"الأمل".. في فكر الإمام البنا

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
"الأمل".. في فكر البنا


الاثنين,06 إبريل 2015

كفر الشيخ اون لاين | خاص

د. محمد علي عطا

مقدمة

الشهيد حسن البنا

"الأمل" في فكر البنا لا يستحقّ إفراده ببحث. كنت أعتقد هذا، ولكنّي كلّما قرأتُ شيئًا من فكره، وجدت تحت كلّ كلمة: تاريخًا، وتجربة، وأملاً، وإيمانًا، وتخطيطًا، وعزمًا، وعملاً، وتضحية، وأيقنتُ أنّ الأمل هو فسطاط بنائه، فراق لي تتبّع سيرة الأمل في بنائه الفكريّ بدقّة، ليس عبثًا، بل لأنّنا نحتاج إلى هذا الدّعم الرّوحيّ في بناء مصر بعد الثّورة، فبدونه لن يسعى ساعٍ على قدم، ولن تجد دم شهيد يبتسم.

وبالاقتراب من مساحة الأمل في بنائه، تبيّن لي أنّها مساحة عريضة، تغطي بناءه كله؛ أساسه ورأسه، داخله وخارجه، شُرفه وجدرانه، هواءه وشمسه، ودلفتُ إلى آماله مراعيًا تعريف الأمل، والتّفريق بينه وبين الثّقة، ومبيّنًا البيئة التي خرج البنا وسطها بشعلة الأمل، ثم تحدّثت عن أهمّية الأمل عنه، وعن التّحوّلات التي حدثت للأمل؛ فقد تحوّل داعية الأمل إلى أمل، وتحوّلت الدّعوة العاملة على تحقيق الأمل إلى أمل، وعن روافد فكرة الأمل لديه، وعن ملاحظة لاحظتها أثناء تتبّعي للأمل عنده.

أولاً: تعريف الأمل

الأَمَلُ لغة:

"هو تَوقُّعُ حُصُولِ الشّيء، وأكثرُ ما يُستَعْمَلُ فيما يُستَبعَدُ حصولُه، فمَن عَزَم علَى سَفَرٍ إلى بَلَدٍ بَعِيدٍ يقول: أمّلْتُ، ولا يقول: طَمِعْتُ، إلاَّ إن قَرُب مِنها، فإنّ الطَّمَع ليس إلاَّ في القَرِيب".(1)

والأمل عُرْفًا:

"تَعَلُّقُ القَلْب بحُصولِ مَحْبوبٍ مُستَقْبَلاً. وهو ظَنٌّ يَقْتَضِي حُصولَ ما فيه مَسَرَّةٌ. والأمل رجاء يستمرّ، فلأجل هذا قيل للنّظر في الشّيء إذا استمرّ وطال تأمّل، وأصله من الأميل وهو الرّمل المستطيل".(2)

والثّقة: الواو والثَّاء والقاف كلمة تدلُّ على عقد وإحكام. ووثَّقْتُ الشَّيءَ: أَحْكَمْتُهُ. والميثاق: العهد المحكم.(3)

وأصله تقييد الشيء بالحبال، فهو في حكم ما قبضت عليه في يدك، وصار واقعًا وحقيقة لك.

ثانيًا:البيئة التي بعث فيها البنَّا الأمل

إنّك لتعجب أن يحمل البنا شعلة الأمل وسط أمم شرقيّة أدواؤها متشعبّة النّواحي، وهو نفسه الذي شخَّص حالها وذكر عللها في أكثر من موضع من رسائله، فذكر أنّها مريضة سياسيًّا واقتصاديًّا وفكريًّا واجتماعيًّا ونفسانيًّا.

