استراتيجيات النظام السياسي تجاه الحركة الإسلامية في اليمن

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ٠٢:٤٢، ٣٠ أبريل ٢٠١١ بواسطة Rod (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
استراتيجيات النظام السياسي تجاه الحركة الإسلامية في اليمن

مقدمة

في الحلقة 17 من كتاب "الحركة الإسلامية والنظام السياسي في اليمن .. من التحالف إلى التنافس" للباحث ناصر الطويل، نواصل نشر الفصل الثالث الذي يتحدث عن المحددات الداخلية للعلاقة بين النظام السياسي والحركة الإسلامية بعد الوحدة.

كانت الحلقة السابقة قد ناقشت "تكيف "الإخوان" مع الواقع الجديد وكيف تأسس حزب الإصلاح؟"، أما في هذه الحلقة فتتحدث عن استراتيجيات النظام تجاه الحركة الإسلامية ، وهو عنوان المبحث الثاني من الفصل الثالث.

تعامل النظامان السياسيان في شطري اليمن قبل الوحدة مع الحركة الإسلامية الإخوانية بأسلوبين مختلفين, فقد التزم الحزب الاشتراكي في جنوب اليمن استراتيجية واحدة, هي إستراتيجية الإقصاء, حيث تعامل مع القوى السياسية والاجتماعية المخالفة له بعقلية استئصاليه.

ومع ذلك يمكن التمييز بين أربع مراحل, فيما يخص تعامل السلطة في جنوب اليمن مع الحركة الإسلامية:

1. المرحلة الأولى: (1967م-22 مايو 1969م)

خلال تلك الفترة لم يكن هناك توجه واضح يعادي الإسلاميين من قبل السلطة, فالمركز الثقافي الإسلامي الذي يمثل الواجهة العلنية للإخوان المسلمين في عدن, استمر في نشاطه العلني, حيث كانت الجبهة القومية مشغولة بالصراع الدائر بين جناحيها: القومي واليساري, ويبدو أن وجود ما كان يسمى بالتيار اليميني في المواقع القيادية في الدولة, بما فيها موقع رئيس الدولة "قحطان الشعبي" ورئيس الحكومة "عبدالطيف الشعبي" ومعظم المقاعد الوزارية حد إلى درجة كبيرة من غلو التيار اليساري داخل الجبهة, وأعاقه عن تنفيذ رؤاه الفكرية المتطرفة.

2. المرحلة الثانية: (1969م- 1980م)

اتخذ تيار اليسار المتطرف بعد استيلاءه على السلطة في 22 يوليو 1969م, إجراءات عدائية تجاه الأنشطة الإسلامية, فقد تم إغلاق المركز الإسلامي, واعتقال الناشطين الإسلاميين, ومنع أي أنشطة تظهر فيها الصيغة الإسلامية الجماعية أو الحركية, واستخدام العنف المفرط في حق من يعترض منهم, بما في ذلك السحل والإعدام في الساحات العامة وفي المنازل, والخطف والاغتيال, وفي تلك الفترة عَمِد ذلك التيار إلى إعادة صياغة الحياة العامة في الجنوب, صياغة تتفق مع النظرية الاشتراكية, وتَشدَدَ في منع الصحف والمجلات والأشرطة الإسلامية من الدخول إلى البلاد, وصادر ما وجد منها, ومنع الأعمال الدعوية والمظاهر الإسلامية, واتبع أساليب التضييق على الشباب الإسلامي في الجامعات, ومنعهم من السفر للدراسة إلاّ إلى الدول الاشتراكية, وقام بحملات اعتقال فردية, وجماعية ضد من يشك في اتجاهه الإسلامي(1).

3. المرحلة الثالثة: (1982- 13 يناير 1986م)

وفيها خفت – قليلا- القبضة الأمنية الشديدة للحزب الاشتراكي على الأوضاع العامة في البلاد, بسبب تقاربه مع دول الخليج العربي, وتتابع بعض خطوات إعادة تحقيق الوحدة, ومع هذا فقد ظل الطابع العام لتلك المرحلة هو التمسك بالأسس الأيديولوجية والسياسية التي قام عليه الحزب الاشتراكي, واستمرار التضييق على القوى السياسية الأخرى وفي مقدمتها التيارات الفكرية والسياسية الإسلامية.

4. المرحلة الرابعة: ( فبراير 1986- مايو 1990م)

انبنت هذه المرحلة على الأحداث الدامية في (13) يناير 1986م, حيث انشغل الحزب الاشتراكي بصراعاته الداخلية, واتجه بعد الحرب إلى مراجعة نقدية لمسيرته, بما في ذلك موقفه من القوى السياسية الأخرى, الأمر الذي خفف -إلى حد ما- من قبضته على مجمل الحياة العامة, وهو الحال الذي تمكّن معه التوجه الإسلامي بتياريه السلفي والإخواني من التواجد بطريقة سرية, كما بدأت تعود بعض المظاهر الإسلامية دون أن تلقى ذات الممانعة التي كانت تواجهها في المراحل السابقة.

أما في الشطر الشمالي من اليمن, فإن تعامل النظام السياسي مع الحركة الإسلامية الاخوانية تنوع خلال الفترة التي تولاها الرئيس علي عبد الله صالح, منذ أكتوبر 1978م وحتى اليوم بسبب التغير المتسمر في أهداف النظام ومصالحه, ومدى حاجته إلى الحركة من عدمها، ووضع ميزان القوة بين الطرفين, والتغيير المستمر في الإطار السياسي على المستويين اليمني والخارجي.

وبشكل عام, فإن تعامل الرئيس مع الحركة الإسلامية الاخوانية في مرحلتي السرية والعلنية, يغلب عليه أسلوب التعامل اللحظي, الذي لا يثبت على حال واحد, ويتغير بتغير المصالح والأهداف, ولذا فهو يتسم بالتعامل الوقتي والتكتيكي, القائم على الفعل ورد الفعل, كما استند تعامل الرئيس مع الحركة طوال فترة حكمه على مدى حاجته لها لمواجهة القوى السياسية الأخرى, وبالتالي فهو يختار الأساليب والممارسات التي تمكنه من تحقيق أهدافه, ومعالجة الموقف الماثل أمامه, ولهذا فهو في اغلبه تعامل سياسي قائم على المواقف الجزئية والتكتيكية, وهذا ينطبق أيضا على علاقة الرئيس مع بقية الأطراف السياسية الأخرى(2).

