن الدولة في الإسلام دينية أو مدنية بالمعني الغبي فالدولة الإسلامية لا تدخل ضمن هذا التصنيف ولكن فيها عناصر تقترب فيها من كلا التصنيفين وهي ثابتة الأسس متطورة في الشكل وقد كان من أواخر ما كتبه المبارك وما يمثل زبدة آرائه في ما يتعلق بمفهوم الدولة والسلطة في الإسلام هو ما قدمه في ندوة لليونسكو وأكد فيه وجود " مفهوم تقدمي للدولة في الإسلام ناقش المبارك في هذه الندوة المفهوم العلمي للدولة الحديثة من خلال عناصرها الثلاثة شعب وحكم تتمثل فيه سلطة الدولة وقوانين واحدة للجميع من غير تمييز فيها لأحد على أخر , وأن المفهوم الإسلامي للدولة تجتمع فيه هذه العناصر الثلاثة .

فقد أنشأ الإسلام أنموذجا للحكم لا مثيل له في التاريخ يقوم على قيم إنسانية عالمية مثل مبدأ الشورى في الحكم وأن أساس السلطة في دولة الإسلام يستمد من الشعب لا غير " وكذلك أخضع الإسلام الجميع تحت قانون واحد دون تفاصيل أو تمييز في الحق بالحياة الكريمة بين الأعراق والأجناس والأقوام والأديان بل ذهب الى أن المفهوم الإسلامي لم يكن قوامه العناصر الثلاثة التي صيغت حديثا فحسب .. بل القيم والمفاهيم السياسية الأوسع من ذلك التي نادي بها الإسلام .

مهد المبارك في بحثه بالمرور أولا على مفهوم القيادة في المجتمعات البشرية الأولي وكيف أحدث الإسلام تغييرا جذريا لهذا المفهوم من خلال إرساء أسس وقيم وإنسانية يمكن أن تتبلور في أشكال مختلفة على مجري التاريخ فيما بعد فبدأ مفهوم القيادة من الأسرة الى القبيلة ضمن مفهوم السلطة الأبوية المطلقة التي انتقلت فيما بعد خصائصها الى رئيس الدولة فكان الحكم المطلق والإمبراطوريات التي عرفت في التاريخ وكانت أبرز خصائص السلطة المطلقة وتبعية الشعب المطلقة المفروضة تجاه الحاكم هي انعدام الشخصية الحقوقية " المستقلة للشعب وكان القانون إن وجد هو ما يمليه شخص الحاكم المطلق دون اعتماد ملزم على قيم أو عادات ذلك المجتمع .

بالإضافة الى ذلك فإن هذا القانون بجوهره كان يميز بين الأعراق والأجناس والشعوب وهذا ما أدي – في نظر المبارك – الى نشوء ثورات وحروب عالمية في التاريخ وكتابات فلسفية حول المدينة الفاضلة وفي هذه البيئة السياسية ظهر الإسلام فنادي بالمساواة والإسلام العالمي والحقوق المكفولة للجميع مما تبلور في صحيفة يثرب الدستورية.

لقد كانت صحيفة يثرب - حسب قول المبارك - "مفاجأة تاريخية لا مثيل لها " حيث عالجت أهم مشكلات المجتمع الجديد في المدينة المكون من مسلمين ويهود ومن مهاجرين وأنصار فأعلن " دولة المدينة الموحدة " وبأنهم جميعا " أمة واحدة من دون الناس " ولم يكتف النبي صلي الله عليه وسلم بالتوقيع على هذه المعاهدة بل أرسل الى ملوك الدول المجاورة والقواعد الدولية التي تستفاد من صحيفة يثرب ما يلي :

1- ابتكار النظام المكتوب للدولة تبعا لحاجاتها الزمنية وإعلانه على الناس والتزام الجميع به .

2- الإعلان عن حرية العقيدة في الدين وأن الجميع امة واحدة للجميع حق النصرة والمساواة .

3- الإعلام عن مفهوم الأمة السياسي في الإسلام .

4- الإعلام عن حدود هذه الأمة بحدود أراضي الجماعات التي تسكنها .

5- التكافل الاجتماعي بين الموسرين والمحتاجين .

6- وحدة المسؤولية في الأمن الداخلي والخارجي .

7- توزيع الأعباء المالية في حالات الحرب والدفاع.

8- تحريم الجريمة فيما بين سكان الدولة.

9- النص على القانون الذي يحكم في حال الخلاف وهو الشرع الإسلامي

ويؤكد المبارك بعد عرض أبرز معالم الصحيفة أن السلطة في الإسلام ليست ثيرقواطية ونفي بأن يكون الخليفة يستمد سلطته من الله لأن " الحكم بشريعة الله يراد منه العمل بشريعة القرآن وليس هناك خلط في المفهوم الإسلامي بين عنصر السلطة والقانون كما يظن البعض فالخليفة أو القائد يستمد سلطته من الأمة بالبيعة.

ثم عرج على تحديد مبدأ الشورى تحت شرح عنصر السلطة وعنصر القانون – بأنه " الزام بأخذ رأي الجميع أولا ثم وجوب العمل بالرأي الذي ظهرت أرجحيته بعد التمحيص العقلي بين الرأيين لا عملا بالتعداد غير الواعي للأصابع المرفوعة ونفي أن يكون حكم الشورى حكم الأكثرية للأقلية ( الديمقراطية الغربية ) أو حكم الأقلية للأكثرية ( الإشتراكية الديمقراطية ) وذك المبارك صعوبة وضع قواعد للتمحيص لكنه ليس بالمستحيل فقد أسس علماء الفقه والأصول علم التعارض والترجيح مثلا ويمكن عمل لجان تدرس الأرجح من الآراء " عقلا ومصلحة وتجربة " وأن هذا المبدأ يساوي بين جميع الآراء من الأقلية والأكثرية وتعاملهم لا على أساس العد بل على الأصلح لعموم الشعب وأكد المبارك في ختام حديثه عن الشورى أن هذا يستدعي إعدادا تربويا وابتكار الأشكال والأسلوب والأجهزة الفنية العلمية المناسبة مع موضوع الاستشارة ومع الحاجات الزمنية لكل أمة أما عن مفهوم الأمة وعلاقته بعنصر ( الشعب ) فيوضح المبارك بأن هناك مفهومين للأمة : التاريخي غير الزمني ( يتجاوز الحدود الجغرافية كالأمة الإسلامية أو العربية والتركية والفرنسية ) والسياسي الزمن ( محدود في الجماعات والأرض كما دولة يثرب ) ورد المبارك على مقولة أن الأمة في الإسلام لا تعبر عن نفسها بل هناك فئة أرستقراطية ( أو ما يسمي خطأ علماء الدين ) فقال إن الأنظمة جميعا تعبر عنها فئة من الممثلين والإسلام لم يشأ أن يحدد منذ أربعة عشر قرنا نظاما محددا في اختيار الممثلين ولكنه فرض العلم على الجميع حتى يتسلحوا ضد الاستبداد وتكون قيادتهم بإرادة الشعب وأما في عنصر القانون الحاكم فأكد المبارك أن القانون الإسلامي يمتلك الوسائل المرنة المتغيرة في باب الاجتهاد الواسع التي تعتمد عليها الأحكام الشرعية ضمن مبادئ الكتاب والسنة والثانية .

وفي خلاصة بحثه أكد المبارك أن المفهوم الإسلامي للدولة لم يكتف فقط بما تعارف عليه اليوم من تحديد العناصر الثلاثة بل زاد عليها بتأسيس مبادئ وقيم دولية في الحكم تحكم هذه العناصر وتقومها :

1- المفهوم السياسي للأمة الذي يشمل جميع الطوائف .

2- توزيع المسؤولية بين أفراد المجتمع فلم يعد هناك سيد ولا مسود بل الجميع يتشاركون في مسؤوليات الدولة

3- وجوب حرية الكلمة في الدعوة لما فيه مصلحة الأمة وفي النقد والشجب لما هو ضار بمصالح الأمة.

4- المساواة بين الجميع بشكل يكمل بعضه بعضا من حيث الواجبات والمسؤوليات.

5- جاء في خطاب القرآن الى أولي الأمر من خلال الخطاب للناس وللمؤمنين وللأمة " على أساس أن أولي الأمر هم أفراد من الأمة بمعني أنهم تعريفا ممن يطيعون الله ورسوله في شؤون الأمة وأنهم يعبرون بسيرتهم وسلوكهم عن الأمة وآلامها "

6- المساواة في ذمة أو مكانة المؤمنين .

من خلال هذا الاستعراض السريع يتبين مدي عمق فكر المبارك وسبقه في التنظير لنظام الحكم في الإسلام قياسا بالكثير من معاصريه فموقفه من القومية والعلاقات الإثنية ونظام الحكم الإسلامي لم يخضع لأي من القوالب أو التصنيفات الفكرية المعاصرة إذ لم يقل بأن الإسلام يؤيد أو يرفض القومية كفكرة اجتماعية سياسية تجمع الناس بل شرح مكنونات هذه النظرية وما يمكن أن يؤخذ من عناصرها وما لا يصلح وذكر أن القومية واقع اجتماعي لا يمكن التنكر له أو الهروب منه كما كانت ردة فعل بعض الإسلاميين في عصره – ولكنها في الوقت نفسه لا تمثل أرقي مستويات التجمع السياسي العقائدي وان مفهوم الأمة في الإسلام هو الذي يشكل إطارا حضاريا يمكن أن يجمع بين أكبر مجموعة بشرية على أساس وحدة الفكر والعقيدة والمبادئ العريضة.

وهذا المفهوم للأمة هو الذي جعل عند المبارك في نظرته للأقليات الدينية والعرقية في سوريا نوعا من التوازن لم يوجد عند غيره فكان ضد التسنين وإجبار الناس على الاندماج العقائدي ولكن مع صهر الجميع في "بوتقة الإسلام العام " فأبرز الفرق بين هاتين السياستين بأن صهر الجميع هو أن يتوحد الجميع في الأمور لعامة والمبادئ الناظمة للأمة مثل العدالة والحرية والشورى وحق اختيار الحاكم والاعتزاز بجميع القوميات في الوطن مع الانتماء الحضاري للإسلام وأكد أن الإسلام فيه من القيم الإنسانية العالمية ما يمكن أن يستوعب الجميع في الوطن الواحد فالإسلام لم يحدد شكلا معينا في أسلوب الحكم مثل فصل السلطات الثلاث أو المجالس الانتخابية الا أنه كذلك يشكل ضمانا لحقوق الأقليات حتى لا تهضم بفعل الانتخاب التعددي الديمقراطي.

وهنا رفض المبارك أن يقلب ويقيس الإسلام بمدي ديمقراطية أو اشتراكية فأكد ذاتية الإسلام في قيمه التي تعارض الاستبداد والظلم سواء كان من فرد أو طائفة أو فئة التجار أو حتى أكثرية فنظام الحكم الإسلام يشترك مع الدولة المدنية في رفضه للثيوقراطية وتحكم علماء الدين بالشكل المعهود في أوروبا ولكنه كذلك نظام يلتزم بالأسس والمبادئ التي تعتمد الوحي مصدرا لها وعض في أواخر ما كتب أنموذجا تمثيليا ( غير ملزم ) من أشكال الدستور الإسلامي المتمثل في صحيفة يثرب وفرق بين المفهوم السياسي الزمني للأمة والمفهوم التاريخي وأخيرا قدم ضريحا تجديديا لمصطلح " أولي الأمر " يوائم الفكر السياسي الحديث .

وخلال جميع أبحاثه حث المبارك الإسلاميين والمعارضين لهم على توخي الحذر من اقتباس مصطلحات لها ارتباطات عقائدية فلسفية أوروبية أو لها مدلولات مشوهة لروح الإسلام وفي النهاية يكون المبارك قد وضع حجر الأساس لمبادئ الفكر السياسي الإسلامي الحركي في وقت كان الجميع مندهشا بالفكر الغربي .

الإخوان المسلمون والطليعة المقاتلة والعلاقة مع السلطة

فادي شامية

تسلط هذه الدراسة الضوء على فترة صعود الحركة الإسلامية في سوريا وصولا الى اصطدامها بالنظام البعثي الذي استولي على الحكم وتاليا ظهور تنظيم الطليعة المقاتلة مع ما في هذه الفترة التاريخية من معطيات واستنتاجات هامة في دراسة الحركات الإسلامية وقد اعتمدت هذه الدراسة على المخزون المعرفي لنشأة جماعة الإخوان المسلمين في سوريا وعلى عدد من المصادر المنشورة حول الجماعة واصطدامها بالنظام إضافة الى مقابلات وشهادات خاصة لعدد من السوريين المنفيين في الخارج بعضها ينشر للمرة الأولي .

خلفية تاريخية

نشأت جماعة الإخوان المسلمين في سوريا من رحم عمل مؤسسي خيري كان قد نشط في منتصف الثلاثينيات ن القرن العشرين تحت اسم " شباب محمد " الذي يضم تحت لوائه العديد من الجمعيات الإسلامية التي تطورت في العام 1945 الى " جماعة الإخوان المسلمين في سوريا "

شكلت الجماعة التنظيم القطري السوري للإخوان المسلمين الذي صار لاحقا أقوي تنظيم فاعل على المستوي القطري إذ كان مرشحا أن تكون سوريا مقر مكتب الإرشاد العام بعد اغتيال حسن البنا والصدام مع عبد الناصر وهو ما شكل بالفعل قاعدة خلفية لمكتب الإرشاد العام عامي 1953 / 1954 وتولي بعد ضرب إخوان مصر عام 1954 مهمة التنسيق ما بين التنظيمات القطرية الإخوانية في البلدان العربية.

ويرسم النظام الداخلي لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا ثلاث سلطات رئيسة في الجماعة :

1- السلطة التشريعية ممثلة بمجلس الشوري وأهم صلاحيات هذا المجلس انتخاب المراقب العام واعتماد القيادة التي يرشحها المراقب العام ثم محاسبة القيادة وإقرار الخطط والسياسات العامة والميزانيات والنظام الأساسي ولهذه اللسطة ظلال في مستويات أدني كوجود لجان استشارية في المراكز وهيئة استشارية للقادة وغيرها .

2- السلطة التنفيذية وتتكون من المراقب العام وأعضاء القيادة ومهمتها إدارة شؤون الجماعة واتخاذ القرارات والإجراءات التي تضع خطة الجماعة وسياساتها موضع التنفيذ ويحدد النظام الداخلي طريقة انتخاب المراقب العام وطريقة عزله وقبول استقالته ومدة ولايته وصلاحياته وواجباته ويتشعب عن القيادة مكاتب تنفيذية سياسي وإداري وتربوي وغيرها من المكاتب وتقسم مواطن انتشار الجماعة الى مراكز وشعب ولكل مركز أو شعبة إدارته وأنظمته .

3- السلطة القضائية وهي على مستويين المحكمة العليا وتتعلق بمحاكمة المراقب العام وأعضاء القيادة والنظر في شرعية الأنظمة والقرارات ثم المحاكم وتتعلق بفض الخصومات المختلفة ويضبط السلطات كلها وشروط العضوية وأحوال الجماعة الأخرى النظام الداخلي واللوائح والأنظمة ومما يتناوله النظام في ذلك تحديد مندة كل مؤسسة وأصول الانتخاب والتصويت والتعيين والإقالة والاستقالة والصلاحيات والواجبات , هذا ويحدد النظام الداخلي قواعد قبول المسلم عضوا في الجماعة ثم تدرجه في درجات العضوية ( المنتسب والعامل والنقيب ) وشروط ذلك كله "

مراحل التشكل

شهدت مدينة حلب بدايات تشكيل جماعة الإخوان المسلمين في سوريا وذلك عام 1935 نتيجة تأثر كثير من الطلبة السوريين الذين كانوا يدرسون في مصر وفي عام 1944 انتقلت حركة الإخوان المسلمين الى دمشق حيث تمكن الدكتور مصطفى السباعي من دمج الجمعيات الإسلامية السورية وقد انتخبه الإخوان السوريون مراقبا عاما لهم في الفترة من 1945الى 1961

ويمكن أن نميز ثلاث مراحل مرت بها الجماعة في سوريا :

1- مرحلة التأسيس والعمل العلني من عام 1946 حتى آذار / مارس 1963 .

2- مرحلة الخصومة مع النظام والعمل السري 1963 - 1970 .

3- مرحلة الصدام المسلح مع السلطة من عام 1979 وما بعده

المرحلة الأولي 1946 -1963

عملت الجماعة منذ نشأتها في سوريا على مختلف الصعيد فعلي صعيد التعليم والتوعية والإعلام أنشأت المدارس والمعاهد وأصدرت الصحف ونشرت الوعي بالدين وقيمه وعلى صعيد العمل الاجتماعي أنشأت الجمعيات الخيرية والمستوصفات وأسهمت في إيجاد فرص العمل للعاطلين وأقامت بعض المؤسسات الاقتصادية والنوادي الرياضية والفرق الكشفية ودافعت عن دور المرأة ومكانتها وعلى صعيد العمل السياسي ركزت الجماعة على مقاومة محاولات التغريب وشاركت على هذا الأساس في المجالس النيابية ودافعت عبر منصاتها عن مشروعية الحكم الإسلامي وشاركت في بعض الوزارات وأصدرت الصحف وقادت عددا من المظاهرات كما كان للجماعة مشاركة فعالة في حرب فلسطين 1948 وفي التنديد بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ( رغم الخصومة مع عبد الناصر ) ودعمت الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958.

عملت الجماعة في هذه الفترة على الجماهير بشكل واسع وكان لها مشاركة سياسية فعالة لا سيما في الفترة التي أعقبت الانفصال عن مصر مباشرة لعام 1961 وحتى استيلاء البعث على السلطة العام 1963 وقد شاركت في الحكومة في تلك الفترة بثلاثة وزراء ,وكتلة برلمانية مؤثرة .

المرحلة الثانية 1963 -1979

في هذه المرحلة وصل حزب البعث الى السلطة من خلال انقلاب 8 آذار / مارس 1963 الذي شاركت فيه اتجاهات سياسية عدة اشتراكية وقومية ذات انتماء طائفي محدد إذ تكونت اللجنة العسكرية في البدء من خمسة ضباط من بينهم ثلاثة علويين وهم محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد وإسماعيليان هما : عبد الكريم الجندي وأحمد المير وبعد انقلاب الثامن من آذار / مارس وسعت اللجنة وبقيت العناصر الفعالة فيها من العلويين ولذلك سميت هذه اللجنة بلجنة الضباط العلويين.

وقد استطاع رجال الحزب إقصاء شركائهم والاستئثار بالسلطة وأظهروا قدرا من الممارسات الطائفية والعلمانية التي تتعامل مع الدين بغلظة ثم فرضوا قانون الطوارئ وعطلوا الصحافة وحلوا الأحزاب وبدأوا بتصفية المعارضين وقد رافق ذلك تحويل مؤسسات المجتمع المدني الى بني خادمة لفكر الحزب وفي 16 / 11/ 1970 تفرد حافظ الأسد بالسلطة لتبدأ مسيرة طويلة من حكم ال الأسد ..

وفي مطلع عام 1973 اندلعت سلسلة من التظاهرات في دمشق وحمص وحماه بمناسبة تغيير الدستور وجعل الإشتراكية لا الإسلام مرجعية تشريعية وأعقب ذلك مظاهرات كبيرة في جميع أرجاء سوريا اضطر على إثرها الرئيس حافظ الأسد الى الحد من الاندفاع نحو الإشتراكية بالنص في الدستور على وجوب أن يكون رئيس الجمهورية مسلما لكن موجة الغضب والاحتجاجات تواصلت ثم حدثت مصادمات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الأمن وقامت الحكومة في الوقت نفسه بالقاء القبض على العلماء وتعذيبهم واعتبرتهم المسئولين عن التمرد والاضطرابات ومن المعتقلين من بقي في السجن أسابيع وشهورا ومنهم من بقي سنات وعلى الرغم من أن جماعة الإخوان المسلمين لم تبد خلال هذه الفترة أية معارصة عنيفة ضد النظام الا أن السجون لم تخل من معتقلين إسلاميين وخاصة من الإخوان وكانوا يتعرضون لأقسي أنواع العذاب ويعتقلون في أسوأ الظروف التي تهدر فيها آدمية الإنسان .

وفي العام 1978 أقر المؤتمر القطري لحزب البعث جملة مقرات كان منها إقرار التعليم المختلط والتضييق على المدارس الشرعية الخاصة وتغيير مناهج التربية الإسلامية ونقل وتسريح مئات المدرسين وإنشاء منظمات طلابية وشبابية مثل منظمة الطلائع وشبيبة الثورة وأجبر التلاميذ على الانتساب والالتحاق بهذه المنظمات وبمعسكراتها بقوة القانون .

المرحلة الثالثة : الصدام مع السلطة

كانت الفترة التي سبقت اندلاع المواجهة بين النظام والجماعة في صيف 1979 حافلة بالإرهاصات والنذر التي تؤكد حتمية المواجهة والوصول الى نقطة الانفجار وكانت مجمل السياسات التي يمارسها النظام تخدم هذا الهدف الى أن وصل الرئيس حافظ الأسد الى قناعة أعلنها في المؤتمر القطري الثالث عشر للحزب والذي عقد في دمشق في تموز / يوليو 1980 حيث قال " الخطة السياسية إزاء الإخوان المسلمين وأمثالهم لا يمكن أن تكون الا خطة استئصالية أى خطة لا تكتفي بفضحهم ومحاربتهم سياسيا فهذا النوع من الحرب لا يؤثر كثيرا في فعالياتهم .. يجب أن نطبق بحقهم خطة هجومية .

بدأت نذر المواجهات بعمليات اغتيال قامت بها الطليعة المقاتلة التي لم يكن لها علاقة تنظيمية بجامعة الإخوان المسلمين لكن النظام شن حملة اعتقالات واسعة في ربيع عام 1979 شملت عددا من رموز الإخوان وكان لهذه الحملة دور كبير في تسريع الأحداث وتفجيرها ثم جاءت حادثة المدفعية التي وقعت في 16 حزيران / يونيو 1979 والتي قتل فهيا 35 طالبا عسكريا علويا وأصيب 54 آخرون بجراح حسب البيانات الرسمية للدولة فاتهمت جماعة الإخوان المسلمين بتدبير الهجوم وتكثفت الاعتقالات ضد كل من يشك بانتمائه الى جماعة الإخوان المسلمين أو التعاطف معها كما جري تنفيذ أحكام الإعدام بتاريخ 28/6/1979 ولحقت 15 معتقلا من الإخوان المسلمين كان قد جري اعتقالهم قبل حادثة المدفعية .

ويصف " فان دام " في كتابه " الصراع على السلطة في سوريا حملة الاعتقالات هذه بالقول : " بدت الحملات الإعلامية للنظام التي تلت ذلك وحملة النظام لاستئصال الإخوان المسلمين فظة وحادة للغاية حتى أثارت عداوة الشق الأعظم من الشعب المخلص بدلا من أن تثير تعاطفهم "

ظل الوضع متفاقما الى أن صدر القانون رقم 49 في 17/7/ 1980 والذي تنص مادته الأولي على أنه " يعتبر مجرما ويعاقب بالإعدام ل منتسب لتنظيم جماعة الإخوان المسلمين "

لم تجد الوساطات في احتواء الأزمة ووقف الاعتقالات والدماء ووجدت الجماعة نفسها أمام مواجهة مفروضة عليها فاتخذ مجلس شوري الجماعة الذي اجتمع خارج سوريا في أيلول / سبتمبر 1979 قرارا بالمواجهة وتعبئة القوي وحشد الطاقات لهذه المعركة وقد لقيت تلك المقاومة في البداية تأييدا وتعاطفا شعبيا كبيرا لكن قسوة السلطة كانت كفيلة بإخماد الثورة وإنهاء الجماعة وخلال قمع السلطة الثورة ارتكبت مجازر رهيبة أبرزها مجزرة جسر الشغور مجزرة سجن تدمر ومجزرة حلب وكانت أفظعها مجزرة حماه المروعة عام 1982 والتي ذهب ضحيتها الاف السوريين .

التباينات والانشقاقات

تأسست جماعة الإخوان المسلمين في سوريا عام 1945 على يد الدكتور مصطفى السباعي وفي عام 1949 ترك الجماعة الرجل الثاني في التنظيم محمد المبارك وفي عام 1953 م انشق تكتل تزعمه أبو الخير العرقسوسي وعبد الفتاح الغندور ففصلوا من الجماعة وعاد بعض المفصولين فرادي فيما بعد.

وفي العام 1970 وعلى إثر الصراع مع نظم البعث انشق الصف بين جماعتين : جماعة المواجهة في محافظات الشمال بقيادة أمين يكن وعدنان سعيد وعبد الفتاح أبو غدة وسعيد حوى والمراقب العام للجماعة عدنان سعد الدين نفسه وجماعة المهادنة في العاصمة بقيادة عصام العطار وقد انشقت هذه لجماعة على إثر هذا الخلاف .

وفي العام 1975 تطورت أفكار الواجهة مع النظام الى الثورة المسلحة عليه ولما كانت الجماعة بكل مؤسساتها رافضة لذلك فقد انفصل عبد الستار الزعيم أحد قيادات الجماعة وأسس تشكيلا عسكريا عرف باسم " الطليعة المقاتلة " مستلهما تجربة مروان حديد.

وفي العام 1980 ونتيجة الضربات القاسية التي تلقاها الإخوان تشكلت " الجبهة الإسلامية السورية " التي انضو تحت لوائها كثير من الحركات السياسية والدينية في سوريا وكان أمينها العام محمد أبو النصر البيانوني الحلبي وقد ضمت هذه الجبهة الإخوان وجماعة عصام العطار المنشقة عن الإخوان وبعض العلماء والجماعات الإسلامية الصغيرة وكان من أبرز وجوه هذه الجبهة عدنان سعد الدين وسعيد حوى وقد أصدرت الجبهة في 9/10/ 1980 بيانا يحتوي على برنامجها الذي وضعت خطوطه العريضة في ميثاقها الذي نشر في مطلع العام 1981 , وبعد ذلك بعام واحد دعا الإخوان المسلمون الى تشكيل التحالف الوطني الشعب السوري الذي ضم عدة أحزاب منها الإخوان بمختلف تشكيلاتهم والبعثتين والشيوعيين وغيرهم .

ثم انشقت الجماعة مجددا في العام 1986 الى تنظيمين حلبي بقيادة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة وحموي بقيادة عدنان سعد الدين ثم توحد التنظيمان لاحقا عام 1992 .

البعث والإخوان : مرحلة العنف

منذ استلام البعث للسلطة في سوريا كان واضحا أنه سيصطدم بجماعة الإخوان المسلمين إذ كان اختلاف المفاهيم بين البعثيين والإسلاميين كبيرا للغاية وزاد الطين بلة أن المنقلبين كانوا من انتماء طائفي علوي وأنهم اعتمدوا القسوة مع خصومهم من إسلاميين وغير إسلاميين كما كانت نظرة البعثيين للمجتمع تختلف بشدة عن النظرة المحافظة للإخوان ولعموم الشعب السوري فاعتبر الإخوان أن النظام ينشر الكفر والفساد الخلق ويعتمد سياسة إقصائية عن مراكز الدولة وإدارتها لكل من تبدو عليه ملامح التدين ولاسيما في حقل التربية والتعليم .

عندما وقع الصدام بين نظام البعث والإخوان تعامل النظام بقسوة شديدة مع الإخوان فتعرض هؤلاء لاعتقالات وملاحقات كبيرة وكان عناصر السلطة يتمركزون في بيوت عائلات المطلوبين أياما إجبارهم على الاعتراف بمكان المطلوب وأحيانا كانوا يلجأون الى اعتقال أقارب المطلوب لإجباره على تسليم نفسه وكانوا ينزعون الحجاب من رؤوس المحجبات في الشوارع أما في السجون فكان التعذيب شديدا ووحشيا وأحيانا كان يقتل عدد من المعتقلين عمدا داخل السجون وقدم الصراع بين النظام والإخوان بأربع مراحل هي :

1- مرحلة بدء المواجهة تمتد من العام 1975 لغاية العام 1981 م وقد تميزت بازدياد حدة العمليات العسكرية ضد النظام خلال الربع الأخير من عام 1979 والربع الأول من العام 1980 وكاد الزمام يفلت من يد السلطة في المحافظات الشمالية بشكل خاص ما دفع النظام الى تقديم عض التفاوض على الجماعة التي اشترطت الإفراج عن المعتقلين قبل بدء الحوار وتم الإفراج عن بضع مئات من الإخوان ثم ما لبثت السلطة أن عادت لاعتقال من تمكنت منه بعد ذلك وتوقفت المفاوضات بعد أن اعتبر النظام أن الإخوان غدروا به من خلال حادثة المدفعية التي نفذتها الطليعة المقاتلة وفي هذه المرحلة صدر القانون رقم 49 كما وقعت محاولة اغتيال حافظ الأسد فرد النظام بمجزرة سجن تدمر وذلك في 27 / 6/1980 .

2- مرحلة ضب وجود الجماعة في الجيش في مطلع العام 1982 اكتشف النظام وجود تنظيم عسكري للجماعة داخل الجيش فوجهت اليه ضربة قاضية حيث أعدم خلالها العشرات من الضباط واعتقل المئات منهم وفي الثاني من شباط / فبراير 1982 حدثت مجزرة حماه الكبرى التي اشتركت فيها سرايا الدفاع والجيش والقوات الخاصة والمخابرات وفصائل حزبية مسلحة حيث أعمل هؤلاء بالمدينة قصفا و هدما وحرقا وإبادة جماعية فقتل الاف السوريين وهدمت أحياء بكاملها على رؤوس أصحابها .

3- مرحلة تلاشي العمل المسلح بعد مجزرة حماه والمجازر الأخرى التي شهدتها المدن والقرى السورية خفت وتيرة العمليات العسكرية وضعف تأثيرها الى أن توقفت تماما.

4- مرحلة التراجع : بدأت هذه المرحلة بعد عام 1986 أى بعد توقف العمل المسلح كليا وبعد مرور سنوات على تراجع خطر الإخوان بدأ النظام بالإفراج عن الاف المعتقلين وعلى دفعات ومع ذلك ما يزال آخرون في سجون النظام دون أن يعرف عنهم شئ الى اليوم وتقول مصادر الإخوان في سوريا إن مجموع المفرج عنهم لا يتجاوز الـ20 % من مجموع من اعتقل ولا يدري أحد مصير الباقين حيث من المرجح أن أفواجا كبيرة منهم قد تم إعدامهم في ساحات السجون على دفعات كثيرة

الطليعة المقاتلة والإخوان

منذ منتصف الستينيات بدأت تتعالي في صفوفي جماعة الإخوان المسلمين في سوريا طروحات المواجهة مع النظام عبر العنف لا سيما خارج دمشق وعلى الرغم من أجواء الجماعة الحانقة بشدة على النظام , الا أن قراها كان عدم الانجاز في مواجهة عسكرية مع النظام الذي لم يرق لعدد من الإخوان فانفصل بعضهم وفصل البعض الآخر ومن هؤلاء تشكلت نواة ما عرف لاحقا باسم " الطليعة المقاتلة " بقيادة مروان حديد والتي أصبحت تنظيما سريا عام 1975.

لم يتعامل النظام في سوريا مع الطليعة القاتلة على أنها جسم منفصل عن الإخوان المسلمين فحجته كانت أن الكثير من الإخوان يتعاطفون مع التنظيم ويدعمونه حتى إذ نجح تبنته القيادة وفي الحقيقة فإن ثمة في النظام من رأي مصلحة في تحميل جماعة الإخوان المسلمين في سوريا تبعة أعمال الطليعة المقاتلة تسهيلا لعزلها لا سيما في المراحل الأخيرة من الصراع بينما كان البعض يميل الى عزل الطليعة المقاتلة عن الإخوان واستيعاب بقية الإخوان ولكن يبدو أن التيار الأول هو الذي ساد ربما بسبب انسياق جماعة نفسها في المواجهة .

