الفرق بين المراجعتين لصفحة: «كتمان السر (في ديوان العرب)»

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
ط (حمى "كتمان السر (في ديوان العرب)" ([edit=sysop] (غير محدد) [move=sysop] (غير محدد)))
لا ملخص تعديل
سطر ٢: سطر ٢:


'''أ.د/ جابر قميحة'''
'''أ.د/ جابر قميحة'''





مراجعة ٠٤:٠٦، ٢٠ أبريل ٢٠١٠

كتمان السر (في ديوان العرب)

أ.د/ جابر قميحة


من الحقائق التي حملها التاريخ ، وسرت مسرى الأمثال : قولهم ( العرب أمة شاعرة ) ، فهم من أكثر الأمم شعراء ، وشعراؤهم من أغزر الناس شعرا .

وقد حفظ الشعر تاريخ العرب ، وعاداتهم وتقاليدهم : في أفراحهم وأحزانهم ، في منشطهم ومكرههم ، في سرائهم وضرائهمْ . فلا عجب أن يجعلوا الشعر مثلهم الأعلى تصويرا وتعبيرا .

ومما يُرْوى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : " إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة".

ومن كلمات عمر بن الخطاب ر : " ارْووا الأشعار ، فإنها تدل على مكارم الأخلاق " .


ويقول أبو فراس الحمداني :

الـشـعـرُ ديوانُ iiالعربْ لـمْ أعْـدُ فـيه iiمفاخري ومُـقـطـعات .. iiرُبما.. لا فـي المديح ولا iiالهجا


أبـدا ، وعُـنوانُ iiالأدبْ ومـديـحَ آبـائي iiالنُّجُب حَـلَّـيـت منهن الكتُبْ.. ءِ ، ولا المجون ولا اللعب

حقا – يا عزيزي القارئ– الشعر " ديوان العرب " . وقبل أن نصحبك إلى رحلة في ديوان العرب , نذكر هذه الطُّرفة اللطيفة : فقد روى أن رجلا أسرَّ إلى صديقه حديثا , وطلب منه كتمانه , وشدد عليه في ذلك . ثم سأله : أفهمت ؟ قال " بل جهلت " . ثم سأله " أحفظت ؟ قال "بل نسيت " .

والرجل يعني بإجابته هذه أنه على سر صاحبه حفيظ أمين .

إن هذه الطرفة اللطيفة تبرز لنا قيمة خلقية عظيمة , نفعها عميم , وفقدها أليم , ألا وهي كتمان السر . فلنصاحب" ديوان الشعر العربي " ؛ لنرى فيه مكان هذه الفضيلة ومنزلتها عند الشعراء .


إننا نلتقي – أول ما نلتقي – بالشاعر كعب بن سعد الغنوي فنراه لا يفخر بكتمانه لأسرار غيره فحسب , بل يفخر كذلك بأنه لا يسأل عن أسرار الآخرين :

ولستُ بمبدٍ للرجال سريرتي = ولا أنا عن أسرارهم بسئول


ويقول قيس بن الخطيم :

أجـود بمكنون التلادِ iiوإنني وإن ضيَّع الأقوام سرِّي فإنني


بـسرِّي عمن سائلي iiلضنينُ كـتوم لأسرار العشير iiأمين


ويبالغ شاعر ثالث في كتمان السر مبالغة طريفة , في تصوير آسر , فيقول :

ومـسـتـودعي سرا كتمتُ مكانه وخفت عليه من هوى النفس iiشهوة


عن الحِسِّ , خوفا أن ينُم به الحس فـأودعته من حيث لا يبلغ iiالحس


وفي فلك الجو نفسه , يدور الشاعر جعفر بن عثمان , فيطرح الفكرة نفسها في صورة أطرف , ومبالغة أشد وأقوى , فيخاطب من أودعه سره قائلا :

يا ذا الذي أودعني سرهُ لا ترجُ أن تسمعه مني

لم أُجره قط على فِكرتي كأنه لم يَجرِ في أذني


والمعروف أن الخمر تذهب بالعقل , وتطلق اللسان ليبوح بما سكن الأعماق من الأسرار , ولكن المتنبي ينفي عن نفسه أن يكون واحدا من هؤلاء , فيقول :

وللسر مني موضع لا يناله نديم , ولا يفضي إليه شرابُ

هذا وقد جاء في الأثر " استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان " . وإذا كان كتمان السر مطلوبا في كل حال , فهو في شئون الحرب ضرورة الضرورات , وذلك في وضع خطط القتال , وتجييش الجيوش , وإعداد العدد , وتحديد لحظة الهجوم , أو ما يسمى بساعة الصفر . وإن إفشاء سر واحد قد يقود إلى هزيمة نكراء . أما العمل في تكتم وسرية , فهو ولا شك يقود إلى النصر المؤزر المبين , وخصوصا إذا صاحب هذا التخطيط المستمر عزم قاطع , وحزم لا يعرف التهاون .


