رؤية الإمام البنا لنهضة الأمة (2)
رؤية الإمام البنا لنهضة الأمة ( 4(
من خلال تجوالنا مع الأستاذ البنا في الحلقات الماضية ، رأينا أنه بدأ بالتفكير في أوضاع الأمة ، وما آلت إليه أوضاعها في كل مناحي الحياة ، فقرر هو ومن معه من الإخوان حمل تبعة النهوض من جديد ولاحظنا أنه ارتكز في رؤيته لشكل هذا النهوض على عدة مرتكزات رئيسية ،وهي :
- دراسة التاريخ الإسلامي ، و وصَف وضع الأمة في مراحل ظهورها الأولى ، وتتبع عوامل الرفعة والمنعة التي حازتها بالتزامها لشرع الله ، ثم توغل بنا في أعماق مظاهر التحلل ، ومواطن الداء ، وعمل السنن الإلهية في مجتمعاتنا بالرغم من تخلل بعض الإفاقات من السبات العميق في ثنايا الصراع ومراحل التدافع ، إلى أن وصل إلى توصيف سيطرة المشروع الغربي على جميع مناحي حياة الأمة .
- ثم تابع الأستاذ البنا منهجيته في دراسة التاريخ فأجال النظر الفاحص في حياة بعض الأمم الناهضة ، وعرج على بعض الركائز النفسية التي أهلت هذه الأمم للسبق في ميادين الصراع.
- وبعد ذلك لفت نظر الإخوان إلى بعض حركات التغيير التي برهنت بثبات من يحملونها بأنها جديرة بالتفوق إن هي غالبت وثبتت .
واليوم ينتهي بنا المطاف مع هذه الركائز التي اتخذها الأستاذ البنا قاعدة لانطلاقة في رسم صور النهوض المنشود ، إلى دراسة الواقع...... فهيا بنا نرصد محاولاته في هذا المضمار فيبدأ : بالتحليل الوصفي ( النوعي ) للواقع:
' وقد علمتنا التجارب وعرفتنا الحوادث أن داء هذه الأمم الشرقية متشعب المناحي , كثير الأعراض , قد نال من كل مظاهر حياتها فهي مصابة في :
1- ناحيتها السياسية بالاستعمار من جانب أعدائها , والحزبية والخصومة والفرقة والشتات من جانب أبنائها .
2- وفى ناحيتها الاقتصادية بانتشار الربا بين كل طبقاتها واستيلاء الشركات الأجنبية على مواردها و خيراتها .
3- وهى مصابة من ناحيتها الفكرية بالفوضى والمروق والإلحاد ويهدم عقائدها ويحطم المثل العليا في نفوس أبنائها .
4- وفى ناحيتها الاجتماعية بالإباحية في عاداتها وأخلاقها والتحلل من عقدة الفضائل الإنسانية التي ورثتها عن الغر الميامين من أسلافها وبالتقليد الغربي يسرى في مناحي حياتها سريان لعاب الأفاعي فيسمم دمائها ويعكر صفو هناءها
5- وبالقوانين الوضعية التي لا تزجر مجرما ولا تؤدب معتديا ولا ترد ظالما ولا تغنى يوما من الأيام غناء القوانين السماوية التي وضعها خالق الخلق ومالك الملك ورب النفوس وبارئها .
6- وبفوضى في سياسة التعليم والتربية التي تحول دون التوجيه الصحيح لنشئها ورجال مستقبله وحملة أمانة النهوض بها
7- وفى ناحيتها النفسانية بيأس قاتل وخمول مميت وجبن فاضح وذلة حقيرة وخنوثة فاشية وشح وأنانية تكف الأيدي عن البذل وتقف حجابا دون التضحية وتخرج الأمة من صفوف المجاهدين إلى صفوف اللاهين اللاعبين .
إن داءا واحدا من هذه الأدواء يكفى لقتل أمم متظاهرة فكيف وقد تفشت جميعا في كل أمة على حدة ؟؟ّ يا أخي هذا هو التشخيص الذي يلمسه الإخوان في أمراض هذه الأمة وهذا هو الذي يعملون في سبيل أن يبرأها منه ويعيد إليها ما فقدت من صحة وشباب ( رسالة دعوتنا )
ثم يتجه إلى التحليل الكمي الإحصائي :
'فاذكروا أيها الإخوان أن أكثر من ( 60% ) من السكان يعيشون معيشة الحيوان .. وأن مصر بها أكثر من ( 320 )شركة أجنبية تحتكر كل المرافق العامة وكل المنافع الهامة في جميع أنحاء البلاد ، وأن أكثر من ( 90 % ) من الشعب مهدد بضعف البنية وفقد الحواس ومختلف العلل والأمراض ، وأن مصر لازالت إلى الآن جاهلة لم يصل عدد المتعلمين فيها إلى الخمس ...! ( رسالة بين الأمس واليوم ) .
