الدين والسياسة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٠:٢٣، ٢١ نوفمبر ٢٠٠٩ بواسطة إخواني (نقاش | مساهمات) (أنشأ الصفحة ب''''الدين والسياسة: تمييز لا فصل*''' اتخذت العلاقة بين الديني والسياسي في الفكر المعاصر صيغا مخت…')
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

الدين والسياسة: تمييز لا فصل*


اتخذت العلاقة بين الديني والسياسي في الفكر المعاصر صيغا مختلفة، وفي كثير من الأحيان متناقضة، وقد اتخذت في الغرب أشكالا متباينة على الرغم من وجود قواسم مشتركة، وكل تجربة لها سياقها الخاص، وكل مجتمع يتواضع على صيغة معينة انطلاقا من خصوصياته، ونريد هنا تقديم رأي في الرؤية الأوفق للعلاقة بين الدعوي والسياسي: أهي تطابق أم انفصال؟ وهل لهذه العلاقة جذور فكرية في ثقافتنا الإسلامية؟ والمدخل الذي اخترناه هو تحديد المقصود بالدين، لأن كثيرا من الاختلافات وسوء التفاهم بين مختلف المدارس المتصارعة في موضوع علاقة الدين بالسياسة يرجع إلى الاختلاف المصطلحي أكثر منه إلى جوهر الإشكاليات، ولذلك فإننا سنحاول بداية تمييز معاني "الدين" في اللغة والشرع، قبل أن نعرج على أوجه التمييز بين الدين والسياسة في الفكر الإسلامي وفي الواقع المعيش.



أولا: الألفاظ المشتركة ومراوحتها بين العموم والخصوص:

تقتضي طبيعة اللغة ضرورة التمييز بين مستويات دلالات الألفاظ المرتبطة بموضوع ما، وعدم التعامل معها بوصفها "كائنات جامدة". ويؤكد "لودفج فتجنشتين" رائد الفلسفة اللغوية في العصر الحديث أن "معنى الكلمة ليس له ثبات أو تحديد.. واللغة ليست حسابا منطقيا دقيقا لكل كلمة معنى محدد ولكل جملة معنى محدد ولكل الجمل وظيفة واحدة.. وإنما تتعدد معاني الكلمة بتعدد استخداماتنا لها في اللغة العادية، وتتعدد معاني الجملة الواحدة حسب السياق الذي تذكر فيه.. وأن الكلمة مطاطة تتسع وتضيق استخداماتها حسب الظروف والحاجات".


ومن الأمثلة التي تهمنا هنا الاشتراك في اللغة. وهو إطلاق كلمة واحدة على معنيين فأكثر على السواء، أي اتحاد اللفظ وتعدد المدلولات أو المعاني، وهو شائع ومستعمل على نطاق واسع في مختلف اللغات. فكلمة "العين" مثلا في اللغة العربية تطلق على العين الباصرة، وعلى نبع الماء، وعلى رئيس أو وجيه القوم، وعلى الجاسوس، وعلى النقد والذهب، وعلى الشيء نفسه، وعلى غيرها من المعاني. وتلك المعاني قد تكون متقاربة ومتداخلة، كما قد تكون متباعدة بدون علاقة ظاهرية فيما بينها.


ولذلك فإن ألفاظا مثل الدين والعلمانية لا تحمل المعاني نفسها لدى مختلف الباحثين وفي مختلف الاستعمالات والسياقات الاجتماعية والدينية، ومن المعلوم أن الاهتمام بالمصطلحات ومعانيها هو منطلق البحث العلمي، بل إن العلم في حقيقته هو العلم بالمصطلحات، هذا على مستوى اللغة، أما في الألفاظ الدينية أو الشرعية في الإسلام فإن المشترك اللفظي فيها كثير، وتتنوع معاني المصطلحات حسب السياق والاستعمال وغيرهما من المؤثرات، وقد اهتم علماء الأصول بدراسة هذا الموضوع ووضعوا القواعد الضابطة لحل الإشكالات الناتجة عنه، وخاصة أن كثيرا من الغلط في فهم المعاني الشرعية ناتج عن وضع الألفاظ (أو المصطلحات) في غير مواضعها، وممن أكد على هذا المعنى وتوسع فيه تقي الدين ابن تيمية، فهو يقول: "الأسماء يتنوع مسماها بالإطلاق والتقييد"1. وبهذا التنوع استعملها العرب في لغتهم، وبه استعملت في النصوص الشرعية كتابا وسنة.


ومن الأمثلة على ذلك معاني الألفاظ الموضحة في الجدول أسفله، فهنا يظهر أن البر إذا أطلق كان مسماه مسمى التقوى، والتقوى إذا أطلقت كان مسماها مسمى البر، ثم قد يجمع بينهما كما في قوله تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى" فيكون لكل كلمة معنى خاص.


والشيء نفسه ينطبق على لفظ "العبادة"، فإن له معنى عاما، وهو معنى "جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة" كما يقول ابن تيمية2، لكنه في مكان آخر يعطي هو نفسه للفظ العبادة معنى خاصا يقابل العادة أو معاملات الحياة. يقول: "أعمال الخلق تنقسم إلى: عبادات يتخذونها دينا ينتفعون بها في الآخرة أو في الدنيا والآخرة، وإلى عادات ينتفعون بها في معايشهم، فالأصل في العبادات أن لا يشرع فيها إلا ما شرعه الله، والأصل في العادات أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله"3.


