ابن أخي الشيخ الشهيد: دماء الشيخ وحَّدت الأمة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
ابن أخي الشيخ الشهيد: دماء الشيخ وحَّدت الأمة
20-03-2005

حوار: استشهاد عز الدين

توطئة

الشيخ الشهيد احمد ياسين

- أصرت جدتي على البقاء مع الشيخ ياسين حتى وفاتها.

- ظل الشيخ يعطي راتبه لوالدته وهي تنفق على بيته حتى وافتها المنية.

- حفَّظنِي الشيخُ القرآن وكان له الفضل في سفري للسعودية.

- الخلاف الفكري بين الشهيد وأخيه بدر "يساري" لم يؤثر على علاقتهما.

- منذ كنت في صغري والشيخ يصحبني في رحلات شباب الصحوة.

- رأيت فتحي الشقاقي وعبد العزيز عودة وخليل القوقا يطعمون الشيخ بأيديهم.

- قبل استشهاده قالت زوجته: "يقذفون البيت ويقذفوه.. فمَن أولى بصحبته إلى الجنة أكثر منا!!!".

- قضى الشيخ عمره في منزلٍ آخذ في القدم وتملأه الرطوبة.

- بعد خروج الشيخ من السجن أعطى للأطفال عدية عن الأعياد التي أبقاها في السجن.

- من أقوال الشيخ: "أتمنى أن يتعرَّض كل شاب من أبناء الصحوة للاعتقال، ولو لفترات صغيرة؛ ليتحرروا من عُقدة الخوف".

- عندما استشهد أول مرافق للشيخ.. بكى بكاء الأطفال.

- على الحكام العرب أن يسبقوا شعوبهم لا أن تسبقهم شعوبهم للجهاد.

د/ نسيم ياسين في سطور

- نسيم شحادة إسماعيل ياسين، وُلد في غزة عام 1959م بعد أن هاجرت أسرته من جورة عسقلان عام 1948م.

- أنهى دراسته الثانوية في غزة، ثم سافر في بعثة عن طريق الشيخ الشهيد أحمد ياسين إلى السعودية ليدرس بكلية أصول الدين منذ عام 1979م: 1982م.

- عاد إلى غزة ليعين معيدًا بكلية أصول الدين الإسلامية.

- في عام 1987م حصل على منحة دراسات عليا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض؛ حيث أتمَّ الماجستير والدكتوراه في كلية أصول الدين قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة.

- عُيِّن رئيسا لقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بالجامعة الإسلامية بغزة عام 1997م.

- عُيِّن نائبًا لعميد كلية أصول الدين في الفترة من 1994: 2002م.

- نائب رئيس مجلس إدارة دار القرآن الكريم والسنة بغزة.

- أمين سر رابطة علماء فلسطين ب غزة .

- متزوج ولديه ستة أبناء.

- والده الحاج شحادة إسماعيل هو الأخ الأكبر للشيخ أحمد ياسين.

نعم قد مضى.. شيخ الشهداء.. أحمد ياسين

قد واريناه التراب.. فما أسعد التراب الذي أنس بدمائه.. لتحيي موات أرضٍ أضناها الأسر.. وأدماها القيد.

تتشرب ذراتها هذي الدماء الذكية فتشب فيها روحًا جديدة.. لتلد الأرض ثوارًا ومجاهدين وشهداء.

نعم.. رحل الشيخ.. حاملاً 67 عامًا من الجهاد.. ومضى بعيدًا عن عيونٍ أهدى إليها النور.. وقلوب غرس فيها شجرة الحياة.. ولكن.. ما زال شذا أيامه ينعش النفوس ويوقظ الأرواح.

جيل خلف جيل يستنشقون رحيق أيامه.. وفي كل مرة يجدون يجدون في سِفر حياته الجديد والجديد.

وبين أوراق أيام شهيدنا الشيخ نتجول بصحبة ربيبه ورفيق دربه د. نسيم ياسين بن الحاج شحادة ياسين الأخ الأكبر لشيخنا الشهيد.

  • د. نسيم.. ما الذي يمكن أن تخبرنا به حول نشأة الشيخ ياسين؟
نشأ الشيخ رحمه الله في قرية جورة عسقلان في أسرة طيبة ميسورة الحال؛ حيث كانوا يمتلكون 95 دونمًا من الحدائق المثمرة، كما كان والده أعظمي القرية "المتحدث باسمها"، وهو منصب أعلى من المختار "العمدة"، وتولى والدي تربية الشيخ ورعايته بعد وفاة جدي عام 1942م.
وهاجر الشيخ مع أسرته إلى غزة عام 1948م بعد أن رأى بعينيه القوات الصهيونية وهي تقتل نصف أفراد عائلة عمتهم، وقد اشتهر الشيخ بالفطنة والذكاء ومساعدته لأهله منذ نشأته سواءً في الزراعة والحصاد قبل التهجير أو بعد أن انضموا إلى اللاجئين في مخيم الشاطيء بغزة؛ حيث كان نصيبه وأمه وإخوته بيتًا مكونًا من غرفتين مما اضطره للعمل وهو صغير لفترة من الوقت حتى التحق بمدارس غزة، وأثبت تفوقه، فكان ترتيبه الخامس على غزة وشمال سيناء في الشهادة الثانوية عام 1959م، والتحق بصفوف الحركة الإسلامية عام 1951م، وبعد حصوله على الشهادة الثانوية عمل مدرسًا للغة العربية والتربية الدينية.

منبت خير.. وبيت صالح

  • نتوقف قليلاً عند مسألة الوظيفة؛ حيث إنَّ إصابة الشيخ كانت قبل إنهائه دراسته.. فكيف أمكنه العمل بظروفه الصحية المعروفة؟
تقدَّم الشيخ للوظيفة عام 1959م وتفوق في اختبارات القبول، ولكن اللجنة الفلسطينية التي تُشرف على الوظائف كانت ميولها يسارية فرفضت توظيفه كمدرس، وبررت ذلك بأنه أعرج، فلما رُفِعَ التقرير إلى الحاكم المدني المصري ليوقع على الأسماء ويعتمدها لاحظ اسم أحمد ياسين وأمامه كلمة (مرفوض لأنه أعرج) فاستنكر الأمر، وأشارَ بتوظيفه فورًا قائلاً: "أعرج يعني ما يشتغل؟!.. يعني يموت؟!"، وكان لهذا الحاكم ابن أعرج.
  • هل واجه الشيخ صعوبات في اختيار زوجته؟
في بداية الأمر كان من الصعب أن يوافق الناس على الزواج ممن هو في مثل ظروفه خشية عدم الإنجاب خاصةً أنه لم يكن قد ذاع صيته بعد، وكان بعد تعيينه بالوظيفة يبحث عن زوجة ملتزمة لتساعده في حياته وتكون رفيقة دربه وتعينه على نوائب الدهر، وبعد فترة من البحث أرسل له بعض أبناء عمه أنَّ لديهم فتاةً يريدون تزويجها له، فذهب هو وأهله إلى بيتهم في دير البلح، وتمَّ الاتفاق والزواج وأنجب منها ولدًا أسماه (عائد) أي عائد لله، فمات في طفولته، ثمَّ رُزِقَ بطفلة أسماها (عائدة)، وبعدها أنجب ولدًا آخر أسماه (عائد) فمات أيضًا، ثم أنجب أولاده الثلاث محمد وعبد الحميد وعبد الغني وثمانية بنات.
  • كيف كانت علاقة الشيخ بوالدكم الحاج شحادة؟
كانت علاقة قوية طيبة، فلم يكن الشيخ ليرفع صوته في وجهه حتى وإن كان والدي على خطأ، فكان الشيخ ينظر إليَّ ويضحك ويهز رأسه، وأحيانًا كنت أندفع وأقول لوالدي هذا خطأ فينظر إليَّ الشيخُ معاتبًا ويقول لي: "هذا والدنا فلا ترفع صوتك عنده"، وفي آخر لقاء كنت أجلس مع والدي عند الشيخ فتداولنا في قضية وخالفت والدي الرأي فنظر إليَّ الشيخ وشذرني بنظره قائلاً: "لا تقول هكذا مع الوالد"، فقد كان رحمه الله يحترم أبي كما يحترم الابن أبيه لدرجة أن والدي عندما يحتاج شيئًا لا يأتي ليطلبه مني بل يذهب للشيخ ياسين، وأكثر من مرة أراجعه في ذلك فيرد عليَّ: "أنا أعتبر الشيخ كابني، وكان الشهيد يقول عن والدي: "هو عانا ونحن صغار ويجب أن نرعاه في كبره".
  • صار الشيخ يتيم الأب منذ صغره فكيف كانت علاقته بوالدته.
حقيقةً كان الشيخ من القلائل في قضية البر حتى إنه كان يعطي راتبه كله لوالدته وهي تنفق على البيت، وكذلك كانت هي ترفض المبيت في أي بيت للعائلة سوى بيت الشيخ وتقول إنها لا تستطيع فراقه، وتحب البقاء بجانبه حتى أنها إذا رُفع آذان العصر وهي في منزلنا تقول: "أريد أن أصلي في بيت الشيخ أحمد"، فيقول لها والدي: "انتظري صلي عندنا" فترفض قائلةً: "أريد أن أصلي في بيتنا عند الشيخ أحمد"، فيمازحها والدي: "هو :المسجد الأقصى عند الشيخ أحمد؟!"، وكنت أراها تجلس بجانبه وتعد له الطعام بنفسها، وأراها ترتجف وهي تُوصي الشبابَ الذين يلتفون حوله بأن يرعوه جيدًا، حتى عندما ترك مخيم الشاطيء إلى جورة الشمس طلب منها والدي أن تبقى معنا، ولكنها أصرت على مصاحبة الشيخ وبقيت معه حتى تُوفيت عام 1983م.
  • وماذا عن علاقتك أنت الشخصية بالشيخ الشهيد؟
لقد كان عمي رحمه الله هو من اختار لي اسمي؛ حيث كان والدي في السعودية آنذاك، وكنت منذ الصغر ملازمًا له حيث تتجاور منازلنا، فأستيقظ منذ الصباح وأتوجه إلى بيته لينصحني ويوجهني ويحفظني القرآن ويعلمني اللغة العربية، ومنذ كنت في الخامسة وهو يصحبني معه في الرحلات التي يُقيمها لشباب الصحوة، حتى أنهيت المرحلة الثانوية فأخذ شهادتي وأوراقي وأرسلها للسعودية عن طريق بعض معارفه لأحصل على منحة دراسية هناك، وقد سر سرورًا كبيرًا باختياري لدراسة أصول الدين.
  • قد لا يعرف الكثيرون أنَّ لشيخنا الشهيد أخًا من أقطاب الفكر اليساري، فهل أثَّر الخلاف الفكري على العلاقة بينهما؟
كان عمي "بدر" في بداية الأمر يسير مع الشيخ، ويجلس في حلقات المسجد الغربي بالنخيم، حتى عمل في كلية :غزة، وبدأ يتعرف على العديد من اليساريين، ومن ثم اختار هذا التوجه، ولكن كتوجه وطني دون أن يؤثر هذا على التزامه الديني وحرصه على الصلاة والحج وخُلق الإسلام، وظلت علاقته بالشيخ حميمية لدرجة كبيرة فيتزاورون ويتمازحون، حتى في الأعياد والمناسبات يأتي عمي بدر أولاً لزيارة أبي ثم الشيخ ياسين، وبعد أن يكمل دورته على باقي الأهل يعود في النهاية إلى منزل الشيخ مرة أخرى ويجتمعون جميعًا عنده للطعام، ومن المعروف أن عمي بدر تراجع عن الفكر اليساري وانضم لحركة فتح كنوعٍ من الوطنية، وفي أحلك الأوقات وأشد الأزمات بين فتح وحماس لم يكن ذلك ليؤثر على علاقة الأخوين ولا يتناقشا فيه إطلاقًا، وكان عمي بدر ينصح عمي أحمد دائمًا بزيارة عرفات لعلَّ ذلك يحسن من العلاقات بين فتح وحماس.
  • هناك مَن تأثر بهم الشيخ ومَن أثر فيهم.. فماذا تعرف عن هؤلاء؟
انتمى الشيخ منذ طفولته إلى جماعة الإخوان المسلمين؛ حيث بدأ في مصاحباتهم رحلاتهم الدعوية والتربية على مناهجهم، ومالت شخصيته إلى قراءة الكتب الحركية والفكرية مثل الظلال ومعالم في الطريق وغيرها من كتب الشهيد سيد قطب والإمام البنا، ومن هنا تمثلت في الشيخ شمولية الحركة التي ينتمي إليها، ولم يكن محدودًا في فلسطين بل مهتمًا بشئون العالم الإسلامي كله، وقبل استشهاده أرسل رسالة للزعماء العرب يدعوهم فيها لنصرة الشعبين الفلسطيني والعراقي وتوحيد الأمة.
أما مَن تأثروا بالشيخ فهم أجيال عديدة على مدى عمره المبارك، فقد كان رحمه الله شخصية جذابة خاصة بالنسبة للشباب، ومنذ كنت طفلاً في الستينيات وأنا أراه يعقد جلسات العلم في بيته منذ الصباح الباكر والشباب يلتفون حوله يقرأون القرآن والكتب الإسلامية ويتناقشون فيها ومن بين هؤلاء الدكتور فتحي الشقاقي وعبد العزيز عودة اللذان كانا يأتيان من رفح لمجالسة الشيخ، وكذلك الأخ خليل القوقا والذي أُبعد إلى الإمارات فيما بعد، وكانوا يلتفون حوله منذ الصباح ويعدون له الإفطار والشاي ويطعمونه بأيديهم.

بيت المجاهد وحياة الشهادة

الشهيدان
  • حياة المجاهد لا تخصه وحده وإنما يقتسمها معه أهل بيته، فكيف انطبق هذا على بيت الشيخ الشهيد؟
رغم انشغال الشيخ ومسئولياته لم يكن يقصر مع أهل بيته في المال والرعاية والتربية، فكثيرًا ما كنت أراه يجمعهم حوله في جلسة تربوية جميلة، وبالفعل قاسموه الكثير من الصعاب وتحملوا معه العديد من تبعات الطريق كالصبر على سجنه وغيابه عن البيت وانشغاله معظم الوقت بجهاده وقضية دينه وأمته، وأيضًا الصبر على زهده وورعه الشديد فراتبه رحمه الله كان ينقضي قبل منتصف الشهر في الإنفاق على دعوته وجهاده، حتى البيت الذي عاش فيه كان بيتًا متواضعًا للغاية، خاصةً الغرفة الداخلية التي تهالكت وانتشرت فيها رائحة الرطوبة حتى أصبح البيت منخفضًا جدًا عن مستوى الشارع.
وفي آخر زياراتي له أنكرت عليه أن يقيم في تلك الغرفة المبنية منذ ثلاثين عامًا وغير مسقفة بالباطن "أسبست"، فكان رده هو الابتسام وحمد الله على نعمته، وقد خُصص له كموظف حكومي سابق قطعة أرض يمكنه بيعها والاستفادة بثمنها لإعادة بناء البيت، ولكنه رفض، وأثناء اعتقاله لدى الصهاينة تحدث عمي أبو رائد مع عرفات بشأن بيت الشيخ الشهيد فشكَّل عرفات لجنة لإعادة بنائه، ولكنه رفض بشدة، كل هذه الحياة التي اتسمت بالزهد والجهاد اقتسمتها معه الزوجة والأبناء، حتى في استشهاده أُصيب معه ولداه، وفي الفترة الأخيرة قبل استشهاده سألتُ زوجته مداعبًا: "ألا تخافون أن يقذفوا البيت وأنتم فيه؟" فأجابتني: "فليقذفوه.. فمن أحق بمصاحبة الشيخ للجنة منا؟!".
  • "خيركم خيركم لأهله" كيف تمثلت خيرية الشيخ لأهله وأقاربه في صفاته وأفعاله؟
لم أرَ في حياتي أحدًا غضب من الشيخ، فقد كانت علاقته طيبة مع الجميع، وما جاء إليه أحد يحتاج إلى شيء أو يستعين به إلا وأعانه الشيخ بما يطلب حتى وإن كان وضْع بعضهم المالي جيدًا، ولا أذكر فرحًا أو مأتمًا في العائلة إلا وشارك فيه رغم نصحنا له بالتقليل من هذه الأمور؛ نظرًا لظروفه الصحية والأوضاع الأمنية، حتى في ليلة استشهاده خرج من المسجد وهو مهدد بالاغتيال لتأدية واجب العزاء لإحدى العائلات التي استشهد أحد أبنائها، ولم يكن يذهب إلى بيت من بيوت أقاربه إلا حاملاً هدية مناسبة، وأذكر أنه في أول عيد بعد خروجه من السجن لم يترك امرأةً في العائلة إلا وأعطاها هي وأبناءها عدية عن أربعة أو خمسة أعياد سابقة مرددًا أنَّ هذا تعويض عن الأعياد التي قضاها في السجن.
  • هل تعرضتم لمضايقات أمنية بحكم قرابتكم للشيخ؟
بحكم القرابة.. لم يتعرض أحد من أقرباء الشيخ للإيذاء إلا حالة واحدة حدثت مؤخرًا عندما منعوا أحد أقاربنا من علاج صغيرته في إحدى مستشفيات الداخل (فلسطين المحتلة عام 1948م)، أما بالنسبة لي أنا فبحكم توجهي الإسلامي وقربي الشديد من الشيخ فكلما سافرت كان يتم تحويلي إلى المخابرات للتحقيق والسؤال عن عمي الشيخ ياسين رحمه الله.

بطولة خلف القضبان

  • رغم الظروف الصحية للشيخ لم يشفع له ذلك ألا يتعرض للاعتقال أكثر من مرة، ومن أكثر من جهة، فما المواقف التي تذكرها له في هذه الأثناء؟
لتلك الظروف الصحية كنا نقلق عليه جدًا، ويبدو ذلك على وجوهنا أثناء الزيارة في حين لم تكن الابتسامة تفارق وجهه، ويهون علينا الأمر قائلاً: "توكلوا على الله وربنا سبحانه وتعالى لن يتخلى عنا، وأملنا في الله أن يفك هذا القيد وذاك الأسر"، ويوصي زوجته وأولاده في كل زيارة بتقوى الله واتباع كتابه وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم-، وأذكر في جلسة المحاكمة عام 1983م أو 84 كان القضاء يوجه اتهاماته للشيخ بتكوين خلية إرهابية للقضاء على الكيان الصهيوني وحيازة أسلحة غير مشروعة، وقبل النطق بالحكم سأل القاضي: إن كان هناك مَن يريد التحدث، فتقدم الشيخ بالحديث حامدًا لله ومثنيًا عليه سبحانه ثم ألقى خطبةً طيبةً وجَّه فيها الكلام للصهاينة قائلاً: "أنتم الآن تحتلون أرضنا وتغتصبونها وتظلموننا، رغم أننا رأيناكم قبل عام :1948م وأنتم تحيون في كنف الدولة الإسلامية فلم يظلمكم الإسلام على مر التاريخ بل على العكس كان ينصفكم"، وذكر قصة جرير القاضي لمَّا ادعى يهودي على عليِّ بن أبي طالب وكان أميرًا للمؤمنين بأنه أخذ درعه، فلما بدأ جرير النظر في القضية قال لعلي: اجلس يا أبا الحسن ودعا اليهودي باسمه دون كنيته، فغضب علي من القاضي واتهمه بعدم الإنصاف، وحكم القاضي بالدرع لليهودي؛ لأنه لم يكن لدى عليًا شهودًا سوى ولده الحسن والبينة لم تقم به، ومن ثم اتضح إنصاف القاضي وعدل علي كما كان ذلك نهج النبي- صلى الله عليه وسلم-، وبعد أن ذكر الشيخ هذا قال: "الظلم لن يدوم وأنتم في قرارة أنفسكم تعلمون ذلك، ولذا فلن تدوم دولتكم".
وصفق للشيخ جميع مَن كان بالقاعة منا، وبعدها نطق القاضي بالحكم عليه بثلاثة عشر عامًا، فلم يظهر عليه أي من علامات الحزن أو الضجر، ولكنه حرك شفتيه في صمت قائلاً: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، وارتجت القاعة بالتهليل والتكبير.
  • وكيف صارت حياة الشيخ بعد خروجه من السجن في عملية التبادل عام 1985م؟
فك أسر الشيخ عام 1985م؛ حيث حذره اليهود من مواصلة نهجه، ولكنه لم يهتم بذلك كثيرًا، فقد كان لديه إصرار عجيب على مواقف، خاصةً أنه يستمدها من كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم-، فلما خرج بدأ يعيد الاتصال والتكوين والبناء بشكلٍ أفضل كأنه كان يعيد حساباته ويخطط داخل السجن، وزاد نشاطه كثيرًا عمَّا كان عليه قبل السجن حتى إنه أعاد تكوين الإخوان المسلمين بغزة، وانبثقت منها
حركة المقاومة الإسلامية حماس، ونتج عن ذلك اندلاع الانتفاضة عام 1987م، وصار الإخوان المسلمون أو حماس هم المحرك الأول لانتفاضة الشارع الفلسطيني مما دفع اليهود لإعادة اعتقاله والحكم عليه بالسجن مدى الحياة مضافًا إليها 15 عامًا، وذلك عام 1989، وقد كنت في إحدى الجلسات معه بعد خروجه من السجن عام 85م فقال لي: "إنَّ السجن مرحلة فيها فائدة كبيرة، أولاً يختلي المرء بنفسه، ثانيًا يقرأ كتاب الله ويتعمق فيه ويستشعره، ثالثًا ينال حظًا وافرًا من الثقافة العامة والإسلامية، رابعًا يحصل فوائد في التفكير والتخطيط، وأهم منذ لك كله أنه يحطم حاجز الخوف بينه وبين الصهاينة ومن ثم أرجو أن كل أخ من شبابنا يدخل السجن ولو لفترة قليلة، ولتكن ستة أشهر ليحطم هذا الحاجز وتضح حقيقة هذا العدو وهوانه وضعف ذلك المارد الذي يسمى الاعتقال وكأنه سوطًا يهددوننا به".
  • استشهد الكثيرون من مرافقي الشيخ وهم يحاولون حمايته.. فما أثر ذلك عليه وعلى أسرته؟
لا يسعني في هذا المقام سوى أن أذكر الشهيد عبد الحكيم المناعمة الذي كان أول حراس الشيخ واتسم بالجرأة والخلق، واختلط بأسرة الشيخ حتى صار كأحد أبنائه، وكان ملازمًا للشيخ في كل أسفاره وتحركاته بالإضافة لنجله عبد الحميد، وكان أول مَن استشهد من حراس الشيخ مع بدء الانتفاضة، وعندما زرته لأواسيه وجدته يبكي هو والأسرة جميعًا بكاءً مريرًا فلم يسعني إلا أن أعانفه فإذا به يشتد بكاؤه ونشيجه ويلهج قلبه ولسانه بالدعاء للشهيد.

مجرمون.. وشهيد

شارون
  • بعد المحاولة الأولى لاغتيال الشيخ أحمد ياسين ما الاحتياطات التي اتخذت لحمايته؟
بعدها قلت له إنَّ الوضع أصبح جديًا، ودخلت التهديدات نطاق التنفيذ، وعليه أن يتحوط جيدًا، فأجاب: "توكل على الله ولا يصير إلا المكتوب"، ولم يمنعه هذا من ممارسة حياته الطبيعية والمشاركة في الحياة العامة والاجتماعات مع الأخذ ببعض الاحتياطات البسيطة كتغيير السيارة التي ينتقل بها.
  • هل كنتم تتوقعون أن يقدم الصهاينة على تنفيذ تهديداتهم باغتيال الشيخ؟
نحن نتوقع أي شيء منهم، فمَن يقتل الأنبياء لا يتورع عن قتل الصالحين، ومؤامراتهم عبر التاريخ أكثر من أن تُحصى، ولكننا رغم ذلك كنا نمني أنفسنا أنه قد يشفع له مرضه وجلسته على كرسي متحرك وعالمية شخصه، ونستبعد اغتياله؛ لأن الصهاينة قد يخشون من الضجة العالمية التي سيثيرها.
  • إذًا في رأيك لماذا أقدمشارون على اغتياله في هذا الوقت تحديدًا؟
لأنه يريد إذا انسحب من غزة ألا تبقى فيها شخصية محورية يلتف حولها الناس كالشيخ أحمد ياسين، وكذلك يرمي إلى إضعاف حركة حماس وتمزيق وحدتها وفض الناس عنها لكي يهيئ الأسباب لحكم شخصيات أخرى يكونوا أداة طيعة في يده، ومن ثم يهددهم ويخوفهم ويبقى اغتيال الشيخ العصي التي يلوح بها للجميع، ولكنه أخطأ في حساباته لأن دم الشيخ سيبقى لعنة تطارده إلى يوم القيامة، ولأن دم الشيخ وحَّد المقاومة والشعب الفلسطيني وجعل حماس محورًا له وللأمة قاطبة وبعد أن كانت الحركة محدودة في فلسطين عزز استشهاد الشيخ عالميتها، وما أدل على ذلك من كتائب المقاومة التي أطلق عليها اسمه والمواليد والشوارع والمساجد والمؤسسات الإسلامية داخل فلسطين وخارجها التي حملت اسم الشيخ الشهيد أحمد ياسين.
  • هل تعتقدون أنه كان للسلطة الفلسطينية دور في هذه الجريمة؟
نحن دائمًا نحاول استبعاد هذه الاحتمالات حفاظًا على وحدة الصف الفلسطيني، وإن كان هناك مساعدة قد تكون من بعض العملاء العاملين بأجهزة السلطة ولكن ليس السلطة بوجه عام أو رسمي والله أعلم.
  • هل كان رد الفعل في العالم الإسلامي على مستوى جريمة الصهاينة؟
كالعادة كان رد الفعل الرسمي مخيبًا للأمال، فكان واجبًا على الحكام العرب على الأقل إصادر بيان استنكار ولو مجاراةً لحالة الغضب الشعبي، ورغم أن هذا البيان لن يغير شيئًا إلا أنهم مُنعوا من كتابته وفشلوا في عقد القمة العربية في موعدها المحدد ربما كي لا يضطروا إلى التعليق على الأحداث أو اتخاذ خطوات جادة تجاهها، وأنا أقول: إن هؤلاء الحكام قد يئست منهم شعوبهم، فهم أداة طيعة في أيدي الصهاينة والأمريكان، وعندما وقع رد حماس على اغتيال قادتها كان هؤلاء الحكام أسرع الناس لإدانتنا، وبالرغم من خروج أكثر من 12 مليون مسلم إلى الشوارع للتنديد بجريمة اغتيال الشيخ لم يتحرك هؤلاء المتخاذلون فهم أسوأ حالاً من الأموات.

