الأزمة المالية العالمية: التشخيص والمخرج

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الأزمة المالية العالمية: التشخيص والمخرج


الازمة-المالية-العالمية 2.jpg

نعلم أن النظام المصرفى بالنسبة للاقتصاد المعاصر بمثابة القلب من الجسد، وأن النقود، أى السيولة، تعد بمثابة الدم الذى يضخه هذا القلب المصرفى فى عروق، أى أنشطة، هذا الجسد الاقتصادى، ويتكوّن النظام المصرفى من : البنك المركزى والمؤسسات النقدية، أى البنوك وشركات التأمين وسوق المال، ويقوم الفن المصرفى على المواءمة أو التوفيق بين اعتبارين متناقضين : الثقة أو السيولة من ناحية، والعائد أو الربحية من ناحية أخرى، فالبنك كمشروع اقتصادى يتعين أن يحقق ربحا لأصحابه المساهمين وكمشروع اقتصادى من نوع خاص بحسب طبيعة نشاطه، وهى التعامل فى "الائتمان"، يتعين أن يحافظ على حد معين من السيولة فى أصوله حتى يكتسب ثقة المتعاملين معه بأنه يستطيع أن يلبى طلباتهم بالدفع نقدا عند الطلب، أو بعد ترتيبات معينة .

وعلى ذلك، إذا ركز البنك على اعتبار واحد من هذين الاعتبارين، فإنه يفقد شرط وجوده فى السوق المصرفى، فإذا وجه جل موارده المالية لمقابلة اعتبار الثقة، أى السيولة، فإن هذه السياسة ستكون على حساب الاعتبار الثانى وهو الربحية . ومن ثم، يصبح مشروعًا غير مربح لا مبرر إذاً لوجوده. وإذا وظف جل موارده فى أصول مثمرة، أى مدرّة لعوائد مرتفعة نسبيًا كالأوراق المالية طويلة الأجل، أى الأسهم والسندات، والقروض والسلفيات، سيكون ذلك على حساب السيولة، وبالتالى الثقة . حيث سيفقد ثقة عملائه لأنه لن يستطيع أن يستجيب لطلباتهم بالدفع نقدًا . ومن ثم، يفقد مبرر وجوده كمؤسسة نقدية، وعليه، يتأسس الفن المصرفى فى أن يشكل البنك مجموع أصوله بما يضمن له السيولة الكافية مع الربح المناسب، وعادة ما تتراوح نسبة الأصول السائلة ما بين (30%) إلى (40%) من مجموع الأصول الكلية للبنك .

وبالنسبة للأصول قليلة السيولة، أو المثمرة، يتعين على البنك أن يتوخى فى تكوينها تقليل "مخاطر" الائتمان بقدر الإمكان، فيكوّن محفظة أوراقه المالية من أوراق "جيدة" ويختار عملاءه "المقترضين" بدقة، وفقا لمعايير معروفة من استعلام عن العميل، خاصةً مركزه المالى وسمعته الائتمانية، بل سمعته الشخصية، بالإضافة إلى أخذ ضمانات، أى رهن يغطى، إن لم يزيد عن قيمة القرض، للرجوع عليه عند عدم السداد فى تاريخ الاستحقاق . وهذا ما يطلق عليه الاقتصاديون النقديون : "إدارة مخاطر الائتمان" .

وأخيرا، تتطلب الإدارة الرشيدة للبنك أن تكون موارده الذاتية، أى رأسماله المدفوع والاحتياطيات والمخصصات "كافية" لمقابلة المخاطر المحتملة لقروض "رديئة" أى مشكوك فيها أو معدومة، على أن تشكل هذه الموارد نسبة تتراوح بين (8%) إلى (15%) من إجمالى الأصول "عالية المخاطر"

ومن أهم وظائف البنك المركزى الرقابة والإشراف، بل التفتيش على أن البنوك تتقيد بهذه المتطلبات، وتلتزم فى عملها بهذه القواعد، والتى نسميها فى العرف المصرفى بالسياسات المصرفية، إذًا، هذه السياسات هى :

  • سياسة إدارة السيولة والربحية .
  • سياسة إدارة مخاطر الائتمان .
  • سياسة كفاية رأس المال .

الأزمة التى يعيشها العالم الآن بعامة، وتعيشها الولايات المتحدة الأمريكية بخاصة نجمت من عدم الالتزام غير المسئول، بل المتعمد، بهذه المتطلبات من قبل البنوك، ومن الإهمال غير المسئول، بل عدم الاكتراث الذى يكاد يكون متعمدا طوال الست سنوات الماضية وحتى الآن، من قبل الاحتياطى الفيدرالى، أى البنك المركزى، الأمريكى، فى القيام بواجباته الإشرافية والرقابية والتفتيشية . ومن ثم، وقعت الأزمة المالية الحادة، والتى امتدت إلى الدول الأوربية، ودول جنوب شرق آسيا، واليابان، والصين، ثم الدول النامية، وتنذر بكساد عالمى يصغر أمامه تمامًا الكساد العالمى العظيم فى أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من القرن الماضى !