من هنا يظهر أنه إذا فهم اللفظ على غير ما يقتضيه السياق حملت النصوص ما لا تحتمل من المعاني، ورتبت عليها النتائج الخاطئة، وذلك من أسباب الغلط في فهم نصوص الشرع، كما هو من أسباب الغلط في فهم كلام العديد من العلماء والمفكرين.


وهذا التنوع في المعنى نجده أيضا في استعمالات لفظي الإيمان والإسلام، فلفظ "الإيمان" إذا أطلق في القرآن والسنة يراد به ما يراد بلفظ البر وبلفظ الدين ولفظ التقوى، وقد فسر البر بالإيمان وفسر بالتقوى وفسر بالعمل الذي يقرب إلى الله، والجميع حق وقد روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم أنه فسر البر بالإيمان4. وإذا أطلق لفظ الإسلام أيضا عنى تلك المعاني كلها فهما لفظان مترادفان إذا أطلقا، لكن كل واحد منهما في استعماله الخاص يحمل معنى محددا، الإيمان يعنى تصديق الفكر والقلب، والإسلام يعني عمل الجوارح والالتزام الفعلي، وهو التمييز الذي يشير إليه الحديث المشهور بحديث جبريل، وفيه أجاب الرسول عن السؤال حول الإسلام بقوله: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا"، وعن السؤال حول الإيمان بقوله: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره"5. ولذلك قالوا إنهما "إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا". وبكلا الاستعمالين ورد القرآن ووردت السنة6.



ثانيا: معاني لفظ "الدين" في القرآن والسنة

إن هذا الاختلاف في معاني الألفاظ حسب السياق الذي وردت فيه، ينطبق أيضا على لفظ "الدين"، والذي يهمنا هنا أنه قد يرد في النصوص الشرعية وفي استعمالات العلماء والمفكرين على الأقل بمعنيين: عام وخاص.


أما المعنى العام فيشمل مختلف أوجه نشاط المسلم وجميع الأعمال التي يأتيها بما فيها ممارسته الدنيوية والسياسية، وهكذا فكل ما يأتيه المسلم في حياته من عمل صالح فهو دين، وهو عبادة بمفهومها العام، وهو صدقة ما دامت نيته خالصة لله، واعتبرت النصوص الشرعية أي عمل دنيوي من هذا النوع دينا، وعبادة، وصدقة ... ففي الحديث: "وفي بضع أحدكم (أي ممارسته الجنسية المشروعة) صدقة"، قال الصحابة: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال: "أرأيت لو وضعها في حرام أليس عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال فإن له أجرا".


وتسوي بعض الأحاديث بين الشعائر التعبدية وأعمال الخير من المعاملات وأمور الدنيا فتسميها كلها صدقة، فيقول الرسول: "إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة"7. ويقول كذلك: "تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة وتميط الأَذى عنِ الطريق صدقة"8.


ومن هنا كانت تراجم وتعليقات البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه تعكس هذا المعنى العام المطلق للدين، فأورد منها مثلا "الدين النصيحة" و"باب من الدين الفرار من الفتن" و"باب أداء الخمس من الدين" وغيرها، وهذا لا يمكن أن يحمل إلا على أنه بالمعنى العام للدين، وأكد الشاطبي على شمولية الدين وعموم تشريعاته لجميع "أنواع التعبدات من العبادات والعادات والمعاملات" 9، ويورد ذلك في عبارة جامعة قائلا: "كل تصرف للعبد تحت قانون الشرع فهو عبادة"10.


وبهذا المعنى العام للفظ "الدين" يمكن أن تقرأ الآية الكريمة: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا". فهي تصرح بأن الدين كامل، وليس فيه أي شكل من أشكال النقص والنسيان، لكن الراجح أن المقصود الدين بمعناه العام، وليس دين العقائد والشعائر والأحكام الثابتة فقط، وهذا ما شرحه به العديد من العلماء والمفكرين المسلمين. ولذلك يقول الشاطبي إن الحفظ المضمون في قوله تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" إنما المراد به حفظ أصوله الكلية المنصوصة، وهو المراد بقوله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم" أيضا، لا أن المراد المسائل الجزئية11.


ويؤكد أن المراد بكمال الدين كلياته، "فلم يبق للدين قاعدة يحتاج إليها في الضروريات والحاجيات أو التكميليات إلا وقد بينت غاية البيان، نعم يبقى تنزيل الجزئيات على تلك الكليات موكولا إلى نظر المجتهد"، إلى أن يقول: "ولو كان المراد بالآية الكمال بحسب تحصيل الجزئيات بالفعل فالجزئيات لا نهاية لها فلا تنحصر بمرسوم، وقد نص العلماء على هذا المعنى، فإنما المراد الكمال بحسب ما يحتاج إليه من القواعد الكلية التي يجرى عليها ما لا نهاية له من النوازل"12.


وهكذا، فإن من كمال الدين أن الله تعالى أوكل أو فوض للإنسان الاجتهاد والإبداع في شئون حياته، ثقة بقدرته الفكرية والمعرفية على الإجابة عن الأسئلة المطروحة، وإجاباته وإبداعاته هي التنظيمات والإجراءات الوضعية التي تنظم الحياة الدنيوية للأفراد والمجتمعات، إنها من الدنيا، لكنها دين أيضا بالمعنى العام، أي بمعنى أنها تتم في انسجام مع التوجهات والقيم الدينية العامة، ومن هنا اعتبر علماء مدرسة أهل السنة الولاية والسياسة من الطاعات، وعدوها عبادة، ليس بمعنى أنها "تعبد"، بل على أساس أنها من الأعمال الدنيوية التي تتم في الإطار المرجعي العام للدين، وهكذا فإن تعيين رئيس الدولة أو الإمام يعتبر من باب العمل الدنيوي الاجتهادي الذي يقوم به الناس وليس من باب الدين التعبدي، وهذا لا يمنع من اعتباره دينا، بالمعنى العام، أي عملا يعتبر طاعة، فيؤدى بحقه، ويتقى الله فيه: فلا غش ولا خيانة، ولا استخفاف بالمسئولية... وعلى هذا الأساس يجب أن تفهم عبارات فقهاء الإسلام في هذا المجال، مثل قول ابن تيمية: "فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله"13.