فهي"مريضة بالاستعمار، والحزبيّة، والرّبا، والشّركات الأجنبيّة، والإلحاد، والإباحيّة، وفوضى التّعليم والتّشريع، واليأس، والشّحّ، والخنوثة، والجبن، والإعجاب بالخصم إعجابًا يدعو إلى تقليده في كلّ ما صدر عنه، وبخاصة في سيّئات أعماله، إن داء واحدًا من هذه الأدواء يكفي لقتل أمم متظاهرة، فكيف وقد تفشّت جميعًا في كلّ أمّة على حدة!".(4)

وغير هذا من الأمراض التي فتكت بالشّعب المصريّ، من فقر وجهل وجوع، والفساد السّياسيّ، ولم يمنعه ذلك كلّه من حمل مشعل الأمل، وخرج من بين ركام اليأس هذا قائلاً بكلّ ثقة: هدفنا أستاذيّة العالم.

ثالثًا: أسباب أمله

حين أمِلَ البنا وحدّد هذا الهدف لم يكن هائمًا في أوهام، أو مدّعيًا قولاً على غير أساس، بل كانت له مسبّباته المقنعة، ومنها أنّه:

  1. قرأ وعد الله الدّائم بالنّصر، وفَقِهَه على وجهه، وعلم مَن المخاطب به. فمن الآيات التي كان كثيرًا ما يستشهد بها في مواطن الحديث عن الأمل:(كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ). (المجادلة:21)، (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).(يوسف:110)، (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص:5-6)، وغيرها من الآيات.وخرج من كلّ ذلك بأنّه قد: "أمدّ القرآن أممه بهذا الشّعور بأسلوب يخرج من الأمّة الميتة أمّة كلّها حياة وهمّة وأمل وعزم، وحسبك أنّه يجعل اليأس سبيلاً إلى الكفر، والقنوط من مظاهر الضّلال، وإنّ أضعف الأمم إذا سمعت قوله تعالى: (ونريد أن نمنّ على الذين استُضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة) ... إن أضعف الأمم إذا سمعت هذا التّبشير كلّه، وقرأت ما إليه من قصص تطبيقيّة واقعيّة، لابدّ أن تخرج بعد ذلك أقوى الأمم إيمانًا وأرواحًا، ولابدّ أن ترى في هذا الأمل ما يدفعها إلى اقتحام المصاعب مهما اشتدّت، ومقارعة الحوادث مهما عظمت، حتى تظفر بما تصبو إليه من كمال".(5)
  2. فطن إلى أنّ اليأس ليس من أخلاق المسلمين. فقال: "لا تيأسوا فليس اليأس من أخلاق المسلمين".(6) وشخَّص اليأس مرضًا من أمراض الأمّة.(7)
  3. من خلال دراسة تجارب التّاريخ وسنن الله في خلقه، تفطن إلى أنّ: "حقائق اليوم أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد"، وإلى أنّ: "الضّعيف لا يظلّ ضعيفًا طوال حياته، والقويّ لا تدوم قوَّته أبد الآبدين: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ). (القصص:5)" .(8)
  4. تفطن أيضًا إلى أنّ الدّور على الفئة المؤمنة لقيادة العالم، فقال: "الدّور عليكم في قيادة الأمم وسيادة الشّعوب"(9)؛ لأنّ هذه هي سنّة الله التي وعد بها: (وتلك الأيّام نداولها بين النّاس".(10)
  5. رأى أنّه لم يضع الوقت بعد، وأنّه: "لا يزال في الوقت متّسع"(11)؛ لاستدراك ما فات، وإصلاح ما فسد، وأنّ "الفرص ستسنح للأعمال العظيمة". (12)
  6. رأى أنّه على الرّغم من مظاهر الموت التّامّ والاستحالة المستغرقة "لا تزال عناصر السّلامة قويّة عظيمة في نفوس شعوبكم المؤمنة، على الرّغم من طغيان مظاهر الفساد"(13)، وأنّ المظاهر الدّالة على بداية شفاء الأمّة وتحوّلها من الثّبات إلى الحركة متوافرة، منها كثرة الأصوات الدّاعية للنّهوض، والإحساس العام بالتّدهور الحضاريّ.(14)
  7. ورأى أنّ الدّعوة الإسلاميّة صارت حاجة بشريّة، وضرورة حضاريّة، وأنّ العالم في أمسِّ الحاجة لهذه الدّعوة، فإنّ: "العالم ينظر دعوتكم دعوة الهداية والفوز والسلام لتخلّصه مما هو فيه من آلام".(15)