ومع ذلك يمكن تحزيم تلك السياسات في استراتيجيات تمثل إطارًا واسعًا لتوجهات النظام وطريقة إدارته لعلاقاته مع الحركة, حيث يمكن فرز سياسات النظام وتسكينها في ثلاث استراتيجيات عامة, هي: التحالف، والاحتواء، والتحجيم.

ومع أنه ليس هناك حدود زمنية واضحة عند الانتقال من استراتيجية إلى أخرى، فثمة تداخل في سياسات النظام، وتنوع في تعامله مع الحركة, بحيث تتضمن فترة زمنية معينة أساليب متعددة تندرج تحت إطار استراتيجيات مختلفة، إلا أنه سيتم تغليب ما يغلب من أساليب حول توصيف الاستراتيجية التي يتعامل النظام من خلالها مع الحركة.

أولاً: إستراتيجية التحـالف

ويقصد بهذه الاستراتيجية "ذلك النمط من التفاعل الذي يتجاوز تخويل الحركة الإسلامية الحق في العمل الحزبي, أو السماح لها بمشاركتها ببعض رموزها في بنية السلطة بامتداداتها التنفيذية والتشريعية والقضائية, وإفساح مكان لها في وسائل الإعلام الرسمية لعرض أفكارها ومعتقداتها, فالتحالف يزيد على ما سبق ويشمله, ليقيم علاقة سمتها الندية والتكافؤ بين طرفيها, ومؤدى ذلك أن تشارك الحركة في صنع الإطار الإيديولوجي للنظام, كما تشارك في صنع وتنفيذ السياسات النابعة من هذا الإطار على المستويين الداخلي والخارجي"(3).

ومن ملامح هذه الاستراتيجية, التفاهم بين النظام السياسي والحركة الإسلامية، وتنسيق مواقفهما تجاه ما يتصوراه تحديات مشتركة، وتقديم النظام لأشكال من الدعم للحركة، والسماح لها بقدر من حرية التحرك، وتمكينها من توظيف بعض مؤسسات الدولة بما يمكنها من إعانة النظام على تحقيق الأهداف المرسومة.

كما تتميز بكثافة التواصل بين قيادات الحركة وقيادات النظام السياسي، والانسجام والتأييد الإعلامي، في ضوء حاجة النظام إلى تأييد ودعم الحركة.

غلبت هذه الاستراتيجية على العلاقة بين نظام الرئيس علي عبد الله صالح وحركة الإخوان المسلمين في فترتين متباعدتين، الأولى تمثلت في الفترة الممتدة بين عامي (1980ـ1985م), والفترة الثانية خلال الفترة الممتدة بين عامي: (1993ـ 1995م).

وقد تميزت هاتان الفترتان بتعاظم المخاطر والتحديات التي تواجه النظام السياسي من قبل أطراف وقوى سياسية أخرى, وحاجته إلى دعم حركة الإخوان لتجاوزه لتلك التحديات.

ففي الفترة الأولى التي تمتد من عام 1980م وحتى عام 1985م تقريبا, كانت مصلحة النظام تتطلب أن تظل علاقته بالحركة الإسلامية في حالة تحالف, لأن النظام في وقتها كان له خصوم يمتلكون القوة في الداخل, ويحصلون على الدعم من الخارج, مما يجعلهم في وضع يهددون بقاءه, ولهذا كان الرئيس حريصاً على رعاية علاقته بحركة الإخوان المسلمين والتعاون معها, لمواجهة مخاطر اليسار المسنود من الجنوب, والرغبة في الثأر والعودة إلى السلطة التي كانت تسيطر على مشاعر الناصريين المدعومين من ليبيا(4).

خاصة وأن نظام الرئيس اتسم آنذاك بالضعف العسكري والمؤسسي, وتدني التأييد السياسي والشعبي, فبعض الوحدات والقيادات العسكرية كان لها ميولاً فكرية يسارية أو قومية, ويهيمن عليها أنصار الرئيس الحمدي، وغير متحمسة لدعم النظام, فيما كانت الدولة تعاني من ضعف عام ولا تمتلك القدرة على بسط سلطتها على العديد من المناطق خارج المدن الرئيسية, وفوق هذا وذاك, تعرض النظام لمحاولة انقلاب كاد يقضي عليه, قادها التنظيم الناصري, بمؤازرة قيادات اجتماعية وإسناد خارجي.

وبصورة كلية, فقد كان النظام يعاني من نقاط ضعف عميقة واستراتيجية ومحلاً لاستهداف قوى وتيارات منظمة لها امتدادات خارجية وخاصة من قبل التيار اليساري الذي تبنى العمل المسلح لإسقاطه, وتمكن من السيطرة المسلحة على عدد كبير من المناطق.

في تلك الأثناء دخلت الحركة الإسلامية كطرف جديد في ميزان القوة إلى جانب النظام السياسي، وبذلك توفرت الظروف الموضوعية لبناء علاقات واسعة بين الطرفين، وتبلورت معها إستراتيجية النظام القائمة على التعاون مع الحركة الإسلامية, والتي كان أبرز مقوماتها:

- تقديم الدعم المالي والمادي للحركة في قتالها ضد تنظيم اليسار المسلح في المناطق الوسطى، وقد بدأ هذا الدعم محدودا, وأخذ يتدرج إلى دعم متنوع وإن ظل في حدود مضبوطة لا يتجاوز المؤن الغذائية وبعض الذخائر.

- التنسيق الميداني, لإدارة المعارك ضد تنظيم اليسار والقوى الاجتماعية والسياسية المساندة له, من قبيل وضع الخطط العسكرية، واستلام المواقع، وتبادل المعلومات, وتوفير الدعم العسكري المتبادل.

