اصطنَع الله الإمام لإصلاح ما أفسده الناس

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١١:٠٢، ٧ يوليو ٢٠١٢ بواسطة Attea mostafa (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
اصطنَع الله الإمام لإصلاح ما أفسده الناس
كلمة الأستاذ "محمد مهدي عاكف" المرشد العام للإخوان المسلمين

الأستاذ محمد مهدي عاكف

مقدمة

(في ذكرى وفاة الإمام المؤسس الشهيد/ حسن البنا)

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:

يأتي احتفاؤنا بذكرى استشهاد الإمام حسن البنا"- رحمه الله- في الثاني عشر من فبراير فرصةً للتدبر في مسيرة مجاهدٍ من مجاهدي الإسلام، وداعيةٍ من أكابر دعاته على مدار التاريخ، وأعظمِهم أثرًا، وأوسعِهم ذِكرًا.. وعرفانًا بفضل ذلك الرجل علينا وعلى أمته، التي بذل عمره مدافعًا عنها وعن حقوقها، وقضى حياته مجاهدًا في سبيل رفعتها، ثم نال الشهادة في سبيل الله على ثَراها، وبمكر أعدائها، الذين رأوا فيه الصوت الداوي، الذي يفضح تآمرهم، ويكشف خبيثات شرورهم، ويدعو إلى مواجهتهم، ويكتل القوى من أجل التصدي لخطرهم.

إن كثيرًا من شبابنا- اليوم- في حاجة إلى دراسة حياة ذلك الإمام العظيم، وقد اجتهد أعداء هذه الأمة في تجهيلهم به، وحجبِ ضيائه عنهم، ليرَوا فيه القدوة الصالحة لشباب نشأ في عبادة ربه، وحمل على كاهله همومَ أمته، وأدرك أن السبيل الوحيد لاستعادة مجدها وعزها إنما هو سبيل الإسلام؛ فنذر لذلك عمره يدعو إليه، ويربي الناسَ عليه، ويحدوهم إلى الجنة بما تستأهله من معالي الأمور، وتَوَاصل العمل، وإخلاص السعي، وترك الخمول والدعة، فالأمة المجاهدة- كما قال "حسن البنا"- رضي الله عنه- "لا تعرف إلا الجد".

لقد نشأ إمامنا الشهيد من صميم ريفِ مصر، ولأسرة متوسطة الحال، وقد أتمَّ حفظ القرآن الكريم ولم يتجاوز التاسعة من عمره، وأُشرِب حب الذكر والعبادة، والصلة بالله تعالى، وغشيان مجالس العلماء، وإيثار العمل الجاد على الجدل الذميم، وقد آتاه الله تعالى حافظةً واعيةً، فلما تقدم لامتحان القبول بكلية دار العلوم كان يحفظ ثمانية عشر ألف بيت من الشعر.

لقد أتاح له ذلك التكوين العلمي والأخلاقي ثروةً لا تنضب من الثقافة، كانت خيرَ زاد له في دعوته، مع ما حباه الله به من فصاحةٍ وبيانٍ قلَّ نظيرها، فكان يميل بسامعيه حيث شاء، قادرًا على أن يصوغ أعمق المعاني بأوضح الألفاظ وأقربها للناس، في أسلوب مشوِّق أخَّاذ، يناسب عامة الناس، فيجد فيه بسطاؤهم وكبار مثقفيهم على السواء ما يلبِّي حاجاتهم، ويخاطِب عقولَهم ووجدانهم، ويحرك ضمائرهم، ويزكِّي نفوسهم، كما أتاحت له نشأتُه في أوسط طبقات المجتمع إحساسًا مرهَفًا بعامةِ الناس، ومعاناةً ملهمةً لهموم الأمة، ومشاكل البسطاء.

