أحمد السيد يكتب .. من فشل قديم إلى عاصمة جديدة أزمة الحكم في مصر!

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
أحمد السيد يكتب .. من فشل قديم إلى عاصمة جديدة أزمة الحكم في مصر!


(4 مارس 2016)

خلال مؤتمر "رؤية مصر 2030"، الذي عُقد في الـ24 من فبراير/شباط 2016 بمسرح الجلاء للقوات المسلحة، لم يفُت الرئيس عبد الفتاح السيسي أن يعيد إلى الأذهان ذكرى مشروع "العاصمة الجديدة" والذي لم يكن نصيبه من الدنيا بأفضل من نصيب مشروعات أخرى كجهاز علاج فيروس الالتهاب الكبدي الوبائي (سي) -المعروف شعبياً بجهاز الكُفتة- ومشروع المليون وحدة سكنية، ومشروع استصلاح مليون ونصف فدان..

"عايز أعمل أحسن حي مال وأعمال في الشرق الأوسط في العاصمة الإدارية الجديدة". هكذا عبّر السيسي عن حلمه أن تكون المدينة الجديدة قِبلة الاستثمار والتجارة في المنطقة. حلمٌ مشروع، لكنه يبعث على الأسى، لأنه يأتي وقد مر عام كامل منذ الإعلان عن إنشاء تلك العاصمة، وبدلاً من أن نرى الرئيس يجوب بعض شوارعها أو يتفقد ما تم إنجازه من أبنيتها، رأيناه -لا يزال- يحلم ويتخيل!

ففي منتصف مارس /آذار 2015، ظهر السيسي على شاشات التلفزيون المصري مُبشراً أن هذا المشروع "سيرحم الناس في القاهرة". يُفهم من ذلك أن الهدف الرئيسي كان تخفيف الضغط عن العاصمة التاريخية، القاهرة، والابتعاد عن الزحام والتلوث بها.

ورغم أن مرور سنة دون إنجاز أي شيء من هذه المدينة على أرض الواقع يثبت -حتى اللحظة على الأقل- صحة الرأي القائل بأن الأمر كله لا يعدو كونه مشروعاً وهمياً لأغراض سياسية، إلا أن التساؤل عن جدوى العاصمة الجديدة وهل ستقدم حلاً حقيقياً لمشكلات القاهرة ومعاناة قاطنيها تظل أسئلةً جوهرية تستحق البحث والتفكير. وقبل ان ندلف إلى تفاصيل الحالة المصرية، ينبغي الإشارة إلى استحسان فكرة تشييد مدن جديدة للتخفيف عن عواصم تقليدية أضحت تئن تحت وطأة التكدس السكاني والعشوائية.

ولعل مدينة برازيليا التي صارت عاصمة للبرازيل بديلاً عن ريو دي جانيرو، التي ضاقت بأهلها، هي أحد أكثر أمثلة العواصم الجديدة نجاحاً ولفتاً للأنظار. فالمدينة التي قدّرها حتى منتقدوها على أنها عملاً فذاً، قد ضمتها هيئة اليونيسكو إلى قائمتها الخاصة بمواقع التراث الثقافي الإنساني.

بالعودة إلى القاهرة، ليس من العسير إدراك أن مساحة المدينة لم تكن السبب في مشكلاتها حتى تكون إضافة رقعة عمرانية جديدة هي الحل. فالعاصمة العريقة، التي تعد أكثر المدن ازدحاماً في الشرق الأوسط وإفريقيا، تمددت عمرانياً باستمرار في عهود ناصر والسادات ومبارك، ومع ذلك لم تنتهِ الأزمات، بل تفاقمت. هذا لا ينفي أنه في بلد كمصر، حيث يعيش 98% من عدد السكان على ما لا تتجاوز 4% من إجمالي مساحة الدولة، يبقى التمدد الحضري وتعمير الصحراء أمراً لا سبيل للاستغناء عنه.

