الإخوان المسلمون: ثمانون عاماً من الصُـمودِ والتحدِّي (الحلقة الثانية والعشرون)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإخوان المسلمون: ثمانون عاماً من الصُـمودِ والتحدِّي (22)


بقلم : زياد أبو غنيمة

انفراجة لم تكتمل في أوضاع الإخوان

حمل يوم 25 / أيار / 1949 م أولى بشائر قرب انزياح المحنة التي كانت حكومة السعديين توقعها بالإخوان ، ففي ذلك اليوم استقالت حكومة إبراهيم عبد الهادي باشا لتخلفها حكومة إئتلافية برئاسة حسين سرِّي باشا تضمُّ حزب الوفد عُهد إليها إجراء انتخابات نيابية جديدة ، وفي محاولة لاستقطاب الثقل التصويتي للإخوان وأنصارهم عمد وزراء حزب الوفد إلى دفع الحكومة لرفع الكثير من الإجراءات القمعية التي كانت حكومة السعديين قد اتخذتها ضدَّ الجماعة ، وقام وزير الداخلية الوفدي فؤاد سراج الدين بالإفراج عن المئات من الإخوان المعتقلين ، وبعد فوز حزب الوفد بأغلبية ساحقة في الانتخابات النيابية التي جرت في 12 / كانون الثاني / 1950 م شكـَّـل حزب الوفد وحيدا الحكومة برئاسة زعيمه مصطفى النحَّـاس باشا ، وأصدر وزير داخلية حكومة الوفد فؤاد سراج الدين قرارا بالإفراج عن بقية المعتقلين من الإخوان وأعاد لهم متعلقاتهم المُصادرة ، ولكن فرحة الإخوان لم تطل ، فسرعان ما استيقظ في صدور الوفديين هاجس التخوُّف من مزاحمة الإخوان لهم على قيادة الساحة السياسية بسبب تزايد التعاطف الشعبي مع الإخوان ، فأخذ فؤاد سراج الدين يماطل في إعادة المركز العام للجماعة لمزاولة نشاطهم فيه ، بل عرضه للبيع بالمزاد في خطوة استفزَّت الإخوان ، واشتط سراج الدين في استفزاز الإخوان فعمد إلى عقد لقاء مع رؤساء تحرير نشرت تفاصيله صحيفة ( منبر الشرق ) في عددها الصادر في 11 / آذار / 1950 م هدَّد خلاله الصحف التي تنشر أخبارا عن جماعة الإخوان بأشد العقوبات إعمالا لتعليمات الأحكام العرفية المفروضة على مصر والتي تعتبر جماعة الإخوان جماعة محظورة وخطرة تهدِّد الأمن العام .

مكيدة وفدية ضدَّ الإخوان تنقلب لصالح الإخوان

في مواجهة تصاعد المطالبات الشعبية بإلغاء الأحكام العـُرفية التي فرضتها حكومة حزب السعديين الأحرار تقدمت حكومة الوفد بمشروع قانون إلى مجلسي النوَّاب والشيوخ اللذين تملك فيهما أغلبية كبيرة لإلغاء الأحكام العـُرفية ولكن مع الإبقاء على الأمر العسكري الخاص بحل جماعة الإخوان المسلمين لمدة عام والإبقاء على قرار مصادرة أموالهم وتوزيعها على الجهات الخيرية ، ووافقت لجنة العدل بمجلس الشيوخ على إلغاء الأحكام العـُرفية ولكنها قررت الإبقاء على الأمر العسكري بحل الجماعة لمدة أقصاها سنة واحدة ورفضت الموافقة على مصادرة أموال الجماعة وتوزيعها على الجهات الخيرية حتى لا تكون قد أقرت سابقة خطيرة واكتفت بوضعها تحت الحراسة إلى أن يصدر حكم القضاء بالدعوى التي رفعها بعض أعضاء الجماعة بإلغاء قرار حل الجماعة ، ، وعقد مجلس النوَّاب ومجلس الشيوخ اجتماعا مشتركا لإقرار المشروع ، وكان متوقعا أن يحوز المشروع على موافقة المجلس بحكم سيطرة حزب الوفد على اغلبية كبيرة فيه لأن القرار يُشكـِّـل لحزب الوفد فرصة انتظرها لإزاحة الجماعة من طريقه ، ولكن ، وبينما كان النوَّاب والشيوخ يتهيأون للإقتراع على المشروع تناهت إليهم أصوات وجلبة فخرج الوزراء والنوَّاب والشيوخ ليستطلعوا الأمر ففوجئوا بمظاهرة ضخمة تطالب بعودة الإخوان المسلمين ، وسرعان ما آتت المفاجأة أكلها فألقى وزير الداخلية فؤاد سراج الدين كلمة بالمتظاهرين وعدهم فيها بالنظر في مطلبهم بعودة الجماعة ، واستقبلت جموع الإخوان كلام سراج الدين بالترحيب ، وسارعوا إلى رفع اللافتات على مباني الشـُعب الإخوانية في القاهرة وفي أرجاء مصر ، أما المركز العام في الحلمية فبقي تحت حراسة الشرطة .