رابعًا: أهمّية الأمل في بناء البنا

شغل الأمل كبيرة لدى البنا، حيث:

  1. جعله أول أساس لقيام أيّ دولة أو نهضة: ففي رسالة "نحو النور" جعل الأمل من أساسات قيام أي دولة، بل جعله أوّل الأساسات، فقال معدّدًا متطلّبات النّهضة، تحت عنوان: "(أ) الإسلام والأمل"(16):"تحتاج الأمّة النّاهضة إلى الأمل الواسع الفسيح، وقد أمدّ القرآن أممه بهذا الشّعور بأسلوب يخرج من الأمّة الميّتة أمّة كلّها حياة وهمّة وأمل وعزم، وحسبك أنّه يجعل اليأس سبيلاً إلى الكفر، والقنوط من مظاهر الضّلال... ".
  2. قدّم الأمل على العمل، وجعله تاليًا لتشخيص الدّاء؛ ففي رسالة "دعوتنا"، كتب تحت عنوان فرعي "أمل وشعور" جاء مباشرة بعد رحلته التّشخيصيّة لأدواء مصر والأمم الشّرقيّة، وقبل أن يتحدّث عن وسائله المقترحة ومناهجه لمعالجة هذه الأدواء(17):"أحبّ أن تعلم يا أخي قبل أن أتحدّث لك عن هذه الوسيلة أنّنا لسنا يائسين من أنفسنا، وأنّنا نأمل خيرًا كثيرًا، ونعتقد أنّه لا يحول بيننا وبين النّجاح إلاّ هذا اليأس، فإذا قوي الأمل في نفوسنا فسنصل إلى خير كثير إن شاء الله تعالى؛ لهذا نحن لسنا يائسين، ولا يتطرّق اليأس إلى قلوبنا والحمد لله. وكلّ ما حولنا يبشِّر بالأمل، على الرّغم من تشاؤم المتشائمين...لهذا لسنا يائسين أبدًا...لم ييأس الإخوان المسلمون من أن ينزل نصر الله على هذه الأمم، على الرّغم ممّا يبدو أمامها من عقبات، وعلى ضوء هذا الأمل يعملون عمل الآمل المجدّ والله المستعان".فهذا النّص يوضح أهمّية الأمل لديه وإصراره على بثّ هذا الأمل في النّفوس بالتمثيل تارة وبالاستشهاد تارة، وحرصه على ترسيخه في النّفوس؛ لأنّه أساس نجاح الوسائل التي سيذكرها بعد.
  3. كان يرى أنّ الأمل من وسائل النّصر، حيث قال(18): "وبالإيمان والجهاد والأمل والعمل ننتصر ونصل إن شاء الله".
  4. كان يرى أنّ الأمل سلاح؛ فقد قال متحدّثًا عن وسائل تحقيق المطالب وأخذ الحقوق، وكان منها الحقّ والإيمان والأمل(19): "والأمل بعد ذلك سلاح ثالث، فنحن لا نيأس، ولا نتعجّل، ولا نسبق الحوادث، ولا يضعف من همّتنا طول الجهاد والحمد لله ربّ العالمين؛ لأنّنا نعلم أنّنا مثابون متى حسنت النّية وخلصت الضّمائر وهي خالصة بحمد الله، فكلّ يوم يمضي بنا فيه ثواب جديد، والنّصر من وراء ذلك لا يتخلّف (كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ). (المجادلة:21)، (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ). (يوسف:110)، ففيم اليأس و فيم القنوط؟! لن يجد اليأس إلى قلوبنا سبيلاً بإذن الله (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ). (يوسف:87). وسنعمل على ضوء هذه المشاعر، وسنعمل بالحقّ يدفعنا الإيمان، ويحدونا الأمل".فهذا النّصّ بدأه بكلمة الأمل؛ وأنّها السّلاح الثّالث، وختمه أيضًا بكلمة الأمل.
  5. يعتبر أنّ الأمل الواحد من عوامل الوحدة بين شُعب الإخوان المسلمين، حيث قال(20): "واذكروا جيّدًا أيّها الإخوان.. أنّ كلّ شعبة من شعبكم وحدة متّصلة الرّوح مؤتلفة القلوب، جمعتها الغاية السّامية على هدف واحد، وألم واحد، وأمل واحد، وجهاد واحد".
  6. ويعتبره أيضًا من وسائل الوحدة الجامعة بين المسلمين فقال في "رسالة قضيّتنا" عن إسهامات الجماعة في تحقيق الوحدة بين المسلمين(21): "وشاركت الباكستان في شعورها وأملها وألمها حتى ظهرت إلى الوجود". فالذي يجمع بين مصر في إفريقية، وباكستان في أقصى آسيا المشاركة في الأمل، والألم، والشّعور.
  7. ويرى أنّ الأمل من أهمّ خصائص دعوة الإخوان، حيث ذكر في "رسالة اجتماع رؤساء المناطق ومراكز الجهاد" أهمّ ما تختلف فيه حركة الإخوان عن النّاس، فقال (22): "فلقد أراد الله ...وأنْ تأملوا حين تغشّت النّاس سحابة اليأس، وأن تتجمّعوا وقد تشقّقت العصا، واختلف أمر الهيئات والأحزاب، أن يلتفّ النّاس حولكم، وتنتهي الثّقة إليكم، ويحفّ الأمل بكم حين فقد النّاس أملهم وثقتهم، وكاد كلّ واحد يشكّ حتى في نفسه".