من هنا يمكن القول إن أزمة العاصمة والتي تتجلى في انهيار مستوى الخدمات العامة وتآكل قدرة البنية التحتية فيها، يرجع إلى أسباب عدة. منها، على سبيل المثال لا الحصر؛ ازدياد عدد السكان والوافدين، غياب الرؤية، السلوكيات العشوائية، وتغييب القانون.

لكن يظل السبب الرئيسي، في اعتقاد كثيرين، هو غياب دور الإدارة المحلية في مصر. ازدادت أكوام القمامة ارتفاعاً في كل مكان، صار هواء المدينة الملوث أمراً مألوفاً، اختلطت مياه الشرب بمياه الصرف الصحي، تكسّرت الطرق، وأُلقيت مواسير نقل الغاز أو المياه على قارعات الطرق وأرصفة الشوارع، انتشرت الحُفَرْ والبالوعات المكشوفة، اختنق المرور، وانتشرت البلطجة والعشوائية، وتعطلت مصالح الناس في طوابير لا تنتهي.

كل ذلك كان نتيجةً مباشرةً تعطيل الحُكم المحلي وإفراغه من مضمونه، فغاب عن مناطق القاهرة وأحيائها من يعتني بها ويطورها. تلك الأوضاع تزداد تدهوراً وتردياً باستقبال المدينة، بوصفها عاصمة الدولة، لآلاف المواطنين يومياً من شتى بقاع الجمهورية ممن يفدون إلى المؤسسات والهيئات الحكومية وغيرها لقضاء حوائجهم، وذلك بسبب المركزية البيروقراطية التي يتسم بها نظام الحكم.

في هذا السياق، ينبغي الإشارة إلى أن مصطلحات مثل "الحكم المحلي" و"الإدارة المحلية" تُستخدم عادة وكأنها مترادفات، وفي ذلك بعض من عدم الدقة. فالحكم المحلي يعني وجود إدارة منتخبة ديمقراطياً، على المستوى المحلي، ذات سُلطات وصلاحيات تمكنها من اتخاذ وتنفيذ قرارات فيما يتعلق بتسيير حياة المواطنين اليومية وتطوير وخدمة مجتمعهم المحلي.

أما الإدارة المحلية فهي مجموعة من الموظفين المعينين من قبل الحكومة المركزية لإدارة شؤون المجتمع المحلي. في مصر، ينظم عمل المحليات القانون رقم 43 لسنة 1979، والذي عُرف في عهد الرئيس السادات بقانون نظام الحكم المحلي، إلا أنه قد تم تعديله، في عهد حسني مبارك، ليصبح القانون رقم 145 لسنة 1988، وفيه تم حذف عبارة "الحكم المحلي" واستبدالها بعبارة "الإدارة المحلية".

هذا القانون، وخاصة بعد تعديله في 1988، يكرِّس سيطرة السُلطة المركزية على مقادير الأجهزة والمجالس المحلية، التي نُزعت عنها استقلاليتها وأصبحت أداةً في يد الحكومة تفعل بها ما تشاء. والحقيقة أن ذلك يتسق مع طبيعة النظام السياسي المصري الذي، ومنذ فجر التاريخ، قد اتسم بطابع سلطوي شديد المركزية، تُدار الأمور فيه بشكل فوقي دون الالتفات إلى الجماهير ودورها في الاضطلاع بشؤون مجتمعاتها.

بعض مواد ذلك القانون تكشف ذلك بوضوح، فالمادة 25، على سبيل المثال، تقصر حق تعيين وعزل المحافظين على رئيس الجمهورية، مما يجعل المحافظ محصناً ضد المسائلة الشعبية طالما لن يكون للمواطنين دور في انتخابه أو عزله من منصبه.

