"أنَا زعيمُ بيتٍ في ربَض الجنَّة لمَن ترَك المراءَ وهوَ مُحِقٌّ"

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
"أنَا زعيمُ بيتٍ في ربَض الجنَّة لمَن ترَك المراءَ وهوَ مُحِقٌّ"

بقلم الأستاذ/ جمعة أمين عبدالعزيز

الأستاذ جمعة أمين

إن من مسئولية أي حزب أو جماعة ومن واجبها أن توفر الطمأنينة التي تزكو بها النفوس، والثقة التي تتفتح بها أبواب العطاء والإبداع، والمشاركة التي تنمو بها باحترام ومودة، وطمأنينة وسماحة، وأمن وثقة، واهتمام وعدالة دون خوف أو قهر أو استبداد، ودون قيد على حرية المشاركة ببصيرة واعية وفكر متفتح، وبذلك تصبح الشورى من مناهج الحياة، وهذا هو مسلك الإسلام في مشروعه الحضاري.

إن من الأهمية بمكان أن تصبح حقائق الإسلام ومقاصده قناعات راسخة، ومسلَّمات واثقة، نضجت في مسالك الحوار البناء، والمجادلة بالتي هي أحسن وبسْط أسباب الشورى باحترام يسود الجميع.. المتفقين والمختلفين؛ لأن الجميع يسعى لرضا الله أولاً ثم لصالح المجتمع بكل فئاته ثانيًا، فهو مجتمع لا يعرف البذاءة ولا السبّ ولا السخرية ولا طول لسان؛ لأن هذا مخرجٌ صاحبه عن الموضوعية في النقاش حتى ولو كان مع أشد الأعداء، فالمولى يقول: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (الممتحنة:7)، ومن هنا فإننا لا نقول إلا حسنًا.

ولذا كان الجدال العقيم لا قيمة له ولا فائدة منه؛ لأن صاحبه لا يقصد منه الوصول إلى الحقيقة والصواب، ولكن يقصد به الانتصار لذات نفسه أو تضليل غيره أو تسفيهه أو الجحود والنكران دون دليل ولا برهان، ومن هنا نهى الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن هذا النوع من الجدال فقال- صلى الله عليه وسلم-: "أنا زعيم بيت في ربض الجنة وأعلاها لمن ترك المراء وهو محقٌّ" أخرجه النسائي.

إن النقاش والحوار مع إنسان آمَن بدعوتنا وصدَّق قولنا، وأُعجب بمبادئنا، ورأى فيها خيرًا اطمأنت إليه نفسه وسكن له فؤاده، فهو يريد الإفادة والاستفادة، فمن الطبيعي- إنْ طلب الحوار- أن تجيبه وتحاوره، وتبين له ما غُمَّ عليه فهمًا فيزداد إيمانًا، ونبذل معه الجهد والوقت ولا نملُّ من تساؤلاته واستفساراته وانتقاداته وشبهاته.

وهنا يتساءل هل يستوي هذا مع المتحامل الذي ساء فينا ظنه، وأحاطت بنا شكوكه وريبه، فهو لا يرانا إلا بالمنظار الأسود القاتم كالذي لا يعرف عن الإسلام إلا فترات الفتن التي مرت به، فلا يتكلم عن صدق "أبي بكر" أو عدل "عمر" وشجاعة "علي"، إنما لا يعرف من الإسلام إلا الفتنة في عهد "عثمان"- رضي الله عنه-، وموقعة الجمل، ويمر بك بالخلافات التي أضعفت المسلمين حتى طمع فيهم الأعداء بحب الدنيا وكراهية الموت، ويقول لك ليس بعد الرسول- صلى الله عليه وسلم- لا خلافه راشدة ولا دولة قائمة؛ لذلك فلا يتحدث عنا بهذا المنطلق إلا بلسان المتشكك، ويأبى إلا أن يلجّ في غروره، ويستمر في شكوكه ويظل مع أوهامه وجحوده، فلا يعرف عنّا إلا الشريط المكرور إياه، ولا يردد إلا الكلام الممجوج عن قتل "النقراشي" و"الخازندار" و(الجهاز السري)، حتى ولو بيّن مرشد الجماعة وقتها وبعدها خطأ من ارتكبه من الأفراد، واستنكرت الجماعة عملهم الذي أساء، فهو لا يذكر هذا التصحيح والتصويب، ويستمر في نظرته السوداء، فلا يرى تاريخَ جهاد مشرّف للجماعة، ولا محافظة لها على الشخصية والحيلولة ولا شيء بالمرة قامت به من صلاح أو إصلاح، فتاريخها- عنده- تاريخ قتل وسفك دماء، ويد ممدودة للملك والاستعمار!!