'إليكم أيها الإخوان بعض الأرقام التي تنطق بما يهددنا من أخطار اجتماعية ماحقة ساحقة ، إن لم يتداركنا الله فيها برحمته ، فسيكون لها أفدح النتائج وأفظع الآثار :
- فالفلاحون ......
- والعمال ......
- وشركات الاحتكار......
- والعيادات الحكومية .....
- والأمية......
- والجرائم......'( 1 )
أيها الإخوان...... هذه لغة الأرقام ، وهذا قليل من مظاهر البؤس والشقاء في مصر، فما سبب ذلك كله ؟... ومن المسئول عنه ...؟ وكيف نتخلص منه ، وما الطريق إلى الإصلاح ؟.... ' ( رسالة المؤتمر السادس ) .
وإذ أدركنا أن الواقع هو الفهم العميق لما تدور عليه حياة الناس وما يعترضها وما يوجهها ، فإن ما أراده الأستاذ البنا عليه رحمة الله من هذه المنهجية هو توجيه من انبرى للإنقاذ إلى محاولة رسم صورة واقعية لما يدور ، وصناعة خارطة دقيقة لساحة التغيير ، فقد كان صلى الله عليه وسلم ملتزماً بهذه الوسيلة حين وجّه أصحابه الكرام إلى الحبشة لعلمه بأن بها ملك عادل ، وتوجيهه لمعاذ رضي الله عنه بأنه سوف يلقى أهل كتاب في اليمن فكان التعامل معهم ليس كما الآخرين ، وذلك أثر من آثار فهمه لواقعه صلى الله عليه وسلم.
ويمكننا في هذا المقام أن نعرّج على واقعنا الوطني فهو الأقرب على خط المدافعة ، والأنسب لتوافر الشروط المنطقية للصراع ، وهو أحد الثغور التي نحن مطالبون بسدّها.
نحن بحاجة ماسة جدا إلى وصف الواقع الليبي وصف موغل في الواقعية والجدية من كل الجوانب ، وفي كل مناحي الحياة ، وعلى كل حركة أو منظمة ،أو أفراد أرادوا التغيير ، أن يقلبوا الوضع الاقتصادي للدولة ، ومواردها المالية ، وأوجه الصرف ، والميزانيات ، والدخول ، وحركة البنوك ، وقوانين التجارة و الاستثمار ، و معاهدات التعاون التجاري ، وأسباب التضخم ، ومناطق تركز الثروة ، والشرايين الحية التي تتدفق فيها ومنها الأموال ، كما يجب عليهم أن يستوعبوا الواقع السياسي ونظام الحكم بكل تفاصيله المملة والرتيبة ، وحركة القرار السياسي ، وآليات التنفيذ ، وكل ما يخص بنية النظام السياسي وأدواته الفكرية والثقافية والأمنية ، والسعي لفهم الحراك السياسي في الدولة ، والعوامل الداخلية والخارجية التي تؤثر في توجيه الدفة ، وإحداث النقلات العاجلة والمرحلية ، ففي كل خطوة للدولة هناك نية ، وكل خطاب أو كلمة لمسئول ليست كلها من العبث ، واليقين أن هناك أمرٌ يراد ورغبة تنتظر التحقيق ، كما يجب فهم البنية القانونية للدولة ، بداية من الوثيقة الخضراء ونصوصها ومرورا بالقوانين العامة والخاصة وانتهاءً بالقوانين العرفية والمستحدثة .... الخ .
وفي اعتقادي ..إن أهم ما يجب توجيه الجهود إليه هو الواقع الاجتماعي ....أحوال الناس ، وأفكارهم ، واتجاهاتهم ، وتجمعاتهم ، واهتماماتهم ، ومستوياتهم في كل النواحي ، ومعرفة تركيبة المجتمع المدني الأهلي هي أهم وأخص ما يحتاجه المصلحون ، والسائرون على درب النهضة الوطنية والشاملة . ويمكن من خلال الشكل التالي إعادة صياغة الأسس المنهجية لرؤية الأستاذ البنا للنهضة : وسوف يتجدد بكم اللقاء إن أذن المولى عز وجل لنتابع سيرنا مع الأستاذ البنا وهو يصف لنا ( إمكانية النهوض ) .