مثالُ آخر نجده في الغاء المادة الوحيدة التي كانت تتيح لأعضاء المجالس المحلية بالمحافظات تقديم استجوابات ومسائلة المحافظ ورؤساء الهيئات الحكومية وهي المادة 20. كذلك منحت المواد 144 و145 مجلس الوزراء الحق في حل المجالس المحلية وفق تقديره! ويمكننا أن نلمس دليلاً صارخاً على عجز المسؤولين المحليين في شهادة عادل إلهامي، المحافظ السابق للقليوبية

والتي قال فيها؛ "المحافظون لا يملكون سلطة فعلية كما يظن الناس. على سبيل المثال، عندما حدثت أعطال بشبكة الاتصالات بالمحافظة، لم يكن بإستطاعتي فعل أي شيء، سوى أنني اتصلت بوزارة الاتصالات وطلبت منها إصلاح تلك الأعطال. ومع ذلك، أنا متفهم للغاية أن المواطنين يتوقعون منا الكثير، لكن ما الذي يمكننا فعله؟ نحن بحاجة إلى سلطات حقيقية."

لا أحد يستطيع الجزم كيف ستُدار الأمور في العاصمة المزعومة، لكن اللهجة التي تحدث بها الرئيس السيسي عن المدينة في كلمته بمسرح الجلاء، ومن قبلها الطريقة التي اُعلن بها عن المشروع في 2015 قد جسّدتا بعض أمراض الإدارة المحلية في مصر. فقد تم الإعلان عن المشروع بشكل مفاجئ، لم يسبقه أي حوار مجتمعي أو نقاش عام، أو استطلاع رأى، أو استشارة من متخصصين، أو دراسات تبحث تفاصيل المشروع وجدواه.

هذا التجاهل للمواطنين والخبراء والمجتمع المدني هو النهج الذي لم يحد عنه ذلك النظام السلطوي شديد المركزية، الذي ينكر حق المواطن في أن يبقى مُطلعاً على خطط الحكومة ومشروعاتها التنموية للمستقبل، وحقه في المشاركة في اتخاذ القرارات التي من شأنها أن تؤثر على حياته وحياة أولاده.

الإعلان المفاجئ عن المشروع مثّل في جوهره إجباراً للمواطنين على الرضوخ والقبول بقرارات السُلطة كما هي؛ لذلك لم يكن مُستغرباً أن يتعامل رأس السُلطة الحاكمة مع المواطنين كأنهم قُصَّر غير ذي أهلية، وذلك ما تجلّي في تحذيره لهم؛ "ماتسمعوش كلام حد غيري"..

وبرغم أنباء انسحاب محمد العبّار، رئيس شركة إعمار الإماراتية، من المشروع، فإن إسناد تشييد المدينة لمجموعته العقارية (كابيتال سيتي) بالأمر المباشر بدلاً من طرح المشروع في مناقصة عامة مفتوحة يهدر على الدولة فرصة التعاقد مع أفضل الكفاءات الفنية والهندسية التي يمكنها تنفيذ المشروع بأنسب تكلفة مادية ممكنة. غياب الشفافية في قرار جوهري كهذا، يعد تجلياً واضحاً لثقافة السرية وحجب المعلومات المسيطرة على مؤسسات الدولة.

فلا أحد على وجه الدقة يعرف ما هي المعايير التي اختيرت هذه المجموعة العقارية على أساسها؟ ولماذا أُسند المشروع لها بالأمر المباشر؟ ولماذا اختير موقع المشروع الحالي بالتحديد؟ وما هي التكلفة الإجمالية للمشروع أو الموعد النهائي للانتهاء منه؟ وغير ذلك من تساؤلات لم تُجب الحكومة عنها.

يضاف إلى كل علامات الاستفهام السابقة علامة تعجب، حول الكيفية التي يُمكن بها للعاصمة الجديدة أن ترحم -بحسب تعبير الرئيس- سكان القاهرة؟ فعلي العكس من ذلك، فإن تلك المدينة، واقعياً، ستُفاقم من معاناة القاهريين وسائر مواطني الجمهورية.

وذلك لأن الآلاف أو الملايين التي اعتادت الوفود إلى القاهرة لقضاء حوائجهم ستضطرهم بيروقراطية النظام غير المرنة ومركزيته الشديدة إلى السفر إلى العاصمة الجديدة التي لم يختبروها من قبل، والتي ستكون -بحسب موقعها فيما بين شرق القاهرة والبحر الأحمرـ أكثر بعداً عن مواطني الدلتا والصعيد، وبالتالي أكثر مشقة في الوصول إليها.