ثمة شواهد كثية على أن الطليعة المقاتلة لم تكن على علاقة تنظيمية بالإخوان المسلمين في سوريا فلقد نفت الجماعة على الدوام علاقتها بالطليعة المقاتلة وقد أصدرت بيانا واضحا تستنكر فيها حادثة مدرسة المدفعية كما أصدرت تعميما داخليا يحظر على الإخوان التعاون مع جماعة مروان حديد كما كانت تعرف إضافة الى أن حسني عابو, الرجل الثاني في الطليعة المقاتلة اعترف تلفزيونيا بعد اعتقاله بأن نائب المراقب العام أمين يكن قد رفض رفضا قاطعا طروحات الطليعة بعد عرضها عليه في حلب عام 1976 بعد صدور عفو عام عنه .

وتستدل جماعة الإخوان المسلمين في سوريا أيضا بتصريحات لرئيس فرع أمن الدولة في حلب العقيد علي سعد الدين في لقاء لقادة أجهزة الأمن مع مشايخ وعلماء في حلب عقب حادثة المدفعية في تموز 1979 وقال فيه إن الإخوان المسلمين لا علاقة لهم بحادثة المدفعية ولا بأحداث العنف التي كانت تدور رحاها في تلك الأيام.

كما يستدلون بما قاله حافظ الأسد نفسه في خطابه يوم 8/3/1980

الذي سطره السفير الهولندي في القاهرة فإن دام في كتابه " الصراع علي السلطة في سوريا " والذي قال فيه الأسد : " الإخوان المسلمون في سوريا ليسوا جميعا مع القتلة بل كثير منهم , القسم الأكبر منهم ضد القتلة ويدين القتل وهذا القسم يري انه يجب أن يعمل من أجل الدين ورفع شأن الدين لا من أجل أى هدف آخر هؤلاء أيها الشباب لا خلاف لنا معهم إطلاقا .

من جهة أخري فإن منشورات الطليعة المقاتلة حينها كانت مليئة بالنقد والتهجم على جماعة الإخوان نفسها كما أن كتاب الثورة الإسلامية الجهادية في سوريا تاليف عمر عبد الحكيم وهو من تنظيم الطليعة المقاتلة فيه الكثير من شتائم الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين.

الطليعة المقاتلة والنظام

اتسمت علاقة تنظيم الطليعة المقاتلة بنظام البعث القائم في سوريا بكثير من الحدة والعنف فقد قامت الطليعة المقاتلة أساس كرد على النظام ووجهت ضربات كثيرة له , لا سيما في المناطق التي تمتلك فيها تأييدا شعبيا كحلب وحماة حيث كان مقاتلوا الطليعة يوزعون محلتهم النذير علنا وكانوا يتجولون بأسلحتهم أحيانا ويهدرون دماء المنتمين الى حزب البعث ما لم يتبرأ منه أمام الناس ورغم أن النظام كان يخوض المواجهة مع عناصر الطليعة مستخدما الجيش والمخابرات , الا أن تعاطف الناس كان يحول دون القضاء عليهم.

وفي أواخر عام 1979 , حاول القيادي السابق في جماعة الإخوان المسلمين في سوريا أمين يكن التفاوض مع السلطة لإنهاء الاشتباك معها وقد نجح في ذلك لكن لتهدئة لم تستمر أكثر من أربعة أشهر تقريبا .

في شهر آذار/ مارس 1980 جرد النظام حملة " تمشيط " واسعة على مدينة حماة فعزلها كليا عن العالم وفتش بيوتها بيتا بيتا على مدي أسبوع تقريبا بحثا عن السلاح وعن أسماء أعضاء من الطليعة المقاتلة لكن ذلك لم يقض على تنظيم الطليعة المقاتلة إذ كان مقاتلوا الطليعة يخرجون من بيوتهم ويدخلون بيوت الناس الآخرين للاختباء فيقابلون بالترحاب لذا فقد لجأت السلطات بعد ذلك الى عقوبات جماعية للناس في حماة وحلب ارتكبوا خلالها مذابح ما اضطر الأهالي للابتعاد عن عناصر الطليعة المقاتلة وتاليا تمكنت السلطة من الفتك بهم.

حادثة المدفعية

شنت الطليعة المقاتلة أكبر هجوم لها بتاريخ 16 حزيران / يونيو 1969 مستهدفة مدرسة المدفعية في حلب وقد قتلت في الهجوم 32 شخصا من طلاب الضباط العلويين واتهم وزير الداخلية السوري حينها عدنان دباغ في بيان رسمي صدر بتاريخ 22 حزيران / يونيو 1979 الإخوان المسلمين في سوريا – وليس الطليعة المقاتلة – بالتورط في هذه العملية حيث جاء في لبيان وكانت آخر جريمة لهم تلك التي حدثت في مدرسة المدفعية في حلب لقد تمكنوا من شراء عنصر من عناصر القوات المسلحة هو النقيب إبراهيم يوسف من مواليد تادف واستخدموا وجوده في المدرسة ونفوذه في يوم كان فيه الضباط المناوب في المدرسة واستطاع مساء يوم السبت الواقع في السادس عشر من هذا الشهر أن يدخل الى المدرسة عدد من المجرمين من جماعة الإخوان المسلمين ويدعو الطلاب الضباط الى اجتماع عاجل يعقد في الندوة وعندما هرعوا من مهاجعهم تنفيذا لأمره وأصبحوا في قاعة الندوة الطلابية أمر أعوانه من المجرمين الذين أدخلهم من خارج المدرسة بفتح النار على الطلاب الشباب العزل في القاعة المغلقة وذلك بالرشاشات والقنابل اليدوية وسقط خلال دقائق معدودات اثنان وثلاثون شهيدا وأربعة وخمسون جريحا ".

نفت جماعة الإخوان المسلمين في سوريا أى علم أوصلة لها بالعملية في بيان وزعته بتاريخ 24/ 6/ 1979 م بعنوان " بيان من الإخوان المسلمين للواقع والتاريخ حول حادثة مدرسة المدفعية بحلب " جاء فيه " إن الإخوان المسلمين فوجئوا كما فوجئ غيرهم بالحملة التي شنها عليهم عدنان دباغ وزير الداخلية السوري متهما إياهم بالعمالة والخيانة وغير ذلك ومحملا إياهم مسؤولية أمور هو أكث الناس دراية أنهم براء منها لقد حملهم مسؤولية المذبحة التي حدثت في مدرسة المدفعية كما حملهم مسؤولية الاغتيالات التي جرت ولا زالت تجري في سوريا .

رد النظام على العملية باعتقال حوالي 6000 من المنتمين الى جماعة الإخوان المسلمين كما سارعت محكمة أمن الدولة العليا الى إصدار حكم على 15 شخصا اعتقل بعضهم العام 1977 وأعدموا في 27/6/1979. واتبع ذلك بمجزرة رهيبة في سجن تدمر راح ضحيتها المئات من المعتقلين السياسيين الإسلاميين .

ومما يذكر أيضا في هذا السياق أن النظام السوري كان قد ربط بين هذه العملية وبين صراعات سوريا الخارجية حيث اعتبر أن العملية مدعومة من نظام الرئيس المصري أنور السادات والمعارضة الخارجية لسوريا بسبب رفض النظم السوري التوقيع على اتفاقية سلام مع الكيان الصهيوني على غرار ما فعل السادات .

أبرز حملات النظام السوري ضد الإخوان

جسر الشغور : وقعت تلك الحملة بتاريخ 10 /3 / 1980 , وقد قتل فيها ما يزيد عن ستين مواطنا على يد الوحدات الخاصة وسرايا الدفاع وجرح في تلك المجزرة أكثر من 20 مواطنا آخر اعتقل ما لا يقل عن مائة شخص وهدم أكثر من 15 منزلا وأكثر من 40 محلا تجاريا .

حماه الأولى : وقعت تلك الحملة في الفترة ما بين 5 – 12 /4/ 1980 واستهدفت مدينة حماة التي قطعت عن العالم الخارجي وفتشت بيتا بيتا قتل خلال العملية العشرات واعتقل المئات .

سجن تدمر : نفذت تلك الحملة في 27 حزيران / يونيو 1980 ردا على الهجوم على مدرسة لمدفعية وقد ذهب ضحيتها 1181 من المعتقلين السياسيين الإسلاميين وفق منظمة مراقبة حقوق الإنسان في سوريا والمسؤول عن المجزرة هو رفعت الأسد الأخ الأصغر للرئيس حافظ الأسد وقائد سرايا الدفاع التي تأسست عام 1971 لحماية المؤسسات والأبنية الحكومية من انقلابات محتملة أما القائد الميداني لها فهو صهر رفعت الأسد الرائد معين ناصيف .

وحسب رواية بعض منفذي المجزرة الذين وقعوا في قبضة الحكومة الأردنية بعد محاولة اغتيال فاشلة لرئيس وزراء الأردن عام 1981 فإنه طلب من جنود سرايا الدفاع في حدود الساعة الثالثة فجرا الاجتماع بلباس الميدان الكامل وبعد ذلك توجهت 12 طائرة مروحية من مطار المزة قرب دمشق , الى سجن تدمر نقل كل واحدة منها 30 عنصرا من سرايا الدفاع , وقد طوقت السجن وأخرجت الحرس منه ثم فتحت النار على المعتقلين دون أدني كلام أو إنذار مسبق وقد استخدم جنود سرايا الدفاع القنابل اليدوية في الإجهاز على المعتقلين وبعد ذلك أخذوا بتقليب الجثث والقضاء على من وجدوا فيه بقية رمق وبعد الفراغ من المذبحة عاد منفذوها الى مطار المزة بتمام الساعة الثانية والنصف وانصرفت كل مجموعة الى لوائها وفي اليوم التالي كوفئ جميع العناصر الذين اشتركوا في المجزرة بمائتي ليرة سورية .

كان أحد مجندي الجيش حينها يعمل طباعا على الالة الكاتبة في قيادة الأركان بدمشق وقد وردته قائمة أسماء 813 ضحية قتلوا في سجن تدمر ليطبعها ونقل هذا الأخير الخبر لبعض أصدقائه واستأمن احدهم على نسخة من الأسماء ولكن يبدو أن الخبر انتشر وعرف أنه المصدر فحكمت عليه محاكمة ميدانية بالإعدام ونفذ فيه الحكم فكان الضحية 814 في هذه المجزرة.

وينقل محمد سليم حماد في مذكراته أنه التقي بسجين من معارضي البعث من حماة فقص عليه هذا السجين البعثي أنه كان في زمن المجزرة في سجن تدمر وأنه فصل وبعض البعثيين العراقيين من المنشقين على النظام العراقي في جناح خاص بعيدا عن السجناء الإسلاميين ويروي أنهم سمعوا في صبيحة اليوم التالي أصوات طائرات مروحية تحلق فوق المهاجع وتنزل في مكان قريب ولم تمض برهة حتى بدأوا يسمعون أصوات الرصاص وانفجارات القنابل وأصوات التكبير في الباحات المجاورة ثم لم تلبث أن هدأت الأصوات وغادرت المروحيات .

دفنت جثث ضحايا المجزرة في مقابر جماعية في أدي عويضة على بعد اثني عشر كيلوا مترا شمال شرق تدمر وقد أثير موضوع المذابح الجماعية في تدمر مجددا عام 2001 بعدما أعلن الناشط في حقوق الإنسان نزار نيوفي في مؤتمر صحفي في باريس أنه قام بفتح بعض هذه المقابر قبيل اعتقاله في عام 1991 ووجد فيها كميات من العظام تبدو عليها آثار الطلقات النارية وبقايا شظايا القنابل اليدوية التي القيت على المعتقلين وقد ذكر نيوفي حينها أن الأجهزة الأمنية المعنية بهذه الجرائم أعطت أوامر بنقل هذه المقابر الى منطقة أخري بعد إثارتها إعلاميا .

لم تتوقف المجزرة بعد ذلك بل استمرت متقطعة حيث كان يعدم مساجين أو يموتون نتيجة ظروفي السجن أسبوعيا يقول محمد سليم حماد " في احد أيام عام 1984 المريرة شهدنا إحدى أكبر عمليات الإعدام الجماعي , إن لم تكن أكبها على الإطلاق فبعد انقطاع تنفيذ الأحكام عدة أشهر في تلك الفترة فوجئنا بالمشانق تنصب ذات يوم بأعداد كبيرة وراح الزبانية يخرجون من الإخوة المعتقلين فوجا إثر فوج لقوا حتفهم يومها وقدر الإخوة الذين تمكنوا من مشاهدة جانب مما يجري من خلال شق في الباب عدد الذين أعدموا بمائتين من غير مبالغة.

وفي آب / أغسطس 2001 وبعد وصول الرئيس بشار الأسد إلى سدة الحكم في سوريا أعلن النظام عن إغلاق القسم السياسي في سجن منه هم كل من بقي على قيد الحياة .

حي المشارقة حلب : وقعت تلك الحملة صباح عيد الفطر في 11 / 8/ 1980 حيث قتلت قوات النظام بقيادة العميد شفيق فياض حوالي مائة مواطن من حلب دفنتهم الجرافات في مقبرة " هنانو " بعضهم كان ما زال جريحا لم يفارق الحياة .

حماه الكبرى ( الثانية ) : راح ضحية تلك الحملة أكثر من عشرة الاف سوري عندما حوصرت المدينة وقصفت براجمات الصواريخ وبمدفعية الميدان بقيادة العميد رفعت الأسد والعميد علي حيدر ) علويان ) وذلك في شباط / فبراير من عام 1982 .

مروان حديد / نبذة تعريفية

ولد مروان حديد في مدينة حماه عام 1934 لأبوين مسلمين محافظين مروان كان الرابع من خمسة أشقاء وله أربع أخوات درس في مدارس حماه الابتدائية والإعدادية والثانوية وحصل على الثانوية العامة الفرع العلمي عام 1955 وتسجل في كلية الزراعة في جامعة عين شمس 1956 في مصر وتخرج منها في 1964 وفي هذه الفترة التقي مروان بتلاميذ الإمام حسن البنا وتعرف على سيد قطب وإخوانه وقد اعتقل بسبب ذلك أكثر من مرة في مصر وعندما عاد الى سوريا التحق بجامعة دمشق – قسم الفلسفة وحصل على البكالوريوس عام 1970

نشأ مروان في بيئة حزبية اشتراكية أما عن سبب انتمائه الى جماعة الإخوان المسلمين فيقول مروان نفسه لقد كنت اشتراكيا بدافع البيئة التي أعيشها بين أشقائي وبدافع من واقع الأمة المرير الذي يبحث عن طريق للخلاص من الاستبداد المسلط على الإنسان البسيط وفي يوم من الأيام دخلت البيت وإذ بأخي الكبير أحمد يقول : قتل اليوم أخطر رجل على الأمة العربية , وكال لهذا الرجل الشتائم والسباب بأقذع العبارات المعروفة فقلت له : من هو هذا الرجل , فقال : حسن البنا شيخ الإخوان في مصر , فوقع هذا الخبر وقع الصاعقة في نفسي وثارت في نفسي تساؤلات كثيرة عن طبيعة هذا الرجل وفكره ودوره الذي أخاف هؤلاء القوم وكان وجوده خطرا على الأمة العربية فقررت البحث عن أجوبة لهذه التساؤلات وتتبعت الخبر أولا من الراديو وتيقنته ثم بحثت عن كتبه فقرأت من رسائله ما أمكنني يومها أن أطلع عليه وسألت عنه من يعرفه لأسمع منهم ما يعرفونه عنه وكان بعدها بفضل الله ورحمته التحول من العمالة الى الهدي ومن الضلال الى الرشاد ومن الجندية للباطل الى الجندية للحق .

صار مروان زاهدا في الدنيا مستغرقا في الآخرة كثير الصلاة والخلوات مساهما في أعمال البر في المجتمع الى جانب الدعوة والتربية وقد ربطته علاقة خاصة بالشيخ سعيد حوى لا سيما أثناء العمل على كسب التأييد للدكتور مصطفى السباعي مراقب الجماعة ومرشحها للانتخابات .

بعد انقلاب 1963 الذي جاء بحزب البعث الى السلطة أخذ مروان يدعو الناس ويحذرهم من البعث وحكمه وبوصفه مسؤولا عن قطاع الطلاب في جماعة الإخوان المسلمين في سوريا كان يقود الطلاب في احتجاجاتهم على البعث فاعتقل وحكم عليه بالسجن لمدة عام.

وفي العام 1964 ثارت حماه على البعث وأضربت المدينة لمدة 29 يوما وقد حاولت السلطة في بداية الأمر اعتقال بعض الطلاب , فاعتصم هؤلاء ومعهم عدد من الأهالي في مسجد السلطان في حماة بقيادة مروان حديد فأمر محافظ المدينة آنذاك , عبد الحليم خدام , بإنزال الجيش الى الشوارع واقتحام مسجد السلطان ووقعت معركة اعتقل على إثرها مروان حديد وقد حكم عليه بالإعدام في محكمة صورية برئاسة المقدم مصطفى طلاس لكن الحكم لم ينفذ وأطلق سراح مروان المسجونين بعدما تدخل الشيخ محمد الحامد وعلماء حماه عند رئيس الجمهورية أمين الحافظ آنذاك لكن وقائع المحاكمة بين مروان حديد وقاضيه العسكري انتشرت بين الناس بشدة بعد ذلك إذ كانت شخصية مروان أقوي من سلطة القاضي لدرجة أن مروان هو الذي كان يبادر الى اتهام القاضي وليس العكس .

كانت هزيمة لعام 1967 مناسبة كبيرة لدفع العديد من الشباب للمشاركة وللتدريب على القتال والسلاح وقد استفاد مروان حديد من هذه الأجواء وخلال أحداث إقرار الدستور عام 1973 فر مروان من وجه السلطة وتنقل بين عدة بيوت لمدة سنتين ونصف تقريبا وفي صبيحة يوم 30 حزيران / يونيو 1975 اعتقل مروان بعدما أصيب بكتفه تعرض مروان لتعذيب شديد وبالرغم من قوة بنيته الا أنه صار قبيل وفاته تحت التعذيب الجسدي والنفسي أقرب الى الهيكل العظمي وقد ساءت حالته الصحية بشدة وأسلم الروح في سجن المزة العسكري في حزيران / يونيو 1976 ولم تسمح السلطة لأهله بدفنه في حماه فدفن في دمشق في مقبرة الباب الصغير تحت حراسة الأمن المشددة.

وعلى الرغم من إصرار جماعة الإخوان المسلمين في سوريا نفي علاقتها بمروان حديد وجماعته الا أنه من الواضح أن كثيرا من عناصر وقيادات جماعة الإخوان المسلمين كانوا ينظرون الى مروان باحترام وتقدير شديدين فهذا سعيد حوى , أحد أكبر قيادات الإخوان على سبيل المثال يصف مروان حديد عام 1982 بالقول " لقد كان ولازال وسيبقي أسطورة, يفتخر بالنسبة اليه محبوه , ويدعي النسبة شامتوه ومبغضوه ومنتقدوه ومتى رأت إنسانا هذا حاله فاعلم أنه قد تجاوز حد الرجل العادي لقد كان مروان أمة واحدة "

مروان حديد الشاعر

لم يكن مروان حديد شاعرا في بداية حياته لكنه كان يطرب للشعر ويتأثر به ولعل المآسي الكثيرة التي تعرض لها كانت الدفاع الأساسي لتفتق أريحيته الشعرية.

انطلق مروان في شعره من رؤية دعوية جهادية وأغلب نظمه يدخل في ما يعف بشعر المحنة وتكمن أهمية شعره – والذي تحول جزء كبير منه الى أناشيد خالدة لدي أجيال الإسلاميين في العالم أنه يسلط الضوء على مرحلة هامة من مراحل تاريخ جماعة الإخوان المسلمين في سوريا وهي مرحلة مواجهتها السلطة ففي قصيدة دعا فيها الى إعلان الجهاد قال مروان :

نهضت وحيدا حملت السلاح

وأيقظت شعبي بطعن الرماح

وعاهدت ربي ببدء الكفاح

وصوت الرصاص ونزف الجراح

وتقرب قصائد الجهاد في ديوان مروان حديد من النصف ومن أشهرها قصائد " المجاهد " و " المقاتل المسلم " وأعلنت الجهاد " وفرسان الحق " وطريق الحق " و " وأنشودة القتال " و " وأخلاق المجاهد " وغيرها كثير .

ويرتبط شعر مروان السياسي بأيديولوجية الحركية أيضا فيقول بعد احتلال ما تبقي من فلسطين عام 1967:

فلسطين ضاعت وأنتم نيام

ومات الضمير وحل السلام

ولذتم بصمت فيا للطغاة

تباع البلاد ويخشي الكلام

أما الجانب الاجتماعي في شعره فكان مركزا على نقض ما آلت إليه المجتمعات الإسلامية خلقيا وكان مروان يرى أن النصر العسكري منوط أولا بالنصر الاجتماعي في السلوك والأخلاق والمعتقد وله قصائد وأبيات تنطلق بالحكمة ومنها قوله في مستهل قصيدة بعنوان " بين الجنة والنار "

وجود الناس ما فيه اختيار

ولا يرجي لدنيانا دوام

ودنيانا ابتلاء واختبار

ومن موت فلا يجدي فرار

ولعل من أجمل ما نظمه مروان في أدب المحنة قصيدته الشهيرة :

لا تحزنوا يا إخوتي إن شهيد المحنة

يا فرحتي بمنيتي اليوم أنهي غربتي

وكرامتي بشهادتي هي فرحتي ومسرتي

وفي قصيدته وافرحتا زف الشهيد يقول :

الحور تهتف بهجة زف الشهيد

والحور تأبي أن تزف إلى البليد

وجنان عدن لا ينال رحابها

الا شهيد طاب مسعاه الحميد

ومن قصائده في مهاجمة حزب البعث في سوريا :

اقتلوني مزقوني أغرقوني في دمائي .

لن تعيشوا فوق أرضي لن تطيروا في سمائي

أنتم رجس وفسق أنتم سر البلاء

أنتم كفر وغدر نهجكم حجب الضياء

حزبكم أضحي غثاء أو قريبا من غثاء

حزبكم أمسي كريها ريحه كالخنفساء

مرحلة ما بعد مروان حديد

بعد اعتقال مروان حديد ووفاته في المعتقل أكمل عبد الستار الزعيم نهجه وقد أسس تنظيما عسكريا سريا أسماه الطليعة المقاتلة وقد ركز في عمله السري على استهداف ضباط المخابرات انتقاما لوفاة الشيخ مروان حديد تحت التعذيب في المعتقل

والى جانب الزعيم نشط حسني عابو , الذي اعتبر الرجل الثاني في التنظيم في هذه الفترة كما نشط عدنان عقلة العقل المدبر للهجوم على مدرسة المدفعية وعدنان عقلة من مواليد 1953 مهندس معمار من سكان مدينة حلب , وتنحدر عائلته من جنوب سوريا فصل من جماعة الإخوان المسلمين عام 1974 بسبب آرائه في المواجهة المسلحة مع السلطة في سوريا .

يروي شاهد عيان حضر لقاء بين القيادي الإخواني الشيخ عبد الله ناصح علوان وبين القيادي في الطليعة المقاتلة حسني عابو بحضور عدنان عقلة وذلك في حلب ربيع عام 1979 أن علوان كان يجهد عبثا في محاولة إقناع عابو وعقلة الكف عن مقاتلة النظام وقد كان جواب عقلة " نحن لن نسلم رقابنا للنظام يفعل فينا ما يشاء من دون مقاومة , كما هو ديدن إخواننا في مصر " لقد شكلت هذه المقولة فلسفة شباب الطليعة وخصوصا عدنان عقلة والذي آلت إليه قيادة العمل المسلح في حلب وحماة بعد اعتقال حسني عابو ومن ثم إعدامه بعد عدة شهور من هذا اللقاء وكان عبد الستار الزعيم قد وقع في كمين وقتل أيضا أوائل عام 1980 .

إخوان سوريا : قراءة تحليلية

من الواضح أن منهج الإخوان المسلمين في سوريا لم يكن يحبذ العنف فهو نشأ من رحم العمل الخيري وكان همه إصلاح المجتمع وفق منهج الإمام حسن البنا الذي كان يري الطريق الأبعد عن العنف هو الطريق الأسلم للتمكين لكن هذا المسار الهادئ قوطع بتحديات عديدة أوصلته الى مواجهة حتمية مع النظام البعثي في سوريا فلقد ظهرت على هامش الجماعة أفكار متباينة عبرت عن نفسها بظهور " حزب التحرير " وثم ظهور جماعات المواجهة مع الآخر باعتباره كفر وذلك بالاستناد الى أفكار سيد قطب .

كما تأثرت الجماعة بالنكبات التي أصيب بها إخوانهم في مصر الأمر الذي جعلهم أقرب الى مبادرة النظام القائم في سوريا بالعداء ولربما كان الصدام مع هذا النظام الذي يحمل أفكارا قومية اشتراكية يسارية نوعا من الانتقام لما كان يجري في أقطار عربية أخري ولا سيما مصر وتعتبر مقولة عدنان عقلة " نحن لن نسلم رقابنا للنظام يفعل فينا ما يشاء من دون مقاومة كما هو ديدن إخواننا في مصر " عنوانا لهذا التفكير الذي سيطر على عقول الكثير من منتسبي جماعة الإخوان المسلمين حينها .

ومن البديهي القول إن قسوة نظام البعث في التعامل مع الجماعة وعدم تمييزه الطليعة المقاتلة من جهة والجماعة نفسها من جهة أخري قد أسهم الى حد بعيد في تحول الجماعة نحو العنف كما أن الهزائم التي منيت بها الأمة العربية من خلال الأنظمة القومية والإشتراكية كرست حالة المفاصلة بين الإسلاميين والقوميين لا سيما بعد ما لاقاه الإسلاميين من قبل القوميين في أكثر من بلد عربي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي .

لقد أدت كل هذه العوامل مجتمعة الى تحول الجماعة نحو التشدد في أفكارها فعلي سبيل المثال , كان كتاب " اشتراكية الإسلام " لمؤسس الجماعة الدكتور مصطفى السباعي أحد الكتب المحترمة في " حلقات " و "أسر " الإخوان في سوريا لكن في أواخر الستينيات من القرن الماضي أصبح ينصح بعدم قراءته كما أن كتاب " دعاة لا قضاة " للمرشد العام الثاني للإخوان حسن الهضيبي كان يتم تجاهله في مناهج التثقيف الإخوانية مع أن الإخوان في مصر كانوا يعدون هذا الكتاب الفيصل في استمرار علاقتهم بالمنتمين الى الجماعة .

وبتتبع الخطاب الإخواني في الفترة ما قبل المواجهة مع النظام وخلالها ثمة بون كبير ولعل خطاب الدكتور مصطفى السباعي يمثل المرحلة الأولي بينما صار خطاب الشيخ سعيد حوى في السبعينيات هو الممثل للتوجهات الجديدة للجماعة .

سيكون من الظلم التحميل الجماعة مسؤولية ما آلت إليه الحال بعد المواجهة مع النظام فثمة عوامل كثيرة كانت تدفعها إلى تلك المواجهة الخطيرة لكن النظرة الموضوعية للأمور لا تعفي الجماعة من مسؤولية ما في ذلك الصراع فهي انساقت وراء أفكار حركية لم تعد هي نفسها تطرحها اليوم فضلا عن أنها لم ترسم لنفسها مسارا مبنيا على تقدير دقيق لمعطيات الواقع وتوقعات المستقبل .

ويمكن القول إن جماعة الإخوان لمسلمين في سوريا تتحلي اليوم بقدر أكبر من النضج السياسي بعد التجربة المريرة التي مرت بها فأطروحاتها باتت أكثر تقبلا للآخر وأكثر انسجاما مع فترة الأربعينيات ولكن مع طرح سياسي وفكري أعمق مما يجعل طروحاتها قادرة , لو أتيح لها مخاطبة الشارع السوري بحرية من جديد.. أن تجتذب الناس حولها لا سيما أن تجربة نظام البعث في سوريا ليست مشجعة للكثير من المغلوب على أمرهم في سوريا اليوم.

لعل من الأمور التي باتت محسومة في طروحات الجماعة اليوم رفضها العنف مهما كانت الظروف والرغبة في قبول التعددية السياسية وتداول السلطة وهي تطرح اليوم برنامجا مقبولا من الكثير من الحركات المعارضة بغض النظر عن خلفياتها الفكرية كما أن مشروعها السياسي يحتوي على منطلقات فكرية " متطورة " قائم على مفهوم المواطنة وينظر الى سوريا على أنها قطر مواجهة , عربي , إسلامي , "بلدا ذا هوية عربية إسلامية .. ينعم فيها الجميع بظل شريعة الله عزوجل , من خلال رضي الناس واختيارهم .. وتتحقق فيها الوحدة الوطنية وينبذ التعصب الطائفي وتتعايش فيها مختلف الديانات والمذاهب والأعراق ضمن إطار المصلحة العليا للوطن .. يؤمن بالحق في الممارسة السياسية وتشكيل الأحزاب في إطار دستور البلاد ويكون الاقتراع الحر النزيه أساسا لتداول السلطة دون تسلط أو إراقة دماء .. بلدا ينتهي فيه الصراع بين التيارات الإسلامية والقومية ويتنافس فيه الجميع لما فيه مصلحة الوطن وتثبيت هويته العربية والإسلامية بلدا يتساوي فيه الجميع أمام القانون .... النساء فيه شقائق الرجال .

منهجية وممارسة " الطليعة المقاتلة "

لقد اظهر تنظيم الطليعة المقاتلة ,عمق الأمة التي أصابت الحركة الإسلامية في سوريا , بعد سيطرة نظام البعث على الحكم وفشل جماعة الإخوان المسلمين في إيجاد الطريقة الملائمة في التعامل مع هذا النظام سواء بالمواجهة أم بالانحناء للعاصفة ولعل ما أصاب الإخوان في سوريا شبيه بما أصاب إخوانهم في مصر , وإذا كانت " الجماعة الإسلامية في مصر وأخواتها من التنظيمات العنفية وقد شكلت التنظيمات الرافضة للمنهج السلمي في التغيير فقد شكلت " الطليعة المقاتلة " في سوريا هذه الفئة .

هذا من حيث المبدأ لكن ثمة أخطاء إضافية وقعت فيها الطليعة المقاتلة فهي تجاوزت حدود مواجهة النظام بالثورة المسلحة الى حدود تكفير أو تضليل كل خالفيها بمن فيهم الإخوان المسلمين في سوريا لدرجة أن عدنان عقلة احد قادة الطليعة توصل الى الحكم بتكفير " الإخوان المسلمين " و " الجبهة الإسلامية " بدعوي أنهم لا يكفرون أعضاء حزب البعث .

كما أن الطليعة المقاتلة قامت باغتيالات طاولت شخصيات لا يمكن أن تحسب على النظام بالكامل مثل اغتيال الدكتور محمد الفاضل رئيس جامعة دمشق وهو نفسه الذي رثي مصطفى السباعي بمرثية من أكثر المرثيات وفاءا واحتراما للسباعي فضلا عن أن خطاب الطليعة المقاتلة لم يخل من استعداء العلويين ( النصيريين ) جملة وبلا أى تفريق وعلى الصعيد الميداني لم يكن ثمة خطة إستراتجية لمقاتلي الطليعة وكان الوعي الشرعي والسياسي غير كاف ولم يكن لديهم أدوات إعلامية فاعلة تحركوا في العاصمة بأدوات من غير أبنائها كما أنهم اعتمدوا في إمدادهم على دعم نظام البعث العراقي الأمر الذي جعلهم في مصاف الخونة بالنسبة لبعثيي سوريا .

لقد بات من المؤكد بحكم قراءة تاريخ هذه المرحلة أن الكثير من عمليات الطليعة المقاتلة ولا سيما محاولة اغتيال الرئيس حافظ الأسد مرتين وعملية تفجير مجلس الوزراء وعملية مدرسة المدفعية قد انعكست سلبا على مظلومية الإخوان وتعاطف الناس معهم ما سهل الانقضاض على الجماعة وتحطيمها وأحبط أى رهان على الضباط والرتباء السنة في الجيش السوري .

ملحق القانون 49 لعام 1980

أحال رئيس الجمهورية حافظ الأسد في 21 / 6/ 1980 الى مجلس الشعب السوري مشروع قانون بتشديد عقوبة الانتساب الى جماعة الإخوان المسلمين وتخفيض عقوبة من يسلم نفسه من هؤلاء.

وجرت مناقشة مشروع القانون في مجلس الشعب برئاسة محمود حديد وجري التصويت برفع الأيدي بالأكثرية وفي ما يلي نص القانون .