وانطلاقًا من هذه الأهمّية للأمل مارسه عمليًّا فأمل في بعث مجد الإسلام، حيث قال في "رسالة المؤتمر السادس"(23): "ولنا بعد ذلك آمال جسام في إحياء مجد الإسلام وعظمة الإسلام، يراها النّاس بعيدة ونراها قريبة: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم:60)".

وجزم بعدم اليأس أبدًا، حيث قال في "رسالة التعاليم" بعد أن ذكر المراحل السّبعة(24): "يراها النّاس خيالاً ويراها الأخ المسلم حقيقة، ولن نيأس أبدًا، ولنا في الله أعظم الأمل (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النّاس لا يَعْلَمُونَ). (يوسف:21) .

خامسًا: تحوّلات الأمل في بنائه

ما زال البنا يبثّ الأمل في استعادة مجد الإسلام، حتى تحوّل هو؛ داعية الأمل، إلى أمل في عين تلامذته وفي عين المنصفين، ثم لما كوَّن جماعته واشتدّ عودها تحوّلت في عينيه، وفي عين الغيورين، وفي عين العاملين فيها إلى أمل.

الدّاعية الأمل

تحوّل البنا إلى أمل في عيون تلامذته، وفي عيون المنصفين من مثقّفي الغرب وإعلامييه؛ أمّا تلامذته فقد قال عبد البديع صقر تحت عنوان سعة أمله(25): "وكان واسع الأمل – أو قلْ – واسع الخيال، وهي صفة لابدّ منها لكلّ مصلح" – وأحيانًا يستفتح الحديث بقوله: "دعونا نتخيّل وجود شعب مؤمن فاهم، يحقّق كذا وكذا". ومن كلماته السائرة: "حقائق اليوم أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد".

وعلى المستوى الشّخصي أرى هذا الأمل كلّما نظرت إلى صورة من صوره؛ فأوّل ما تركّز عليه عيناي في صورته هو عيناه، فأجد فيها شعاعًا حيًّا بضًّا، يخرج من بريق عينيه، يعطيك أملاً غريبًا، وطمأنينة عجيبة.