والحقيقة أن الحكومة كان بإمكانها تخفيف كل هذه الأعباء عن كاهل المواطنين، لو تم تعزيز مبدأ اللامركزية في الحُكم ومُنحت مجالس المحافظات والمراكز والمدن الصلاحيات اللازمة لتقديم الخدمات للمواطنين ومساعدتهم على قضاء حوائجهم دون الاضطرار إلى تكبد تكاليف ومشاق السفر إلى العاصمة للحصول على تأشيرة أو ختم أو موافقة من هيئة هنا أو وزارة هناك.

إن استمرار فرض مشروعات التطوير والتحديث على المواطنين بهذه الطريقة لا يشي بأن حلم العاصمة الجديدة قد يحقق النجاح المرجو، وذلك لأن الأزمة الحقيقية التي تعاني منها مصر كلها، لا القاهرة فحسب، هو غياب منظومة الحكم المحلي الديمقراطي. رغم أن تمدد الرقعة المأهولة بالسكان خطوة لا بد من تنفيذها، بل وتكرارها، نظراً لتكدس السكان في الدلتا والوادي

إلا أن تطوير مصر ورفع مستوى معيشة المواطنين لا يكون بتعمير الصحراء وحده، لكن بتفعيل دور الإدارات المحلية وتحويلها إلى أجهزة حُكم محلي تتمتع بالاستقلالية والسُلطة السياسية لدراسة واتخاذ قرارات من شأنها تغيير حياة المواطنين للأفضل في نطاق وحداتهم المحلية التي يديرونها.

فعلى أرض الواقع يصعب تصور التغلب على مشاكل تراكم النفايات واختناقات المرور وتكدس السكان وانتشار العشوائيات وغيرها دون مؤسسات محلية ديموقراطية تتواصل مع المواطنين بشكل مباشر وتطلب مشاركتهم في إدارة الشأن العام. المواطن، كما تشير الدراسات، يكون أكثر استعداداً لتحمُّل الصعاب وأكثر حماسةً للمشاركة عندما يُتاح له ذلك، وعندما يكون على معرفة بما يجري حوله.

إن فشل منظومة الإدارة المحلية وتحولها إلى نقطة تلاقي لشبكات الفساد والمحسوبية والواسطة، بدلاً من أن تكون جسراً يلتقي فيه المواطن مع الدولة، كان سبباً رئيسياً لتدهور الأوضاع المعيشية في القاهرة إلى حد مزري. وكان الأولى أن تكون الإدارات المحلية جسراً يلتقي عليه المواطن مع الدولة، فتزدهر المبادرات وتتنوّع الاقتراحات لإنجاز حلول مثلى لمشكلات المجتمع المحلي وتنميته المستدامة.

إن انعدام أو تدنِّي كفاءة الموظفين المحليين المُعينين من قبل السُلطة المركزية أفرز مسؤولين فاشلين يديرون ظهورهم للمواطنين ولا يسعون سوى لنيل رضا مديريهم ورؤسائهم.وكان الأولى انتخاب المسؤولين المحليين؛ لأنهم سيكونون أكثر دراية بمشكلات مناطقهم وأكثر قدرة على حلها وأكثر حماساً لخدمة المواطنين وسعياً لنيل رضاهم.

إن المركزية البيروقراطية المُكبلة وغياب الشفافية، وإنكار حق المواطن في المعرفة ومصادرة حقه في المشاركة في إدارة الشأن العام، وهي حقوق كفلها الدستور المصري، قد أنتجت مواطنين عازفين عن التواصل مع الحكومة وغير راغبين في المشاركة في خدمة وتطوير مجتمعاتهم. إنشاء مدينة جديدة شيء يبعث على الأمل، هذا صحيح. لكن كي لا يخبو ذلك الأمل ويتبدد، لا بد من إرادة سياسية جديدة لمواجهة الفشل القديم.

المصدر