فجريًا وراء "أقصى" ربح وأسرعه، أفرطت المؤسسات النقدية فى تقديم كم ضخم للغاية من القروض للأفراد، وبالذات فى مجال الرهن العقارى، دون ما دراسات استعلامية تذكر عنهم، ودون ما اعتبار للسيولة وكفاية رأس المال، مما أدى إلى تعثر الكثير من المقترضين عن السداد، فى الوقت الذى انخفضت فيه أسعار العقارات، ومن ثم، غرق المواطنون فى الديون، وأصبحت المؤسسات النقدية على مشارف الإفلاس . وساعد على هذا الوضع المتأزم أربعة عوامل :

  • الأول: يتمثل فى شبه غياب الرقابة من قبل السلطات النقدية على العمل المصرفى، خاصةً أن أكثر من أربعة أخماس هذا العمل كان يتم "خارج بنود الميزانية" وبالتالى لا يخضع رسميا للرقابة، رغم علم هذه السلطات بهذه الحقيقة . وعليه، كان ذلك أدعى أن تعمل على إخضاع هذا النشاط لرقابتها .
  • والثانى: يتركز فى المضاربات، أى المقامرة، المحمومة فى "وول ستريت" والتى تتصاعد بلا ضابط ولا رابط ولا منطق، كلما تقلصت "الثقة" فى السوق، وفى الاقتصاد . والثالث يدور حول انتشار استخدام أدوات مالية مبتكرة، يرفضها بالطبع شرعنا الحنيف، وهى المشتقات : المستقبليات والخيارات والتحوطات ضد تغيير سعر الفائدة، أى المتاجرة فى المخاطر . فقامت هذه الأدوات على إعادة بيع القروض العقارية، وغيرها من القروض، المشكوك فيها فى شكل أوراق مالية . وتم تداول هذه الأوراق .

وتنطوى بالطبع هذه المعاملات على محظورات يحرمها نظامنا الإسلامى، فهى بيع الإنسان ما لم يملك، وبيع الدين بالدين . كما تنطوى على غرر أى جهالة كبيرة، وبعضها ينطوى على "ربا" صريح . والرابع ينحصر فى فساد الإدارة العليا فى كثير من هذه المؤسسات، مما جعلها لا تهتم كثيرا بالقواعد المصرفية قدر اهتمامها بالمرتبات الخيالية التى كانت تتقاضاها . فمثلاً، بلغت مرتبات ومكافآت رئيس بنك "ليمان براذرز" (486) مليون دولار عن عام 2007م

ومن ثم، بدأ الانهيار، وبدأ التدخل الحكومى . فمثلا، أعطت الإدارة الأمريكية ضمانات لمساعدة "جى بى مورجان" على شراء "بيرسترنز" وتركت "ليمان براذرز" يعلن إفلاسه لعدم ملاءته، وتدخلت تأميمًا لإنقاذ "فريدى ماك" و "فانى ماى" و "أى إيه جى"، ثم أغلقت أخيرا "واشنطن ميوتيوال" . وانتقلت عدوى الإفلاسات والتأميمات إلى دول أوروبا الغربية، وبالذات إنجلترا وفرنسا وإيطاليا ولكسمبرج .

ووصل النظام المصرفى الأمريكى فى النهاية إلى درجة من فقدان "الثقة"، أدت إلى حالة "التجمد الائتمانى" . فلا يوجد أى إقراض واقتراض بين البنوك، ولا يوجد أى إقراض لقطاع الأعمال أو المستهلكين . ومن ثم، يوجد حالة شلل يكاد يكون كاملا فى التيارات النقدية "المحركة" للتيارات الحقيقية، أى للنشاط الاقتصادى "العينى"، خاصةً، إذا أضفنا إلى ذلك الإحجام شبه الكامل من المستهلك الأمريكى عن الإنفاق خوفا من، واحتياطًا للطوارئ فى المستقبل . وهنا، تكون بداية الانهيار الكبير، ليس فى سوق المال فحسب، وإنما أيضا فى أساسيات الاقتصاد .

ولعل هذا الذى دفع الإدارة الأمريكية إلى الإسراع بخطة الإنقاذ والبالغة (700) بليون دولار . وهذه الخطة فى رأى كثير من المتخصصين لا تعالج جذور الأزمة ومسبباتها، وإنما تتصدى لأعراض ومظاهر هذه الأزمة . وبالتالى، قد لا تحدث الأثر المطلوب والمأمول . وتتلخص جذور الأزمة فى فوضى الجهاز المصرفى . وعليه، لإعادة الانضباط إلى هذا الجهاز كى يؤدى وظيفته الحيوية يتعين تقويم وتطوير قواعد عمل الوحدات المصرفية وأدوات الرقابة عليها، ومحاسبة المسئولين عن هذه الأزمة، ثم العودة إلى سياسات مصرفية منضبطة حول :

  • إدارة السيولة والعائد .
  • إدارة مخاطر الائتمان .
  • إدارة كفاية رأس المال .