- التنسيق السياسي مع قيادة الحركة, لترتيب الأوضاع السياسية الداخلية, لبناء تنظيم سياسي (المؤتمر الشعبي العام), وإيديولوجية سياسية (الميثاق الوطني), تمكن النظام من مواجهة مخاطر النظام السياسي في الجنوب.

- تفويض النظام للحركة, لصياغة الإطار الفكري والثقافي للنظام السياسي, بما يضمن تحصين المجتمع ضد التيارات الفكرية اليسارية والقومية, التي كانت تمثل مصدراً لتهديد النظام والحركة في ذات الوقت.

وقد هيأ التعاون بينهما في الجوانب العسكرية والأمنية الأرضية للتعاون السياسي, الذي تجسد أثناء مراحل صياغة الميثاق الوطني, -وبشكل أقل- عند تأسيس المؤتمر الشعبي العام وإدارته, وعند إعادة هيكلة بعض مؤسسات الدولة, وسماح الرئيس بالتوسع في بناء المعاهد العلمية, "خاصة وأن إنشاء المعاهد كان في إطار استراتيجية مرسومة في حينها, تمثل أحزمة فكرية لمواجهة نظام التيار اليساري في الجنوب, وامتداداته في الشمال"(5).

استمرت هذه الإستراتيجية غالبة على توجهات النظام السياسي تجاه الحركة معظم السنوات الأولى من عقد الثمانينيات، وإن لم تخلُ من بعض الأساليب التي تنتمي إلى استراتيجية الاحتواء، كما سيتم الإشارة إلى ذلك لاحقا.

ومنذ المؤتمر العام الثالث للمؤتمر الشعبي العام الذي عقد في مدينة تعز, أخذت سياسات النظام تجاه الحركة تتحول من استراتيجية الدعم والإسناد القائمة على التعاون والتنسيق بين الطرفين لمواجهة المخاطر المشتركة, إلى استراتيجية أخرى يغلب عليها الاحتواء, ويعود ذلك إلى التغير الذي طرأ على ميزان القوة لصالح النظام السياسي, فالرئيس بدأ يشعر أن أيّاً من القوى السياسية الأخرى لم يعد يمثل مصدراً لتهديد نظامه، وبدأ يتحسب لنمو قوة الحركة الإسلامية.

عاد التنسيق إلى حدوده القصوى بين الرئيس "علي عبد الله صالح" والحركة الإسلامية في طورها الجديد "التجمع اليمني للإصلاح" بعد قيام الوحدة, مع تفاقم الأزمة السياسية الشاملة بين الرئيس وحزب المؤتمر الشعبي العام من جهة, والحزب الاشتراكي من جهة ثانية, بسبب تنازع الطرفين على السلطة, وسعي كل منهما للتفرد بها وإقصاء الآخر، وفي تلك الأثناء تبنت بعض قيادات الحزب الاشتراكي خيار العمل العسكري, وفرض الانفصال بالقوة, بما يعنيه ذلك من إنهاء للوحدة, وإمكانية تجزئة البلاد.

ورافق ذلك اقتناع قيادة الحركة الإسلامية بصعوبة حل الأزمة سياسياً، بعد أن وصلت العلاقة بين الطرفين إلى حافة الهاوية, في تلك الأثناء ثار جدل داخل مؤسسات الإصلاح بين اتجاهين: الأول يرى بعدم الدخول في الحرب, لأن ذلك سيؤدي إلى اختلال التوازن السياسي, وسيفضي أن انفراد طرف سياسي واحد بإمكانات ومقدرات الدولة والقرار السياسي, الأمر الذي سيوثر على الحياة السياسية والحقوق والحريات العامة في البلاد,

واتجاه ثانٍ يرى بضرورة الانحياز إلى جانب المؤتمر تغليبًا للمصلحة العليا للوطن, ولو أدى ذلك إلى فقدان الإصلاح لمصالح حزبية وسياسية, خاصة وأنه لم يعد هناك من وسيلة للحفاظ على الوحدة, إلا الحسم العسكري، وهذا الاتجاه هو الذي تبنته مؤسسات الحركة في الأخير, فقد قررت الانحياز إلى جانب الطرف الذي يتبنى الوحدة ويدافع عنها، وهو ما يعني تفعيل التحالف بين الحركة ونظام الرئيس علي عبد الله صالح، والتنسيق بينهما للحفاظ على الوحدة كهدف استراتيجي لا يمكن التنازل عنه, ولا المساومة حوله, وهنا عاد التعاون بين الطرفين إلى حدوده القصوى.

استفاد الرئيس كثيرا من مواقف الإصلاح, ومن الدعم السياسي والعسكري والشعبي الذي قدمه أثناء المراحل النهائية للأزمة السياسية بين الرئيس والاشتراكيين, وكان للإصلاح إسهاماً كبيرًا في حسم المعركة, وإزاحة الحزب الاشتراكي, وتثبيت الوحدة, كما يؤكد على ذلك تقرير الأمين العام للمؤتمر الشعبي العام المقدم إلى المؤتمر العام الخامس لحزب المؤتمر إذ يقول:

"ولابد من التسجيل هنا, بان تحالف المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح سواء خلال الأزمة أو أثناء الحرب, قد مثل عاملا رئيسيا واستراتيجيا في تعزيز الجبهة الداخلية, وتحقيق الاصطفاف الوطني, وذلك بفعل الجهود المشتركة لقيادتي التنظيمين ومؤسساتهما, ومواقفهما المتميزة في دعم الوحدة اليمنية والشرعية الدستورية"(6).

ثانيًا: إستراتيجية الاحتواء

تقوم هذه الإستراتيجية على وضع حدود معينة لنمو القوى السياسية المنضوية في إطار النظام السياسي أو المتحالفة معه, بحيث لا تتجاوز قوتها التنظيمية, أو تأثيرها السياسي, أو علاقاتها الاجتماعية تلك الحدود, وتقوم كذلك على ضم القوة السياسية الصاعدة وتسكينها في وضع معين داخل النظام بحيث تظل تحت نظر ورقابة أجهزته، ولكي لا تتجاوز الحدود المرسومة لها, يتدخل النظام من وقت إلى آخر من خلال مجموعة من الإجراءات, لإبقائها في الوضع والكيفية التي يريدها.