وهذا يبين كيف أنه على عكس ما نجده في المنظومة الغربية، حيث لا يتضمن الدين إلا ما هو مطلق، فإنه في الإسلام يشمل ما هو مطلق ونسبي معا، فكلاهما دين، فكل ما في السياسة من أصول وثوابت، فهو أدخل في المجال المطلق، بينما يدخل ما فيها من متغيرات في المجال الديني النسبي. وفي هذه النسبية يمكن التفاعل مع عطاءات الفكر البشري وإنتاجاته دون أي حرج. ولذلك تم التنصيص على أن الدين يتجدد، وهذا معناه أن الجوانب الاجتهادية من الدين أو الجوانب النسبية منه تتجدد.


هذا عن المعنى العام للدين، أما معناه الخاص فيعني ما هو عبادي أو تعبدي من الدين، مقابل ما يعتبر من العادات أو من الدنيا، وهذا المعنى استعمل في بعض النصوص الشرعية، بوضع الدين مقابل الدنيا، ومن ذلك النصوص التالية:


حديث الصحابي رافع بن خديج أن النبي الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجدهم يؤبرون النخل (أي يلقحونه)، فقال لهم: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا". فتركوا تلقيحه فخرج رديئا، فذكروا ذلك له فقال: "إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر" 14. وروته عائشة بلفظ: "إن كان شيئا من أمر دنياكم فشأنكم به وإن كان من أمور دينكم فإلي"15.


وفي حديث طويل لأبي قتادة أنهم كانوا في سفر وفاتهم وقت صلاة الصبح، فلما صلوا وركبوا تناقش الناس فيما بينهم فقال صلى الله عليه وسلم: "ما تقولون، إن كان أمر دنياكم فشأنكم وإن كان أمر دينكم فإلي"16.


ومن أدعيته صلى الله عليه وسلم: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي"17.


وعن ابن عمر رضي اللهُ عنهما قال: لم يكن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يدع هؤلاء الكلمات حين يمسي، وحين يصبح: "اللهم إنِي أَسألك الْعافية في ديني، ودنيَاي، وأَهلي ومالي"18.


وعلى هذا المعنى أيضا يحمل قول علي بن أبي طالب: "لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخفين أحق بالمسح من ظاهرها"، ومعلوم أنه لا يعني إلا الدين "العبادي"، لا جوانب الدين المرتبطة بالحياة، والتي هي مبنية على الاجتهاد والرأي.


واستعمال هذا المعنى الخاص للدين كثير أيضا في كتابات العلماء، مثل قول ابن تيمية مثلا: "ودين الإسلام مبني على أصلين؛ أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده بما شرعه من الدين، وهو ما أمرت به الرسل أمر إيجاب أو أمر استحباب"91. فالدين هنا هو الدين بمعناه الخاص، وهو ما أمرت به الرسل مما يعبد الله به على ما سيتبين أكثر بعد قليل.



ثالثا: التمييز بين الدين والدنيا في نصوص العلماء.

على عكس ما يظنه كثيرون ممن كتبوا عن علاقة الدين والسياسة في الإسلام وفي الحضارة الإسلامية، فإن التمييز بين الدين والدنيا أمر معروف بين الأصوليين والفقهاء المسلمين عبر التاريخ، مما تؤكده العديد من الشواهد والأدلة نذكر منها ما يلي:


1 ـ أن غالبية العلماء متفقون على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إلى جانب نبوته رئيس دولة، وذا مسئولية سياسية، كما كان يتصرف بحكم بشريته تصرفات دنيوية، ولذلك فهم يميزون في تصرفاته صلى الله عليه وسلم بين ما هو للدين وما هو للدنيا، فهو يتصرف في الأولى بالوحي أو بالبيان الذي له حكم الوحي، بينما يتصرف في الثانية بالاجتهاد وبحكم بشريته.


ولسنا هنا لنفصل هذا الأمر ومذاهب العلماء فيه، لكننا نضع بين يدي القارئ مجموعة من نصوصهم تميز بوضوح بين النوعين من تصرفاته صلى الله عليه وسلم، وتذهب إلى أنه في أمور الدنيا التي تخضع للتجربة بشر ككل الناس، ومن ذلك مثلا:


ـ أبو محمد ابن حزم يقول عن حديث تأبير النخل السابق: "فهذا بيان جلي -مـع صحة سنده- في الفرق بين الرأي في أمر الدنيا والدين"، ثم يستنتج "وإننا أبصر منه بأمـور الدنيا التي لا خير معها إلا في الآجل، وهو أعلم منا بأمر الله تعالى وبأمر الدين المؤدي إلى الخير الحقيقي".


ـ أما القاضي عياض فيقول: "أما أحواله في أمر الدنيا فقد يعتقد صلى الله عليه وسلم الشيء منها على وجه يظهر خلافه".