نحن هنا، لا نتكلم عن بازل (1)، وبازل (2)، ولكننا بالقطع نتكلم عن بازل جديدة تمامًا . إذ أن الأزمة تجاوزت "كل" الترتيبات السابقة، والتى كانت تهدف إلى تحسين أداء الأنظمة المصرفية . ولعل القمة الأوروبية المصغرة، والتى عقدت بباريس منذ أيام .. عندما نادت بضرورة عقد "مؤتمر دولى عاجل" لبحث الإصلاح المصرفى فى العالم .. تشير إلى هذا الاتجاه .

لاشك، أن ما تعرض له النظام الرأسمالى خلال الأسابيع الماضية يشكل تحديًا حقيقيًا لبعض ثوابته الرئيسية مثل : الحرية الاقتصادية، والدولة الحارسة غير المتدخلة فى النشاط الاقتصادى . فالذى يحدث الآن هو "تدخل" شديد العمق، وشديد الوضوح، ليس من السلطات النقدية فحسب، بل من السلطتين التنفيذية والتشريعية . ولقد سُميت خطة الإنقاذ على اسم وزير الخزانة الأمريكى، أى خطة "بولسون" .

ولذلك، دفاعا عن هذا النظام، وقع أكثر من (50) اقتصاديا أكاديميًا على وثيقة ترفض هذا التدخل، وترفض هذه الخطة، بحجة أن هذه الخطة جاءت لمكافأة المسئ الفاسد، ويتحمل تكلفتها المواطن الأمريكى العادى، الذى لا يعد بأية حال مشاركا فى صنع هذه الأزمة، وإن كان يتحمل كل تبعاتها . وفى الوقت نفسه، يرى الموقعون أن النظام قادر على أن يصحح نفسه بنفسه . وإن كان هذا الرأى محل جدل كبير، وشك أكبر . ولقد علق أحد الاقتصاديين الأمريكيين على التدخل الحكومى الحادث الآن فى النشاط الاقتصادى بالقول : "مرحبًا بكم فى اتحاد الجمهوريات الاشتراكية الأمريكية" . بينما يرى الآخر ناقدًا هذا التدخل بالقول "لقد تسبب أباطرة "وول ستريت" فى تلويث الاقتصاد بقروض الرهن العقارى الفاسدة، وعليهم أن يتحملوا تكاليف التنظيف" .

وأخيرا .. ما العلاج .. حتى نجنب العالم كسادًا عالميًا عظيمًا يقع عبئه لا محالة على الطبقات الفقيرة والدول الفقيرة ؟ رغم صعوبة هذا السؤال إلا أن إجابته تدور حول المحاور التالية :

  • وقف المضاربات، أى المقامرة، وبالذات المشتقات .
  • محاسبة المسئولين عن هذه الأزمة فى الجهاز المصرفى .
  • تشديد رقابة البنك المركزى على العمل المصرفى بعامة وعلى ضخ الائتمان بخاصة .
  • تفعيل السياسات المصرفية بحزم وصرامة، خاصةً فيما يتصل بإدارة السيولة والعائد، ومخاطر الائتمان، وكفاية رأس المال .
  • الاستمرار فى ضخ السيولة فى شرايين الاقتصاد حتى لا تنهار أساسيات القاعدة الإنتاجية .

وأخيرا وليس آخرًا، التفكير الجاد فى دارسة تطبيق النظام الإسلامى البعيد عن سعر الفائدة "الربوى"، والقائم على معدل الربح كأداة فاعلة لإدارة النشاط الاقتصادى المعاصر، والذى يستند على القيام باستثمار "حقيقى" لتوسيع القاعدة الإنتاجية، وليس على أساس استثمار مالى قوامه المضاربات أى المقامرات والاستغلال والفساد، وليتذكر منظروا الاقتصاد الرأسمالى ما قاله الاقتصادى الأمريكى "سيمونز" بأن الكساد العالمى العظيم فى الثلاثينيات من القرن الماضى يرجع إلى "تغيرات الثقة .. الناشئة عن نظام ائتمانى غير مستقر" وأن "خطر الاضطراب الاقتصادى يمكن تفاديه إلى حد كبير إذا لم يتم اللجوء إلى الاقتراض .. وإذا ما تمت الاستثمارات كلها فى شكل تمويل ذاتى وبالمشاركة .." إنها كبيرة "الربا" وراء كل الشرور الاقتصادية، التى تعانى منها البشرية . ولذلك لعلمه الأزلى بمن خلق .. وهو اللطيف الخبير .. أعلن سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم حربا على مقترفها .. حتى تُطّهر المجتمعات البشرية بالابتعاد عنها .. إذ يقول سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ، وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة:278-280) صدق الله العظيم

وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم