إلى الأحبة الذين غابوا عنا..

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
إلى الأحبة الذين غابوا عنا..

بقلم: أ/ جمعة أمين عبد العزيز*

الأستاذ جمعة أمين

أمر الدين عجيب، له سننه التي تخالف منطوق العقول المجردة، وله قوانينه التي لا تخضع للمَناطقة ولا الجدليين، ولكن يفسرها إيمان بالله، ومعرفة بقدرته، ويقين بإرادته، وطاعة لأوامره، وحبٌّ لمنهاجه، واتباع لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فهو سبحانه القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير، حكمته بالغة، وقدرته نافذة، إذا أراد شيئًا فإنما يقول كن فيكون، فالله سبحانه بالغ أمره.. قد جعل الله لكل شيءٍ قدرًا.

فمن كان يظنُّ وهو يتتبَّع قصة موسى عليه السلام- وهو وَلَد في عهد فرعون اللَّعين (يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ) (القصص: 4)- أن يوحِيَ المولى عز وجل إلى أمِّه: (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيْهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِيْنَ) (القصص: 7) أيُّ منطق هذا أن الذي يتتبع البدايات لا يمكن أن يصل إلى هذه النتيجة الأخيرة؟! وأي عقل مجرَّد هذا الذي يستطيع أن يقنع الأم بهذه النهاية كي تطمئن على نجاة فلذة كبدها؟! إنه الإيمان بالله هو الذي دفعها أن تضع أمر الله موضع التنفيذ وتنتظر بيقين موعدًا للتحقيق.. (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُوْنَ)(القصص:13).

ومن كان يتصور تصورًا مجردًا أن يوسف عليه السلام بعد أن يُلقَى في الجب ويباع بيع الرقيق، ويُفتَن في بيت العزيز ويُسجَن سنوات عدة أن تكون هذه الأحداث هي عينها مراحل التمكين (وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ) (يوسف:21).. إنه الإيمان بالله الذي إذا أحب اللهُ صاحبَه حبَّبه إليه، وزينه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، وجعله من الراشدين، فضلاً منه ونعمةً؛ ولذلك فإن الله يعطي الدنيا لمن أحب ولمن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب، فمن أعطاه الدين فقد أحبه، فإذا أحبه سبحانه منحَه مشاعر مخالفةً لما اعتاده البشر، فإذا بالسجن خلوة، وإذا بنفيه سياحة، وإذا بقتله شهادة، فهو مع الله بحركاته وسكناته وقوله وفعله.. كل ذلك لله رب العالمين، لا شريك له.

إن أول ما يمنُّ الله به عليه- حين يعلم المولى صدقَه ويرى بلاءَه ومجاهدتَه لنفسه حتى تصبح الآخرة أكبر همه ومبلغ علمه- منْحُه الثبات على الحق، والاستمساك بالذي أوحي به على محمد- صلى الله عليه وسلم- فيشعر بعظمة ما يحمل من رسالة، ويعتزُّ بالانتساب إليها، ويثق في نصر الله لها، فهو العزيز ولو صفدوه بالأغلال، وهو القوي بالإيمان ولو عذبوه بالنار، وهو المنتصر بثباته ولو ضيَّقوا عليه ومنعوه حتى من رؤية الأهل والأحباب. ذلك كله لأن المولى ينزل عليه السكينة فيزداد إيمانًا مع إيمانه، فيُصبح الضيق متسعًا أمامه، والتعذيب له عذوبةً، والحرمان له من متاع الدنيا عفافًا وغنًى، والشهادة والقتل كَشَكَّةِ الدبوس أو النملة؛ لأنه رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد- صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولاً، إذا أنعم عليه شكَر، وإذا ابتلاه صبَر، وإذا أذنب استغفر.. فكيف لا يكون اللهُ معَه وهو القريب منه؟! (أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُوْنَكَ بِالَّذِيْنَ مِنْ دُوْنِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر: 36)؟! (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:40).

نعم.. إن أمر هذه الدعوة عجيب، إذا ضُغِط عليها انتشرت، وإذا ضُيِّق عليها اتسعت، وإذا ظُلِم أهلها فتح الله لهم القلوب، وإذا استُشْهِد من أبنائها رجلٌ كان دمه نورًا يبدِّد الظلمات، وقذائفُ الحق تُحِقُّ الحق وتُبْطل الباطل ولوكره الكافرون (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء: 18)، والأمل في نصر الله عندنا متمِّمٌ للإيمان، ولا إيمان لمن يشك في هذا اليقين (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِيْنَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ) (غافر:51).