ـ وبوب محيي الدين النووي لحديث تأبير النخل في شرحه لصحيح مسلم بقوله: "وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي". ويقول: "قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبرا وإنما كان ظنا كما بينه في هذه الروايات، قالوا: ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش وظنه كغيره، فلا يمتنع وقوع مثل هذا ولا نقص في ذلك".


2 ـ والتمييز بين ما هو ديني وما هو دنيوي كثير في كتابات العلماء المسلمين، ومن ذلك ما أشار إليه العديد من الأصوليين في تعريف الإجماع إلى أنه اتفاق على أمر من أمور الدين.. أو على أمر من الأمور الدينية.. تمييزا له عن الاتفاق في الأمور الدنيوية، ويؤكد سعد الدين التفتازاني بأن "الأحكام إما دينِية، وإما غير دينية"، ومثل لهذه الأخيرة بالاتفاق على أمر طبي مثل أثر مادة مسهلة على الجسم، فإن الاتفاق أو الإجماع على ذلك لا أثر له في الشرع، "أما الأحكام الدينية فإما أن تكون شرعية، أو غير شرعية"، وإذا كان الحكم الشرعي هو "ما لا يدرك لولا خطاب الشارع"، فإن "ما ليس كذلك فإدراكه إما بالحس أو بالعقل". وليس بالإجماع، وعلى الرغم من أن الأصوليين لم يتفقوا كلهم على هذا الأمر، فإن النقاش حول حجية الإجماع في "الأمور الدنيوية" أو الفرق في ذلك بين "الحكم الديني والدنيوي" معروف ومشهور لديهم.


3- ومن الذين ميزوا بوضوح بين مصالح الدين ومصالح الدنيا في كتاباتهم أبو إسحاق الشاطبي، إذ يعرف المصالح الضرورية بـ" أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين" مع تأكيده على أن "المصالح الدينية مقدمة على المصالح الدنيوية على الإطلاق".


ويصنف، تبعا لأصوليين سابقين المقاصد الضرورية إلى حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، حيث جعل الدين في مقابل أمور الدنيا نفسا وعقلا ونسلا ومالا، يقول:" فلو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى، ولو عدم المكلف عدم التدين، ولو عدم العقل لارتفع التدين، ولو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء، ولو عدم المال لم يبق عيش".


ثم يقرر أن "أصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود، كالإيمان والنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج، وما أشبه ذلك، والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضا، كتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات، وما أشبه ذلك، والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس والعقل أيضا، لكن بواسطة العادات".


فاستعمل هنا الدين بمعناه الخاص، مقابل أمور من الدنيا هي العادات والمعاملات، هذا كله يؤكد على أن التمييز بين الدين والدنيا أمر معروف بدون نكير، وهم هنا يعنون المعنى الخاص للدين وإلا فإن حفظ تلك المقاصد بمجموعها تندرج ضمن حفظ الدين بمفهومه العام.



رابعا: الغنى التنظيري لهذا التمييز

وقد استعمل المنظرون المسلمون تعبيرات كثيرة للدلالة على هذا التمييز بين ما هو للدين وما هو للدنيا، ويعكس ذلك ثراء التنظير في الموضوع وتعدد وجهات النظر إليه بتعدد المرجعيات الأصولية والفقهية، ومن ذلك التعبيرات التالية:


1- التعبدي أو العبادي مقابل العادي.


فأفعال المسلم كما يقول أبو إسحاق الشاطبي نوعان: "أن تكون من قبيل التعبدات"، و"أن تكون من قبيل العادات"23. فالتعبدي يحمل معنى الخضوع والقربة، بينما العادي قد يكون طاعة دون أن يكون قربة33. ويميز بينهما الشاطبي بعبارة أكثر تفصيلا، يقول: "كلّ دليل ثبت فيها (أي في نصوص الوحي) مقيدا غير مُطلق وجعِل له قانون وضابط فهو راجع إلى معنى تعبدي، لا يهتدي إليه نظر المكلف لو وكل إلى نظره؛ إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها، فضلا عن كيفياتها، وكذلك في العوارض الطارئة عليها، لأنها من جنسها، وأكثر ما يوجد في الأمور العبادية".


ثم يميز الدليل الراجع إلى معنى تعبدي عن الدليل الراجع إلى معنى معقول بقوله: "كل دليل شرعي ثبت في الناس مطلقا غير مقيّد، ولم يجعل له قانون ولا ضابط مخصوص فهو راجع إلى معنى معقول وُكِل إلى نظر المكلّف، وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى، كالعدل والإحسان والعفو والصبر والشكر في المأمورات، والظلم والفحشاء والمنكر والبغي ونقض العهد في المنهيات".


وبهذا تصبح حياة الإنسان وأفعاله كلها عبادات كما أشرنا إليه سابقا؛ سواء منها "ما تعبد الله به عباده من العبادات المتقرب بها إليه بالأصالة، كالإيمان وتوابعه من قواعد الإسلام وسائر العبادات، أو من العادات الجارية بين العباد التي في التزامها نشر المصالح بإطلاق، وفي مخالفتها نشر المفاسد بإطلاق، وهذا هو المشروع لمصالح العباد ودرء المفاسد عنهم، وهو القسم الدنيوي المعقول المعنى، والأول هو حق الله على العباد في الدنيا، والمشروع لمصالحهم في الآخرة ودرء المفاسد عنهم ".43


وهذا التقسيم للأحكام الشرعية إلى عبادات وعادات مما درج عليه عموم المنظرين في الفقه الإسلامي.