أقر مجلس لشعب القانون التالي :

المادة 1: يعتبر مجرما ويعاقب بالإعدام كل منتسب لتنظيم جماعة الإخوان المسلمين .

المادة 2 :

أ- يعفى من العقوبة الواردة في هذا القانون أو أي قانون آخر كل منتسب إلى هذه الجماعة إذا أعلن انسحابه منها خلال شهر واحد من تاريخ نفاذ هذا القانون .

ب- يتم إعلان الانسحاب بموجب تصريح خطي يقدم شخصيا إلى المحافظ أو السفير لمن هم خارج القطر بتاريخ صدور هذا القانون .

المادة 3: تخفض عقوبة الجرائم الجنائية التي ارتكبها المنتسب الى تنظيم جماعة الإخوان المسلمين قبل نفاذ هذا القانون تحقيقا لأهداف هذه الجماعة إذا سلم نفسه خلال شهر واحد من تاريخ نفاذ هذا القانون لمن هم داخل القطر وخلال شهرين لمن هم خارجه وفقا لما يلي :

أ‌- إذا كان الفعل يوجب الإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة أو الاعتقال المؤبد كانت العقوبة الأشغال الشاقة خمس سنوات على الأكثر.

ب‌- إذا كان الفعل يؤلف احدي الجنايات الأخرى كانت العقوبة الحبس من سنة الى ثلاث سنوات .

المادة 4: يعفي من عقوبة الجرائم الجنوحية المرتكبة قبل نفاذ هذا القانون تحقيقا لأهداف تنظيم جماعة الإخوان المسلمين كل منتسب الى هذه الجماعة إذا سلم نفسه خلال شهر واحد من تاريخ نفاذ هذا القانون لمن هم داخل القطر وخلال شهرين لمن هم خارجه.

المادة 5: لا يستفيد من التخفيض والعفو الواردين في هذا القانون الذين هم قيد التوقيف أو المحاكمة .

المادة 6 : ينشر هذا القانون في الجريدة الرسمية ويعمل به من تاريخ صدروه

قراءة في المشروع السياسي لإخوان سوريا: تحولات جزئية وعوائق بنيوية

علي الشريف

كانت فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي فترة مخاض عسير تعرض له تنظيم الإخوان المسلمين في مواجهاته مع النظام في سوريا والذي تورط جناح منه في العنف الطائفي والسياسي بشكل كبير مما دفع بالنظام السوري في عهد حافظ الأسد الى القيام بما يمكن اعتباره عملية اقتلاع بحق أنصاره وهو ما تأكد بصدور القانون رقم 49 لعام 1980 الذي يقضي بإعدام كل من ينتمي للإخوان المسلمين وقد اضطر من بقي من كوادر الجماعة للهجرة خارج البلاد بعدما اعتقل عشرات الالاف منهم وأعدم مثلهم بموجب هذا القانون.

قد لا يمكن اختزال مسار الإخوان المسلمين في سوريا بمرحلة الصدام مع النظام البعثي المتصاعد منذ سيطرة حافظ الأسد على السلطة عام 1970 – أو قبله بقليل – وهي المرحلة التي امتدت حتى نهاية الثمانينيات بصعود الفكر العنيف وحتمية المواجهة في صفوفي الإخوان وحدوث انشقاق كبير في صفوفهم كما خرجت عنهم بعض التنظيمات العنفية والجهادية بامتياز ككتائب محمد, ثم الطليعة المقاتلة التي أسسها مروان حديد ( 1934-1976 )

ما نود قوله إن الإخوان المسلمين مروا , قبل هذه المرحلة بفترة من العمل السياسي والسلمي من داخل النظام وعدم الخروج عليه منذ إقرار الديمقراطية في سوريا وقد شاركوا منذ العام 1949 في عدد من الانتخابات كما تولوا حقائب وزارية في بعض الحكومات , كانت رموزهم شأن الدكتور مصطفى السباعي والدكتور محمد المبارك – من رموز الجماعة مؤسسيها قريبين ومشاركين لمختلف القوي السياسي وبخاصة الإشتراكية في كثير من النشاطات السياسية داخل سوريا ولم يتم الصدام والاستقطاب الطائفي بوضوح الا مع صعود البعث لسدة الحكم على يد صلاح حديد وحافظ الأسد فضلا عن العداء النظري القديم بين القوميين والإسلاميين .

من هذه المراحل مجتمعة ومن التطورات والسياقات النظرية والعملية التي تطور فيها تنظيم الإخوان المسلمين في سوريا وبعد ما يقرب من الثلاثة عقود في المهجر خرج برنامجهم السياسي لسوريا المستقبل الذي نقرأه في هذه الدراسة.

المشروع والمنهجي الوسطي

بعد أن استقر بهم الحال خارج سوريا أعاد الإخوان السوريون النظر في كل ما مر بهم خلال أكثر من عقدين في حركة نقدية داخلية في النواحي التي أصاب فيها الإخوان أو أخطئوا وكانت هذه المراجعة كافية كي تضعهم في مستهل القرن الحادي والعشرين كقوة يحسب لها حسابها في أى إعادة لترتيب القوي في سوريا عند حدوث أى تغيير في الحكم مما يوحي بأن الإخوان المسلمين في سوريا قد استفادوا من فترة الصدام مع النظام في التأكيد على نوعين من المراجعات :

أولهما : المراجعة العملية البراغماتية إلى مستوي الممارسة السياسية وشبكة التحالفات والقطيعة وهو ما يعكس تعدد بل تناقض أحيانا تحالفات الجماعة سواء على مستوي الداخل السوري والعلاقة مع النظام أم على مستوي العلاقة بالمعارضة ف الخارج بل والموقف من الإصلاح الذي رحبت به من الخارج حتى ولو على ظهر دبابة تزيل استبداد نظام الأسد فترة ثم يبدو أنها عادت عن ذلك بعد فترة من التحالفات الجديدة .

ثانيهما : المرونة والانفتاح المرجعي على مستوي الفكر النظري فاندفعوا لمراجعة مواقفهم وحساباتهم وأتبعوا في ذلك خطابهم ونيل أى فرصة للمشاركة السياسية داخل سوريا هذا رغم فشل العديد من جهود الوساطة بينهم وبين النظام السوري ولعل في موقف الجماعة من الحكومة السورية في أزمة غزة الأخيرة أوائل عام 2009 وتأييد قيادة الجماعة للحكومة السورية ومواقفها دليل على براغماتية الجماعة وقد استتبع خروجها أو استقالتها من جبهة الخلاص الوطني بقيادة عبد الحليم خدام بعد ذلك في 4 أبريل / نيسان سنة 2009 بعد أن شاركت في تأسيسها عام 2009.

وقد جعلت هذه البراغماتية العملية والمرونة النظرية صورة الإخوان سلبية لدي العديد من فرقاء السياسية في سوريا متهمين للجماعة بفقدان البوصلة والبراغماتية الفجة فضلا عن عدم صراحة اعتذار الجماعة عن أخطائها التي ارتكبتها منذ فترة طويلة وكان التساؤل كيف يضحي المراقب العام لحركة الإخوان المسلمين بما يمكن تسميته " سنوات الاندماج في الحركة الوطنية الديمقراطية السورية من أجل تحالف " ضد الطبيعة " مع أحد مهندسي سياسة استئصال الإخوان المسلمين في سوريا والمسئول بشكل مباشر أو غير مباشر عن ملفات أساسية للفساد والاستبداد في اجتماع ليس فيه من كلمة الجبهة الا الاسم كونه لم ينجح في استقطاب أى رمز من رموز المعارضة وأية قوة من وقاها السياسية والمدنية الفاعلة ويستدعون من الذاكرة تحالف قيادات الخارج مع النظام العراقي الصدامي السابق وكذلك مع النظام الأردني أثناء مرحلة الصدام ونكاية هذه الأنظمة في نظام الأسد.

من هنا لاقي صدور المشروع السياسي لسوريا المستقبل سنة 2004 والذي جسدت فيه جماعة الإخوان المسلمين في سوريا رؤيتها السياسية والمستقبلية لسوريا لغد ردود أفعال عديد , إيجابية وسلبية على السواء وقد تركزت الردود الإيجابية من قبل العديد من المتابعين والمحللين في العالم العربي والإسلامي ليس فقط داخل الإسلاميين من أمثال الشيخ يوسف القرضاوي , والشيخ الدكتور عبد الكريم زيدان , والشيخ فيصل مولوي, وأبو جره السلطاني زعيم حمس الجزائرية ( الإخوان المسلمين في الجزائر ) وقد صدرت النسخة المطبوعة من المشروع مذيلة بتقاريظهم, التي اعتبرته مشروعا حضاريا يعتمد المنهج الوسطي الذي لا يصلح للأمة ولا يصلح الأمة غيره وهو منهج الداعية الفقيه المجدد مؤسس الحركة الإسلامية في سوريا الشيخ الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله بل هو منهج الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله حسب تعبيرات الشيخ القرضاوي .

كما أتت ردود فعل مختلفة من قبل العديد من ممثلي التيارات الفكرية الأخرى فقد رأي فيه السيد يس مشروعا إسلاميا في صياغة ليبرالية داعيا جماعات الإسلام السياسي الأخرى وخاصة في مصر أن تحذوه حذوه خاصة أنه احتوي على العديد من الأطروحات التجديدية سواء في ما يخص مفهوم الشريعة كمرجعية أو تصور التجديد الديني أو لعلاقة بالعالم الخارجي ودوائر الانتماء المختلفة وطنيا وإقليميا ودوليا وعلى الرغم من أن دراماتيكية صراعها مع النظام السوري أكبر من قرينتها المصرية في صراعها مع النظام الناصري فقد تورطت جماعة الإخوان في سوريا في نزاع طائفي وعداء للاتجاهات الفكرية الأخرى أثناء فترة الصدام , بينما حرص إخوان مصر على المباعدة بينهم وبينها فكانوا يؤكدون دائما على احترام الأقلية المسيحية ولم يثبت تورطهم بشكل موثق في عمليات عنف طائفي أو ديني بل يظل محل خلاف عكس إخوان سوريا .

ومما تميز به الإخوان في سوريا عن أقرانهم في فروع الإخوان الأخرى حضور التوفيقية النظرية والبراغماتية السياسية بشكل أكبر فقد كانوا الأكثر إعجابا أثناء فترة الستينات مثلا من بين الإسلاميين بالطرح الاشتراكي فقد كتب مصطفى السباعي عن الإشتراكية في الإسلام كما انضم الإخوان في سوريا فترة للجبهة الإشتراكية الإسلامية وهو ما تحفظ عليه أقرانهم من الإخوان في مصر وغيرها من بلدان العالم الإسلامي ولم يكونوا على مثله نظريا وعمليا .

ولعل الوعي بالمسافة ما بين الجماعة الأم في مصر وجماعة الإخوان في سوريا يمكن أن نتلمسه في العديد من أطروحات قيادات الجماعة الحالية وبخاصة المراقب العام للجماعة صدر الدين البيانوني والناطق الرسمي باسمها الأستاذ زهير سالم حيث يقول الأخير مثلا " من يتابع واقع الجماعة الإسلامية في الأقطار العربية والإسلامية يشعر بشئ من القلق فعلي الرغم من وحد المنطلقات ومن التمسك بالثوابت الشرعية المشتركة بين الجميع نجد تباينا في الرؤية وفي الموقف على الساحات العربية والإسلامية قد يكون لهذا التباين أحيانا أسبابه الموضوعية ولكنه في كثير من الأحيان ينشأ عن نقص في المعلومة أو إصرار على فهم معين أو نوع من اللامبالاة بالآخر " ثم يضيف عن السياق الخاص لقرارات ومواقف الجماعة التي علقت معارضتها للنظام الأسدي ودخلت معه في هدنة في بدايات العام 2009 بعد أزمة غزة الأخيرة : " نقول هذه ظروفنا , وهذه معطيات موقفنا , هذا تاريخ علاقاتنا وحاضرها أشيروا علينا أيها الناس كما قالها سيد الرسل من قبل أردنا أن نستمع من الآخرين من أهل ثقتنا من إخواننا ليس ما يسرنا بظاهر القول وإنما ما ينفعنا كانت ساعات مباركة تحدثنا فيها قليلا واستمعنا فيها كثيرا واستفدنا كثيرا .

نقاط إيجابية

هناك العديد من النقاط الإيجابية التي حملها برنامج الإخوان المسلمون في سوريا وهي تؤكد على تحول جزئي حدث في أفكار الجماعة في المهجر بعد عقود من الصراع مع النظام السوري وتأتي هذه النقاط على مستوي التصورات النظرية للشريعة والمرجعية والدولة بالخصوص وهي التصورات المركزية والجوهرية في فكر حركات الإسلام السياسي على امتداد العالم الإسلامي حيث أتت في هذا البرنامج نابعة من تصور تجديدي وعصري لا يحيل السياسة نصا كما لا يحيل النص شخصنة تتماهي مع الجماعة وخطابها .

ولعل هذا التصور المنفتح للشريعة وأنها لا يمكن حصرها في الفهم الحرفي للنص , أو نظام الجريمة والعقاب أمر يتميز به هذا البرنامج عن سواه من برامج الإخوان المسلمين في مصر وغيرها وهو ما يجعلنا نراه يعد, مع برنامج حزب العدالة والتنمية في المغرب أمثر برامج الإسلاميين تجددا وحداثة وتصالحا مع تصور الدولة الحديثة ومرجعية تشريعاتها حيث يصر كلا البرنامجين على فتح الشريعة على مصراعيها للاجتهاد والتجديد وعدم حشرها في الفهم النصي لها والإيمان بأن السياسة في عمقها مصلحة وليست منطقا لاهوتيا أو محصورا في منطق الجريمة والعقاب فقط وتأكيد قبول الإسلاميين بالخيار الديمقراطي حتى ولو كان مخالفا فقط وتأكيد قبول الإسلاميين بالخيار الديمقراطي حتى ولو كان مخالفا للنص الحرفي للشريعة كما حدث مثلا من تصويت العدالة والتنمية على قانون الأحوال الشخصية في المغرب سنة 2005 أو في مباركة الإخوان السوريين للانتخابات اللبنانية ونتائجها التي هزم فيها تحالف المعارضة والممانعة .

وعلى الرغم من التحفظ على كثير من أجزائه ومن أهمها موقف البرنامج من دائرة العلاقات الدولية والسياسة الخارجية وإن تميزت رؤية الجماعة بالمثالية والبعد عن الواقع والحديث عن الماينبغيات وليس عن الممكنات الا أنه في العموم يظل طرح الإخوان السوريين أكثر تقدمية وعصرية من الجماعة المصرية الأم رغم أن الأخيرة طرحت برنامجها بعد صدور هذه الرؤية السورية بما لا يقل عن أربع سنوات وبكن برنامج الإخوان المصريين أتي محملا بالعديد من النقاط السلبية وغير الإيجابية شأن الحديث عن مجلس العلماء والموقف من حقوق المرأة والأقباط ويبدو أنه اقترب بشكل ما من نظام ولاية الفقيه الشيعي أكث من اقترابه من أطروحات التجديد المختلفة تنظيمية ومستقلة.

وفي كل الأحوال لا شك أن مثل هذه الوثيقة التي أصدرتها جماعة الإخوان المسلمين في سوريا تظل إيجابية في مجملها حيث إنها تطرح برنامجا إسلاميا شاملا وكليا وصفه واضعوه بأنه مشروع حضاري لسوريا المستقبل , بعد طول تساؤل من التيارات السياسية المختلفة وبخاصة العلمانية للإسلاميين بعموم عن برنامجهم وهو ما يساعد كثيرا في الكشف عن تصورات الإسلاميين وتطوراتهم في مرحلة زمنية مختلفة ومتميزة من العصر الحديث خاصة بعد سقوط النظام العراقي سنة 2003 وسقوط العديد من الطموحات واليوتوبيات الأيديولوجية العلمانية في العالم والمنطقة العربية بخصوص .

كما أن الوثيقة تعد خطوة مهمة على طريق الديمقراطية فهي من ناحية تبين الأسس الفكرية لهذه التنظيمات كيف تنظر وتؤسس لتحقيق أهدافها ومن ناحية ثانية تفسح المجال للآخرين لمناقشة تلك الرؤى علنا لتصل إلى تصور عام مشترك لمستقبل لأي دولة .

وخلافا لما اعتقده خصوم الإخوان السوريين من أن هذه الجماعة سوفي تختفي من الساحة بسبب الضربات التي تعرضت لها لأن من بقي منهم قد تفرقوا في شتي أصقاع الأرض فقد أعاد الإخوان إحياء مؤسساتهم وعلى الرغم من الانشقاق الكبير الذي قصم الجماعة بين أنصا للعنف وأنصار للحوار عام 1986 فقد أعادوا الاتصال بين فلولهم من جديد عام 1992 حتى عام 2006 حين انضمتا الجماعة لجبهة الخلاص الوطني والقوي المعارضة في الخارج لحديث مراقبها العام عن أنه عام الحسم وأن الديمقراطية ترادف نجاح الإخوان المسلمين في سوريا بل في كل مكان !

بين الجمود والتطور

بدأت جهود الإخوان المسلمين بسوريا من أجل إعداد برنامج سياسي إصلاحي مبكرا وكانت البداية متمثلة في ميثاق الشرف الوطني الذي أصدرته الجماعة في 3/ 5 / 2001 حيث نشر الإخوان المسلمون في سوريا رؤيتهم في السياسة والحكم فيما أسموه " ميثاق الشرف " شرح فيه الإخوان الأسلوب الذي يفضلونه للوصول لتحقيق هذه الرؤية من خلال الآليات الديمقراطية وقد كان هذا الميثاق عبارة عن أفكار أولية تضمنت ما أسمته " ثوابت وأهداف وأسس والتزامات مطروحة للنقاش " ودعت المثقفين والسياسيين في سوريا إلى الانضمام إلى خيمة الحوار الوطني التي نصبتها .

وما كان من المهتمين بالشأن السوري إلا أن تلقفوا تلك الأفكار بنهم وفضول معرفي وسياسي لأنها بدت مناسبة مواتية لمعرفة ما الجديد في خطاب الجماعة السورية متسائلين ويحق لهم ذلك عن إمكانية نضج الخطاب والإفادة من تجربة الأمس السياسية بنتائجها الوخيمة على الشعب والمعارضة والبلاد عامة.

إن القراءة المتسرعة لميثاق الشرف الوطني أو المشروع السياسي لسوريا المستقبل الذي يعد تطويرا له ممن تتبع طرح الجماعة الجديد السابق واللاحق تكشف عن تغير وصفته أطراف من المعارضة السورية بأنه جوهري ويشكل قطعا معرفيا مع تراث الإسلام السياسي لسيد قطب والمودودي واعتبروا ذلك مقدمة لمشروع إصلاحي ضروري إن لم يكن فعلا بداية إصلاح حقيقي .

كما رصد البعض الآخر نتيجة قراءة معمقة بعض المآخر النقدية على توجهات الجماعة من قبيل رؤية الجماعة للحوار والتعددية داخل المجتمع السوري حيث ذكر ميثاق الشرف الوطني لإخوان سوريا أن رؤيتهم " ترتكز تلقائيا على مجموعة من الثوابت يفقد الأمة تجاوزها وجودها وقوتها , وتميزها بين العالمين وأول هذه الثوابت أن الإسلام بمقاصده السامية وقيمه العليا وشريعته السمحاء يشكل مرجعية حضارية وهوية ذاتية لأبناء هذه الأمة " وهو ما علق حزب الحداثة والديمقراطية السوري المعارض متحفظا بالقول : " وإن جاء تعبير الجماعة الجماعة واضحا ومباشرا الا أنه حاول أن يختبئ وراء جزالة اللفظ وعمومية المفردة , ليختزن صدامية الفكرة وليتجنب تقرير المضمون الذي يتبناه في اعتبار أن الإسلام كنظام من العقائد والقيم والتصورات والمعارف يجب أن يكون الضابط بشكل صارم للكل الاجتماعي والمتحكم بكل نشاطاته وأن القيم الأخلاقية والمعايير القانونية السلوكية ذات المصدر الإسلامي هي أبدي في الوجود السوري تشكل له لحمته وتخلع عليه الهوية " ثم يضيف حزب ا العدالة والديمقراطية السوري : " إن تلك المقولات تجعل الجماعة , شأنها شأن كل الحركات الإسلامية السياسية تقرر أبسط تفاصيل المجال الاجتماعي وتضبطه وتتحكم به شكل ومضمون العلاقة بين مختلف أطرافه فهي لا تزال تقول ( بمضمون ما تطرح ) بحتمية الحل الإسلامي بكل ما تثيره هذه المقولة من تفاصيل وتفعات بما يكرر مقولات واعتبارات الإسلام السياسي بهذا الخصوص ولا يقدم جديدا يذكر " وهو ما نلاحظه على مستوي الخطاب الذي تضمنته وثيقة مشروع " سوريا المستقبل " كذلك حيث إن هناك بعض الثوابت السلفية والأيديولوجية التي لم تتخلص منها الجماعة .

فعلي الرغم من تطويرها لميثاق الشرف الوطني وتجاوزها لتراثها السابق عبر إعادة النظر فيه ومراجعة البرامج السياسية والإسلامية المختلفة وهو ما أنتج في النهاية هذا المشروع الإصلاحي والذي أطلق عليه " المشروع السياسي لسوريا المستقبل " الذي أشهرته الجماعة في ديسمبر / كانون الثاني عام 2004 وعلى الرغم مما حظي به هذا المشروع بالقبول من كثير من أطياف معارضة الداخل والخارج والا أنه أثار زوبعة من الانتقادات من قبل البعض الآخر رأي فيها الإخوان أنها نابعة من الاختلاف الأيديولوجي بين المعترضين وواضعي المشروع وهو ما قد لا يصح في جزء كبير منه فمقارنة المشروع بما وصلت له أحزاب وقوي إسلامية أخري خارج العالم الإسلامي شأن إسلاميي تركيا وماليزيا وإندونيسيا وغيرهم لا شك يجعل النقد قائما وأنه لا يجوز تبرير النقص بأنه ليس أكثر من اختلاف أيديولوجي .

ومع ذلك نري أنه قد غلب على كثير من الطروحات النقدية لمشروع الإخوان المسلمين في سوريا بقاؤها في دائرة التقليدية وترديد الحجج القديمة نفسها في نقد الإسلاميين عموما وبعضها مستحيل نظريا فلا يجوز الحديث عن أن الإسلاميين يلتزمون الديمقراطية فقط حتى يصلوا للحكم لأن هذا ضرب من الغيب وهو ما يمكن أن يقال عن العلمانيين كذلك خاصة وأننا لم نعرف حكومات دينية مستبدة وغير ديموقراطية فقط ولكن عرفنا كذلك حكومات دينية مستبدة وغير ديمقراطية فقط ولكن عفنا كذلك حكومات علمانية وثورية في العصر الحديث كانت أكثر استبداد وفسادا في مرحلة ما بعد الاستقلال وأصحاب وجهة النظر هذه كثيرا ما يكونون أصوليين في الجانب الآخر أصولية علمانية بتعبيرات عزمي بشاره وفهمي هويدي وتقوم هذه الحجة التقليدية في عمقها على أن الإخوان المسلمين – أو الإسلاميين المؤيدين للخيار الديمقراطي عموما قد لبسوا العباءة الديمقراطية في طروحاتهم ولكنهم كانوا قد لبسوا تحتها ثيابا ثقيلة حيكت بخيوط إقصاء الآخر بعد أن تمسكنوا حتى يتمكنوا ومن هذه الانتقادات السطحية والتقليدية كذلك التي يدأب عليها العديد من المحليين في تتبع علاقة الإسلاميين بالديمقراطية ما يلي :

أ‌- أنه لا يمكن الوثوق بتخلي الإخوان عن أسلوب العنف وسيلة لإقصاء الآخر وهو ما يحمل في بطنه تجاهلا لتاريخ طويل تحولت فيه العديد من الثورات والقوي من تبني العنف الى تبني العمل السلمي وهو ما حدث في ثورات كبي شأن الثورة الفرنسية مثلا وحدث مع العديد من الإسلاميين والقوميين كذلك ولعل أوضح مثال عليه هو ما نراه في مراجعات بعض الجماعات الجهادية الآن شأن الجماعة الإسلامية المصرية لتي طلقت العنف والسياسة معا أو جماعة الجهاد المصرية التي عاد أبرز منظريها عن أطروحاته القديمة .

ب‌- أن الإخوان المسلمين اسم ذو مدلول طائفي وهذه نقطة تتسم كثيرا بالشكلانية وكثيرا ما اتهم بها الإخوان في مصر وغيرها والصواب تجاوز الأعلام التي لا تعلل كما تقول اللغة والتوجه مباشرة نحو البني المتحركة والمؤثرة والمضامين التي تحملها هذه التيارات .

فمثل هذه النقاط ليست أكثر من نقد خارجي وسطحي ونري أولوية تجاوزه من قائليه فالعبرة ليست بالأسماء ولكن بالمسميات ويكون التجاوز نحو النقد من الداخل نقدا للخطاب والممارسة على السواء أو الجوانب العميقة شأن عدم الاعتذار عن الأخطاء السابقة حيث يأتي اعتذار إخوان سوريا عنها اعتذارا مراوغا حيث تحمل الخطأ في الصدام السابق مع النظام السوري لأفراد دون التنظيم وتظل غائبة عن خطابها فضيلة نسبة الخطأ الى الذات ومطالعة بيان انسحابها من جبهة الخلاص الوطني يؤكد على هذا المعني فقرار دخولها كان الصواب كله ومبشرا بعام للحسم كما أن قرار انسحابها كان كذلك الصواب كله ولابد منه فقد ولدت الجبهة ميتة حسب تعبيرات البيان دون أدني اعتراف بخطأ سابق .

المنطلقات الفكرية لتصور سوريا المستقبل

يهدف مشروع الإخوان المسلمين في سوريا وفقا لما ورد فيه الخدمة الوطن بكل فئاته " من خلال قيم الإسلام ومبادئه العادلة و إعلان مبادئ وتوجهات نقدمها من خلال فهمنا لشمولية الإسلام وواقع شعبنا السوري ويقوم هذا المشروع السياسي حسب نصر مشروع سوريا المستقبل على أنه يمثل الآتي :

1- رؤية إخوانية لسوريا المستقبل يتقدمون بها للشعب السوري ولكافة قواه الفكرية والسياسية الحاكمة .

2- أنه يمثل كلمة سواء موجهة لجميع أبناء الوطن ويتطلب تعاون كل الخيرين الحريصين على نهضته ورفعة شأنه .

3- أنه يمثل إعلان مبادئ وتوجهات تقدمها الجماعة من خلال فهمها لشمولية الإسلام وواقع الشعب السوري .

ويتكون مشروع الإخوان المسلمين في سوريا من جزأين هما :

الأول : المنطلقات الفكرية والنظرية

يبدأ الإخوان في هذا الجزء بالتأكيد على أن الشريعة الإسلامية في مصدريها الخالدين : الكتاب والسنة هي مصدر رؤيتهم لصياغة مشروع حضاري يتصدي لتحديات الواقع وما فيه من أسن وركود وقهر وبغي وظلم.

ويؤكد المشروع على أن الشريعة الإسلامية نصوص ثابتة ومقاصد عامة واجتهاد متجدد ينزل النصوص على الوقائع وفق أصول الفقه الإسلامي وقواعده وضوابطه ويؤكد المشروع على أن البعد الزماني كما أن له تأثيره في الفتوي فإن للبعد المكاني كذلك أثره في هذه الفقه إذ أن من قواعد الفقه أن الفتوي تتغير زمانا ومكانا وقد سبق أن كان للإمام الشافعي مذهب قديم عراقي وجديد مصري

وقد حدد الإخوان السوريون أحد عشر منطلقا تمثل إطارا عاما لمشروعهم هي :

1- وحدة الخالق وتكريم المخلوق.

2- الإنسان مستخلف في الأرض اقتضت إرادة الله أن يكون الإنسان خليفة في الأرض وأن يكون الإنسان الذي يستمد قوته من الله هو القوة العاملة في هذا الوجود .

3- الإنسان والحرية فقد جعل الإسلام الحرية أساس من أهم الأسس التي بني عليها تشريعاته فالحرية شرط التكليف في الدنيا وقد صانها صيانة لم ترق اليها التشريعات البشرية بما أوجبه من عدل يشمل الناس جميعا ويؤكد المشروع على أن الحرية هي " الثمرة الأول للتوحيد باعتبار ان تعبد لله يحرر الفرد من أى عبودية لي إنسان مهما علا مقامه .

4- العدل بين جميع البشر حرم الإسلام الظلم والعدوان وأوجب العدل والإحسان وأمر بالقسط في المعاملة مع جميع الناس وجعل ذلك أساس الملك وقوام الحياة وشرط الأمن والاستقرار والشرعية .

5- التنوع للتعرف والحوار ,يتحدث المشروع في إطار ذلك ن التنوع الذي جعله الله أساسا بين الناس ليتعارفوا على البر والتقوى

6- العالم ساحة الدعوة الى الله حيث يؤكد في هذا المبدأ على القبول بالتنوع وتأكيد قيمة السلام بين المسلمين والآخرين عبر تأكيده على أن الجهاد للدفع فقط حيث يقول : " القتال والسيف فهو في منهج الرسالة سبيل الى رد العدوان وصد الفتنة وليس أسلوبا في التبليغ والدعوة إن التنوع والتعاون جعل الأرض ساحة للدعوة الى الله وما يستوجبه من جهاد في سبيل الله سواء جهاد النفس أو جهاد أعداء الإسلام خصوصا ضد من يحتلون أراضي لمسلمين.

7- الجهاد في سبيل الله وما يستوجبه ذلك سواء جهاد النفس أم جهاد أعداء الإسلام ممن يحتلون أراضي المسلمين وهو يعمد في تصوره للجهاد على نفضه وتطهيره من المفاهيم والالغام العنفية كما تجلت لدي التنظيمات الجهادية شأن الطليعة المقاتلة أو جماعات الجهاد المصرية وغيرها.

8- الشريعة ليست نظاما للجريمة والعقاب فقط تستهدف بناء مجتمع العدل الإحسان في جميع الميادين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وفي إطار ما اصطلح الفقهاء على تسميته جلب المصالح ودرء المفاسد على أسس من ضوابط الشريعة وثوابتها .

9- شريعة تضع الإصر وتوسع دائرة العفو فالأصل في الشريعة الإسلامية الإباحة فيما تم تحديد المحظورات على عكس ما هو المفهوم .

10- التدرج ففي إطار رؤيتهم لنهضة الأمة يرون أن الجهد المبذول للإصلاح جهد استمراري تدرجي فلا نهاية لسعي ينشد الكمال كما أن الطفرات الاجتماعية أو الحضارية تنافي روح النمو الطبيعي الذي يستند على قواعد صلبة وجذور قوية .

11- التيسير والتبشير : وسيكون اليسر والتبشير خيارنا في ظل ضوابط الشرع وفي دائرتي المباح والعفو.

ويؤكد الإخوان المسلمون في سوريا في ختام تحديدهم لمنطلقاتهم ومبادئهم الفكرية على رفض منهج الثورة وعلى التيسير والتبشير وخيار العمل السلمي بعيدا عن أخطاء الماضي وغن لم يصح بها أو يعتذر عنها مؤكدا أنه يعتمد السننية في التغيير ويلتزم بذلك الجادة ويرفض منهج الثورة بلا جذور .

الثاني : البرنامج العملي والتجديد الإسلامي

تحت عنوان " في التجديد " يأتي القسم الثاني من مشروع سوريا المستقبل ويقسم الإخوان هذا الجزء الى فصول:

الأول : " الإسلام المتجدد " ويشير المشروع الى أن التجديد الذي يتبنونه ليس الذي ينال جوهر العبادات ولا صيغها فالذكر , والدعاء وتلاوة القرآن والصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها من صور العبادة الإسلامية المجردة تبقي طرائق أدائها متطابقة على مرّ الزمان ففي هذا الشأن يقف التجديد على بيان الحكمة منها وانعكاساتها الإيجابية الروحية والمادية على حياة الفرد والمجتمع كما فعل الإمام الغزالي في يوم من الأيام حينما راح يتحدث عن حقيقة الصلاة والصوم والزكاة من منظور روحي يجسد حقيقة هذه العبادات .