وغالباً ما تكون سياسة الاحتواء وسطًا بين استراتيجية التأييد والدعم من جهة و إستراتيجية الإقصاء والتحجيم من جهة ثانية، وفي كثير من الأحيان ما يصاحب هذه الاستراتيجية توتر غير مُعلن بين أطرافها, وإن ظلت العلاقة مضبوطة بحدود معينة في حديها الأدنى والأعلى، وفي الحالة اليمنية غالبًا ما يحدث تغيير في مستويات تلك العلاقة وأدواتها, بحيث تتعاقب مراحل التوتر بحالات من التعاون والتنسيق, لتعود إلى التوتر والجفاء مرة أخرى، وكل ذلك في إطار حفظ توازن النظام السياسي وعدم تمكين أي قوة سياسية أخرى من الإخلال بميزان القوة الذي يرسمه "الرئيس"(7).

ففي بداية الثمانينيات وعندما أخذت دلائل انهزام تيار اليسار في الظهور, فوجئت قيادة الإخوان بالتغيير الذي طرأ في توجه الرئيس نحو الحركة، فقد سعى إلى توصيف الحرب على أنها نزاع بين الإسلاميين واليساريين, وأنه طرف محايد يمثل المرجعية للطرفين, وسيتعامل معهما بالتساوي(8)، وطالب قيادات الجبهة الوطنية الديمقراطية بتقديم قائمة بأسماء الأشخاص الذين قتلوا في المعارك، وأمر بحبس عدد من القيادات العسكرية وقيادات الإخوان المسلمين, وقدم بعضهم إلى المحكمة وحكم على بعضهم بالإعدام(9).

وسريعاً ما تم إثارة موضوع المعاهد العلمية وأبدى النظام رغبته في إلغائها ودمجها بالمدارس, وعمل على دعم شق الحركة بتدخله المباشر في النزاع الذي جرى بين الأمين العام للتنظيم الأستاذ "عبد الملك منصور" والمراقب العام للجماعة الأستاذ "ياسين عبد العزيز"، لاسيما وأن موضوع مستوى العلاقة مع النظام السياسي كان أحد أسباب الخلاف بينهما, فقد كان الأمين العام الأستاذ عبد الملك منصور يرى المضي في التحالف إلى صور وأساليب أوثق, تمكن الحركة من أن تكون جزءًا من النظام وعاملاً رئيسيًا في اتخاذ القرار السياسي يدعمه في هذا الخط عدد من قيادات الحركة،

فيما الأستاذ ياسين عبد العزيز- ومعه آخرون- كانوا يرون التمهل والحذر في اتخاذ مثل هذا القرار, خشية أن تذوب الحركة ويتحلل التنظيم في آليات النظام دون أن تتمكن من تحقيق ذلك الهدف(10)، وفي هذه الأثناء جاء تدخل السلطة بهدف احتواء التنظيم, ودمجه مبكرًا في النظام وإلغاء استقلاليته, أو إضعاف فعاليته من خلال إحداث شق رأسي وعميق في تنظيمه(11)، فقد تم تعيين الأستاذ ياسين عبد العزيز ملحقاً ثقافياً بسفارة اليمن بالولايات المتحدة وتم ترحيله قسرًا دون رغبته, وذلك بهدف إقصائه عن قيادة الحركة, وإفساح المجال لمنافسه الرئيسي الأستاذ عبد الملك منصور.

تراجعت المخاطر والتحديات الداخلية والخارجية التي كان يواجهها نظام الرئيس علي عبد الله صالح منذ النصف الثاني من عقد الثمانينيات، وفي ذات الوقت تعززت القدرات العسكرية والأمنية لنظامه، وتراكمت خبراته وعلاقاته السياسية داخليًا وخارجيًا، وتحولت بفعل ذلك سياساته تجاه حركة الإخوان المسلمين فقد تراجعت العلاقات القائمة على التعاون والتنسيق, وغلبة توجهات النظام نحو الحركة المرتكزة على الاحتواء وإلى حد ما التحجيم.

وعليه يمكن القول: إن المرحلة التي امتدت من بداية النصف الثاني من عقد الثمانينات وحتى العام الأول من قيام دولة الوحدة, شهدت توترًا ملحوظًا بين النظام السياسي والحركة الإسلامية الإصلاحية نتيجة تباين رؤى كل منهما إزاء العديد من المتغيرات(12), وفي هذه المرحلة تزايد اعتماد النظام على إجراءات متعددة لكبح النمو التنظيمي والسياسي للحركة,

والإتكاء على أساليب الضغط لضبط سلوكها, من خلال التلويح باستخدام عدد من الأوراق التي من شأنها الإضرار بها, وقد مثلت المعاهد العلمية إحدى أهم الأوراق التي ظل النظام يلوح بها تجاه الحركة, فقد سبق وأن أشرنا إلى أنه تبنى إلغاءها عام 1984م, غير أنه تراجع وعمل على جمعها في إطار مؤسسة واحدة, هي الهيئة العامة للمعاهد العلمية, وأصدر بها قانوناً يضمن استقلالها تحت نفوذ الإخوان المسلمين.

وفي بداية عام 1985م, أتخذت الحكومة –وتحديدًا- وزارة التربية والتعليم بعد أن تولاها الدكتور "حسين العمري" المعروف بتوجهاته المعارضة للحركة الإسلامية, بعض الإجراءات التي تستهدف إلغاء استقلال المعاهد العلمية, بعد أن صدر قرار جمهوري بتشكيل المجلس الأعلى لتوحيد المناهج التعليمية برئاسة الوزير الجديد, غير أن جهود الإخوان والقوى السياسية والشعبية المساندة لهم حالت في الأخير دون تحقق تلك المساعي وغيرها, وليس أدل على ذلك من أن المؤتمرين العامين الثاني والثامن للمؤتمر الشعبي العام أوصيا بإلغاء المعاهد العلمية ودمجها في المدارس العامة, غير أن ذينك القرارين لم يجدا طريقهما إلى التنفيذ.