اصطفاء الله

غير أن ذلك التكوين وتلك النشأة لم تكن أمرًا غريبًا، أو حدثًا فريدًا، لقد كان كثيرٌ من علماء ذلك العصر يشبه في نشأته وتكوينه تكوين إمامنا الشهيد، لكن "حسن البنا"- رحمه الله- كان رغم ذلك نسيجًا وحده، وذلك عطاء الله ومحض فضله، لقد أثار الأمر تساؤل أديب مصري بارز؛ هو الأستاذ "محمد حسن الزيات"، لقي يومًا إمامنا الشهيد، فراعه منطقه وفكره ورأيه وعقله، فقال: "هذا الشاب نشأ كما ينشأ كل طفل في ريف مصر، وتعلَّم كما تعلم كل طالب في دار العلوم، وعمل كما يعمل كل مدرس في وزارة المعارف، فعمَّن ورَث هذا الإيمان؟ ومِمَّن اقتبَس هذا البيان؟ ومن أين اكتسب هذا الخلُق؟ ثم قال إن الفطرة التي فُطر عليها "حسن البنا"، والحقبة التي ظهر فيها "حسن البنا" تشهدان بأنه المُصلح الذي اصطنعه الله لإصلاح الفساد الذي صنعه الناس".

العمل الجماعي عنده

لقد آمن الإمام الشهيد- رحمه الله- منذ بدايات صباه بمبدأ العمل الجماعي، وضرورته لإحداث تغيير حقيقي في واقع الناس والمجتمع، ومنذ كان تلميذًا بالمدرسة الإعدادية ترأَّس جمعيةً خيريةً بمدرسته، وظلت تلك القناعة تملأُ قلبه وعقله حتى أسَّس جماعة (الإخوان المسلمين) سنة 1928م؛ ليضع فيها عصارةَ فكرِه، وخلاصةَ تجربتِه، وجميع أمله.

لقد كانت قناعتُه راسخةً بأنَّ العمل الجماعي للإصلاح لا يمكن أن يستهدف فقط النخبة أو الصفوة من المسلمين، بل لابد أن يكون عملاً شعبيًّا يخاطب جماهير الأمة بغير استثناء، ويتواصل مع جميع طوائفها من الصفوة والعامة معًا، كما أن محاولات الإصلاح السابقة عليه- التي قامت على أكتاف بعض الزعماء والمصلحين وجهودهم الفردية- قد استهدفت جماعةً من صفوة الأتباع، فلم تحقق المراد منها، وانتهت بموت هؤلاء الزعماء، وغيابهم عن ساحة العمل، ومحاصرة الصفوة المختارة؛ حتى تتآكل بمرور الزمن، وأيقن أن الإصلاح الحقيقي المنشود لن يأتي إلا من خلال القاعدة العريضة من المؤمنين، الذين يجيدون فهمه، ويحسنون التربية عليه، ويستعذبون الجهاد في سبيله، والتضحية من أجله.. لن يأتي التغيير المنشود من أعلى.. بقرار فوقي، أو بسلطةٍ قاهرةٍ.. وكل تغيير أتى من خلال ذلك كان قصير الأمد، محدود الأثر، ويحضرني في هذا المقام ما قاله أخ كريم وصديق عزيز- رحمه الله رحمة واسعة- وهو "عبدالرحمن عزام باشا"- أمين عام الجامعة العربية- حينما دعوته لإقاء محاضرة عن "حسن البنا"- رضي الله عنه- فوقف الرجل وقال في بداية حديثه:

"لقد بنيْتُ مجدًا على الرمال؛ لأني تعاملت مع الملوك والرؤساء، و"" بنى مجدًا عميق الجذور وافر الظلال؛ لأنه تعامل مع الشعوب"، رحم الله "حسن البنا" و"عبدالرحمن عزام" رحمةً واسعةً.