كما يمكن أن ينال التجديد أساليب تعليم هذه العبادات والدعوة الى الالتزام بها والحض على القيام بحق الله فيها ويؤكد الإخوان في مشروعهم على الحاجة الملحة لردم الهوة بين رؤيتنا الفقهية وواقع حياتنا في أطرها المختلفة حيث تبدو الأمة مطالبة بمباشرة نهضة تجديدية تقوم على أسس منهجية شرعية قويمة تعيد تنظيم العلائق بتطوير ما يتطلب الواقع تطويره تحت قوس النص الشرعي وفي إطار بحبوحته التي تفيض رحمة ويسرا .

وفي الفصل الثاني من هذا الجزء : وتحت عنوان " جماعة الإخوان المسلمين أصالة في الفكر وتجدد في الأساليب " يحضر خطاب إخواني معهود وهو تقديس أدبيات الجماعات منذ الشيخ حسن البنا دون التجرؤ على تجاوزه أو الدعوة لتطويره فتاريخ الجماعة وخطابها منذ تأسيسها عام 1928, أو 1945 في سوريا لا يعتروه نقص وليس به ما يحتاج الى تطوير أو إكمال وفي هذا السياق يأتي هذا المشروع السياسي لإخوان سوريا تقدميا وعصريا في موضع ولكن يتأخر ويتجمد في موضع آخر وهذا التاريخ التجميدي حاض في فكر الجماعة وخطابها دائما فيؤكد المشروع السياسي لسوريا المستقبل أن الإخوان المسلمين هم : الحركة الإسلامية الوسط لتطبيق شريعة الله في حياة عبادة بالاعتماد على أصول الدين والاستفادة من التجارب البشرية في مجالات التقدم والإصلاح ببرامج ووسائل قابلة للمراجعة والتقويم .

ويحدد المشروع المفاهيم العشرة الحاكمة لمسيرة الإخوان والتي بها يتميز طرحهم عن الآخرين وتشمل :

1- إيمان الجماعة أن الإسلام دين شامل لكل جوانب الحياة وينظم العلاقة بين الإنسان وربه وبين الإنسان والإنسان وهو بذلك دين عبادات ومعاملات .

2- تؤمن الجماعة أن الحكم العادل هو أحد الأهداف الكبرى في الإسلام وأن الإسلام بقيمة وأحكامه هو خير منطلق لتأسيس الحكم العادل الذي يحقق مصالح الناس في الدنيا والآخرة.

3- تدعو الجماعة الى الوسطية والاعتدال وتبني منهج الحوار بالحكمة والموعظة الحسن في الدعوة الى الله عزوجل .

4- تتعامل الجماعة مع الحركات والأحزاب غير الإسلامية من منظور القواسم المشتركة في سبيل مصلحة الأمة والوطن .

5- تؤمن الجماعة بتغير الحلول مع تغير الظروف والمعطيات وتري الإسلام دينا تتفاعل نصوصه مع واقع الحياة ويقدم لها الحلول في إطار مقاصد الشريعة العامة.

6- تفرق الجماعة في التعامل بين العقيدة والعبادة والشريعة فالعقيدة والعبادة تؤخذان جملة واحدة أما الشريعة فالأصل في إبلاغها للناس وتطبيقها في واقع الحياة التدرج.

7- تحرص الجماعة على الاستفادة من تجارب الآخرين.

8- تؤمن الجماعة أن مصلحة الأمة وأمنها واستقرارها يكمن في حرية العمل العلني للأحزاب والجماعات .

9- تستنكر الجماعة الإرهاب سواء كان إرهاب دولة أم إرهاب الأفراد والجماعات .

10- ويؤكد مشروع سوريا المستقبل لجماعة الإخوان المسلمين أنها منذ تأسيسها عام 1945 م " عبر مسيرتها وتاريخها فصيلا وطنيا يمثل تيارا شعبيا تعايش مع كل الفصائل السياسية في سوريا سواء من وافق فكرها أو خالفها وهي لا تقر أسلوب العنف وما حصل في الثمانينيات من مواجهة مسلحة كان حالة استثنائية في تاريخ الإخوان وإن كانت الجماعة تدعو اليوم الى نبذ العنف والى الحرية والتعددية السياسية فإنها تدعو الى ذلك انطلاقا من مبادئها ولا يشكل هذا انقلابا على خطاب الثمانينيات الذي نسميه ( خطاب الأزمة ) بل هو عودة الى الأصل وهي بذلك تدعو الى المراجعة كذلك من قبل الحزب الحاكم ومن جانب التيارات السياسية والثقافية الموجودة على الساحة السورية أيضا "

إن الجماعة في نبذها للعنف تؤكد على أنها تعود للأصل والمنهج الذي وضعه لها مؤسسها الراحل الشيخ الدكتور مصطفى السباعي وهي بذلك تتجاوز خطاب الأزمة الذي عرفته في الثمانينيات نحو خطابها الأصلي داعية التيارات السياسية والفكرية الأخرى في سوريا لمراجعة نحوها من هذا القبيل .

تصور الدولة الحديثة

ينتقل المشروع في بابه الثالث وهو من أعمق صفحات البرنامج للحديث عن مرتكزات الدولة الحديثة من وجهة الإخوان السوريين وهي كونها :

1- دولة ذات مرجعية وقد تبني المشروع الدولة الإسلامية بمفهوم الإخوان والذي يتضح من قولهم إن " مرجعيتنا ترتكز بوضح الى هوية أمتنا العربية المسلمة وثوابتها وتحدثوا في إطار ذلك عن مفهوم الدولة الإسلامية والتي هي : ليست بالدولة " الثيوقراطية " ولا هي بالدولة " العلمانية " وأهم ما يميز الدولة الإسلامية عن غيرها هو الأهداف العامة التي تتحمل هذه الدولة عبء القيام بها والتي أوجزها المشروع في القيام على أمر العباد بما يصلح معاشهم ومعادهم وكلمة هنا تشير للمسؤولية الدينية للدولة في حفظ الدين والسياسية الدنيا كما كان تصور لخلافة التاريخية.

ويتضمن تصور الدولة الحديثة كذلك عددا من الطروحات غير الواقعية من قبيل قوله إنه " تتميز هذه الدولة بمزايا أخري منها أنها تسعي الى تحرير العقل البشري من التقليد والخرافة والوهم كما تسعي الى إصلاح الفرد نفسيا وخلقيا وتوجيهه نحو الخير والإحسان وأداء الواجب كي لا تطغي مطامعه وشهواته على عقله .

وأكد المشروع أن الأمة مصدر السلطات وليس رجال الدين حين تأكيده على الاختلاف بين الدولة الإسلامية عن الدول " الثيوقراطية هو أن مصدر الولايات جميعا في الدولة الإسلامية إنما هو الأمة فالأمة هي مصدر الولايات وخيار الأمة وبيعتها هي التي تمنح الحاكم أو صاحب الولاية حقه في السمع والطاعة أى تمنحه السلطة ويخلص لمشروع في نهاية هذه النقطة الى أن الدولة الإسلامية دولة مدنية تتميز بمرجعيتها الإسلامية المتفتحة .

وهذه نقاط مهمة وتقدمية في فهم دور الأمة في الحكم وأنها مصدر السلطات ولكن لم يشر الى موضوع شائك حول هذا الطرح وهو هل خيارات الأمة نافذة إذا خالفت المرجعية أو اختارت تغييرها ؟وهل من حق أنصار المرجعيات الأخرى أو المضادة التعبير عنها وتمثيل أفكارهم في إدارة بلادهم ؟ خصوصا وأن الصدام بين الإخوان في الستينيات والنظام البعثي لم يأت الا من صيحات بعض لعلمانيين تجرءا على المرجعية الإسلامية ومقدساتها فقتله أحد أعضاء الجماعة لتتفجر الأحداث بعد ذلك!

2- التعاقدية ويعرفها المشروع بأن هذه الدولة الموعودة " تقوم على الاختيار الحر المعبر عن إرادة الأمة والتعاقدية بوصفها أساس شرعيا لاختيار الحاكم هي موضع إجماع فقهي عدا الشيعة.

3- دولة مواطنة والمواطنة كما عرفها المشروع هي الانتماء السياسي لفرد الى كيان والانتماء السياسي ( المواطنة ) يضم أجناسا مختلفة - فتتكون أقليات عرقية ولغوية – وأديان مختلفة – فتتكون أقليات دينية – ويبقي الرباط السياسي هو المواطنة .

4- التمثيلية وهنا يؤكدون على موقف الإسلام وإقراره التعايش بين المسلم وغير المسلم خصوصا وأن المدينة المنورة ومع الهجرة شهدت أول صور التعددية التي أصبحت ملمحا عاما من ملامح الحضارة والدولة الإسلاميتين على مر التاريخ ونري أن هذا الأثر النبوي الذي قاس عليه مشروع الإخوان قيمة التمثيلية غي متصالح مع الدولة الحديثة فاليهود في المدينة لم يكونوا ممثلين في إدارتها كما أنهم لم يكونوا أكث من موالي لقبائل الأنصار .

5- التعددية : يقر الإخوان في مشروعهم بأن التعددية السياسية هي حقيقة واقعة في أى تجمع إنساني كما أنها سمة أساسية لأي دولة حديثة وفي الوقت الذي يؤمنون بأهمية قيام الأحزاب السياسيى على أسس من برامج سياسية ذات أبعاد " عامة " أو خصوصية " وكذا الجمعيات أو التجمعات ذات الطابع الإنساني أو الاجتماعي أو البيئي ينتقدون مصادرة بعض الديمقراطيين ( العلمانيين ) على الديمقراطية بوضعهم شروطا مسبقة للأسس العامة لتكوين الأحزاب السياسية وذلك باستبعاد الأحزاب الإسلامية .

6- الداولية : هي الثمرة الطبيعية لكل أشكال النشاط السياسي أو المدني وللتعددية والتمثيلية التي سبقت الإشارة اليها وهي مقابلة للاستئثار بالحكم والتعيين وغيرها من صفات الإجبار في حكم الأمة والدول.

7- المؤسساتية : تعني في برنامج الإخوان – كما يذكر – أن تتحول سلطات الدولة وأجهزتها ومرافقها لخدمة المشروع الوطني العام لا أن تجند جميعا في السلطة التنفيذية أو أى مركز من مراكز القوي المتحكم بهذه السلطة سواء كان " فردا " أم " فئة " " حزبا " وتتضح في الدولة المؤسساتية ملامح السلطات الثلاث المستقلة التي تمكنها من أداء مهامها المنوطة بها .

8- القانونية حيث سيادة القانون ويتقدم أمن المجتمع على أمن السلطة ولا تحل حالة الطوارئ مكان القانون العادي .

وفي الباب الرابع من المشروع وتحت عنوان " الوطن " : يتناول في الفصل الأول الخلفيات التي يستند اليها المشروع والتي تتعلق بالشعب السوري وتركيتنه السكانية وتاريخه وانتماءاته العربية الإسلامية والحضارية ويشير الى ما يتسم به من تنوع عرقي ومذهبي وتاريخ سوريا السياسي والديني والاقتصادي وعلاقاتها على المستويات الثلاث العربية والإسلامية والدولة وموقعها الاستراتيجي .

وانتقل الإخوان في مشروعهم من تلك الخلفية الى التحديات التي تواجه سوريا وذلك في الفصل الثاني من هذا الباب تحت عنوان تحديات وطنية وهذه التحديات تتمثل في :

أولا : التجزئة وتحدي الوحدة وهنا يؤكد الإخوان على أهدافهم في مجال السياسة الخارجية والتي تتمثل في إقامة الوحدة العربية ثم الاتحاد الإسلامي إيمانا منهم بأن الوحدة هي الأصل في وجود الأمة العربية الإسلامية ولتحقيق ذلك وضعوا عددا من الخطوات منها ما يتعلق بخلق أسس لهذا الوحدة على المستويين الرسمي والشعبي مع إعادة صياغة أسس هذه الوحدة وفقا لمعطيات العصر الحالي وتشجيع المبادرات الوحدوية الإقليمية.

ثانيا : أسلحة الدمار الشامل وتحدي التوازن الاستراتيجي وينبع هذا التحدي من وجهة نظر الإخوان من نظرية الأمن الصهيونية وأهدافها المدعومة من القوي الدولية لتحقيق أمنها الشامل بأهداف متعددة تصب جميعها في عكس مصالح الدول العربية وكيف أن هذا التحدي تحد تدميري يستأصل الوجود ا العمراني والمدني والإنساني وهو ذو بعدين متداخلين إقليمي ودولي ويمس بصورة مباشرة سوريا واكتفي الإخوان لمواجهة هذا التحدي بمناشدة أحرار العالم ومحبي الخير والإنسانية أن ينضموا اليهم للمطالبة بشرق أوسط نظيف من هذه الأسلحة التي تجسد التحدي الكبير أمام سر الحياة على الأرض .

ثالثا : الاستقلال وتحدي التحرير : طرح الإخوان مشروعا وطنيا متكامل الأبعاد لتحرير الجولان ولدرء العدوان الصهيوني تتمثل أبرز محاوره في رصد الجبهة الداخلية وتحصنها ومحاربة الفساد ووضع أسس لمشروع إصلاح اقتصادي تكوين جبهة عربية إسلامية ودولية مساندة للحق العربي في التصدي لعمل مباشر لتحرير الأرض المحتلة وإعادة بناء الجيش السوري هيكليا: بشريا وتعبويا على أساس المشروع التحرري ووضع استراتيجية عسكرية للتحرير تعزز الإيجابيات والإمكانات العامة وتستفيد من كل التجارب وتستقطب جميع قوي المقاومة في المنطقة على كل الصعد العسكرية والحضارية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية.

رابعا : المشروع الوطني وتحدي العولمة : ويميز المشروع بين العولمة فكريا وواقعيا فهي فكريا تعني بناء جسور عبور يمكن أن تكون إيجابية تعزز المشاركة الإنسانية في حين أنها واقعيا ليست الا نوعا من التبعية الظالمة التي فرضها الأقوياء على الضعفاء والأغنياء على الفقراء .

ولمواجه تحدي العولمة في بعده الثقافي الذي يرونه التحدي الأكبر وضع الإخوان في مشروعهم خطوات أربعة :

1- إشهار هويتها العربية الإسلامية .

2- التركيز على بناء الإنسان والمجتمع .

3- إظهار شعورنا الإنساني بالقوة وبالقدرة على استخدم جسور العولمة في الاتجاه المكافئ الصحيح.

4- التفاعل مع التيار العالمي المناهض للعولمة والذي بدأ يأخذ شكلا منظما ومتناميا .

ويختم المشروع السياسي للإخوان في بابه الخامس وتحت عنوان الإنسان بالتأكيد على أن الإنسان الفرد يحتل المكانة الأولي في رؤيتهم الحضارية الإنسان هو المكون الأول من مكونات الدولة , ومادة وجودها وهدف سعيها والوطن هو الوعاء الذي ضم الإنسان بين جنباته والسلطة هي القوة التي ترعي حياة الإنسان وتحمي وجوده ينتقل للحديث عن حالة " الوهن " و " السلبية " و " التواكلية " التي هيمنت على شخصية الإنسان المسلم وعلى الرغم من ذلك يري القائم على المشروع اعتبار الحضارة الغربية بكل أبعادها أنموذجا يسعون الى تقليده حيث يري الإخوان أنهم يقدمون في ضوء الإسلام في مقابل الرؤية الغربية للإنسان " الفرد " المنطلق في فضاء لا تحده غير قدرته ولا تضطبه الا إمكاناته رؤية أخري " للإنسان " تعلي من مكانته وتجعله مناط المسؤولية والتكليف فللجماعة على الفرد في التصور الإسلامي حقوق عينية وحقوق كفائية ووضع الإسلام بذلك منظومة من الحقوق المتبادلة بين الفرد والمجتمع .

ويفرد المشروع في هذا الباب جزءا للحديث عن المرأة موضحا ما تتعرض له من ضغوط داخلية وخارجية نتيجة كونها دائمة مستهدفة ويضع الإخوان في مشروعهم تصورا خاصا يحمل في جزء منه نوعا من التماثل بينها وبين الرجل في عدد من الحقوق والواجبات وفي جزء أخر منه نوعا من التمايز عن الرجل وفي جزء ثالث نوعا من التكامل بين الاثنين .

وختاما فإنه يمكن القول بأن المشروع السياسي للإخوان بسوريا يتضمن أفكارا جديدة في ما يتعلق ببناء الدولة على أسس عصرية والدعوة الى الحوار الديمقراطي والاعتراف بالآخر ونبذ التعصب والعنف وهو ما يعد خطوة الى الأمام بالنسبة الى الكثير مما يطرحه العديد من التيارات الإسلامية الا أنه ورغم ذلك لا يزال يحتوي الكثير من الأفكار القديمة التي تتناقض أحيانا مع الجديدة منها ويمكن أن تفرغ بعضها من مضمونها منها على سبيل المثال تأكيدا المشروع على الالتزام بالحوار الديمقراطي وعدم الغاء الآخر الا أن بعض الأفكار الواردة في المشروع لا تنسجم مع هذه الرؤية والالتزام إذ يقول المشروع : " وجماعتنا وتؤمن أن الإسلام في جوهره التوحيدي وقيمه العليا وشريعته السمحة ورصيده في نفوس أبناء الشعب السوري هو أصلح المنطلقات لبناء سوريا المستقبل ولما كان المشروع قد حدد رؤيته بأنها أصلح المنطلقات فقد الغي سلفا أية منطلقات أخري وهذا يتناقض مع المقدمة التي انطلق منها وإصلاح ذلك نري ضرورة تعديل هذه العبارة لتنجسم مع نهج عدم الغاء الآخر . كما تتكرر الرؤية الأحادية التي تلغي الآخر في عبارات أخري عديدة داخل محتوي المشروع .

كما يلاحظ على هذا التصور السياسي للجماعة : أنه يلجأ الى العموميات في أحيان كثيرة غير ملتحم بأسئلة وتساؤلات غالبا ما تطرح على الإسلاميين من مختلف اتجاهاتهم دون أن يجيب عنها إجابة واضحة مكتفيا بالتمويه وتعدد التأويلات لخطابه العام مما يتيح له ممارسة براغماتية فيما بعد ويورث قارئيه ومتابعيه توجسا يضاف الى توجسات تاريخية قديمة وإن أتي مشروعهم أمثر تقدمية من سواهم من الإسلاميين في المشرق العربي .

حركة إسلامية في ظل نظام عسكري (جماعة زيد الدمشقية أنموذجا )

أرنو لافان

ترجمة محمد عبد الرؤوف

بعد القمع الدموي لما عرف بانتفاضة حماه في العام 1982 نادي سعيد حوى وهو أبرز مفكر ومنظر داخل حركة الإخوان المسلمين في سوريا بإعادة بناء الحركة الإسلامية في البلاد وفقا لما وصفه " الربانية " وهو مصطلح مرادف للصوفية أو – إذا شئنا الدقة – للصوفية الحنيفة وهي تلك التي تجمع بين الروح والعلم .

وفقا لمفهوم سعيد حوى فإن الحركة الإسلامية يجب أن تبتعد عن العنف السياسي وهو الذي أدي الى مسار انتحاري في سوريا في ثمانينيات القرن الماضي وتركز عوضا عن هذا على مواجهة المزاج العلماني من خلال التعليم الديني والاعتماد على شبكة غير نظامية من رجال الدين هذا التوجه الذي تبناه حوي لم يكن ميالا للاستسلام بصورة إجمالية حيث إن مفهومه للتعليم الرباني تضمن ضميرا سياسيا واجتماعيا نشأ جنبا الى جنب مع العلوم الشرعية وتزكية النفس.

هذا الإطار التنظيمي قام على تجربة حوي الشخصية خلال الوحدة القصيرة بين مصر وسوريا بين عامي 1958, 1961 عندما حاول استغلال تسامح النظام الناصري مع الطرق الصوفية لإخفاء أنشطة الإخوان المسلمين في حماه بعد حل الأحزاب السياسية في البلاد وعلى الرغم من هذا فإن حوي استلهم نموذج الشيخ الدمشقي عبد الكريم الرفاعي 1904 -1973 والذي اعتاد التردد على مسجده في أواسط خمسينيات القرن الماضي كانت نظرة الرفاعي تقليدية الا أنه نجح في إنشاء حركة تجديدية ستغير بدرجة كبيرة من شكل المشهد الإسلامي في دمشق في الحقبات المقبلة .

ظهور الجماعات الإسلامية المعاصرة

خلال الفترة ما بين الحربين العالميتين ( وفي جنوب آسيا منذ منتصف القرن التاسع عشر ) شهد العالم الإسلامي بروز نوع جديد من الكيانات الاجتماعية التي أطلق عليها اسم الجماعات ومنها شبكة مدارس ديوباند والبرليوية وجماعة التبليغ والدعوة في الهند وأيضا تلك الجماعات المنبثقة عن الطريقة النقشبندية في تركيا مثل النورجو والسليمانجية وغيرها وحتى جماعة الإخوان المسلمين في مصر اعتمدت كلها بقوة على التربية الروحية ونظام الطرق الصوفية القائم على العلاقة التقليدية في أكث من جهة منها في الغالب تضمنت أعدادا أكبر بكثير ومنها أن هويتها تحددت وفقا لعدو محدد مثل الاستعمار أو العلمانية أو المؤسسات التبشيرية المسيحية وغيرها ولهذا وجهت هذه الجماعات أنشطتها الاجتماعية تجاه هذه العداوات .. وبكلمات أخري فإن هذه الجماعات كانت مرهونة بمهمة اجتماعية ما حدي بعلم الاجتماع الحديث أن يطلق عليها " حركات اجتماعية "

وعلى الرغم من أن الجماعات التي تأسست في سوريا في الفترة ما بين العشرينيات والخمسينيات من القرن الماضي كانت أصغر وأقل شهرة من الجماعات المذكورة أنفا إ أنها غيرت المجال الديني المحلي بصورة ثورية .. والحقيقة أن نشوء هذه الجماعات تزامن مع اختفاء الطبقة العليا من علماء الدين الذين اتجه أبناؤهم الى دراسة العلوم العصرية .

ونتيجة لهذا برزت طبقة وسطي من علماء الدين المرتبطين بالسوق وقادوا الحملة المضادة للثقافة العلمانية التي حاول الاستعمار الفرنسي والطبقة البورجوازية نشرها في دمشق مع أن قادة ما سمي بالنهضة العلمية أعلنوا أنهم يحافظون على تراث الشيخ نفسه , وهو المحدث الأكبر بدر الدين الحسني 1850 -1935 وأنهم جمعهم اتجاه تقليدي مذهبي صوفي الا أنهم تبنوا استراتيجيات مختلفة فالشيخ علي الدقر (1877 -1943 ) أسس عدة مدارس ابتدائية وثانوية بهدف مواجهة النفوذ الثقافي للتعليم العلماني الفرنسي أما صالح الفرفور (19011986 ) وحسن حبنكة (1908 -1978 ففضلا التركيز على تدريب علماء المستقبل من خلال إنشاء معاهد للدراسات الشرعية المتخصصة.

وبالنسبة لعبد الكريم الرفاعي ( 1904 -1973 ) وهو شيخ من سوق باب سريجة فإنه صمم منهجه للوصول الى نسبة أكبر من المستمعين من خلال تأسيس جماعة دعوية تربوية فبدلا من المدارس النظامية أصبح يؤسس في الخمسينيات حلقات عديدة تتخذ من المساجد مقارا لها وتشمل عدة مستويات وحضرها الحرفيون والتجار بالإضافة الى طلاب الثانويات والجامعة وكان الرفاعي يشجع تلاميذه الشباب بقوة على الانخراط في الدراسات العصرية لأنهم عندما يصبحون أطباء أو مهندسين سيقدمون النموذج الورع للمجتمع وأطلق على جماعة الشيخ الرفاعي جماعة ويد نسبة الى مسجد زيد بن ثابت الأنصاري الذي كان يخطب ويدرس فيه .

المنظمة المسجد والإخوة

إن تأكيد الرفاعي الدائم على أهمية المسجد كأساس للدعوة الإسلامية ودعواته المستمرة لتحويل المسجد الى جامعة كانت مرتبطة بصورة كبيرة بظروفي ذلك الوقت فمع الوضع في الاعتبار انتشار الأفكار العلمانية كان من المهم أن لا يكون المسجد مكانا للعبادة فقط فلما يقدم تعليما بل مكانا للحياة الاجتماعية بحيث يقضي فيه الشباب معظم أوقات فراغهم وبكلمات أخري فإن المساجد كانت ستتحول الى حجر الأساس لمجتمع إسلامي بديل .

أعطي الشيخ الرفاعي الأولوية لتعليم مريديه وهو ما أعتبره الأساس ليس فقط حفظ القرآن الكريم ومبادئ الفقه بل أيضا التربية الروحية أى التصوفي وبالفعل فوفقا لمعظم علماء المسلمين غير السلفيين فإن تعليم العلوم الشرعية يجب أن يسير جنبا الى جنب مع ما يسمي بالتربية وهي مجال المسؤولية التي يتحملها شيوخ الطرق الصوفية ورغم أن الشيخ الرفاعي انتسب الى الطريقة النقشبندية الا أنه لم ينقل هذا الطريق الصوفي الى ورثته بل اختار تأسيس نوع من طريقة جديدة بطقوس أقرب الى سنة النبي محمد صلي الله عليه وسلم عنها الى الطرق الصوفية القديمة وحافظت الجماعة على النموذج التربوي القديم في العلاقة بين الشيخ والمريد حيث لم يكتف الشيخ بتقديم علم شرعي جاف الى تلاميذه بل أصبح يمثل لهم قدوة صالحة يجب تقليده دائما .

كان العنصر الصوفي محوريا في تماسك جماعة زيد في غياب أى كيان رسمي عدا تلك المخصصة للأنشطة الاجتماعية كالجمعيات الخيرية .. أفقيا كانت الحركة في شكل شبكة من المساجد التي كان القائمون عليها يتشاركون حب واحترام شخصية الشيخ عبد الكريم ورأسيا كانت الحركة بشكل عام ووحدات المساجد منظمة على شكل تنظيمات هرمية غير رسمية الا أنها قوية التنظيم وكان تماسك هذه التنظيمات معا مضمون من خلال العلاقات الروحية بين الشيخ المؤسس ومريديه وبين هؤلاء المريدين وتلاميذهم ..

في الطرق الصوفية التقليدية تبرز شخصية العضو من علاقته الشخصية بالشيخ المربي أكثر من انتمائه الطريقة صوفية معينة .. ولهذا فإن تماسك هذه الجماعات رغم قوته الشديدة الا أنه قد يهتز بوفاة الشيخ وتعدد خلفائه المحتملين .. وهو ما ينتج عنه في الغالب ظهور جماعات فرعية جديدة تحكم نفسها بنفسها وعلى النقيض من هذا فإن المهام الاجتماعية التي كلف بها الشيخ الرفاعي حركته سمحت بالتغلب على هذه النواقص .. فبعد وفاة الشيخ انتقلت كاريزمته الروحية – طبقا للنموذج الصوفي – الى أبنائه أبرز مريديه ما قد عرض وحدة الجماعة للخطر ولكن كاريزمته الحركية والتي تعني كاريزمة الشخص القادر على تغيير المجتمع استمرت من خلال حركته الاجتماعية – جماعة زيد – التي مثلت مصدرا لهوية جماعية قوية لأتباعه.

وبفضل هيكلها غير الرسمي لم تعان جماعة زيد بصورة فعلية من انقلاب حزب البعث العام 1963 كما لم تتأثر الحركة بقرار حظر الأحزاب السياسية الرسمية وكذا فإن العوائق القانونية على الجمعيات لم تؤثر الا على الأفرع الخيرية التابعة للحركة وليس على كيانها التنظيمي الفعلي .

التفكير في المجتمع والسياسة

لم يبد الرفاعي اهتماما كبير بالسياسة بقدر ما كانت أولويته تأسيس الفرد المسلم والمجتمع المسلم وعندما عندما ازدادت قوة جماعته في ستينيات وسبعينات القرن الماضي كان النظام البعثي يجعل من المشاركة السياسية السلمية أمرا شبه مستحيل .. ورغم هذا فإن موقف الشيخ تجاه العمل السياسي كان إيجابيا بمعني أنه بالسير على خطي مؤسسي جماعات أخري مثل سعيد النورسي في تركيا وحسن البنا في مصر اعتب الشيخ أن عملية بناء الوعي لها دور في التعليم الشمولي الذي كان ينوي تقديمه لتلاميذه ويشي سعيد حوى أن حلقات علمية خصصت للعلوم الكونية أو غير الدينية وأن الشيخ لم يقدم بعض الموضوعات ( قد يعني حوي هنا القضايا السياسية ) في المسجد بل أمر إخوانه بدراستها في المنزل ويتذكر عضو سابق في الحركة أنه كان هناك بعدان في الدروس هما البعد الديني والبعد العصري ويقول : " لقد درسنا الفكر أى التفكير في القضايا الاجتماعية والسياسية وكان هذا غالبا من خلال كتب سعيد رمضان البوطي وأبو الأعلى المودودي وفتحي يكن وكنا نحصل على التشجيع اللازم لتنمية مهاراتنا في كتابه الأدب أو الشعر .

ويصف عضو سابق في جماعة أبي ذر – وهي جماعة مماثلة لجماعة زيد نشأت في حلب تحت رعاية الشيخ أحمد عز الدين البيانوني يصف اتجاه هذه الجماعات بالقول إنها تعمل على بناء الفرد المسلم من خلال التعليم الشرعي والتربية الروحية بالإضافة الى قطرات من الفكر كان يتم تدريس هذا الفكر إما فرديا أو من خلال حلقات العلم وهي مجموعات من حوالي عشرة أشخاص كانت تلتقي مرة واحدة أسبوعيا على الأقل تحت إشراف أحد المريدين المتقدمين في منزل أحد الأعضاء أو في المسجد هذه الحلقة كانت شبيهة بنظام الأسرة التي طبقها الإخوان المسلمون في مصر كما كان يمكن مقارنتها بنظام الخلايا في الأحزاب السياسية الحدية وفي المجال الديني فإن هذه الخلايا تسمح لجميع المشاركين بتقاسم حياتهم والبحث في دينهم على مستوي أعمق من المتوفر في المجالس العامة وقد شرح العضو السابق في جماعة أبي زر للمؤلف أنه بالإضافة الى الدراسة ومناقشة القضايا الاجتماعي والسياسية فإن المهمة الرئيسية للحلقة كانت تبادل خبرات الحياة اليومية والمشاعر ويقول إن هذه الطريقة ساعدت دائما في حل المشاكل الشخصية للأعضاء.

الصدام مع النظام

نتيجة لسعي الشيخ الرفاعي الى الوصول الى جمهور واسع بذل جهودا لا مثيل لها لبناء المساجد الجديدة ولم يمثل تمويل هذه المساجد الجديدة ولم يمل تمويل هذه المساجد مشكلة بالنسبة له بسبب علاقاته الحميمة بالتجار وأصحاب المحال التجارية في المدينة وخلال الستينات من القرن العشرين بدأت جماعة زيد في الانتشار خارج معاقلها التاريخية في أحياء المدينة القديمة واتجهت الى أحياء بنيت حديثا وتسكنها الطبقة الوسطي والعليا مثل أحياء القصور والعباسيين والمزرعة وعدوي والمالكي والمزة , وسرعان ما أصبحت شبكة المساجد التابعة للجماعة هي الأكبر في المدينة وبلغ عدد المساجد فيها نحو ثلاثين مسجدا وتمكنت من اجتذاب المتعلمين والشباب من الطبقة المتوسطة خصوصا بعد هزيمة عام 1967 التي أضعفت المنظمة العلمانية العربية وقوت من الاتجاه الإسلامي .

ويرجع نجاح الجماعة في جذب طبقة الشباب المتعلم أيضا الى الحظر الذي فرض في العام 1963 على جماعة الإخوان المسلمين وهي الجماعة الإخوان المسلمين وهي الجماعة التي اعتادت مخاطبة الطبقة نفسها .