ولعلّ هذا البريق هو نفسه الذي لمحه الصّحفي (روبرت جاكسون) مراسل صحيفة (نيويورك بوست) الأمريكيّة، فجعله يعنون لحواره مع البنا في 13 فبراير سنة 1946م بالعنوان التّالي: "حسن البنا ... أمل الشّرق في صراعه مع المستعمر".(26)

الدّعوة الأمل

ما زال البنا يتحدّث عن الأمل ويبني الجماعة التي ستحقّق الأمل، حتى تحوّل الإخوان أنفسهم في نظره وفي نظر العاملين في الدّعوة وفي نظر الغيورين إلى أمل؛ ظهر هذا من صديق غيور طلب منه أن يبتعد بالجماعة عن السياسة، خوفًا عليها؛ لأنّها أصبحت أملاً للغيورين، فقال له(27):" أليس الأروح للإخوان...تدع النّاحية القوميّة أو الوطنيّة أو السّياسيّة بعبارة أخرى لسواها من الهيئات؛ حتى لا يتعرّض للعواصف القاسية هذا البناء العالي الذي أصبح للغيورين أملاً، وفي تاريخ هذه النهضة عملاً؟".

وأوضح في "رسالة اجتماع رؤساء المناطق ومراكز الجهاد" أنّ النّاس قد التفّت حول الإخوان، وأنّ ثقتهم وأملهم انتهى إليهم، فقال(28): "فلقد أراد الله ...أن يلتفّ النّاس حولكم وتنتهي الثّقة إليكم ويحفّ الأمل بكم حين فقد النّاس أملهم وثقتهم، وكاد كلّ واحد يشكّ حتى في نفسه".

وحثّ على العناية بتحقيق أهداف الأسرة على وجهها؛ حتى يتحقّق النّظام وحتى لا تموت الدّعوة؛ ففي موتها خسارة كبيرة؛ لأنّها أمل الإسلام والمسلمين، فقال في رسالة نظام الأسر حاثًّا على العناية بتحقيق أركان الأسرة(29):

"فإذا أدّيتم هذه الواجبات الفرديّة والاجتماعيّة والماليّة، فإنّ هذا النّظام سيتحقّق ولا شكّ، وإذا قصَّرتم فيها فسيتضاءل حتى يموت، وفي موته أكبر خسارة لهذه الدّعوة، وهي اليوم أمل الإسلام والمسلمين".

وقد أصبحت الدّعوة أيضًا أمل الآمال ليس للمسلمين، وليس للغيورين، ولكن أيضًا للعاملين فيها، ولأصحابها، فقال في رسالة المؤتمر الخامس(30): "ثم لا تلبث أن تستولي(أي الدّعوة) على هذه القلوب، وتستغرق شعورها وتفكيرها، وتصبح للرّجل أمل الآمال، وغاية الغايات، فيدعو ويضحّي ويبذل".

وقال في "اجتماع رؤساء المناطق ومراكز الجهاد" متحدّثًا عن موقف الإخوان من قرارات الشّؤون الاجتماعيّة وقتها، التي طلبت من الإخوان تكييف وضعهم مع شروطها(31):"...وألاّ نضع أنفسنا ودعوتنا التي وقفنا لها الدّم والمال والحياة والأبناء وهي عندنا أمل الآمال في موضع يغلّ يدها ويحول بينها وبين العمل لتحقيق أغراضها والوصول إلى أهدافها".

ووضح ترسّخ الأمل في نفس البنا حينما حُلَّت جماعته، وصودرت أموالها، وسجن رجالها، وشرّدت أسرها، وبقي وحيدًا يدافع عن قضيّتها، يعتصره الألم، لا لشخصه، ولا لأنّه هو الذي بناها، وحُقّ له ذلك، ولكن لأنّه يراها : "فلذة كبد هذا الوطن، وخيرة شبابه ورجاله، والجزء الشّاعر الواعي في هذا الجسم الخامل المريض".(32)

وعلى الرّغم من هذه المرارة يقول(33):

"وفوجئت الأمّة بهذا القرار الخطير ـ قرار حلّ الإخوان ـ الذي خسرت به البلد ـ إلى حين ـ هيئة من أنشط الهيئات العاملة لخيرها".