ومن فوائد هذا التمييز في حياة المسلم أن النية شرعت في الأصل لتمييز العبادة عن العادة53. فالشأن التعبدي لا يصح إلا بالنية، بينما العبرة في الشأن العادي بالمصلحة أو المنفعة المترتبة عنه. ومن أمثلة ذلك أن الغسل يمكن أن يتردد بين ما "يفعل قربة إلى الله كالغسل عن الأحداث"، وما يفعل "لأغراض العباد" أي منافعهم ومصالحهم، مثل إذا اغتسل للتبرد أو التنظف أو الاستحمام أو المداواة أو غيرها. يقول العز بن عبد السلام: "فلما تردد بين هذه المقاصد وجب تمييز ما يفعل لرب الأرباب عما يفعل لأغراض العباد"63.


ومن الأمثلة أيضا أن الإمساك عن الأكل والشرب يقع من المسلم تارة حمية وحفظا للصحة وتارة عزوفا لعدم القدرة على الأكل وتارة لأمور أخرى فيحتاج في الصيام الشرعي إلى نية ليتميز بذلك عن ترك الطعام لمقاصد غير عبادية.

2- العبادي مقابل المصلحي:

أما أبو الوليد ابن رشد (ت 595 هـ) فتحدث عن "العبادي" في مقابل "المصلحي"، قال: "والمصالح المعقولة لا يمنع أن تكون أساسا للعبادات المفروضة حيث يكون الشرع لاحظ فيها معنيين: معنى مصلحيّا، ومعنى عباديا، وأعني بالمصلحي ما رجع إلى الأمور المحسوسة، وبالعبادي ما رجع إلى زكاة النفس"37. وفي ربطه المصلحي بالأمور المحسوسة نظر، ولذلك فأدق منه تقسيم العز بن عبد السلام للطاعات إلى معقول المعنى مما ظهرت مصلحته، وغير معقول المعنى، يقول: "المشروعات ضربان: أحدهما: ما ظهر لنا أنه جالب لمصلحة، أو دارئ لمفسدة، أو جالب دارئ، ويعبر عنه بأنه معقول المعنى، الضرب الثاني: ما لم يظهر لنا جلبه لمصلحة أو درؤه لمفسدة، ويعبر عنه بالتعبد، وفي التعبد من الطواعية والإذعان فيما لم تعرف حكمته ولا تعرف علته: ما ليس فيما ظهرت علته وفُهمت حكمته؛ فإن مُلابسه قد يفعله لأجل تحصيل حكمته وفائدته، والمتعبد لا يفعل ما تعبد به إلا إجلالا للرب وانقيادا إلى طاعته، ويجوز أن تتجرد التعبدات عن جلب المصالح ودرء المفاسد ثم يقع الثواب عليها بناء على الطاعة والإذعان من غير جلب مصلحة غير مصلحة الثواب"38.


وهذه التعريفات تتقاطع مع ما سبق من تقسيم إلى تعبدي وعادي.


3- التعبدي مقابل التوصلي:

وهذا التعبير نجده لدى فقهاء المذهب الجعفري (39)، أما التعبدي فهو ما لا يتحقق الامتثال فيه إلا بوجود القصد والوعي ونية التقرّب به إلى اللّه تعالى، مثل الوضوء والصلاة والحج، والتوصلي هو الذي يكفي في امتثاله وإطاعته مجرّد حصوله من المكلّف ولو من غير التفات ووعي، ومن دون قصد التقرب به إلى اللّه تعالى، وذلك مثل وجوب تطهير اليد أو الثوب من النجاسة مقدِّمة للوضوء أو للصلاة، فإنَّه يكفي في امتثال هذا الواجب غسل اليد بالماء فتطهر ويتحقّق به الشرط، وكذلك مثل صلة الرحم وزيارة المريض ودفن الميت وأداء الدين وردّ السلام وغيرهما.

4- المطلوب ديانة مقابل المطلوب قضاء:

فأحكام المعاملات في الفقه الإسلامي ذات اعتبارين اثنين: اعتبار دياني واعتبار قضائي(40). فالقضاء يحاكم العمل أو الحق بحسب الظاهر ووفق البينات التي ثبتت لديه، أما الديانة فإنما تحكم بحسب الحقيقة والواقع، وقد نجد الأمر أو العمل الواحد يختلف حكمه في القضاء عنه في الديانة، والعبرة في تعلق الحقوق أمام الله بالحقائق وإن كان القضاء يجري ضرورة على الظاهر، فإذا حكم القاضي لإنسان بشيء بناء على سبب ظاهر، ولم يكن في الواقع حقا له، بأن كان الشهود كذبة، أو بسبب عدم كفاية الأدلة، أو لغير ذلك من الأسباب التي يعرف المقضي له أنها خلاف الواقع، فإن القضاء -وإن اعتبر نافذا من الوجهة المدنية عملا بالظاهر ضرورة- لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، لأن الحل والحرمة يجب أن يستندا إلى سبب صحيح في نظر الشرع وفقهه41.


والأصل في هذه التفرقة الحديث الصحيح الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار"42.


وبناء على ذلك تختلف وظيفة المفتي عن وظيفة القاضي، يقول مصطفى الزرقا: "فالقاضي يجري على الاعتبار القضائي للأعمال والأحكام، ولا ينظر إلى الاعتبار الدياني، أما المفتي فيبحث عن الواقع وينظر إلى الاعتبارين، فإن اختلف اتجاههما أفتى الإنسان بالاعتبار الدياني". فلا يجوز لأحد أن يأخذ مال الغير بلا سبب شرعي ولو حكم له به قضاء.