وفي منتصف السبعينيات بدأت جماعة تسمي " الطليعة المقاتلة " وهي جماعة منشقة عن الإخوان المسلمين سلسلة من التفجيرات والاغتيالات ضد النظام , ومهدت الطريق لانتفاضة على نطاق واسع هزت أسس قوي النظام البعثي وللوهلة الأول فإن الأحداث التي وقعت بين عامي 1979 , 1982 بدت محيرة لعلماء الاجتماع , فجماعة الطليعة المقاتلة التي ظهرت في العام 1979 لم تكن أكبر بكثي من الجماعات الجهادية التي نعرفها في وقتنا الحاضر وحينها كانت هياكل الإخوان المسلمين ضعيفة نسبيا بسبب طابعها السري ولهذا فإنه من الصعب شرح كيف – في خلال أشهر – انضم الاف السوريين الشباب الى النزاع ويبدو أن جماعات مثل جماعة زيد وجماعة أبو ذر ساهمت في توسيع نطاق الصراع بتزويد الجماعات المسلحة بشبكات معدة سلفا من الأعضاء .

كانت لوائح هذه الجماعات تضم الالاف من الشباب المتعلم تعليما عاليا والذي يمتلك وعيا سياسيا وتربية دينية ولهذا تحولت الى مطمع الجماعات الراديكالية وفيما رفض قادة الجماعات الميل لأي طرف في الصراع كان أتباعهم يتعرضون لضغوط بسبب الهجمات المتعددة وقمع الدولة الأعمي والمنشورات التحريضية التي كانت الجماعات المسلحة تقوم بتوزيعها .

وفي دمشق قام أحد زعماء الصف الثاني في جماعة زيد بعقد تخالف سري مع المتمردين وأقنع بعض أعضاء الجماعة بالانضمام اليه ومعظم هؤلاء الشباب قتلوا في النهاية أو سجنوا , أما الرؤوس البارزة في جماعة زيد وهم نجلا الشيخ الرفاعي أسامة وسرية وخليفة في رئاسة الجماعة محمد عوض , ففروا الى المملكة العربية السعودية وفي حلب فر العديد من أعضاء جماعة أبو ذر من البلاد بعد فرار قائدهم أبو النصر البيانوني ابن أحمد عز الدين ومن بقي منهم سجنوا وأعدموا في مذبحة سجن تدمر العام 1980 .

وإذا كانت جماعة أبي ذر قد اقتلعت من جذورها في حلب الا أن شبكة زيد عانت من تجميد معظم أنشطتها ونجت بفضل قادة الصف الثاني والمتقدمين في السن الذين سمح لهم بالبقاء وكانت الاشتباكات في العاصمة أقل حدة بكثير عن تلك التي في المدن الشمالية ولم يجد النظام حافزا لإخلاء العشرات من أئمة وخطباء مساجد دمشق الرئيسية .

بعد أحداث حماه : إبعاد الفكر عن المسجد

في منتصف التسعينيات من القرن الماضي عاد أبناء الشيخ الرفاعي جنبا الى جنب مع بعض العلماء المنفين في إطار تخفيف محدود للقمع السياسي لصالح الدوائر الإسلامية وفي محاولة إرضاء التجار المناصرين للعلماء المنفيين وتدريجيا بدأت الحركة في استعادة قوتها ونتيجة لهذا ومع حلول أوائل القرن الحادي والعشرين بدأ وكأن شيئا لم يتغير عن سبعينيات القرن الماضي وذلك بفضل الروابط الروحية والهوية القائمة على أسس المهمة الدعوية ولهذا استعاد أبناء الشيخ الرفاعي مكانتهما كزعيمين لشبكة المساجد دون عقبات تذكر ولم يبد على شبكة المساجد تلك أنها اهتزت أو تأثرت بأحداث لثمانينيات وبدأ الشباب في التدفق عليها مجددا.

وعلى الرغم من هذا فإن النظام البعثي ستخلص دروسا هامة من الانتفاضة الإسلامية بين عامي 1979 و1982 ومن بين هذه الدروس الفصل بين الهيكل التنظيمي والسياسة ولهذا كان يسمح للعلماء السوريين بإنشاء هياكل تنظيمية غير رسمية تقوم على النموذج الصوفي وتطبق العلاقة بين الشيخ والمريد بشرط أن تقصر أنشطتها على الجوانب الدينية الصرفة : وخلافا لذلك كان يسمح لبعض علماء الدين بالخوض في الأمور الفكرية شرط أن لا ينشطوا في جمع المناصرين وفي ما يتعلق بحركة زيد كانت هذه المحظورات تعني منع تدريس الفكر في الحلقات الدينية ما حرم الجماعة من البعد المعني ببناء الوعي أعطي الانطباع العام تصورا بأن الشباب العرب والمسلم مسيس الى درجة كبيرة الا أن علاقتي مع الشباب السوري المنخرط في إطار الجماعات الدينية جعلتني أصل الى نتيجة ان زوال الأيديولوجيات بعد نهاية الحرب الباردة قد أثر في المجتمع السوري أيضا وجعل الشباب أقل اهتماما بالقضايا السياسية لصالح القضايا الشخصية مثل تطورهم الشخصي والنجاح في الامتحانات والحصول على وظيفة والزواج ونتيجة لهذا نشر الوعي بالقضايا الاجتماعية والسياسية بين الشباب كان مهمة شاقة للغاية لرجال الدين , الذين رغبوا فيها بسبب الظروف المحيطة بهذه العملية وبخاصة حظر تعليم الفكر المعاصر في الحلقات المسجدية.

واعتمد بعض الشيوخ على توزيع كتب لمفكرين سياسيين إسلاميين معتدلين مثل البوطي والنورسي وأبي الحسن الندوي الهندي (1914 -1999 ) لعدد من الأتباع الذين اعتقدوا أنهم مؤهلون للتعامل مع هذا النوع من الأدب الا أن بداية عصر الإنترنت في سوريا في أوائل القرن الحادي والعشرين منح رجال الدين أداة ذات تأثير أبعد بكثير لنشر الفكر الإسلامي بعيدا عن المساجد فبعض المواقع على الإنترنت مثل صدي زيد التابع لجماعة زيد لم تقصر نشاطها على نشر كتب المفكرين الإسلاميين البارزين مثل سعيد رمضان البوطي ويوسف القرضاوي بل أيضا مؤلفات لقادة الحركة ومشاركات الكوادر والأتباع وفي السنوات الأخيرة نشر بعضهم موضوعات مثل " موقف المسلمين من الديمقراطية " والعلمانية المفهوم والحقيقة " والقانون الدولي " ودعائم المجتمع الإسلامي الصالح " و " من هم أنسب الأشخاص لدخول البرلمان وغيها وعلى الرغم من أن محتوي هذه المقالات معتدل للغاية الا أن نشرها على هذا لنطاق الواسع من قبل حركة منظمة كبيرة لهو تطور هام في مجال الحركة الدينية في سوريا .

في فبراير / شباط 2007 أطلقت حركة زيد أول موسم من مسابقة عبد الكريم الرفاعي للفكر الإسلامي لطلاب المساجد وكان على المتسابقين إرسال أوراق بحثية من عشرين صفحة وفقا للمعايير البحثية وتتناول موضوعات مثل " الإسلام والإرهاب " و " الإسلام وحقوق الإنسان " و "الإسلام والعولمة " وغيرها .

مبادرات خيرية وتحذيرات

تمكنت جماعة زيد في السنوات الأخيرة من إنشاء المزيد من المشروعات الخيرية الأمر الذي ساهم في التقريب بين الحركة والنظام

وخلال فترة الخمسينيات من القرن الماضي أسس عبد الكريم الرفاعي العديد من الجمعيات الخيرية في الأحياء المجاورة وتولي محبوه من التجار مسؤولية تقديم التمويل اللازم لهذا الجمعيات وعلى الرغم من أن كل شيوخ مرحلة النهضة العلمية كانوا على علاقات قوية بتجار الأسواق الا أن الشيخ عبد الكريم الرفاعي استهدف الوصول الى عوام الناس وأقام شبكة غي مسبوقة من العلاقات مع تجار من الطبقة المتوسطة العليا وبعد انقلاب حزب البعث العام 1963 عانت الجمعيات الإسلامية من المحاذير التي فرضتها قوانين الطوارئ والتي لا تزال مبطق حتى اليوم – إضافة الى المنافسة مع العديد من المنظمات الشعبية الرسمية التي هدفت لتجميع الناس تحت شعار القومية العربية الإشتراكية .

وبعد الأحداث الدامية بين 1979 , 1982 ازدادت شكوك النظام من الجمعيات الخيرية الإسلامية الا أن التدهور الاقتصادي الذي دفع سوريا الى حافة الإفلاس في أواخر التسعينيات دفع النظام الى الدعوة لمبادرات خيرية خاصة لمواجهة العواقب لمتزايدة لتدهور الأوضاع الاجتماعية ومع وضع رأس المال الاجتماعي لجماعة زيد في الاعتبار وكذلك علاقتها الوثيقة بالقطاع الخاص تقدم قادة الجماعة للعب الدو المحوري في المجال الخيري في دمشق وفي العام 2002 أطلق الشيخ سرية الرفاعي " حفظ النعمة " وهو أكبر مشروع خيري في العاصمة بلغ عدد المستفيدين منه الآن ستة الاف أسرة وفي العام 2006 فاز عدد من رجال الأعمال المرتبطين بالجماعة في انتخابات مجلس إدارة اتحاد الجمعيات الخيرية إن نمو الأنشطة الخيرية لحركة زيد يشير الى نوع من الدعم من قبل الحكومة حيث إن جمع التبرعات في المساجد يتضمن موافقة حكومية من قبل وزارة الأوقاف الا أن التقارب بين جماعة زيد والنظام لا يزال غامضا حيث يحاول الأول الاستفادة من المبادرات الخيرية للثتني فيما يحافظ على استقلاله وبالتالي رأس ماله الاجتماعي .

في العام 2002 قام الرئيس بشار الأسد بزيارة خاصة الشيخ أسامة الرفاعي وهو حدث غير مسبوق حيث اعتاد الرئيس على الاكتفاء باستقبال العلماء في قصره خلال الاحتفالات العامة وترمز بادرة التقدير هذه الى توجه النظام الجديد في ذلك الوقت الى توسيع قاعدة الدعم الذي يمتلكه في الدوائر الدينية الى أبعد من الحلفاء التقليديين مثل عائلة كفتارو وسعيد رمضان البوطي.

وبتخفيف القيود عن جماعة زيد يكون النظام قد تقرب لأجزاء كبيرة من الرأي العام المتدين في دمشق وبالرغم من هذا فإن تحسن العلاقات بين زيد والنظام لم يتحول الى تحالف حقيقي وعلى الرغم من أن عددا من قيادات الجماعة اقترب من المؤسسات الإسلامية الرسمية الا أن الموقف العلني تجاه النظام ظل فاترا وعلى سبيل المثال فإن بعض الخطباء في المساجد التابعة للحركة لا يطلبون من المصلين في خطبة الجمعة الدعاء للرئيس بشار الأسد بل يستخدمون التعبير المطاطا " لأرباب الحقوق علينا " وإضافة الى ذلك ففي الوقت الذي نظمت أكاديمية كفتارو احتفالا كبيرا بمناسبة إعادة انتخاب الرئيس لفترة ثانية في مايو / أيار 2007 فإن قادة جماعة زيد تبنوا دورا أقل وضوحا في دعم حملة التصويت بنعم لصالح الرئيس , فبجوار مسجد زيد كانت هناك هذه اللائحة الانتخابية البسيطة التي تقوم " نعم للداعم الأول للعمل الخيري "

إن انفتاح الرئيس على أسامة الرفاعي لم يؤثر سوي بقد ضئيل على صراحة الشيخ ففي خطبة في يوليو / تموز 2006 هاجم الشيخ صحيفة " الثورة " الرسمية لانتقادها تخصيص حديقة كفر سوسة المجاورة لمسجده للنساء والأطفال وقامت السلطات المحلية المختصة بتحويل الحديقة على أساس طلب من الدوائر المحافظة في الحي ووفقا للشيخ فإن التحريض ضد المتدينين الذي احتوته المقالة المنشورة في صحيفة " الثورة " قامت به مجموعة من الإعلاميين تتحمل مسؤولية تحول الناس عن الإعلام الرسمي كما انتقد أعضاء آخرون في الحركة مقالات نشرها كتاب علمانيون في صحف رسمية وخاصة .

في مارس / آذار 2007 قال أسامة الرفاعي في كلمة حضرها الالاف بمناسبة ذكري المولد النبوي : " على أن أنبه القادة في بلدنا وفي الدول الإسلامية القادة في جميع المجالات السياسية والدينية والثقافية والإعلام أن قوتهم – حتى غير المسلمين منهم – تنبع من الأمة .. ولهذا فمع عودة الأمة الى دينها فإن هؤلاء القادة ليس أمامهم الخيار سوي أن يعكسوا رغبة الناس ويرفعوا راية الإسلام .. وبالتأكيد فإن وضعهم في المستقبل يتوقف على عودتهم لله ولإرادة الأمة .. وإذا لم يعكسوا هذه الإرادة فإنهم سيفقدون مصداقيتهم في النهاية وسيفقدون كل شئ في الدنيا وسيستبدلهم الله بأناس أفضل.. "

من الطليعة المقاتلة الى قاعدة الجهاد العالمي

عبد الرحمن الحاج

تمثل قراءة الأصولية الإسلامية في سوريا حالة خاصة مقارنة بالأصوليات الناشئة في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في الشرق الأوسط وعلى الرغم من أن الظاهرة الأصولية في جوهرها واحدة غير أن أسبابها وظروفي نشأتها تتحكم الى حد كبير في رصد مصائرها وامتداداتها وتؤكد دراستنا هذه أن مصائر الأصولية السورية تمثل الحلقة " المفقودة " في دراسات تشكيل تنظيم القاعدة والجهادية الإسلامية العالمية .

إن فهم الأصولية الإسلامية بوصفها ظاهرة طارئة على الإسلام السياسي في سوريا أمر يعتمد على معرفة تاريخ الإسلام السياسي في هذا البلد , حيث شق طرقا مختلفة عن نظرائه في العالم العربي والإسلامي وعلى وجه الخصوص حزب / جماعة الإخوان المسلمين في سوريا شقت طريقا مباينة للجماعة الأم في مصر كما يلاحظ باتريك سيل وكان هذا الاختلاف ناتجا عن النزعة التوفيقية في فكر الشيخ حسن البنا ففيما أدي الصراع المبكر في مصر الى انحراف مسار التنظيم انقسامه الى جهاديين تكفيريين ودعويين ديمقراطيين فإن أشقاءهم السوريين الذي انحنوا للعاصفة أيام عبد الناصر, لم يلبثوا أن اصطدموا مع النظام لأسباب مختلفة ووجدوا أنفسهم وقد تحولوا جميعا – في وقت من الأوقات – الى أصوليين عندما انغمس تنظيمهم في أحدا العنف في حرب شبه أهلية نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات.

والواقع أن تاريخ الإسلام السياسي يمتد ليشمل كل الذين مارسوا العمل السياسي تحت مرجعية دينية إسلامية ولو كانوا في أحزاب علمانية بل إن البحر في هذا المنحي يكشف عن طبيعة الوعي الديني والسياسي في سوريا في ذلك الوقت والذي يعكس بقدر ما التوجهات النفسية والاجتماعية العامة للشعب السوري والغريب أن الذين يؤرخون للإسلام السياسي في سوريا ما زالوا حتى اليوم يغفلون ذلك , أولا يعيرونه كثير انتباه.

ذلك أنه لم تكن لدي الإسلاميين حساسية تجاه العلمانية السياسية وإن كان لديهم حساسية " طبيعية " تجاه العلمانية العقدية الشمولية التي تبنتها الأحزاب اليسارية ثم القومية على وجه العموم والانفتاح على العمل العام على أسس سياسية بحتة وليس على أسس دينية أصولية كان سمة العمل السياسي الإسلامي طوال الفترة التي سبقت انقلاب البعث فليس ثمة حساسية أصولية لابست العمل السياسي طوال تلك الفترة .

وعلى الرغم من أن المجال السياسي في سوريا كان دوما غي مستق نظرا لكثة الانقلابات العسكرية الا أن أحدا لا يستطيع أن يثبت تورط أى من الإسلاميين وخصوصا الإخوان المسلمين في أى من الانقلابات العسكرية التي كانت قد شارك في معظمها اليساريو الثوريون بالتحالف مع كبار الضباط فقد كانت الانقلابات على الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة في سوريا حرفة اليسار الثوري في هذه البلاد وليس حرفة الإسلاميين .

ظلت حركة الإخوان حتى في ذروة أحداث العنف تؤمن بالديمقراطية كأساس للعمل السياسي ولا تتضمن أدبياتها أى حديث عن رفض الديمقراطية أو إشارة تدل علي نزعة انقلابية عليها وفي هذا الإطار كان يتم الالحاح على " الدولة الإسلامية " التي يرونها دولة وطنية ديمقراطية قائمة على تداول السلطة "

وقد عكست مرحلة ما قبل الأحداث بشكل واضح مدي التزام الإسلاميين باللعبة الديمقراطية وذلك على الرغم من أن البناء الفكري الذي شكلوه واستندوا اليه كان توفيقيا الى حد كبير وخصوصا استعانتهم بالمفاهيم اليسارية وتبيئتها في إطار المفاهيم الإسلامية الدينية حتى لو أدت الى تفريغها من مضمونها بالمرة وفي الوقت الذي لم تشكل برامجهم السياسية عموما فروقا واضحة عن برامج أى حزب علماني محافظ باستثناء البصمة الدينية المحدودة التي تتجلي في مطلب أو اثنين ولا تبدو أكثر من مجرد زينة في إطار برنامج سياسي صرف .

وأكثر من ذلك فقد ساهم الإخوان في أول صياغة علمانية للدستور السوري عام 1950 فاكتفي الإخوان بقبول بندين في الدستور يتعلقان بالإسلام الأول : " دين رئيس الجمهورية الإسلام " والثاني : " الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع " وصوتوا للدستور على أساسهما معليين ذلك بأن ما تضمنه الدستور هذا في ما يتعلق بالإسلام هو أكثر مما يرجون لا بل إن مصطفى السباعي كان قد قال أثناء نقاشاته في مجلس الشعب حول مواد الدستور إياها إن الإسلام " دين علماني وكان البند الثاني " الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي في التشريع " أول بند من هذا النوع في تاريخ الدساتير العربية وهو يعني في ما يعنيه أن التشريع يستند الى مصادر أخري غير الإسلام وهذه صيغة علمانية بدون أى شك.

إيقاظ الأصولية

لا تنشأ الأصوليات من قناعات فكرية خالصة ومهما كانت الأفكار الأصولية مستندة الى أسس إيمانية فلابد من جملة من الأسباب الشخصية والسياقات التاريخية لتنهض بهذا العبء أى توليد الظاهرة الأصولية وانطلاقا من ذلك فإن تفسير ظاهرة الأصولية اعتمادا على السياق التاريخي المؤلف من أسباب سياسية أولا ثم أيديولوجية ( تمنح معتنقيها رؤية جديد للعالم ) ثانيا , يمتلك الكثير من المصداقية أما الأسباب الاقتصادية والحضارية فلا تمتلك قدرا من التأثير لتشكيل الظاهرة الأصولية الا في درجة ثالثة ورابعة على الأقل هذا ما يصدق على ظاهرة الأصولية في منطقة الشرق الأوسط.

وإذا كانت الظاهرة الأصولية لا تبدأ بالتشكيل الا عندما يصبح الأذي مقدسا أى عندما تتشكل أيديولوجيا تؤمن بأن التغيير وحسم الاختلاف السياسيين لا يمكن أن يكون الا بممارسة القوة واستخدام العنف فإن ولادة الظاهرة الأصولية في صفوفي إسلاميي سوريا يرجع الى مطلع الستينيات وليس قبل ذلك.

وبالرغم من بروز تنظيم سري صغير تحريري " وطني " يؤمن بالعنف السياسي على عادة كل الحركات التحريرية مقرب من المشايخ ومنهم الشيخ مكي الكتاني " دمشقي " تبني مبدأ تصفية ما وصفهم بـ " الخونة من عملاء الاستعمار " من السياسيين عام 1940 وقام فعلا بممارسة الاغتيال عندما قتل ناشطوه الدكتور عبد الرحمن الشهبندر في عيادته لاعتقادهم أن الشهبندر " خان قضية بلاده عندما أذاع حديثا امتدح فيه الحلفاء ومنهم فرنسا الا أن تلك المجموعة لم تكن مجموعة أصولية سياسية بقدر ما كانت مجموعة شعبية تحريرية موجهة ضد الاحتلال عملائه وقد انتهت بحكم الإعدام الذي نفذ بأعضائها عام 1941 .

وكذلك فإن بعض ظواهر العنف المستندة الى الاعتقاد الديني التي ظهرت في مطلع الأربعينيات لم تنشر الى بروز ظاهرة أصولية في ذلك الوقت بقدر ما أشارت الى ظواهر اجتماعية فقد كانت لأحداث دمشق عام 1944 التي قادتها " جمعية الغراء " الإسلامية على شكل احتجاج شعبي ضد " احتفال خيري راقص " كان مزمعا إقامته في مايو / أيار 1944 بعد تسرب أنباء عن عزم اثنين من نخبة المجتمع الدمشقي المشاركة في الحفل مع زوجاتهم الأمر الذي أدي الى إثارة سخط العامة وظهور أحداث شغب ضد الملاهي الليلية والمراقص والكازينوهات التي تقدم المشروبات الروحية فقد بدا الأمر كما لو أنه تحد للقيم المحلية .

وقد اعتقل في تلك الاحتجاجات الكبيرة الشيخ محمد الأشمر ( خطيب مسجد رئيسي في منطقة الميدان ) وقتل ما لا يقل عن أربعة أشخاص في التظاهرات ومن الواضح أن المسالة برمتها مسالة تحد لمشاعر دينية لمجتمع محافظ ولا علاقة لها بأصولية إسلامية سياسية ولا بكتلة أصولية خصوصا أن الجمعية ذاتها مارست النشاط السياسي الديمقراطي وبرز بين أعضائها قوميون وإسلاميون ذوو ميول ليبرالية .

وعلى الرغم من أن الإرث الفرنسي في التركيبة الطائفية للجيش السوري قد أسمهت بشكل مباشر في هيمنة الجيش وانقلابه على الحياة السياسية ونظامها الديموقراطي منذ 1949 ( انقلاب حسني الزعيم ) الا أن تزايد النزعة اليسارية وانتشار المد الماركسي في صفوف الجيش بجوار عمليات تسريح أو تصفية حزبية وطائفية داخل قطعات الجيش التي بدأت مع انقلاب البعث في 8 / 3/ 1963 وطائفية الحزب ( حزب البعث المستولي بالانقلاب العسكري على السلطة ) لم يكن يعني كله سوي طائفية أجهزة السلطة وجعلها بعثية الأم الذي بدأ يوقظ الحس الطائفي ضد الأقلية العلوية لدي قطاعات واسعة من السوريين السنة بمن فيهم البعثيين وضباط الجيش .

وكان من الطبيعة في مجتمع محافظ لم تترسخ فيه مشاعر الوطنية بقوة إذ تقاذفته الأيديولوجيات الشمولية ( اليسارية والقومية والإسلامية ) اللجوء الى الدين للتعبير الاحتجاجي وتنفيس الإحتقان الطائفي المتزايد وبما أن أحد أبرز وجوه الصراع السياسي أصبح طائفيا فقد كان من المحتم أن تولد أيديولوجيا سياسية دينية للتغيير حيث أخذت المظاهر الأصولية الإسلامية في سوريا بالتشكل .

الانشقاق

بدأ الفرز بين " قوي تقدمية " ( ماركسية أو يسارية ) وقوي رجعية ( إسلامية أو ليبرالية محافظة ) يتخذ مجراه بشكل علني عب التصريحات السياسية في الصراع على السلطة من قبل الضباط البعثيين والسياسيين اليساريين وفيما كانت الطائفية تتستر بلسان علماني يساري على مستوي السلطة كانت الطائفية على مسار المعارضة والقواعد الشعبية تكشف عن نفسها شيئا فشيئا بشكل علني وباسم الدين.

مع بدء التصاعد في الاحتقان الطائفي أخذ يدور في الجيش حديث عن الانقسامات الطائفية في صفوفه وحدث عصيان في حلب بعد آذار / مارس 1962 باسم مجموعة بعثية وبعض المتعاطفين معها أطلقوا على أنفسهم اسم قيادة الضباط الأحرار " بعد مؤتمر حمص في 10/4/1962 الذي ضم 40 ضابطا يمثلون سائر وحدات الجيش لحل الخلافات بين ضباط الجيش ذلك ان القرارات التي صدرت عنه لم ترق للبعثيين ليتردد الحديث عن عصيان طائفي موجه لـ " إقصاء العناصر السنية " من قطعات الجيش الرئيسية مورس على شكل تصفية جسدية طائفية مروعة لأربعة ضباط سنة موالين للسلطة المركزية كما ترددت الأنباء في أوساط النخبة السياسية والعسكرية وأوساط العامة.

أخمد العصيان في 4/5م1962 وحكم على الضباط الذين قاموا بعصيان حلب في محكمة أمن الدولة في 17/1/1963 ولكن السمة الطائفية طبعت الحدث في الخيال العام.

في مدينة حماه الوادعة الأكثر حساسية للطائفية بسبب وجودها في وسط غرب سوريا في حوض من قري الطوائف العلوية والإسماعيلية والدرزية والمسيحية كان من الطبيعي أن يتزايد الصراع الأيديولوجي في ذلك الوقت بين الإسلاميين واليساريين ممثلين بالحزب الشيوعي والحزب العربي الاشتراكي والحزب الإشتراكي ثم فيما بعد مع البعث العربي الاشتراكي تلك الأحزاب التي ينتمي معظم منتسبيها الى الأقليات المجاورة والأقلية العلوية خصوصا وفي صفوفي الطلبة المنتمين الى مجموعات طائفية واجتماعي مختلفة حظي اليساريون بالقسم الأكبر من الطلبة في صفوفي مؤيديهم داخل الصفوفي الطلابية فيما كانت مشاعر العداء تتزايد بين الإخوان والبعثيين وبالتأكيد فإن الأساتذة كانوا طرفا في هذا الصراع وبلغ الصراع حدة أن قضية تبدو تافهة مثل مسح شعار البعث ( أمة عربية واحدة ... ذات رسالة خالدة ) عن سبورة الفصل الدراس كافية أن تفجر أحداث عنف في مختلف المدن السورية ويذهب ضحيتها العشرات وقد كان بالإمكان التعامل مع الحادث بوصفه " حادثا طلابيا يقع مثله غالبا في أى مدرسة ولكن السلطات البعثية عالجته بصورة استفزازية لا مبرر لها "

لقد تطورت الأحداث في 7 / 4 / 1964 من إصدار حكم سياسي ضد الطالب حيث قضت محكمة أمن الدولة بسجنه لمدة سنة بسبب ما فعله ليتحول نبأ الحكم الى مظاهرات احتجاجية في المدينة بتحريض كبير شيوخ حماه وزعيمها الإخواني محمد الحامد بعد أن فوضته القيادة الإخوانية بالتصرف فجرت المسالة المكنون الطائفي فالصراع أصبح بين " الكفر " ممثلا بالبعثيين اليساريين وبين " الإيمان ممثلا بالإخوان المسلمين وتحول العراك من مجرد مشاجرات طلابية الى صراع ذي صبغة طائفية خصوصا بعدما " أصدر شبلي العيسمي وزير التربية والتعليم قرارا بنقل عدد من مدرسي الدين في المدينة " الى خارجها وسرعان ما استنفر الأمر خطباء المساجد فاندلعت المظاهرات في اليوم التالي غير أن دخول عنصر الدين وكون الإسلاميين ومعلمي الدين طرفا في القضية جعل الأمر مستنفرا لذوي اليسار " التقدمي " الذين لم يتورع بعضهم عن مهاجمة الدين ذاته لتتحول القضية من قضية دينية ذات بعد سياسي الى قضية سياسية ذات بعد ديني .

بلغ التشاجر وتصاعد الموقف حدا جعل التخاطب بلغة طائفية سياسية أمر حتميا مما أدي الى رفع وتيرة الصراع الى شفير لعنف قتل فيه أحد الأساتذة هو منذر الشمالي ( إسماعيلي ) لتطاوله على المقدسات الأمر الذي أدي الى أن تتدخل وحدات الجيش مع شرطة الشغب للقبض على الطالب وقتله فورا وسط دهشة الأهالي وأمام أعينهم ومن الطبيعي والحال هذه أن تتحول المطالب من مجرد إخراج الطالب المسجون الى إعدام الضابط القاتل ,. وتتزايد موجة الاحتجاج انتشارا وشدة خصوصا مع تردد الأنباء في المدن الأخرى ( دمشق وحلب وحمص في شكل خاص ) التي بدأت هي الأخرى بالإضراب ومظاهرات الاحتجاج .

فشلت جهود التهدئة التي توسط فيها عدد من السياسيين والشيوخ وتطورت الاحتجاجات السلمية الى احتجاجات بدأت تظهر فيها أشكال التسلح فاستنجد قائد قوات الحرس الثوري في حماه حمد عبيد ( درزي ) بالجيش لقمع الاحتجاجات فتم إمداده بالدبابات والمدفعية والطيران لقمعها.

في ذلك الوقت برز لأول مرة المهندس مروان حديد – أحد الصقور الإخوانية في حماه – كزعيم ميداني للاحتجاجات الذي قاد الاحتجاجات ثم اعتصام الأهالي في مسجد السلطان فقد كان الطالب المسجون من ثانوية عثمان حوراني التي كان مشرفا عليها تنظيميا وأمر الرئيس أمين الحافظ قائد حزب البعث في ذلك الوقت الطيران والمدفعية بدك المسجد بالقذائف واقتحامه وفض الاعتصام بالقوة قتل في الحادث ما يزيد عن ستين شخصا من المعتصمين وقبض على مروان حديد جريحا ليحكم عليه – مع عدد من المعتصمين – بالإعدام في محكمة عسكرية ترأسها مصطفى طلاس وزير دفاع عهد حافظ الأسد لاحقا .

غير أن الاستخدام المفرط للقوة أدي الى تزايد احتجاج الأهالي ورجال الدين في حماه والمدن السورية الأخرى وبدأت الإضرابات تشهد توسعا حادا مما اضطر السلطة للعفو عنهم جميعا بعد عدة أشهر وبدل أن يحتفل البعث بالذكري الأولي لـ " ثورته " وجد نفسه داخلا في صراع مع " انتفاضة شعبية ضد حكمه "

من هو مروان حديد؟

ولد مروان حديد في مدينة حماه العام 1934 , في عائلة مثقفة ولأبوين حمويين محافظين وميسوري الحال فقد كان والده أحد تجار حماه ومن الناحية الشخصية فإن حديد يتمتع ببنية جسدية قوية وطول فارغ ووسامة جذابة وأناقة ملفتة للنظر وقد بدأ حياته السياسية متأثرا بميول أشقائه اليسارية فقد كان إخوته الثلاثة ( أحمد وكنعان وعدنان ) أعضاء في حزب أكرم الحوراني كان هو مسؤولا ماليا عن الحزب العربي الاشتراكي في ثانوية ابن رشد بحماه قبل أن يلتحق بالإخوان المسلمين والشئ الذي يجمع عليه معاصروه هو تلك النزعة الطهورية الزائدة التي يتحلي بها .

كان حديد قد حصل على الثانوية العامة الفرع العلمي عام 1955 والتحق بكلية الزراعة بجامعة عين شمس 1956 في مصر ليتخرج منها في 1962 تعرض خلالها لاعتقالات متكررة من قبل السلطات المصرية ثم التحق بكلية الآداب جامعة دمشق قسم الفلسفة وحصل منها على البكالوريوس عام 1970.

كان يوم مقتل مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا (1949 ) في صفوفي اليسار وصدمته بشدة التعليقات اليسارية حول مقتله , التي ذهبت تتحدث عن مقتل " زعيم الرجعية العربية " و " أخطر رجل على الأمة العربية " ليكون ذلك الحدث نقطة تحول حاسمة في حياته فقد كان سببا لمحاولته فهم فكر الإخوان المسلمين وكسر الطوق الفكري اليساري الذي تأثر به الأمر الذي أدي به في نهاية المطاف الى الانتقال الى الجماعة واعتناق مبادئها .