كما لجأ النظام إلى التدخل المباشر عند تجاوز الحركة الإسلامية لبعض الحدود التي رسمها, كما هو الحال أثناء الانتخابات, ففي 16/7/ 1985م تم إجراء انتخابات المجالس المحلية، وتوسيع عضوية المؤتمر الشعبي العام, وقد حققت فيه الحركة نتائج متقدمة, اضطر النظام

- كما سبقت الإشارة- على إثرها للتدخل لتعديل نتائج توسيع عضوية المؤتمر الشعبي العام, من خلال استبعاد عدد من أسماء الفائزين المنتمين إلى الحركة واستبدالهم بآخرين, بحيث تبقى نسبة تواجد ممثلي الحركة وأنصارها في عضوية اللجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي العام في حدود معينة.

ونفس الأمر بالنسبة لانتخابات المجالس المحلية على مستوى الهيئات القيادية, حيث تبنى إجراءات من شأنها أن تمنع بعض أعضاء الحركة من الوصول إلى تلك المناصب.

وفي نهاية عقد الثمانينيات انتقل النظام إلى استخدام الأدوات الإعلامية والسياسية تجاه الحركة, بعد اتساع الفجوة بينهما بسبب اختلاف رؤى كل منهما حول طريقة التعامل مع تطورات الأوضاع في عدن بعد أحداث 13 يناير 1986م, وتجاهل الرئيس للحركة أثناء تفاوضه مع قيادات الحزب الاشتراكي لإعادة تحقيق الوحدة.

وتبنى النظام حملات إعلامية واسعة ضد الحركة الإسلامية, خلال العامين الأولين من عمر الوحدة, أثناء المعركة حول التعديلات الدستورية، وأثناء إقرار قانون التعليم, حيث رفع النظام سقف ضغوطه تجاه الحركة, بتحالفه مع الحزب الاشتراكي, والتعاون معه في المجالات التنظيمية والإعلامية والسياسية والتشريعية في مواجهتا.

وفي الأخير لا بد من الإشارة إلى أنه ورغم أن الطابع العام للفترة المذكورة هو غلبة استراتيجية الاحتواء, مع تطعيمها ببعض الإجراءات والأدوات التي تندرج في إطار سياسة التحجيم, إلا أنه يجب استحضار ما يتمتع به النظام من مرونة وقدرة على التنويع والمزاوجة بين عدد من الإجراءات التي تنتمي إلى استراتيجيات مختلفة في ذات الوقت, وغلبة الطابع التساومي على تعامله ومرونته في المقايضة على المصالح المتبادلة.

ثالثًا: إستراتيجية التحجيم والإقصاء

تتسم هذه الإستراتيجية بانتقال العلاقة بين الحركة الإسلامية والنظام السياسي إلى مرحلة التنافس العلني, وربما التنافس الحاد، وتنامي شعور النظام بأن الحركة صارت تمثل مصدرا لتهديد مصالحه, وما يترتب على ذلك من تبني النظام لسياسات تهدف إلى إضعافها, وإعاقة نموها وعزلها عن مصادر القوة.

وترتكز هذه الإستراتيجية على تآكل الأرضية الموضوعية للعلاقة بين الطرفين, وتراجع مجالات التعاون المشترك بينهما, وسعي كل طرف إلى بناء تحالفات جديدة تعيد توزيع القوة, بما يعزز من قوته, مقابل الطرف الآخر، واستنفار كل طرف في توظيف الأدوات والأساليب المختلفة لإضعاف الطرف الآخر, وحضور الأبعاد الذاتية في التأثير على العلاقة بينهما.

لم تكن الإجراءات التي تنتمي إلى هذه الاستراتيجية غائبةً تماماً في تعامل النظام السياسي مع الحركة الإسلامية قبل الوحدة، حيث كان يلجأ إلى استخدام بعض هذه الإجراءات في أوقات وظروف مختلفة، غير أنها لم تكن تمثل توجها عاما، وكانت تحدث في مناخ عام يغلب عليه التعايش وإمكانية التعاون بين الطرفين.

استهدفت توجهات النظام في هذه الإستراتيجية إضعاف تواجد أعضاء الإصلاح في بعض المؤسسات الحكومية, ومحاولة تحجيم فوزه في الانتخابات، ومزاحمته في الخطاب السياسي, والتحالف مع منافسيه من الشخصيات والجماعات والتيارات الدينية، ووصلت إلى ذروتها في محاولات متكررة لشق الإصلاح وتمزيقه.

اعتمد النظام في تنفيذ توجهاته على أدوات تشريعية وإعلامية ومالية وأمنية, فمثل معظم الدول العربية, تلجأ السلطة للتأثير على القوى السياسية الأخرى من خلال التغيير المستمر في التشريعات والقوانين, خاصة تلك القوانين التي تنظم الأوضاع العامة, وفي هذا الاتجاه تم إعادة صياغة عدد من القوانين التي تنظم الحياة السياسية, مثل قانون الصحافة والمطبوعات، وقانون المنظمات الأهلية, وقانون المسيرات والمظاهرات...

وبعضها كان قد تم صياغته بعد الوحدة مباشرةً, وأثناء فترة التوازن السياسي, وقد كانت تحتوي على مكاسب سياسية لعملية التحول الديمقراطي وقضايا الحقوق والحريات العامة, وقد تضمنت التعديلات التي أُدخلت عليها

- وخصوصا بعد حرب عام 1994م- الكثير من القيود على نشاط الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني, فعلى سبيل المثال تم إلغاء حق أعضاء هيئة التدريس بالجامعات الحكومية في انتخاب عمداء الكليات، وتم منع المظاهرات إلا بإذن من وزارة الداخلية, وأُضيفت قيود على حرية الإعلام والصحافة، وكما سبق, فقد تضمنت التعديلات الدستورية, التي تم إقرارها في عام 2001م

تعميق الاختلال في التوازن بين المؤسسات الدستورية بسحب بعض الاختصاصات الدستورية من مجلس النواب, ومزاحمته فيها من قبل مجلس الشورى والذي يتبع السلطة التنفيذية, وتركيز السلطة بيد رئيس الجمهورية.