انظرْ إلى الجملة الاعتراضيّة "إلى حين"، التي تحمل أملاً يصرّ عليه، ومات رحمه الله وبناؤه مسجون مشرّد مصادر، ولم ير هذا "الحين" وقد انتهى، ولم ير هيئته وقد ملأت فم الزّمان تبسّمًا وثناءً.

سادسًا: روافد الأمل عند البنا

صرّح البنا ببعض روافد فكرة الأمل لديه، وبعضها يُستشفّ من بنائه استشفافًا:

(1) فأوّل هذه الرّوافد التي استقى منها الأمل هو القرآن الكريم، فقد كان كثيرًا ما يستشهد في مواطن حديثه عن الأمل بالآيات التالية:

  1. (إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). (لأعراف:128).
  2. (أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ). (الأنبياء:105).
  3. (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ). (الحج:40).
  4. (كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ). (المجادلة:21).
  5. (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النّاس لا يَعْلَمُونَ). (يوسف:21).
  6. (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا). (الأنفال:12).
  7. (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ). (الروم:47).
  8. (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ). (القصص:5).وبغيرها من الآيات(34).

(2.) وثاني هذه الرّوافد هو الحديث الشّريف، وقد جاء تصريحه بهذا الرّافد عرَضًا، حيث قال(35):

"لهذا لسنا يائسين أبدًا، وآيات الله تبارك وتعالى وأحاديث رسوله -صلّى الله عليه وسلّم- وسنّته تعالى في تربية الأمم وإنهاض الشّعوب بعد أن تشرّف على الفناء، وما قصّه علينا في كتابه، كلّ ذلك ينادينا بالأمل الواسع، ويرشدنا إلى طريق النّهوض، ولقد علم المسلون – لو يتعلمون –".

ولكنّي لم أره ذكر حديثًا واحدًا في معرض حديثه عن الأمل ـ في حدود طبعة الرّسائل التي اعتمدت عليهاـ؛ ربّما لأنّ كثرة آيات القرآن التي تتحدّث عن الأمل كافية في نظره.

(3.) سنن الله في تربية الأمم وإنهاض الشّعوب بعد أن تشرف على الفناء، كما قال في النّصّ السّابق.

(4.) تجارب التّاريخ والسّير فقد قال:

"إنّ أضعف الأمم إذا سمعت هذا التّبشير كلّه، وقرأت ما إليه من قصص تطبيقيّة واقعيّة، لابدّ أن تخرج بعد ذلك أقوى الأمم إيمانًا وأرواحًا...".(36)


(5.) وهناك مصدر لم يصرّح به، ولكنّي سألتُ نفسي: إنّ آيات الأمل التي يعرضها البنا كانت معروفة لدى من له أدنى صلة بالقرآن وهم كثر، ولم تشكّل هاجسًا قويًّا داخلهم كما فعلت مع البنا، ولم يرتّبها أحدهم في درجات الأهمّية التي رتّبها بها البنا، فما الذي فتح له هذا الأفق من الأمل، وبيَّن له درجته في بناء الأمم؟

ووجدت الإجابة في قوله(37):

"فقامت النّازيّة في ألمانيا والفاشيّة في إيطاليا، وأخذ كلٌّ من موسوليني وهتلر بيد شعبه إلى الوحدة والنّظام والنّهوض والقوّة والمجد، وسرعان ما خطا هذا النّظام بهاتين الأمّتين في مدارج الصّلاح في الدّاخل والقوّة والهيبة في الخارج، وبعث في النّفوس الآمال الخالدة، وأحيا الهمم والعزائم الرّاكدة، وجمع كلمة المختلفين المتفرّقين على نظام وإمام، وأصبح الفوهرر أو الدوتشي إذا تكلّم أحدهما أو خطب تفزّعت الأفلاك والتفت الدّهر".