وقد تكون هناك أحكام دينية لكن لا يصدر في مثلها حكم قضائي، وذلك مثل الوعد الذي نص العلماء على وجوب الوفاء به ديانة فقط، يقول ابن عبد البر النمري: "إن العدة واجب الوفاء بها وجوب سنة وكرامة" ثم قال: "ولا يقضى به"43. ومن تأثيرات ذلك أن الشخص إذا وعد بشيء ثم توفي فإنه لا يحكم بأخذه من تركته، وإنما قالوا "يجب الوفاء به تحقيقا للصدق وعدم الإخلاف"44.

5- الديني مقابل المباح:


وهذا من أكثر التعابير دلالة على الوعي لدى عدد من العلماء بهذا التمييز، وهم يعنون بالدين هنا ما هو قربة وتشريع، فيؤكدون على ضرورة التفرقة بينه وبين ما ليس "دينا" ولا "تشريعا"، حتى لا يعبد الله بما لم يشرع. يقول ابن تيمية: "وهذا أصل عظيم من أصول الديانات، وهو التفريق بين المباح الذي يفعل لأنه مباح، وبين ما يتخذ دينا وعبادة، وطاعة وقربة واعتقادا ورغبة وعملا، فمن جعل ما ليس مشروعا، ولا هو دين ولا طاعة ولا قربة، جعله دينا وطاعة وقربة، كان ذلك حراما باتفاق المسلمين". 45 وقريب منه قول ابن قتيبة الدينوري: "والسنة إنما تكون في الدين لا في المأكول والمشروب، ولو أن رجلا لم يأكل البطيخ بالرطب دهره وقد أكله رسول الله صلى الله عيه وسلم أو لم يأكل القرع وقد كان يعجب النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقل إنه ترك السنة"46. وهما يعنيان بالدين هنا معناه الخاص، أي ما هو قربة وتعبد.


6- ما هو لمصلحة الآخرة مقابل ما هو لمصلحة الدنيا:


وهذا تعبير دقيق يفيد في وضع معيار للتفرقة بين ما هو ديني بالمعنى الخاص وما هو دنيوي، وقد استعمله العز بن عبد السلام بكثرة في كتابه المعروف "قواعد الأحكام في مصالح الأنام". إن المصالح عنده ثلاثة أنواع أو أضرب: "أَحدها: أُخْرَوِيَّةٌ وَهِيَ مُتَوَقَّعَةُ الْحُصُولِ، إذْ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ بِمَ يُخْتَمُ لَهُ ؟ (...) الضَّرْبُ الثَّانِي: مَصَالِحُ دُنْيَوِيَّةٌ (...)، الضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا يَكُون لَهُ مَصْلَحَتَانِ إحْدَاهُمَا عَاجِلَةٌ وَالْأُخْرَى آجِلَةٌ كَالْكَفَّارَاتِ وَالْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّاتِ، فَإِنَّ مَصَالِحَهَا الْعَاجِلَةَ لِقَابِلِيهَا، وَالْآجِلَةَ لِبَاذِلِيهَا"47.


ومن المهم جدا الوقوف عند تأكيده المتكرر على أن الشرع (أو الدين) هو الذي يحدد مصالح الآخرة، بينما يتكلف الاجتهاد البشري بالتعرف على مصالح الدنيا، يقول: "أما مصالح الآخرة وأسبابها ومفاسدها فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح. وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها، فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته"48.


أما تلميذ العز بن عبد السلام شهاب الدين القرافي فقد أكد على أن التصرفات القضائية تكون "فيما يقع فيه التنازع لمصالح الدنيا"، وذلك احترازا "من مسائل الاجتهاد في العبادات ونحوها، فإن التنازع فيها ليس لمصالح الدنيا بل لمصالح الآخرة، فلا جرم لا يدخلها حكم الحاكم أصلا"49. ولذلك فإن القول بأن هذه الصلاة صحيحة أو باطلة هو من مهمة المفتي ولا شأن للقاضي به، كما أن ما يقع فيه التنازع لمصالح الدنيا يكون الحكم الفصل الواجب التنفيذ فيه للقاضي لا للمفتي، وهو شيء أكد عليه الكثيرون أثناء مناقشتهم للتفاعل الموجود بين الفتاوى والأحكام القضائية وضوابط كل منهما.


هكذا يظهر عمق الوعي بهذا التمييز بين الديني والدنيوي لدى علماء الإسلام عبر التاريخ، ولهذا في رأينا تأثير مباشر على علاقة الديني بالسياسي.



خامسا: تمايز الدين والسياسة

ينبثق الإطار النظري لعلاقة الديني والسياسي من الإطار النظري لعلاقة الديني بالدنيوي، وهو الذي أبرزت الفقرات السابقة أنها علاقة مركبة، لا تتخذ طابعا ولا صيغة واحدة لدى المنظرين المسلمين مند العهد النبوي إلى اليوم، وهذا التنوع نجده أيضا لدى مختلف الشعوب والثقافات، ومختلف المدارس الفكرية والأيديولوجية، وقد أدى التنوع في معاني لفظ "الدين" وعدم أخذ ذلك بعين الاعتبار في كثير من الأحيان إلى الاضطراب وسوء التفاهم بين المدارس المختلفة، فكل يفهم من كلام الآخر خلاف ما يقصد، وخصوصا بسبب الخلط بين مستويي استعمال لفظ الدين، العام والخاص.


وهكذا فإن كثيرين يرون أن العلاقة يجب أن تكون فصلا بين الديني والسياسي، وإقامة السياسة على أسس مدنية محضة، لا وجود فيها لإحالة على "مقدس"، بل يقصى الدين منها إقصاء، إن الشأن الديني عندهم شأن مطلق بينما السياسة شأن نسبي، وهم يبنون رأيهم في الغالب على أن الدين علاقة "روحية" بين العبد وربه، وحقيقته إيمان يستقر في الوجدان والقلوب.