وفي السياق نفسه, غالبًا ما يسبق كل مرحلة انتخابية تعديلات في بعض مواد قانون الانتخابات العامة والاستفتاء, بما يؤدي إلى إضعاف فرص أحزاب المعارضة وفي مقدمتها الإصلاح في الفوز في الانتخابات العامة.

وفي إطار هذه الإستراتيجية يأتي توجه حزب المؤتمر في السيطرة على النقابات والاتحادات العامة, ومؤسسات المجتمع المدني، وذلك بآليات مختلفة منها استخدام سلاح الشرعية, فإذا بدى له عدم مقدرته على الفوز في أيّ منها, فإنه يوعز إلى الجهات الحكومية المشرفة على الانتخابات (وزارة الشؤون الاجتماعية) بالعمل على عرقلة إجراء الانتخابات, وفي الوقت ذاته يساوم القوى السياسية الأخرى على تقاسم مقاعدها بالدخول بقائمة انتخابية موحدة, وإذا لم تتفق معه الأحزاب الأخرى (وغالبا ما يكون الإصلاح) أو لم تكن نتائج الانتخابات لصالحه, فإن الجهات الحكومية المختصة غالبا لا تعترف بنتائج تلك الانتخابات, وترفض منح شرعية العمل للفائزين فيها, الأمر الذي يؤدي إلى شل المنظمات والنقابات الأهلية أو تشطيرها, والمثال البارز هنا:

النقابة الخاصة بالمعلمين, حيث يتقاسم تمثيلهم نقابتان:

الأولى نقابة "المعلمين اليمنيين" وهي مقربة من حزب الإصلاح وترفض الجهات الرسمية التعامل معها, وتضع العراقيل أمامها, رغم أنها تمثل عددا كبيرا من المعلمين, والنقابة الأخرى هي "نقابة المهن التعليمية", وهي النقابة المدعومة من حزب المؤتمر والجهات الحكومية.

وقد شكل قطاع التعليم أحد أهم ميادين الصراع بين التجمع اليمني للإصلاح والمؤتمر الشعبي العام, منذ أن برزت إستراتيجية النظام في إضعاف الأول, وتحديدا بعد انتهاء حرب عام 1994م, ففي أثناء الحكومة الائتلافية بينهما حدث نوع من التنافس بين أنصار الطرفين حول الهيمنة على المؤسسات التربوية, والتي ظلت تحت سيطرة الإخوان المسلمين منذ أوائل السبعينيات.

ومنذ انفراد حزب المؤتمر بالسلطة بعد عام 1997م, عمل على تسييس الجهاز الإداري للدولة والمؤسسات التعليمية (الجهاز الإداري للوزارة وفروعها في المحافظات، الجامعات, والمدارس والمعاهد الحكومية), وقام بإقصاء الأعضاء المعروفين بانتمائهم إلى حزب الإصلاح من المواقع القيادية في تلك المؤسسات، وفرض عناصره فيها, ومنحها الحماية الكافية عن المساءلة(13), ووظفها في عملية التنافس السياسي.

أما أهم الإجراءات التي اتخذتها السلطة لإضعاف الإصلاح, فقد تمثلت في قرار إلغاء المعاهد العلمية، ودمجها إداريًا وماليًا وفنيًا بالمدارس العامة, ويدلل السياق العام للقرار وتوقيته والطريقة التي تم بها وما صاحبه من هجوم إعلامي وسياسي على الإصلاح، على أن الهدف من إلغاء المعاهد العلمية هو حرمان الحركة الإسلامية من أحد أهم المصادر الرئيسية لقوتها بحسب اعتقاد السلطة، والعمل على إضعافها في إطار استراتيجية متدرجة وشاملة, وقد جرى تسويق قرار الإلغاء خارجيًا على أنه أحد إجراءات مكافحة الإرهاب(14).

وقد أبدى الإصلاح مقاومة محسوبة لقرار إلغاء المعاهد العلمية، ومارس ضغوطاً شعبية وإعلامية لإثناء الرئيس عن ذلك القرار، وجرى شد وجذب بين الطرفين، وكادا يتوصلا إلى حل وسط, بأن يتم استبدال المعاهد العلمية بمعاهد أزهرية, على غرار ما هو موجود في مصر، غير أن الرئيس تمسك في الأخير بقرار الإلغاء، متعللاً بأن التطورات الدولية بعد أحداث 11سبتمبر لا تسمح بذلك.

وبعد قيام الوحدة، وبهدف إيجاد منافسين للإصلاح, دعم الرئيس عدداً من الجماعات الإسلامية في العديد من المناطق, فقد قدم السند المالي والرعاية لدار العلوم الشرعية ذات المنحى الصوفي, وأبرز منافسي الإصلاح في محافظة الحديدة، وبعض الجماعات الصوفية في المناطق الجنوبية, وخاصة دار المصطفى في حضرموت، وعدداً من الجماعات السلفية في عدن ومأرب وذمار وبقية المحافظات الجنوبية, كما تلقى تنظيم الشباب المؤمن في محافظة صعدة دعمًا سخياً من قبل الرئيس, شمل:

موارد وهبات مالية منتظمة وموسمية، وعدداً من المشاريع الحكومية، والتغاضي عن سيطرتهم غير القانونية على فروع الوزارات والمؤسسات الحكومية في محافظة صعدة، واحتكار الوظائف الحكومية, واحتوائهم في الحزب الحاكم، وكل ذلك أدى إلى تمكنهم من استخدام مواقعهم فيه لفرض سيطرتهم على تلك المحافظة, واستقطاب الشخصيات الاجتماعية, وبناء مؤسسات التنظيم والاستعداد للحرب ضد السلطة في مرحلة لاحقة.