البنا كان يُعدُّ المستشار حسن الهضيبي ليخلفه في قيادة الإخوان

شغر مركز المرشد العام للجماعة بعد اغتيال الإمام حسن البنا في 12 / شباط / 1949 م ، ولكأن الإمام البنا كان يستشعر الخطر الذي كان يتهدَّده فأسرَّ إلى القيادي الإخواني المستشار ( القاضي ) حسن محمد العشماوي باسم الشخص الذي ينصح بأن يرجع إليه الإخوان في حال ما إذا جرى له ما يحول بينه وبين قيادة الجماعة ، ويستذكر الأستاذ العشماوي لقاءه مع الإمام البنا قائلا : ( كنت وكيلا للنائب العام بالمنيا فى صعيد مصر وقدمت من مقر عملي إلى القاهرة يوم 2 فبراير ( شباط ) سنة 1949 بناء على طلب الإمام الشهيد ، وكان رحمه الله فى ذلك الوقت ضعيفا مرهقا ومع ذلك كان مستبشرا ينتظر ، كما قال ، إحدي الحسنين ، إما نصرا بانفراج الأزمة التي وقع فيها الإخوان أو شهادة يلقي بها الله راضيا مرضيا ، وفي نهاية اللقاء قال لي رحمه الله : لا يعلم إلا الله متي أعود إن قدر لى أن أعود , فإن احتجتم فى غيابي إلى رأي فالتمسوه عند حسن الهضيبي المستشار بمحكمة النقض فإني أحسبه مؤمنا هادئا صائب الرأي ) .

وقد أثبتت الوقائع فيما بعد أن توصية الإمام البنا بسميِّـه المستشار حسن الهضيبي ليُرجع إليه في حال غيابه عن قيادة الجماعة لم يكن نابعا من فراغ ، فقد تأكـَّـد أنه كان على اتصال سابق بالهضيبي ، وفي هذا السياق يقول الأستاذ محمود عبد الحليم فى الجزء الثاني من كتابه ( الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ ) : ( كان الأستاذ الهضيبي ـ في غياب غالبية قادة الجماعة في السجون ـ الرجل الوحيد الذى كان بجانب الأستاذ الإمام فى أشد الأيام حلوكة ، وقد اتخذه صفياً ومستشارأ وموضعا لسرِّه ، فقد كانا يجلسان معا فى دار جمعية الشبان المسلمين على انفراد ويبدو أن الأستاذ الأمام قد أفضي إليه بأوضاع الجماعة ) ، وفي نفس السياق يذكر الأستاذ إسماعيل الهضيبي نجل الإمام الهضيبي أنه رأى الإمام الشهيد البنا عدَّة مرات وهو يتردد على منزلهم للقاء والده ، كما يذكر الأستاذ جمال فوزي أن الإمام البنا أرسله أكثر من مرة برسائل سلمها للأستاذ الهضيبي ، وأن الإمام البنا التقى بالأستاذ الهضيبي منفردَين ذات مرَّة لأكثر من ساعة في منزله ، ويذكر الأستاذ صلاح شادي أنه رافق الإمام البنا حين كان يلتقي بالأستاذ الهضيبي ويقضي معه أياما عديدة فى قريته ( عرب الصوالحة ) ويتدارسان قضايا المسلمين ومشكلات الدعوة الإسلامية ، ويتناقشان معا في قضايا الساعة .