وفي المقابل يجعل كثيرون تلك العلاقة وصلا تاما وترابطا ماهويّا، بجعل العمل السياسي عملا "دينيا" بالمعنى الخاص، انطلاقا من أن الدين الإسلامي دين شامل لا يمكن عزل السياسة عنه.


والظاهر أن أغلب الخلاف ناتج عن عدم ضبط المفاهيم أو المصطلحات، فكثيرون عندما يسمعون عبارة (فصل الدين عن السياسة) يفهمون منها فصل السياسة عن القيم والأخلاق، وتركها فريسة الأهواء وأنواع الدجل والكذب، أو عزلها عن حقائق العدل والمساواة وحب الخير للناس ومراعاة مصالحهم، بينما لا يعني بها آخرون من المدافعين عنها إلا عدم اعتبار القرار السياسي ذا قدسية وقطعية دينية لا تقبل الاختلاف وفي مستوى الوحي الإلهي.


وفي رأينا أن العلاقة الأوفق بين الدين والسياسة في الإسلام ليس هو الفصل القاطع، وليس هو الوصل والدمج التامين، بل هو وصل مع تمييز وتمايز، ونحن هنا نستعمل عبارة شهاب الدين القرافي التي دافع عنها في كتابه: "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام"، بالتمييز بين تصرفات الرسول بوصفه نبيا، وبين تصرفاته بوصفه رئيسا للدولة.


والسبب في ذلك هو أنه لا يمكن إقرار فصل تام بين الدين والسياسة في أي مجتمع من المجتمعات، لأن الدين حاضر لدى الفرد المنتمي إلى المجتمع -سواء كان مسلما أو غير مسلم، متدينا أو غير متدين- حاضر في لا وعيه وفي ثقافته التي تشربها، كما أن الدين -أي دين- يطرح منظومة قيمية ومعيارية ويوجه للأهداف العليا التي يريد أن تسود الحياة وتوجه مسيرة الحضارة، مثل العدل والحرية والمساواة والشفافية والشورى وتكريم الإنسان وغيرها، وما ينتظره الدين من الناس المؤمنين به هو أن تنعكس هذه القيم المعيارية في علاقاتهم الدنيوية وفي عملهم السياسي، وبالتالي فإن الدين حاضر في السياسة كمبادئ موجهة، وروح دافقة دافعة، وقوة للأمة جامعة، لكن الممارسة السياسية مستقلة عن أي سلطة باسم الدين أو سلطة دينية.


إن تبني التمييز بين الدين والسياسة لا الفصل التام ولا الوصل إلى حد التماهي، هو الذي سيمنع من التنكر للإنجازات التي حققتها البشرية في مجال الفكر السياسي، ويمكن من الاستفادة من تطوراته، ويفسح المجال في نفس الوقت ليكون الدين معينا للقيم الأخلاقية والفكرية، بحيث يتم استصحاب هذه القيم في الممارسة السياسية استصحابا يثريها بالمعاني الإنسانية السامية، كما يمكن أن يبقى الدين -كما كان باستمرار طيلة تاريخنا القديم والحديث- محفزا للإصلاح السياسي، ومعالجة الظواهر السلبية في الحياة الإنسانية.



سادسا: مُوجِّهات التمييز بين الدين والسياسة

التمييز بين الدين والسياسة ينبني إسلاميا على جملة موجهات هي: أن "الدين" هو ما كان مطلوبا "لمصالح الآخرة"، أي ما هو مطلق من تعاليم وأحكام في الدين، بينما أحكام السياسة يدخل ضمن ما هو مطلوب "لمصالح الدنيا"، فهي ليست دينا بالمعنى الأول، أي ليست وحيا ولا أحكاما مطلقة، لكنها دين بالمعنى الثاني، أي خاضعة لرؤية الدين العامة للإنسان وللمجتمع، وملتزمة بمبادئه وأخلاقه وإطاره العام. إن مقام رئاسة الدولة (أو الإمامة) إذن مقام دنيوي، يسمي شهاب الدين القرافي ما يصدر عنه من سياسات وإجراءات وقرارات "تصرفات بالإمامة"، وتكون فيما يقع فيه التنازع لمصالح الدنيا احترازا "من مسائل الاجتهاد في العبادات ونحوها، فإن التنازع فيها ليس لمصالح الدنيا بل لمصالح الآخرة، فلا جرم لا يدخلها حكم الحاكم أصلا"، وبالتالي فإن الحكم "الديني المحض" يصدر عن مقام الإفتاء، بينما "القرار السياسي" يصدر عن الجهة المؤهلة، من رئاسة للدولة أو مستويات المسئولية الأخرى فيها.