وفي مقابل ذلك الدعم, وربما بسببه نشطت تلك الجماعات في منافسة الإصلاح، وغالبًا ما يحدث تحالف غير معلن بين النظام السياسي وبعض فصائل التيارين السلفي والصوفي، إذ تتبنى تلك الفصائل حملات واسعة في العديد من المدن والمناطق الريفية اليمنية, تحرض المواطنين ضد الحزبية والانتخابات والديمقراطية، وتركز نقدها على حزب الإصلاح, وتدعو الفئات المتدينة التي من المتوقع أن تصوت له إلى عدم المشاركة في الانتخابات، وإن كان ولا بد فلا يجوز التصويت لغير من ارتضاهم ولي الأمر, وتصف من يخالف ذلك بأنه خارجَ على الحاكم وناقض لبيعته.

وكما يشير كاتب إصلاحي فإنه " في كل انتخابات تجري في اليمن يواجه الإصلاحيون مشكلة إقناع الناس بأهمية الانتخابات في إحداث التغيير نحو الأفضل, وضرورة عدم اليأس من إصلاح الأوضاع عبر الانتخابات.. ومواجهة فتاوى تحريم الانتخابات وتكفير الديمقراطية التي يشنها المتأثرون بنهج الشيخ مقبل الوادعي ـ رحمه الله وغفر له ـ في المساجد وعبر الأشرطة والكتب"(15).

وقد بلغ التحالف بين الرئيس والجماعات الإسلامية المنافسة للإصلاح ذروته أثناء الانتخابات الرئاسية التي جرت في سبتمبر 2006م, إذ أدار الرئيس في مراحل الدعاية الانتخابية وأثناء المهرجانات الانتخابية تحالفاً واسعاً من كل تلك الجماعات, وحرص على أن يوظفها تجاه منافسيه من أحزاب اللقاء المشترك, وفي مقدمتهم الإصلاح, ووصل الأمر إلى صدور فتاوى في مهرجان انتخابي حضره الرئيس, تحكم بالكفر والخروج من الملة لمن ينافسه في الانتخابات الرئاسية(16).

ومثل الحرص على منافسة الإصلاح في الأرضية التي يتحرك عليها، حرص الرئيس على عدم إظهار أية فروق بين خطاب حزبه والخطاب السياسي للإسلاميين, لإدراكه أن ذلك سيصب في الأخير في مصلحة الإصلاح، من خلال التميّز بالخطاب الديني في أوساط مجتمع متدين، ولهذا فإن حزب المؤتمر يظل حريصاً على الظهور بمظهر الحزب المحافظ الذي يتبنى القضايا والهموم الإسلامية.

ومن مظاهر هذه السياسة حرص الرئيس على اللقاء بالعلماء والخطباء، ودور رعاية الأيتام, والجامعات والمعاهد التابعة لبعض التيارات الإسلامية، ومخاطبة أعضائها ولاسيما في أوقات الانتخابات, لإدراكه أهمية الخطاب الديني في جذب الأصوات في الانتخابات, ولا يختلف عن هذا كثيراً, تبنِّي الرئيس اهتمامات الشارع في خطاباته أثناء انعقاد مؤتمرات القمة للجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي.

وفي جانب مفردات الخطاب السياسي في الحملات الإعلامية المرافقة للانتخابات لا يلحظ المراقبون وجود فروق كبيرة بين خطاب حزب المؤتمر الشعبي العام وبين خطاب حزب الإصلاح، إذ كلاهما يركز على الأبعاد الدينية في الخطاب, "فالرئيس.. لم يفقد المنافع الرمزية للخطاب الإسلامي, ولن نفتقر إلى أمثلة تدل على قدرته على أن يتقدم بسهولة فوق الأرض العقائدية لخصمه وشريكه الإسلامي(17).

ويقع ضمن إستراتيجية الإقصاء والتحجيم وربما يكون في ذروتها، محاولات النظام استقطاب بعض القيادات والشخصيات الفاعلة داخل الإصلاح, وضمها إلى حزب المؤتمر الشعبي العام، وقد بقيت هذه المسألة سياسة ثابتة للنظام وسمه مميزة لتعامله مع الإصلاح, لاسيما بعد تدهور العلاقة بينهما، وقد نجح في انتزاع عدد من أعضاء الإصلاح باستخدام أشكال الإغراء والترغيب المختلفة مثل:

تعيينهم في المناصب الحكومية والمواقع القيادية في حزب المؤتمر أو تقديم الدعم المالي أو تسهيلات ومصالح معينة.

وتتصاعد الإجراءات في إطار هذه الإستراتيجية, لتصل إلى محاولات تفكيك الإصلاح وتجزئة قوته، فمع اتساع الفجوة بين الإصلاح والنظام، يلحظ المراقب تواتر الإجراءات التي يقوم بها الأخير لإحداث انقساما في البناء التنظيمي للتجمع اليمني للإصلاح, فقد أظهرت الانتخابات الرئاسية الأخيرة تركيز الرئيس على بعض قيادات الإصلاح, والعمل على إحراجها ودفعها إلى اتخاذ مواقف انفرادية غير تلك التي اتخذتها مؤسسات الإصلاح.

فقد كثف الرئيس من الضغوط السياسية والإعلامية تجاه الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر, وحرص على دفع العلاقات بينهما نحو التوتر، ووضع الشيخ أمام خيارين كلاهما مر: إما الصراع العلني والمباشر مع الرئيس, أو التضحية بعلاقاته مع أعضاء حزبه,

ويبدو أن الشيخ الأحمر اشتق خيارا ثالثا, هو ترحيل الصراع إلى الأمام، لمعرفته فداحة كلفة الصراع مع الرئيس على الطرفين, وحالته الصحية وزهده في عدم الانزلاق إلى صراع في هذه المرحلة من عمره، ولنضجه السياسي, وتعامله مع الأحداث كمرجعية وطنية وليس قيادة حزبية فقط.