ظروف تأسيس الجماعة

لقد أسس الإمام البنا" جماعة (الإخوان المسلمين) عام 1928م؛ أي بعد سقوط الخلافة الإسلامية في تركيا بأربع سنوات، وهو الحدث الجلل الذي هزَّ العالم الإسلامي، وذهب بالرمز السياسي للإسلام، الذي ظلَّ نحو ثلاثة عشر قرنًا من الزمان يجمع شتات هذه الأمة في كيانٍ واحدٍ، تحت ظل خليفةٍ واحدٍ.. وجاء سقوط الخلافة نتيجة سلبيات عاشتها، جعلتها غيرَ قادرةٍ على مواجهةِ المكرِ الدولي والضغط الصليبي الصهيوني المتواصل، وما واكب ذلك من استشراء الاستعمار لبلاد الإسلام، وكان دائمًا مَصحوبًا بالغزو الفكري والحضاري الذي كان أعظمَ خطرًا، وأبقى أثَرًا.

وكان الإمام البنا"- رضي الله عنه- يرى في جماعته الخلاص من ذلك الشر المحيط، ولقد كان عزمه لا يلين، ودأبه لا يفتُر، فزار نحو ألفي قرية مصرية، ولم تبقَ مدينةٌ من مدن مصر وقراها تقريبًا لم يرها "حسن البنا"، ولم يدوَّ فيها صوتُه بدعوة الإسلام، ونداؤه الدافِق بالعودة إليه من جديد، وذلك في زمن لم تنتَشِر في الإذاعات أو التلفاز أو القنوات الفضائية ومواقع (الإنترنت)، ولم يكن بين أفراد الأمة آنذاكَ إلا قليلٌ ممن يُحسنون قراءةَ الصحفِ، والأغلبية الساحقة تُعاني الأمية المطلقة، وقد عانى في سبيل الوصول بدعوته إلى جميع الناس ما كان مثارَ دهشةِ عارفِيه والقريبين منه، فلم تكن له راحةٌ، ولم يسكنْ إلى ظل بيته ودفءِ أهله، وربما أمضى لياليَ الشتاء القارس أو أيام الصيف الخانق في قرية نائية، ماشيًا إليها على قدميه، أو راكبًا دابةً، سائرًا في طريق وعرٍ.

رؤية وتنظيم:

إن تلك الحركة الدائبة الصبورة لم تَشغل الإمام الشهيد عن عبقرية البناء ودقة التنظيم لجماعته، وإكمال التصوُّر الحركي لأهدافها ووسائلها وغايتها، وإن كثيرًا من الأفكار والمبادئ الإسلامية التي يظنُّها بعض المعاصرين جديدةً على ساحة الفكر الإسلامي والعمل الدعوي قد تنبَّه إليها الإمام البنا"، وصاغَها في وضوح، ودعا إليها في جلاء.

لقد كان بناء الفرد المسلم في جميع نواحيه ركيزتَه الدعوية الأولى، ثم تكوين البيت المسلم؛ ليكون متمثلاً بقيم الإسلام وآدابه، وإرشادِ المجتمع، وكسبِ الرأيِ العامِ إلى جانبِ الفكرة الإسلامية، وصبغِ مظاهرِ الحياةِ العامةِ بها، وتحريرِ الوطن بتخليصه من كل سلطان أجنبي غير إسلامي، سياسي أو اقتصادي أو روحي، وإصلاح الحكومة؛ حتى تكون إسلاميةً بحقٍّ، ثم إعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية، وأستاذية العالم بنشر دعوة الإسلام في ربوعِه؛ حتى يكونَ الدينُ كلُّه لله.

واهتم الإمام البنا"- رضي الله عنه- بالمرأةِ المُسلمةِ وحقوقِها، فجعل أحد أهم أقسام الجماعة قسمًا للأخوات المسلمات، وعُنِيَ بتعليمهن، فأنشأ مدرسة (حراء) لتعليم الفتيات وتدريبهن على حرف تناسبهن، في وقت كان مثلُ ذلك التفكير في مصر مثيرًا للاستغراب، وبنى دارًا للتائبات في الإسماعيلية في بواكير دعوته؛ ليُعيد تأهيل النسوة اللاتي انحرفت بهن السبل ليكُنَّ مسلمات صالحات.