إن لكل تصرف من التصرفات المختلفة -عند القرافي- مستند مختلف؛ فالفتيا تعتمد الأدلة الشرعية، والقضاء يعتمد الحجاج أو الأدلة المقدمة من قبل المتخاصمين، وتصرف الإمام (أو التصرف السياسي) يعتمد المصلحة الراجحة أو الخالصة في حق الأمة "وهي غير الحجة"، أي غير الدليل الشرعي. وقد وضح ذلك قائلا: "اعلم أن العبادات لا يدخلها الحكم البتة، بل الفتيا فقط، فكل ما وجد فيه من الإخبارات فهي فتيا فقط، فليس لحاكم أن يحكم بأن هذه الصلاة صحيحة أو باطلة، ولا أن هذا الماء دون القلتين، فيكون نجسا، فيحرم على المالكي بعد ذلك استعماله، بل ما يقال في ذلك إنما هو الفتيا إن كانت مذهب السامع عمل بها، وإلا فله تركها، والعمل بمذهبه".50


وهكذا يظهر أن شئون الدين بالمعنى الخاص هو من مهمة "المفتي" أو غيره من المختصين أو المكلفين بالمهام "الدينية"، بينما القرار السياسي هو من مهمة المختصين أو المكلفين بالمختصين أو المكلفين بالمسؤوليات السياسية. ومما يميز الفتيا عن "التصرف" السياسي، أن الفتيا إخبار عن الحكم الشرعي، وهو غير ملزم.


أما التصرف بالإمامة (أو التصرف السياسي) فهو ملزم، ومن هنا ورد القول: "إن الحكم إلزام والفتيا إخبار"،51 ولذلك فإن فتاوى المفتين يمكن أن تختلف، وقد تتعارض، ولا حرج، وللمسلم أن يختار منها انطلاقا من ثقته بمفت معين في دينه أو علمه، أو انطلاقا من اقتناعه بالأدلة التي يستند إليها. بينما "التصرف" السياسي الذي يأتيه المكلف بالمسئوليات السياسية فهو ملزم، لأن السلطة السياسية -بحكم تعريفها نفسه- مفوض لها إلزام مواطنيها بسياساتها وقراراتها التي تهدف من حيث المبدأ إلى حفظ أمن واستقرار المجتمع وتحقيق مصالحه.


إن استيعاب العلاقة الحركية والمتجددة بين الدين والسياسة يؤدي إلى الوعي بالتمايز بينهما دون أن يتطور ذلك إلى تنابذ وتنافر، مما هو مساعد لتأسيس تجربة حضارية جديدة للمجتمعات الإسلامية. ويمكن أن ينتج عن هذا النمط من العلاقة، التي قد تختلف من مجتمع مسلم لآخر، إعادة تأسيس العلاقة بين الدعوي والسياسي داخل الحركة الإسلامية بما يزيد عطاءها الفكري والحضاري وكسبها السياسي والاجتماعي ثراء وتجذرا.



المصادر:

1 ـ ابن تيمية: الإيمان، ص 154

2 ـ ابن تيمية، العبودية، ص 5

3 ـ ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، ص 582

4 ـ ابن تيمية، الإيمان ص 170

5 ـ صحيح مسلم (كتاب الإيمان، الحديث 102) وغيره عن عمر بن الخطاب.

6 ـ ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، ص 31 ـ 32.

7 ـ أخرجه مسلم (كتاب الزكاة، الحديث 2376) عن أبي ذر.

8 ـ البخاري (كتاب الجهاد والسير، الحديث 2767) ومسلم (كتاب الزكاة، الحديث 2382) عن أبي هريرة، واللفظ لمسلم.

9 ـ الموافقات (3/285(

10 ـ الموافقات (1/ 141140(

11 ـ نفسه (1/32(

12 ـ الاعتصام (2/305).

13 ـ السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص 5.

14 ـ صحيح مسلم ( كتاب الفضائل، الحديث رقم 4357(

15 ـ سنن ابن ماجه (انظر: صحيح ابن ماجه للألباني، 2/64(

16 ـ مسند أحمد (الحديث 21506)، وانظر الأحاديث الصحيحة للألباني (5/265(

17 ـ رواه مسلم (الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حدبث رقم 2720)

18 ـ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

19 ـ ابن تيمية: قاعدة جليلة في التوسل الوسيلة، ص 41

32 ـ الاعتصام (1/79(

33 ـ الزركشي: منثور القواعد (2/367)

34 ـ الشاطبي. الموافقات. 2/164.

35 ـ العز بن عبد السلام: قواعد الأحكام (1/207)، الزركشي: المنثور في القواعد (3/290)، الحافظ العلائي: المجموع المذهب في قواعد المذهب (1/260)

36 ـ العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام (1/207(

37 ـ بداية المجتهد (1/17(

38 ـ العز ابن عبد السلام: قواعد الأحكام ، ص19

39 ـ انظر مثلا: آية الله جعفر السبحاني الموجز في أصول الفقه. وانظر مثلا: محمد جواد مغنية: أصول الفقه في ثوبه الجديد، ص 60 ـ 64.

40 ـ مصطفى أحمد الزرقا: المدخل الفقهي العام (1/58(

41 ـ نفسه (1/57(

42 ـ رواه البخاري في كتب (المظالم ـ الشهادات ـ الحيل ـ الأحكام ـ القضاء) ومسلم في كتاب الأقضية، وأبو داود في كتاب الأقضية، والنسائي في كتاب آداب القضاة، الترمذي في كتاب أبواب الأحكام، وابن ماجه في كتاب الأحكام، ومالك في الموطأ كتاب الأقضية، والحاكم في المستدرك كتاب الأحكام، وأحمد في المسند وغيرهم ب

43 ـ التمهيد: 3/207

44 ـ فتح الباري: 5/290

45 ـ الفتاوى (31/38(

46 ـ تأويل مختلف الحديث، ص 48

47 ـ قواعد الأحكام (1/43(

48 ـ قواعد الأحكام (1/10(

49 ـ القرافي: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، ص 35.

50 ـ القرافي: الفروق 4/48

51 ـ القرافي: الإحكام، ص 13

  • بقلم - د. سعد الدين العثماني الأمين العام لحزب العدالة والتنمية في المغرب.