وفي نفس الاتجاه ـ وربما بشكل أكثر كثافة- ركز الرئيس جهوده في محاولة التأثير على الشيخ عبد المجيد الزنداني، واستغلال الظروف التي تحيط به, وفي مقدمتها اتهام الولايات المتحدة والأمم المتحدة له بالإرهاب، وإحراجه ببعض الإجراءات, كاصطحابه إلى مؤتمر مكة، والسماح له بالنشاط العام، والإبقاء على جامعة الإيمان التي أسسها ويرأسها، وزيارة الجامعة والاعتراف بمشروعيتها والدفاع عنها وعن الشيخ الزنداني وامتداح موقفهما من الانتخابات الرئاسية.

ونشر التسريبات الإعلامية برغبة بعض التيارات السلفية بتكوين حزب سياسي يقوده الشيخ الزنداني، وتضخيم الخلافات بين بعض قيادات الإصلاح والشيخ الزنداني والعمل بطريقة هادئة على تغذية انشقاق واسع داخل تكوينات التنظيم.

وباستثناء محاولة الانشقاق التي تمت عام 1982م، بدعم من النظام وبرعاية منه, فإن جهود النظام لشق الحركة الإسلامية لم تفلح, فالحركة الإخوانية ظلت القوة السياسية الوحيدة التي حافظت على تماسكها ولم تتعرض في مسيرتها لانشقاقات كبيرة، وقد يعود ذلك إلى التربية الإيمانية التي تتسم به قيادات الحركة, باعتبارها قيادات إسلامية من جهة, ولإدراكها رغبة النظام في شق الحركة إذا ما سنحت له الفرصة من جهة ثانية، ولتقديمها الحفاظ على كيان الحركة وتماسكها إلى قمة أولوياتها, ومراعاة ذلك عند اتخاذ أي قرار استراتيجي تتخذه وقد يؤثر عليها من جهة ثالثة.

وإجمالاً, فإن إجراءات النظام لتحجيم الإصلاح وإضعاف دوره في الحياة السياسية، -وربما إقصائه- اتسمت بالتنوع من جهة والتصاعد من جهة ثانية وقد ولدت شعور لدى قيادات الإصلاح ومعظم أنصاره بأن كيانهم السياسي موضع استهداف من قبل النظام، مما ضاعف من خلافهم مع الرئيس, ووسع من مساحة الشكوك والهواجس, وانعدام الثقة بين الطرفين.

المراجع

(1), تمثلت ابرز حملات الاعتقال الجماعي ضد الإسلاميين في فترتين: الأولى صاحبت إغلاق المركز الثقافي الإسلامي عام 1969م, والثانية في عام 14982م,والتي اشرنا إليها سابقا, بعد محاكمة شبكة دهمس وباعوضة المتهمين بالقيام بتفجيرات في بعض= =المحافظات الجنوبية, انطلاقا من الأراضي السعودية, وبروز بعض مظاهر الصحوة الإسلامية, مقابلة أجرها الباحث مع الأستاذ محمد الشيباني, مصدر سبق ذكره.

(2) مقابلة أجراها الباحث مع الأستاذ أحمد القميري, مصدر سبق ذكره.

(3) نفين عبد المنعم مسعد و عبد العاطي محمد احمد, السياسات الخارجية للحركات الإسلامية, ( جامعة القاهرة, مركز البحوث والدراسات السياسية), ط1, 2000م, ص 37.

(4) مقابلة أجراها الباحث مع الأستاذ احمد القميري, مصدر سبق ذكره.

(5) مقابلة أجراها الباحث مع الأستاذ: نصر طه مصطفى, بتاريخ 26/6/2006م.

(6) المؤتمر الشعبي العام, وثائق وأدبيات المؤتمر العام الخامس للمؤتمر الشعبي العام, 25-27 يوليو 1995م, الجزء الأول, ص: 35.

(7) يشير الشيخ سنان أبو لحوم في إحدى مقابلاته الصحفية إلى خاصية تقلب الرئيس في علاقته مع السياسيين الآخرين بقوله: " لا تدري أي حين يصادقك (الرئيس) وأي حين يكون عدوك."

http://www.alnedaa.net/index.php?action=showNews&id=1445

(8) في إشارة إلى التحول في موقف النظام تحدث "محمد عبد الله صالح" الأخ الشقيق للرئيس إلى قياديين في تنظيم الإخوان المسلمين "بأن الإخوان والاشتراكيين بمثابة عينين في وجه واحد بالنسبة إلى الرئيس وأنه سينظر إليهم بالتساوي"، مقابلة أجراها الباحث مع محمد محمد قحطان مصدر سبق ذكره.

(9) منهم العقيد "يحيى الشامي" أحد القيادات العسكرية التي تولت مواجهة العمل المسلح للجبهة الوطنية, ومحافظ محافظة صعدة في الفترة الأخيرة.

(10) نصر طه مصطفى، التجمع اليمني للإصلاح، مرجع سبق ذكره، ص: 27.

(11) عادل مجاهد الشرجبي, التطور التنظيمي للإخوان المسلمين في اليمن, مرجع سبق ذكره, ص: 40.

(12) سعيد ثابت سعيد، الحركة الإسلامية الإصلاحية والنظام السياسي في اليمن، مرجع سبق ذكره، ص: 271.

(13) دكتور عبد الله الفقيه, الجمهورية اليمنية وحكم الحزب الواحد, في الرابط:http://www.alwasat-ye.net/modules.php?name=News&file=article&sid=1938

(14) أشار على محمد الآنسي مدير مكتب رئيس الجمهورية, ورئيس جهاز الأمن القومي, في مؤتمر حوار المنامة إلى عدد من الإجراءات «الحازمة» التي تمت لمكافحة الإرهاب وتجفيف منابعه، ومنها إلغاء المعاهد الدينية ودمجها في إطار نظام ومناهج وزارة التربية والتعليمwww.almotamar.net/news/37733.htm

(15) ناصر احمد يحيى, التطرف والتكفير في اليمن, مرجع سبق ذكره, ص: 82.

(16) http://www.marebpress.net/page.php?id=50

(17) فرنسوا برجوا, إسلاميو اليمن بين العالمية والمحلية, مرجع سبق ذكره, ص: 94.