فهل مع مثل هؤلاء يجدي الحوار أم أنه يصير جدلاً نُهينا عنه؟

فإن أمسكنا اللسان عفةً وانصياعًا لتوجيه الحبيب المصطفى- صلى الله عليه وسلم-، وتركْنا هذا المراء والجدل ونحن على حق وصمتنا، قالوا لماذا لا تتكلمون؟ ولماذا لا تعلنون الأخطاء؟ ولماذا أنتم صامتون؟ فلا هم راضون إذا تحدثنا أو إذا صمتنا؟، مثل صاحبنا هذا ندعو الله لنا وله أن يريَنا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويريَنا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يلهمَنا وإياه رشدنا، ولن نكلّ أو نملّ في أن نبين له دعوتنا دون الدخول معه في جدال لا ينفع أو حوار لا يفيد، ونناديْه- إن أجاب النداء-، ونذكره بقول ربنا: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (القصص:56)، وشعارنا قول ربنا: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ (البقرة: من الآية83).

هذا الصنف لا يصرف جهده في هداية الناس وإصلاح المجتمع، بل في محاولة صرف مُحبٍّ لنا أو مقتنع بنا، فيُلقي على مسامعه بالشبهات والشكوك، يضخِّم الهفوات، ويعظم الهنّات؛ ليصرف الناس عن طريقنا، فهذا الذي يشغله، وهذا الذي يُنفق في سبيله الغالي والثمين، جحودًا ونُكرًا، وصدق الله القائل ﴿فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ (الأنعام: من الآية33).

يذكّرنا هذا بقصة قصَّها علينا الشهيد "سيد قطب" حين كان يعيش في أمريكا يقول: "ركبْتُ القطار يومًا وجلستْ بجواري امرأتان أمريكيتان تبادلا الحديث، فسألت الأولى أختها إلى أين أنتِ ذاهبة؟ قالت: إلى محاضرة سألقيها عن سبب تحريم محمد- صلى الله عليه وسلم- الخنزير. قالت: وما سبب التحريم؟ قالت: كان يسير يومًا في شوارع مكة، فهجم عليه خنزير فعضَّه عضة شديدة آلمته، ومن يومها حرَّم الخنزير لشدة ألمه".

يقول الأستاذ سيد قطب- رحمه الله- فتدخلت وشرحت للمرأتين أن التحريم من الله وليس من محمد- صلى الله عليه وسلم-، ودخلت معهما في نقاش وحوار أوضّح لهما القضية حتى اقتنعتا وقالتا: هذا جميل لقد اقتنعنا اقتناعًا لا تردُّد معه ولا شكَّ. قال الأستاذ "سيد": فقلتُ للتي ستلقي المحاضرة فماذا ستقولين في محاضرتك بعد هذا التوضيح والشرح المستفيض؟ قالت: سأقول عضَّه الخنزير عضةً شديدة آلمته فحرَّم الخنزير من أجل العضة!!، فتبسم الأستاذ "سيد"، ولاذ بالصمت.

أَمِثْل هذا المنطق يفيد معه حوار وجدال أم الصمت بعدها أفضل؟! فما بالك ببعض المتحاملين علينا اليوم لو عرَفوا هذه القصة، فسيزيدون عليها حتى يقول قائلهم: والله لقد رأيت بعيني رأسي هذا الخنزير وهو يعضُّه، وهذا هو السبَب فى التحريم فعلاً كما قالت المرأة.

ونحن نقول لهؤلاء: إن صياغة العقلية المتفتحة التي تتسم بالمرونة في تعاملها مع الآخرين كانت واحدًا من أكبر هموم المسلمين في مراحل النضج الفكري والتألق الروحي؛ مما أدى إلى سيادة مبدأ الحوار الذي لم يكن وقْفًا على فئة دون غيرها، وإنما امتدَّ لينضمَّ في ظله كلُّ من عاش في مجتمع المسلمين الذي يتغذَّى بالحوار وينمو بالمراجعة، ويُصحِّح بالنقاش، فتتنوع بذلك أساليب العمل، وتتلاقى الرؤى ووجهات النظر، وتثمر في واقع الحياة قوةً في البنية الفكرية، ووعيًا في التناول والمعالجة، واحتفاءً بالرأي، وتلمسًا للحق، وانقيادًا له؛ حتى تغدو "الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها" أخرجه الترمذي.

إن صمتنا على من يجحدوننا ويتحاملون علينا ليس عجزًا ولا هروبًا من واقع، فمن مهامنا التبيان والتوضيح، ودورنا أن نقدم فكرتنا للناس جميعًا دون إكراه أو قسر أو جبر ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: من الآية29)، والمتأمّل في المنهج القرآني للردّ على الشبهات وإثارة الجدل العقيم أنه موضوعي في عرضه، قوي الحجة في استشهاده، مقنع في تبيانه، يستثير العاطفة ولكنه يُقنع العقل، وهذا المنهج الرباني مع كل الناس، المؤمن منهم والمتحامل، بل والكافر، ثم يترك الناس بعد ذلك واختياراتهم.

فهل عرف القوم لماذا نصمت أحيانًا، ونبيّن أحيانًا، ونُحاور أحيانًا أخرى؟! يا ليت القوم يعلمون هذا المنهج فيقولوا خيرًا أو يصمتوا.