عمل بشكل سري أيام الوحدة في جامع النووي الشهير في حماه وعندما سافر الى مصر لدراسة الهندسة الزراعية التقي بسيد قطب وتلاميذ حسن البنا وشهد عن قرب محنة الإخوان المصريين وتأثر بها بشدة أدي تصاعد حدة التوتر الطائفي والحزبي والأيديولوجي ( اليساري – الإسلامي ) بعد انقلاب البعثيين واستيلائهم على السلطة بحديد الى التفكير بالمجابهة الفكرية والسياسية فبدأ عقد الندوات في بيته ومسجده الصغير في حي البارودية ونشط بالمحاضرات والدروس في المساجد للتعبئة الفكرية والسياسية ضد " خبايا النوايا " للبعثيين وعلى الرغم من أنه ولسوء الحظ لم يخلف على ما يبدو مذكرات تمكن من فهم تاريخ أساسي من ولادة الأصولية الإسلامية السورية الا أن المعلومات المتناثرة عنه في العديد من المقالات والمؤلفات تكفي لرسم خطوط عامة لملامح شخصيته ودوره في الأحداث والحركة الإسلامية.

رسخت أحداث حماه 1964 وما رافقها من انتهاك لحركة المقدسات وخصوصا قصف مسجد السلطان واقتحامه بالقوة والاقتحام المسلح لمسجد خالد بن الوليد التاريخي والحكم عليه بالإعدام والسجن قناعة قوية لدي مروان حديد بضرورة عمل شئ لمقاومة نظام البعث الطائفي وفي نظره أن القوة هي الحل الأوحد لتغيير هذا النظام .

وجد حديد نفسه مشدودا للعمل الجهادي المسلح ضد البعثيين " الكفرة " لينضم الى تأسيس تنظيم قتالي سري عرف باسم " كتائب محمد " وبدا كأنما شيئا ما في داخله قد تغير لقد أصبح حديد أكثر تطرفا ووصل حدا جعل الشيخ الحموي محمد الحامد نفسه يستاء من أصوليته وعلى الرغم من أن هذا التنظيم قد ظهر اسمه بعد سنتين في أحداث المسجد الأموي في دمشق 1965 الا أن التنظيم كان له امتداد حموي .

كان دور حديد في أحداث حماه الميدانية رئيسيا الأمر الذي عزز مكانته بين الحمويين وطار صيته في أنحاء البلاد وكانت لأصداء دفاعه في محاكمته العسكرية ما أيقظ العواطف الشبابية الأصولية وعزز ووطن أفكار الجهاد.

وعلى الرغم من الاحتقان الطائفي المتصاعد في ذلك الوقت الا أن الفكر الإخواني ذي النزعة البراغماتية والتجربة الديمقراطية الحديثة كان غير مستعد لقبول الفكر الجهادي بعد الأمر الذي جعل دعوة حديد الجهادية لا تلقي آذانا صاغية الا في النادر ومع ذلك لا نعرف حتى اليوم عدد أفراد هذا التنظيم ولا المصير الذي ال اليه غير أننا نرجح أن هذا التنظيم الذي بقي مستمرا أو سريا كان أساس التنظيم المسلح الذي أسسه في مطلع السبعينيات أى أنه لم يضمحل بل تمدد واستفاد منه مروان حديد كقاعدة لتأسيس تنظيم جديد على الأسس الفكرية ذاتها في الغالب .

وبالنسبة للنظام البعثي الجديد فقد " كانت أحداث حماه الدامية تجربة ذات أثر تكويني لا ينسي فالمدينة كانت دوما رمزا لاضطهاد الريفيين الفقراء ومعقلا للمذهب السني المحافظ " وبدأ الحكام البعثيون " يشمئزون منها باعتبارها صارت مركزا للرجعية " الإسلامية الحاقدة "! لقد كان لابد للقيادة القطرية التي كان حافظ أسد جزءا منها أن تقوم " باتخاذ القرارات القاضية بقمع الاضطرابات وإفهام من هو صاحب المر والنهي .

كان من المفترض أن لا تفاجئ الاحتجاجات الشعبية العامة القيادة البعثية فالبعث أقلية نخبوية وأفكار اليسار ليست أمرا سهل التقبل في مجتمع متدين ومحافظ بدأت تدب فيه الروح الطائفية ومع ذلك فقط كانت سطوة الأيديولوجيات اليسارية قد حجبت هذه الحقيقة عن أذهان الانقلابيين البعثيين الجدد فأصابتهم الدهشة من " اتساع مدي المعارضة لهم في مجتمع السوري , التي تشمل الطبقات الوسطي فحسب بل امتدت الى صفوفي لطبقات العاملة من السنة في المدن .

وصل الانقسام والصراع الطائفي الى الضباط البعثيين أنفسهم فانشطرت القايدة العسكرية الى تكتلين أولهما يمثل ضباط الأقليات والآخر يمثل ضباط السنة يقود الأول الضابط العلوي صلاح جديد ويقود الآخر الضابط السني أمين الحافظ ونتيجة لهذا الصراع في نهاية عام 1966 كان " الجيش السوري قد فقد أكثر من الفي ضابط وثلاثة الاف ضابط من الاحتياط أى ما يعادل ثلث ضباط المؤسسة العسكرية بأسرها .

ومن الطبيعي أن تكون لهذه الأحداث بجوار الذاكرة الطرية لأحداث حماه 1964 آثارها في تعميق المشاعر الطائفية في المجتمع السوري وأن تزيد من قابلية الشباب لاعتناق الأفكار الجهادية خصوصا مع تفاقم النقمة على مشروع التأميم الاستفزازي الذي بدأ يفسر بأنه استهداف اقتصادي طائفي فمعظم " البورجوازيين " التجار والصناعيين " والإقطاعيين " ملاك الأراضي المستهدفين كانوا سنة الأم الذي زاد الطين بلة وبدأ التصنيف سياسيا بين " العمال " و " الفلاحين " والطلبة " و " الشبيبة " كمجموعات متضادة ومتقابلة لـ " الإقطاعيين " و " الرجعيين " وبدا أن " كون المرء سوريا فقط لم يعد يعطيه أى حق " لابد أن يكون بعثيا وطائفيا وكان النظام البعثي " يحاول تحقيق شئ لا يقل عن تحويل طابع سوريا وشخصيتها كان " دليل سلوك حكام سوريا في ذلك الوقت هو الثورة في الداخل (... ) وكذلك الشعور بالعصبية طبعا تجاه أعدائهم في الداخل وهكذا فقد أصبح " الصراع بين العلمانية والإسلامية مكشوفا في ظل سياسات انقلابي 8 / 3/ 1961 ".

جرت اعتقالات واسعة في عام 1965 طالت المعارضة الوطنية والمعارضة الإسلامية المتنامية تحت وطأة السلوك الاستفزازي لحكومة البعث على وجه الخصوص بدأت مشاعر الاستياء والسخط الشعبي بالتصاعد فتداعي علماء دمشق للاجتماع والتباحث في كيفية مواجهة السلوك الاستفزازي للنظام في المسجد الأموي التاريخي الكبير في قلب العاصمة والانتشار في مدن أخري وفوجئوا في اجتماعهم بالدبابات تخلع باب المسجد الأموي وتقتحمه ساحقة الناس في باحته , ومطلقة الرصاص على الناس المجتمعين فيه مما أدي الى مقتل الكثيرين واعتقل الباقون وحمل الجرحي والقتلي مع الأحياء الى سجن المزة حيث كانت تقبع مجموعة من المعتقلين الإسلاميين الذين يحاكمون بتهمة الانتماء الى تنظيم مسلح يهدف الى تغيير النظام كان ذلك التنظيم هو " كتائب الشام "

الطليعة المقاتلة

أخذت الأحداث المريرة تترك في الوعي الشعبي ذاكرة التمييز السياسي على أسس حزبية وطائفية وتغرس إحساس المهانة بالاعتداء على المقدس ولابد سيكون لذلك تداعياته الاليمة في حرب أهلية وليس مستبعدا أن تكون هناك قناعة لدي بعض القيادات الحزبية بإشعال حرب أهلية من أجل إعادة تشكيل المجتمع السوري وفق ما تقتضيه الأيديولوجيات الماركسية التي كانت قد أخذت بالانتشار في صفوفي الضباط القوميين واليساريين.

وتواصلت سلسلة الأحداث في المنحي ذاته ففي 25 / 4 / 1967 نشرت المجلة الرسمية للجيش السوري ( مجلة جيش الشعب ) مقالا لأحد ضباط الجيش اليساريين المتطرفين ( إبراهيم خلاص ) يتضمن تعبيرات علمانية حاد حيث " يسخر فيه من الدين " ويعتبر الله " دمية منحطة في متحف التاريخ " فانتشر شعور بالفزع ولنقمة , جعل أكبر علماء الدين وشخصياته في سوريا , الشيخ حسن حنبكة يقود في شوارع العاصمة مظاهرة احتجاج اشترك فيها عشرون الفا فالقي القبض عليه وأمر " النظام بمصادرة ممتلكات أصحاب الدكاكين المضربين وطرد دبلوماسيين سعوديين اتهما بالتواطؤ في الشغب وصدر حكم صوري على كاتب المقال ومحرر المجلة بالأشغال الشاقة المؤبدة وأطلقا فيما بعد.

وللخروج من هذا المأزق " كان محتوما أن تلام وكالة المخابرات الأميركية وتتهم بأنها هي التي أوحت بهذا المقال فيما حكم على المتظاهرين بالسجن بأحكام مقاسية ومرة أخري يكرس الحدث منحي المواجهة الطائفية ميدانيا وينقلها من المدينة الصغيرة وسط البلاد ( حماه ) الى العاصمة (دمشق ) .

وبالطبع كان الشيخ مروان حديد الذي أصبح لديه إيمان قاطع بضرورة المواجهة حاضرا في هذه الأحداث فقد قاد الاحتجاجات ميدانيا مرة أخري في مدينة حماه وبما أنه كان أصبح موضع سخط خاص لدي السلطة البعثية فصدر عليه حكم غيابي جديد بالإعدام مما اضطره الى مغادرة سوريا خفية بعد كارثة حرب حزيران / يونيو 1967 متسللا الى الأردن ليبدأ هنالك فصولا جديدة من العمل الجهادي .

بعد نكسة حزيران / يونيو 1967 أنشأ مروان حديد في محل إقامته في الأردن تنظيما عسكريا مكونا من سوريين وفلسطينيين وأردنيين أطلق عليه اسم " الطليعة المقاتلة لحزب الله " وقد شن هذا التنظيم عمليات فدائية من أغوار الأردن على القوات الإسرائيلية الموجودة في الضفة الغربية المحتلة واستمرت بهجماتها حتى " أيلول الأسود " 1970 حيث انتهي وجود هذا التنظيم بالكامل وكان تنظيم الطليعة المقاتلة لحزب الله قد ضم بين أعضائه عددا من عناصر الإخوان الفلسطينيين والأردنيين بينهم الفلسطيني عبد الله عزام الذي سيكون له دوره المفصلي في تاريخ الحركة الجهادية المعاصر.

عاد مروان حديد الى سوريا بعد انقلاب الأسد في 16 / 10/ 1970 مع عدد من عناصر تنظيمه في الأردن الذين تلقوا تدريبات وخاضوا بعض المعارك ضد الإسرائيليين هناك ليجد الإخوان المسلمين وقد انشقوا على تنظيمن بتأثير خلافات جهوية وتوجهات أيديولوجية بدأت تدب في الجماعة وبالعم من أنه عمل مع الحمويين على رأب الصدع , الا أنه انحاز في النهاية ومعه الإخوان الحمويون الى مركز حلب .

وما كان انحياز حديد بناء على قناعات أخلاقية وقناعة فكرية بل كان بالدرجة الأولي للقيام بمشروعه الجهادي الذي أفرزته تجربته في الأردن فقد كان حريصا على جر الجماعة الى العمل الجهادي المسلح لتغيير النظام البعثي ذلك أن انحيازه لمركز حلب كان انحيازا للأكثرية في الجماعة .

أبدي حديد علي الفور سعيا حثيثا لدفع الجماعة باتجاه تبني أفكار المقاومة الجهادية المسلحة غير أن أفكار حديد لم تكن تلقي قبولا في الفكر الإخواني البراغماتي وذلك على الرغم من تصاعد الإحساس بالتمييز والاستهداف الطائفي والحزبي وكان عالم الحديث الشريف الدكتور عبد الفتاح أبو غدة من أكثر المتشددين ضد التوجهات الجهادية في مقاومة النظام .

وجد حديد الطريق مسدودا أمام أفكاره من قبل قيادات التنظيم ففكر بالانشقاق لكن في إطار البقاء في لتنظيم أى أنه فكر فعليا بتشكيل تنظيم داخل التنظيم بهدف أكل التنظيم من الداخل وتحويله الى العمل المسلح وقد أثر عنه ما يكشف هذا التفكير وهو قوله الذي تناقلته أجيال الطليعة المقاتلة " لأئن أخرجني الإخوان من الباب فسأدخل عليهم من النافذة وسأجرهم للجهاد جرا "

بدأ مروان حديد بتأسيس تنظيمه الجديد باسم " الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين ومن الواضح أن التسمية كانت لغاية جر التنظيم الإخوان برمته الى لجهاد بإيحاء أنه الذراع العسكري للإخوان وتوجه حديد ال الجماعة ببيان شهير عنونه بي " نداء الى العلماء العاملين والمسلمين المخلصين والجماعات الإسلامية دعا فيه للعمل المسلح وإقامة " دولة الإسلام " ومقاومة الحكام العبثيين " الكفرة لإقامة حكم الله منتقدا موقف قيادات الجماعة في اعتبار الجهاد سابقا لأوانه لأنه يحتاج الى تربية وإعداد نفسي ومادي متسائلا " متى تنتهي مرحلة التربية هذه (..... ) وما هو المقياس لتقدير أهلية المسلم لأن يكون مقاتلا أو أنه غير أهل ؟ أو أن الجماعة وأهل الطريق أهل للقتال أم لا؟ (..... ) فبأي حجة أسها المسلمون تعفون أنفسكم من القتال ؟ محاولا تفنيد الحجج بالتفصيل المانعة من سلوك الجماعات الإسلامية طريق العمل الجهادي المسلح لتغيير النظام .

كان وقع البيان سيئا على الجماعة فتأثيره في ظروفي الاحتقان الطائفي المتزايد كان بالغا إذ بدأ الفكر الجهادي بالانتشار في صفوفي الإخوان وقد أعطي بيان الشيخ حديد الحجج الكافية لمواجهة القيادة والخروج عن سيطرتها وبدا أن تيارا أصوليا أخذا بالشكل فاضطرت القيادة لاتخاذ إجراءات صارمة لإيقاف زحف الفكر الجهادي وقامت بفصل العديد من أتباعها بمجرد ثبوت أية علاقة لهم بمروان حديد.

أدت أزمة الدستور عام 1973 الى تزايد الشعور بمحاولات إقصاء طائفية تستهدف الإسلام ذاته وكان مروان حديد قد وجد في أزمة الدستور فرصة لا تفوت في التحريض على العمل الجهادي لإسقاط النظام البعثي بالقوة فقام بالاتصال بالعلماء في أنحاء سوريا وتاليبهم على النظام الا أن جماعة الإخوان المسلمين التي كانت وراء أزمة الدستور وقفت ضده بشدة وحذرته من خطورة ما بقدم عليه ولكن مع انتهاء أزمة الدستور والتي أدت الى اعتقال عدد كبير من الإسلاميين معظمهم من جماعة الإخوان المسلمين وبعضهم من قيادات التنظيم مثل سعيد حوى كان الفكر الجهادي ينتشر بسرعة متزايدة فحجج الإخوان ذاتها تساعد على نمو النزعة الأصولية وتوسع من فرص اعتناق الفكر الجهادي لديهم .

وبينما كانت القيادات الإخوانية تدفع باتجاه وقف زحف الفكر الجهادي الى إتباعها كانت الأحداث تدفع باتجاه معاكس وفي 30/6/ 1975 القت أجهزة الأمن القبض عليه بعد معركة طاحنة في بيته في منطقة العدوى بدمشق ليتعرض بعدها الى تعذيب متواصل في السجن ويتوفي متأثرا نتيجة إضرابه عن الطعام وقيل بإبرة سامة حقنت في عنقه في مشفي حرستا العسكري في 6/6/ 1976 وكان أول " شهيد " للطليعة المقاتلة " سيكون ملهما لعنف تنظيم الطليعة المقاتلة فيما بعد .

الانفجار

أشعل اعتقال ثم " استشهاد " مروان حديد حوادث العنف المسلح ضد النظام فبعد بضعة أيام من اعتقاله عام 1975 حاصرت قوات المخابرات الشيخ محمود حامد . مع المجموعة من أتباع حديد في بستان في منطقة باب النهر في مدينة حماه وكان الحامد مؤمنا بأفكار حديد الجهادية وداعيا بارزا من دعاة الفكر الجهادي الميدانيين في مدينة حماه انطلاقا من مسجد السلطان الذي أصبح رمزا لمواجهة الإسلاميين الأمر الذي شجع على مواجهة مسلحة بين بعض عناصر التنظيم وقوي الأمن تلك الى أن تمكن الشيخ الحامد من الإفلات غير أن الحادثة أفضت الى استشهاد احدهم وهو أحمد زلف واعتقال البعض الآخر وكان لأنباء استشهاد عضو الطليعة المقاتلة زلف في هذه المواجهة صدي وتأثير واسعان بين الإسلاميين خصوصا وأنها استتبعت اعتقالات واسعة بين صفوفي الإخوان المسلمين من أتباع مروان حديد.

كان وقع نبأ مقتل مروان حديد كالصاعقة على رؤوس أتباعه وفجر غضبهم في سلسلة من الأحداث الدامية في مدينة حماه حيث وفقا لبعض المصادر غير المؤكدة بدأت الأحداث في أروقة كلية الطب البيطري حين استفز أحد الطلاب البعثيين مشاعر الطلبة الصائمين بالتدخين في رمضان ليتحول الموقف الى عراك بالأيدي والتهديد المتبادل لكن عناصر الأمن اعتقلت في اليوم التالي الطالب ( زكريا علواني ) عند خروجه من قاعة الامتحان بصفته المسؤول عن الحدث وسرعان ما تدخل اثنان من زملائه رضوان زكريا زينو وغزوان علواني وأمطرا سيارة الأمن بالرصاص لتنفجر إطارات السيارة ويتمكن من الهرب غير أن عناصر أمن الدولة التي كانت وقتها برئاسة الرائد محمد الغرة ( علوي ) تمكنت بعملية مداهمة مفاجئة من اعتقال أحد منفذي العملية وهو رضوان زكريا زينو فيما داهمت بيت الثاني غزوان علواني وأعدم على الفور على باب منزله .

كان عبد الستار الزعيم (حموي ) قد تسلك قيادة تنظيم الطليعة المقاتلة بعد عمل دؤوب لتجميعه والحفاظ على وحدته في فترة اعتقال حديد عام 1975 وكان أحد أبرز أعضاء التنظيم القديم ( الطليعة المقاتلة لحزب الله ) والذي توفر له كل ما يحتاجه تنظيم أصولي لبدء العمل على الأرض الفكر والعمل السياسي والشهيد رمز البطولة الفداء فحفزته الأحداث لبدء وضع خطة تنفيذ لعمل المسلح لمواجهة النظام فوضع خطة سرية لتنفيذ جملة اغتيالات تهز أركان النظام .

وبعد أيام من اعتقال رضوان رتب التنظيم عملية تحريره من المستشفي العسكري الذي كان معتقلا فيه ليقوموا في مطلع تشرين الأول / أكتوبر 1976 باغتيال الرائد محمد الغرة باعتباره المسئول المباشر عما جري من الأحداث .

كان اغتيال الرائد الغرة بمثابة أول عمل عسكري افتتح به تنظيم الطليعة المقاتلة المواجهة المسلحة مع النظام ولم يكن بعد مكشوفا أمام أجهزة الأمن ولا أمام قيادات تنظيم الإخوان المسلمين أنفسهم وأصبحت الحادثة تؤرخ فيما بعد لبدء الصدام الإسلامي المسلح مع النظام .

ولم يمض وقت طويل حتى كان تنظيم الطليعة المقاتلة قد قام بسلسلة اغتيالات في الدائرة القريبة من الأسد وأركان نظام البعث ولم يكن أحد من قيادات الإخوان يعلم من وراءها كما لم يكن واضحا للنظام حينذاك ما إذا كانت تلك الأحداث وليدة معارضة سياسية داخلية ضد التدخل العسكري السوري في لبنان مثلا أو نتيجة المنافسة بين نظامي البعث الحاكمين في كل من بغداد وسوريا أو ما إذا كان حتى المقصود بذلك هو إثارة " الانقسامات الطائفية " وعلى أية حال فقد اتهم النظام عبر إذاعة دمشق ما أسماه بـ " الزمرة الفاشية العشائرية التكريتية " الحاكمة في بغداد بتدبير تلك الاغتيالات .

عززت الاغتيالات ذات الطبيعة الطائفية فرضية وقوف جهة إسلامية متطرفة وراءها وبمتابعة استخباراتية استطاع الأمن السوري اعتقال بعض عناصر الطليعة المتورطين في العمليات في أواخر عام 1978 وأدت هذه الاعتقالات الى انكشاف التنظيم المسلح والعلاقات التي تربطه بالجهاز العسكري الإخواني عبر أعضائه ذوي الانتماء المزدوج وكانت هذه الاعتقالات مؤشرا على تغلل فعلي لتنظيم الطليعة الصغيرة في صفوفي الإخوان.

ومع تكشف عناصر التنظيم الطليعة المقاتلة في سباق مع النظام فقررت استباق ضرب التنظيم بالقيام بعمليات نوعية وعلنية ضد النظام وهكذا ففي 16/6/1979 قامت مجموعة من التنظيم بأكبر عملية في مدرسة المدفعية بمدينة حلب حيث تم إعدام عشرات الطلاب العسكريين العلويين بقيادة النقيب إبراهيم اليوسف مخلفين وراءهم وثائق تشير الى أنه " تنظيم الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين كتيبة الشهيد مروان حديد " ومن المؤكد أن هذه العملية هزت النظام وحسمت صورة الصراع على أنه صراع طائفي غير أن قادة الإخوان المسلمين التي فوجئت بالعملية وباسم التنظيم سارعت بإعلان بيان تنفي أى صلة لها بها خصوصا وأن وزير الداخلية وجه الاتهام الى الإخوان وحملهم بأثر رجعي مسؤولية الأحداث منذ حزيران / يونيو 1976.

كشفت هذه المجزرة الرهيبة عن قوة تنظيم الطليعة المقاتلة وتنامي قدراته وتمركزه في المنطقة الشمالية وعن اختراق التنظيم لعناصر بعثية وضباط الجيش والقوات المسلحة أدي ذلك الى استشعار النظام بالخوف خصوصا وأن الطليعة المقاتلة أعقبت حادثة المدفعية باغتيال طبيب الأسد الخاص ( محمد شحادة خليل / طبيب الأعصاب الجراح ) في آب / أغسطس 1979.

استنفرت أجهزة الأمن وتحول أعضاء حزب البعث الى جهاز مخابراتي رديف بحثا عن تنظيم عناصر الطليعة المقاتلة ذات الملامح التنظيمية الغائمة وتمت اعتقالات عشوائية بالالاف طالت أعضاء من التنظيم وقيادات من الطبقة الوسطي والدنيا للإخوان ليبدأ مسلسل عمليات التعذيب والتنكيل والتصفيات الجسدية بحثا عن أعضاء التنظيم ولم تسفر هذه الاعتقالات الواسعة التي لم تطل قيادة الإخوان المسلمين الذين كانوا جميعهم في الأردن قبل عام 1978 عن تأثير كبير في حركة التنظيم بل أدت الى نتائج معاكسة فقد أدي ظهور الملمح الطائفي وعمليات التعذيب والتنكيل التي بدأت أنباؤها بالتردد في المجتمع السوري .

الى إقبال الالاف من الشباب على الانتساب والتطوع للقتال والدفاع عن النفس مما أدي الى ضخ دماء جديدة في التنظيم وسع مدي الصدام المسلح مع النظام .

كثفت الطليعة المقاتلة أعمالها العسكرية والاغتيالات التي وصلت حد العمليات اليومية وبدأت اشتباكات وحروب عصابات في شوارع المدن السورية وبدأت أعمال الهجوم على مراكز السلطة والحزب والأمن وبلغ التأييد الجماهيري حدا في مارس / آذار 1980 بدأت تجتاح فيه المظاهرات سائر المدن السورية مطالبة بإسقاط النظام والتي قابلها النظام بعمليات قمع شديدة وتنفيذ عدد من المجازر المريعة بهدف عزل التنظيم ووقف تمدده ومنع تنامي الدعم الشعبي له .

سعي الإخوان المسلمون عبر وساطات متعددة لإقناع النظام بعدم تأييدهم لأعمال العنف بل ووقوفهم ضدها وبعد صلتهم بتنظيم الطليعة المقاتلة ومع شعور النظام بالخوف ورغبته بإضعاف التنظيم وتهدئة الأجواء بدأ بتقبل عدم مسؤولية جماعة الإخوان عن أحداث العنف الأمر الذي دفع حافظ الأسد في 23 /3/ 1980 الى أن يوجه حديث الى الشعب السوري من إذاعة دمشق معلنا فيه : " أريد أن أوضح أمرا يتعلق بحزب الإخوان المسلمين في سوريا الإخوان المسلمون في سوريا ليسوا جميعا مع القتلة بل كثير منهم القسم الأكبر منهم ضد القتلة ويديم القتل وهذا القسم يري أنه يجب أن يعمل من أجل الدين ورفع شأن الدين لا من أجل أى هدف آخر . هؤلاء أيها الشباب لا خلاف لنا معهم إطلاقا بل نحن نشجعهم نحن نشجع كل امرئ يعمل من أجل الدين ومن أجل تعزيز القيم الدينية ولهؤلاء الحق بل وعليهم واجب أن يقترحوا علينا وأن يطالبونا بكل ما من شأنه خدمة الدين ورفع شأن الدين ونحن لن نقصر بل لن نسمح لأحد بأن يسبقنا في هذا المجال ونحن نشجع من يعمل من أجل الدين ونحارب من يستغل الدين لأهداف غير دينية ونحارب الرجعيين الذين يحاولون أن يستغلوا المتدينين في بلادنا لمصالحهم وأغراضهم السياسية القذرة ليقوم بعدها السد ببادرة " حسن نية " بتأثير المفاوضة مع الإخوان عبر " أمين يكن " أحد قياديي الجماعة حيث أفرج عن أكثر من خمسمائة معتقل من الإخوان أملا بالتهدئة وتعميقا لعزل عناصر الطليعة.

وفي الواقع فإن خطاب الإخوان كان مزدوجا ففي الوقت الذي كانوا يتبرأون من العنف ويتنصلون من المسؤولية عن الأحداث كانوا يرون أن الفرصة تاريخية لإسقاط النظام والانقضاض عليه وأن عليهم كسب المعركة الوقت معا وهكذا دفع توالي الأحداث قيادات الإخوان الى أن تستسلم للفكر الجهادي وتنتقل الى الأصولية المتكررة ليتحقق مشروع مروان حديد في طليعته المقاتلة بجر الإخوان الى الصدام المسلح مع النظام والانغماس في العنف.

ففي الفترة الممتدة بين شهري آذار / مارس وحزيران / يونيو 1980 أرسل الإخوان عناصر مقاتلة من تنظيم الأردن الى داخل الأراضي السورية للقيام بعمليات عسكرية تهدف الى زعزعة النظام وعلى الرغم من أن بعض عناصر المجموعة الإخوانية المسلحة قد تلقي تدريبا جيدا في معسكرات الجماعة في العراق الا أنها فشلت وانكشف معظم أفرادها لأجهزة الأمن وقضي كثيرون منهم نحبهم قتلي في عمليات متفرقة !

وتزامنا مع الأحداث صدر في 8/6 / 1980 القانون 49 الذي يجعل من الانتماء الى الإخوان والاشتراك معهم أو الترويج لآرائهم جريمة عقوبتها الإعدام حينها وجد الإخوان أنفسهم في وضع لم يعد يحتمل تلك الازدواجية في الخطاب خصوصا بعد " مجزرة تدمر " الشهيرة في 27/6/1980 التي يتراوح عدد ضحاياها بين 500 -1181 معظمهم من المثقفين المعتقلين من جماعة الإخوان المسلمين والتي قامت بها وحدتان من " سرايا الدفاع " بناء على أوامر الضابط رفعت الأسد ( شقيق الرئيس ) انتقاما لمحاولة الإغتيال الفاشلة للرئيس الأسد.

محا الخوف والكراهية ونهر الدماء المسفوكة أية فكرة لهدنة بين نظام الأسد والإخوان المسلمين وبما أن الضحايا معظمهم من الإخوان فقد حاول الإخوان السيطرة على تنظيم الطليعة المقاتلة الذي أصبح بقيادات متعددة لا مركزية متعددة الرؤوس بعد مقتل زعيمها الثاني ( عبد الستار الزعيم ) في اشتباك مسلح في الطريق الى دمشق ( تقريبا ) في 12 9/ 1979 غير أن ثقل القيادة الرئيسي كان في حلب , حيث تدور معظم الأحداث والعمليات الميدانية والتي أصبحت تضم أكبر تجمع قواعد التنظيم.

وصل الأمر بالإخوان الذين تدفق اليهم المال من كل مكان الى التفكير بالتفاوض المباشر مع قيادات الطليعة التي أصبح مركزها بحكم الوقائع قيادة حلب ( عدنان عقلة ) فأوفد علي صدر الدين البيانوني ( الذي كان نائبا للمراقب العام وقتها ) في آذار / مارس 1980 لمفاوضتهم على القبول الانطواء تحت قيادتهم مقابل مدهم بالمال ووضع إمكاناتهم السياسية والإعلامية والميدانية في متناولهم ومدهم بالمقاتلين غير أن قيادة الطليعة كانت تري في هذه العملية نوعا من الاستغلال بعد أن كان الإخوان قد بذلوا جهدهم لتتبرأ من الطليعة المقاتلة وعملياتها بدءا من عملية المدفعية.

حمل المفاوض رسالة مكتوبة بخط منظر الجماعة سعيد حوى موجهة الى قائد التنظيم في حماة هاشم جمباز تضمنت إقرارا بأن الإخوان المسلمين كانوا قد عقدوا اتفاقا مع عبد الستار الزعيم عام 1978 حول دعمه بشكل خلفي من قبل لجماعة غير أن السلطات الأمنية عثرت عليها في أثناء احدي المداهمات وتلتها في الإذاعة على مسامع الجمهور لتثبت صلة الإخوان بتنظيم لطليعة فيما نفي قائد الطليعة المقاتلة في حلب ( والذي أضحي ناطقا رسميا باسم التنظيم ) بشكل قاطع أى اتفاق من هذا لنوع مذكرا بأن الثورة المسلحة انطلقت بغير إذن الجماعة ورغما عنها .

كان شرط الطليعة في حلب وحماة الوحيد للقبول بعرض الإخوان أن تكون قيادة العمل المسلح للطليعة التي تخوض الحرب بدمها وليس للإخوان القابعين " وراء الحدود " آمنين في بيوتهم مع أهاليهم وهذا بالتأكيد ما لم يأت الإخوان من أجله فيما قبلت قيادة دمشق وبعض القيادات الفرعية في الطليعة في حماة بعرض الإخوان وقاموا بمبايعتهم فقرر الإخوان العمل من أجل " الحسم " وقلب النظام بتصعيد العمل العسكري وتوسيعه وبالانغماس الكامل فيه.

بدأ الإخوان العمل من أجل ذلك بتفعيل اللجان لعسكرية التي كانوا قد أسسوها بعد أبريل / نيسان عام 1979 وإعداد أنصارهم في الجيش السوري لتشكيل جيوب عسكرية في مختلف المدن تابعة لقيادة الإخوان وفتحوا باب التطوع للجهاد في سوريا لاستقطاب الشباب المقاتلين من مختلف أنحاء العالم وبدأوا حملة ترويج في الأعلام وبين أتباعه للحسم الذي اقترب وقته وأعلن الإخوان عن قيام " الجبهة الإسلامية لإنقاذ سوريا " في تشرين الأول / أكتوبر عام 1980 تمهيدا لمعركة الحسم وأصدرت الجبهة بيان " الثورة الإسلامية في سوريا ومنهاجها " في 9 / 11/ 1980 وقد عكس البيان المحتوي الطائفي السياسي لتلك الحقبة فيما سماه , إهابة بأبناء الطائفة لعلوية من أجل " مراجعة حساباتهم " وأن تنفض عن نفسها وصاية العناصر الفاسدة التي قادتها الى هذا المأزق الدقيق وأن الأمور قد وصلت الى مرحلة اللاعودة فيما يتعلق بالنظام .