الليلة الأخيرة.. مواقف وذكريات

  • 67 عامًا قضاها الشيخ الشهيد في هذه الحياة، ولكن تبقى هذه السنون في كفة والليلة الأخيرة في عمر الإنسان في كفة أخرى.. فما تفاصيل الليلة الأخيرة في عمر الشهيد؟
على قدر علمي فقد تناول الشيخ بعض الشاي والبسكويت مع أهل بيته بعد صلاة المغرب ثم خرج لأداء صلاة العشاء في مسجد المجمع، وبعد الصلاة اجتمع حوله الناس وراح يحدثهم كعادته، ثم خرج لأداء واجب العزاء في أحد الشهداء وبعدها عاد إلى المسجد، وقد تخطت الساعة منتصف الليل وبقي في صلاة وقراءة قرآن حتى الثالثة فجرًا، وكان أحد أبنائه قد ذهب ليحضر له ما يتسحر به، فقد اعتاد صيام يومي الاثنين والخميس، فلم يجد سوى كوبٍ من اللبن تناوله الشيخ مع قطعة الخبز ونوى الصيام، وكانت إبرة المحلول لا تزال في يده، وصلَّى الفجر وقرأ بعض آيات القرآن ثم طلب ورقة مواقيت الصلاة، وبعدها طلب من مرافقيه أن ينظروا خارج المسجد فوجدوا بعض الطائرات في الجو وعندها قال: "طالما هناك طائرات لا نخرج بالسيارة"، فأخرجه الشباب بالكرسي وعندها قال أحد الرجال: "يا شباب لا تخرجوا الشيخ؛ فهناك طائرات في الجو حتى لا يقذفوه"، فقال الشيخ: "توكلنا على الله، ومَن يتوكل على الله فهو حسبه"، ولم تمر دقيقتان حتى قذفه الصهاينة بثلاثة صواريخ؛ مما أدَّى إلى استشهاده وعدد من الأشخاص وإصابة نجليه بجروح خطيرة.
  • دائمًا ما يسطر العظماء مواقفهم في ذاكرة الزمان ويوقعون عليها بدمائهم.. فما أهم المواقف التي تذكرها للشيخ الشهيد؟
ارتبطت مواقف الشيخ بالدعوة التي نذر لها حياته، فكان يجوب البلاد طولاً وعرضًا للدعوة إلى الله، وأسس مسجد المخيم الشمالي الذي يحمل الآن اسمه وبدأ فيه دعوته حتى صار بؤرة تجمع لشباب الصحوة وعنوان للحركة فنقلته السلطة المصرية التي كانت تحكم غزة في ذلك الوقت إلى مسجد العباس، فأسس به الشيخ نواةً جديدة للدعوة، وهكذا راحوا ينقلونه من مسجد إلى آخر وهو يؤسس للدعوة في كل مسجد حتى انتشرت الدعوة في كل مكان.
وفي إحدى المرات كان في زيارة لبلدة أم النور (أم الفحم) داخل فلسطين المحتلة عام 1948م؛ حيث كان بها مهرجان ألقى فيه الشيخ كلمة، وكان ذلك ليلة الخميس حيث أمضى ليلته هناك وفي صباح الجمعة أراد العودة فحان وقت صلاة الجمعة وهو في بلدة الرملة وراح يبحث عن مسجد قريب يصلي فيه فسمع صوت قرآن في أحد الشوارع فتوجه نحوه وإذا به مسجد صغير دخله الشيخ وسائقه فاستقبله مَن بالمسجد مرحبين وقالوا له: "أتى بك الله.. فليس لدينا خطيب.. وربنا سخرك لنا.. فأنت اليوم خطيبنا"، وكان هذا المسجد قبل ذلك ناديًا رياضيًّا تمَّ تحويله إلى مسجد، وهذه أول صلاة فيه وبعد انتهاء الصلاة طلبوا من الشيخ أن يأتيهم كل جمعة، فاعتذر لهم ووعدهم أن يُرسل لهم خطيبًا، وبالفعل أرسلني إلى هناك، وكثيرًا ما كنت أذهب إليه فيقول لي: "عندي درس في دير البلح أو خان يونس وأنا مريض فاذهب بدلاً عني" فأجيبه إنها أماكن بعيدة ونحن بالكاد نقوم بواجباتنا هنا في غزة فيأمر لي بسيارة المجمع الإسلامي لتقلني إلى مكان الدرس.
كذلك أسس رحمه الله مدارس الأرقم عام 2000م، وفي آخر أيامه كان يقول لي: "ابحث عن قطعة أرض كبيرة نقيم عليها مدرسة ثانوية" فكان يفكر ويخطط كي يكتمل بناء المجتمع المسلم، فلدينا رياض الأطفال والمدارس الابتدائية والإعدادية ثم الثانوية والجامعة وإن شاء الله نحقق له هذه الغاية.
  • بالإضافة للمواقف هل هناك أقوال لا تنساها للشيخ؟
زرته ذات مرة أنا وأحد الأساتذة فسألنا عن نشاطنا قائلاً: "كم درسًا تعطون في الأسبوع؟ فأجبناه من ثلاثة إلى أربعة دروس، فقال: "هذا لا يكفي، لابد من المزيد من العمل في هذا الجانب؛ لأنك في كل صلاة يمكنك أن تعطي درسًا يستفيد منه الناس، يجب أن تزكوا علمكم".. كما كان يردد دائمًا: "ومن يتوكل على الله فهو حسبه، توكلنا على الله"، وكانت هذه آخر كلماته قبل استشهاده، وقد تمثلها في حياته وأفعاله، وقبل استشهاده بشهر كان ساهرًا عندي وراح يسألني عن الجنة والحور العين وصفاتهم، وفي آخر الحديث قلت له: "يبدو أنك قد نويت؟" فقال: "أنا نويت من زمان يا ولدي".
  • لو لديك عدد من الرسائل لمَن توجهها وماذا تقول فيها؟
أولاً : أوجه رسالة للصهاينة: "إن الذي يزرع يحصد وأنتم تزرعون الموت في كل بيت من بيوتنا وسيأتي يوم تحصدون".
ثانيًا: للشعوب العربية والإسلامية: "جزاكم الله خيرًا على ما قدمتموه في هذه المسيرات من شعور طيب، ولكنه وحده لا يكفي، لا بد لكم من عمل جاد لدعم الانتفاضة والجهاد المقدس في فلسطين بكل ما أوتيتم من قوة، ولا بد أن تغيروا ما بأنفسكم من معاصي وبعد عن الله".
ثالثًا: للحكام العرب والمسلمين: "عليكم أن تكونوا على قدر المسئولية المنوطة بكم، وأن تقدموا شيئًا لقضية الأمة الأولى في بيت المقدس، فالمؤامرة مستمرة عليها ويراد القضاء على الجميع وسلب المسجد الأقصى من أيدي المسلمين بطريقة أو بأخرى، والحلول العاجزة التي تقدمونها لن تكون منصفة لشعوبنا المسلمة، عليكم أن تتقدموا شعوبكم لا أن تتقدمكم شوعبكم".

المصدر