فربّما كان الرّجل ـ وهو البارع في أخذ الصّالح النّافع من كلّ شيء ـ قد تفتّحت لديه أهمّية الأمل من استخدام هذه الأمم له في بناء نهضتها، فعاد إلى ما يحمله من القرآن ليرى هل هذا من الإسلام، فوجده أكمل وأروع ممّا عندهم، ومن هنا جاءت مرتبته عنده في الأهمّية، وفي بناء النّهضات، وهذا احتمال لا أدّعي تأكيده.

سابعًا: ملاحظة على أمل البنا

لاحظتُ أنّ البنا ـ رحمه الله ـ خلط في الاصطلاح بين الأمل والثّقة، واستخدم كلمة أمل فيما هو ثقة لا أمل، وهذا ما دفعني إلى أن أفرِّق في بداية حديثي بين الأمل والثّقة؛ حيث قال في رسالة "دعوتنا في طور جديد"(38):

"وبهذه المشاعر الثّلاثة: الإيمان بعظمة الرّسالة، والاعتزاز باعتناقها، والأمل في تأييد الله إيّاها، أحياها الرّاعي الأوّل –صلّى الله عليه وسلّم- في قلوب المؤمنين من صحابته بإذن الله".

وقال بعدها بقليل:

"أيّها النّاس، قبل أن نتحدّث إليكم في هذه الدّعوة عن الصّلاة والصّوم، وعن القضاء والحكم، وعن العادات والعبادات، وعن النّظم وعن المعاملات، نتحدّث إليكم عن القلب الحيّ، والرّوح الحيّ، والنّفس الشّاعرة، والوجدان اليقظ، والإيمان العميق، بهذه الأركان الثّلاثة: الإيمان بعظمة الرّسالة، والاعتزاز باعتناقها، والأمل في تأييد الله إيّاها، فهل أنتم مؤمنون؟".

فتأييد الله ليس أملاً كما قال ـ رحمه الله ـ بل ثقة؛ ولي ثلاثة أدلّة على هذا:

  1. قوله قبل هذين الموضعين في الصّفحة نفسها: "وقذف في قلوبهم أنّهم ما داموا كذلك مؤمنين بهذا الحقّ، معتزّين بانتسابهم إليه، فإنّ الله معهم يعينهم ويرشدهم وينصرهم ويؤيّدهم ويمدّهم إذا تخلّى عنهم النّاس، ويدفع عنهم إذا أعوزهم النّصير، وهو معهم أينما كانوا. وإذا لم ينهض معهم جند الأرض تنزّل عليهم المدد من جند السّماء، وأخذوا يقرؤون هذه المعاني السّامية واضحة في كتاب الله ...قرؤوا هذا وفقهوه جيّدًا، فآمنوا به، واعتقدوه وصدروا عنه".فهذه عقيدة وثقة يقينيّة وليست مجرّد أمل؛ فالأمل من الممكن أن يخيب، أمّا الثّقة فيما وعد الله به فهو يقين محقّق لا محالة، ولا يمكن أن يتخلّف بحال من الأحوال.
  2. أنّه عبَّر في مواضع كثيرة عن تأييد الله بالثّقة، وليس بالأمل؛ فقال في "رسالة دعوتنا"(39) متحدّثًا عن العاملين المؤمنين: "واثقون بتأييد الله إيّاهم ما داموا له يعملون، وعلى هدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسيرون".وقال في "رسالة الإخوان تحت راية القرآن"(40): "ونحن بعد هذا كلّه واثقون بنصر الله مطمئنّون إلى تأييده".
  3. أنّ اللغة تستعمل الأمل فيما يصعب حدوثه، كما أبنْتُ في أوّل حديثي، وأمّا الثّقة فتُستخدم في اليقينيّ، ووعد الله يقينيّ.

مواد متعلقة

الشيخ محمد مصطفى المراغي

في ضيافة الاستاذ سيد قطب

من الإخوان المسلمين إلى شعب مصر

وفاة المستشار فتحي لاشين من الرعيل الأول للإخوان عن عمر 83 عاماً

من صفات المسلمين بقلم الإمام الشهيد حسن البنا

المصدر