كان البيان بمنزلة إعلان رسمي عن تحول جماعة الإخوان المسلمين الى الأصولية والعنف حتى مع تضمنه تصريحا بأن " الحقوق المدنية والقانونية لجميع الأقليات العرقية والدينية مصونة وحرياتهم الشخصية مكفولة فالبيان فيما يبدو يتضمن تحولا باتجاه فكرة " الدولة الإسلامية " التي لا مكان فيها للأقليات الدينية الا باعتبارهم رعايا وحسب كما تضمن البيان " السياسي " تكفيرا دينيا للعلويين فقد كان محتما أن يستنجد في البيان بالخطاب الديني العقدي في المعركة السياسية في محاولة تحشيد شعبي واسع ضد نظام الأسد.

كان " مخطط الحسم الذي تم الإعداد والحشد له بما يزيد عن عام ونصف للإطاحة بنظام الأسد مبنيا على عصيان مسلح في مدينة حماه يدعمه عصيان مسلح في الجيش ينضم الى المقاتلين في حماه ويتصاعد بدخول مقاتلين متطوعين من الخارج للمساندة غير أن الأجهزة الأمنية استطاعت كشف المخطط نهاية عام 1981 وقامت بعمليات تسريح واسعة للضباط المشتبه بهم والقبض على العديد منهم وإعدامهم ثم اعتقل مراسل الإخوان والمنسق بين الداخل والخارج (_ خالد الشامي ) في كانوا الأول عام 1982 وسارع النظام بالمواجهة الاستباقية بحصار حماه عسكريا واضطر الإخوان لإعلان نفير حماه في شباط / فبراير 1982 وقد وحدت أحداث حماه الطليعة المقاتلة ميدانيا وانضمت قيادة حلب للمشاركة في المعركة.

كانت المعركة محتومة الفشل في ظل الظروف التي أحاطت بها وكان من المؤكد أن هذه المعركة حاسمة بالنسبة للنظام فعلا لكنها حاسمة لإنهاء أى معارضة مسلحة إسلامية له فقد كانت حماه معركة أخيرة يجب أن يكسبها أحد الطرفين لأنها بطريقة أو بأخرى ستقرر مصير البلد (.. ) وكان كل حزبي ومظلي وكل من أرسل الى حماه يعرف أن التشدد الإسلامي يجب اقتلاعه من المدينة هذه المرة مهما كان الثمن إن مثل هذا الفهم للمسالة على أنها الفصل الختامي في صراع طال أمده قد يفيد في توضيح سبب شدة العقاب الذي انزل بالمدينة فوراء الصراع المؤشر كانت هناك عداوة وقديمة متعددة الطبقات بين الإسلام والبعث بين السني والعلوي وبين المدينة والريف.

الشتات

وقعت مجزرة حماه الرهيبة في 2 - 28 شباط / فبراير 1982 ودمرت المدينة على رؤوس أهلها وأبيدت كثير من معالمها التاريخية ومسح العديد من مساجدها ( بينها مسجد السلطان ) وراح ضحيتها بضع عشرات من الالوفي من مواطني المدينة بمن فيهم الاف الأطفال والنساء والشيوخ .

ومع انتهاء مجزرة حماة وسحق المعارضة الإسلامية المسلحة اقتلع النظام العمل المسلح ضده في البلاد أما الإخوان المسلمون فقد تم اقتلاعهم " بالاعتقالات والإعدامات وبالأثر النفسي لقانون 49 ولم يعد لهم وجود على الأرض السورية بعد ذلك وقد حرص النظام على مطاردتهم في الداخل حتى نهاية التسعينات الى ما وراء الحدود وانشقت الجماعة وانقسمتا على نفسها في الخارج بعد أن توحدت في مطلع الثمانينيات ولم يعد لهم وجود في الداخل الا على شكل ذكري مريرة ودامية تثير الآسي ونتيجة للدعاية الإعلامية المكثفة التي قام بها النظام وبالتضافر مع الخيبة التي حصدها السوريين مع القتل والسجن والتنكيل فقد أصبح اللوم على الإخوان وتحميلهم مسؤولية ما حدث أمرا بديهيا في الداخل إذ لم يجد السوريون أما هذا الحال من يحملونهم المسؤولية سوي الإخوان أنفسهم حتى وصلت شعبيتهم الى الحضيض .

طال تأثير القمع مئات الالوفي من الأسر في مختلف أنحاء البلاد ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم حرص النظام على تذكير الشعب بتلك الأحداث فحرم طوال أكثر من ربع قرن – وما يزال يفعل ذلك الى الآن – أبناء المسجونين والمفقودين وأقرباءهم ( حتى الدرجة الثالثة ) من أغلب حقوقهم المدنية وصادر لكثير منهم أملاكهم التي ذهبت معظمها كغنائم استولي عليها ضباط كبار " وإذا كان معارضون من مختلف التيارات السياسية المنظمة قد وجدوا طريقهم الى السجن وقتها فإن التعامل الثأري وسياسة الاستئصال كانا من نصيب الإسلاميين وحدهم لقد ظلوا لسنوات طوال مقطوعي الصلة بالعالم الخارجي وفي ظروفي من القهر الجسدي والنفسي أخذت أخبارها تتسرب لتعطي مفعولها التأديبي الذي عم الثمانينيات وما زال تأثيره قائما اليوم وأما من تبقي من أعضاء الطليعة المقاتلة فقد اضطروا كسائر أعضاء التنظيم من الإخوان خارج البلاد الى مبادلة التهم مع الإخوان حول المسؤولية وأسباب الفشل لتنشر في أنحاء مختلفة في الخليج والأردن والعراق وأوروبا .

المصائر : الجهاد العالمي

لا تنتهي فصور التيار الأصولي في سوريا عند هذا الحد فثمة ما هو مهم ينتظرهم بينما انكفأ الإخوان لمعالجة ما خلفته الأحداث وتضميد جراح الحركة ودخلوا في حالة من السبات بعدما أصبح ملف المعتقلين السياسيين مزمنا ومطلبا شعبيا يتطلب حله لكن الأسد الذي تعامل معه دوما من منظور أمني بحت حوله الى " كارثة وطنية " بمعني الكلمة فيما انصرف أعضاء التنظيم يبحثون في الأرض عن مستقبلهم بعد أن فقدوا الملجأ ومن وجد ملجأه بين الإخوان تكفل الإحباط بإنهاء أى تكفير بممارسة أعمال عسكرية ضد النظام أما أعضاء تنظيم الطليعة الذين لم يبايعوا الإخوان فذهبوا يتلاومون مع الجماعة ويتبادلون الاتهام .

عم عدنان عقلة في العراق على إعادة بناء تنظيم الطليعة لإحياء الثورة الجهادية " في سوريا مرة أخري وقد وصل التأزم مع الإخوان ذروته حدا جعل قائد تنظيم الطليعة يفتي بكفرهم بسبب تحالفهم مع " الأنظمة الكافرة " و " الأحزاب العلمانية "و " المفاوضة مع النظام الكافر في سوريا " وشكل " عددا من اللجان , ( مثل لجنة العقيدة ) لبلورة وصياغة مجموعة أفكارها ومنهجها ومواقفها من القضايا الرئيسية ( ولجنة التنظيم ) لإعادة هيكلته وأجهزته اللازمة ولجنة الداخل للعناية بالصلات بالداخل ومستلزماته واللجنة المالية ... "

دبت الحياة من جديد في الطليعة المقاتلة التي سرعان ما أخذت تعد العدة للعودة الى الداخل في أيار / مايو 1983 كان بين أعضائها المزدوجي الولاء ( إخوان – طليعة مقاتلة ) في ذلك الوقت المهندس الميكانيكي مصطفى ست مريم نصار الذي التحق بأعضاء تنظيم الطليعة المقاتلة في قيادة الشمال ( مجموعة عدنان عقلة ) في ذروة نشاطها في نيسان / أبريل 1980 وتلقي تدريبات عالية من قبل بعض ضباط الجيش السوري الفارين في الأردن ليقوم بتدريب أعضاء الجهاد العسكري للإخوان ( في الأردن والعراق ) حتى كارثة حماه ( 1982 ) حيث انتخب عضوا في اللجنة العسكرية الإخوانية التي أوكل اليها إدارة معركة الحسم " في حماه برئاسة الشيخ سعيد حوى .

وعندما فشلت المحاولة واعتقل عدنان ومعظم من تبقي من الطليعة في سوريا في عملية استخباراتية ناجحة وتبين " أن الطليعة قد دمرت فيما بعد في الخارج , بفعل جولة المفاوضات واستدراج بعض أفرادها لصلح وتشرذم الباقين في انشقاقات فردية وحينها بدأ ست مريم نصار التفكير الجدي في تشكيل تنظيم جهادي جديد تحت مسمي الظاهرين على الحق ثم هاجر الى أسبانيا ومن هناك قادته مساعيه للإعداد والتمويل على الحق ثم هاجر الى أسبانيا ومن هناك قادته مساعيه للإعداد والتمويل الى بيشاور وهناك تعرف الى عضو التنظيم القديم الطليعة المقاتلة لحزب الله " الدكتور عبد الله عزام في بيشاور حيث يرأس مكتب خدمات المجاهدين في أفغانستان والذي أقنعه بالانضمام الى تجمع المجاهدين العرب ليضع خبرته العسكرية التي اكتسبها في خدمتهم .

وعلى الرغم من أن مصادر نادرة تشير الى علاقة عبد الله عزام بالطليعة المقاتلة لحزب الله ( 1968 -1970 ) الا أن عزام أكد في كتاباته بعلاقته الشخصية بمروان حديد ومشاركته معه في قتال الإسرائيليين مع زعيم الطليعة الثاني ( عبد الستار الزعيم ) الا أنه لا يشير الى اسم تنظيم الطليعة المقاتلة لحزب الله لكنه بالتأكيد متأثرا بفكرة الطليعة الجهادية التي أسسها مروان حديد وبني عليها فكرة الطليعة المقاتلة والتي تقوم في جوهرها على فكرة مجاهدة تقود المعركة وتعمم الثورة وهي الأساس ذاته الذي تقوم عليه فكرة " قاعدة الجهاد " ( لتنظيم القاعدة ) فيما بعد.

كانت الفكرة الرئيسية للدكتور عزام في الجهاد الأفغاني هي أن تحرير فلسطين يبدأ من أفغانستان حيث " الله عز وجل سبحانه وتعالي هو الذي يدير المعركة بيده , ويرعاها بعينه " وبتعبير عزام : " أنا من فلسطين ولكن جهادي في أفغانستان لا ينسيني فلسطين , اليهود يطاردوننا اليهود خائفون الآن من تجمع الشباب المسلم في أفغانستان ويخشون أن تمتد هذه الروح الجهادية التي كان الفضل لله أولا فيها ثم للشعب الأفغاني الذي أحيا الروح الجهادية لدي العالم الإسلامي كله (.... ) وجدنا أرضا مفتوحة للجهاد فذهبنا اليها .

وتكتمل النظرية بالفكرة المستمدة من مروان حديد وهي أن استعادة الإسلام تبدأ من طليعة مجاهدة تحرر بالقوة والنصر والناس بطبيعتهم لا يدخلون في دين الله بسهولة ولا يلتزمون دين الله بيسر " فهم ينتظرون المعركة بين فئة تدفع التكاليف وبين الطواغيت وكلما حقق الملمون خطوة الى الأمام كلما دخل فوق في دين الله إذا جاء نصر الله والفتح عندها ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا "

لا شك أن هذا التفكير المزاوج بين خبرة الجهاد الفلسطيني والخبرة السورية الطليعية كان مغريا جدا لمصطفى ست مريم نصار الذي أصبح يحمل لقبا جهاديا جديدا في ظل حركة جهادية تجمع مقاتلين من أنحاء العالم ليصبح " أبو مصعب السوري " أو " عمر عبد الحكيم " هنالك تعرف على كبار المجاهدين الأفغان العرب بينهم أسامة بن لادن والظواهري وفقيه الجهاد الأفغاني الدكتور فضل ( عبد القادر بن عبد العزيز ) وبما أن أبا مصعب لا يحمل زادا من المعرفة الفقهية والدينية والسياسية ما يؤهله ليكون في صفوفي القيادات الكبيرة فقد بقي مدربا في معسكرات المجاهدين , أو مسئولا لمعسكر تدريبي لا أكثر ولم يتسلم منصبا ذا قيمة رغم قربه من زعيم التنظيم بن لادن .

عكف أبو مصعب الذي تعرف على الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز صاحب الكتابين الفقهيين المرجعيين للجهاد الإسلامي " العمدة " و " الجامع " على مدارسة الفقه الجهادي ودراسة الفكر الديني غير أنه لم يحصل من التعليم الديني ما يبوئه مكانة فقهية مرجعية لطالما طمح اليها ولما لم يحظ بأهمية في تنظيم القاعدة سافر الى بريطانيا ليساعد بخبرته التنظيمية في سوريا وأفغانستان " قاري سعيد الجزائري " في تأسيس لـ جماعة الإسلامية المسلحة " فمكث الشيخ في لندن وعمل مع الخلية الإعلامية الداعمة للجهاد الجزائري.

عاد الى أفغانستان ليؤسس " معسكر الغرباء " في قاعدة " قرغة " العسكرية في كابل بالتعاون مع وزارة دفاع الطالبان ( تعرض هذا المعسكر الى تدمير الطائرات الأميركية بالكامل في الهجوم الأميركي على أفغانستان إثر أحداث 11 أيلول / سبتمبر 2001 ) ومركز الغرباء للدراسات الإسلامية والإعلام " الذي كان يصدر مجلة قضايا الظاهرين على الحق "

وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة التي تتضمنها مؤلفات أبو مصعب في ما يخص الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين ورواية مجموعة عقلة من الطليعة للأحداث , الا أن أيا من كتبه لم يكن يتضمن فكرا تنظيريا يؤهله لموقع ريادي في الفكر الجهادي الحركي للقاعدة باستثناء كتابه " دعوة المقاومة الإسلامية العالمية " (2005 ) الذي يعتبره كتاب العمر فقد ضمنه خلاصة نظريته في الجهاد بالاستناد الى تجربته الطويلة في هذا المجال ونظر فيه لتأسيس مقاومة إسلامية عالمية ضد الهيمنة الأميركية الصليبية والصهيونية وتحالفهما في العالم بما يعني ذلك من إسقاط للأنظمة العملية المرتدة " في العالم الإسلامي وإقامة دولة الإسلام الجامعة للآمة " غير أن الهاب هذه الثورة يأتي عبر خلق مناخ جهادي " ثوري " يصل فيه المسلمون الى القناعة بالتضحية والسير في طريق الجهاد في سبيل الله عن طريق " طلائع المقاومة الناشئة في أنحاء العالم الإسلامي وتوحيد جهودها .

وبغض النظر عما إذا كانت الفكرة ليست جديدة الا أنها قامت بمحاولة بلورة نظرة للجهاد المسلح للقاعدة انطلاقا من تجربة سوريا ونظريتها في الطليعة المقاتلة وعمليا تمثل هذه الفكرة امتدادا لفكر القاعدة التي دشنت عولمة الجهاد نظريا بإعلان الجبهة العالمية لمحاربة الصليبية واليهودية عام 1998 وعمليا بعملية 11 أيلول سبتمبر 2001 .

جذور الجهاد المعلوم

يعود التفكير بعولمة الحركة الجهادية الإسلامية الى وقت مبكر نسبيا في ما يخص الحركة الإسلامية السورية فقد بدأت التنظير للفكر الجهادي في مطلع السبعينيات عبر سعيد حوى النسخة الإخوانية للتنظير الفكري التي جاهد أبو مصعب السوري في محاكاتها.

بدأ حوي تنظيره للجهاد العالمي في كتابه " نحو خطوة الى الأمام على طريق الجهاد المبارك " الذي ظهرت طبعته الأولي مطلع السبعينيات على أساس أن هدف الجهاد هو " إقامة دولة الله " أولا من قبل المسلمين في العالم كله الذين يجب أن يكونوا كتلة واحدة وجماعة واحدة وحزبا واحدا وثانيا حتى يحققوا السيطرة على العالم لمصلحة العالم " لأن الجماعة الإسلامية الحق إذا حكمت هذا العالم فغنها وحدها تحمل هذا العالم على صيغة العدل الكامل في إطار الحق الشامل (..... ) فما عدا ذلك فإن العالم سيبقي محكوما بدوائر من الظلم والاستغلال والتحكم والقهر الحاقد فالهدف من الجهاد " إخضاع العالم لكلمة الله إنقاذا للإنسان وتحريرا للإنسانية من الطغيان والذي يجب أن يبدأ من العالم العربي حيث من بلاد الشام وبعدها " كل شعوب العالم أن تجد مشقة في الالتفاف حول الجسم العربي وهكذا يمركز حوي أيضا نظريته حول مبدأ الطليعة "

بدت نظرية حوي في هذا الكتاب غامضة قليلا فعاد في عام في كتابه " جند الله تخطيطا ليبلور جزءا منها وليرسم الهيكل التنظيمي لحركة إسلامية عالمية واحدة تدمج كل التنظيمات الإسلامية والحركات المنتشرة في العالم الإسلامي في تنظيم واحد بمثابة تجميع لها مع احتفاظها بأساسها التنظيمي بحيث تعبئ الطاقات للجهاد ضد الأنظمة التي تريد استئصال الإسلام دون غيرها وتنهض بمهمة أستاذية العالم والدعوة الإسلامية فيه والعمل من أجل أمن العالم انطلاقا من مبدأ أن الأمة جزء من أمن العالم ومع أن الكتاب يشهد تراجعا في الفكرة الجهادية لصالح الفكرة الدعوية ومن فكرة تمثيل الحركات الإسلامية للإسلام الى فكرة تمثيل الحكومات للإسلام ويتضح في مؤلفه نزوع قطري مرتبك مع نزعة عالمية ومن هذا المنطلق ينتقد حوي وبالتأكيد على ضوء تجربته " الجهادية في سوريا فكرة أن على الحركات الإسلامية أن تقاتل ف يكل مكان وفي كل ظرف فلابد أن يكون القتال خيار الضرورة حيث لا يكون ثم خيار غيره .

لقد تأثر حوي كثيرا بأبي الأعلى المودودي الذي زار حماه وزاره حوي في عام 1982 في باكستان وأثرت فيه أحداث حماه وأجواؤها كما لعبت كتاباته دورا مهما في انتشار الفكر الجهادي في صفوفي الإخوان لفكر الذي مهد لانتقال قواعد الإخوان الى الطليعة المقاتلة بانتماء مزدوج وبالرغم من أنه لم يمارس عملا جهاديا مسلحا قط الا أنه كان يطمح الى قيادة هذا النوع من العمل ونيل شرفه دون الاشتراك الفعلي فيه.

خاتمة

تشكل التيار الأصولي في حركة الإخوان المسلمين تحت تأثير ظروفي وأحداث سياسية واجتماعية معقدة وتمثل فكرة الطليعة المقاتلة أو قاعدة الجهاد فكرة رئيسية كان لها تأثيرها في فكر عبد الله عزام الجهادي ( العضو السابق في تنظيم الطليعة المقاتلة لحزب الله ) ومن خلال عبد الله عزام ولدت فكرة القاعدة ورؤيتها العالمية للجهاد وتشكلت مصائر لتيار الأصولي احدي الحلقات المهمة في فهم التاريخ الفكري للقاعدة والجهاد العالمي خصوصا وأن مجند خلية هامبورغ التي قادت تنفيذ عملية 11 سبتمبر ( حيدر الزمار ) كان من أعضاء تنظيم الطليعة أيضا .

وإذا كانت فكرة الطليعة المقاتلة جوهرية في الفكر الجهادي السوري وقد شكلت أحد الجسور نحو الجهاد العالمي فإن مصدرها يرجع الى التأثر باليسار وفكرة " الطليعة الثورية " الماركسية ولعل التكوين اليساري والمناخ العائلي اليساري أيضا لمروان وعائلته ومنحه هذه الفكرة والتي وجد نفسه مشدودا لها .

الإسلاميون السوريون وغواية " الجهاد " في العراق

رزان زيتونة

في الوقت الذي كان الشباب العرب من مختلف دول المنطقة يتقاطرون الى أفغانستان للمشاركة في " الجهاد ضد الاحتلال السوفياتي طيلة عقد الثمانينيات من القرن الماضي كان الشباب السوري ممن يؤمن بالعقيدة الجهادية يخوض معركته الخاصة في بلاده ولم يكن الجهاد السوري آنذاك نتيجة للمد الجهادي الذي استوطن أفغانستان والمدعوم من قبل أنظمة عربية وغربية عدة بقدر ما كان نتيجة لأوضاع داخلية ذات صلة بالتطورات السياسية المحلية .

ويعتبر أبو مصعب السوري أحد أعضاء تنظيم الطليعة المقاتلة سابقا وأحد منظري التيار الجهادي العالمي لاحقا أن غياب الأيديولوجيا الجهادية هو من أهم أسباب فشل " التجربة الجهادية " في سوريا آنذاك.

ففي كتابه " ملاحظات حول التجربة الجهادية في سوريا " يقول " السوري " إن " من أهم أسباب انتكاسة التجربة الماضية أن المواجهة كانت محصورة في نخبة من الشباب محدودة العدد وكانت مساهمة الأمة المسلمة في الشام وهم أهل السنة كشعب محدود إجمالا والعجز عن إيضاح نظرية جهادية ثورية وجملة أهداف واضحة على الصعيد الأيديولوجي وضحالة الوعي السياسي والثوري وانخفاض مستوي العلم الشرعي إجمالا وعدم التمكن من بلورة الفكر الجهادي الخاص وتقديمه لقواعد المجاهدة والجماهير المؤيدة في الداخل والخارج كفكر واضح مستقل تلخصه مجموعة من الأهداف والشعارات.

انتهي عقد الثمانينيات بما مورس فيه من عنف عار من قبل السلطة الى القضاء على أى تنظيم سياسي مستقل إسلامي أو غير إسلامي وسيطرة مطلقة على المجتمع عبر أجهزة أمنية متعددة غير محدودة الصلاحية ومدعومة بإعلان حالة الطوارئ المستمرة منذ عام 1963 ومنظومة من القوانين والقرارات الاستثنائية كالقانون 49 لعام 1980 الذي يحكم بالإعدام على كل منتسب لجماعة الإخوان المسلمين والمحاكم الميدانية العسكرية .

وفيما انتقلت قيادة جماعة الإخوان المسلمين الى المنفي فإن عددا ممن بقي على قيد الحياة وتمكن من الهرب من عناصر الطليعة المقاتلة انضم الى الجهاد الأفغاني ضد السوفيات .

لكن سوريا وخلافا للعديد من الدول العربية لم تعرف فيما بعد ظاهرة عودة الأفغان العرب الى دولهم عقب إنهاء الاحتلال السوفياتي لأفغانستان وما تبع ذلك من تحول العمل الجهادي الى داخل الدول التي صدرت أولئك المجاهدين وضد أنظمتها الحاكمة فلم يكن واردا عودة عناصر جهادية سورية في ظل حظر أمني صارم على أى نشاط سياسي فكيف إذا كان إسلاميا وذا طابع جهادي ؟

وهكذا لم تعرف سوريا خلال التسعينيات نشاطا جهاديا يذكر واقتصر الأمر على بعض المجموعات الصغيرة غير المنظمة من الشبان اليافعين المتأثرين بالفكر الجهادي الذي بدأ طريقة الى العالمية مع فتح جبهات البوسنة والشيشان وتأسيس " الجبهة العالمية لقتال اليهود والأمريكان في فبراير / شباط عام 1998.

وكان أبو مصعب السوري قد أصدر بتاريخ 22 -6-2000 بمناسبة وفاة الرئيس الراحل حافظ الأسد وتولي نجله بشار الأسد السلطة في سوريا بيانا صدر بعنوان : " الى أهل السنة في لشام في مواجهة النصيرية والصليبية واليهود " وفيه يدعو الى " الجهاد " ضد النظام السوري , مقدما عددا من النصائح حول الطريق الذي يجب أن يسلكه هذا " الجهاد "

وقد عب أبو مصعب في البيان عن خيبة أمل واضحة بسبب إعراض الناس في سوريا عن " الجهاد " وأعلم أن كثيرا منهم قد رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وسيرفضون هذا الكلام بل سينتقمون ممن يدعو اليه وأعلم أن كثيرا من علماء السوء ومشايخ الضلال وعميان البصيرة سيصرفون الناس عن هذا الكلام.

وهو يشكو فراغ الساحة السورية واللبنانية من النشاط خلال أكثر من عقد ونصف من الزمن " والمراقب للأوضاع في لبنان وسوريا خلال السنوات الأخيرة من عام 1986 الى عام 2000 يري كيف أخمدت بذور المقاومة لدي أهل السنة حيث لم يعكر صفو الركود المقيت الذي فرضه العلوية النصيرية الا حركة تمرد مسلح حصلت في منظمة طرابلس السنية في لبنان حيث كانت مجموعة من شباب السنة تعد العدة لجهاد العلوية النصيرية والنصارى فكشف تنظيمهم أجبروا على تلك المعركة غير المتكافئة لتفاجأ السلطة العلوية النصيرية السورية والنصرانية اللبنانية أن التنظيم يضم شبابا سوريين ولبنانيين تربوا على فهم حقيقة الصراع الطائفي في الشام وفهموا أبعاده رحمهم الله.

والجدير بالذكر أن علاقة أبو مصعب السوري بتنظيم القاعدة تبقي علاقة ملتبسة وهو ما يرجح أن دعوته الى اعتبار سوريا " أرض جهاد " قد لا تعكس بالضرورة استراتيجية القاعدة في ذلك الوقت التي استمرت على صعيد الممارسة لسنوات لاحقة تتخذ من سوريا أرض عبور الى العراق وليست أرض جهاد.

وعقب أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر 2001 التي أعطت زخما منقطع النظير للفكر الجهادي وتنظيماته ومع دخول الانترنت الى سوريا وما وفره من سهولة التواصل مع العالم الجهادي الافتراضي تكثفت الاعتقالات في أوساط ما يسمي بالإسلاميين المتشددين ما بين عام 2000, 2002 حيث اعتقل العشرات من هؤلاء , من بينهم شاكر العبسي زعيم تنظيم فتح الإسلام لاحقا.

ومع اقتراب احتلال العراق ( 2003 ) كانت الأجواء تشحن على الأصعدة كافة رسميا وإعلاميا وشعبيا باتجاه صناعة واستقبال موجة الجهاديين الجدد لم تكن أية صعوبات لتطرأ على عملية التجييش تلك وكانت الساحة ممهدة على مختلف المستويات وجاهزة لاستقبال الغاضبين من استباحة الغرب " الكافر " للأراضي المسلمة أو امتهان الغرب " الإمبريالي " للكرامة العربية لا فرق .

الشيخ والسياسي : تبادل الأدوار

في أواخر شهر آذار من عام 2003 دعا الشيخ أحمد كفتارو مفتي سوريا آنذاك المسلمين في أنحاء العالم كافة الى " استخدام كل الوسائل الممكنة في هزيمة العدوان بما في ذلك العمليات الاستشهادية ضد الغزاة المحاربين الأميركيين والبريطانيين الصهاينة في العراق وأكد أن " مقاومة الغزاة المحاربين فرض عين على كل مسلم ومسلمة ويقع على أهل العراق أولا ثم الأقرب فالأقرب حسب الحاجة وقد اعتبر هذا النداء خاصة في الأوساط الشبابية الشعبية بمثابة " فتوي للجهاد " في العراق .

وبتاريخ 13 -6-2003 القي الشيخ المعروف الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي خطبة تحت عنوان " الجهاد ماض الى يوم القيامة وفيها اعتبر أن " الجهاد فريضة ولم تتجل أسباب فريضتها في عصر من العصور كما تجلت في هذا العصر أيها الإخوة ! موجبات الجهاد تدعو كل مسلم أن ينهض فيؤدي الواجب الذي أناطه الله عزوجل بعنقه ما وسعه السبيل الى ذلك , أرض العراق أرض إسلامية وهاهي ذى محتلة ولكن الشعوب الإسلامية لا يزال فيها خير لا يزال فيها هياج ولا تزال تنشد نشيد الجهاد ولا تزال فيها تبحث عن نافذة تتسرب منها الى حيث تجاهد في سبيل الله على هؤلاء المسلمين أن يتجهوا من أى نافذة فتحت أمامهم فتح أمامهم ليقاتلوا في سبيل الله على أن يسيروا على أرض صلبة وطبق خطة رشد والا تكون الأمور سائرة بشكل عشوائي فيقع المسلمون من جراء ذلك في نقيض ما يهدفون اليه لئن كان قادة العالم العربي والإسلامي قد مسخوا فتحولوا الى كتل من الذل والمهانة تتحرك ما بين شعوبها فإن الشعوب لا تزال تنبض بنبضات الإيمان بنبضات التوجه الى الآخر العظيم الذي أدخره الله عزوجل للمقاتلين ولم يكن من غير مغزي أن توجه تلك الخطب الحماسية من قبل رجال دين عرفوا بولائهم للسلطة والتزامهم بتوجهاتها السياسية فقد عملت السلطة طوال سنوات على تقريب بعض الرموز الدينية ومنحها صلاحيات واسعة من أجل استقطاب الشارع الديني وترسيخه ودفع فئات أكثر الى الاندراج ضمنه كان ذلك يوفر بديلا أمنا عن النشاط السياسي والثقافي الذي جري احتكاره من بل السلطة بشكل كامل طالما أنه يكرس الابتعاد عن الخوض في الشأن العام وطالما أنه يكرس السياسات الرسمية ويدعمها حتى أصبح المجتمع المدني الذي جري تدميره الى حد بعيد يكاد يكون محصورا بالأطر الدينية الرسمية وحدها .

ووفقا لإحصاءات نشرت على موقع وزارة الأوقاف السورية حتي نهاية عام 2007 كان يوجد 840 معهدا لتحفيظ القرآن في سوريا 117 مدرسة دينية 18 معهدا دينيا بالإضافة الى 17192 مسجد أو أكثر من 600 مسجد قيد الإنشاء حتى نهاية عام 2006 وفي المقابل حتى نهاية عام 2007 كان يوجد حوالي 1236 جمعية أهلية 541 منها جمعيات خيرية ذات طابع إسلامي .

وبالتزامن مع ذلك اشتهر شيخ عرف باسم أبو القعقاع, واسمه الحقيقي محمود قول آغاسي بخطبه النارية التي كان يلقيها من على منبر مسجد العلاء بن الحضرمي في حي الصاخور الشعبي في مدينة حلب والتي كانت توزع على الأقراص المدمجة ويدعو الى الجهاد ضد أميركا بل إن أفلاما مصورة عديدة أظهرت أبو القعقاع وهو يدرب شبانا يرتدون عسكريا مرقطا على الالعاب القتالية في المسجد.

ولم يكن من الصعب استمالة شرائح واسعة من الشباب السوري الى ذلك الخطاب المتشدد والذي فضلا عن كونه أصبح معلوما وعابرا للقارات يسترسل في سرد مظالم الغرب ودعمه المستديم لأنظمة الاستبداد وعجزه حينا وتواطئه أحيانا أكثر ضد المشاكل الإقليمية العالقة كقضية فلسطين ما أعطي مصداقية للخطاب الإسلامي المتشدد الذي ادعي مواجهة تلك المظالم انطلاقا من مقولة صراع الحضارات بالتزامن مع انحسار المد الاشتراكي والشيوعي الذي ترك الساحة خالية للعنف الثوري الجديد إسلاميا هذه المرة .

كما شكل ذلك الخطاب الى حد بعيد مخرجا للأجيال الجديدة التي تعيش أزمة هوية ووجود في ظل حظر كامل على محاولة تلمس طريقها وتحديد هويتها خارج إطار الأدلجة الرسمية المرفوضة على نطاق واسع وكان للدعوات التي تتيح للشباب الانخراط في هوية جمعية موحدة وتحت خطاب مقبول مبدئيا على نطاق واسع وباسم رفع المظالم وإزاحة من تسبب بها داخليا وخارجيا كان لها أن تجد صدي بالتأكيد في ظل تصحر سياسي وحظر أى نشاط عام سلمي يدعو للتغيير.