حسنٌ يخلف حسناً إختيار حسن الهضيبي مرشدا عاما للإخوان

بعد عشرة أيام من لقاء الإمام البنا والأستاذ حسن العشماوي لقي البنا إحدى الحُسنيين اللتين تمنى ان تنتهي حياته بإحداهما ، إرتقى شهيدا بإذن الله عزَّ وجل ، ولم يكن الإخوان بوضع يسمح لهم باختيار مرشد جديد بوجود غالبية القيادات الإخوانية في سجون حكومة السعديين برئاسة عدو الإخوان اللدود إبراهيم عبد الهادي باشا ، ونقل الأستاذ حسن العشماوي نصيحة الإمام إلى من لم تطله أوامر الإعتقال من أعضاء الهيئة التأسيسة للجماعة ، وفي هذا السياق يقول الأستاذ حسن العشماوي : ( عدت إلى القاهرة والتقيت بالأخوة منير الدلة وصالح أبو رقيق وعبد القادر حلمي وأخبرتهم بنصيحة افمام ، واتفقنا على أن أقابل المستشار حسن الهضيبي وألتمس عنده الرأي ، فزرته في منزله مساء يوم 17 فبراير ( شباط ) من عام 1949 م ولم أكن قد التقيت به من قبل ، وقدمت نفسي كوكيل للنائب العام وكزميل لابنه وكواحد من الإخوان، واستمع إلي بسمته المعروف ، وبعد أن أنهيت كلامي ردَّ علي باقتضاب فلمـَّـح بأنه ليس عضوا فى جماعة الإخوان المسلمين ، ولكنه صديق محب لحسن البنا يُقدِّره ويعتبره مجدد الدعوة الإسلامية لهذا القرن ، وأنه يعتبر قتل حسن البنا جريمة فى حق الإسلام سيحمل وزرها من فعلها ومن أرادها ومن رضي عنها ، أما بشأن عرضي عليه القبول بقيادة الجماعة فكان جوابه الحاسم أنه ليس على استعداد للحديث معي أو مع غيري فى ذلك ، ولكن الله أراد شيئا آخر ، فخلال وداعه لي على باب بيته ذكرت له حديثا كان قد جري بينه وبين الإمام البنا عندما التقيا في اليوم الأول من شباط ، فأمسك بيدي وسألني : من أعلمك هذا الحديث؟ ، قلت : أعلمني إياه الإمام ، قال : صدقت ، لقد كنا وحدنا ، أدخل واجلس وأخبرني ماذا تريد مني ؟ ، وسألته هل ذكر لك الإمام إسم الأخ المسؤول عن الإنفاق على عائلات الإخوان المعتقلين والمطاردين ، فذكر لي الإسم ، وسألته ماذا نفعل إزاء اغتيال الإمام ، فأجابني بحزم : إلزموا الهدوء , وإياكم والتهور ، ولا تعالجوا الجريمة بالجريمة ، وسألته من ترىأن يخلفه في القيادة ، فأجابني بعد إطراقة وتفكير : فى الليلة الظلماء يُفتقد البدر ، البركة فيكم ، وعليكم بشخص من صفوفكم ، سألته أتملها أنت .؟ ، قال : لا ، ليس مثلي لها ، وودعته وأنا أردِّدُ : هو لها ، ليته يقبلها ، أو نحمله على قبولها حملاً .