أما قضية فلسطين فكانت شغله الشاغل إبان اشتداد الهجمة الصهيونية، ومحاولة تأسيس الكيان الصهيوني، وقد شهدت أرض فلسطين بطولات المتطوعين من شباب (الإخوان المسلمين) في مواجهتهم للصهاينة المدعومين من الاستعمار العالمي.

لقد كان الإمام البنا"- رضي الله عنه- يدرك طبيعة هذه الدعوة التي أرادت أن تسير على هَدْي القرآن الكريم وخُطى النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- وكان يحذر أصحابه من استبطاء النصر، وتعجيل النجاح، فيقول: "إن طريقكم هذا مرسومة خطواته، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرةً قبل نضجها، أو يقطِف زهرةً قبل أوانِها، فلستُ معه في ذلك بحال، وخيرٌ له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات".

وكان يقرأ على أصحابه قوله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ (العنكبوت: 2- 3)، ويذكِرهم أن سنن الله في الدعوات الصادقة أن تُبْتلى وتُمتحن، وأخبرهم أنهم حين يواجهون ذلك يكونون قد بدأوا يسلكون سبيل أصحاب الدعوات، وقال: "وستدخلون بذلك- ولا شك- في دور التجربة والامتحان، وتُعتقلون وتُشردون وتُصادر أموالُكم ومصالحكم وتُعطل أعمالُكم، وتُفتش بيوتكم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان، ولكنَّ الله وعدَكم بعد ذلك كلِّه نصرةَ المجاهدين ومثوبةَ العاملين".

استشهاده

وقد صح ما توقعه الإمام الشهيد، فقد تآمرت قوى الاستعمار- في أعقاب مشاركة (الإخوان) في الجهاد في فلسطين- لحل الجماعة، ثم اغتيال الإمام "البنا" في أكبر شوارع القاهرة، وسخَّروا لذلك النظام الحاكم آنذاك بمصر، فتآمرت الدولة بكل آلة بطشها ضد رجل واحد أعزل إلا من سلاح الإيمان، وكان استشهادُه فريدًا كشخصه ودعوته، فأطلقوا عليه الرصاص، ثم تركوه ينزِف في المستشفى حتى مضى إلى ربه- رحمه الله- فكان استشهاده تعميقًا لبناء الدعوة، كما يصفه الشهيد "سيد قطب"- رحمه الله.

لقد كان ضروريًّا للاستعمار العالمي والصهيونية العالمية أن يختفي "حسن البنا"، الرجل الذي التفَّت حوله الجماهير، وتعلَّقت به وبجماعته آمال المسلمين في التحرر والكرامة؛ لينفسح المجال أمام إعادة تشكيل خريطة المنطقة العربية، ويدفع إلى سُدَّة الحكم فيها دكتاتوريات عسكرية غاشمة، تكبِّل حركة الشعوب؛ ليتضخم الكيان الصهيوني، ويتغلغل الغزو الإعلامي والفكري دون منازع، ولكن- بحمد الله- خاب ظنُّهم، وصمد (الإخوان) للمحنة بعد استشهاد إمامهم، وما زالوا على الدرب سائرين، بإذن الله.

ولي كلمةٌ أخيرةٌ أيها الأحباب

إن هذه المؤامرات المتواصلة، التي تستهدف القضاء على رفعة هذه الأمة ومكانتها وحضارتها، لن يُكتَب لها النجاح ما استمسكنا بديننا ودعوتنا ومبادئنا وقيمنا، فإن فعلْنا ذلك فنحن على وعدٍ من الله بالنصر والتمكين إن شاء الله.

رحِم الله إمامنا الشهيد، ومن سبقه من مرشدينا الأبرار رحمة واسعة، ورحم الله إخوانه الشهداء في سبيل الإسلام في كل مكان.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

المصدر