مقاومة أم جهاد؟

في تلك الأثناء توجه عشرات الشبان السوريين للجهاد في العراق بدون أية مساءلة قانونية بالتزامن مع عبور مئات الشبان العرب عبر الحدود السورية الى العراق وحتى منتصف نيسان / أبريل 2003 فقط أعلنت " لجنة نصرة العراق " التي تأسست في مدينة حلب " أسماء سبعين مواطنا سوريا قتلوا في المعارك المحتدمة في العراق .

لكن لم يكن الخطاب الديني المتشدد هو وحدة السائد في ذلك الوقت تقاسم الخطابان القومي والإسلامي أدوار التجييش ضد الاحتلال الأميركي للعراق والدعوة لمجاهدته أو مقاومته حتى بعض أحزاب وشخصيات المعارضة القومية تبنت تلك الدعوات بالحماسة نفسها التي كانت للخطاب الإسلامي فعلي سبيل المثال لجنة نصرة العراق وفلسطين في حمص في بيانها بتاريخ 20/3/2003 طالبت الحكومة السورية بـ " إبقاء الحدود السورية العراقية مفتوحة أمام المواطنين من الجهتين سواء كانوا من اللاجئين أو المتطوعين بعد أن دعت المواطنين الى " مقاومة العدوان الأميركي الصهيوني البريطاني على العراق بكافة الوسائل المتاحة واعتبار جميع القوات المشاركة في العدوان في حالة حرب على الأمة العربية كلها .

ويلاحظ أن معظم الشبان السوريين الذين تطوعوا للانضمام الى المقاومة في العراق بداية احتلاله لم يكونوا حاملين للفكر السلفي الجهادي بقدر ما كانت تقودهم أفكار هي خليط من القومية والإسلامية مما يعني أنهم ذهبوا " للمقاومة " وليس " للجهاد "

ويروي أحد الشبان الذي غادر الى العراق بعيد احتلاله بأيام أنه اتفق مع مجموعة من سبعة أشخاص بعضهم أصدقاء قدامي والآخرون تعرفوا بهم فيما بعد كان أكبرهم يبلغ من العمر 25 عاما خمسة منهم من أرياف دمشق واثنان من جنسيات عربية ولم يكن أى منهم " متدينا " وإنما " أردنا الانضمام للمقاومة في العراق .

هذا الشاب وثلاثة ممن كانوا معه عادوا الى سوريا بعد أشهر يشكون من سوء المعاملة التي تلقوها على يد العراقيين فيما فقدوا أثر زملائهم ويروي شاب آخر من مدينة الرقة أن " العديدين ممن توجهوا الى العراق في تلك الفترة كانت تقودهم مشاعر قومية وكانوا يجدون في ساحة العراق بديلا عن فلسطين التي سدت أبوابها في وجههم لتحريرها .

ومعظم من بقي حيا من هؤلاء عاد أدراجه الى سوريا بعد أشهر من غير أن يساءل أمنيا لكن بعضهم جري استدعاؤهم والتحقيق معهم في فترات لاحقة وخاصة مع بداية عام 2004 حيث أخذت حملات الاعتقال في أوساط ما يسمي بالإسلاميين الجهاديين تتكثف على نحو كبير بسبب الضغوط الغربية على سوريا في ما يتعلق بضبط حدودها مع العراق وانحسرت موجة " المقاومين لصالح " الجهاديين "

سوريا " أرض جهاد "

بعد أشه وبالتحديد بتاريخ 27/4/2004 أوردت وكالة الأنباء السورية " سانا وقوع اشتباك في مدينة دمشق بين مجموعة مسلحة وصفت بالإرهابية وعناصر الأمن في عملية هي الأولي من نوعها في سوريا منذ بداية العهد " الجهادي " الجديد مع ولادة تنظيم القاعدة ومثيلاتها .

وحتى الخطاب الديني الرسمي انقلب على نفسه فعلي سبيل المثال بتاريخ3/12/2004 مع اشتداد الحملة التي قادتها السلطة ضد من يتهمون بمحاولة الالتحاق بـ " الجهاد في لعراق خصص الشيخ البوطي خطبه الجمعة للحديث عن التكفيريين معتبرا أن أحد أسباب عدم انتشارهم في سوريا هو " سهر المسؤولين على تنظيف هذه البلدة من هؤلاء .. داعيا الى " تعقب الذين لا يبالون بالنيران التي تلتهم بنيان هذه الأمة .. ".

لكن التطورات الميدانية في العراق في ما خص تنظيم القاعدة ومثيلاتها كانت تلقي صدي لدي عشرات الشبان الذي أرادوا الانضمام الى صفوفها خاصة عبر الدعاية الإعلامية الضخمة التي اعتادت وأتقنت بثها يومياتها الجهادية بشكل خاص عبر الانترنت.

وعلى الرغم من الرقابة الصارمة على استخدام شبكة الإنترنت في سوريا لا يعدم الأفراد وسيلة للدخول الى المواقع المحظورة ومن بينها بطبيعة الحال المواقع الجهادية لكن لم يلحظ نشاط واسع لمنتديات أو مواقع سورية تهدف الى ترويج الفكر الجهادي وتجنيد أتباع جدد سواء في ما يتعلق بالجهاد الداخلي أو في العراق .

وكان من أبز تلك المواقع " منبر سوريا الإسلامي " الذي انطلق عام 2005 وكان يحرض على الجهاد في سوريا وما لبث أن جري تغيير اسم الموقع في يونيو / حزيران من العام نفسه الى منبر الشام الإسلامي وبعد ذلك بفترة وجيزة تم تغييره مرة أخري الى " منبر المسلم " لكن يصبح المنتدي عاما لجميع المسلمين ولكي نبتعد عن التسميات الإقليمية ولكن سوفي يبقي اهتمام الموقع في مكتبته بالوضع في الشام بدرجة رئيسية وفقا لرسالة المشرف على المنبر .

ويظهر من الالتباس الحاصل في تحديد هوية هذا المنبر عبر نسبه الى الإسلام أو للشام الطبيعية أو لسوريا أن القائم عليه أنجز ذلك بمبادرة شخصية وبغير تنسيق أو مشورة مع جماعات أصولية متمرسة وبما يكون قد تلقي نصحا فيما يتعلق بذلك فيما بعد , دفعه الى تغيير اسم الموقع مرتين .

وقد درج الموقع على إصدار نشرة شهرية توحي هي الأخرى الى درجة كبيرة بفردية هذا النشاط وتقلقل هويته فهو ينشر مقالات لمشايخ السلفية الجهادية ممن هاجموا النظام في كتاباتهم ويعود الى فترة الثمانينيات ليبجل بعض رموزها وينشر بيانات حقوقية تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا بمن فيهم معتقلوا الرأي والمعارضة الديمقراطية العلمانية جنبا الى جنب مع كتابات أصولية تنتقد بشكل عنيف تلك المعارضة بما فيها جماعة الإخوان المسلمين فيذكر الموقع أنه " ليس العتب على العلمانيين ممن يزعمون أنهم يهتمون بحقوق الإنسان وإنما العتب على ن يحسبون على الاتجاه الإسلامي من الإخوان المسلمين عندما يتصدرون وسائل الإعلام يتشدقون ويتماجدون بثوب لم يلبسوه ممثلين بشخص مراقبهم على البيانوني ".. حيث هذا المذكور لم يدع شيوعيا ملحدا .. ولا زنديقا مرتدا ... الا ويظهر حزنه وشفقته ودعمه وتأييده له .. ويسلط الضوء على قضيته ومحنته مع النظام الطائفي البعثي – ليظهر للأعداء أنه ديمقراطي ووطني ومن دعاة الوحدة الوطنية – الا عدنان عقله ومن معه من الإخوة المجاهدين .. لم يشر قط الى محنتهم .. ولا اسمهم ... وما يتعرضون له من معاناة في غياهب السجون .. وكأنهم ليست لهم حقوق أو حرمة تصان .

وحتى هذا الموقع ورغم تركيزه على الفكر الجهادي والترويح له لم يكن يدعو للمشاركة في الجهاد سواء داخل سوريا أم في العراق حتى أن النشرة الصادرة بتاريخ 26 / 1/2006 تقدمت بـ " نصيحة لأصحاب العمل الجهادي في سوريا " مفادها " التريث " في العمل الجهادي في سوريا الى حين الانتهاء من التحقيق الخاص بمقتل رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري !1 نظرا لأن أميركا وإسرائيل لا ترغبان بإسقاط النظام حيث " ستصبح الأراضي السورية امتدادا للجبهة العراقية .. " وتنصح النشرة المجاهدين بالتريث الى حين تبين النتائج التطورات في التحقيق في مقتل الحريري وبناء على ذلك يتحرك المجاهدين !

مصادر أخري للأيديولوجيات الجهادية !

ترتكز معظم أدلة الاتهام ضد المعتقلين على خلفية محاولة دخول العراق للجهاد على ثلاثة أمور ما يصادر لدي المعتقل من كتب دينية وأقراص مدمج لعمليات جهادية مختلفة أو خطب لرجالات القاعدة بالإضافة الى " النية " من مثل : المدعي عليه ... تعرف الى المدعوم خلال تردده على الجامع وصار يشاهد عنده أشرطة جهادية وعمليات للقاعدة واتفق معه على دخول العراق للقتال ضد الأميركان .. "

وبكلمات أخري فإن معظم هؤلاء ممن حاولوا أو اتهموا بمحاولة الدخول لذلك الهدف لم يكونوا منخرطين ضمن جماعات أصولية عنفية سواء في الداخل أو على علاقة بجامعات مماثلة في الخارج.

وكانت وسريا قد نفت أوائل يونيو / حزيران 2005 أى وجود لتنظيم القاعدة على أراضيها وقال وزير الداخلية السوري آنذاك غازي كنعان خلال اجتماع للجنة الأمم المتحدة المكلفة بمكافحة الإرهاب : " ليس هناك على الإطلاق أى نشاط للقاعدة او لحركة طالبان في الأراضي السورية غير أنه عبد شهر واحد وفي يوليو / تموز 2005 أعلنت السلطات السورية أن قوات الأمن ضبطت مجموعة تكفيرية تطلق على نفسها اسم " جند الشام للجهاد والتوحيد " المرتبطة بتنظيم القاعدة إثر صدام مسلح معها أذي الى مقتل عدد من أعضائها وقد تتالي الإعلان رسميا ( أو بشكل شبه رسمي عبر وسائل إعلام مقربة من السلطة ) عن عدد من الاشتباكات مع جماعات متشددة عنيفية خلال الأشهر والسنوات اللاحقة وفي مناطق مختلفة من سوريا , وبعد أقل من عامين قال مسئولون سوريون إن قوات الأمن السورية قتلت عشرات الأشخاص يشتبه في أنهم " متشددون إسلاميون " منهم كثيرون مرتبطون بتنظيم القاعدة وكان أن لاقت تلك الجهود ثناء أميركيا حين أشاد الجيش الأميركي في العراق في نوفمبر / تشرين الثاني 2007 بمساهمة سوريا وإيران في خفض العنف في العراق وصرح قائد القوات الأميركية في العراق الجنرال ديفيد بترايوس بأن تسلل المقاتلين الأجانب الذين يعملون لحساب تنظيم القاعدة تراجع بمقدار الثلث بفضل التحرك الأشد حزما لسوريا .

ويرجح في الوقت نفسه أن ما أعلن عنه من عمليات إرهابي وقعت داخل الأراضي السورية خلال السنوات القليلة الماضية هي على الأغلب من عمل مجموعات صغيرة ومنعزلة ليست ذات امتداد داخلي أو إقليمي ودولي تتبني الفكر القاعدي لكن لا علاقة لها تنظيمات بها ولعل ما يدلل على ذلك ضعف خبرتها الذي تبدي في " بدائية " العمليات التي قامت بها أدوات وتخطيطا وتنفيذا واحتمالا كونها مخترقة أمنيا ما ساعد على إفشالها جميعا من قبل الأجهزة الأمنية .

يستثني من ذلك العملية التي نفذت في دمشق في منطقة القزاز بتاريخ 27 / 9/ 2008 وأسفرت عن مقتل 17 شخصا وإصابة العشرات وفقا للراوية الرسمية واتهم منفذوها بالانتماء الى فتح الإسلام وتنوعت جنسياتهم ما بين سوريين وعرب وهو منفاه تنظيم فتح الإسلام في بيان تناقلته وسائل الإعلام اتهمت فيه النظام السوري بفبركة روايات وإجبار بعض الموقوفين على الإدلاء بها أمام الكاميرات .

وكان اسم سوريا قد تردد كثيرا مع اندلاع أحداث نهر البارد في لبنان حيث ظهر عدد من السوريين والمعتقلين السابقين في السجون السورية بين عناصر وقيادي حركة فتح الإسلام " من مثل شاهين الشامي المتحدث الإعلامي للتنظيم خلفا للدوسري وشاكر العبسي زعيم الحركة.

ومع ذلك لا يمكن الحديث عن نشاط قاعدي في سوريا ولعل ذلك يعود الى أن سوريا لا تزال ف ينظر تنظيم القاعدة أرض نصرة لا أرض جهاد " حيث إن التيار الجهادي بحاجة الى سوريا مستقرة هادئة تكون منطلقا له الى أرض " الجهاد " في العراق خصوصا مع صعوبة ضبط الحدود السورية العراقية والتجاذبات السياسية الإقليمية التي قد تدفع بعض الأطراف الى الحفاظ على هذه الورقة في يدها .

ومن جهة أخري فمن شأن اليد الأمنية الحديدية التي يعرف بها النظام السوري أن تعجل في القضاء على الجماعات الجهادية وتمزقها وتضعفها في حال قررت مباشرة العمل في الأراضي السورية .

الخارطة الجهادية في سوريا

ومن المتابعة لقضايا عشرات المعتقلين على حلفية " سلفية جهادية يمكن تقسيم هؤلاء الى فئتين :

الأول : ممن يتهمون بالانتماء الى تنظيم محدد كالتبليغ والدعوة أو جند الشام أو التكفير والهجرة , أو القاعدة وهم يشكلون نسبة ضئيلة من بين من حوكموا أو يحاكمون حاليا وذلك بناء على ما يتوفر بين أيدينا من معلومات مبنية على بيانات المنظمات الحقوقية ولقاءات أجريناها مع عدد من المحامين الذين ترافعوا في مثل هذه القضايا وقرارات الاتهام التي استحصلنا عليها وقمنا بدراستها .

ولعل تنظيم جند الشام للدعوة والجهاد هو الأكثر أهمية هنا نظرا لما نسب اليه من القيام ببعض العمليات الإرهابية على الأراضي السورية وتحدث الإعلام الرسمي عن أهداف هذا التنظيم التي شمل " تهيئة مواقع في دمشق وما حولها للعمل المستقبلي وتأمين مستودعات ودفن السلاح واستخدام جزء منه للعمل الحالي وإرسال مجاهدين من أفراد الجماعة الى خارج سوريا للتدريب والعودة وأن أهداف هذا التنظيم لا تقف عند حدود سوريا التي قسموها الى مناطق خمس يسمون كل منها إمارة إسلامية لها أميرها وهيكلها لتنظيمي الكامل بل لهم برنامج يطول لبنان والأردن والعراق ومصر ودولا أخري ...

وكانت صحيفة " لوفيغارو " وقد أشارت في 7/12/2005 أن أصوليين جزائريين رحلتهم السلطات السورية كشفوا عن اتصالات تمت علي أكثر من مستوي بين تنظيم " الجماعة السلفية للدعوة والقتال " الذي أصبح يعمل لاحقا تحت لواء تنظيم القاعدة وبين تنظيم " جند الشام " الذي ينشط في لبنان وسوريا لتنفيذ سلسلة اعتداءات في أوروبا لكن بعض التحليلات يذهب الى عدم وجود علاقة بين " جند الشام " في سوريا والتنظيم الذي يحمل اسما مشابها في لبنان , وأن تأسيسه في سوريا يعود الى " أبو عمر " الذي نشط في قرية مضايا في منطقة الزبداني قبل مقتله حيث شهدت تلك المنطقة اعتقالات كبيرة خلال السنتين الماضيتين .

كذلك فإن عددا محدودا جدا من المعتقلين اتهم بصلات مع تنظيم القاعدة وهؤلاء إمام كانوا قد سلموا الى سوريا من دولة غربية ( مثل ماهر عرار والزمار وكلاهما لم يثبت عليه صلات بالقاعدة ) أو أنهم من جنسيات عربية مختلفة بالإضافة الى أفراد محدودي العدد من سوريا .

أما المجموعة الثانية وتشكل من الأغلبية العظمي من المعتقلين فينسب اليها حمل الفكر السلفي الجهادي أو السلفي الوهابي أو " الانتساب الى الحركة السلفية الجهادية " وفقا للتوصيف القضائي الأكثر استخداما لهذه التهم وهؤلاء بدورهم ينقسمون الى قسمين:

الأول : أولئك الذين اتهموا بنية الذهاب الى العراق ( أو أفغانستان في بعض الحالات ) بتهيئة أنفسهم للجهاد جسديا ( عبر التمارين الرياضية والتدرب على السلاح ) أو عمليا بتهيئة ظروفي السفر والتنسيق من أجل الخروج الى أرض الجهاد .. الخ.

الثاني : من يستند اتهامهم الى مجرد حمل الفكر السلفي الجهادي.

وكما سبق ذكره فغالبا ما تكون أدلة الاتهام بحق هؤلاء , ما يصادر لديهم من كتب تسوق لهذا الفكر وأقراص مدمجة تعرض لعمليات إرهابية في الشيشان والعراق وأفغانستان بالإضافة الى اعترافاتهم الأولية أمام أجهزة الأمن والتي ينكرونها حين يصلون الى المحكمة لانتزاعها منهم تحت التعذيب الإكراه أثناء التحقيقات الأمنية.

ورغم وجود أعداد تقديرية لهؤلاء لدي منظمات حقوق الإنسان يصعب القول إنها تمثل العدد الفعلي لمن حاول حقيقة دخول العراق للجهاد ذلك أن كثيرين منهم ينكرون أية صلة لهم بقضايا الجهاد خصوصا وأن الاعتقالات غالبا ما تكون بصفة جماعية تشمل معارف وأصدقاء مشبوها بهم حتى أوسع الدوائر وفي ظل غياب محاكمة علنية وعادلة لهؤلاء تصعب الموازنة بين الضغوط الأمنية المنتزعة تحت التعذيب وبين أقوال المتهمين المنكرة غالبا لما وجه لهم أمام محكمة أمن الدولة الاستثنائية . من ناحية أخري لا يعرف العدد الفعلي للسوريين الذين توجهوا الى العراق بالفعل " للجهاد " ضد الاحتلال الأميركي وتتضارب الأرقام الخاصة بذلك بين التقارير المختلفة.

في الدراسة التي أعدها الباحث الإسرائيلي روفين باز عن المقاتلين الأجانب في العراق عام 2005 وشملت 154 مقاتلا قتلوا في العراق حصلت سوريا على نسبة 10,4% مقاتلا .

وفي يونيو / حزيران 2005 ذكر تقرير إخباري لشبكة ( NBC ) أن مسئولا في الجيش الأميركي حدد أكبر عشرة بلدان لمنشأ المقاتلين الأجانب في العراق مدرجا سوريا من بينها لكن هذا المؤول لم يزود عدد المقاتلين من كل دولة بينما ورد في تقرير أنتوني كوردسمان ونواف عبيد من مركز الدراسات الدولية والإستراتيجية أن سوريا حصلت على نسبة 18 % بـ 550 مقاتلا .

وفي ديسمبر / كانون الأول 2005 قام الباحث الأردني مراد الشيشاني باستخدام معلومات مستقاه من مصادر على شبكة الانترنت من أجل تقييم جنسية المقاتلين المرتبطين بـ القاعدة في العراق , ومن خلال الاستشهاد بقائمة تضم 429 من الجهاديين السلفيين الذين قتلوا معطيا السوريين نسبة 13 %

ومن خلال الاستشهاد بالإحصائيات التي أصدرتها القوات المتعددة الجنسيات في العراق في أواخر عام 2005 استنتج الكاتب الأميركي الان كروغر أن معظم المقاتلين كانوا سوريين.

وبعد ذلك بسنتين استشهدت صحيفة " لوس أنجلس تايمز بـ " الأرقام الرسمية للجيش الأميركي فذكرت أن 15% من المقاتلين جاء من لبنان وسوريا

وتكشف الوثائق التي عثرت عليها قوات الاحتلال الأميركية في مدينة " سنجار " الواقعة على الحدود العراقية – السورية في أكتوبر /تشرين الأول 2007 وتغطي الفترة ما بين 2006 -2007 أن سوريا حصلت على نسبة 82% بت49 مقاتلا من أصل أكثر من 600 سجل تفحصتهم الدراسة .

وتظهر دراسة عينة من أكثر من 500 معتقل على خلفية سلفية جهادية ما بين عامي 2003-2008 ضمن قوائم المعتقلين السياسيين في سوريا الصادرة عن المنظمات الحقوقية السورية أن أكثر من 150 منهم ينحدرون من أرياف دمشق ( مضايا , الزبداني , التي قطنا قري غوطة دمشق .. ) وتحصل منطقة الجزيرة حلب أدلب وحمص وأريافها على نسب متقاربة بمعدل 60 معتقلا للمدينة الواحدة .

كانت منطقة الجزيرة ومحافظتا حلب و إدلب هي المناطق التي تشهد اعتقالات مكثفة في فترات مختلفة بينما معظم الاعتقالات في المناطق الأخرى المذكورة أعلاه تمت على شكل حملات شملت مجموعات كبيرة من المعتقلين في تاريخ محدد وضمن قضية واحدة فمثلا اعتقالات عربي في ريف دمشق في يونيو / حزيران 2006 واعتقالات حمص خريف 2007 وهكذا.

وبالتالي يلاحظ أن الاعتقالات في أغلبيتها العظمي تتركز في الأرياف والضواحي المحيطة بدمشق بينما يشكل المعتقلون من دمشق المدينة نسبة قليلة جدا وتكاد تكون نادرة وما يجمع بين تلك الأرياف والضواحي غما عاملا الفقر والتهميش أو بالإضافة الى ذلك أو في معزل عنه – البيئة الاجتماعية والثقافية المنغلقة كما يظهر أن نسبة الاعتقالات في المدن تزداد في محافظات أخري معروفة ببيئتها الأكثر محافظة وانغلاقا مثل إدلب وحلب ومنطقة الجزيرة .

أما الشريحة العمرية التي تشملها فئة المعتقلين فمن بين 259 معتقلا توفرت معلومات حول أعمارهم كان 120 من الشريحة العمرية 18 -28 سنة وقت اعتقالهم, و92 في عقد الثلاثينات والباقي أربعين وما فوق .

أما عن التأهيل العلمي فقد تنوعت الشريحة الى حد بعيد من الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب الى طالب الجامعة ومن العامل في الأعمال العضلية الى الطبيب والمهندس.

ووفقا لمعتقلين سابقين التقيناهم قضوا فترات متفاوتة مع المعتقلين على خلفيات إسلامية متشددة فإن هناك قسما لا يمكن اعتباره ( جهاديا ) على الإطلاق هم سلفيون لكن لا يؤمنون بالفكر الجهادي التكفيري ولم يقوموا بأى فعل مخالف للقانون بعضهم لم يقم حتى بالدعوة الى ما يعتقدونه وقد اعتقلوا فقط لأن لحيتهم طويلة! وقد اعتبر ذلك دليل إدانة ضدهم مثل هؤلاء لا يتدخلون في السياسة ولا يكفرون الحكام ويشعرون بظلم رهيب لأنهم يعتقلون ويحاسبون على معتقداتهم التي لا تضر الآخرين بشئ "

كانت معظم الاعتقالات تجري بشكل جماعي من غير أن يعني ذلك وحدة حال لدي أعضاء المجموعة في ما يتعلق بالخلفية الفكرية ودرجة التشدد.

قال أحد المعتقلين لسابقين : " في المجموعة الواحدة يمكن أن نجد تكفيريين وغير تكفيريين بمعني أنه لا يمكن الإطلاق على الأفراد الذين يعتقلون ويحاكمون كمجموعة أنهم يمثلون مجموعة بالفعل , تحمل الفكر نفسه في كثير من الأحيان نجد في المجموعة الواحدة أشخاصا لم يتعفوا الى بعضهم قبل الاعتقال في احدي المجموعات ( 12 معتقلا ) هناك أشخاص لا يسلمون على بعضهم البعض نتيجة اختلاف أفكارهم " البعض يكون متشددا تجاه الخارج فقط بمعني الرغبة في " الجهاد " في العراق مثلا .. هناك عامل ديني وتعبوي يلعب دورا في هذه الإطار ونتيجة لذلك فمعظمهم لا يستوعبون لماذا تم اعتقالهم أصلا وما المشكلة أو الخطأ في " الجهاد " في العراق "

أما عن المتشددين تجاه الداخل أى المؤمنين بجوار القيام بعمل عنفي مناهض للسلطة أو أهداف غربية داخل الدول العربية والإسلامية يري معظم من التقينا بهم أنهم يشكلون قلة قليلة وأن البعض تولد لديه هذا التشدد بعد دخوله السجن وليس قبل ذلك.. وأنه حتى هؤلاء المؤمنين بالعنف الداخلي يرون أنه غير مجد على الأقل في الوقت الحالي وإذا تم التطرق أثناء النقاش الى مسالة العنف الداخلي نجد معظمهم ينتقدونه بدون أن يعني ذلك أنهم لا يكفرون النظام الحاكم المسالة هنا هي مسالة موازنة بين المصلحة المرجوة والمفسدة المتوقعة فهم يرون أنه إذا حدثت عمليات إرهابية في سوريا فستؤدي الى زيادة قمع النظام ومحاربة المسلمين " الملتزمين " دون تمييز وهذه المفسدة أكبر من المصلحة المتوقعة من العملية وبالتالي فالامتناع عن الفعل المادي لدي هؤلاء المؤمنين بالعنف الداخلي ليس بسبب عدم شرعيتها من الناحية الدينية بالنسبة لهم وغنما بسبب لتخوفي من النتائج "

والملاحظ أيضا ضعف " الثقافة " الشرعية لدي معظم أولئك المعتقلين : من يتمتعون بهذا العلم وهذه الخبرة هم قلة في المجمل ويكون سلوكهم عادة متوازنا أكثر حتى لو كانوا من المتشددين "

يقول آخر : " إن معظم هؤلاء المعتقلين من صغار السن في أول مرحلة الشباب ويمكن بسهولة من خلال النقاش مع الكثير منهم ملاحظة افتقارهم الى الثقافة حتى الفقهيه منها بعضهم مثلا كان يتحدث عن المطرب " محمد عبده " بالاستناد الى ما سمع عنه من الآخرين فقط كثيرون يتبنون ما يسمعنه من آخرين يثقون بهم وإذا ناقشتهم بأفكارهم يعجزون عن الدفاع عنها "

مثلا إن قتل موظف في هيئة إغاثة أو قتل صحافي , ليس أمرا مقبولا بحد ذاته لدي الكثيرين بل هم مقتنعون بأن مثل هذه الأعمال لها ما يبررها يقولون أكيد أن موظف الإغاثة أو الصحافي كان يتجسس لصالح الأميركان والا لما قامت الجهة المعنية بقتله بمعني أن الثقة المطلقة ببعض الأشخاص أو الجهات تشكل مرجعية فكرهم أكثر من أى شئ آخر ".

وبشكل عام إذا عرف المرء كيفي حاورهم بأسلوبهم يمكن تغييرهم كثيرون يكون موقفهم نتيجة حنق وعواطف غاضبة تجاه إسرائيل وأمير كان بمعني أنها عوامل نفسية أكثر منها فكرية "

من ناحية أخري يجمع من التقينا بهم على أن السجن والظروف المحيطة بد بدءا من كيفية الاعتقال مرورا بالتحقيق والأحكام الصادرة عن المحاكم الاستثنائية وانتهاء بالاختلاط الذي يجري بين المعتقلين من مختلف التيارات الإسلامية تترك أثرها غالبا على المعتقلين .

يقول أحد المفرج عنهم : " هناك مثلا مجموعة مكونة من أكثر من عشرين شابا لم يكونوا متشددين حقا في بداية فترة اعتقالهم بعضهم كانت لديه رغبة للذهاب الى العراق لكن مع القوت انجذب معظمهم الى التيار التكفيري الذي يمثله بعض المعتقلين . ويضيف آخر " السجن فرصة سانحة لاستقطاب العديد من الشبان الى الفكر المتطرف وهناك حالات لا يمكن تعميمها تتمثل في ارتهان بعض المعتقلين المعتدلين الى معتقلين آخرين متشددين في الأوقات التي تكون فيها الزيارات ممنعة وذلك لحاجتهم للمساعدة المادية والمعنوية في غياب التواصل مع العائلة " كما يعمل السجن وظروفه السيئة خاصة في مراحل التحقيق الأولي على توليد آثار سلبية جدا لديهم ما يزيد في حد تطرف المتطرفين وتغيير المعتدلين نحو الأسوأ "

وفي ما يتعلق بأمور التنظيم بعض المجموعات منظمة تنظيما بسيطا كحلقات دروس أو جلسات مشتركة في حالات قليلة يوجد أمير للجماعة وفي حالات نادرة يوجد تدريب بدني أو تدريب على السلاح ممن كانوا ينوون الذهاب للعراق لكن القسم الأكبر غير منظم مثلا يعتقل شخص كان في العراق أو يريد الذهاب الى هناك ويكون قد عرض الفكرة على آخر والآخر يتحدث بها الى آخرين لدي الاعتقال يعتقل الجميع من أراد الذهاب بالفعل ومن تحدث بالموضوع ومن سمع به كثيرون معتقلون بشكل فردي لمشاهدة فيلم " قرص مدمج " عن الشيشان أو أفغانستان أو حيازة كتاب غير مسموح أو الدعوة للفكر السلفي حتى لو كان لا يدعو لـ أو يعتزم الجهاد .

خاتمة

لم يتوجه السوريسون بإرادتهم الحرة الى العراق لنيل شرف " المقاومة " أو الجهاد ضد الاحتلال الأميركي حيث لا تتشكل الإرادة الحرة في أجواء من القمع السياسي والأدلجة القسرية ومحاربة التفكير لحر على الصعيد الاجتماعية والثقافية والسلطوية جميعا ولا في ظل تبادل الأدوار بين الشيخ والسياسي الرسميين مدعوما بسياسة إعلامية تغذي هذا الاتجاه وتبجله .

ومع ذلك لا يمكن تضخيم حكاية الجهادية السورية وإعطائها أكبر من حجمها المحدود وغير محدد المعالم حتى الآن على الأقل سواء على الصعيدين الاجتماعي والثقافي فلا يزال المجتمع السوري من أكثر المجتمعات انفتاحا والأقل تعصبا إذا ما قورن بجيرانه الأقربين وأن الحلول الأمنية المتبعة حتى الآن فاقمت الظاهرة ربما بمراكمة المزيد من المظالم وانتهاك الحقوق.

وجدير بالذكر أن محاولة جرت خلال السنتين الأخيرتين لتطبيق مبدأ " المناصحة " المتبع في سجون بعض الدول العربية كالمملكة العربية السعودية داخل سجن صيدنايا العسكري الذي يضم العدد الأكبر من المعتقلين الإسلاميين في سوريا لكن ووفقا لبعض المعتقلين السابقين فإن تلك المحاولة لام تلق أى صدي لدي المعتقلين نظرا لأن من أوكلت لهم المهمة لمساجلة المعتقلين كانوا يعدون في رأي هؤلاء من مشايخ السلطة وممن لا يقام لهم وزن شرعي في نظرهم بينما يري نشطاء حقوقيون أن ما قبل خطوة المناصحة يجب أن يكون تحسين ظروفي أولئك المعتقلين ورفع المعاناة التي تقع على كواهلهم وعائلاتهم على السواء إن عبر الممارسات التي تجري أثناء التحقيق من تعذيب وإساءة معاملة الى منع الزيارات والمحاكمات غير العادلة وسواها .