إن أبا مسلم الخرساني قضى قضاء مبرما على الدولة الأموية في موقعة : " الزَّاب الأكبر " سنة اثنتين وثلاثين ومائة هجرية (132) , وهو يكشف عن سر نصره الحاسم في قوله :

أدركت بالحزم والكتمان ما عجزَت مـا زلت أسعى عليهم في ديارهم حـتـى ضربتهمُ بالسيف iiفانتبهوا ومن رعى غنما في أرض iiمَسْبَعَةٍ


عـنه ملوك بني مروان إذ iiجهروا والـقوم في غفلة بالشام قد iiرقدوا مـن نـومـة لم ينمها قبلهم iiأحدُ ونـام عـنـها تولى رعيها iiالأسدُ


عزيزي القارئ:

يقول مثل هندي قديم " إن السر يمكن أن يكتم بين ثلاثة , بشرط أن يموت منهم اثنان " . ومعنى المثل : أن السر إذا باح به صاحبه لغيره , لم يعد سرا . وقد ألح " ديوان العرب " على هذا

المعنى عشرات المرات : يقول الشاعر :

إذا الـمـرء أفـشـى سره iiبلسانه إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه


ولام عـلـيـه غـيره فهْو iiأحمق فـصدر الذي يُستودع السر iiأضيق


ويقول آخر :

إذا ما ضاق صدرك عن حديث وإن عـاتبتُ من أفشى iiحديثي


وأفـشـته الرجال فمن تلوم ii؟ وسـري عـنـده فـأنا iiالملوم

ومن جانب آخر , نجد ديوان العرب قد حفل بذم من يفشون أسرار غيرهم الذين ائتمنُوهم عليها :

يقول إسحق الموصلي :

أناس أمِنَّاهم فنمُّوا حديثنا فلما كتمنا السر عنهم تقوَّلوا


ويقول لآخر :

وإنك كلما استُودِعت سرا أنَمُّ من النسيم على الرياض

ونمضي في تقليب صفحات ديوان العرب , فنعثر في تضاعيفه على بعض الشعراء الذين يعلنون صراحة أنهم لن يكتموا السر , وأنهم يرفضون أن تكون صدورهم مستودعا لأسرار الآخرين . بل إن منهم من يتهم كاتمى الأسرار بنقص العقل والحماقة . يقول واحد من هؤلاء :

ولا تُودِع الأسرارأذني فإنما تصبَّن ماء في إناء مُثَلَّمِ


وقال آخر :

ولا أكـتم الأسرار , لكن أُذيعها وإنَّ قـليلَ العقل من بات iiليلة


ولا أدع الأسرار تعلو على قلبي تـقلبه الأسرار جنبا إلى iiجنب

وبوح الشاعر بالسرهنا , ليس عن غدر أو خيانة أمانة, بل لأنه قدَّرَ أن حفظ السر عبء ثقيل على النفس والقلب , لا يُخلف إلا القلق والحيرة والسهاد , وهو لا يقوي على ذلك . إنها - على أية حال صراحة قد تكون محمودة عند كثيرين .

عزيزي القارئ.. بعد هذه الرحلة القصيرة في " ديوان العرب " مع السر وكتمان السر , أعتقد أنك معنا : في أن حياة كل منا لها جانبان : جانب مكشوف معروف , يتمثل في مظاهر التعامل الاجتماعي , في مجالات العمل والعلم والدراسة والبيع والشراء .

وجانب خفي مستور , يتمثل في العلائق الأسرية والزوجية , وما تعلق بالصلح الخاص, وما كان في كتمانه حفظ أمانة , وإحقاق حق , وجلب نفع , دون إضرار بالآخرين .

وهذا الجانب الأخير يقتضينا أن نذكرك , ونذكر أنفسنا بقول عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه – :

" القلوب أوعية , والشفاه أقفالها , والألسن مفاتيحها , فليحفظ كل إنسان مفتاح سره" .

والآن نتركك يا عزيزي االقارئ , على وعد باللقاء , في الأسبوع القادم – إن شاء الله – في حلقة جديدة من " ديوان العرب " .