أبلغ الأستاذ العشماوي إخوانه الدلـِّـه وأبو رقيق وحلمي بما جرى من حديث بينه وبين الأستاذ حسن الهضيبي ، ولكن لم يكن الوقت وقت تفكير فى اختيار مرشد جديد لأن الإخوان كانوا لا يزالون فى السجون والمعتقلات وكانت المحنة لا تزال فى عنفوانها ، ولكن الحديث عن اختيار مرشد جديد عاد بعد أن خرج معظم الإخوان من سجون حكومة السعديين بعد استقالتها في 25 / أيار / 1949 م ، وأخذ الإخوان يتداولون أسماء عدد من الإخوان القياديين هم الأستاذ عبد الرحمن البنا شقيق الإمام الشهيد حسن البنا ، والأستاذ صالح العشماوي وكيل الجماعة ، والأستاذ عبد الحكيم عابدين سكرتير عام الجماعة وهو زوج أخت الإمام البنا ، والشيخ أحمد حسن الباقوري الذى كان الإمام قد كلفه برعاية شؤون عائلات الإخوان فى المعتقلات ، والتقى الأربعة في منزل الأستاذ منير الدلـِّـه ليتفقوا على أحدهم لتقديمه إلى الهيئة التأسيسية ، ولكن شاءت إرادة الله أن لا يحصل الإتفاق ، فطرح الدلـِّـه عليهم إسم الأستاذ الهضيبي وأطلعهم على ما يعرفه عن علاقته وصلته الوثيقة بالإمام البنا وأوضح لهم أسباب عدم ظهوره العلني فى تنظيمات الإخوان ، ولقي طرح الأستاذ الدلـِّـه قبولا مشروطا باللقاء به ليتعرَّفوا عليه من قرب ويدرسوا إمكانياته ، وتمت عدة مقابلات بين الإخوان الأربعة وبين الأستاذ الهضيبي دون أن يفاتحوه فى الغرض من هذه الزيارات والمقابلات ، ثمَّ عُقد اجتماع موسع فى منزل الأستاذ منير الدلـِّـة واتفق المجتمعون على الحصول على ترشيح الهيئة التأسيسية للأستاذ الهضيبي رسميا ، وذهب الأستاذ منير الدلة ومعه أربعة من مكتب الإرشاد يحملون قرارا من مكتب الإرشاد مشفوعاً بموافقة الهيئة التأسيسية باختيار الأستاذ الهضيبي مرشدا للجماعة ، فاعتذر الأستاذ الهضيبي بسبب حالته الصحية ، وشاع نبأ الإعتذار بين الإخوان فراحوا يتوافدون على الأستاذ الهضيبي فى منزله جماعات وأفرادا يُلحـُّـون عليه أن يقبل ويبايعونه رغماً عنه لكنه كان يُصرُّ على الاعتذار ، وكان من بين زائريه مجموعة من الإخوان من مختلف المحافظات من بينهم الإخوان عبد العزيز عطية وعبد القادر عودة ومحمود عبد الحليم ويوسف طلعت والدكتور عبد العزيز كامل , وتداول الزائرون على شرح الظروف المحيطة بالدعوة وشدة حاجتها إلى قيادة معبِّرين عن أمل الإخوان في قبول طلبهم بقبول قرارمكتب الإرشاد والهيئة التأسيسية باختياره مرشدا عاما للجماعة ، وتكلم الأستاذ الهضيبي فشكر للإخوان حسن ظنهم وكرَّر اعتذاره بسبب حالته الصحية ، ويستذكر الأستاذ محمود عبد الحليم في كتابه ( الإخوان المسلمون ـ نظرة من الداخل ) مجريات ذلك اللقاء قائلا : ( سادت بعد إصرار الأستاذ الهضيبي على افعتذار هدأة هى هدأة الخيبة واليأس التي أحس الجميع بمرارتها فى حلوقهم ، ولكن ، فجأة إذا بنا نسمع صوت الأخ يوسف طلعت صارخا باكيا يقول للأستاذ الهضيبي : إننا نعلم ما تعانيه ولكن الدعوة أعزُّ علينا وعليك من أن نتركها بلا قيادة ، وقد اتفق إخوانك على أن تكون قائدها ، وإذا كنا قد بايعنا على افتدائها فلتفتديها أنت كذلك ، والله قادر على شفائك إذا استجبت أنت لدعوته ، ولن نخرج من هذا المكان إلا بنزولك على رأي الإخوان الممثل فينا ، وكانت لكلمات الأخ يوسف طلعت ولدمعه المنهمر فعل السحر فى قلب الأستاذ الهضيبي وقلوب الحاضرين حيث انهمرت دموعهم ووجدوا أنفسهم قد انتقلوا إلى جو روحي غامر لم يملك معه الأستاذ الهضيبي إلا أن يبتسم والدموع تترقرق فى عينيه ويقول : لقد نزلت على رأيكم وأسأل الله أن يعينني ) .

بعد الإنفراجة العابرة التي أعقبت استقالة حكومة السعديين برئاسة عدو الإخوان اللدود إبراهيم عبد الهادي باشا عادت الهيئة التأسيسية للإخوان لعقد اجتماعاتها رسميا ، فطلبت من الأستاذ الهضيبي رئاسة أول جلسة لها بصفته مرشدا للجماعة ، ولكنه اعتذر عن تلبية طلبهم طلبهم إذ اعتبر انتخابه من قبل الهيئة التأسيسية في المرحلة السرية من الدعوة لا يمثل رأى جمهور الإخوان ، وطلب منهم أن ينتخبوا مرشداً آخر غيره ، ولكن الإخوان رفضوا طلبه ، وقصدت وفود الإخوان من جميع مصر بيته ، وألحت عليه بالبقاء كمرشد عام للجماعة ، وبعد أخذ ورد وافق على مطالب وفود الإخوان ، وقدم استقالته من القضاء اعتبارا من يوم 17 / تشرين الأول / 1951 م ليتفرَّغ مرشدًا عامًا لجماعة الإخوان المسلمين .